1- تقديم الكتاب:
وسم الباحث الكتابَ الذي نزمعُ تقديمَه بــ “العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة”، وهو في الأصل رسالة دكتورا نوقشت في كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعية بتونس في 22 -2- 2020. وقد تمّ إنجازها تحت إشراف د. فتحي القاسمي الذي قدّم للكتاب المنشور. ويقع الكتاب الصّادر سنة 2022 في 349 صفحة. مذيلّة بقائمة مصادر ومراجع وعدد من الفهارس: فهرس الآيات القرآنية وفهرس للأعلام وفهرس للأماكن وفهرس للمصطلحات.
2- تقديم الباحث:
نجيب جراد باحث مختص في القضايا الحضاريّة الحديثة، متفقّد عام للمدارس الابتدائية، حاصل على الأستاذية في اللغة العربية وآدابها (2006)، وعلى شهادة الماجستير سنة 2012 عن بحث له موسوم بـ: نظرية نهاية التاريخ عند فرنسيس فوكوياما على محكّ التاريخ الآني. (الدار التونسية للكتاب-2015). وشهادة الدكتوراة سنة 2020. وموضوعها هو هذا الكتاب الذي سنتولّى تقديمه. وله عدّة مقالات ومشاركات في ملتقيات علميّة وأيام دراسيّة وندوات وطنيّة دولية، ونشر عددا من المقالات مفردة وأخرى ضمن كتب جماعيّة. فضلا عن تولّيه التّدريس في مؤسّستين جامعيّتين هما: المعهد العالي للعلوم الاجتماعيّة والتربية بقفصة، والمعهد العالي للدّراسات التطبيقيّة في الإنسانيات بقفصة.
3- البناء:
مقدّمة وخاتمة وبينهما أربعة أبواب كالآتي:
-الباب I: مدخل تمهيدي للعولمة: به 2 فصول،
-الباب II: طريق العالم الإسلامي والعربي إلى العولمة: التحولات والتجليات: به 2 فصول،
-الباب III: تداعيات العولمة في العالم الإسلامي المعاصر عربيّا وإسلاميّا: وبه 4 فصول،
–الباب IV: قراءة في العولمة ومستقبلها في العالم الإسلامي المعاصر: وبه 3 فصول.
وقد استرعى انتباهنا أنّ توزيع أقسام الكتاب منسجمة في حجمها وتوزيعها مع الإشكاليّة الرئيسيّة للكتاب، إذ عقد الباحث فصلين للبابين: الأول والثاني، وخصّ الباب الثالث بأربعة فصول، والباب الرابع بثلاثة. ويكشف وزن البابين الأخيرين انخراط البحث في الرّاهن العولميّ، وتوجّهَه صوب البحث عن المآلات على قاعدة نقديّة في ضرب من الاستشراف يتجاوز مجرّد النّظر الوصفي النظريّ المجرّد. وقد توخّى الباحث في هذا المنجز العلمي ضربا من التدرّج تجلّى في الانتقال من التجريد إلى الإجراء/التطبيق، ومن التّعميم إلى التّخصيص، ومن وصف الواقع إلى رصد تحوّلاته، وصولا إلى اقتراح البدائل.
ويعود ثراء هذا البحث وغناه، كما سنرى، إلى الحشد المنهجيّ الذي استقدمه الباحث في معالجة مختلف القضايا التي أثارها، وفي مقدّمتها المنهج التّحليلي النقديّ (ونجده خاصّة في المفهوم والأسس الفكرية والمرتكزات الفلسفية-/ التعريفات: العولمة- الأمركة)، والمنهج الكمّي (ونجده خاصّة في تحليل التداعيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للعولمة )، والمنهج التاريخي (ونجده خاصّة في رصد تحولات العولمة السياسية والاجتماعيّة الكبرى ). وقد برع الباحث في توظيف هذه المناهج، فكانت مناسبة تماما لما رسمه من أهداف: التأصيل النظري – تحليل المعطيات الرقميّة والإحصائيات- رصد حركة ظاهرة العولمة في التاريخ، واستشراف مآلاتها.
4- محاور الكتاب وقضاياه: قراءة تحليليّة نقديّة:
ينتسب الكتاب وصاحبه إلى مجال بحثيّ لا لَبس فيه: أعني المباحث الحضارية المعاصرة، وهو منجز علميّ كثيف مكتنز بالمعطيات والمعلومات والأرقام… ومن الصّعوبة بمكان اختزاله أو تلخيصه، لذلك سنتوخّى في تقديمه التركيز على المحاور المهمّة والقضايا الأساسيّة في غير تساو بينها. وسنبدي خلال ذلك بعض الملاحظات النقديّة.
4- 1- الباب (I): مدخل تمهيدي للعولمة:
اتّسم هذا الباب الأوّل بحرص الباحث على توسيع أفق النظر، إذ يقول: “حرصنا خلال هذا البحث على الإحاطة بما توصّل إليه الفكر الغربي في هذا المجال لا لاستنقاص ما توصّل إليه الفكر العربي والإسلامي من نتائج وإنما للإغناء والإضافة والتماس الموضوعيّة”[1].
4- 1-1- فصل (1):العولمة: المفهوم والأسس الفكرية والمرتكزات الفلسفية:
باشر الباحث في هذا الفصل محاولة لمحاصرة مفهوم العولمة لغة واصطلاحا، فبيّن اختلاف المصطلحات بين مجال تداولي إنجليزي يرى استعمال مصطلح كوكبة (Globalisation)، وبين فضاء فرنسي يفضّل مصطلح عولمة (Mondialisation)، ولكنّهما يلتقيان في أنّ “جوهر عملية العولمة يتمثّل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على نطاق كونيّ”[2].
واللاّفت أنّ الباحث قد أجاد في استحضار مختلف المقاربة متوخّيا الموازنة بين الآراء المختلفة كما في قوله وهو يعرف العولمة: لئن “اعتبرها البعض مرحلة من مراحل الرأسمالية، فإنّ البعض الآخر اعتبرها مصطلحا متماهيا مع الأمركة”[3]، أو في قوله وهو يستحضر خلفياتها: “شاع الاعتقاد بأن الكتابات الغربية من نوع صدام الحضارات تقف وراءها مراكز الأبحاث وشركات الأسلحة الأمريكية وأن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يمول ندوات عشرات الباحثين مثل توماس فريدمان (…) غير أنّ مفكرين آخرين اعتبروا هؤلاء الباحثين مجرد دعاية زائفة”[4].
