ملخّص:
تهدف هذه الورقة العلميّة إلى دراسة تأثير التّلقّي والتّأويل في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر وإلى محاولة تفكيك العلاقة بينهما انطلاقا ممّا يحدثه المتخيّل من وهْم التّلقّي الّذي يؤدّي إلى مأزق في التّأويل، ومن هنا نهتمّ في هذه المحاولة البحثيّة بمسألة سياسيّة، تدور في مجملها حول تحوّلات الفكر السّياسيّ العربيّ داخل مسار استقلال الدّول العربيّة وضمن سياق تشكّل ملامح الدّولة الوطنيّة بداية من فعل التّلقّي المتأتّي من الغرب الأوروبيّ، والّذي صار رافدا ضخّمته إيديولوجيا الهيمنة الاقتصاديّة والسّياسيّة.
الكلمات المفاتيح: المتخيّل- التّأويل- التّلقّي- الوهْم- الإيديولوجيا – أزمة الدّولة الوطنيّة.
Abstract:
This paper aims to examine the influence of interpretation in contemporary Arab political thought and tries to dismantle the relationship between them based on the imagined illusion of receiving leads to a stalemate in interpretation. Furthermore, this research attempt is concerned with a political issue, all of which revolves around the transformations of Arab political thought within the context of the independence of Arab countries and the beginning of the features of the national state.
Keywords: Imagined- Interpreted -Received- Illusory- Ideology- National State Crisis.
1- مقدّمة:
يبدو أنّ التّأويل يحتلّ مكانة في العلوم الاجتماعية والإنسانيّة وهذا ما يتيح إمكانيّة انفتاحه على عديد المجالات الأدبيّة والثّقافيّة والفنّيّة وحتّى السّياسية، وبناء على ما ذكرنا ارتأينا أن يكون مدار اهتمامنا منصبّا على مفاهيم لها صلة برهان فكريّ سياسيّ داخل المجال السّياسيّ لدولة الاستقلال في التّاريخ المعاصر.
لا شكّ في أنّ فعليْ التّلقّي والتّأويل في المجال السّياسيّ تربطهما علاقة مغرقة في الإيديولوجيا والّتي تتجاوز أن تكون مجرّد أفكار من جهة، ولكونها تمتلك وجودا ماديّا يجعلها تأثّر في وعي الأفراد وتساهم إلى حدّ كبير كذلك في نحت هويّاتهم[1] من جهة أخرى، ومن خلال ما تحمله هذه الإيديولوجيا من بعد تأثيريّ في المحيط الاجتماعي، نجد أنّ لها ارتباطا كبيرا بفعل التّلقّي في الفكر السّياسيّ العربيّ الّذي أنتج لنا نمطا من السّلطة السّياسيّة أدّى إلى تبنّي لحظة تأسيسيّة قامت في مجملها على تمثّلات إيديولوجيّة مختلفة لصورة الزّعيم البطل، بوصفها صورة أخذت مكانة في النّسق الاجتماعيّ والثّقافيّ منذ نشأة دولة الاستقلال.
والثّابت أنّ تشكّل هذا النّسق المعرفيّ بالأساس قد كان ضمن دائرة المتخيّل الجمعيّ الّذي تمّ تلقّيه عبر أجيال متلاحقة ضمن خطب سياسيّة أو حكايات أسطوريّة، ولقاء هذه الوسائط تعزّزت عناصر تأويليّة تخدم الخطاب السّياسيّ وتعطي الحكم مشروعيّة وتستهدف في الآن ذاته كلّ التّصوّرات المخالفة لسلطة الدّولة الحديثة المستوردة، وبناء على ما ذكرنا، بوسعنا أن نطرح بعض الإشكاليّات من قبيل:
كيف نفهم أنّ تشكّل الدّولة الوطنيّة جاء وفق واقع سياسيّ جديد ساهمت فيه سياقات داخليّة وخارجيّة؟ وهل بإمكاننا أن نفهم أنّ هذه السّياقات كانت تدور داخل إفراط في التّلقّي من حضارة غربيّة، وكذلك ضمن إطار تفاعليّ مع مادّة تأويليّة تسهم في استيعاب تمثّلات حول الدّولة المستقلّة والزّعيم الوطنيّ في سياق تبنّي معارف تنهل من المتخيّل؟
وهل يمكن أن تكون السّياقات التّاريخيّة المذكورة مجرّد عيّنات من الواقع تمكّننا من إدراك الأسباب الخفيّة لتفكّك الدّولة الوطنيّة، ومعرفة أسباب فشل مشروعها السّياسيّ مسبقا؟
2- في جدليّة العلاقة بين المتخيّل والتّلقّي والتّأويل:
يتنزّل هذا البحث في مدار حضاريّ تتنازعه عديد الدّراسات حول علاقة الإنسان بالمتخيّل، ومدى تأثيره في المجال السّياسيّ داخل الفكر العربيّ المعاصر بوصفه -المتخيّل- مرجعا رمزيّا من مراجع التّلقّي والتّأويل في هذا النّطاق المعرفيّ، فالمتخيّل “يعمل بوصفه مكوَّنا ومكوِّنا في الوقت ذاته، فهو يتكوّن من ثقافة ما بفعل ظروف وسياقات مختلفة، كما أنّه يُسهم في تكوين الهويّة الخاصّة بهذه الثّقافة، ويعمل بوصفه محفّزا ودافعا على الفعل في تلك الظّروف والسّياقات. وهو لذلك يمثّل منطقة تبادل وتفاعل دائمين بين المكوّنات التّمثيليّة الدّاخلية، والمحرّكات أو المرجعيّات الخارجيّة”[2].
