ملخّص:
هدف البحث إلى النظر في منهج دراسة جابر عصفور وطريقة عرضها لمادّة كتاب حازم القرطاجني “منهاج البلغاء وسراج الادباء”، سعيًا لملاحظة مدى تأثير ذلك في فهم تراث حازم النقدي. لقد حاول عصفور من خلال مشروعه النقدي، أن يؤسّس “نهجًا متميّزًا” في دراسته للنقد العربي القديم. ويقوم هذا النهج على مجموعة من المقولات أو الفرضيّات النظريّة. والفرضية الأساسيّة التي ينبني عليها تصوّر جابرعصفور، هي وحدة التراث ومعارفه المتنوّعة، إذ لا يمكن معالجة مجال معرفي بمعزل عن غيره من المجالات المعرفية الأخرى.
وبناء على منطلقاته السابقة، يحدّد عصفور أدواته المنهجية لقراءة النصّ التراثي في ثلاث عمليات هي: التحليل والتفسير والتقييم. ذلك هو “المنهج المتكامل” الذي يدعو إليه عصفور، في دراسة النصوص النقدية التراثية.
الكلمات المفاتيح: جابر عصفور، حازم القرطاجني، القراءة، النقد القديم، التخييل.
Abstract:
The aim of the research is to consider the methodology of this study by Jaber Asfour and the way it presents the material of Hazem Al-Qurtajani’s book “Minhaj Al-Bulagha”, seeking to observe the extent of its impact on understanding Hazem’s critical heritage. Through his critical project, Asfour tried to establish a “distinct approach” in his study of ancient Arabic criticism. This approach is based on a set of theoretical statements or hypotheses.
The basic hypothesis on which Asfour’s concept is based is the unity of heritage and its diverse knowledge, as it is not possible to address a field of knowledge in isolation from other fields of knowledge.
Based on his previous principles, Asfour defines his methodological tools for reading the heritage text in three processes: analysis, interpretation, and evaluation. This is the “integrated approach” that Asfour calls for in studying traditional critical texts.
Keywords: Jaber Asfour, Hazem Al-Qartajani, Reading, Ancient Criticism, Imagination.
1- تمهيد:
تندرج دراسة جابر عصفور لكتاب “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” لحازم القرطاجني ضمن مشروع نقدي عام، استهلّه الباحث بكتابه عن “الصورة الفنيّة” سنة 1974، ثمّ يأتي كتابه “مفهوم الشعر” سنة1978. وبعد ذلك ينجز الباحث مجموعة مقالات جمعها في كتاب نشره سنة 1991 تحت عنوان “قراءة التراث النقدي”.
ويقوم هذا المشروع النقديّ على مستويين: نظري وتطبيقي. ظهر الأوّل في مقدّمات مؤلّفات الباحث المذكورة، خاصّة القسم الأوّل من كتابه الأخير[1]، وقد اهتمّ هذا المستوى النظري بوضع مقدّمات منهجيّة للمشروع النقدي لعصفور، شرح فيها الباحث مفهومه للتراث ومنهجه في دراسته وموقفه وغايته من ذلك.
أمّا المستوى التطبيقي من مشروع الباحث، فهو معالجة مباشرة، للموضوعات والنصوص النقدية القديمة اذ يمثّل المنهاج أهمّ هذه النصوص كما سنرى لاحقا. وكان تناول الباحث التطبيقي للتراث مركزاعلى موضوع عام، هو “مفهوم الشعر” عند العرب، وقد عالج جانبا من هذا الموضوع المتعلّق بالصورة الفنيّة في كتابه الأوّل، واهتمّ بجوانبه الأخرى المتكاملة من حيث الماهية والأداة والمهمة في كتابه الثاني.
ويفيدنا المستوى النظري، من مشروع عصفور، في التعرّف إلى موقفه ومنهجه في دراسته للتراث النقدي عامة، ليتيسر لنا بعد ذلك إدراك دراسته لحازم القرطاجني، خاصّة.
حاول عصفور من خلال مقدّماته النظرية، لكتبه المذكورة، أن يؤسّس “نهجًا متميّزًا” في دراسته للنقد العربي القديم. ويقوم هذا النهج على مجموعة من المقولات أو الفرضيات النظرية.
فإذا أخذنا نصّ “المنهاج” نموذجًا لهذا التصوّر، فإنّه لا تمكن دراسته خارج نصوص النقد الأدبي الأخرى، كنصّ “نقد الشعر” أو نصّ “عيار الشعر”، كما أنّه لا يمكن أن يدرس بمعزل عن المعارف التراثية الأخرى، التي يشتبك معها في علاقات وحدويّة، أي أنّه لا يقرأ في عزلة عن نصوص الفلاسفة أو المتكلّمين أو البلاغيين…إلخ.
إنّ هذه الوحدة والعلاقة التشابكية، التي تصل التراث النقدي بغيره من الحقول المعرفية للتراث عامّة، يقتضيان “وحدة منهجية” لعملية دراسة نصوص التراث عامّة، سواء كان المقروء نصًّا إبداعيًّا أو كان نصًّا تصوّريًّا، وسواء كان النصّ التصوّري ينتمي إلى حقل النقد الأدبي أم حقل التفكير الفلسفي.
ومع هذا فإنّ التراث النقدي أو إشكال دراسته، يظلّ محافظًا على خصوصيته واستقلاله، وإن بشكل نسبي، ذلك أنّ الحضور المتشابك للنقد الأدبي في التراث، يجعل إشكال دراسته خاصًّا وعامًّا في الوقت نفسه، فاستقلاله النسبي يفرض التركيز عليه في ذاته، أمّا علاقاته المتشابكة فتفرض التركيز عليه من حيث صِلاته بغيره من الحقول المعرفية.
لكن نسبية القراءة لا تناقض، ضرورة، الموضوعية ولا تعارضها، بل إنّهما تغدوان معًا وجهين لصفة واحدة، هي التاريخية الملازمة لأيّ دراسة للتراث أو غيره. فالدراسات تتغيّر بتغيّر المدارس النقدية والمراحل الأدبية، مما يؤكّد نسبية الدراسة أو القراءة حيث يحضر عاملا التفسير والتأويل. ومن ثمّ فإنّه لا يمكن لأيّ دراسة أن تدّعي العلمية المطلقة والحياد الصرف، مادامت تخضع لعمليات التفسير والتأويل المتجدّدة، ومادامت مرتبطة بشروطها التاريخية النقدية خاصّة والمعرفية عامّة.
وأمّا ما يُطلب من الدراسة، في ظلّ هذه الشروط، فهو قدر أكبر من الموضوعية بوصفها شرطًا ملازمًا لإدراك “المنطق الداخلي” للمؤلفات القديمة[2]. ولكن إذا كان لا يمكن إنجاز دراسة علمية محايدة تماما، فإنّه أيضًا لا يترك باب التأويل مُشْرَعًا على مصراعيه، فهناك محدّدات يجب التقيّد بها، حتى لا يقع التعسّف على النصّ المقروء في عملية “استعادته” إلى الحاضر – كما يحدث في الدراسات الإحيائيّة – أو إسقاط الحاضر عليه – عندما يكون التأويل مجحفًا ومتعسّفًا، كأن يقال إنّ الجرجاني هو سوسير نفسه.
والمهمّ كذلك، عند عصفور أن يهتمّ الدارس بالكشف عن “موقف” النصّ وصاحبه، أو “مكوّنه الفكري” أو “رؤياه للعالم”[3].
وبهذا يكون مشروع الباحث، محاولة لتأصيل نظرية في قراءة التراث النقدي، وتلك كانت منطلقاتها أو فروضها الأساسية.
أمّا فيما يتعلّق بالمستوى التطبيقي من مشروع عصفور النقدي، فإنّه، وبناء على منطلقاته السابقة، يحدّد أدواته المنهجية لقراءة النصّ التراثي في ثلاث عمليات هي: التحليل والتفسير والتقييم. ذلك هو “المنهج المتكامل” الذي يدعو إليه عصفور، في دراسة النصوص النقدية التراثية. فالتحليل يعني محايثة للنصّ والتركيز عليه وحده، والتفسير يعني إخراج النصّ إلى سياقه النقدي الخاصّ، أوّلا، والمعرفي الحضاري العامّ ثانيا. أمّا التقويم فيُبْنَى على عمليتي التحليل والتفسير، حيث يكون موقف القارئ المعاصر جليا. وبذلك يتكامل مستويا مشروع الباحث، النظري والتطبيقي.
2- كتاب المنهاج في قراءة عصفور:
إنّ مشروع الباحث – مثلما أسلفنا الإشارة إلى ذلك – مشروع نظري في بعد من أبعاده، يطرق باب التحديد المفهومي للشعر، وذلك لغاية تأصيلية “تبرّر” التحوّلات الحديثة للقصيدة العربية. وبهذا المعنى، تكون عودة عصفور إلى التراث النقدي النظري بحثا عن الأصول التي يمكن أن تتقبّل هذه التحوّلات وتدعمها فتؤصّلها، بعد أن تكون قد وجدت لها أصلًا تضرب بجذورها الفنيّة فيه[4].
ووجد الباحث بغيته في مؤلّفات (عيار الشعر) لابن طباطبا و(نقد الشعر) لقدامة و(منهاج البلغاء) لحازم، ذلك أنّ هذه النماذج “وثائق للمفاهيم المتكاملة”، ومحاولات أصيلة لتحديد الأصول النظرية لمفهوم الشعر. وهي لا تتساوى في قيمة إنجازها، فإذا كان الأوّلان قد ساهما في تشكيل المفهوم، فإنّ حازما ارتقى به إلى مستوى التكامل والنضج الأخير، لذا فإنّ الباحث خصّه بالقسم الأكبر من كتابه “مفهوم الشعر”، وعوّل عليه كثيرا في انتقاء العناصر التأصيلية التي يبحث عنها.
