ملخّص:
في التّأويل انفتاح وتعدّد يتجاوز ما أرساه العقل الحديث من شفافيّة في المعنى ووضوح في الدّلالة، وحين يتحوّل التأويل إلى تأويليّة، فإنّه يصبح مذهبا منهجه التّأويل. وهنا تجد التّأويليّة في المبحث السّياسيّ تربة خصبة ويجد المبحث السّياسيّ في التّأويليّة ما به يُعمّق معناه. في هذا الإطار تختزل السّيادة ما تطرحه المسألة السّياسيّة وهو ما يؤكّد وجاهة بناء تأويليّة حولها. تعمل السّيادة ضمن شبكة مفاهيميّة، لكن ما طرأ عليها من التّغيرات يدفع إلى إعادة النّظر في معناها. ثمّة انزياحات في المعنى وغموض في الدّلالة يجعل من التّأويل حلاّ لمعالجة مفهوم السّيادة. نحن إذن في حاجة إلى تأويليّة السّيادة في الفلسفة السّياسيّة المعاصرة والنّفاذ من خلالها إلى مفاهيم الدّولة والحداثة والعولمة والدّيمقراطيّة، تأويليّة تكفل تحليل السّيادة والدّفاع عنها حينا والتّظنن عليها ونقدها حينا آخر والتّصدّي لها ومقاومتها أحيانا.
الكلمات المفاتيح: السّيادة، التّأويل، الدّولة، الحداثة، العولمة الدّيمقراطيّة.
Abstract:
In interpretation, there is openness as well as pluralism which go beyond what the modern mind has established in terms of transparency in meaning and clarity in significance. When interpretation turns into hermeneutics, it becomes a doctrine whose approach is interpretation. Here, hermeneutics as such finds a fertile soil in the political research, and the political research finds in interpretation what deepens its meaning. In this context, sovereignty reduces what the political issue raises, which confirms the relevance of an interpretive structure around it. Sovereignty operates within a conceptual network, but the changes that have occurred in it prompt a reconsideration of its meaning. There are shifts in the meaning and ambiguity in the significance that makes interpretation a solution to address the concept of sovereignty. Hence, we need an interpretation of sovereignty in contemporary political philosophy and access through it to the concepts of the state, modernity, globalization and democracy, an interpretation, which guarantees the analysis of sovereignty and defends it at sometimes, and suspects and criticizes it some other times, and even confronts and resists it at times.
Keywords: sovereignty, interpretation, hermeneutics, state, modernity, democratic globalization.
1- مقدمة:
الإنسان كائن اجتماعيّ تتحدّد كينونته علائقيّا بمنأى عن كلّ ضروب العزلة والتّوحّد، لكن الاكتفاء بالبعد الاجتماعيّ وما يحفّ به من عفوية اللّقاء بالآخر يظلّ منقوصا ما لم تحتكم العلاقات الاجتماعيّة تلك إلى ضوابط ومحدّدات تجعل من الإنسان كائنا سياسيّا. في العمق من المسألة السّياسيّة تُطرح قضيّة السّيادة باعتبارها القضيّة المركزيّة التي تمرّ عبرها كلّ قضايا السّياسة بغضّ النّظر عن دلالات السّيادة وأبعادها، فكلّ من يدّعي في السّياسة قولا يجب أن يكون له في السّيادة رأي. وتكمن أهمّية المفهوم في ما يرتسم من تقاطعات حوله وما ينحبك في القلب من شبكة مفاهيميّة تستوفي أو تكاد كلّ تفاصيل المعجم السّياسيّ.
في أعمّ معانيها، تقترن السّيادة بضرب من القوّة وبدرجة من العنف والقسوة وبمقدار من النّفوذ يجعلها على صلة بالسّلطة، فالسّيادة وجه من وجوه السّلطة والسّلطة مظهر من مظاهر السّيادة. لكن اقتران السّيادة بالسّلطة قد يزيد مفهوم السّيادة غموضا بفعل الطّابع المركّب لمفهوم السّلطة، فالتباس السّلطة يعمّق التباس السّيادة. ومع ذلك يمكن اعتبار السّيادة سلطة عليا مستقلّة عمّا سواها وهي سلطة أصليّة أساس جميع السّلطات، فـ «السّيادة تدلّ على سلطة عليا ضمن نظام قانونيّ، بمعنى سلطة لا تضاهيها سلطة ولا يحدّها أيّ نفوذ أرفع منها، وهي مستقلّة تمام الاستقلال»[1].
تعتبر السّيادة إذن سلطة ومبدأ سلطة وحقّ في ممارسة السّلطة، وقد نبتت منبتا دينيّا قبل أن تُحسن السّياسة استخدامها. فالسّيادة في اللاّهوت السّياسيّ حقّ إلاهيّ، و«حين نتكلّم عن أنطوتيولوجيا السّيادة [مثلا]، فإنّنا نستحضر مفهوم الله، مفهوما يتحدّد على أساس قُدرة مُطلقة وسيادة غير قابلة للقسمة»[2]. لاحقا ارتبط مفهوم السّيادة بمفهوم الدّولة والأمّة والشّعب ونشأ المعنى الحديث والمتداول للمفهوم لا سيما مع عصر النّهضة الأوروبيّة. في هذا المستوى يجب الانتباه إلى الفرق بين نشأة المفهوم من جهة وتاريخ تطوّره من جهة أخرى، انتباها سيكشف لاحقا عن أهمّية تأويل السّيادة ودور التّأويل في فهمها واستكشاف التّداخل والتّأثير المتبادل لروافد متنوّعة تُلقي بظلالها على مفهوم السّيادة ومعناه.
تتضاعف الحاجة إلى تأويل السّيادة وبناء تأويليّة حولها بالنّظر إلى التّغيّرات التي طرأت على المجال السّياسيّ. هذا الأمر دفع إلى مراجعة مفاهيم السّياسة، وفي المقدّمة منها مفهوم السّيادة. وما اعترى الفعل السّياسيّ من تغيّرات جذريّة وأثّر في مفهوم السّيادة، عبّر في ذات الآن عن قصورها ومحدوديّتها، بمعنى مغاير، فقدت السّيادة سيادتها وانكشف مأزقها من حيث هي نتاج لحداثة آن أوان تجاوزها واقتحام عصر يلي عصرها. نعيش اليوم عصرا تتهاوى فيه حصون السّيادة وتهتزّ الثّقة بصلابتها دون أن ندرك مآلاتها على وجه الدّقة، فـ«على الرّغم من أنّ كثيرين من منظّري ما بعد الحداثة المختلفين، صريحون في رفضهم لمنطق السّيادة الحديثة، فإنّهم عموما شديدو الارتباك إزاء طبيعة تحرّرنا المحتمل منها، ربّما تحديدا لأـّنهم لا يستطيعون أنْ يتعرّفوا بوضوح على أشكال السّلطة التي باتت اليوم قادرة على أنْ تحلّ محلّها»[3]. نحن نعيش بالمثل زمن العولمة الذي أصبحت السّيادة فيه مهدّدة بعد أن فقدت بريقها وألقها، فـ«بفعل العولمة (…) أصبح من التّفاهة التّأكيد على أنّنا في كنف الدّول نعيش ازدهار السّيادة»[4]. ما طرأ على مفهوم السّيادة من تغيّرات جعلها موضوع تأويل أكثر منها موضوع معرفة، وأصبح من الوجيه بناء تأويليّة السّيادة في الفلسفة السّياسية المعاصرة.