وانطلاقا من هذا المستوى تصبح “دراسة مرجعيّات المتخيّل هي بحث في الخلفيّات الّتي يستند عليها، وهي كذلك بحث في المحرّكات الّتي يتأسّس عليها، والمنطلقات “القَبَليّة” الّتي سمحت له بالظّهور في ثقافة معيّنة وفي فترة تاريخيّة محدّدة”[3]، وعملا بهذا التّصوّر تنكشف العلاقة بين المتخيّل الّذي يستند على الخلفيّات الفكريّة والعقديّة والعقائديّة لمجتمع ما، والتّأويل بوصفه يهتمّ بدراسة النّسق الثّقافيّ وتفسير أبعاده الاجتماعيّة والسّياسيّة. ولا يخفى علينا أنّ فعل “التّلقّي الّذي يحمل معنى مزدوجا يشمل الاستقبال (أو التّملّك) والتّبادل معا”[4] يمثّل لحظة من لحظات التّقبّل وإدراك ما يُنتجه التّأويل من معنى.
ونشير كذلك في هذا السّياق إلى أنّ مفهوم التّأويل تربطه علاقة متينة بمفهومي التّلقّي والعلامة، الأمر الّذي يدفعنا إلى ضبط شبكة هذه المفاهيم لكونها لا تكتمل على الصّورة الأسلم إلاّ متى وضعناها في سياق نسقيّ مداره الرّمز. ومن المعلوم لدينا أنّ الخطاب الدّينيّ يعطينا مثالا للتّعبير الرّمزي، ونتبيّن ذلك من قوله تعالى: “قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ”[5]، ومن مخرجات هذا القول أنّ تأويل الكلام هو وليد علامة رمزيّة أو حتّى إشارة أو حركة، وهو ما “يقذف بالعلامة من موقعها التّعيينيّ المباشر، إلى عالم جديد من الدّلالات؛ وهذه الدّلالات ليست معطاة بطريقة مباشرة من خلال ما يبدو من ظاهر العلامة”[6].
ومهما تعرّجت الدّلالات في اتّجاه تحقيق الاعتراف بمعانيها، فإنّ العمليّة التّأويليّة لا يمكن أن تكتفي بدلالة واحدة. ومن هنا يغدو معنى الأشياء في هذه الحال مجرّد محاولة تفسيريّة تُبنى على أساس فرضيّة تأويليّة تحمل مقولات في ذهن المتلقّي لتلك الرّموز، وهذه الرّموز أو الإيماءات تُنتَجُ معانيها انطلاقا من سيرورة تأويليّة مخصوصة.
ويكشف لنا فعْلاَ التّلقّي والتّأويل عن قيمتهما في مسار تتبّع الدّلالات ومحاولة استخلاص معانيها والّتي مصدرها خزّان المتخيّل بوصفه ينهل من أنساق معرفيّة متعدّدة. ولا يمكننا أن نتخلّى عن المخيال[7] لفهم ما يأتي به التّلقّي والتّأويل من دلالات ومعان في مجمل اتّجاهاته الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة.
ولأنّ المتخيّل مهما تعدّدت معانيه -المخيال أو المخيّلة أو التّخييل- يبقى المرجع الّذي ينتج تمثّلات تتفاعل داخله التّجارب الإنسانيّة إلى الحدّ الّذي تصير فيه تلك التّمثّلات عبارة عن مجموعة من القيم الّتي تحمل مقولات تساعد في ترسيخها سيرورة تأويليّة تفيض بمعان مختلفة الدّلالات للأشياء داخل العالم الّذي نعيشه.
