ملخّص:
يبحث هذا المقال في إشكالية المراجع داخل الخطاب الواقعيّ الوصفيّ من خلال رواية “الحبّ في رقّادة” للرّوائيّ التّونسيّ أحمد مال. فعوالم الرّواية، مهما كان التيّار الذي تنتمي إليه، هي عوالم ممكنة تقوم على التّخييل، وتختلف عن المراجع في الواقع، حتّى وإن اقتحمت هذه المراجع الواقعيّة المتن الحكائيّ، ذلك أنّ هذه المراجع لا تدخل النصّ إلاّ وهي منسوجة باللّغة ومختلطة بجهات القول Modalités المختلفة للمتكلّمين فيه، متلوّنة بذاتيتهم وانفعالاتهم. وتزداد العلاقة بين المرجع خارج النصّ وداخله التباسا عندما تكون الرّواية مندرجة ضمن التيّار الواقعيّ الوصفيّ. ونحن نعتقد أنّ المرجع الواقعي، حتّى في هذا النّمط من الرّواية، يفقد قيمته المرجعيّة بمجرّد أن يصبح عنصرا من عناصر المخيال الرّوائي، لذا نعتبر أنّ السّؤال المركزي في الحديث عن إشكاليّة العلاقة بين الإحاليّ والجماليّ داخل النصّ الرّوائي الواقعيّ لم يعد يتعلّق بالبحث عن مدى التّطابق بين المرجع، وقد استوى داخل النصّ والمرجع في صورته الواقعيّة، بل يتعلّق أساسا بالآليات التّي من خلالها يشتغل المرجع داخل الرّواية الواقعيّة.
الكلمات المفاتيح: المرجع، الإحاليّ، الجماليّ، الرّواية، الحبّ، رقّادة.
Abstract:
This article examines the problem of references within the realistic, descriptive discourse through the novel “Love in Raggada” by the Tunisian novelist Ahmed Mal. In fact, the worlds of the novel, whatever their kind is, are realistic worlds based on imagination, and differ from the references in reality, even if the storyline is full of these realistic references. Actually, these references, before merged into the text, are woven in the language and mixed with the different sémodalit parties of the speakers in it, coloring in their own life and their emotions. However, the relationship between the reference outside and inside the text becomes more ambiguous when the novel falls within the realistic descriptive trend.
We believe that the realistic reference, even in this type of novel, loses its reference value as soon as it becomes an element of the novelist’s imagination. Therefore, we consider that the central question in talking about the problem of the relationship between the referential and the aesthetic within the realistic fictional text, is no longer related to the search for the extent of correspondence between the reference, and it is level within the text and the reference in its realistic image, but rather related mainly to the mechanisms through which the reference operates within the realistic novel.
Key words: References, Referencial, Aesthetical, Novel, Love, Raggada.
1- مدخل:
تبدو الرّواية أكثر الأشكال الأدبيّة قدرة على تشخيص الواقع لما تتّصف به من بعد بوليفونيّ Polyphonique تستطيع من خلاله التقاط مختلف الأصوات التّي تعتمل داخل المجتمع، وهذا ما يجعل العلاقة بينها وبين الواقع علاقة ملتبسة ومعقّدة ذلك أنّ “الرّواية خطاب ينهض أساسا باللّغة، واللّغة نشاط له بالعلم صلات وأنساب”[1]. وهذا ما يثير الكثير من الإشكالات ومنها:
– كيف تشخّص الرّواية الواقع؟
– هل يحضر الواقع داخل النصّ الرّوائيّ حضورا قائما على المحاكاة والانعكاس الآليّ أم هو حضور مجازيّ خياليّ؟
– ما الحدود القائمة بين الإحاليّ والجماليّ؟
كلّ هذه الأسئلة مرتبطة بإشكاليّة أكبر أشار إليها فرديناد دي سوسيرDe Saussure في دروسه حول الألسنيّة العامّة عندما ميّزبين الدّالّ والمدلول والمرجع، وأكّد أنّ العلاقة بين الدّالّ والمدلول علاقة اعتباطيّة[2].
إلى جانب هذه الأسئلة المثيرة للحيرة يبدو مفهوم الواقعيّة في النصّ الرّوائيّ غير دقيق “فكلّ الكتّاب يعتقدون أنّهم واقعيّون، ولا أحد منهم يقول عن نفسه أنّه تجريديّ، وميّال للأوهام والخيال…لا أحد يعتقد أنّه مزيّف…فالواقعيّة، اليوم، علم يجمع تحته الغالبيّة العظمى أو المجموع العام لكتّاب العصر”[3].
ولا شكّ أنّ الاختلاف كامن بينهم في طرق التّشخيص الفنّيّ للواقع، وفي طرق إحالة الرّواية على مراجعها. فهناك من يعتقد بوجود هذه المراجع خارج النصّ، وهناك من يرى أنّ الرّواية باعتبارها خطابا تخييليّا لا يمكن أن تكون مراجعها إلّا منقطعة عن الواقع الخارجيّ ،و إن أحالت عليه، إنّها مراجع نجد ما يشبهها في الواقع لكنّها ،وقد دخلت عالم الرّواية، تكتسب هيئات جديدة ودلالات لم تكن لها” تتكيّف وفق ضرورات الإبداع وطقوسه والمبدع وخططه ،إنّها، كائنات مقدودة من لغة التّخييل المخصوصة، وهي بذلك تختلف عن ملابسات الواقع التّاريخيّ ومختلف مواضعاته اللّغويّة المستقرّة خارجه….نسجت أساسا من اللّغة، فهي تخضع في العرف الأدبيّ لمقتضيات تقنيّة الكتابة وطقوسها وتهويماتها، لذلك تنمو وتتطوّر ضمن بوتقة السّرد وتنشدّ أساسا إلى فعل القصّ بمختلف تجلّياته وقرائنه اللّغويّة والعلائقيّة”[4].