وقد باشر المؤلّف موضوع مفهوم الشعر عند حازم بتأطير عام حاول فيه الإحاطة بمنطلقاته الفكرية والنظرية العامة، لأنّ ما يعني عصفور خارج إطار المفهوم الذي يطرحه حازم هو “تكوينه الفكري”، الذي يتلاحم داخل نسيج مفهومه الشعريّ[5]، وهذه المنطلقات العامّة هي عبارة عن مبادئ كبرى أو خطوات منهجيّة أدارت مفهوم القرطاجني للشعر.
في البدء، يؤكّد الباحث أنّ حازما قد خرج بالبلاغة العربية عن معناها الجامد والجزئي الذي كرّسته شروح التلخيص ليقترب في فهمه لها من معنى النقد الأدبي الحديث، من حيث اعتباره شمول العمل الأدبي وتكامله وتفاعل جوانبه المكوّنة لمهمّته وماهيته وأداته وقيمته. ثمّ إنّ حازما يهتمّ داخل علم البلاغة، كعلم عامّ أو علم لسان كلّي، بعلم الشعر وبالأحرى إنّه يعالج علم البلاغة من زاوية الشعر على وجه التخصيص والتحديد[6].
وهذه الأهميّة البالغة التي يوليها حازم للشعر، نابعة من وعيه الحادّ بضرورة تأصيله وتأكيد منزلته التي استحقّها قديما، ويستحقّها دائمًا. وهو في أفق إنجاز هذه المهمّة كان لا بدّ له من الاعتماد على أرسطو، عبر شرّاحه المسلمين، وعلى الجانب المتقدّم من الإنجازات النقدية والبلاغية العربيّة السابقة عليه.
ويمكن لعصفور أن يجمل الخطوات المنهجيّة التي نهض عليها تصوّر حازم للشعر، كالتالي:
– الجمع بين الأصول العربية واليونانية.
– توخّي الإجمال دون التفصيل في بنائه لقوانينه وقواعده.
– الحرص على مراعاة طبيعة مادّة موضوعه، أي اللّغة الشعرية.
– اعتبار الظروف الموضوعية للإبداع الشعري، وفعل التذوّق الأدبي، مما يعطي قوانينه خصوصيتها ومرونتها التطبيقية.
وهكذا يخرج حازم بـ “مفهوم متكامل” و “كلّي” للشعر إذ هو مرتبط بجوهره. وإذا كان حازم لم يمتد بالأصول الأرسطيّة إلى نهايتها الطبيعيّة، التي تفرض التسليم والتمييز الكامل بخصوصية الظاهرة الأدبية، فإنّه قد حرص كثيرًا على هذا التمييز على نحو يميّزه نظريا عن النقّاد العرب والفلاسفة، وهو ما أصبغ على تصوّره أصالته ووضوحه.
سنقف على مواقف الباحث، من خلال عرضه لجوانب مفهوم الشعر عند حازم، التي سنعرضها عرضًا جديدًا يراعي حدود تلك الجوانب ووضوحها، وذلك بتشذيب ما ورد في عرض الباحث من تكرار واضطراب وتداخل، ليتسنى تبيّن معالم التكامل في مفهوم حازم للشعر، والذي سعى جاهدًا إلى تأكيده وإبرازه.
يستنتج من عرض الباحث أنّ مفهوم الشعر في المنهاج يقوم على جوانب ثلاثة:
– الأوّل: الجانب الوظيفي في الشعر، أو ما يسمّيه الباحث بـ “مهمّة” الشعر، ويبرز هذا الجانب في تعريف حازم للشعر عامّة، وفي مفهومه للتخييل خاصّة.
– الثاني: جانب تقديم الشعر لمهمّته وموضوعه، أو التقديم الحسّي في الصورة الشعرية كما يبرزها مفهوم المحاكاة: تشكيلا وإدراكا.
– الثالث: الجانب الجمالي في مفهوم الشعر، كما تظهره مستويات التناسب المختلفة من وزن وقافية، ولفظ ومعنى، وشكل وغرض.
3- الجانب الأوّل: وظيفية الشعر:
يبرز اهتمام حازم بهذا الجانب من جوانب مفهوم الشعر بداية من تعريفه للشعر الذي يكشف بذاته عن مهمته وقيمته[7]. ذلك أنّ هذا التعريف يضمّ بين عناصره عنصر “التخييل” الذي يكاد لوحده أن ينهض بوظيفة الشعر، وذلك لما أنيط به من قدرة كبيرة على التأثير في نفوس المتلقّين وسلوكهم وأفكارهم[8].
ولكن إذا كانت وظيفة الشعر، أو مهمته، هي آثاره في المتلقّين، وأنّ التخييل هو سبيل الشعر الأساسية لإحداث هذه الآثار. فما هو هذا التخييل الذي بدونه لا يحقّق الشعر مهمّته؟ أو بعبارة أخرى ما هي العلاقة بين المهمّة والتخييل؟ وما هي وسائله في ذلك؟ أو بعبارة أخرى كيف يعمل على أداء هذا الركن المهم من أركان مفهوم الشعر؟ ثمّ ما هو نوع المهمة التي يؤدّيها التخييل الشعري؟
يعد حازم التخييل قوام الشعر والفيصل بينه وبين غيره من فنون القول، أو كما يقول عصفور إنّه – أي التخييل – خصيصة الشعر النوعية والذاتية: نوعية من حيث إنّه يصله بغيره من الفنون الأخرى، وذاتية من حيث تميّز أداته، وهي اللغة، وخصوصيّتها.
أما علاقة التخييل بمهمّة الشعر، فيجسّدها تعريف حازم للتخييل نفسه؛ إذ يفهم منه أنّه يروم تحريك المتلقّي والتأثير في سلوكه ومخيّلته، وهذا التأثير هو مهمّة الشعر ذاتها.
إنّ التخييل، إذن، هو سبيل الشعر إلى إحداث التأثير، والذي هو نفسه مهمّة الشعر ووظيفته تجاه متلقّيه. أمّا وسائله في ذلك فهي المكوّنات الشعرية نفسها من لفظ ومعنى، وأسلوب ونظم، وقافية ووزن. فبهذا يكون التخييل فعلًا شاملًا تسهم في حركته على مستوى التلقّي كلّ تلك العناصر. فلقد أكّد حازم، مرارًا أنّ هذه العناصر هي أنحاء مختلفة للتخاييل الشعرية ومصادر متنوّعة للتأثير في المتلقّين.
ويكون أيّ عنصر، ضمن العناصر المذكورة، مُخَيِّلًا إذا عونًا في عملية التأثير. فاقتران عنصر الوزن، على سبيل المثال، بالتخييل الشعري “ليس أمرًا عشوائيًّا، أو مجرّد كمال شكليّ لتعريف الشعر. وإنّما هو أمر يرتبط بخصيصة الوزن نفسه، من حيث تأثيره الذاتي في المتلقّي”[9]؛ إذ أنّ إيقاعه المنظم، وتكرار عناصره الصوتية وانسجامها فيما بينها ينفعل بمقتضاها المتلقي ويتجاوب معها إيجابًا.
وما يجعل، أيضا، من التخييل الشعري فعلا متّصلا بغاية تأثيرية هو ارتباطه بعمليّتي التحسين والتقبيح الشعريين، لأنّ إبراز جوانب الحسن أو القبح في الموضوع المخيّل، والمبالغة فيها، يؤدّيان إلى انفعال المتلقي به فيميل إليه أو ينفر عنه، بعد أن يقوم – بوعي أو بدونه – بعملية “قياس” تدعمها المماثلة بين الموضوع الأصلي والموضوع المخيّل[10].
ويضع حازم، في متناول الشاعر، وسائل أخرى تساعده على أداء وظيفته، من أهمّها استعمال الأساليب الخطابية في كيفية الإقناع وحمل النفوس على الأشياء ليقوى بمقتضاها تأثّرها بها واعتقادها فيها. لكن على أن تكون الأقاويل الخطبية، في الشعر، تابعة للأقاويل المخيّلة. وتلك هي طريقة المتنبي – وهو شاعر حازم الأثير – الذي يراوح بين معانيه فـ “يضع مقنعاتها من مخيلاتها أحسن وضع”.
كما تسهم، كذلك، المراوحة بين طرق الجدّ وطرق الهزل في فعل التخييل الشعري ومن ثمّ في عملية التأثير وذلك لأنّ الترويح على المتلقّي بالهزل بعد الجدّ يجم خاطره.
يبقى أن نتعرّف إلى نوع هذه المهمة التي يطالب حازم الشعراء النهوض بها، فهل هي مجرّد ذلك الانفعال أو الشعور النفسي العابر الذي سرعان ما يتلاشى ويزول، كما عبّر عن ذلك أحدهم؟ أم إنّ للشعر مهمّة أخرى، تتجاوز مجرّد التأثير الشكلي والسطحي والمتلاشي؟
يجيبنا عصفور – انطلاقًا من غايته التأصيلية التي أشرنا إليها فيما قبل –إنّه يجد في تصوّر حازم للتخييل الشعري مدخلًا جيّدًا لإقامة تصوّرات عن مهمة الشعر، بل وتأصيل هذه المهمة تأصيلًا يفيد في حياة الفرد والجماعة التي ينتمي إليها الشاعر[11]. ومن هذه الزاوية تحديدًا، يشرّع الباحث للحديث عن “الأساس الأخلاقي” في مفهوم حازم للشعر، هذا الأساس الذي يبرز عنده بوضوح في عملية التحسين والتقبيح المرتبطة بالتخييل، والتي تحدث أثرها في المتلقّي من خلال “مخطّط أخلاقي” يربط اكتمال العمل الشعري بمساعدة المتلقّي نفسه على الوصول إلى الكمال، ومن ثمّ ترتبط عملية “التحسين والتقبيح” بالدين والعقل والمروءة والشهوة[12] باعتبارها معيارا ثابتا في تحديد البعد الأخلاقي للشعر. ويزداد هذا المعيار وضوحا، عندما يقرّر حازم أنّ التحسين والتقبيح لا يتعلّقان بالفعل الإنساني بما هو عليه في نفسه بشكل مطلق، وإنما يتعلّقان، بالمثل، بالأحوال المطيفة بالفعل مما يقترن بالزمان والمكان أو لغاية الفعل أو الفاعل له.