ولم يكتف الباحث، وهو يتوخّى الموضوعيّة، بالموازنة بين الآراء المختلفة، بل عمد إلى عرض تلك الآراء على محكّ النّقد، فنقد التمثّل العربي للعولمة بقوله: “الظاهر أنّ أغلب الدراسات والبحوث العربية تناولت مدى تمثّل الفكر العربي لظاهرة العولمة في بعدها الثقافي، ولم تستند إلى تقارير دولية وبحوث أكاديمية وعلميّة تعكس الأثر الحقيقي للعولمة في العالم العربي المعاصر، إذ بنت مواقف اتّسم جلها برفض الانصهار في العولمة باعتبارها تجسيدا حقيقيا لمرحلة من مراحل الرأسمالية “[5]. مثلما نقد العولمة، بقوله استنادا إلى بعض المفكّرين بقوله: “دعا عبد الجليل كاظم الوالي إلى البدء بـ”الأنا” قبل “الآخر وبالقريب قبل البعيد وبالموروث قبل الوافد (…) ونفى التصور القائل بأن إعلام العولمة هو الذي أجبر الحكومات على الاهتمام بقضايا الإنسان ومشاكل الأقليات واختصروا المسافات والزمن بين العالم. وأكد آخرون أن إعلام العولمة هو الذي دفع الناس إلى السلوك الاستهلاكي ونشر قيمه”[6].
وانتقل الكاتب، بعد تعريف العولمة ونقد مختلف التّعريفات إلى إثارة مسألتين مهمّتين: أطوار العولمة، وعلاقة العولمة بالحداثة. وقد اعتمد في عمليّة التّحقيب تلك تقسيم رونالد روبرتسون (Ronald Robertson) الخماسيّ لنشأة العولمة وتطورها على النّحو الآتي: 1-مرحلة جنينية: من ق 15 إلى منتصف ق 18. 2 –مرحلة النشوء: من منتصف ق 18 إلى حتى 1870. 3- مرحلة الانطلاق من 1870 إلى عشرينات ق20. 4- مرحلة الصراع من أجل الهيمنة: من عشرينات ق20 إلى ستينات ق20. 5- مرحلة عدم اليقين: من الستينات إلى اليوم[7]. وانتقل بعد التّحقيب إلى رصد علاقة العولمة بالحداثة مستندا إلى دايفد هيلد (David Held) وآخرين على النّحو الآتي: عولمة ما قبل الحداثة (قبل 1500)، العولمة الحداثية المبكّرة (1500- 1850)، العولمة الحداثية (1850. 1945)، العولمة المعاصرة[8].
إنّ اعتبار ظهور العولمة منذ ق 15 في أوروبا لا يخلو من إسقاط تاريخي تماما مثلما تحدث بعضهم، ومنهم أدونيس، عن حداثة عربية في القرن الرابع الهجري. ذلك أنّ الوضع الذي تعيشه البشريّة اليوم لم يسبق له مثيل في التاريخ، فالقوى العظمى تتوسّل كلّ الطرق والوسائل من أجل تكريس هويّة نمطيّة واحدة، وفرض نمط عيش واحد على المستويين الرمزيّ والمادّي[9].
ويكاد ينعقد إجماع البحّاثة والمفكّرين على أن ظاهرة العولمة قد بدأت بعيد الحرب العالميّة الثانيّة، وبلغت أو تبلورها بسقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، وانهيار المعسكر الاشتراكي بسقوط الاتحاد السوفياتي في 26 ديسمبر 199.، ويستدلّون على بداية العولمة بظهور مؤسسات ومنظمات دوليّة، كان همّها تنميط الشعوب وفق قواعد قانونيّة واقتصاديّة وسياسيّة وأخلاقيّة …. واحدة، ومنها: منظّمة الأمم المتّحدة (1945) والبنك الدولي (تأسّس سنة 1944 وبدأ أعماله سنة 1946) وصندوق النقد الدولي (1945) ومنظمة التجارة العالمية (1995).
ومن الإنصاف القول إنّ العولمة في ذاتها ظاهرة محايدة، غير أنّ توظيفها لصاح هذه الجهة أو تلك متوقّف على اختيارات تلك الجهات ومواقفها.
وفي هذا السياق يذهب بعضهم إلى ضرب من التفكيك لظاهرة العولمة يميّز فيه بين مستويين: العولمة المادّية والعولمة النظريّة. ويعرّف العولمة المادّيّة بأنّها مجموع التطوّرات الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والمعلوماتيّة…التي شهدها العالم بعد الحرب العالميّة الثّانية وكان من نتائجها السعي إلى إزالة الحواجز بيم دول العالم. أمّا العولمة النّظريّة فقد ظلّت متخلّفة، فلم تساير تلك التطوّرات المادّيّة، بل ظلّت متخلّفة عنها، فتركت المجال فسيحا لبعض القوى والجهات العالميّة للتحكّم في مساراتها، وفرض مفاهيمها وتشكيل العالم وفق طموحاتها ومصالحها“[10].
ومهما يكن من أمر، فإنّ العولمة قد باتت قدرا لا يمكن الانفكاك منه، وباتت البشريّة جميعها تعيش شاءت أم أبت في ظلّ الحضارة ما بعد الصناعية كما سمّاها دانييل بيل (ت. 2011) ( Daniel Bell) أو حضارة الموجة الثالثة أو حضارة الإعلاميات. وأصبح العالم قرية صغيرة كما أشار إلى ذلك الكندي مارشال ماكلوهان (ت. 1980) (Herbert Marshall McLuhan) في كتابه: الحرب والسلام في القرية العالمية(1968)[11].
أمّا التمييز بين العولمة والحداثة، فيكتسي أهمّية كبرى إذ الحداثة نمط عيش، والعولمة صفة لتشابك العلاقات بين الأفراد والجماعات والشّعوب والأمم. وقد نذهب إلى أنّ الحداثة مضمونٌ والعولمة شكلٌ لذلك المضمون.
وقد تطرّق الباحث إلى قضيّة تعدّد العولمات ولو في مستوى الإمكان والافتراض استنادا إلى يان ندرفين بيترسه ( Pieterse Jan) قائلا: “نستطيع أن نتصور حشدا من العولمات”[12]، في العلوم الاجتماعية وفي الاقتصاد وفي العلاقات الدولية وفي السوسيولوجيا وفي الدّراسات الثقافية. وهذه الإشارة إلى تعدد العولمات منظورا إليه وفق تعدّد المجالات: اقتصاديّ، سياسيّ وثقافيّ، واجتماعيّ … مهمّ جدّا، غير أنّ الأهمّ من ذلك، وما ينبغي التّفكير فيه، وقد فعل الكاتب ذلك لاحقا، هو أنّ العولمة تتعدّد بتعدّد الخلفيات والقيم التي تنهض عليها، فالعولمة القائمة على التوحّش والاستغلال والأنانيّة الخ… غير العولمة القائمة على مضامين إنسانيّة كالتعاون واحترام الاختلاف. إذ بات من المسلم به أنه “إذا كان السوق ينتج ثروات، فإنه لا يولّد بذاته تعاضدا وقيما ومشروعا ومعنى”[13]. وهذا يذكرنا بموقف الجابري من الحداثة. وقد دعا فيه إلى حداثة نابعة من التراث المحليّ… وهو ما يمهّد منطقيّا لظهور حداثات بعدد الثقافات والأمم…[14].