إنّ هذه الإشكالات المختلفة التّي أشرنا إليها، تبدو حاضرة في رواية “الحبّ في رقّادة” للرّوائيّ التّونسيّ أحمد مال إذ نظفر فيها منذ البداية بعتبة نصّيّة قلّما نجدها في بقيّة الرّوايات، يحدّد من خلالها الكاتب، وبصفة مسبقة، مراجعه في الكتابة. وتتمثّل هذه العتبة في التّمهيد. يقول: “على مسافة عشرة كيلومترات جنوب عاصة الأغالبة، القيروان، وتحديدا عام 1985 شيّدت كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان وكانت بعيدة عن العمران. تقاطر عليها طلبة وطالبات من جميع أنحاء البلاد…. كان المبيت والمطعم والمكتبة ومدرّجات الدّروس وقاعاتها متجاورين…وتفتّحت قلوب فتيّة على الحبّ بأبعاده ومراتبه ودرجاته…تحطّمت أصنام الإيديولوجيا أمام عاصفات القلوب…توّجت بعض تجارب الغرام بالزّواج وتكسّر كثيرها على جدران واقع أمرّ، وممّا لاشكّ فيه أنّ الحبّ بقي يسكن الضلوع ويبكي من أيقظته رقّادة في صباحات فيروزيّة ومساءات كلثوميّة”[5]. فمن خلال هذه العتبة يدرج الكاتب روايته ضمن نمط الرّواية الواقعيّة وهو ما يمثّل عنصرا مؤثّرا في طريقة تلقّي القرّاء لهذا النّصّ “لأنّ معرفة العوالم التّي تحيل عليها الرّواية، يسهم بفعاليّة في التّبصّر بالاتّجاه الذي فيه تنخرط هذه الرّواية أو تلك، وإليه تنتمي، وهو معين على تصنيفها، ودليل نستطيع من خلاله الاستدلال على الاتّجاه الذي فيه تنخرط”[6].
فمنذ هذا التّمهيد، يتجلّى البعد المرجعيّ الواقعيّ في مختلف أركان الرّواية، ففي مستوى الشّخصيّات ننتبه إلى أنّ هذه الرّواية ستستمدّ شخصياتها الرّئيسيّة من طلبة كلّيّة الآداب بالقيروان وأمّا أحداثها فمدارها العلاقات العاطفيّة التّي نشأت بين الطّلبة داخل هذا الفضاء الجامعيّ في فترة زمنيّة محدّدة عايشها الرّاوي وهي، على وجه الخصوص، فترة بداية التّسعينات من القرن الماضي.
إنّ ارتباط “الحبّ في رقّادة” بفضاء واقعيّ زمانا ومكانا، وبشخصيّات عاصرها الرّاوي واطّلع على قصص الحبّ التّي نشأت بينها، بل كان مشاركا فيها حتّى وإن حاول التّخفّي وراء لعبة الضّمائر، والفصل بين الأنا الرّاوي والشّخصيّة، يدفعنا إلى التّساؤل عن علاقة هذه الرّواية بالواقع “هل هي علاقة انعكاسيّة، مرآويّة، آليّة مباشرة، تكتفي باستنساخ العالم الخارجيّ، كما كان الاعتقاد سائدا من قبل مع أفلاطون ولوكاتش وغيرهما، أم أنّها علاقة تخييليّة خلاّقة، تعيد صياغة الواقع وفق تصوّرات الكاتب، وإكراهات الكتابة كما يقول بذلك العديد من المنظّرين المعاصرين أمثال بارت، تودوروف، هامون وغيرهم؟….كيف يستحضر النصّ الرّوائيّ الواقعيّ الواقع، وما يميّزه، بالتّالي، عن غيره من الأنواع الرّوائيّة الأخرى، من ناحيتي الكتابة والقراءة، خصوصا في ظلّ العلاقة الاعتباطيّة القائمة بين اللّغة والمرجع”[7].
إنّ بحثنا في المرجعيّ أو الواقعيّ في رواية “الحبّ في رقّادة” ليست غايته البحث عن أوجه التّطابق بين الرّوائيّ والواقعيّ فيها لأنّه من السّذاجة القول بالمماثلة المرآويّة بين المرجع، وقد استوى داخل الرّواية منحوتا بالكلمات، وبين المرجع في بعده المادّي الواقعيّ، وإنّما غايته الأساسيّة الكشف عن آليات اشتغال المرجع داخل الخطاب الواقعي مثلما هو الحال في رواية أحمد مال، رغبة في تمييزها عن آليات اشتغاله في أنماط روائيّة أخرى. وبعبارة أخرى فإنّ بحثنا لا يسعى إلى البحث عن “كيف ينسخ الأدب الواقع؟ وهو سؤال أضحى بلا معنى، بقدر ما يتعلّق باعتبار الواقعيّة ضربا من فعل الكلام-حسب أوستين وسيرل -يحدّده وضع، وحالة متميّزة للتّواصل، وبالتّالي عن سؤال من نوع آخر: كيف يجعلنا الأدب نعتقد بأنّه ينسخ الواقع؟ وبالتّالي ماهي الوسائل التّي يستعملها، بوعي أو بدونه، لخلق هذا الوضع الخاصّ بالقارئ والقراءة”[8].
ومن هنا، فإنّ الحديث عن المرجع في رواية “الحبّ في رقّادة”، لا يعني البحث في أوجه التّطابق بين الكتابة والواقع، بقدر ما هو بحث في كيفيّة اشتغال آليات الكتابة الواقعيّة، لذلك يمّمنا وجهنا شطر” هذا الجانب الفنّي الدّقيق في الكتابة الرّوائيّة الواقعيّة”[9].