يهدف الشعر وفق هذا التصوّر إلى نفع المتلقّي وإسعاده وتكامله الأخلاقي، وهذا يعني أنّ حازمًا يرفض أن يكون الشعر محض فنّ خالص أو “ضربًا من اللعب” القائم على استمالة النفوس إلى ما تميل إليه أصلًا، وتنفيرها مما تنفر منه أصلًا.
ويتأكّد موقف حازم السابق، من خلال تشكيكه في “محاكاة المطابقة” لأنّها تفتقر إلى القدرة على التأثير في سلوك المتلقّين، أو لضمور هذه القدرة وضعفها فيها. ومن أجل ذلك يجرّدها حازم من الأهميّة التي أصبغها على محاكاة التحسين والتقبيح التي تبرز فيها القدرة التأثيرية بجلاء كبير، وهو ما يتوافق مع إلحاح حازم – ومن قبله الفلاسفة – في كلّ تعريفاته للشعر على تأكيد “القبض والبسط” باعتبار كلّ منهما نتيجة غير ملازمة لمحاكاة المطابقة.
إنّ هذا التصوّر لمهمّة الشعر، يلزم الشاعر أن يكون صاحب “رسالة” في جماعته، رسالة أخلاقية واجتماعية، وذلك من حيث التزامه بـ “أغراضها الجمهورية”، ومن حيث اضطلاعه بدوره التربوي في ترغيبه في الفضائل وتنفيره عن الرذائل.
والتزام الشاعر بهذا التصوّر الأخلاقي، من شأنه أن يحلّ جملة من المعاضلات التي تخبّط فيها الشعراء، مثل معضلة مدح الحكّام ومن شابههم إذ ترد عبارة حازم جريئة في ضرورة ألّا يجعل الشاعرُ المدحَ “حِلْية لمن لا يستحقّه ولا هو من بابه”، أو معضلة “الاسترفاد” بالشعر[13] التي كانت مصدر ريبة عند حازم وسببًا في هوان الشعر والشعراء.
كما ينصح حازم، في أفق خدمة الشاعر لجماعته باستثمار الحكمة والتاريخ استثمارًا إيجابيًّا، يؤثّر في الجماعة ويوجّهها ويحرّكها، وذلك عبر استخلاص العبر والعظات من خلال الإحالة على الأحداث والقصص التاريخي ومحاكاتها[14].
إنّ تأكيد صاحب المنهاج ضرورة المحتوى الأخلاقي في مهمّة الشعر[15] يعطي للشعر قيمته بالنسبة إلى الشاعر، وكذلك بالنسبة إلى المتلقّي. فالأوّل يعي أهميّة دوره تجاه جماعته، ومن ثمّ يأتي حرصه على الاعتناء بشعره وتعلّم قوانينه وقواعده ومعرفة أسراره وصقل موهبته أو طبعه بلغة حازم، وذلك لكي يبلغ قلوب متقبليه وعقولهم، فعندئذ يحصل التأثير المنشود أو المهمّة المرجوّة منه. أما المتلقي، فإنّ إدراكه لجلال الخدمة التي يقدّمها له الشاعر يدفعه إلى الاستجابة له والاعتقاد فيه، ومن ثمّ حسن تذوّقه له.
ذلك هو الحلّ الذي يتقدّم به صاحب المنهاج لإصلاح وضعية الشعر التي تردّت على عهده: إبداعا وتلقيا.
يبقى، في الأخير، أن نشير إلى ملاحظتين أساسيتين تتعلّقان بموقف الباحث وتصوّره للجانب الوظيفي داخل مفهوم حازم للشعر.
تتمثّل الملاحظة الأولى، في إعلان عصفور اتّفاقه مع “الجذر الأساسي” الذي حرّك حازمًا في تشكيله لمخطّطه الأخلاقي للشعر، وهو الحرص على ربط كمال الشعر باكتمال الحياة، فلقد أدرك حازم “أنّ تصحيح وضع الشعر يعني تصحيح وضع المجتمع في جانب مهمّ من جوانبه، فالشعر وسيلة بالغة الأثر في استثارة أفعال البشر أو كفكفتها بالاقتناعات والتخاييل المستعملة فيه”[16]. ولا ضير بعد هذا الاتّفاق الأساسي، أو المبدئي أن يختلف عصفور مع حازم حول تفاصيل تصوّره، كتلك “المغالطات” أو “الحيل” التي يلجئُ حازم إليها الشعراءَ في سبيل إنجاح عملية التأثير في جمهورهم، وذلك عندما يبرّر لهم طرائق ووسائل تتعارض مع تصوّره الأخلاقي للشعر، مثل تبريره للكذب، واعتباره أنّ من حذق الشاعر أن يكون قادرًا على ترويج الكذب، وتمويهه على النفس من أجل التأثير فيها.
أمّا الملاحظة الثانية، التي نودّ الإشارة إليها، فهي تتعلّق بتصريح عصفور المرتبط بالأثر الفلسفي العام، والأرسطي الخاصّ في فكر حازم النقدي، خاصّة لما تحدّث عن الأساس الأخلاقي للشعر[17]. وقد تسرّب هذا الأثر إلى حازم من خلال سيره في إطار التقاليد التي وضعها الفلاسفة المسلمون، ومتابعته إنجازاتهم. فتمازجت بذلك في فكره نظريات الفلاسفة بالتراث الديني والبلاغي والنقدي.
إنّ الفهم الذي يرشح به فكر حازم لمصطلح التخييل الشعري، يعود بأصوله إلى الفلاسفة الذين اعتبروا الشعر عملية تخييلية يرعاها العقل، إذ أنّ الشاعر يأخذ من القوّة المتخيّلة مادّته الجزئيّة، ثمّ يعرضها على عقله أو يتركها لما أسماه حازم بالقوّة المائزة والقوّة الصانعة، فعن طريق ممارسة القوّتين لدورهما في ضبط معطيات التخيّل عند الشاعر وتنظيمها وتوجيهها يمكن للشعر أن يؤثّر في القوّة المتخيّلة عند المتلقّي، وتلك بدورها تثير القوّة النزوعية عنده مما يؤدّي إلى اتّخاذ المتلقّي وقفة سلوكية بذاتها.
وبهذا المعنى يكون التخييل عملية إيهام موجّهة تهدف إلى إثارة المتلقّي إثارة مقصودة سلفا “وذلك في ضوء المقولة النفسية (الأرسطية) التي تؤكّد أنّ الإنسان يتبع تخيّلاته أكثر مما يتبع عقله أو علمه، وأنّ سلوكه يتحدّد بحسب تخيّله أكثر مما يتحدّد بحسب ظنّه أو علمه”[18].
وأمّا تشكيك حازم في قدرة “محاكاة المطابقة” على التأثير في السلوك الإنساني، فإنّها إضافة منه إلى الفكرة الأرسطية التي ترى أنّ الشاعر يحاكي الأفعال بأحسن أو أقبح مما هي عليه، أو يحاكيها كما هي عليه. ذلك أنّ حازما تقبّل هذه الفكرة التي أتته عبر ابن سينا فقسّم المحاكاة إلى تحسين وتقبيح ومطابقة. ولكنّه أرفق هذه الفكرة بإضافة متميّزة، حيث جعل من المحاكاة المطابقة “محاكاة معدّة” يمكن أن يمال بها إلى أحسن أو أقبح لتغدو بذلك قادرة على التأثير في السلوك الإنساني[19].
كما يفيد حازم في تمييزه بين الجدّ والهزل في الشعر، من تمييز أرسطو بين الملهاة والمأساة. ولكن حازما “وإن أفاد من معطيات أرسطية، يستغلّ هذه المعطيات لتأدية غايات متباينة، ترتبط بفهم الفارابي لوظيفة الفنّ بعامّة. ولعلّ في هذا ما يبرّر قبول حازم للتداخل بين الطريقتين”[20] بقصد إفادة المتلقّين وإمتاعهم. ومن ثمّ يسهل انقيادهم لغاية الشاعر.
4- الجانب الثاني: طبيعة تقديم الشعر لموضوعه:
يهتمّ الباحث في هذا المستوى من مستويات مفهوم الشعر عند حازم بالطريقة التي يقدّم بها الشعر موضوعه ومهمّته. ذلك أنّ مهمّة الشعر تتحقّق من خلال وسيط نوعي للشعر، هو “المحاكاة” لأنّ الشعر هو محاكاة الأشياء والقيم والأفعال وتخييلها للمتلقّي بقصد إثارته وتوجيه سلوكه وفكره. هكذا تكون المحاكاة هي العلاقة، أو الفعل الذي يصل الشعر بعالم الإنسان، بأشيائه وأفعاله وأفكاره. وذلك عبر محاكاتها بكيفيات متنوّعة، وتقديمها في مستويات مختلفة وذات أبعاد أو خصائص محدّدة، تجعل من المحاكاة فعلًا إبداعيًّا في الشعر، وأداة تشكيلية في يد الشاعر يصوغ بواسطتها موضوعه وينقله إلى المتلقّي نقلًا متميّزًا.
4- 1- البعد الذاتي في المحاكاة الشعرية:
لقد تجلّى البعد التأثيري للشعر من خلال دور التخييل في توصيل قيم المضمون الأخلاقي للمتلقّين. وأما البعد الذاتي للشعر فيبرز في طبيعة المحاكاة الإدراكية والتشكيلية. ذلك أنّ المحاكاة تمثّل إنتاجًا للإدراك الذاتي للشاعر تنتقي فيه مخيّلته من معطيات موضوعه ما يتناسب وموقفه منه، وما يريد توصيله أو نقله إلى الآخرين.