وطرح الباحث الأسس الفكرية للعولمة، وحدّدها بأربعة هي المبادئ الليبرالية: الحرية- الفردية- العقلانية. مميّزا إيّاها عن المرتكزات، التي رأى أنّها أربعة كذلك على النّحو الآتي: الرأسمالية والليبرالية الجديدة (الفردية والتعاقد) واقتصاد السّوق والديمقراطية الليبراليّة.
ويُعدّ هذا التّمييز بين الأسس الفكرية للعولمة وبين مرتكزاتها على قدر غير قليل من الوجاهة، إذ الأولى ذات طابع معنويّ، والثانية تميل إلى الجانب المادّي. ويبدو لنا أنّ الديمقراطية والفرديّة والتّعاقد تنتسب إلى الأسس الفكريّة باعتبارها قيما معنويّة، لا إلى المرتكزات التي يمكن أن نضيف إليها شبكات الاتّصال الإلكترونيّ والثورة الاتصاليّة والإعلام الفضائي ووسائل النّقل المختلفة[15]. ولنا بمناسبة هذا التّمييز أن نتساءل: أيهما أسبق بالنسبة إلى العولمة أو الحداثة: المادي الاقتصاديّ أم الفكريّ والقيميّ؟ تثبت تجربة أوربا وفق ماكس فيبر (Max Weber) وبيتر برجر (Peter Berger) أنّ الذهنيّ والفكريّ/ أي التّحديث الفكريّ كان أسبق، أما تجربة دول شرق أسيا (ومنها الدول التي ذكرها الكاتب: ماليزيا وإندونيسيا وتركيا وإيران) واليابان، فتثبت العكس.
4- 1-2- الفصل (2): حول تسويغ ميثاق العولمة:
جعل الباحث مدار الفصل الثاني على مسوّغات العولمة، فذكر منها الطبيعة الإنسانيّة بما تنهض عليه من تنوّع وعدم اكتمال، ومنه صرف اهتمامه إلى الأسس الأخلاقيّة والمعنويّة التي تقوم عليها العولمة، أو ما وسمه بـ “ميثاق العولمة”، وعنى به التعدديّة المعياريّة (“عقيدة تدعو إلى الاعتراف والتواصل والتبادل فيما بين الناس المختلفين”[16]، من جهة، والنزعة الأبوية والوصاية السياسية للقانون الدولي المعاصر[17]. وقد أجاد الباحث في كشف الطابع المزدوج لمساعي تسويغ العولمة، وهو طابع يقوم على ظاهر وباطن، إذ تتزيّا العولمة ظاهريّا بالقيم النبيلة، وتضمر في باطنها الاستغلال والسّيطرة والوصاية والعمل على تنميط العالم وفق رؤية أحاديّة. وفعلا فإنّ العولمة تبدو ظاهرة عنيفة ترفض الاختلاف وتقاومه، وتستعمل كل الوسائل التّكنولوجيّة والاتّصاليّة، السرية والعلنيّة من أجل فرض هيمنتها وإدامة استغلالها لسائر الشعوب. ورغم كلّ المزاعم، فإنّ الدّول الكبرى لا تصدّر ثقافة نقديّة تساعد على النهوض والتقدّم، بل منتوجاتٍ للاستهلاك تماما كما هي الحال في التّقنيات: تسوّق البضائع دون العلوم المساعدة على إنتاجها[18].
4- 2- الباب (II): طريق العالم الإسلاميّ والعربيّ إلى العولمة: التحوّلات والتجلّيات:
يبدو انتقال الباحث من تعريف الظّاهرة وأسسها إلى رصد تحوّلاتها وتجلّياتها منطقيّا، وقد فصل بين التحوّلات السّياسية والتحوّلات الاجتماعيّة، وجعل مدار الفصل الأوّل على الجانب السياسيّ، والفصل الثاني على الجانب الاجتماعيّ. وكلاهما مجلًى ترتسم عليه ملامح االعولمة، مثلما هي عوامل نشأت الظّاهرة ضمن شروطها وسياقاتها.
4- 2- 1- الفصل (1): التحوّلات السّياسيّة الكبرى:
أثار الباحث في هذا الفصل قضايا السّيادة الوطنيّة بين التصدّع والتّآكل، وبين الانتهاك والتشظّي، ومسألة الاستعمار بوجهيه القديم والجديد، ومظاهر توسّعه[19]. وانتقل بعد ذلك إلى استعراض حركات التّحرر ومحرّكات العولمة، وأثار علاقة العولمة بالقضية الفلسطينيّة، وبيّن من وجهة نظر روجي جارودي (Roger Garaudy) ومارتن بوبر (Martin Buber) حدود القومية، وتوقّف عند بواكير العولمة زمن الحرب الباردة، ونظر في حرب الخليج الثانية بوصفها تحالفا دوليّا شكّل أنموذجا للحرب في عصر العولمة[20]، وامتزاج النفط بالدم في عصر الجشع الرأسمالي المعولم.
البحث مخصص للعولمة في العالمين العربي والإسلامي. هذا صحيح. ولكن كان يمكن التوسّع برصد تحوّلات العولمة في الغرب نفسه وتمدّدها جغرافيّا، وتطوّر وسائلها وأساليبها وميلها نحو مزيد من القسوة والتوحّش، زيادة على أنّ فعلها في الغرب مختلف عنه في البلاد التّابعة، والدّليل على ذلك أنّ الاختلاف النّاشئ في الدول المتقدمة بسبب العولمة لا وزن له ولا يعتبر تهديدا للتّجانس/ التّنميط الرّاسخ. يقول مؤلّفا كتاب: ما العولمة؟: “يفقد التجانس الثقافي على المستوى “القومي” أهميته المركزية في البلدان المتقدمة المرتبطة بأسواق العالم (…) لذا تستطيع التعددية الدينية والإثنية والتعددية في نمط الحياة أن تتوسع في مثل هذه الدول، وتزداد أهمية الجماعات داخل الدول القومية كبؤر ولاء بديل لأعضائها؟”[21] وقد ضرب المؤلّفان على ذلك مثل البريتون ( Les Bretons)، وكيف أنّ ثقافتهم ومصالحهم التي ظهرت في ظلّ العولمة لم تعد عامل إضعاف لفرنسا في صراع الحياة والموت مع ألمانيا مثلا. هذا من جهة ومن جهة أخرى كان من الممكن الإشارة في المقابل إلى المقاومة من جانب المضطهدين والمهمّشين وتنوع حركاتهم وأساليبهم في العمل ونجاحهم أو فشلهم في ذلك.