2- منزلة السّيادة من المبحث السّياسيّ:
يحمل مفهوم السّيادة من الرّفعة والألق ما يجعله موضوع طلب، إذ يُستخدم السّيد في مقابل العبد لتكون الحريّة أساس التّصنيف. السّيد هو من يمتلك قراراته ضمن إرادة مستقلّة لا ترتهن لإملاءات أو توجيهات مسقطة من الخارج، بينما يعتبر العبد عنوان الطّاعة والاستجابة لما يتقرّر لمصيره ليكون في نهاية المطاف متمّما لسيادة السّيد عن طريق الاعتراف، في ضرب من الحضور السّلبيّ. بهذا المعنى لا تناقض بين المعنى الاجتماعيّ للسّيادة ونظيره السّياسيّ، فالأمر ذاته وخصائص السّيادة هي نفسها سواء تعلّق الأمر بالأفراد أم بالمجتمعات أم بالدّول، لأنّه «وحده السّيد من يُمارس السّيادة التي لا شراكة فيها لأنّها غير قابلة للقسمة، وبالتّالي يكون السّيد واحدا مُتفرّدا أو لا يكون»[5]. إنّ التّمسك في السّيادة بمعاني الوحدة والإطلاقيّة والتّأكيد على أنّ السّيادة غير قابلة للقسمة، أمر يلتقي فيه الفكر العلمانيّ مع الفكر اللاّهوتيّ، فالقوّة المطلقة التي يتّصف بها الله أصبحت صفة للإنسان.
يكتمل معنى السّيادة في المجال السّياسيّ ليعبّر عن ضرب من العنف يؤكّد في كلّ مرّة شرعيّة القوّة وحقّ ممارسة النّفوذ من قبل صاحب السّيادة. في هذا السّياق تفرض السّيادة إرادتها للتّصدّي لخطر أكثر فظاعة هو التّصدّي للعنف حفاظا على متطلّبات البقاء المادّيّ للدّولة أو ما أصبح يعرف بالحفاظ على الأمن القوميّ، فـ«واحد من أهداف توجّهات الأمن القوميّ هو الدّفاع ضدّ الخوف المقترن بالإرهاب، دفاع يمرّ عبر الأدوار والضمانات التي توفّرها دولة السّيادة»[6]. عنف السّيادة مشروع وشرعيّ مُبرّر يُؤطّره القانون ليحدّ من الميل الطبيعيّ للتّعدّي والعدوان الكامن في الإنسان. ثمّة إذن ما يؤكّد في كلّ مرّة حقّ السّيادة في ممارسة القوّة، بل والبطش حفاظا على كيان الدّولة كإطار يجب حمايته والمحافظة عليه[7].
للسّيادة من القوّة ما يجعلنا ننضبط لمشيئتها احتراما واقتناعا، وخضوعنا لها يعبّر عن قدر من الرّهبة والخشية يجعلنا نستجيب لها طوعا أو كرها. السّيادة العليا، بل والمتعالية لها الحقّ في ممارسة السّلطة والنّفوذ بما يجعلها الطّرف الوحيد الذي يمتلك ما لا يقبل القسمة، وبالتّالي يحقّ للسّيّد ما لا يحقّ لغيره في كنف الشّرعيّة. السّيادة إذن تكفلها القوانين لتحمي بدورها القانون ومن ثمّة تتولّد حماية متبادلة بين السّيادة والقانون، و«كما أنّه لا وجود لقانون من دون سيادة، يمكن القول إنّ السّيادة تفترض الخوف وتنتجه، فالخوف وإن كان شرط إمكان السّيادة، فهو بالمثل قاعدة وجودها وأساس ديمومتها»[8]. يُمارس صاحب السّيادة سيادته سواء أكان ملكا أم رئيسا أم برلمانا وهو مسلّح بشرعيّة تنازل الرّعايا عن حقّهم الطّبيعيّ للعيش في دولة تضمن لهم الأمن والحماية. لكنّ نفوذ صاحب السّيادة قد يتحوّل إلى عنف وسلطته تصير تسلّطا يجعل من الدّولة السّيّدة دولة عنيفة[9] ومارقة.
تجسّد السّيادة التي بنيت على مفهوم الدّولة إرثا أرساه العقل الغربيّ منذ بداياته اليونانيّة وصولا إلى صيغته الحداثيّة. هذا العقل يعبّر عن تمركز لوغوسيّ يرى جاك دريدا ضرورة تفكيكه وتفكيك ما يترتّب عنه من استتباعات، وفي المقدّمة منها مسألة السّيادة. من وجهة نظر تفكيكيّة يتعيّن ضرب مرتكزات القول بالسّيادة أي تجاوز مقولات الأصل والهويّة والذّات وكشف تناقضاتها الدّاخليّة ومن ثمّة استحضار معاني الفرق والتّشتيت والإرجاء وتشغيلها ضدّ التّراث الغربيّ الذي يعتبره جاك دريدا تاريخا لميتافيزيقا الحضور. في تفكيك السّيادة مُراجعة لمسلّمات العقل الغربيّ، وتفكيكها «هو بلا شكّ أمر ضروريّ وجاري العمل به، وفقا لمفهوم تراث لاهوتيّ، ولم يكد يصبح علمانيّا تماما بعد»[10].
يمرّ مطلب معرفة المقصود بالسّيادة عبر تقصّي معانيها ومتابعة آثارها، ولكنّ فهمها يقتضي استكشافا لأبعادها الظّاهرة والخفيّة والتّعاطي معها بوصفها جزءا من مسار شامل واستتباع من استتباعات توجّه في الفكر والفعل حكم تاريخنا والتّاريخ السّياسيّ لوجودنا. في هذا المستوى لا مفرّ من التّعويل على تأويل السّيادة وتأويليّتها لضمان تمثّل أفضل لها ولبناء موقف منها سواء باستبقائها أم التّعديل فيها أم التّخلّي عنها. في هذا الإطار من المهمّ التّنبيه إلى سيادة تُمارس باسم الدّولة أو الأمّة تتركّز فيها السّلطة بيد قائد أو ملك تتّسم سلطته بالوحدة والإطلاقيّة. يختلف هذا الصّنف من السّيادة عن السّيادة الشّعبيّة، ولكنّ الاختلاف بينهما لا يحجب ضربا من التّداخل يبلغ حدّ التّماهي[11]، فـ«سيادة الدّولة مرتبطة أشدّ الارتباط بسيادة الشّعب الذي يؤسّسها ويضفي عليها الشّرعيّة. بهذا المعنى يشترط وجود دولة السّيادة بواجب حماية شعبها»[12].
أن تكون السّيادة خاصّية الأمّة وأن تكون الأمّة شرط إمكان السّيادة، بل شرط إمكان السّياسة ذاتها، فذلك ما يكشف عن بنية العقل السّياسيّ الغربيّ من حيث احتفائه بالسّيادة وجعلها موضوع تقديس وإجلال، بل يعمل من خلالها على تأكيد سيادته الخاصّة وسيادة عقلانيّته التي بلغت مداها في الحداثة. السّيادة كما السّلطة وكما الحكم تُمارس جميعا باسم الأمّة. وفي هذا المستوى «تقوم الأمّة بدعم مفهوم السّيادة بزعمها أنّها سابقة عليه. إنّها القاطرة المادّية التي تخترق التّاريخ، إنّها العبقريّة التي تصنع التّاريخ. ولا تلبث الأمّة أن تصبح أخيرا، شرط إمكانيّة الفعل السّياسيّ والحياة الاجتماعيّة نفسها»[13].