وتكون المحاكاة ذات طبيعة تشكيلية بما أنّها تمثّل أداة الشاعر في صياغته لموضوعه.
وانطلاقا من هذا التصوّر، يعلن حازم، على لسان باحثنا “أنّ المعول في الشعر ليس على المحتوى الأخلاقي فقط بل وعلى الكيفية التي يقدّم بها هذا المحتوى للمتلقّي”[21]، ومن هذا المنطلق، أيضًا، يحرص حازم على تأكيد جانبي المتعة الفنيّة والفائدة الأخلاقية في تصوّره للشعر[22].
إنّ الطبيعة الإدراكية أو “الذاتية الشعرية” للمحاكاة تبرز في تدخّلها في عملية نقل الموضوع وتقديمه. ذلك أنّ الشاعر يحاكي “ما أدركه” من الموضوع، ليس كلّه بحذافيره، ويصوغ “موقفه الذاتي” مما أدركه، وليس موقف الآخرين. وأمّا حديث حازم عن مطابقة الصورة الموجودة في الذهن مع أصلها الذي تحاكيه. فهو لا يعني المحاكاة الحرفية، ذلك أنّ التطابق ينحصر بين الصورة وما أُدرك من موضوعها خارج الذهن فحسب، بمعنى أنّ الإدراك لا يكون حرفيا ينقل الموضوع نقلا كاملا وأمينا.
إذن، يخضع الشعر في تقديمه لموضوعه لفعل ذات الشاعر المدركة والمحاكية، والتي هي مصدر أصالة هذه الذات وتميّزها عن موضوعها وعن غيرها من الذوات الشاعرة: إدراكًا وتشكيلًا وموقفًا.
ويجد الباحث مبرّراته للحديث عن تميّز “موقف الشاعر” وذاتيته في صدى عبارات حازم المتعلّقة بالأغراض الأولى الباعثة على قول الشعر التي هي في حقيقتها أحوال نفسية للشاعر، وفي كلام حازم عن “الأغراض الإنسانية” حيث يبرز الجانب الذاتي في الشعر ذلك أنّ الذي يجعل الأقاويل الشعرية أشدّ تحريكًا للنفوس كونها أشدّ إفصاحًا عمّا به علقت الأغراض الإنسانية، حيث تكون ذات الشاعر منطلق الشعر وتكون ذات المتلقي مستقره. كما يجد الباحث صدى هذا الموقف الذاتي للشعر في أقوال حازم التي تردّ معاني الشعر إلى وصف أحوال الأمور المحركة إلى القول أو وصف أحوال المتحرّكين لها، ويجده في كلامه عن “جهات الشعر” التي توجّه الأقاويل الشعرية لوصفه أو محاكاته “بحيث يكشف الوصف والمحاكاة عن موقف ذاتي للمحاكي أو الواصف”[23].
كما يفهم الباحث البعد الذاتي للمحاكاة من خلال توجيهات حازم للشاعر بضرورة تنويع الكلام من جهة الترتيبات الواقعة في عباراته والبعد بها عن “التواطؤ والتشابه”، فيقع الربط بين المحاكاة والتعجيب والاستغراب. فالاستغراب يرتبط بالمفارقة التي يستشعرها المتلقي وهو يلمح الأشياء تبدو في صورة جديدة غير التي ألفها “فتحصل له المعرفة بما لم يكن يعرف”، ومن ثم يكون للنفوس تحرّك للمحاكاة المستغربة. وأمّا التعجيب فيقترن بنوع من المفاجأة السارة أو اللذّة والهزّة النفسية نتيجة ما يأتيه الشاعر من تحويرات على الأشياء.
فالمحاكاة، هي صياغة متميّزة لموقف متميّز. وهي كذلك عملية تشكيلية وتصويرية وتمثيلية للأشياء والأفعال في الأذهان. وسبيلها إلى كل ذلك هو الفعل التخيّلي، لأنّ “المخيّلة” هي القوّة الإدراكية التي تجمع بين الصور وتؤلّف بينها، وتعيد تشكيلها في علاقات جديدة تضفي على المحاكاة الطرافة والاستغراب والعجب[24].
وهنا، يقف الباحث ليتساءل: هل أنّ الجانب الذاتي فـــي المحاكاة الشعرية، بما أنّه علامة على أصالة الشاعر وتميّزه، يحرّر الشاعر تماما من موضوعه في صياغة موقفه منه والتعبير عنه؟
يجد عصفور أنّ حازما يجيبه، أنّ تحرّر الشاعر إزاء موضوعه هو تحرّر نسبيّ، إذ هو “مشروط ومقيّد”[25] بجملة من المعايير الأخلاقية، والقواعد العقلية، والتقاليد الشعرية. فقد عمل حازم على تكييف حرّية الشاعر مع تصوّره لطبيعة المحاكاة، أوّلا، ومع تصوّره لمهمّة الشعر، ثانيا. فبما أنّ المحاكاة هي تشكيل للأشياء الموجودة في الأعيان فإنّها تشدّ الشاعر إلى حدود الممكن والمحتمل في هذه الأشياء، وبما أنّ نجاح الشاعر في أداء مهمّته يتوقّف على قبول المتلقّي لما يقول وجب عليه أن يلتزم، أيضا، حدود الممكن والمحتمل، لأنّ المتلقّي لن يتقبّل المستحيل الذي لا يصحّ وجوده ولا يمكن تصوّره ولا يتأثّر له. صحيح أنّ حازما يسمح للشاعر أن يتجاوز الممكن إلى الممتنع[26]، إلا أنه يبقي للممكن الأفضلية لارتباطه بتصوّره لوظيفة الشعر. بمعنى أنّه إذا كان للشعر إيهام بالأشياء والأفعال، فلابدّ لهذا الإيهام أن يحتوي على “مشاكلة” لتلك الأشياء وتلك الأفعال، وإلاّ تأبى على أفهام المتلقّين[27].
ولكن حازما لا يتشدّد كثيرا في ربط الشاعر بفكرة الممكن، ذلك لأنّه ينظر إلى هذه الفكرة من زاوية وظيفية متّصلة بالسلوك الإنساني وقدرة الشعر على تحقيق آثاره وأهدافه الأخلاقية، فإذا اقتضت هذه الوظيفة خروج الشاعر عن الممكن فلا ضير في ذلك[28]، ومن ثمّ يصرح أن كلامه ليس واجبا على الشاعر لزومه بل هو مؤثر كلما أمكن ذلك. وهذا التصريح ” يترك المجال رحبا أمام حرّية الشاعر في الاختيار، مادام أنّه يعي مهمّته كما(…) ينفي عن حازم صفة التشدّد الملازمة للغويين ومن تأثّر بهم في التعامل مع ما أسموه “أخطاء الوصف”، بل ينفي عن حازم صفة الفهم الحرفي للمحاكاة في جوانب من كتابات ابن سينا وابن رشد”[29].
4- 2- البعد الحسّي في المحاكاة الشعرية:
إنّ ارتباط المحاكاة بحدود الممكن يميّزها بخصيصة حسيّة حتمية، تتصل بطبيعة مادّة الشعر من حيث صلتها بالمدركات الحسيّة (وخاصّة البصرية والسمعية) ومن حيث صلة هذه المدركات بالانفعالات الانسانية التي هي البواعث الأولى للنظم، والمؤثّر الأساسي في المتلقّي.
تتصل حسية المحاكاة بمهمة الشعر، إذ أنّ الشعر لا يقدّم موضوعاته تقديما مجرّدا، وإنما يقدّمها تقديما حسيّا[30] بتحويلها إلى صور شعرية ذات خصائص حسيّة تكشف عن موقفه الذاتي كما تؤثّر في الجانب الذاتي للمتلقّي[31].
لكن حسيّة المحاكاة ليست حسيّة محضة، ذلك أنّ علاقة الموضوعات في الشعر بأصلها في الواقع لا تخلو من بعض “التجريد” الذي لولاه لما استطاع الشعر أن يصوّر الأشياء على غير ما هي عليه[32]. كما أنّه يمكن للمحاكاة أن تتضمّن موضوعات معنوية أو مجرّدة (الحبّ مثلا) وتقديمها للمتلقّي من خلال مجموعة من الأغراض الحسيّة، أو مجموعة من الأحوال المطيفة بها والملازمة لها “فمن هذه الزاوية…يمكن أن يتقارب الحسي مع المجرّد فيصبح كلاهما قابلا للتشكيل في محاكاة شعرية”[33].
4- 3- البعد المباشر وغير المباشر في المحاكاة الشعرية:
تقدّم المحاكاة الشعرية موضوعها بطريقتين: مباشرة وغير مباشرة، يركّز الشاعر في الطريقة المباشرة – كالرسام – على صور الأشياء نفسها. فيعرضها بأقوال دالّة على خواصّها وأعراضها اللاحقة. ويكون هذا التصوير المباشر مجملا يهتمّ ببعض خواص الشيء وأعراضه القريبة أو المشهورة. ويكون التصوير تفصيليا يعدّد الخواص والأعراض في جميع أحوالها اللازمة له، أو اللاحقة به في حال ما من جهة هيئته ومقداره ولونه وملمسه. ويفيد هذا التصوير المباشر التفصيلي في عملية الوصف، لأنّه يساعد المتلقي على تمثّل المشهد من خلال ترتيب أجزائه المخيلة، ولذلك أطلق حازم على هذه الطريقة في الوصف اسم المحاكاة “التامّة” أو “التفصيلية”، وهي في التاريخ، مثلًا، تعني استقصاء أجزاء خبر المحكي وموالاتها على حدّ ما انتظمت عليه حال وقوعها.