وأيّا ما كان الأمر، فإنّ طريق العالم الإسلامي والعربي إلى العولمة قد بدا، حسب الكاتب، مأسويّا شكلته الفواجع والحروب والانقسامات والهوان وفقدان السّيادة الذي تمّ تقنينه بما يسمّى بحق التدخّل الإنساني[22]. إلى الحدّ الذي جعل هانس-بيتر مارتين (Hans-Peter Martin) وهارالد شومان (Harald Schumann) يعقدان فصلا يتساءلان فيه: لمن الدولة؟[23]. فلا غرابة أن يشفّ هذا المؤلّف عن موقف سلبيّ من العولمة.
4- 2-2- الفصل (2): التحوّلات الاجتماعيّة الكبرى:
طرح الكاتب على بساط البحث في هذا الفصل بعض السّمات الاجتماعيّة التي وسمت الوجود الاجتماعي في العالم الحديث عموما، ومنه على وجه الخصوص المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، فكان أن أشار إلى تحوّل المجتمعات إلى مجتمعات معلومات ومعرفة[24]، ومنه انتقل إلى تحليل “ثورات الربيع العربي والعولمة”، وانتهى إلى القول: “إنّ العولمة قد قوّضت “سلطة الدولة وأضعفتها وأجهضت أيّ مشروع سياسيّ يهدف إلى الاستيلاء على سلطة الدولة بما في ذلك الثورة”[25]، وحظيت علاقة العولمة بالديمقراطية بفضل تحليل، بيّن فيه الكاتب صعوباتها. وهي جزء من تجليّات العولمة في العالم العربيّ المعاصر، وتحدّياتها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة[26]، وانتهى إلى وسم أساليب العولمة بالمخاتلات في المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ وعلى صعيد الاتّصالات[27].
وصفوة القول أنّ الباحث يرى أنّ للعولمة آثارا سلبية على كل نشاط إنسانيّ، بما في ذلك الثّورات، اجتماعيّة كانت أو سياسيّة أو ثقافيّة (الربيع العربيّ أنموذجا)، فهي تفرغها من محتواها لأنّ السّلطات المحليّة موضوع النّقمة والثورة ليس بيدها شيء. ولنا هنا أن نتساءل: هل سدّت المنافذ على الثورات المحليّة، ولم يبق أمام الجزء المضطهد من العالم سوى ثورة عالميّة على مصادر السّلطة الحقيقيّة، أي الامبرياليّة؟ هل تعيدنا العولمة قصرا إلى المقولات الماركسيّة التقليديّة، ومنها ثورة العمال والمهمّشين العالميّة؟
4- 3- الباب (III): تداعيات العولمة في العالم الإسلاميّ المعاصر عربيّا وإسلاميّا:
نستشفّ من المساحة التي خصّ بها الكاتب هذا الباب والباب الذي يليه أنّهما يمثّلان مركز ثقل هذا البحث الأكاديمي، فقوام هذا الباب الثالث أربعة فصول، وقوام الباب الرابع ثلاثة فصول. ويجوز لنا، بناء على ذلك، أنّ الباحث قد عمد إلى التّخصيص بدل التعميم، وإلى التّطبيق بدل التّجريد، وهو ما يعني كذلك مراهنته على البحث التطبيقيّ الذي يعنى بتجارب بعينها، وهو أمر محمود تماما من أجل الخروج بخلاصات متينة مؤسّسة على معطيات واضحة صلبة.
4- 3- 1- الفصل (1): التّداعيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للعولمة:
افتتح الباحث هذا الفصل بالنّظر في تأثير المؤسّسات العالميّة الكبرى في الاقتصاد من خلال كتابات جوزيف ستيغليتز (Joseph Stiglitz) عبر بيان محاسن العولمة، ومساوئها، وثنّى بالبحث في واقع المأسسة والعولمة في الوطن العربي. وخلص من ذلك كلّه إلى القول بهيمنة العولمة على كل المجالات وإرباكها لكلّ القطاعات بصورة عامّة، وخاصّة منها المجال الاقتصاديّ، من ذلك قوله: إنّ “العولمة جعلت السوق وآلياته أقوى بعديد المرات من تأثيرات السلطة المسيطرة على مفاصل الانتاج، إذ أصبح السوق ومتطلباته من عرض وبيع واستخدام واستغلال هو من يحدد كيفية العمل وأصوله وماهيته، فضلا عن نوعية استخدامه واختبارها في المكان والزمان والشكل…”[28]. وعدّد الكاتب تلك التداعيات السّلبية، ومنها التبعيّة الاقتصاديّة، واستنزاف الثروات، وتدهور المقدرة الشّرائية، والبطالة الخ.
4- 3- 2- الفصل 2: التّداعيات السّياسيّة:
فحص الباحث في هذا الفصل الثاني عن التّداعيات السّياسيّة للعولمة في البلاد العربيّة، ووسمها بالجراحات، تكنيةً عمّا لحق الجسد العربيّ من أذى بسبب الهيمنة الأمريكيّة، والغطرسة التي ما انفكّت تمارسها على الأنظمة والشّعوب[29]. إمّا بطريقة سافرة ومباشرة أو بالوكالة، بما في ذلك توظيف الإرهاب الذي تمّت عولمته، فظهرت عقيدة عسكريّة جديدة قائمة على البطش والإذلال[30].
4- 3- 3- الفصل (3): التّداعيات الثقافيّة:
خلص الباحث من تداعيات العولمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في العالم الإسلاميّ والعربيّ المعاصر، واتّجه صوب النّظر في التداعيات الثقافيّة، وما فرضته العولمة من تشوّه وتنميط واختراق للخصوصيّة الثقافيّة، وما كان لها من تأثير على اللّغة العربيّة التي أصبحت عاجزة أمام اكتساح اللغة الإنجليزية خاصّة، وانحسارها المتفاقم من مجالات التّداول المختلفة[31]، وتدرّج بعد ذلك نحو النّظر في وضع المثقف العربي في ظلّ العولمة، فكانت الخلاصات سلبيّة تنمّ عن تهميش وعجز عن الفعل في الواقع، وتخلّ عن الدّور الطليعيّ الذي كان ينبغي أن يقوم به، شحذا للوعي، وحفظا للرّموز المؤسّسة للخصوصيّة التي من دونها لا مناعة من الذّوبان في ثقافة الآخر. واستند الباحث إلى جيرار ليكلارك (Gérard Leclerc) في ضرب من التّفسير لحالة العطالة التي انتهى إليها المثقّف. يقول ليكلارك: إنّ “وضعية المثقف في العالم العربي والإسلامي لم تكن نتاج تطور داخليّ من طبقة المتعلمين والعقيدة والعنف في العالم العربي (…) بل كانت وضعية مستوردة، أي دخيلة لأنها ثمرة تطعيم خارجي أدخل على هذه الطبقة”[32].