في التّماسك النّسيجيّ بين الأمّة والسّيادة ما يؤكّد أنّ كلّ ما يطرأ على الأمّة يجد استتباعاته البيّنة في مستوى السّيادة، وبالتّالي سيكون العصر الذّهبيّ للسّيادة هو العصر الذّهبيّ للأمّة. لقد اقترن مفهوم الأمّة أو الدّولة الأمّة أو الدّولة القوميّة بمفهوم السّيادة كعامل إثبات لحقيقة الانتماء وبناء للهويّات الحصينة. لكنّ ارتباط مصير السّيادة بالأمّة هو الذي يجعل من أيّ تحلّل في الأمّة أو انصراف عنها سيؤدّي إلى تضاؤل السّيادة. وكما كانت السّيادة تحتمي بالأمّة، ستحتمي لاحقا بالشّعب باعتباره معطى صاعدا في مجال الفعل السّياسيّ، وما طرأ على مفهوم الأمّة وأثّر في مفهوم السّيادة سيتكرّر في العلاقة بين السّيادة والشّعب. بهذا المعنى سيتّضح كيف تعبّر سيادة الأمّة وسيادة الشّعب عن مأزق مفهوم السّيادة الذي هو بالأصل مأزق الحداثة من حيث هي مسار أخلف وعده وخيّب الظنّ فيه، فمنذ ال ـ«بداية نسبت سلطة السّيادة الهشّة كحلّ لأزمة الحداثة إلى الأمّة طلبا للدّعم، ثمّ ما لبثت أن نسبت أيضا إلى الشّعب، حين تبيّن أنّ الأمّة هي الأخرى لم تكن إلاّ حلا ّهشّا ومهزوزا»[14].
ثمّة ما يمكن تسميته إيديولوجيا الأمّة، والمقصود هنا أن تتحوّل الأمّة إلى شعار تعمل من خلاله طبقة سياسيّة ما على التّحكّم في الشّعب وتحشيده وراء سلطتها العليا، إذ «شكّلت الأمّة بنظر الجماعات المسحوقة سلاحا دفاعيّا يُستخدم لحماية الجماعة ضدّ السّيطرة الخارجيّة من جهة، ورمزا للوحدة والاستقلال وسلطة الجماعة من جهة أخرى»[15]. ما يؤكّد التّظليل الإيديولوجيّ المُصاحب لمفهوم الأمّة هو الإخفاقات التي حصدتها الدّولة القوميّة بعد تحرّرها من الاستعمار. لقد كان مطلب الاستقلال مُلهبا للمشاعر، يحمل من الوعود ما يدفع الشّعب إلى التّضحية، لكنّ «انتهاء النّظم الكولونياليّة الحديثة لم يفض، بالطّبع، إلى التّمهيد، حقيقة، لعصر ينعم بحرّية غير محدودة، ولكنّه ما لبث أن تمخّض، بالأحرى عن الإذعان لأشكال جديدة من الحكم تمارس نفوذها وسلطانها على نطاق عالميّ»[16]. من الجليّ أنّ إيديولوجيا الأمّة ستؤكّد وجود إيديولوجيا السّيادة، وبالتّالي تتزايد الحاجة إلى بناء تأويليّة السّيادة.
3- أسانيد تأويل السّيادة:
لا يكفي الإمساك بتاريخ نشأة مفهوم السّيادة وظروف تطوّره للنّفاذ إلى عمق ما يطرحه من قضايا، فالسّيادة معطى بالغ التّعقيد تتداخل معانيه وتتباين المواقف منه، ويُؤثّر في قضايا السّياسة الأخرى ويتأثّر بها. نحن إزاء معضلة يكون من الوجيه التّعاطي معها طبقا لمقتضيات التّأويل، وهو ما يُفضي إلى بناء معنى السّيادة بدل استكشافه. يتعيّن البحث في العناصر المؤثّرة أو الأسانيد المعتمدة التي على أساسها نُثبّت تأويليّا هذا المعنى أو ذاك لمفهوم السّيادة، مع التّحوّط كي لا يتحوّل التّأويل إلى ضرب من سيلان المعنى يسمح بقول كلّ شيء دون أن يقول شيئا على وجه الدّقّة. في هذا المستوى، تستمّد السّيادة قيمتها وتتحدّد مكانتها بالنّظر إلى سياقات معيّنة تدفع باتّجاه هذا المعنى أو ذاك للسّيادة، فـ«في أثناء فترة التّحرّر من النّظام الكولونياليّ وبعدها، [على سبيل المثال] بدت الأمّة وكأنّها الأداة الضّروريّة للتّحديث السّياسيّ، وبالتّالي المعبر الإجباريّ الذي لا بدّ من السّير فيه للوصول إلى الحرّية وتقرير المصير»[17]. يتعلّق الأمر هنا بتأسيس السّيادة على قاعدة الأمّة، لكنّه تأسيس مؤقّت وظرفيّ سنكتشف لاحقا محدوديّته بمجرّد تهافت صلابة الأمّة، وهو ما يفتح الباب أمام تأويل مغاير للسّيادة.
تستند تأويليّة السّيادة على التّعاطي معها ليس من باب اعتبارها مجرّد مفهوم، بل إنّها في الأصل واقعة أو حدث يتحدّد معناه في الزّمان والمكان. ثمّة في هذا الصّدد ما يمكن إثارته تأويليّا بخصوص الفرق بين التّعاطي مع السّيادة على قاعدة التّصوّر المجرّد، وحقيقة السّيادة من حيث هي واقعة. واقعة السّيادة أو واقعيّتها هو الذي يُفجّر وحدة السّيادة ويشتّت هويّتها لينقلنا من السّيادة إلى السّيادات. وبالفعل «لقد استبعد التّصوّر المجرّد للسّيادة لفائدة رؤية أكثر واقعيّة ترتبط فيها السّيادة بكفاءات محدّدة، أو بأكثر دقّة ترتبط السّيادة بصيغة ممارستها»[18]. السّيادة هنا هي ما نقوم به ونصنعه بأيدينا ضمن فرادة الآن وهنا واستثنائيّة ما يُواجهنا من أحداث. بهذا المعنى لم تعد السّيادة بناء نظريّا ينسج نسقا فكريّا تنسجم فيه المقدّمات مع النّتائج ولا هي بنية صوريّة تنحبك خيوطها في ضرب من التّعالي والاستعلاء. إنّها التّعيّن في الواقع والانخراط في التّجربة وتحمّل المسؤوليّة في قرارات نُجازف باتّخاذها.
تراوح تأويليّة السّيادة بين مطلب فهمها باعتبارها معطى قائما وتفسيرها بوصفها واقعة سياسيّة، ونقدها على جهة ما ينكشف من قصور ومحدوديّة فيها. ويعمل التّأويل على كشف خلفيّات هذا التّصور أو ذاك لمفهوم السّيادة. بهذا المعنى يمكن التّأكيد على أنّ الالتقاء بمفهوم السّيادة في المكان والزّمان يعبّر عن تطلّعات طبقيّة معيّنة تجد في السّيادة تعبيرا عن ذاتها. فالسّياسة هنا هي طريقة طبقة في تأكيد هويّتها. ما ينطبق على السّياسة ينطبق على السّيادة وكلّ تصوّر للسّيادة يعبّر عن إيديولوجيا معيّنة. بهذا المعنى «جاء الانتصار السّياسي للبرجوازيّة (…) متزامنا مع استكمال مفهوم السّيادة الحديثة من خلال مفهوم السّيادة القوميّة»[19]. ثمّة مجال إذن للتّأكيد على أنّ ما نعرفه عن السّيادة هو بالأساس إرث أوروبيّ ونجاحاتها كما إخفاقاتها تتنزّل ضمن سياق تاريخيّ محدّد[20]. هذا الأمر له بالغ التّأثير على تأويليّة السّيادة التي عليها إدراك أنّ الكلّي الذي يحتمي به المفهوم هو في الحقيقة تجسيد لرؤية مخصوصة تسعى من خلالها أمّة ما لفرض سيادتها وتصوّرها للسّيادة على العالم، فـ «السّيادة الحديثة ظهرت بوصفها مفهوما ردّ الفعل الأوروبيّ والسّيطرة الأوروبيّة على الصّعيدين الدّاخلي والخارجيّ كليهما. إنّهما وجهان متكاملان لتطوّر كلّ منهما، وجه الحكم داخل أوروبا ووجه حكم أوروبا للعالم»[21].