وأمّا في المحاكاة غير المباشرة، فإنّ المتلقّي يتعرّف إلى موضوعها من خلال صلته بغيره، أو مثيله عن طريق التشبيه والتمثيل. فالشاعر هنا، لا يقدّم موضوعه بشكل مباشر، وإنّما يعرضه عبر وسائط ووسائل مجازية. ويطلق حازم على هذا النوع من المحاكاة اسم المحاكاة “التشبيهية” أو “المزدوجة”، لأنّها تتضمّن طرفين تقوم بينهما المشابهة. والتشبيه، هنا، هو بمعناه العام الذي يشتمل على الاستعارة والتمثيل والإرداف، والمجاز بعامّة. فكلّ واحدة من هذه الوسائل البلاغية يقترن فيها طرفان، في الغالب، على أساس من المشابهة في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات والأحوال.
وتتفاوت هذه الوسائل البلاغية للمحاكاة غير المباشرة في درجة وضوحها، وأكثرها وضوحا هي التي تكون فيها العلاقة بين طرفين كلاهما موجود في السياق كما في التشبيه بأنواعه. وتقلّ درجة الوضوح عندما يحذف أحد الطرفين كما في الاستعارة التصريحية التي يحذف فيها المشبّه. أمّا أكثر الوسائل إيهاما وغموضا فهي الاستعارة المكنية التي يحذف فيها الطرفان ولا يبقى إلاّ ما يشير إلى المشبّه به على جهة تضمن أو لزوم، أو يكنّى عنه، وهو ما سمّاه حازم بـ “ترادف المحاكاة” وبناء بعضها على بعض[34] مما يؤدّي إلى التباعد عن الموضوع الأصلي.
تفضي هذه النقلة بين الدلالات داخل المحاكاة غير المباشرة، بحازم إلى الإقرار بنوع من الإثنينية في المعاني الشعرية، وهو ما اصطلح عليه بـ “المعاني الأول” و”المعاني الثواني”. الأولى هي المعاني الأصلية في الشعر لأنّها مقصودة في نفسها بحسب غرض الشعر، والثانية هي معان فرعية، لأنها تتعلّق بالمعاني الأصلية لتزيد في دلالتها.
4-4- البعد الجمالي للمحاكاة الشعرية:
لا يكون تقديم المحاكاة الشعرية لموضوعها، ببعديها المباشر وغير المباشر، تقديما حرفيا وإنّما هو تقديم فني وجمالي. فالمحاكاة المباشرة، وإن كانت قريبة من أصلها الذي تحاكيه، فهي تحتفظ بتميّزها عنه، وهذا هو مصدر جماليتها. لذلك تلتذّ النفس بالموضوع المحاكى بالرغم من مباشرته، لأنّ كيفية تنظيم عناصره وتجانسها تبرز تميّز إدراك الشاعر، وتفضي كذلك، إلى أثر متميّز في المتلقي، إذ أنّ تعرّفه إلى الموضوع المحاكى هو تعرّف جمالي يختلف عن التعرّف النفعي أو العملي إلى الموضوع في أصله. فالأصل المحكي قد يكون منفّرا أو كريها، ولكن تخييله بالمحاكاة يدخله سياقا جديدا يصبغ عليه نوعا من الجمال ويقرنه بلذّة التعجيب.
وأمّا المحاكاة التشبيهية، فهي تتميّز جماليا عن المحاكاة المباشرة، لأنّ فعل الخيال الشعري يكون فيها قويّا. كما تحدث “لذّة تعرف” أكثر تميّزا عن التي تحدثها المحاكاة المباشرة، ذلك أنّها تقوم على ضرب مخصوص من العلاقات المجازية التشبيهية التي تحدث “التعجيب” و”الطرافة” في موضوع المحاكاة، وتنشط الاستجابة التخييلية للمتلقّي من خلال “الإدهاش” و”المفارقة”. يقول حازم: “إنّ محاكاة الشيء بغيره أطرف من محاكاته بصفات نفسه وهي أكثر جدّة وطراءة منها. فكانت محاكاته بها أطرف من محاكاته بصفات نفسه”[35].
ومصدر اللذّة والجمالية في المحاكاة (التشبيهية والتامة) يكمن في الكيفية التي تنظم بها عناصر موضوعها أو تلائم وتناسب بينها. فالنفس تلتذّ بالمحاكاة “المتجانسة” أو “المتناسبة”، وتنفر من المحاكاة “غير المتناسبة” التي تنطوي على فساد في ترتيب أجزاء الموضوع المحاكى، باعتبارها صورا جزئيّة يخيل فيها كلّ جزء على حدة – دون أن ينتظم مع غيره في صورة كلّية- وهو ما عبّر عنه حازم بـ “المحاكاة تفاريق”[36].
يبقى أن نشير إلى أنّ الباحث يلحّ كثيرا على أنّ تصوّر حازم السابق للمحاكاة يستند إلى أصول أرسطية، تسرّبت إليه عبر الشرّاح المسلمين.
فعصفور يعتبر أنّ أفكار حازم في المحاكاة المباشرة ينقلها عن الفارابي بل “إنّ عبارات الفارابي تتكرّر بلغة حازم”[37]، فمصطلح “ترادف المحاكاة” أو بناء استعارة على غيرها يقابل عند الفارابي مصطلح “التغييرات المركبة”. ولكن إذا كان حازم يتبنى فكرة الفارابي، فإنه يضيف إليها مصطلحات البحث النقدي التي نضجت بعد الفارابي خاصّة مع قدامة بن جعفر وابن سنان الخفاجي اللذين أصّلا مصطلحي “الترادف” و”بناء الاستعارة على بعضها”.
كما أنّ فكرة الممكن والمحتمل هي الأخرى، ذات أصول أرسطية فقد ورد عن أرسطو حديثه عن المحاكاة بـ “ما يمكن أن يقع” أو محاكاة الأشياء الممكنة بحسب “الاحتمال أو الضرورة”. غير أن عصفورا يبقي لحازم تميّزه وإضافته إلى هذه الفكرة الأرسطية، ذلك أنّه نظر إليها من زاوية وظيفية مرتبطة بالمهمة الأخلاقية للشعر، ولم ينظر إليها من الزاوية المعرفية – كما أرسطو وشرّاحه المحدثين – المرتبطة باتّباع الشاعر للقوانين الأساسية في الطبيعة، فمن تلك الزاوية الوظيفية تسامح حازم مع الشاعر فأباح له الممتنع والمستحيل إذا تعلّقا بخدمة وظيفة الشعر ومهمته الأخلاقية[38].
وقد اعتمد حازم أيضا، في حديثه عن “المعاني الأول والثواني” على الفارابي، فالمعاني الأول الأصلية في الشعر تقابل عند الفارابي التمثال الذي يحاكي الشخص، أما المعاني الثواني الفرعية فتقابل عنده انعكاس صورة ذلك التمثال في المرآة[39].
ولكن بالرغم من الأصول الفارابية التي يتضمّنها مصطلحا المعاني الأول والمعاني الثواني، فإنّهما يذكران، كذلك، بعبد القاهر الجرجاني الذي ميّز في حديثه عن الكناية والاستعارة والتمثيل بين ما سماه “المعنى” و”معنى المعنى” أو “المعاني الأول” و”المعاني الثواني”. وهو يقصد بالمعنى، الذي يرادف المعنى الأول، الدلالة المباشرة التي يحملها ظاهر اللّفظ بغير واسطة وبلا تضمّن. أما معنى المعنى، أو المعنى الثاني، فهو الدلالة الضمنية غير المباشرة التي تنطوي عليها الدلالة المباشرة، وتدلّ عليه على جهة تضمّن أو لزوم. إذن، ففكرة التحوّل في الدلالة والانتقال من معنى إلى آخر، تظلّ قائمة بين الجرجاني وحازم، غير أنّها تكيّفت مع تصوّر الأخير للمحاكاة التشبيهية. وبهذا التكيّف يؤصّل حازم الجانب البلاغي لمفهوم المحاكاة غير المباشرة، ويوفّق بين الفلاسفة والنقّاد والبلاغيين[40].
5- الجانب الثالث: الجمالية في الشعر: (مستويات التناسب في القصيدة):
ألحّ حازم على ضرورة التناسب بين مختلف مكوّنات القصيدة: الوزن والإيقاع، واللفظ والمعنى، والشكل والغرض[41]. وألحّ على ضرورة أن تتناسب هذه العناصر في ذاتها أوّلًا، وفيما بينها ثانيًا، وداخل القصيدة ككلّ أخيرا، لتتشكّل بذلك وحدة القصيدة.
هكذا يبدو أنّ مبدأ التناسب يؤدي دورًا مهمًّا في تشكيل القصيدة، باعتباره أساسًا لكلّ نظم جيّد، ولكلّ شكل من أشكال الوحدة في الشعر[42].
5- 1- تناسب الوزن:
إنّ تناسب الوزن يعني تلاؤم عناصره المكوّنة له (الحركات والسكنات والتفاعيل)، وهو ما يتجلّى في الانتظام الصوتي المتميّز لتعاقبها. فتعاقب الحركة والسكون في الوزن الشعري ليس شيئا اعتباطيا، وإنما هو عملية تناسب داخل نظام متّحد لحركة منتظمة في الزمن تتآلّف داخلها الأجزاء في مجموعات متساوية ومتشابهة في تكوينها، فبهذا التآلف يتشكل الوزن ويتميّز، في الآن ذاته، عن غيره من الأوزان.
هذا التآلف أو التناسب الصوتي يثير بهجة في النفس، وإنما تستحلى الأعاريض – فيما يقول حازم – “بوقوع التركيب المتلائم فيها”. وأمّا إذا تخلخل هذا التناسب استُثقل الوزن ونفر منه، ومن ثمّ تختفي الخصيصة الجمالية فيه، ولا يعدّ وزنا شعريا حتى وإن كان له نظام محفوظ “لأننا نشترط في نظام الشعر أن يكون مستطابا”. ومن هذه الزاوية تحديدا يقسم حازم الأوزان بحسب صفات مختلفة أقساما عديدة، تحدّد جمالها او قبحها كالجودة والبساطة، وغيرهما. وقد اعتبر حازم أنّ الوزن أحد عناصر التخييل الشعري، لذلك فهو لا ينفصل عن المعنى الشعري. إذ تجمعه به علاقة تناسبية، وهو ما يسميه حازم بـ “تناسب المسموع والمفهوم”.