فما هي أهمّ المقوّمات الفنّيّة والتّعبيريّة التّي اشتغل عليها أحمد مال في روايته رغبة في تشخيص الواقع وساهمت في تجذّر روايته ضمن نمط الرّواية الواقعيّة وتميّزها عن بقيّة الأنماط الرّوائيّة الأخرى بطريقة تحقّق رؤيته الفنّيّة وتستجيب لإستراتيجيّته في كتابة نصّه الرّوائيّ البكر؟
2- الإحالة المرجعيّة في مستوى الحكاية:
يعمد الكاتب إلى تأطير العديد من الأحداث تأطيرا زمانيّا ومكانيّا، فيذكر مثلا حادثة اقتحام الأمن للمبيت الجامعيّ عقبة بن نافع بالقيروان ليلة 12جانفي1990. يقول: “ففي ليلة 12جانفي1990 داهمت قوّات الأمن المبيت الجامعيّ وإن لم يكن منتميّا لخطّ سياسيّ بمعنى الالتزام التّنظيميّ… كان يملك الكتب السّياسيّة، وكان عليه إخفاؤها وهداه تفكيره إلى وضعها في حقيبة قديمة صغيرة ثمّ رماها داخل أغصان الشّجرة. وبعد ليلة ليلاء عاد صباحا واكتشف أنّ الأمطار السّاحّة ليلتئذ قد أتلفت كتبا جلّها عن العروبة وبعضها عن الفكر اليساريّ وكتاب يتيم عن تاريخ الحركة الإخوانيّة في مصر”[10].
ويتتالى طيّ المتن الرّوائيّ ذكر أحداث مؤطّرة مكانيّا وزمانيّا ولعلّ أهمّها تلك التّي تتعلّق بشخصيّة يوسف إذ يتتبّع الرّاوي مسيرة يوسف منذ نجاحه في الباكالوريا إذ لم يكتب له أن ينتسب إلى المعهد الأعلى لتكويم المعلّمين لقفصة لأنّ هذا المعهد لم يفتح أبوابه في مفتتح السّنة الجامعيّة 1989-1990 ممّا جعله يقوم بإعادة التّوجيه لينتسب إلى قسم العربيّة بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان.
ثمّ يسرد علينا ما عاشه يوسف من أحداث داخل الكلّيّة لعلّ أهمّها وقوعه في سنة تخرّجه أي في سنة 1993-1994 في حبّ الطّالبة ليلى التّي كانت تدرس في السّنة الأولى بنفس القسم وهي ذات أصول مشتركة فأبوها تونسيّ وأمّها ألمانيّة. فقد استمتع بالوصال معها لفترة امتدّت من شهر أكتوبر حتّى أواخر مارس1994 لكنّها رحلت بصفة مفاجئة إلى ألمانيا بعد أن تعرّفت إلى جدّتها من الأمّ في الفاتح من أفريل.
حتّى كأنّ تلك السّعادة التّي عاشها يوسف معها لم تكن سوى سراب خلّب وكذبة خادعة من أكاذيب أفريل.
تتقدّم حركة السّرد إلى الأمام فندرك أنّ يوسف قد عيّن أستاذا للتّعليم الثّانويّ في مفتتح السّنة الدّراسيّة 1994-1995 بأحد المعاهد الثّانويّة بولاية قبلّي وهناك يتعرّف إلى زميله أيّوب وزميلته أستاذة التّاريخ والجّغرافيا رفيقة، وكلّهم ينحدرون من ولاية قفصة. وبالرّغم من العلاقة المتينة التّي ربطت بينه وبين أيّوب ينشأ صراع غير معلن بينهما من أجل الفوز برفيقة ولا ندرك إلاّ في خاتمة الرّواية أنّها قد تزوّجت من أيّوب وأنجبت منه ولدين وبنتا تصادف حدث ولادتها مع ليلة هروب “بن علي” فسمّيت “ثائرة”.
إنّ هذه الأحداث الخاصّة المرتبطة بشخصيات الرّواية، حتّى وإن وقع تأطيرها مكانيّا وزمانيّا، تبقى دائما في دائرة الممكن والمحتمل، توهم بالحقيقة دون أن تكونها ممّا يكسبها، رغم بعدها الإحاليّ، بعدا جماليّا تخييليّا. وما دعّم البعد الجماليّ في سرد هذه الأحداث هو سعي الرّاوي إلى كسر خطّيّة السّرد باعتماد تقنيّة الاسترجاع. فأبعد نقطة يبلغها زمن سرد الأحداث المتعلّقة بشخصيّة يوسف هي سنة 1870 عندما نكب الجدّ الأوّل في تجربته العاطفيّة، أمّا أقرب نقطة فهي 14جانفي 2011 يوم هروب بن علي، لكنّ الرّواية تنطلق من هذه النّقطة القريبة إذ يفتتح فصلها الأول بقوله: “بن علي هرب…بن علي هرب ..تناهى إلى مسمع يوسف صوت زوجته يردّد جملة إسميّة ذات طابع إخباريّ مفصليّ في تاريخ تونس”[11].وبهذا الحدث نفسه تنغلق إذ نقرأ في نهايتها:” كان أيّوب واقفا ببهو مصحّة خاصّة، وكان موزّع العاطفة بين أخبار تنقلها الشّاشة الجداريّة الكبيرة على فرار بن علي، وبين قلق على زوجته وحبيبته رفيقة التّي ستضع مولودتها يعد سنوات من الانتظار”[12].فإذا بحركة زمن السّرد حركة دائريّة تنطلق من نفس الحدث لتعود إليه في النّهاية. وبين البداية والنّهاية تتراكب لوحات سرديّة متجاورة، وإن اختلفت أزمنتها،
وعلى وجه الخصوص عندما يعمد يوسف إلى مقارنة تجربته في الحبّ مع تجارب أجداده وكأنّ قدر أفراد هذه العائلة الاحتراق بحبّ الحسناوات: “قال في نفسه لعلّني أنا أيضا حالة نفسيّة ففي 1870عاش جدّه الأوّل تجربة حبّ داميّة. وفي 1908 نكب ابنه وجدانيّا. وفي 1937 عصف حظّ عاثر بتجربة حفيده العاطفيّة…. فقدر هذه الأسرة منذ فرن ونيّف أن يحترق رجالها بذلك الحبّ الكاوي، فحبيبة الجدّ الأوّل قتلها زوجها لمّا تفطّن إلى مواعدتها له، وحبيبة الجدّ الثّاني طلّقت غصبا عنها، وحبيبة الجدّ الثّالث ماتت نفساء”[13].