يقتضي تأويل السّيادة واستنباط معانيها الممكنة والمحتملة، رصد العوامل المؤثّرة فيها، أي العناصر التي متى استندنا إليها تضيء جوانب في السّيادة خفيّة. في هذا المستوى يمكن استحضار المعطى الاقتصاديّ الذي كان حاكما منذ البداية بأقدار متفاوتة في مسألة السّيادة، وحاكميّته هذه تتنزّل في إطار التّقاطع بين الاقتصاد والسّياسة. في كلّ مرّة لا يستجيب نظام سياسيّ ما للرّهانات الاقتصاديّة يتمّ تغييره بنظام سياسيّ آخر يكون أكثر ملاءمة وفاعليّة، فأزمة السّياسة من أزمة الاقتصاد، والاقتصاد سياسيّ أو لا يكون. لقد حقّقت الدّولة القوميّة في ما مضى رهانات السّوق وحين استوفت كلّ إمكانيّاتها وقع تجاوزها في النّظام العالميّ الجديد بوصفها عائقا، فـ«مع تحقّق السّوق العالميّة اليوم بأكثر صيغها كمالا، تميل هذه السّوق المعولمة إلى تفكيك حدود الدّولة القوميّة. في فترة سابقة، كانت الدّول القوميّة هي الأطراف الرّئيسيّة في التّنظيم الإمبرياليّ الحديث للإنتاج والتّبادل العالميّين، غير أنّها ما لبثت أن باتت تبدو، بنظر السّوق العالميّة، وبصورة متزايدة، عقبات خالصة»[22]. تنتهي السّيادة حين تصير عاجزة عن القيام بوظائفها الاقتصاديّة وتنشأ سيادة أخرى للوفاء بما عجزت عن تحقيقه السّيادة المنقضية.
إنّ العقل الغربيّ عقل اقتصاديّ بامتياز، وأن تعبّر الحداثة عن توجّهات هذا العقل الاقتصاديّ، فإنّ تدشين عصر ما بعد الحداثة لا يُفيد تراجعا عن معقوليّة الاقتصاد التي ستتواصل ضمن إحداثيّات مغايرة. لا فكاك إذن من المعطى الاقتصاديّ ولا أمل في انتظار عصر يحقّق التّحرّر من رهانات السّوق ومتطلّبات رأس المال. من الوجيه التّأكيد على أنّ الاقتصاد هو العامل الفاعل في نقد الحداثة والتّطلّع إلى ما بعدها، فـ«ما بعد الحداثة، [ليس] في الحقيقة، إلاّ المنطق الذي يتحرّك رأس المال العالميّ له. لعلّ التّسويق أو التّرويج هو صاحب العلاقة الأوضح بنظريّات ما بعد الحداثة. بل ويمكن للمرء أن يقول: إنّ استراتيجيّات التّسويق الرّأسماليّة طالما كانت بعد حداثية، قبل وجود هذه العبارة نفسها»[23]. وفقا لهذا التّصوّر ستستمدّ السّيادة سلطتها من فاعليّة الاقتصاد، فحين «تتمّ عمليّة التّزاوج بين السّيادة ورأس المال بصورة كاملة، ويجري تحويل تسامي السّلطة تماما إلى ممارسة متسامية للسّلطة (…) [حينها] تصبح السّيادة آلة سياسيّة تفرض حكمها على المجتمع كلّه»[24].
إنّ التّحكّم الرّهيب لمنطق الاقتصاد الذي أثّر في السّيادة أيّما تأثير وحوّلها إلى سيادة السّوق، يجد تعبيريّته الأكثر وضوحا في العولمة[25] وما عبّرت عنه من تراجع للسّياسة في مواجهة الاقتصاد وبالتّالي تبعيّتها له. لقد تهاوت الحدود أمام السّلع والأفكار وأضحت الدّول مجرّد فواصل جغرافيّة، ذلك هو زمن العولمة، فـ «في المجتمع المعولم لا تختفي الدّول ولكن تنسحب من مهامها الدّوليّة التي تجاوزتها»[26]. بهذا المعنى يجب مراجعة مفهوم السّيادة في ضوء ما أفرزته العولمة، وبالفعل فقد فقدت السّيادة أساسها المتين المتمثّل في الدّولة من حيث هي سيّدة سيادة عليا وغير قابلة للقسمة. ما سيطرأ على الدّولة من تغيّرات سينعكس على معنى السّيادة التي لم تعد عليا ولا واحدة زمن العولمة.
لم يكن زمن العولمة الذي قطع الصّلة مع زمن الدّولة القوميّة وتطلّعاتها للاستقلال، معبّرا عن تحقّق تطلّعات الإنسان للحرّية والانعتاق. بمعنى مُغاير، لم تستطع العولمة تدارك واستدراك ما أخفقت فيه الحقب السّابقة، فهي امتداد لما سبقها. لقد نكثت بوعودها وتحوّلت إلى صيغة مستترة تُمارس من خلالها الهيمنة والاضطهاد، وبالفعل فقد «نجحت عمليّات العولمة المعاصرة في هدم العديد من حدود العالم الكولونياليّ. فجنبا إلى جنب مع الابتهاج العامّ بأشكال التّدفّق غير المحدود في قريتنا العالميّة الجديدة، يستطيع المرء أن يحسّ أيضا بقلق يعتمل في النّفوس حول التّواصل المتزايد، وبقدر من الحنين الماضويّ (النوستلجيا) إلى الصّحة الكولونياليّة»[27].
ثمّة مجال للقول بأنّ العولمة السّياسيّة تنهي مقولة السّيادة من خلال كشف محدوديّتها وقصورها وتناقضاتها الدّاخليّة. فالسّيادة تحمل من التّناقضات الدّاخليّة ما يفقدها ألق السّلطة وبريق النّفوذ. السّيادة بالمثل يخترقها التّعدّد ليحوّلها إلى سيادات متنافرة ومتصارعة، وهذا له انعكاساته على طبيعة الفعل السّياسيّ. وحين يخترق التّعدّد وحدة السّيادة، ستتحوّل القضيّة إلى البحث عن السّيادة الأبلغ أثرا والأشدّ تأثيرا، وهنا ستفرض إرادة السّيادة الأقوى التي تدّعي تحقيق العدل بواسطة القوّة، ولكن وكما هو الحال دائما ترتكب أبشع الجرائم باسم القضايا النّبيلة[28]. بهذا المعنى فقدت السّيادة معناها دون أن تفقد وجودها. ثمّة ما يستمرّ ويتواصل من السّيادة حتّى في زمن العولمة، فـ«من النّاحية القانونيّة، لم تعد سيادة الدّولة وحصافة الرّئيس أمرين لا يمكن المساس بهما. وبالطّبع، ستبقى مجموعة من الالتباسات لوقت طويل، وهو ما يُحتّم مضاعفة اليقظة والحذر. لا زلنا بعيدين عن التّطبيق، وعن تفعيل هذه المشاريع، لأنّ القانون الدّولي يواصل تبعيّته المفرطة للدّول ذات السّيادة الأقوى»[29].