وليس شأن الإعلام بأفضل حالا، فقد حوّلته العولمة، كما يقول الباحث، إلى صناعة للتّسلية، مثلما ساعد على ظهور تيّارات دينيّة ودعويّة سلفيّة أحيت قيما وأفكارا وممارسات منافية لروح العصر، كما ساعد على نشر والعنف في العالم العربي[33].
4- 3- 4- الفصل (4): راهن العولمة في نسختها الإسلاميّة الآسيويّة:
يعدّ هذا الفصل الرابع من الباب الثالث فضاء للرّصد والتّحليل النقدي، إذ يباشر فيه الباحث قراءة تحليليّة لتجارب أربع دول إسلاميّة على النّحو الآتي:
التجربة الماليزية: طرق الباحث في هذا النموذج تجربة ماليزيا مع الانفتاح والديمقراطية الغربيّة، ونقل الباحث عن محضير بن محمد قوله: “لم يُفقد الأمل في تغيير الوضعية لصالحهم [الدول الإسلامية] إن هم أحسنوا استثمارها. فالعولمة يمكن أن تتمخّض عن نتائج تخدم قضايا الدول الإسلاميّة وتصب في مصالحها، والمطلوب هو تشخيص الأدوات والكيفيات التي تشتغل بها العولمة حتى تتيسّر عملية استيعابها (…) [و] تحرير التجارة ورفع القيود عن الصادرات والواردات (…) [و] سارعت بإنشاء نظام مالي إسلامي ليساعد المواطنين على الإفادة من المنافع والفرص التي يوفرها أي نظام مالي حديث يتفق مع النظرة الإسلامية لهذا المجال”[34].
وعرض الباحث رؤية محضير بن محمد حول الديمقراطية المعدّلة، إذ رغم إيمانه بالديمقراطية واحترام الأغلبية للأقلية….”نبه إلى أن المنظمات غير الحكوميّة يمكن أن تكون نقيض الديمقراطية، ذلك أنّها تمثل الأقلية أو حتى الأفراد الذين يسعون إلى فرض وجهات نظرهم على الناس وعلى حكومة الأغلبية”[35].
التجربة التركية: عالج الباحث في هذه التجربة علاقة تركيا بالإسلام في ظلّ العولمة، ورصد آثار العولمة في الثّقافية التركية، وأجمل ذلك كلّه في قوله: “باتت عملية التحديث التركية منذ ثمانينات القرن العشرين متزايدة الانطباع بطابع تعايش الليبرالية الاقتصاديّة وانتعاش النزعة التقليدية الداعية إلى نوع من العودة إلى الأصالة. فالعولمة الثقافيّة تؤدي إلى إضفاء الصفة الكونية الشاملة على القيم الغربية وأنماطها الثقافيّة الغربية مع القيام في الوقت نفسه بنفخ الروح في جملة القيم والتقاليد المحلية وإعادتها إلى الحياة”[36] التجربة الإندونيسيّة: نظر الباحث في وضع الإسلام في أندونيسيا في ظل العولمة، وتحدّث عن ضريبة الانفتاح في التّجربة الإندونيسيّة، بما يهيّئ القارئ لتوقّع نتائج كارثيّة. يقول الباحث ملخّصا: “سلكت أندونيسيا سياسة انفتاحية، فعلمت على تشجيع الاستثمارات الخاصّة والوطنية والأجنبية، ودعم علاقاتها مع الدول المجاورة في جنوب شرقي آسيا. فانطلقت نحو بناء جسور قوية من العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربي أوروبا”[37]. فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة تلخّصها “الصورة التي التقطت للرئيس الأندونيسي سنة 1998 وهو يوقع مهانا خطابا للنوايا تحت أنظار المدير العام للصّندوق ميشال كامودوسو Michelle Camadessus) 1933)، وهو واقف قاسي النّظرة مكتوف اليدين في استعلاء ظاهر[38].
التجربة الإيرانيّة: كانت التّجربة الإيرانيّة هي ختام التّجارب التي حلّلها الباحث، وتوقّف عند أبعاد العولمة في إيران، وعند المناخ السياسيّ وإرهاصات العولمة، وحلّل المناخ الاقتصادي الإيراني وهو يرزح تحت ضغوط العولمة ومحاولات مراوغاتها. يقول الباحث: “يبدو أن تعامل إيران مع ظاهرة العولمة كان متسما بالحيطة والحذر لتشابك مفهومها مع مفهوم “الأمركة”. إذ سارعت إيران إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير لمقاومة تداعيات العولمة والحدّ من تأثيراتها. وقد تمثّلت هذه الإجراءات في سعيها إلى توفير الأجواء الملائمة للاستثمار الداخلي والأجنبي وحرصها على تبنّي استراتيجية التصدير وتحرير سعر الصرف والأخذ بقواعد السّوق الرأسماليّة…”[39].
4-4- الباب (IV): قراءة في العولمة ومستقبلها في العالم الإسلامي المعاصر:
يقوم هذا الباب على ثلاثة فصول، ويعدّ، كسابقه، جوهر هذا المنجز العلميّ. وقد اتّخذ فيه الباحث موقع المستشرف لمآل العولمة في البلاد العربيّة والإسلاميّة، أو إن شئنا مصيرها، أي البلاد العربية واسلاميّة، في ظلّ العولمة، وذلك بعد أن تبيّن واقعها، ورصد حاضرها المدمّر على جميع الأصعدة.