فبالرّغم من البعد المرجعيّ الإحاليّ الذي يهيمن على الأحداث الخاصّة من خلال ربطها بأزمنة معيّنة وبأماكن معروفة )كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، المطعم الجامعيّ، المبيت الجامعيّ عقبة بن نافع، رقّادة، قبلّي، توزر، قفصة، المتلوي….(. إلّا أنّ الرّاوي يعمد إلى تشخيصها تشخيصا فنّيّا فتفارق بعدها الكرونولوجيّ لتتشكّل في ترتيبها، وفي علاقاتها بعضها ببعض، وفق رؤية فتّيّة تساعد الرّاوي على بناء عالمه الرّوائيّ وتبليغ رؤيته الفنّيّة والإيديولوجيّة.
وبالإضافة إلى الأحداث الخاصّة بيوسف تستدعي رواية “الحبّ في رقّادة” إلى رحابها خطاب التّاريخ، توهم من خلاله بحقائقيّة ما يروى من خلال إحالتها على أحداث تاريخيّة معروفة، منها ما يتعلّق بتونس مثل حدث هروب بن علي في 14جانفي2011، ومنها ما يتعلّق بأحداث قوميّة كبرى مثل الحصار الذي فرض على ليبيا منذ ثمانينات القرن الماضي، والاعتداء الأمريكيّ على العراق، والاجتياح الصّهيونيّ لبيروت. يقول “علما تونس وفلسطين ذكّرتني بالاجتياح الصّهيونيّ لبيروت وانتقال القيادة الفلسطينيّة إلى تونس”[14].وأيضا حادثة توقيع اتّفاقيّة أوسلو.
إنّ استحضار أحداث تاريخيّة في الرّواية لم يكن استحضارا شكليّا غايته “خلق الإحساس بمصداقيّة الأحداث المحكيّة لدى القارئ فقط، بقدر ما هو توظيف عضويّ يجعل الحدث التّاريخيّ عنصرا فاعلا في صيرورة الوقائع الحكائيّة، من خلال مساهمته الإيحائيّة المباشرة في تطويرها، وبذلك يرتبط التّاريخيّ بالزّمن الحكائيّ التّخييليّ في علاقة وطيدة، يصعب معها الفصل بينها، دون الإساءة لبنية العمل الرّوائيّ ككلّ”[15] .ذلك أنّ الحدث التّاريخيّ الوارد في مفتتح الرّواية ونهايتها “هروب بن علي” مثّل الحدث القادح على التّذكّر بعد أن رأى يوسف حبيبته ليلى التّي فارقته منذ ثمانيّة عشر عاما على شاشة إحدى القنوات العربيّة حيث كانت تشتغل مراسلة إعلاميّة. “تسارعت دقّات قلبه ورقصت أطرافه بشدّة، وتساءل: أيّ قدر هذا الذي جعل ليلى تطلّ من وراء الشّاشة في مساء كانت فيه الجدران باردة وأنفس التّونسييّن شديدة التّوتّر. استحضر صورتها ذات شتاء آخر”[16].
إنّ هذا الحدث التّاريخيّ وما رافقه من ظهور لحبيبة يوسف من جديد كان سببا “لتنثال الذّكريات وتمتدّ في الحبّ في رقّادة” لتصنع حياتها الخاصّة نصوصا تنسكب فيها الذّكريات مع المشاعر ويسعى إلى التقاطها وإعادة صياغتها من جديد صياغة فنّيّة جماليّة تنسجم مع الذّات ولا تفقد بريقها ووهجها”[17].هكذا يصبح التّاريخيّ منخرطا في إنشاء الجماليّ بما فيه من بعد تخييليّ، فإذا بالتّاريخي، وقد دخل جسد الرّواية، خطاب ذو لسانين، فهو، من ناحيّة، يحافظ على هويّته الأصليّة باعتباره ينقل حدثا تاريخيّا واقعيّا مجاله خارج الرّواية. وهو، من ناحيّة أخرى، يتضافر مع بقيّة الخطابات الأخرى ليساهم في بناء الوحدة الأسلوبيّة العليا للنّصّ ذلك “أنّ إثارة الأشياء الواقعيّة في عمل تخييليّ تمتلك دورا مضاعفا، فهي تحيل على موضوع واقعيّ، كما تساهم في تطوير المحكيّ”[18] .
إنّ البعد الإحاليّ في مستوى الأحداث المرتبطة بأزمنة معيّنة وبأماكن مرجعيّة معروفة ولها وجود خارج النّصّ الرّوائيّ قد يوهم بأنّ ما يروى هو مجرّد محاكاة بطريقة آليّة، لكنّ الكاتب سعى إلى كسر هذا الإيهام بالتّصرّف في ترتيب الأحداث بالتّقديم والتّأخير مثلما ذكرنا سابقا، وأيضا من خلال أنّ هذه الأماكن وهذه الأزمنة المرجعيّة لا ترد في الرّواية إلاّ وهي موسومة بانفعالات الرّاوي وذاتيته ممّا يجعلها تختلف عن صورتها في الواقع من جهات عدّة، والأمثلة على هذا عديدة من ذلك ما نلاحظه من تقابل بين هذين المثالين في وصف المكان والزمان، يتعلّق المثال الأوّل بوصف المركّب الجامعيّ برقّادة زمن الوصال بين يوسف وليلى، أمّا الثّاني فيتعلّق بوصف القيروان بعد سفر ليلى المفاجئ إلى ألمانيا.