من المهمّ التّنبيه إلى أنّ المنتظر من تأويليّة السّيادة هو القدرة على بناء موقف من السّيادة، ولمّا كان الأمر متعلّقا بالسّيادة زمن العولمة فمن باب أولى بناء موقف من العولمة ذاتها. ثمّة مجال لمقاومة العولمة والتّصدّي إليها وذلك بكشف خلفيّاتها وتعرية زيف وعودها. لم تكن العولمة خيار الشّعوب، بل هي حصيلة التّطوّر التّاريخيّ للنّظام الرّأسمالي والعقلانيّة الغربيّة بما هي ضرب من المركزيّة متعدّدة الأبعاد، فيها ما هو فكريّ وثقافيّ ومنها ما هو تقنيّ واقتصاديّ، فالعولمة أو فـ«زمن العالم اليوم (…) يروم تثبيت حال جديد، جديد بالضّرورة، وذلك بإنشاء شكل من أشكال الهيمنة التي لم يسبقها مثيل. والمقصود إذن، بل كما كان الحال دائما، هو شكل من أشكال الحرب على غير غرار»[30]. لا بدّ إذن من إدراك مخاطر العولمة والحذر تجاه ما تكرّسه من قيم، ولما كان في التّصدّي لها ضرب من مقاومة مسارات التّاريخ سينفتح مجال للتّفكير في العمل من داخلها وتوجيهها وجهة إنسانيّة، العمل على التّخفيف من وطأة العولمة واستدعاء كونيّة القيم مجدّدا في مواجهة عولمة السّوق.
4- التّأويل ومآلات السّيادة:
في إطار مراجعة دلالات السّيادة عن طريق تأويلها، يمكن تأكيد ديناميكيّة المفهوم الذي يتّخذ معاني مختلفة ومتباينة بحسب تباين السّياقات واختلافها. فالسّيادة مُتصيّرة متعدّدة تنشأ وتنمو، تتأزّم وتقاوم تنتصر وتنكسر تحارب وتصالح. هذا الطّابع المركّب للسّيادة هو الذي يؤكّد وجاهة التّعاطي معها وفق التّأويل، فنحن دائما في ريب من أمرنا بخصوص ما تعنيه السّيادة. التّأويل هو الأجدر لمعالجة معنى السّيادة لأنّه يُفيد الفهم والتّفسير والنّقد والتّأسيس والّتقريظ والمقاومة، بمعنى يفتح التّأويل كلّ الأبواب الممكنة والمحتملة لالتقاء السّيادة والنّفاذ إلى عُمق ما تطرحه.
يتعيّن مراجعة مفهوم السّيادة وتأويل ما طرأ عليها من تغيّرات ومن ثمّة رصد مآلاتها. في هذا الإطار يمكن التّنبيه إلى إمكانية فكّ الارتباط بين السّيادة وعناصرها التّكوينيّة من قبيل الدّولة على سبيل المثال، فقد سبق ومثّلت الدّولة أساس السّيادة وتمازجت معها حدّ التّماهي من خلال مقولات دولة السّيادة وسيادة الدّولة. لكنّ هذا الارتباط تفكّكت عُراه واهتزّت مكانة الدّولة لتهتزّ معها مكانة السّيادة، وبالتّالي «سيصبح من الدّغمائيّة اعتبار السّيادة خاصّية مميّزة للدّولة»[31]. وكما فقدت السّيادة ارتباطها بالدّولة، فإنّنا نلاحظ أنّها تخلّت عن أبرز خصائصها المتمثّلة في وحدتها، إذ أصبح من الممكن تقاسم السّيادة وأصبحت هناك شراكة في السّيادة. السّيادة بالأصل واحدة لكن تقاسمها يضعفها ويهدّد مصيرها. في هذا السّياق يمكن التّأكيد على أنّ «الاشتراك في السّيادة ليس سوى التّعبيرة الأمثل على أنّها قد بلغت أضعف حالاتها أو لنقل أفولها قبل حلول زمن ما بعد القوميّات»[32]. تفضي تأويليّة السّيادة من حيث هي مُصاحبة لما طرأ عليها من تغيّرات جذريّة إلى إعادة النّظر في ما بنيت عليه من شروط، وبالتّالي التّساؤل عن مصيرها في غياب شروط إمكانها التّقليديّة. وكما تفكّكت علاقة السّيادة بالدّولة وفقدت السّيادة وحدتها الصّمّاء لتصبح موضوع تقاسم وشراكة، تهتزّ بالمثل مكانتها بوصفها سلطة. أن تكون السّيادة نفوذا واقتدارا وقدرة على التّأثير، فإنّ ذلك أمر لم يعد حكرا على الفاعلين السّياسيّين. لقد تدخّلت أطراف عديدة لتوجيه الرّأي العامّ والجماهير، وفقد صاحب السّيادة القدرة على المبادرة، بل لعلّه اليوم أكثر تأثّرا بالعناصر الدّخيلة على مجال السّياسة وأصبح معنيّا بأن يقرأ حسابها في ما يتّخذه من قرارات وكأنّها شريكته في السّيادة[33].
من المفيد في تأويليّة السّيادة التّنبّه إلى المفارقات المصاحبة لها، وهي التي حوّلتها بالفعل إلى لعبة سلطة تُخاض من أجلها الحروب، فنحن نُقاوم باسم السّيادة مُحتلاّ يعبّر بدوره عن تصوّر خاص للسّيادة. يتعلّق الأمر إذن بسيادة في مواجهة سيادة أخرى، يتعلّق بصراع سيادات أو سيادات متصارعة. لكن ما تنتهي إليه مقاومتنا باسم السّيادة ينتهي به الأمر إلى تكريس ممارسات لا تقلّ خطورة عمّا مارسته سيادة المحتلّ. تناضل السّيادة من أجل الحرّية لتنتهكها في ما بعد، أو هي تقاوم عدوّا لترتكب من الفظاعات ما ارتكب وأكثر، وبالتّالي «يبقى مفهوم أيّة سيادة قوميّة تحرّريّة بالذّات غامضا وضبابيّا إن لم يكن متناقضا كلّيا. ففي حين تسعى هذه القوميّة إلى تحرير الجمهور من التّحكّم الأجنبيّ، تبادر في الوقت نفسه إلى إقامة بنى تحكّم وسيطرة داخليّة لا تكون أقلّ قسوة وشراسة»[34]. في مواجهة هذه المفارقات وانقلاب الأدوار، وحين يزداد مفهوم السّيادة غموضا تزداد معه الحاجة إلى التّأويل.
تضعنا تأويليّة السّيادة في مواجهة واحد من احتمالين: احتمال ينطلق من مأزق السّيادة وما واجهته من صعوبات وقصور في الوفاء بمتطّلباتها، ليعلن في طمأنينة نهايتها وأفول عصرها. هذا التّوجّه قائم في الفلسفة السّياسيّة وله من الأنصار ما يجعل من السّيادة مجرّد أرشيف تحكمه زمنيّة الذّاكرة وقوانينها. أمّا الاحتمال الثّاني فيؤكّد ديمومة السّيادة واستمراريّة الحاجة إليها ضمن صيغ مُعدّلة تتلاءم مع فرادة الفعل السّياسيّ الآن وهنا. يبدو الاحتمال الثّاني أكثر استجابة لانتظاراتنا من تأويل السّيادة، فنحن نتعاطى معها لنتعايش مع تاريخنا بعد نقده وتمحيصه بعيدا عن عدميّة النّفي والإلغاء. تأويليّة من هذا القبيل ستكون بمثابة الإعلان عن بداية عصر سياسيّ جديد، وهو عصر تتّخذ فيه السّيادة أبعادا مغايرة وتوجد على خلاف ما وجدت عليه سابقا فـ «التّشخيص الوحيد الذي يعدّ بالفعل متينا هو الذي يؤكّد انعدام وجود سيادة تكون مطلقة ضمن تنوّع الصّيغ»[35].