لكن حازمًا، شأن النقاد القدماء، يتصوّر عملية النظم الشعري مراحل متعاقبة في الوجود: مرحلة لحركة المعنى، وأخرى لحركة الوزن. الأولى تسبق الثانية في الوجود وتوجّهها، حتى وإن تجاورا في النهاية وقام كلّ منهما على تناسب، فإن تناسب حركة الوزن يعقب دائما تناسب حركة المعنى.
يفضي هذا التصوّر إلى افتراض فحواه أن الأوزان العروضية لها خصائصها الصوتية المستقلّة عن المعنى الذي تؤدّيه، وهو ما يجعل العلاقة بين المعنى والوزن علاقة احتواء، مما “يعكر” مفهوم الصلة “العضوية” بين الوزن والمعنى، ويجعل الوزن قالبًا ذا خصائص متميّزة تناسب في وضع لاحق أغراضا بأعيانها[43].
ويرى الباحث، أنّ العلاقة التناسبية التي أراد حازم أن يقيمها بين الأوزان والمعاني والأغراض، هي علاقة ذات صلة بعلاقة الموسيقى بالانفعالات، وذلك لتشابه الألحان بالأوزان من حيث قيامها جميعا على أساس واحد، هو كيفية تناسب الأصوات في تعاقبها الزمني. وهذه الصلة تجعل الباحث يعتقد أنّ حازما قام بالمحاولة نفسها التي قام بها الفلاسفة – شرّاح أرسطو – عندما أدركوا صلة الموسيقى بالانفعالات، خاصّة أنّ تقسيم حازم للأوزان من حيث القوّة والاعتدال واللين لا يبعد كثيرا عن مفهوم الفارابي للألحان القوية التي تثير انفعالات القوّة في النفس، والألحان الليّنة المعتدلة المقترنة بانفعالات تتراوح بين القوّة والضعف.
وإذا كان الفلاسفة قد نقلوا هذه الفكرة عن أرسطو، فهذا يعني أنّ حازما تقبل الفكرة الأرسطية وحاول تطبيقها على الشعر العربي منطلقا من قول ابن سينا: “وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكلّ غرض وزنا يليق به ولا تتعدّاه فيه إلى غيره”[44]، وبهذا يرتبط الوزن بالمعنى في علاقة احتواء تقوم على التناسب فيصير لكلّ وزن مجاله وغرضه الخاصين.
ولكن إذا كان الباحث قد آخذ حازما في تصوّره لعلاقة الوزن بالمعنى، فإنّه قد أقرّ بأهميّة هذا التصوّر وتفرّده في التراث النقدي، بل إنّه رأى فيه أساسا يمكن أن يسند تصوّراتنا المعاصرة، خاصة إذا طرحت منه المقولة الأساسية عن الفصل بين الوزن والمعنى[45].
5- 2- تناسب الألفاظ (النظم):
يهتم حازم في هذا المستوى من مستويات التناسب بالتلاؤم الذي يقع بين المواد اللفظية للكلمات، فحاول أن يحدّد له أنحاءه التي منها: أن تكون حروف الكلام بالنظر إلى ائتلاف بعض حروف الكلمة مع بعضها، وائتلاف جملة كلمة مع جملة كلمة تجاورها منتظمة في حروف مختارة متباعدة المخارج مرتبة الترتيب الذي يقع فيه خفّة وتشاكل ما. ومنها ألاّ تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار الاستعمال كأن تكون الواحدة في نهاية الابتذال والأخرى في نهاية الحوشية وقلّة الاستعمال، ومنها أن تتناسب بعض صفات الكلمات مثل أن تكون إحداها مشتقّة من الأخرى مع التغاير في المعنى من جهة أو جهات أو تتماثل أوزانها أو تتوازن مقاطعها. ومنها أن تكون كلّ كلمة قويّة الطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كلّ ما يمكن أن يوضع موضعها.
وقد لا تتوافر هذه الصفات، بعضها أو أكثرها، في الكلمات ومع ذلك يقع التلاؤم والتناسب. وحازم نفسه يعترف بهذا، إلا أنّه يعجز عن تحليل هذه الظاهرة الشعرية.
أمّا عصفور فهو يردّ هذا الاعتراف وذلك العجز عن تعليله إلى وعي حازم “الغامض” بـ “فاعلية السياق” في خلق التناسب الجمالي للشعر[46]، ذلك أنّ حازما يتجاوز خصائص الكلمة في ذاتها إلى خصائصها داخل القصيدة، أو داخل السياق الشعري، فهو يلتفت إلى جمال النظم اللفظي في الشعر، محاولا تبريره وردّه إلى مبدإ التناسب فيشير إلى “العذوبة” و”الجزالة” و”الطلاوة” في لغة الشعر، محددا كلّ واحدة من هذه الصفات تحديدا دقيقا، لينتهي إلى أنّها لا تفارق “تشاكل التأليف” الذي تطّرد به الكلمات أحسن اطّراد.
ثمّ إنّ حازما لا يفهم “النظم” بمعزل عن “الأسلوب”، فحديثه عن “تشاكل التأليف” وعن “التوافق” و”التعلّق” و”الاقتران” و”المجانسة” يشير إلى الألفاظ في ذاتها، وضمن سياق له حركته التي تحتوي المعنى والمبنى على السواء. ومن هنا كان حريصا على تأكيد أنّ النظم هو الأسلوب نفسه. فنسبة الأسلوب إلى المعاني هي نسبة النظم إلى الألفاظ، كلاهما يحصل على كيفية في الاستمرار تجعل اطّراد الأسلوب قرين اطّراد النظم، بحيث أنّهما يتكافلان أو يتكاملان. ولذلك يهتمّ حازم بملاحظة الوجوه التي تجعل منهما معا “مخيلين للحال التي يريد الشاعر تخيّلها من رقّة أو غلظة أو غير ذلك. فإنّ النظام اللطيف المأخذ، الرقيق الحواشي، المستعمل في الألفاظ العرفية في طريق الغزل، تخيل رقّة نفس القائل. ولو وقع ذلك مثلا في طريقة الفخر لم تخيل الغرض، بل تخيل ذلك الألفاظ الجزلة والعبارات الفخمة المتينة القوية. وكذلك لطف الأسلوب ورقّته يخيّلان لك أنّ قائله عاشقا، وخشونة الأسلوب وجفاؤه لا يخيلان ذلك”[47].
5- 3- تناسب المعاني (الأسلوب):
تخضع المعاني الشعرية – كما الألفاظ – لمبدإ التناسب، أي أنّ الأسلوب يقوم – كما النظم – على علاقات تناسبية، ويلاحظ فيه “من حسن الاطّراد والتناسب والتلطّف في الانتقال من جهة إلى جهة… ما يلاحظ في النظم من حسن اطّراد من بعض العبارات إلى بعض ومراعاة المناسبة ولطف النقلة”[48]. تنفي هذه العلاقات التناسبية بين المعاني استقلال المعنى الواحد بنفسه، لأن حسن موقعه من النفس لا يعتمد على كماله في ذاته فحسب. وإنما أيضا في انتظامه في سياق معانٍ أُخر تجمعه بها نسب ما، أو يقرنه بها نوع من الاقتران كاقتران التماثل واقتران المعنى بمضاده في المطابقة والمقابلة، واقتران الشيء بما يناسب مضاده في المخالفة، واقتران الشيء بما يشبهه ويستعار اسم أحدهما للآخر “فيكون هذا من تشافع الحقيقة والمجاز”.
هذه الاقترانات المختلفة، وغيرها، وهي لا تقوم على المشابهة وحدها، التي تجمع المعاني الشعرية في علاقات تناسبية، تمنح الشاعر تميّزه عن غيره وذلك بحسب طُرُقِهِ في إقامة هذه العلاقات، وبحسب مدى معرفته لوجوه انتساب المعاني بعضها إلى بعض، وبحسب مدى تنبّهه إلى أهمية العلاقة التي تتشكّل منها معطيات القصيدة وعناصرها.
ولا يكون تناسب المعاني مهمّا في ذاته فحسب. وإنّما يكتسب أهميته أيضا، من علاقته بتناسب الألفاظ. ذلك أنّ القدرة على التناسب واحدة، فتحققها في “اقترانات المعاني” يعني تحققها في “اقترانات الألفاظ”. ويرتبط الأمر، هنا، بجدّة التراكيب من حيث كشفها عن إدراك جديد أو معنى جديد، ولذلك يميّز حازم بين ضرورة اتّباع النحو وسذاجة التراكيب التقليدية. فيرى أنّ الصحّة النحوية لازمة للشعر. لكن التراكيب التقليدية ليست أمرا لازما، لأنّها توقع الشاعر في “التواطؤ” و”التشابه” فتعكّر على إدراكه الجديد ونضارة معانيه.
وإذا كان عصفور يؤكّد أهمية هذا التصوّر لمحاولته ربط المعنى بالمبنى في الشعر، فإنّه يعتبر أنّ هذه المحاولة لا تصل إلى حدّ تمييز اللغة الشعرية عن غيرها من اللغات الأدبية، لأنّ حازما – كأسلافه النقّاد – ينظر إلى اللغة باعتبارها ذات مستوى ثابت لا يحقّ للشاعر الخروج عنه. في حين أنّه، أي حازم، يمنح الشاعر حرية أن يصوغ المعاني التي يريد شرط أن يحافظ على سلامة التركيب في هذه الصياغة، بحيث يسمح بتقريب المعنى إلى الفهم والتصوّر، ولا يهمّ أن يكون هذا المعنى قد عرفته العرب أم لم تعرفه فـ “كأنّ الحرية التي يعطيها حازم للشاعر في حركته مع المعنى، يعود فيسلبها منه في حركته مع اللغة”[49].