يقول في المثال الأوّل: “وكانت الأشهر من أكتوبر إلى آخر مارس من أخصب أيّام يوسف وأبهاها، فقد عرف معنى الوصل بتفاصيله البسيطة، وأصبح لكلّ جزء من أجزاء المركّب الجامعيّ برقّادة معانيه المخصوصة”[19]. ويأتي المثال الثّاني بعد الأوّل بأسطر معدودة. يقول فيه: “وكانت الأيّام التّي تلت الفاتح من نيسان أفريل مريرة…ولم يعد يهتمّ لهجوم البعّوض ليلا أو حرّ الشّمس نهارا، ونسي الطّعام لأيّام وصارت الدّروس ثقيلة…باتت القيروان بجمالها وجلالها ومحطّاتها وأسواقها ومركّبها الجامعيّ عبارة عن طلل أكثر رحابة دلاليّة من جميع ما قاله شعراء الغزل من وصف لأماكن جمعت في غفلة من الأعين عاشقين تواعدا على الوفاء”[20]. فشتّان بين مدينة القيروان ومركّبها الجامعيّ واقعا وبين مدينة القيروان ومركّبها الجامعيّ وقد نسجا بخطاب روائيّ متلوّن بذاتيّة الرّاوي يغيّر في صور الأمكنة ونظرته إلى الأزمنة وفق الحالة النّفسيّة لشخصيّة يوسف.
3- الإحالة المرجعيّة في مستوى الشّخصيّة الرّوائيّة:
يعمد الرّوائيّ أحمد مال إلى الإيهام بواقعيّة ما يروي من خلال اختياره لما يسمّيه فيليب هامون Ph, Hamoun بالشّخصيات المرجعيّة Les personages référentiels ويتجلّى ذلك في مستويين:
-اختياره لشخصيّات اجتماعيّة ذات هويّة جاهزة، يدركها القارئ دون حاجة إلى أن يصفها له الرّواي، ومن بينها شخصيّة الطّالب يوسف، وزميله كمال من عين دراهم، والطّالبة ناجية، وكذلك الأستاذ صاحب الخبرة الذي بدا رصينا حكيما لا يبخل على زملائه من الأساتذة الشّبان بالنّصيحة. “حدّثه الأستاذ محفوظ عن سبع وثلاثين سنة قضّاها مدرّسا لمادّة الرّياضيات، وعن مهنة ورسالة بدأت تفقد إشعاعها وتأثيرها في المجتمع [……] وتكلّمت الحاجّة نفيسة:” عمّك محفوظ ما قرّاش الإيتيد ولا مرّة في مسيرته المهنيّة الطّويلة. وأخبرته عن عطل صيفيّة بقضّيها في جمع تلاميذ ضعاف الحال وتدريسهم مقابل الدّعاء له بالسّتر وبفلاح أبنائه”[21]. وشخصيّة الفاهم الذي انقطع سريعا عن الدّراسة ليشتغل برعي الأغنام.
إنّ هذه الشّخصيات النّموذجيّة بقدر ما تكسب الرّواية بعدها الإحاليّ الواقعيّ الذي يوهم بحقيقة ما يروى، فإنّها تبدو مستجيبة لرؤية الكاتب الحريص على أن تكون هذه الشّخصيّات منسجمة مع بقيّة مكوّنات عالمه الرّوائيّ فجعل خطابها متماشيّا مع صورة النّموذج الذي تمثّله. فيوسف الطّالب المنحدر من وسط ريفيّ نراه يجمع في خطابه بين الفصحى والعامّيّة، ويتداخل في حافظته الشّعر الفصيح مثل أبيات الأعشى في وصف ما اعتراه بعد هجر الحبيبة إذ يستحضر هذه الأبيات:
غشيت لليلى بليل خدورا *** وطالبتها ونذرت النّذورا
فبانت وقد أورثت في الفؤا *** د صدعا على نأيها مستطيرا[22]
مع الشّعر العامّي “استحضر وقوف جدّه على طلل حبيبته بـ “بئر العاتر” الجزائريّة :
طلّيت على عاتر البير
رعّيت لا ما قبالي
كانت هنا دواوير متبسطة بالنّزالي
تفرّقت مثل طواوير في بعض
لوطان جالي”[23].
ويعمد الرّاوي إلى أن ينطق الفاهم، وهو الذي انقطع عن الدّراسة مبكّرا، بلهجة عاميّة تنسجم مع الصّورة التّي قدّم بها: “رفع الفاهم ابنه إليه وهو يقول:” إن شاء اللّه ما يلزنيش الوقت ونبعثو يسرح بالغنم بعد عشر سنين…نا نحبّو يقرى…. أمّا الفقر حلّوف”[24]. وكأنّ الكاتب من خلال شخصياته المرجعيّة لا يسعى إلى الإيهام بالواقعيّة فحسب، بل يسعى أيضا إلى أن يكسب نصّه تعدّدا لغويّا قائما على تهجين قصديّ يكسب نصّ “الحبّ في رقّادة” بعده البوليفوني وهو أهمّ ما يميّز جنس الرّواية عن بقيّة الأجناس القصصيّة الأخرى.
إنّ هذه الشّخصيّات النّموذجيّة تفارق بعدها المرجعيّ إلى البعد الإيحائي الجماليّ من خلال حضور ذاتيّة الرّاوي وهو يصف شخصيّة من هذه الشّخصيات، وعلى وجه الخصوص عندما يتداخل صوته مع صوت يوسف أثناء حديثه عن ليلى ورفيقة. يقول: “كانت ليلى تشبه عمارة بمدينة أوروبيّة في يوم ثلجيّ، وكان سكّانها لا يبتسمون في وجوه بعضهم، وكانت رفيقة تشبه منزلا عربيّا تقليديّا يشعرك بالدّفء شتاء وبهبوب نسيم عليل صيفا وكان بابه مفتوحا لأباعد وأقارب يأويهم ويطعمهم، ويؤنسهم”[25].فالشّخصيات الرّوائيّة في رواية “الحبّ في رقّادة” بقدر ما فيها من بعد إحاليّ باعتبارها شخصيّات نموذجيّة فإنّ فيها الكثير من الجماليّ والخياليّ ذلك أنّ “الرّواية (ليست) مجرّد مجموعة من الوقائع والصّور، فالحياة الخفيّة لإحدى شخصياتها تتغذّى من الرّوائيّ نقسه بقدر ما تتغذّى من الواقع الذي تلحظه”[26].