يواجه تأكيد نهاية السّيادة وذهاب ريحها بصعوبة التّعاطي مع احتمالات غيابها، وفي هذا المستوى يكون تأويل السّيادة بمعنى نقدها ليتحوّل السّؤال حول مآلات نقدها، فمن جهة «يتعلّق نقد السّيادة في مستوى أدنى بوجودها وأدوارها، وينصبّ هذا النّقد رأسا على قدرها المحتوم المتمثّل في تحلّلها واختفائها»[36]. لكن في الجهة المقابلة قد يكفل النّقد ديمومة السّيادة ويمدّ من زمنها وإن بصيغ مغايرة من الدّيمومة والاستمراريّة، فإلغاء تصوّر ما للسّيادة لا يعني إلغاء السّيادة ذاتها. السّيادة ظاهرة تاريخيّة تصطبغ بصبغة السّياق الذي أوجدها، وما كان أساسا للسّيادة يتحوّل إلى معول هدمها. لم يعد مجديا إذن البحث في المعنى الأصليّ ولا طائل من طلب الهويّة، فحقيقة السّياسة يحكمها الفرق، حيث من اليسير ملاحظة أنّ «تشكّل ظواهر زوال الكولونياليّة وتراجع نفوذ الأمّة-الدّولة [على سبيل المثال] مؤشّرات دالّة على حدوث انتقال عامّ من نموذج السّيادة الحديثة إلى نموذج السّيادة الإمبراطوريّة»[37].
يمكن الاطمئنان إلى كون تأويل السّيادة يعمل وفقا لمنطق القطيعة والتّواصل، قطيعة مع المعنى الذي استنزفت دلالته واستوفى كلّ إمكانيّات الإضافة الفاعلة، وتواصل مع المفهوم الذي له القدرة على مقاومة التّآكل والفناء ليُبعث للحياة مجدّدا. تأويليّة السّيادة هي التي تمكّن من الإبقاء عليها على الرّغم من نقدها، بل ترى في النّقد مسلكا تجدّد من خلاله السّيادة شبابها. نقد السّيادة ونقد مرتكزاتها وفضح الإيديولوجيا العاملة خلفها هو الذي أتاح فرصة انبعاث السّيادة من جديد.
يُساهم كشف العامل اللاّهوتيّ الذي من رحمه جاءت السّيادة، في تعرية التّمركز اللّوغوسيّ للعقل الغربيّ الذي أسّس السّيادة باكرا وأعلن فشل الحداثة التي بلغت السّيادة أوجّها في عصرها. كلّ ذلك ساهم في استبقاء السّيادة ضمن مقتضيات الإمبراطوريّة الجديدة باعتبارها نتاجا حتميّا لمسارات تقدّم التّاريخ، فـ«السّيادة ارتدت ثوبا جديدا، مؤلّفا من سلسلة من الخيوط القوميّة وفوق القوميّة الموحّدة في سياق منطق الحكم الواحد. وهذا الثّوب العالميّ الجديد للسّيادة هو الذي نطلق عليه اسم الإمبراطوريّة الجديدة»[38].
ما يمكن أن يُفضي إليه التّأويل هو المساعدة في تبنّي موقف تجاه السّيادة، وبالتّالي يتحوّل قرار التّأويل إلى آليّة تساعد على اتّخاذ القرار، وهذا ما يكشف البعد العمليّ في التّأويل. ما هو عمليّ في التّأويل يعبّر عن أبعاد إيتيقيّة، فالتّأويل قرار نتّخذه في مواجهة وضع يجب مواجهته، وهو بالمثل التزام يتطلّب مجازفة وتضحية ومخاطرة للتّعاطي مع قضيّة متأكّدة يكون الحياد تجاهها ضربا من الانسحاب السّلبي. التّأويل بالمثل بحث في بدائل ترتقي بوجودنا الفرديّ والجماعيّ مقاما أرفع. يتعيّن إذن الاحتكام إلى إيتيقا التّأويل والتّمسّك بقيم ومعان تكون أساس موقفنا من السّيادة، لأجل ذلك «يتمّ (…) تأكيد مبدأ سيادة جديد، يكون مختلفا عن نظيره الأوروبيّ، يتمّ جعل الحريّة سيّدة، ويجري تعريف السّيادة على أنّها ديمقراطيّة جذريّة في إطار عقليّة توسّع مفتوحة ومستمرّة»[39].
ما يمكن المجازفة بتسميّته إيتيقا التّأويل هو الذي يُحصّن نظرتنا للسّيادة من العدميّة والدّغمائيّة في آن، من عدميّة النّقد الجذريّ الذي لا يعرف للتّأسيس سبيلا، ومن دغمائيّة التّسليم المريح بما هو قائم والتّقبل الكسول لما هو سائد. هذه الإيتيقا تضبط للتّأويل شروطا لتجعل منه مطلبا نظريّا وعمليّا في آن، لذلك سيشغّل التّأويل لمقاومة أوهامنا حول السّيادة وكشف اللاّ مرئيّ المتحكّم فيها وبالتّالي إخراجها من مجال البديهيّ والمسلّم به إلى مقام المشكل الفلسفيّ العميق والسّؤال الغليظ حول وجودنا ومصيرنا. لكن في ذات الآن يجب تأويل السّيادة ضمن مطلب إنسانيّ يستفيد من الإبقاء عليها بما يُساعد في بناء حياة سياسيّة سليمة، فالنّقد لا معنى له إن كان مجرّد احتجاج على ما هو قائم دون أن تكون له القدرة أو الجرأة على إيجاد الحلول وصياغة البدائل، لأجل ذلك «لا بدّ من مواجهة العولمة بعولمة مضادّة، والإمبراطوريّة بإمبراطوريّة مضادّة»[40]، وذلك هو المعنى السّياسيّ للالتزام والمقاومة.
5- الخاتمة:
يخترق مفهوم السّيادة تاريخ السّياسة في مستوى النّظريّة كما الممارسة، بل لعلّه المفهوم الذي يختزل معجميّة القول والفعل السّياسيّين. لكن عراقة المفهوم وأصالته لم تكن بمنأى عن غموض في دلالته وتحجّب في معناه إلى درجة تحوّل معها كلّ قول وكلّ فعل في السّياسة إلى معنيّ بإعادة طرح سؤال السّيادة.
للسّيادة خلفيّة دينيّة تنزّلها منزلة المقدّس، وخلفيّة اجتماعيّة تجعلها في مقابل العبوديّة، وخلفيّة اقتصاديّة تؤطّر السّيادة ضمن قوانين السّوق ومقتضيات التّسويق. هذه الخلفيّات كانت حاضرة في المستوى السّياسيّ ليغتني بها ويُغني من خلالها معنى السّيادة وأبعادها. في هذا المستوى تتأكّد الحاجة إلى بناء تأويليّة للسّيادة تحقّق من الرّهانات ما يستجيب لمطلب تفسيرها وفهمها وما يكفل نقدها ومن ثمّة رسم الوجهة التي يتعيّن السّير فيها لتحقيق ما هو إنسانيّ في السّياسة وفي السّيادة على حدّ سواء.