ويريد الباحث أن يقلّل من حدّة حكمه السابق، فيقرّ أنّ حازما قد تنبّه إلى جوانب مهمة في مسألة علاقة المعنى بالمبنى، كتأكيده ضرورة أن يكون الكلام مستجدّا بعيدا عن التكرار. وكعدم فصله بين التعجيب، الذي تثيره القصيدة، وسعي الشاعر وراء “لطائف الكلام” وجدّة التراكيب، فأنكر “مسلك السذاجة في الكلام” وربط حسن موقع التخييل بترامي الكلام إلى أنحاء التعجيب. وفي مثل هذا التصوّر “ما يربط بين جدّة الإدراك وجدّة التركيب اللغوي على نحو يجعلنا نتجاوز الحرص على الصحّة النحوية على إطلاقها، والحرص على مبدإ اللغة التي لا يقاس عليها رغم مزالقه”[50].
5- 4- تناسب الشكل:
يقوم الشكل الجيّد عند حازم، على تناسب عناصر جيّدة في المحاكاة الحسنة، وفي الأقوال الصادقة. كما يقوم على حسن إيقاع الاقترانات والنسب بين المعاني، مثل التأليف الحسن في الألفاظ الحسنة المستعذبة. فالتناسب الذاتي للعناصر ضروري، مثلما أنّ تناسبها فيما بينها أكيد فهو يعطي للقصيدة شكلها المتناسب المنشود.
وينبني تصوّر حازم للشكل المتناسب على المقولة المنطقية المتعلّقة بالمادة والشكل، حيث تبرز الإفادة “المباشرة”[51] من كتاب الشعر لأرسطو وتتضح العلاقة بين فكرة “العظم” الأرسطية ومفهوم الشكل المتناسب عند حازم. ففكرة “العظم” تقترن بوحدة الفعل وانسجام العناصر في الموضوع الفنّي، كما تقترن بقابلية الموضوع للإدراك مما يجعل منه ذا عظم محدد، بين الصغر والكبر، أو القصر والطول يسمح بإدراكه واستيعاب خصائصه الجمالية. ومن هذا المنطلق الأرسطي لفكرة “العظم” يرد مبدأ “الحدّ الأوسط” عند الشراح المسلمين. ويأخذ حازم عنهم هذا الشرح ويكفيه في ضوء تصوّره للتناسب المطلوب في الشعر، فيؤكّد مبدأ الاعتدال الذي يجعل الشعر الجيّد يقع موقعا متوسّطا بين الخفّة والطيش، والقصر والطول، والتكرار والتنوّع. وقد كان وهو يؤكّد هذا المبدأ يقرنه بالعلّة الكامنة وراء لذّة المتلقّي.
أمّا موقف الباحث، من تصوّر القرطاجني لمبدإ الاعتدال وفكرة تناسب الشكل عامة، فهو موقف مرتاب في صلاحيته الأدبية المطلقة. وهو لذلك لا يمكن أن يتقبّله إلاّ تقبّلا “أوّليا”، أي أنه يتقبله من حيث توفيقيته النسبية بين قيمة المحتوى وقيمة الشكل. وتعود هذه الريبة إلى مفهوم الشكل نفسه، الذي يبقى في اعتقاد حازم – كما في اعتقاد النقّاد من قبله – “قيمة مضافة” إلى العناصر التي يحتوي كلّ منها في ذاتها قيمة ثانية أو قبلية، تظلّ باقية ومصاحبة لقيمة الشكل المستقلّة، ذلك أنّ المعاني والألفاظ لها مستويات في التقويم عند حازم: لغوية ومنطقية وخلقية لابدّ من التزامها وتوافرها في كلّ عمل شعري. وهنا يتكشف الحلّ المنطقي على التسليم بثنائية الشكل والمحتوى، هذا فضلًا عن قصور هذا التصوّر عن حلّ كثير من المعضلات، مثل المعضلة الأخلاقية لشعر الغزل والمجون ومعضلة الصدق والكذب في عامة الشعر.
يمهد، هذا التصوّر المنطقي، لمفهوم في “وحدة القصيدة” يقوم على تناسب شكلي خارجي أو يقوم على تسلسل منطقي بين مختلف عناصرها.
5-5- تناسب الأغراض:
يمثّل تصوّر صاحب المنهاج لتناسب الأغراض الشعرية في القصيدة وجها آخر للشكل الذي يتكوّن من عناصر مستقلّة في ذاتها مترابطة فيما بينها برابط منطقي، ذلك أنّ تناسب الأغراض، يؤدّي بدوره إلى “وحدة التسلسل” التقليدية التي يفضي فيها غرض إلى آخر بعلاقة شكلية هي التخلّص والاستطراد.
وإذا كان هذا الفهم لوحدة التناسب يختلف عن مفهوم الوحدة العضوية الأرسطية، فإنّه لا يعدم أهميّته مطلقا، خاصّة أنّ حازما أبان عن أفكار جيّدة يمكن الإفادة منها في تكوين مفهوم جديد لوحدة القصيدة العربية القديمة، كإلحاحه على ضرورة التنوّع والمراوحة في القصيدة، ومحاولته التبرير الجمالي لهذه المراوحة. فعلى أساس من هذه المراوحة فضّل حازم القصيدة مركّبة الأغراض على القصيدة البسيطة ذات الغرض الواحد، لأنّ النفس تحبّ النقلة بين الأشياء التي يمكن الاستمتاع بها، وتسأم الاستمرار مع الشيء البسيط الذي لا تنوّع فيه. ولذلك فهي تعجب بالقصيدة المركّبة، خاصّة إذا ترتّبت أغراضها في “نظام متشاكل” و”تأليف متناسب”.
ولكن الباحث، يرى أنّه إذا كان عنصر المراوحة في القصيدة – سواء بين معانيها أو بين أغراضها – تستجمّ له النفس فعلا (من وجهة نظر حازم على الأقلّ) فإنّه ليس إلاّ طريقا إلى وحدة التسلسل التي تقارب ما بين الشعر والخطابة، والتي لا مجال فيها للعلاقات الداخلية المتجاوبة الأبعاد، فهذا القدر من التنوّع الذي يسمح به التشكيل العقلي لوحدة القصيدة لا يفارق الاطّراد (أو التتابع) الذي يفضي إلى تسلسل العناصر في إطار موحّد على المستوى المنطقي. كما أن هذا التنوع لا يعدو أن يكون إلاّ محاولة للتوفيق بين حبّ النقلة في النفس، ووحدة البيت في ذاته ووحدته مع باقي الأبيات في تأليف متناسب.
إذن، يظلّ مفهوم حازم لوحدة القصيدة مقرّا بثبات عناصرها، وبعدم تجاوبها، وباستقلال أجزائها، بحيث يبدو انتظام المعاني الجزئية في جانب، وانتظام الألفاظ في جانب آخر، وانتظام الفصول والأغراض في جانب ثالث.
ينهي عصفور كلامه في الوحدة بدعوة إلى البحث عن وحدة جديدة للقصيدة العربية القديمة، إذ هو يعتقد مسبقا في قيامها على نوع ما من الوحدة. وفي الحقيقة هي وحدته التي يؤمن بها ويريد إثباتها، وهو لذلك حاول البحث عن هذا النوع من الوحدة في قصيدة المتنبي الكافورية (في قسمها الذي تناوله حازم نفسه بالتحليل).
6- خاتمة:
نود، في آخر هذا المبحث، أن نشير إلى بعض الملاحظات تتعلّق بالخيار المنهجي لجابر عصفور وبطريقة تقديمه لمادّة المنهاج النقدية:
– إنّ الباحث لم يخصّ كتابه “مفهوم الشعر” بحازم وحده فهو يدرسه ضمن سياق التطوّر في تاريخ النقد النظري عند العرب، لا يمثّل حازم إلا إحدى مراحله، وإن كانت أنضجها وأكملها.
– غياب العديد من قضايا المنهاج عن دراسة عصفور، التي ربّما اعتبرها قضايا تطبيقية لا تمتّ بصلة إلى مبحث نظري مثل مبحثه “مفهوم الشعر”. نذكر من هذه القضايا، تمثيلًا لا حصرًا، السرقات الشعرية، والغموض والوضوح، والصدق والكذب، والطبع والصنعة.
– تتسم دراسة الباحث ببعض الاضطراب المنهجي الذي تمثّل في تكراره الحديث عن بعض القضايا في أماكن مختلفة، وفصول متمايزة من كتابه. فهو مثلًا بالرغم من أنّه يخصّ “المحاكاة” بفصل مستقلّ، فهو يعود إلى الحديث عنها في فصل “التناسب”، كما توقّف عندها كثيرًا في فصل “المهمة”. وربّما يعود هذا إلى ما لاحظه أحد الدارسين من أنّ دراسة عصفور “تقع في خطر انتزاع القضايا النقدية والفصل بينها وبين ما ترتبط به من قضايا أخرى في داخل كلّ متكامل”، فمثلًا إن قضايا المحاكاة والتخييل وتعريف الشعر والوزن هي قضايا تنتمي إلى أضلاع مختلفة من البناء النقدي لدى حازم القرطاجني[52].
كما أنّ الباحث باشر الجانب الجمالي في مفهوم الشعر عند حازم، في فصول المهمة والمحاكاة والوزن، ثمّ عاد وخصّ هذا الجانب فصلًا قائمًا بذاته وسمه بـ “التناسب والوحدة”، اضطرّ فيه إلى إعادة الحديث عن مسائل تدخل في إطار الفصول الأخرى كالشكل والألفاظ والمعاني. وربّما كان بإمكان الباحث تجنّب هذا الاضطراب المنهجي “لو أنّه اعتبر هذا الجانب الجمالي منهجًا يحكم آراءه – أي حازم – النقدية كلّها، وليس فكرًا نقديًّا يمكن حصره في فصل بذاته”[53].