بالإضافة إلى هذه الشّخصيات النّموذجيّة يدعّم الكاتب أحمد مال البعد الإحاليّ لروايته من خلال استحضاره لشخصيات كان لها وجود تاريخيّ بعضها شخصيّات عامّة يعرفها كلّ القرّاء مثل بن علي، وبورقيبة، وياسر عرفات، وكلينتون، وغيرهم. ومنها شخصيّات طلاّبيّة لا يعرفها إلاّ من انتسب إلى كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان في آخر الثمانينات وبداية التّسعينات من القرن الماضي وعلى وجه الخصوص في الفترة الممتدّة من 1989إلى 1993إذ يذكر الكاتب أسماء بعض الطّلبة الذين كانوا ينطقون باسم الفصائل السّياسيّة والفكريّة إبّان الحراك السّياسيّ والصّراع الفكريّ والإيديولوجيّ داخل أسوار الجامعة التّونسيّة، ومنهم محمّد علي وعبد الفتّاح كحّولي وكمال خالد وكانوا يتحدّثون باسم الفصيل القوميّ العربيّ “الطّلبة العرب الوحدويّون التّقدّميون”، ورضا الجندوبي النّاطق الرّسميّ باسم الوطنيّين الدّيمقراطيين بالجامعة ويعرف اختصارا “الوطج”، وجمال العيّاشي لسان الوطنيّين الدّيمقراطيين ويعرف اختصارا ب”الوطد” ومهذّب السبوعي لسان اتّحاد الشّباب الشّيوعيّ. إنّ استدعاء أسماء هذه الشّخصيّات الطّلاّبيّة لم يكن فائض كلام لا فائدة منه بل يندرج ضمن خطّة الكاتب في الكشف عن الحراك السّياسيّ والصّراع الإيديولوجيّ الذي كان يعتمل داخل أسوار الجامعة التّونسيّة ممّا جعل الحركة الطّلاّبيّة في مقدّمة القوى الحيّة المدافعة عن الحرّيات العامّة والكاشفة عن كلّ مظاهر الفساد داخل المنظومة الحاكمة والدّوائر القريبة منها.
إنّ حضور هذه الشّخصيّات التّاريخيّة العامّة والمخصوصة يوظّف من ناحيّة في ترسيخ مرجعيّة المحكي استجابة لمقوّمات الخطاب الواقعيّ الوصفيّ الذي تندرج فيه الرّواية منذ عتبة التّمهيد وهو من ناحيّة أخرى يخدم الحمولة الإيديولوجيّة التّي يسعى الكاتب إلى إيصالها.
4- المرجعيّ من خلال الحمولة الإيديولوجيّة للخطاب الرّوائي[27]:
من الآليات التّي يشتغل بها المرجعيّ داخل الخطاب الرّوائيّ حضور الموقف الإيديولوجيّ للرّواي من قضايا عصره وهذا ما يحضر بكثافة في رواية “الحبّ في رفّادة” إذ يكشف الرّاوي في الفصل الثّاني منها عن ميولات يوسف السّياسيّة.
يقول: “لم يكن ذا رؤية عميقة تخوّل له فهم أسباب المعارك السّياسيّة….كان متيّما بحبّ تونس ومؤمنا بعروبة وطن عربيّ من الماء إلى الماء، وكان معتزّا بإسلامه، وكان مهوسا بالأدب السوفياتي وكانت روايات ماكسيم غوركي ودجينكيز إيتماتوف ونيكولاي اوستروفسكي، ترافقه دائما”[28]. ويتأكّد النّفس العروبيّ ليوسف في موقفه من بعض القضايا القوميّة وعلى وجه الخصوص في قراءته لاتّفاقيّة أوسلو. “كانت اتّفاقيّة أوسلو قد وقّعت منذ خمسة أيّام وتحديدا يوم 13 سبتمير1993،ومنذ البداية اعتبرها يوسف “سايس بيكو” جديدة وضربة قاسمة لفلسطين أرضا وشعبا وعرضا….كان يحبّ أبا عمّار ويعتبره أيقونة نضال حقيقيّة، ورآه مستضعفا بين الإمبرياليّة العالميّة والصّهيونيّة….ويرى التّاريخ يمكر ويصيب الأمّة الغافيّة بمقتل”[29]. فالخطاب الإيديولوجيّ يكسب الرّواية بعدها المرجعيّ ويجعلها منفتحة على قضايا الواقع والعصر دون أن تتحوّل إلى خطاب سياسيّ فجّ. إنّ هذا الخطاب بما فيه من مضامين فكريّة وسياسيّة إذ يدخل إلى المتن الحكائيّ فإنّه يحافظ على صوته الأصليّ لكنّه، في الآن نفسه، يتعاضد مع خطابات عديدة أخرى )الخطاب الشّعريّ، الخطاب التّاريخيّ، البيان الإعلاميّ……..( لبناء الوحدة الأسلوبيّة العليا لرواية “الحبّ في رقّادة”، ومن ثمّة يصبح استدعاؤه ليس من قبيل فائض الكلام الذي لا فائدة منه بل وسيلة فنّيّة تدخل ضمن إستراتيجيّة الكاتب في الفضح والتّعريّة خاصّة عندما يتحدّث عن الأوضاع في تونس والمفارقات العجيبة التّي تشقّها ومظاهر الفساد والمحسوبيّة التّي تتحكّم في توجيه عمليّة التّشغيل: “كانوا مجموعة من أهل ريفي البسيط منهم الأعزب والمتزوّج وتجمعهم صفة “عاطل عن العمل” ويعنتهم انسداد الأفق وحين تلوح فرصة الحصول على شغل بالمناجم القريبة تكون على المقاس ويشترك جميع النّافذين إداريّا ونقابيّا وسياسيّا في توجيه عمليّة التّشغيل إلى غير مستحقّيها”[30]. إنّ ارتباط الخطاب الإيديولوجي بقضايا الرّاهن الوطنيّ والقوميّ يمتّن علاقة الرّواية بالمرجع لكنّ هذه العلاقة لا تحكمها المحاكاة ولا تخضع لمنطق الانعكاس الآليّ، وإنّما خاضعة لرؤية فنّيّة اختارها الكاتب، توهم بالواقع دون أن تكونه، وتكتسب فيها المراجع، وقد دخلت المتن الرّوائيّ، صفات لم تكن لها في أصلها.