أن تكون السّيادة سلطة، فإنّ السّلطة «ليست (…) شيئا يتسيّد علينا، بل هي شيء نصنعه بأيدينا (…) فتحرير البشريّة من جميع أشكال السّلطة المتساميّة لا يقوم إلاّ على قدرة الجمهور على بناء مؤسّسات السّياسة الخاصّة وتأسيس المجتمع»[41]. السّيادة إذن منطلق السّلطة ومآلها، بل هي السّلطة ذاتها، وكما كنّا على غير معرفة بالسّلطة بفعل انتشارها وتوزّعها وعملها في كلّ الاتجاهات، فإنّنا اليوم أكثر جهلا بالسّيادة من حيث عجزنا على الإمساك بخيوطها ومحدودية قدرتنا على بناء موقف واضح منها. ومع ذلك يتعيّن التّأكيد على أنّ قيمة الفعل السّياسيّ تراهن على ما يعبّر عن إرادة الأفراد والمجتمعات والدّول والشّعوب، وما ينبثق عن هذه الإرادات من قدرة وتصميم على تقرير المصير. في هذا السّياق يمكن للسّيادة أن تجسّد الفضاء الذي تُحقّق فيه الإرادات المختلفة أهدافها، شريطة الوفاء بمقتضيات الفعل السّياسيّ النّاجع في كنف سيادة عقلانيّة يكون فيها القول الفصل للإنسانيّ في الإنسان.
ما يحقّق تطّلعات الإنسان في السّياسة وما يعبّر عن إرادته الحرّة والمستقلة، هو ضمان وضع إنسانيّ أفضل في كنف نظام تحكمه القوانين والمؤسّسات ويحتكم إلى سلطة سياديّة غير مخاتلة ولا متآمرة. تتحقّق هذه التّطلّعات بمراجعة جريئة لتاريخنا السّياسيّ والاستفادة من مراكمة التّجربة وتطوير الخبرة. هذه الآمال تعبّر عن نفسها من خلال المضيّ قدر الإمكان في مسار تحقيق قيم الحرّية والعدالة والمساواة والكرامة. تتقاطع هذه القيم لتلتقي في الدّيمقراطيّة التي على علاّتها تظلّ النّظام السّياسيّ الأقدر على حمل هذه القيم. ثمّة إذن مجال لتأويل السّيادة في اتّجاه استكشاف علاقتها بالدّيمقراطيّة، و«كما هو الحال دائما يكون مبدأ الدّيمقراطيّة والسّيادة متعارضين ولكنّهما في الوقت نفسه مترابطان»[42].
على قاعدة التّأويل هذه لا شيء في الدّيمقراطيّة يتعارض مع السّيادة، بل يوجد ضرب من التّماثل بين التّاريخ السّياسيّ للمفهومين يصحّ معه القول بالتّماثل بين تأويليّة السّيادة وتأويليّة الدّيمقراطيّة. يتحوّل التّأويل هنا إلى آداة فاعلة وناجعة للتّعبير عن الإنسانيّ في الإنسان، وذلك من خلال التّمسّك بمطلب كونيّة القيم في مواجهة عولمة الاقتصاد. لقد تغيّر مفهوم السّيادة كما تغيّر مفهوم الدّيمقراطيّة، فالمفهومان يعبران الحدود معا وبالطّريقة نفسها، و«الدّيمقراطيّة الكونيّة (…) تعمل في ما وراء مفهوميْ الدّولة -الأمّة والمواطنة، إنّها ديمقراطيّة تستدعي سيادة كونيّة تفترض سلطة أرفع من سلطة الدّولة»[43].
قائمة المصادر والمراجع:
باللّغة العربيّة:
- إريك هوبزباوم، العولمة والدّيمقراطيّة والإرهاب، ترجمة أكرم حمدان ونزهت طيّب، ط1، الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 2009.
- جاك دريدا، أطياف ماركس، ترجمة: منذر عيّاشي، مركز الإنماء الحضاريّ، حلب- سوريّة، 2003.
- جاك دريدا، «الصّفح في مسيرة قرن»، حوار مع ميشيل فيفيوركا، ترجمة: حسن العمراني، ضمن، المصالحة والتّسامح وسياسات الذّاكرة، ط1، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء- المغرب، 2005.
- جاك دريدا، «وكأنّ نهاية العمل كانت في أصل العالم»، ترجمة: أنور مغيث ومنى طلبة، ضمن، الكرمل، عدد: 65، رام الله- فلسطين، 2000.
- ميشيل فوكو، يجب الدّفاع عن المجتمع، ترجمة: الزّواوي بغوره، ط1، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت- لبنان، 2003..
- مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، الإمبراطوريّة: إمبراطوريّة العولمة الجديدة، ط1، ترجمة: فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، المملكة العربيّة السّعوديّة، 2002.
باللّغة الأجنبيّة:
- Eric Maulin, «L’irréductibilité de la souveraineté territoriale», dans, L’Europe en formation, No 368, 2013.
- Félicien Lemaire, «Propos sur la notion de souveraineté partagée», dans, Revue française de droit constitutionnel, No 92, 2012.
- Jacques Derrida, Voyous: Deux essais sur la raison, Galilée, Paris, 2013.
- Jacques Derrida, Séminaire: La bête et le souverain, vol. II, (2002-2003), Galilé, Paris, 2010.
- Jacques Derrida, Séminaire: La bête et le souverain, vol. I, (2001-2002), Galilé, Paris, 2008.
[1]– Eric Maulin, «L’irréductibilité de la souveraineté territoriale», dans, L’Europe en formation, No 368, 2013, p12.
[2]– Jacques Derrida, Voyous: Deux essais sur la raison, Galilée, Paris, 2013, p215.
[3]– مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة، ط1، ترجمة: فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، المملكة العربيّة السّعوديّة، 2002، ص219.
[4]-Félicien Lemaire, «Propos sur la notion de souveraineté partagée», dans, Revue française de droit constitutionnel, No 92, 2012, p837.
[5]– Jacques Derrida, Séminaire: La bête et le souverain, vol. II, (2002-2003), Galilé, Paris, 2010, p30.
[6]– Eric Maulin, «L’irréductibilité de la souveraineté territoriale», op. cit., p19.
[7]– مع ذلك يجب التّنبيه إلى أهمّية مقاومة هذا العنف الظّاهر والخفيّ الذي يجتاح البشر في مختلف المواقع. يتعيّن التّصدّي لما يقترن بالسّيادة من ممارسة، وحينها يكون الموقف منها موقفا من آثارها واستتباعاتها على الأفراد والجماعات، ذلك هو المقصود من القول: «يجب توجيه البحث في تحليل السّلطة نحو الهيمنة وليس نحو السّيادة، إلى العوامل المادّية وإلى أشكال الإخضاع وإلى استعمال الأنساق المحلّية للإخضاع، وإلى جاهزيّات المعرفة». (انظر: ميشيل فوكو، يجب الدّفاع عن المجتمع، ترجمة: الزّواوي بغوره، ط1، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت- لبنان، 2003، ص58).
[8]– Jacques Derrida, Séminaire: La bête et le souverain, vol. I, (2001-2002), Galilé, Paris, 2008, p68.