4- 4- 1- الفصل (1): العولمة على محكّ الفكر الغربيّ:
استهلّ الكاتب الفصل برصد ظاهرة العولمة في العالم الغربيّ، وما ينبئ به مصيرها من انحدار[40]، مستندا في أحكامه إلى مؤشّرات السّقوط الحر لاقتصاد السوق، وإلى ما يراه من انهيار للرأسمالية مؤدٍّ حتما، كما يرى، إلى انهيار العولمة نفسها، فنهايتها التامّة[41]، مشيرا إلى طابعها القبليّ، وهي صفة لما رأى الكاتب أنّه تقوقعٌ على المستوى الاقتصاديّ، وتضامن بين الدّول الغنيّة المهيمنة على بقيّة العالم، واستعدادها الدائم للانقضاض على كلّ من يهدّد امتيازاتها من خارج دائرتها “القبليّة”[42]. ويضيف الباحث في شأن القبليّة، وهو يتحدث عن أثينا وإسبرطة، ويسحب ذلك على العولمة: “هكذا فإن المجتمع المغلق في صميمه ليس إلا قبيلة، فهو، على حدّ تعبير هنري بركسون (Henri Bergson) (1859- 1941) “مجتمع يتعاضد أعضاؤه ولا يهتمّون بباقي الإنسانيّة وهم على أهبة الاستعداد إما للهجوم أو للدفاع “[43]. وما بعدها. غير “أن مخاوف الشعوب تزايدت، واستياءها تنامى بسبب التوزيع غير العادل لمنافع العولمة الذي أصبح من أكثر وجوه الانحدار العام مدعاة للقلق”[44]. وهو ردّ فعل طبيعيّ تماما، إذ لكلّ فعل ردّ فعل مساو له في القوّة، ومعاكس له في الاتّجاه كما هو معروف في العلوم الفيزيائيّة، وكلّ ضغط يولّد بلا شكّ انفجارا، لذا “بدا الانهيار أمرا لا مناص منه حين تجاهل المستثمرون، في حقبة الاقتصاد الجديد، واشتروا شركات ما كان لها مستقبل قطّ، واحتفوا بأبطال ما كانوا أبطالا قطّ، ووثقوا بإرشادات خبراء في شؤون الأسهم تبيّن أنهم ما كانوا خبراء، بل نصابين لا ضمير لهم”[45].
إنّ مفهوم القبلية الاقتصاديّة دقيق تماما إذ يكشف وجها من وجوه التناقض الذي يسم العولمة، فهي من جهة تسوّق لخطاب يدعو إلى تشابك الإنسانيّة في جميع المجالات، ومن جهة أخرى تحصّن حدودها من الهجرة واقتصادَها من تدفّق السلع…ونمطَ عيشها ضدّ “البرابرة الهمج” الذين يحيطون بها. إلى الحدّ الذي جعل بعضهم يشكّ في وجود هذه الكونيّة: يقول بول هيرست (Paul Hirst) وجراهام طومبسون (Graham Thompson): “إن العالم لا يزال أبعد عن أن يكون “كونيا” بحقّ. كما يعترف بذلك بعض غلاة أنصار العولمة، بل الواقع أن تدفقات التجارة والاستثمار والأموال تتركز في ثلاثي أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية”[46].
4- 4- 2- الفصل (2): فخاخ العولمة في العالم الإسلامي:
بدا الباحث في هذا الفصل كما لو أنّه يوسّع من نطاق النقود التي وجّهها إلى العولمة، وذكرها في بعض الفصول السّابقة (البابIII– فصل1: وفيه مبحث: ستيغليتز: محاسن العولمة- مساوئ العولمة)، ولكنْ بمزيد من التفصيل والتدقيق. . وقد تمحّض هذ الفصل إلى الحديث عن خمسة فخاخ للعولمة، فبدا هذا الفصل استئنافا للّذي قبله، إذ مدارهما على توقّع انهيار العولمة واختفائها. وهذه الفخاخ هي: الفخّ الاقتصادي والفخّ السياسيّ، والفخّ الاجتماعيّ والفخّ الثقافي الفخاخ الالكترونية…
-الفخّ الاقتصاديّ للعولمة: رصد الكاتب في هذا المستوى من البحث الفخاخ العولميّة المنصوبة من خلال مقولات جذّابة كالتّكامل والاندماج، وكشف عمّا تخفي وراءها من نزعة تكالب على خيرات المنطقة العربيّة[47] وأفضى به الرّصد إلى الجزم بأنّ هناك “استحالة في أن يجني العالم بدوله المتقدمة والفقيرة معا ثمارا ناجحة نجاحا مطلقا للاقتصاد المعولم (…) وهذا يعني ببساطة أن الجميع قد وقع في “فخ العولمة”[48].
–الفخ السّياسيّ للعولمة: مدار هذه الفقرة على العولمة والدّيمقراطية والحرب، وعلى مظاهر التعثّر الدّيمقراطيّ في العالم الإسلامي بسبب العولمة، وعلى احتكار الدّول العظمى لسلطة القرارات الدّوليّة، وهو ما يترجمه غياب التمثيليّة الدوليّة في المنظمات العالميّة على قاعدة العدل والمساواة بين الدّول[49]. وقد لخّصها الباحث بقوله: “تواجه المنظمات متعددة الأطراف انتقادات من البلدان النامية والمهتمين بالبيئة ومناصري الفقراء. فآليات اختيار الأعضاء والمديرين التنفيذيين للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي تفتقد إلى الشفافية الكاملة. (…) وقد لا يكون واقع الديمقراطية في المنظمتين بعيدا عن واقعها في مجلس الأمن لأن معايير اختيار الأعضاء الدائمين فيه مازالت هي الأخرى تعيش فخاخا سياسية تقدم الأقوى عسكريا على الأولى اقتصاديّا”[50]. من ذلك أنّ الناتج المحلي للبرازيل مثلا أكبر من فرنسا ومن أنجلترا، والهند يفوق ناتجها المحلي فرنسا وإنجلترا مجتمعتين. “ومع ذلك ظلّتا مقصيتين (كذا!) من العضوية الدائمة في مجلس الأمن”[51].
– الفخ الاجتماعي للعولمة: مدار هذا العنصر على ما بثتّه العولمة من روح عدائيّة بين العمّال ورأس المال، وهو ما ساهم في توتّر العلاقات بين فئات المجتمع الواحد غربيّا كان او شرقيّا، يقول الباحث: “يفترض أن تتأسس تسوية مؤقتة بين القوى العاملة ورأس المال في إطار العولمة لأن رأس المال بحاجة إلى القوى العاملة، والقوى العاملة بحاجة إلى رأس الما. غير أن ما حدث في البلدان النامية وخاصة البلدان الإسلامية لا يفسر طبيعة هذا التكامل، فقد تسببت العولمة في انهيار الشراكة الاجتماعية بالعالم الإسلامي وإحلال علاقة العداء والتصادم محل التعايش والانسجام”[52]، فضلا عن انتشار الجريمة بجميع أنواعها مستفيدة من سهولة التّواصل وإنشاء الشّبكات الإجراميّة وسرعة انتقالها، وتنوّع أساليبها والآليات المساعدة عليها، الخ… وعبّر عن ذلك بقوله: “يبدو أن العولمة تسهم بشكل واضح في ازدياد معدل الجريمة على المستوى العالمي، وتسهل نمو الشبكات العالمية الإجرامية” فضلا عن ظواهر أخرى كالسياحة الجنسية والعزلة والتطرف”[53]. وتوقّف الكاتب عند واحدة من أخطر الفخاخ التي نصبتها العولمة، وهو التفكّك الأسريّ، وغياب السلطة المنظّمة الخ…[54]، يقول االباحث: “أحدثت [العولمة] خللا عميقا في في بنية المؤسسات الاجتماعية القائمة ووظائفها” وبداية أفول العائلة الأبوية. ويرصد ظهور برامج دينية وخطاب دعوي أعاد زواج المسيار والمتعة والعرفي في نوع من رد فعل عكسي ضدّ العولمة[55].