إنّ كلّ هذا الإيهام المرجعيّ وآليات اشتغاله ما كان ليكون على هذه الصّفة من الطّرافة التّي تكسب الإحاليّ بعده الجماليّ لولا اعتماد أحمد مال على الرّؤية السّرديّة من الخلفLa vision par derriére التّي مكّنت الرّاوي من: “الإحاطة بالأحداث الحكائيّة، وتحديد أسبابها وأبعادها، الخفيّة منها والظّاهرة، الحاضرة منها والغائبة، إلى غير ذلك من المعطيات النّفسيّة والاجتماعيّة الخاصّة بشخصيّات العوالم التّخييليّة. ممّا يساعد، دون شكّ، في توفير المقروئيّة والوضوح الضّروريين لهذا الخطاب الرّوائي( ويقوّي الإحساس بمصداقيته، وذلك عن طريق ملء كلّ الثّغرات السّرديّة القابلة لخلق تأويلات مناقضة أو معارضة لما يتوخّاه الكاتب”[31]. وتتجلّى الرّؤية العالمة للرّاوي في جوانب عديدة منها قدرته على اختراق الأماكن المغلقة، وعلى النّفاذ إلى بواطن الشخصيات، وحسبنا في ذلك، هذا المثال الذي يتحدّث فيه عن يوسف: “لم يدر يوسف أيفرح برسالتها أم يحزن؟…وشكر البعّوض، ولعنه في آن…ودون تخطيط وجد نفسه يكتب بضعة أسطر خطّها من أعماق نفسه وفسّر لها أسباب غيابه، وحدّثها عن نافذتها وزوايا الرّؤية وهديل الحمام ونسيم شرقيّ يهبّ من هناك ويسافر غربا منعشا روحه المسكونة بحبّ الجمال….وحمد اللّه على نعم كثيرة ومنها بداية وصل رقّاديّ قيروانيّ…لم يكن على معرفة عميقة بحوّاء في أحوالها وتقلّباتها، وكان أحيانا يرى نفسه على بعض سذاجة واندفاع غير محمودة عواقبه…”[32]. ففي هذا المقطع القصصيّ يكاد يغيب الوصف الخارجيّ للشّخصيّة بل نرى الرّاوي يقتحم باطنها النّفسيّ، فينقل المشاعر الباطنيّة التي استبدّت بها لحظة تسلّمها لرسالة ليلى “أيفرح…أم يحزن” فالحزن والفرح والإحساس بسذاجة تصرّفاته أحيانا كلّها تحيل على الباطن النّفسيّ لكنّ الرّاوي بدا عليما بها.
5- الخاتمة:
تتضافر آليات فنّيّة عديدة، يتعلّق بعضها بالأحداث الرّوائيّة وطرق تأطيرها زمانيّا ومكانيّا، ويتعلّق الآخر بالشّخصيّات تبعث داخل فضاء الرّواية محمّلة بمرجعيّة اجتماعيّة أو بمرجعيّة تاريخيّة، يغذّيها الرّاوي بخياله فتستوي شخصيّات ورقيّة رسمت بالكلمات ملوّنة بوجهة نظره العالمة المتحكّمة في كلّ عوالم السّرد ممّا يجعل الرّواية ذات حمولة إيديولوجيّة تجسّر علاقتها بالواقع وقضاياه دون أن تتحوّل إلى خطبة سياسيّة مباشرة، أو خطاب إيديولوجيّ. ومن ثمّة فإنّ الواقعيّة في رواية “الحبّ في رقّادة” لا تعني أبدا مماثلة الواقع، وإنّما هي طريقة في تشغيل آليات فنّيّة محدّدة وإستراتيجيّات في الكتابة مخصوصة تتعاضد مع يعضها بعض لإيهام القارئ بحقائقيّة ما يروى.
قائمة المصادر والمراجع:
المصدر:
- مال، أحمد: الحبّ في رقّادة، الثّقافيّة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، تونس،ط1،2019.
المراجع:
- باختين، ميخائيل، الخطاب الرّوائيّ، ترجمة محمّد برّادة، دار الفكر للدّراسات والنّشر، القاهرة، ط1،1987.
- -البدري، أحمد النّاوي، الإحاليّ والجماليّ، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، اللّاذقيّة، سوريّة، ط1 ،2017.
- -بوطيب، عبد العالي، الرّواية الواقعيّة والواقع، ضمن كتاب الرّواية والمرجع، بحوث ندوة الرّواية والمرجع، جمعيّة الدّراسات الأدبيّة والحضاريّة بمدنين، منشورات دار الغشّام، مسقط، سلطنة عمان، ط1، نوفمبر2017.
- -جريدي، عبد الباقي، الحبّ في رقّادة…. رواية بطعم المادلين، مجلّة الرّواية،30ديسمبر2021 على الرّابط التّالي: Https//alriwaya.net.post.alhob-fy-ragada.