ودرءًا منا لبعض تلك الهنات حاولنا إعادة تنظيم مادة عصفور قدر الإمكان. ولكن بالكيفية التي نحافظ بها على بنائه العام لدراسته. فألحقنا حديثه عن البعد الجمالي للوزن من فصله الخاص به إلى الفصل الخاص بالجانب الجمالي في مفهوم الشعر عند حازم. كما أنّنا لم نترك هذا البعد الجمالي في المحاكاة إلى فصل التناسب وذلك درءًا للتكرار، بل أشرنا إليه في الموضع الذي خصّصناه لموضوع المحاكاة. فقد حرصنا في عرضنا لمادة باحثنا، أن تكون جوانب مفهومه للشعر واضحة المعالم.
وليس بوسعنا أكثر مما فعلنا، وإلاّ كنّا سنخرج عن طبيعة الدراسة تمامًا، ونكون إزاء دراسة أخرى ليس لها علاقة بدراسة عصفور، وعلى كلّ فإنّ من مقاصد بحثنا هو النظر في منهج هذه الدراسة المعاصرة وطريقة عرضها لمادّة المنهاج القديمة، ليتيسر لنا ملاحظة مدى تأثير ذلك في فهم تراث حازم النقدي.
قائمة المراجع:
- الخطيب، صفوت عبد الله، نظرية حازم القرطاجني النقدية الجمالية، القاهرة، 1986.
- ابن سينا، أبو علي، فنّ الشعر، تحقيق عبد الرحمن بدوي، 1969.
- قصبجي، عصام، نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم، دار القلم العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1980.
- عصفور، جابر، الصورة الفنية، ط3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1992.
- عصفور، جابر، قراءة التراث النقدي، نيقوسيا، 1991.
- عصفور، جابر، مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي، ط 2، بيروت، 1982.
- القرطاجني، حازم، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، ط 3، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
- المومني، قاسم، “موقف حازم القرطاجني من قضية الاسترفاد بالشعر”، مجلّة مجمع اللغة العربية الأردني، 28-29، السنة 9، تمّوز- كانون الأوّل، 1985، ص 49-64.
- الهاشمي، علي، “قانون التناسب لحازم القرطاجني بين بنية الإيقاع والتركيب اللغوي”، مجلّة “الحياة الثقافية”، وزارة الثقافة، تونس، ع 44-45 أكتوبر – نوفمبر، 1987.
[1]– قد يكون القسم الأوّل من كتاب الباحث “قراءة التراث النقدي” مرجعنا الأساسي في تحديد مشروع عصفور في دراسته للتراث النقدي عامّة.
[2]– جابر عصفور، مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي، ط 2، بيروت، 1982، ص8.
[3]– إن مصطلح “رؤيا العالم” هو استعارة من لوسيان غولدمان الذي يحيل عليه عصفور نفسه (الهامش 65 من الصفحة 57 من كتابه “قراءة التراث النقدي”، ط 1، نيقوسيا، 1991).
[4]– جابر عصفور، مفهوم الشعر، ط 2، بيروت، 1982، ص9.
[5]– جابر عصفور، مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص12.
[6]– المرجع نفسه، ص134-135.
[7]– جابر عصفور، مفهوم الشعر، ص 150.
[8]– المرجع نفسه، ص 159.
[9]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص 157، وإذ لا نذكر في هذا الموضع، أنحاء التخييل الأخرى فذلك تجنّبًا للتكرار، حيث لنا عودة إليها في موضع لاحق.
[10]– المرجع نفسه، ص 162.
[11]– كنّا أشرنا إلى الغاية التأصيلية في مشروع عصفور، عامّة. وهو هنا يحاول أن يؤصّل لجانب من جوانب مفهوم الشعر، وهو الجانب المتعلّق بالمهمة أو الوظيفة.
[12]– يلحّ الباحث، هنا على تأثّر حازم بقُدامة بن جعفر، حيث يتقبّل مفهومه عن الفضائل الأربع بوصفها محورًا للقيم التي يدور حولها الشعر. وأمّا اعتماد حازم على قدامة فيردّه عصفور إلى أنّ كليهما ينهل من الأصول الفلسفية الأرسطية نفسها. (عصفور، مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص 173-174).
[13]– تجدر الإشارة إلى أنّ د. قاسم المومني قد أنجز بحثًا في هذا الموضوع واعتمد فيه كثيرًا على كتاب “مفهوم الشعر” لعصفور. انظر: قاسم المومني: موقف حازم القرطاجني من قضية الاسترفاد بالشعر، مجلّة مجمع اللغة العربية الأردني، 28-29، السنة 9، تمّوز- كانون الأوّل، 1985، ص49-64.
[14]– بينما نجد من الدارسين من لا يعتدّ كثيرا بمحاكاة القصص هذه لأنّها تقوم على ضرب من القصص المتشابهة لا تخييل قصّة بذاتها. عصام قصبجي: نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم، دار القلم العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1980.
[15]– هذا المحتوى الذي سعى عصفور جاهدًا إلى إبرازه، بعد أن فشل باحث آخر، هو قصبجي في العثور على ظلّ له داخل تصوّر حازم للشعر.
[16]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص138.
[17]– المرجع نفسه،ص167-168. وقد تكرّر هذا التصريح في جملة من المواضع الأخرى، نذكر منها، تمثيلًا لا حصرًا: ص155، 158، 160، 161، 171، 184.
[18]– لمرجع نفسه، ص161.
[19]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص171-172.
[20]– المرجع نفسه، ص184.
[21]– المرجع نفسه، ص190.
[22]– المرجع نفسه، ص171، ويرى عصفور أنّ هذا الحرص على ارتباط الإمتاع بالإفادة تسرّب إلى حازم من أرسطو عبر الفلاسفة المسلمين.
[23]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص200.
[24]– المرجع نفسه: ص201-202.
[25]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص203.
[26]– الممتنع هو الذي لا يقع في الوجود، وإن كان متصوّرا في الذهن (حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، ط 3، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص 133.) كتركيب ذيل سمكة على امرأة في مثال عروس البحر.
[27]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص204.
[28]– فمثلا، يسمح حازم بالاستحالة إذا كانت بقصد التهكّم بالشيء، أو الزراية عليه والإضحاك به كقول الطرماح: (حازم: ص134)
ولو أنّ برغوثًا على ظهر نملة *** يكر على صفي تميم لولت
[29]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص207.
[30]– سبق لعصفور أن عرض لتأصيل حازم لمفهوم التقديم الحسي المرتبط بالمحاكاة، وذلك في كتابه: “الصورة الفنية”، ط 3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1992، ص298- 312.
[31]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص210-211.
[32]– المرجع نفسه، ص208.
[33]– المرجع نفسه، ص209.
[34]– الإرداف: مصطلح بلاغي أصّله قدامة بن جعفر، أمّا مصطلح “بناء استعارة على غيرها” فقد أصّله ابن سنان الخفاجي. وكلا المصطلحين عبر عنهما الفارابي بـ “التغييرات المركّبة”. وقد تأثّر حازم بجميع هؤلاء.
[35]– حازم القرطاجني: المنهاج، مرجع سابق، ص129.
[36]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص274-275، (وانظر حازم القرطاجني: المنهاج، مرجع سابق، ص129)
[37]– جابر عصفور: مفهوم الشعر،مرجع سابق، ص 220.
[38]– المرجع نفسه، ص206-207.
[39]– المرجع نفسه، ص226.
[40] -المرجع نفسه، ص227.
[41]– كنا أشرنا في الفقرة الخاصة بالمحاكاة (التي يقدم بها الشعر موضوعه) إلى البعد الجمالي فيها، والذي كان مصدر خضوعها لهذا المبدأ التناسبي.
[42]– قد يجعل هذا الفهم لمبدأ التناسب عند حازم – كما يقدّمه الباحث – عملية متابعة تجلّياته في كلّ عنصر من عناصر القصيدة على حدة أمرا صعبا، إن لم يكن مستحيلا ومع ذلك يكلّف الباحث نفسه جهد هذه المتابعة. وقد يكون فصل عصفور بين هذه العناصر – بعد أن وحّدها مبدأ التناسب – لغرض منهجي، لا غير. إلا أنّنا نلمس بوضوح صعوبة هذه المتابعة في عمل عصفور نفسه.
[43] – جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص246.
[44]– ابن سينا: فنّ الشعر، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ص266، ط 1969، (نقلا عن جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص261).
[45]– ولهذا يدعو الباحث إلى ضرورة “تحليل هذا التناسب في ضوء معطيات علم اللغة المعاصر” (ص 268)، (ويبدو أنّ مقال علي الهاشمي “قانون التناسب لحازم القرطاجني بين بنية الإيقاع والتركيب اللغوي”، مجلّة “الحياة الثقافية” التونسية، ع 44-45 أكتوبر – نوفمبر، 1987، يصبّ في هذا الاتّجاه). المهمّ أن نلاحظ أنّ الباحث، هنا، يحاول أن “يؤصّل” لبعد من أبعاد القصيدة الحديثة يتعلّق بمفهوم الإيقاع، أوّلا، ومفهوم الوحدة ثانيا.
[46]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص277.
[47]– حازم القرطاجني: المنهاج، ص364.
[48]– المرجع نفسه، ص364.
[49]– جابر عصفور: مفهوم الشعر، مرجع سابق، ص284.
[50]– المرجع نفسه، ص285.
[51]– يبدو أنّ حماس عصفور لأرسطية حازم أنساه أنّ اتّصال حازم بكتاب الشعر لأرسطو كان اتّصالًا غير مباشر فهو، كما هو معلوم، كان عبر الشرّاح المسلمين.
[52]– صفوت عبد الله الخطيب: نظرية حازم القرطاجني النقدية الجمالية. ص: (ل) 1986، القاهرة.
[53]– صفوت عبد الله الخطيب: نظرية حازم القرطاجني النقدية الجمالية، مرجع سابق.