الفخ الثقافي للعولمة: يرى الباحث أنّ الفخّ الثقافي للعولمة يتمثّل، أكثر ما يتمثّل، في أنّ الثقافة العربية مهدّدة في هويتها وخصوصيّتها، بل إنّها على حافة الخطر بسبب اختراق اللّغة الانجليزية وسرعة انتشارها. وأنّ المثقّف الميديائي أو شبكي الذي أنتجته العولمة يفتقر إلى الدقّة والرّصانة والرّوح التحليليّة والنّقدية لتعدّد اهتماماته، كما يقول فهمي جدعان[56]. هذا فضلا عن سعي الدول والحكومات، في ظلّ العولمة، إلى تدجين المثقّف واستدراجه إلى مؤسّسات ومراكز بحث مغرية ماليا. فكان أن تدهورت القيم، وفقد المثقّف دوره التوعويّ الطّليعي، ولم يعد، كما كان ينظر إليه قديما، ضميرا للأمّة وذا رسالة في مجتمعه ومحيطه[57].
4- 4- 3- الفصل (3): العولمة والعالم الإسلامي من خطاب النقد إلى خطاب النقض:
تدرّج الكاتب من عرض الخطاب النقديّ إلى خطاب النقض الذي يدعو بوضوح إلى مقاومة العولمة عبر كشف أخطارها ولا إنسانيّتها. وكان نموذجه الأوّل هو محمد عابد الجابري ونظريته في الاختراق وإيديولوجيا السوق[58]. فقد أوضح “أن الاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الإيديولوجي والحلول محله. ونفى أن تموت الإيديولوجيا بحلول الاختراق الثقافي (…) بل اعتبر أن الاختراق الثقافي، على العكس من ذلك، محمل بإيديولوجيا معينة هي إيديولوجيا الاختراق” التطبيع مع الهيمنة وتكريس التبعيّة[59]. والملاحظ أن الجابري ينتقد موقفين من العولمة هما: الرّفض التامّ والقبول التامّ، ويدعو إلى طريق ثالث هو العمل من داخل الثقافات المحلية[60]. وغنيّ عن التذكير أنّ موقف الجابري من كلّ قضايا التقدّم والحداثة والعولمة يتلخّص في ضرورة الانطلاق من معطيات الذّات التراثية، وانتقاء ما يستحقّ الاستئناف منه، مع تطعيمه بما يتيحه الفكر العالميّ من إمكانات تقدّم، وذلك من أفق الخصوصيّة.
أمّا المثال الثاني فهو العولمة البديلة التي دعا إليها والدن بيلو (Walden Mauricio Bello)، والعولمة المثمرة والبدائل المنقذة التي تبنّاها جوزيف ستيغليتز، في مقابل ما تبنّاه روجيه غارودي من مواقف أكثر صرامة، جعلته يسم العولمة القائمة بـ”البدائل المنافقة”، معتبرا أنّ نموذج التنمية الذي تلهث وراءه دول العالم الثالث يساعد دائما على ازدياد تخلّفهم المرتبط بتبعيّتهم. مؤكّدا “أن وحدة العالم تكمن فقط في الوحدة المتناسقة لكل الشعوب لا في الوحدة الامبريالية الناجمة عن عولمة منافقة. وبرر اعتناقه الإسلام بانحيازه إلى نموذج العقائد الداعية إلى التحرير من إيديولوجيا المهيمنين”[61].
وختم الباحث بصوت يدعو إلى نقض العولمة جملةً، وهو صوت يمثّله مهدي المنجرة[62]. وتساءل الباحث: العولمة في العالم المعاصر إلى أين؟ وخصص الباحث للإجابة على هذا السؤال صفحتين ونصفا، عاد فيها إلى التاريخ العربي السّحيق، مبيّنا صعوبة الاندماج العربي في المحيط الحضاري القديم، ومدى مساهمتهم في التقدّم الإنساني، وأعرض، في المقابل، عن عرض وجهة نظره في ما يستشرفه من أحوال وتحوّلات وانعكاسات ستطرأ على العرب والمسلمين في ظلّ المدّ العولمي.
5- خاتمة:
-نخلص من هذه المقاربة التحليليّة النقديّة إلى راهنيّة المباحث التي تمّ طرحها في هذا الكتاب: العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة، وإلى أنّ الباحث قد حشد من المصادر والمراجع، وأعمل من المناهج والمقاربات ما جعله قادرا على تعميق النّظر في أهمّ القضايا والإشكاليات، وعلى توسيع أفق النظر فيها عبر مقابلة الموقف بنقيضه أو بما يخالفه في مسعى إلى الإحاطة بظاهرة مركبة متحوّلة لم تتبلور بعد بشكل نهائيّ.
-ميّز الباحث بين الحداثة والعولمة تمييزا مهمّا، وقد وددنا لو أضاف فضل تحليل بين العولمة المادّية والعولمة النظريّة، إذن لاتّضحت أكثر مساوئ العولمة ومكاسبُها، ولانفتحت أمامنا سبل جديدة للاستفادة من هذه الظاهرة العالميّة.
-اختار الباحث أربعة بلدان إسلاميّة، هي: تركيا وإيران وأندونيسيا وماليزيا بوصفها نماذج إسلاميّة لكيفيّة التعامل مع العولمة، ووددنا لو أنّه اختار معها أحد البلدان العربيّة لقربها من أذهان المتلقّين العرب واهتمامهم بها. ويغلب على ظنّنا أنّ نجاحها النسبيّ لا ينبغي أن يبرّر الاهتمام بها على حساب النماذج العربيّة، لا سيما حين نستحضر هشاشة هذا النجاح الذي كشفه انهيارات 1997. يقول السيد أباه: “لا مندوحة في الإقرار أن انهيار الاقتصاديات الآسيوية الذي بدأ من تايلند 1997، وامتد إلى أندونيسيا وماليزيا قبل أن يصل إلى اليابان، وكاد يؤدي بالاقتصاد الروسي الهش، يمثّل أحد التحولات الأبرز في نهاية القرن المنصرم”[63].