- -دي سوسير، فرديناند، دروس في الألسنيّة العامّة، ترجمة صالح القرمادي، ومحمّد الشّاوش، ومحمّد عجينة، الدّار العربيّة للكتاب، ليبيا، تونس، ط1. 1985
- -العود زياد، الواقعيّ وغير الواقعيّ في الحمامة الزّرقاء، مجلّة الموقف الأدبيّ، دمشق، العدد982، يونيو2001.
- قرييه، آلان روب: نحو رواية جديدة، ترجمة إبراهيم مصطفى، تقديم الدّكتور لويس عوض، دار المعارف، مصر، د-ت.
- Jeap, Lintvelt, Essai de typologie narrative, le point de vue. Théorie et analyse,2eme edition, Librarie José corti,PARIS,1989.
- Marin, Louis: De la representation, Recueil établi par :Daniel Arasse, Alain Cantillon; Giovani
- M, Macdonald: Le langage de la fiction; in esthétique et poétique; coll: Point;1992.
- Careri, Daniél Cohn, Pierre Antoine, Fabre et Françoise Marin,éd; Gallimard; Seuil,1994.
[*]- أجمد مال، الحبّ في رقّادة، الثّقافيّة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، تونس،ط1 ،2019.
[1]– أحمد النّاوي البدري، الإحليّ والجماليّ، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، اللّاذقيّة،سوريّة،ط1،2017،ص 93.
[2]– يرى دي سوسير أنّ اللّغة عبارة عن رموز يشكّلها ما سمّاه بالدّالّ والمدلول، أمّا الدّالّ فهو الأصوات الانسيابيّة التّي ينطقها المتكلّم بأيّة لغة كانت فلفظ “شجرة” مثلا هو الدّال عند دي سوسير أمّا المدلول فهو الصّورة الذّهنيّة التّي ترتسم في الذّهن إثر سماع هذه الكلمة وهي تختلف عن الشّجرة في الواقع المادّي التّي تعتبر مرجعا، انظر فرديناند دي سوسير، دروس في الألسنيّة العامّة، ترجمة صالح القرماديّ ومحمّد الشّاوش، ومحمّد عجينة، الدّار العربيّة للكتاب ،ليبيا،تونس،ط1،1985،ص32.
[3]– آلان رووب قرييّه، :نحو رواية جديدة، ترجمة إبراهيم مصطفى، تقديم الدّكتور لويس عوض، دار المعارف،مصر،ص139.
[4]– أنظر مقدّمتنا لكتاب الرّواية والمرجع، ضمن الملتقى الدّوليّ لجمعيّة الدّراسات الأدبيّة والحضاريّة بمدنين، منشورات دار الغشّام، مسقط،عمان،ط1،نوفمبر2017،ص9.
[5]– أحمد مال، مرجع سابق، ص8.
[6]– أحمد النّاوي البدري ،مرجع سابق،2017،ص93-94.
[7]-عبد العالي بوطيب، الرّواية الواقعيّة والواقع، كتاب الرّواية والمرجع، إشراف جمعيّة الدّراسات الأدبيّة والحضاريّة بمدنين، دار الغشّام، مسقط،عمان،ط1،نوفمبر 2017،ص362.
[8]– عبد العالي، بوطيب: الرّواية الواقعيّة والواقع، مرجع سابق،ص377.
[9]– المرجع نفسه، ص373.
[10]– أحمد مال، مرجع سابق، ص59.
[11]– أحمد مال، مرجع سابق، ص6.
[12]– المرجع نفسه، ص159.
[13]– المرجع نفسه،ص25.
[14]– المرجع السابق، ص97.
[15]– عبد العالي بوطيب، مرجع سابق،ص365-366.
[16]– أحمد مال، مرجع سابق، ص10.
[17]– عبد الباقي جريدي، الحبّ في رقّادة ….رواية بطعم المادلين”، مجلّة الرّواية، 30 ديسمبر 2021. الرّابط:Https//alriwaya.net.post alhob-fy-ragada. تاريخ الزّيارة 18 جانفي2023.
[18] -M, Macdonald: Le langage de la fiction; in ésthétique et poétique; coll: Point, 1992, p.224.
[19]– أحمد مال، مرجع سابق،ص94.
[20]-المرجع نفسه، ص65-66.
[21]– المرجع نفسه،ص124.
[22]– أحمد مال، مرجع سابق، ص 65.
[23]– المرجع نفسه، ص 44.
[24]– المرجع نفسه،ص136.
[25]– المرجع نفسه، ص 83.
[26]– زياد العود، الواقعيّ وغير الواقعيّ في الحمامة الزّرقاء مجلّة الموقف الأدبيّ، اتّحاد الكتّاب العرب،دمشق،العدد982،يونيو2001،ص137.
[27]– يرى ميخائيل باختين أنّ الموضوع الرّئيسيّ الذي يخصّص جنس الرّواية، ويخلق أصالته الأسلوبيّة، هو الإنسان الذي يتكلّم وكلامه ويذهب إلى القول إنّ الإنسان الذي يتكلّم وكلامه هما موضوع لتشخيص لفظيّ وأدبيّ داخل الرّواية ومادام المتكلّم فردا اجتماعيّا فإنّ المتكلّم في الرّواية هو دائما، وبدرجات مختلفة، منتج إيديولوجيا وكلماته هي دائما عيّنة إيديولوجيّة ، انظر ميخائيل باختين، الخطاب الرّوائيّ، ترجمة محمّد برّادة، دار الفكر للدّراسات والنّشر،القاهرة،ط1،1987.
[28]– أحمد مال، مرجع سابق، ص15.
[29]– المرجع نفسه، ص48-49.
[30] – المرجع نفسه،ص147.
[31]– عبد العالي بوطيب، الرّواية الواقعيّة والواقع، مرجع سابق،ص371.
[32]– أحمد مال، مرجع سابق، ص52.