[9]– تبرّر السّيادة لنفسها حقّ استخدام العنف بما هو ضرورة تقتضيها الحياة السّياسيّة ليكون العنف شرعيّا ومشروعا، لكنّ الممارسة الفعليّة لعنف السّيادة تكشف عن ميل تلقائي للهيمنة والتّعدّي وأنّ العنف يمارس للتّعبير عن قوّة القويّ وهو الآداة الفعّالة لإثبات ما تستطيع السّيادة فعله. هذا هو الأمر الذي يفسّر فتك النّظم الكولونياليّة بالشّعوب التي استعمرتها، حيث مارست العنف في ضرب من السّاديّة، فـ«الذّات الأوروبيّة [مثلا] بحاجة إلى العنف، وإلى مجابهة آخرها لتحسّ بقوّتها وتحافظ عليها، ولتعيد صناعة نفسها باستمرار. ليست حالة الحرب المعمّمة التي تكون، على الدّوام، متلازمة مع أشكال التّمثيل الكولونياليّ مصادفة، أو غير مرغوبة. العنف هو الآساس الضّروريّ للكولونياليّة نفسها». (انظر: هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص200).
[10]– جاك دريدا، «وكأنّ نهاية العمل كانت في أصل العالم»، ترجمة: أنور مغيث ومنى طلبة، ضمن، الكرمل، عدد: 65، رام الله- فلسطين، 2000، ص153.
[11]– يتنزّل التّمييز بين سيادة الأمّة وسيادة الشّعب في رؤيتنا لطبيعة الشّعب، فحين يكون هذا الأخير قاصرا محدود الذّكاء والموهبة يكون في حاجة إلى سيادة تأخذ بيده وتحقّق مصالحه التي لم يرتق بها الوعي لإدراكها. أمّا الشّعب الذي بلغ من النّضج ما يؤهّله إلى أن يحكم نفسه بنفسه سيكون جديرا بالسّيادة، لأجل ذلك «يقوم الشّعب بتوفير كتلة واحدة من الإرادة والفعل تكون مستقلّة عن الإرادات والأفعال المتباينة لدى الجمهور، بل ومتناقضة معه في الغالب. لا بدّ لكلّ أمّة من أن تُحوّل الجمهور إلى شعب». (انظر: هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص164).
[12]– Eric Maulin, «L’irréductibilité de la souveraineté territoriale», op. cit., p17.
[13]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص161.
[14]-المرجع نفسه، ص162.
[15]– المرجع نفسه، ص205.
[16]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص208.
[17]– المرجع نفسه، ص205.
[18] -Félicien Lemaire, «Propos sur la notion de souveraineté partagée», op. cit., p840.
[19]– هاردت ونيغري، الإمبراطورية، مرجع سابق، ص154.
[20]– يتأكّد هذا الأمر تاريخيّا وسياسيّا، بل يصل الاعتراف بالسّبق الأوروبيّ حدّ الدّعوة إلى الاقتداء بهذا النّموذج ومدح منجزاته مدحا يصل إلى درجة البحث في مزايا الاستعمار بوصفه أحد تجلّيات الحداثة، وبالفعل فـ«قد ساهم التّقديم الأنتروبولوجيّ للآخرين غير الأوروبيّين في إطار النّظريّة التّطوريّة للمدنيّات أو الحضارات في تأكيد وتصويب المكانة البارزة للأوروبيّين وصولا إلى إضفاء الصّفة الشّرعيّة على المشروع الكولونياليّ بمجمله». (انظر: المرجع نفسه، ص196).
[21]– المرجع نفسه، ص121.
[22]– المرجع نفسه، ص230.
[23]– هاردت ونيغري، الإمبراطورية، مرجع سابق، ص232.
[24]– المرجع نفسه، ص143.
[25]– من المهمّ التّأكيد على أنّ العولمة لا تفيد معنى واحدا، ولا هي قطعيّة الدّلالة بما يكفي لتفسيرها. فـ«العولمة ليست شيئا واحدا، وجملة السّيرورات الكثيرة التي نطلق عليها اسم العولمة ليست موحّدة أو أحاديّة الصّدى، وبرأينا، فإنّ مهمّتنا السّياسيّة لا تتمثّل بمجرّد مقاومة هذه السّيرورات، بل بالتّعرّف إليها، وإعادة توجيهها نحو غايات جديدة». (انظر: م. ن، ص17).
[26] -Eric Maulin, «L’irréductibilité de la souveraineté territoriale», op. cit., p16.
[27]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص210.
[28]– تعتبر السّياسة الأمريكيّة في العالم تجسيدا لمنطق القوّة العظمى، فهي تُحمّل نفسها مسؤوليّة المحافظة على النّظام العالميّ الجديد، وقد خاضت من أجل هذا الدّور حروبا عديدة وسلّطت العقوبات على الدّول التي ترى فيها تهديدا للمساس بهيمنتها، وهي تفعل كلّ ذلك في ضرب من الاحترام الشّكليّ أو الظّاهري للقوانين الدّوليّة، بل تستخدم مؤسّسات المجتمع الدّوليّ لتحقيق مآربها، ولا ترى غضاضة في احتقار تلك المؤسّسات إن لم تكن في خدمتها. لقد «جرى اتّهام العراق بانتهاك القانون الدّوليّ، فأصبحت محاكمته ومعاقبته واجبتين. لعلّ أهمّية حرب الخليج تكمن في حقيقة أنّها قدّمت الولايات المتّحدة بوصفها القوّة الوحيدة القادرة على إدارة العدالة الدّوليّة». (انظر: هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص269).
[29]– جاك دريدا، «الصّفح في مسيرة قرن»، حوار مع ميشيل فيفيوركا، ترجمة: حسن العمراني، ضمن، المصالحة والتّسامح وسياسات الذّاكرة، ط1، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء- المغرب، 2005، ص36.
[30]– جاك دريدا، أطياف ماركس، ترجمة: منذر عيّاشي، مركز الإنماء الحضاريّ، حلب- سوريّة، 2003، ص102.
[31] -Félicien Lemaire, «Propos sur la notion de souveraineté partagée», op. cit., p823.
[32]– Ibid., P.850.
[33]– يمكن التّنبيه في هذا الإطار إلى الدّور المتزايد لوسائل الإعلام وشبكات التّواصل التي أصبح لها قصب السّبق في التّفاعل مع القضايا السّياسيّة، بل أصبحت لها القدرة على اصطناع هذه القضايا أو تغييبها والتّلاعب بها بحسب استراتيجيّات محدّدة تسمّى أحيانا خطّ التّحرير. أصبحت الصّورة كما الكلمة سلاحا له من التّأثير ما من أجله تشنّ الحروب أو تخمد نيرانها، فـ«انتشار جهاز التّلفاز [مثلا] جعل الأعمال الأكثر تأثيرا في السّياسة ليست بيد صنّاع القرار بل بيد وسائل الإعلام ذات التّأثير الأقوى، وعليه فقد وضعت مثل هذه الأعمال حدّا للوجود العسكريّ الرّسميّ للولايات المتّحدة في لبنان في الثّمانينات، وفي الصّومال في التّسعينات». (انظر: إريك هوبزباوم، العولمة والدّيمقراطيّة والإرهاب، ترجمة أكرم حمدان ونزهت طيّب، ط1، الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 2009، ص112).
[34]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص206.
[35] -Félicien Lemaire, «Propos sur la notion de souveraineté partagée», op. cit., p848.
[36] -Eric Maulin, «L’irréductibilité de la souveraineté territoriale», op. cit., p13-14.
[37]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص212.
[38]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص12.
[39]– المرجع نفسه، ص254.
[40]– المرجع نفسه، ص306.
[41]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص248.
[42]– Jacques Derrida, Voyous, op. cit., p143.
[43]– هاردت ونيغري، الإمبراطوريّة، مرجع سابق، ص145.