– تضمّن عنوان الكتاب: “العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة” التباسا محيّرا في جزئه الثاني: مقاربات غربية، إذ يذهب توقّع القارئ وظنّه لأوّل وهلة إلى أنّ مدار البحث في الكتاب سيكون تحليلا لتداعيات العولمة وآثارها في العالم الإسلاميّ من وجهة نظر غربيّة. لا شك أنّ الباحث قد استدعى آراء كثير من المفكّرين والمنظرين الغربيين ومواقفهم من أوضاع الدول العربية والإسلاميّة وهي تنوء تحت نير العولمة، أو تحاول تكييفها والتخفيفَ من ضغوطاتها. غير أنّ الحضور الأبرز والأكثر كثافة هو لمفكرين وفاعلين سياسيين من الضفّة الجنوبيّة.
– غلب على الكتاب أبوابِه وفصولِه هجاءُ العولمة والتماس نقود ترجّح الرّغبة في نقدها ونقضها، غير أنّ العولمة تمثّل، كما تبدو اليوم، قدرا على الإنسانيّة التّعايش معه، وغاية ما يمكنها فعله هو تحسين مواقعها وشروطِ المشاركة فيها، وما تجارب الدّول الإسلاميّة الأربع سوى دليل على ذلك، فضلا عن نماذج دوليّة من العالم الثالث يبدو واقعا أكثر مرارة.
[1]– نجيب جراد، العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة، تونس، الشركة التونسية للنشر، د.ط. 2022. ص21.
[2]– المصدر نفسه، ص34.
[3]– المصدر نفسه، ص 14
[4]– المصدر نفسه، ص 19.
[5]– المصدر نفسه، ص 15
[6]– المصدر نفسه، ص 16
[7]– المصدر نفسه، ص36- 38.
[8]– المصدر نفسه، ص39- 40.
[9]– للتوسّع، ينظر: امبارك حامدي، الترجمة والعولمة والاختلاف، مجلّة العربيية والترجمة، المجلّد 8، العدد 28، ديسمبر/كانون الأول 2016. ص145- 169.
[10]– محمد غربي، تحديات العولمة وآثارها على العالم العربي، مجلة اقتصاديات شمال إفريقيا، (مجلة علمية دورية مختصّة، يصدرها مخبر العولمة واقتصاديات شمال إفريقيا بجامعة حسيبة بن علي بالشلف، الجزائر)، السداسي الأول، 2009، ص 18.
[11]– للتوسّع، ينظر: امبارك حامدي، الترجمة والعولمة والاختلاف، مرجع سابق.
[12]– نجيب جراد، العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة، مصدر سابق، ص42
[13]– السبد ولد أباه، اتجاهات العولمة، إشكاليات الألفية الجديدة، الدار البيضاء، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 2001. ص44.
[14]– محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، دراسات…. ومناقشات، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1991. ص16.
[15]– السيد ولد أباه، اتجاهات العولمة، الفصل الأول ثورة الاتصالات، مرجع سابق، ص6-22
[16]– نجيب جراد، العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة، مصدر سابق، ص 69
[17]– المصدر نفسه، ص 71.
[18]– للتوسّع، ينظر: امبارك حامدي، الترجمة والعولمة والاختلاف، مرجع سابق.
[19]– نجيب جراد، العولمة وتداعياتها في العالم الإسلامي ّ المعاصر: مقاربات غربية، مصدر سابق، 94 وما بعدها.
[20]– المصدر نفسه، ص 117
[21]– بول هيرست وجراهام طومبوسون، ما العولمة: الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، تر. فالح عبد الجبار، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، عدد 273، سبتمبر 2001. ص389.
[22]– السبد ولد أباه، اتجاهات العولمة، إشكاليات الألفية الجديدة، مرجع سابق، ص49 وما بعدها.
[23]– هانس- بيترمارتين وهارالد شومان، فخ العولمة، الاعتداء على الديمقراطية والرفاهيّة، تر. عدنان عباس علي، مرا. رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، عدد المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أغسطس 2003. عدد 273. ص 313 وما بعدها.
[24]– نجيب جراد، العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة، مصدر سابق، ص 133.
[25]– المصدر نفسه، ص137.
[26]– المصدر نفسه، ص147- 153.
[27]– المصدر نفسه، ص 153- 165.
[28]– المصدر نفسه، ص181.
[29]– المصدر نفسه، ص 209 وما بعدها.
[30]– المصدر نفسه، ص 239. وما بعدها.
[31]– المصدر نفسه، ص 226
[32]– المصدر نفسه، ص223، 235.
[33]– المصدر نفسه، ص 235
[34]– المصدر نفسه، ص 243.
[35]– المصدر نفسه، ص 246.
[36]– المصدر نفسه، ص 251.
[37]– المصدر نفسه، ص255.
[38]– المصدر نفسه، ص 256 . الصورة استخرجناها بأنفسنا من محرك البحث غوغل بتاريخ25 ديسمبر 2022. https://www.google.com/search
[39]– نجيب جراد، العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة، مصدر سابق، ص 262.
[40]– المصدر نفسه، ص 271.
[41]– المصدر نفسه، ص 282
[42]– المصدر نفسه، ص 283
[43]– المصدر نفسه، ص 284
[44]– المصدر نفسه، ض 272.
[45]– المصدر نفسه، ص 281.
[46]– بول هيرست وجراهام طومبسون، ما العولمة؟ الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، تر. فالح عبد الجبار، سلسلة عالم المعرفة، عدد المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سبتمبر 2001. عدد 273، ص11.
[47]– نجيب جراد، العولمة وتداعياتها في العالم الإسلاميّ المعاصر: مقاربات غربيّة، مصدر سابق، ص 289.
[48]– المصدر نفسه، ص 289.
[49]– المصدر نفسه، ص 292.
[50]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[51]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[52]– المصدر نفسه، ص 300.
[53] المصدر نفسه، ص 301 .
[54]– المصدر نفسه، ص 299.
[55]– المصدر نفسه، ص 302.
[56]– المصدر نفسه، ص 304.
[57]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[58]– المصدر نفسه، ص 311.
[59]– المصدر نفسه، ص 310.
[60]– المصدر نفسه، ص311.
[61]– المصدر نفسه، ص 318-319.
[62]– المصدر نفسه، ص 321 وما بعدها.
[63]– السبد ولد أباه، اتجاهات العولمة، إشكاليات الألفية الجديدة، الدار البيضاء، مرجع سابق، ص 26.