ويتراءى لنا التّلقّي أيضا في علاقة جدليّة بفعل التّأويل باعتبار أنّ المتلقّي داخله يمثّل المؤوّل الّذي يحقّق آفاقا كبيرة تنهل من معارف متنوّعة، وكثيرا ما تستند هذه الحقول المعارفيّة إلى مجموعة من القيم ضمن صور مرئيّة وأخرى لا مرئيّة، وهي في الحقيقة عمليّة تخييليّة لا تخرج عن حدود علم الصّورة[8] الّتي تخضع للتّأويل بمعان أو دلالات قد توصف بعلامات لغويّة أو برموز مطابقة للواقع، وقد تخرج أحيانا بالتّأويل إلى مدار التّحريف أو التّشويه.
وبالتّوازي مع ما سبق ذكره يصبح فعل التّلقّي منشدّا في جزء منه إلى التّخييل، “ولكن هذا المتخيّل -الّذي لا يعدو أن يكون تأويلا لعلامات الواقع- ليس غير تأويل مجازيّ، يخرج في النّهاية حدّيّا على صورة مقبولة في الواقع أو مفترضة القبول”[9].
3- في العناصر المؤسّسة للتّلقّي والتّأويل في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر:
انتهى استعراضنا بإيجاز في بداية هذه الورقة العلميّة إلى نتيجة مفادها أنّ فعل التّأويل لا ينفصل عن مصادر ثقافيّة وأنساق معرفيّة تنشط داخل المتخيّل، ليستند إليها المتلقّي في بناء تمثّلات مختلفة قصد تفسير الأشياء والظّواهر.
وسوف نعمل في ذات السّياق على البحث من داخل الفكر الإسلاميّ المعاصر بجميع اتّجاهاته السّياسيّة والإيديولوجيّة عن كلّ ما يوحي إلى استخدام خزّان المتخيّل داخل مدار سياسيّ بوصفه انفتاحا على فلسفة التّلقّي والتّأويل، ونحاول في الآن ذاته أن نفتح آفاق البحث على تقصّي تجلّيات هذا التّلقّي الّذي أخذ دور المؤسّس النّظريّ لأشكال الحياة السّياسيّة وأسهم في تطوير المجال السّياسيّ في الوطن العربيّ تحديدا التّاريخ المعاصر.
استلزم منّا هذا البحث استبعاد موضوع التّلقّي والتّأويل من سياقهما الأدبيّ في محاولة البحث عن مدى مطابقتهما لرهان سياسيّ نسعى من خلاله إلى إيجاد ملامح نظريّة تختصّ بمكوّنات الفعل السّياسيّ نفسه.
وانطلاقا من هذا المقام نتبيّن في إطار البحث عن المرجعيّات المؤسّسة للفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر، أنّ الملامح المذكورة هي مرجعيّات قد استفادت من سيرورة تأويليّة تمّ اعتمادها عبر طريق التّلقّي تصريحا أو تلميحا في الخطاب السّياسيّ الّذي يفرض على المتلقّي أسرا إيديولوجيّا بوصفه فنّا خطابيّا يحمل دلائل ونتائج، فـالإنسان “يستطيع بواسطة الكلمات أنّ يردّ النّتائج الّتي يجدها إلى قواعد عامّة أو نظريّات أو حكم”[10] وذلك من جهة أنّ “الإنسان عندما يتفكّر، يتعيّن عليه أن يتنبّه للكلمات فهي إلى جانب دلالتها على ما نتخيّله من طبيعتها، لها أيضا دلالة ناتجة عن طبيعة المتكلّم وميوله واهتماماته”[11]، وهذا التّأسيس النّظريّ الّذي نخصّ به الخطاب السّياسيّ كفيل بأن يحقّق في الفعل السّياسيّ حقلا معرفيّا تبلوره جملة الأسس النّظريّة الّتي تتبنّى التّأويل وسيلة، والّذي يبدو محفّزا للانتقال بالمجال السّياسيّ من وضع قديم إلى وضع جديد.
وفي هذا الصّدد يتمّ استحضار التّأويل بوصفه رافدا من روافد التّلقّي لاستبدال الواقع انطلاقا من خطاب يوظّف مفاهيم تدركها المخيّلة، وذلك من خلال تقريبها من الذّهن مع ما يماثلها، ومفاد هذه المماثلة الّتي نقصد، أنّها تأتي بدلالات أو بمعان لمفاهيم سياسيّة تكاد تكون مشخّصة. ولو حاولنا إدراج استقراء مفهوم الدّيمقراطيّة في هذا المقام، فإنّه يعسر علينا الإحاطة بمعناها دون الرّجوع إلى أصولها النّظريّة وما تشتمل عليه المخيّلة من علاقة ذهنيّة تحقّق ترابط هذا المفهوم مع أدواته القانونيّة والإجرائيّة، وعليه يصبح مفهوم الدّيمقراطيّة مفهوما يحتمل شبكة من الرّموز والدّلالات الّتي نستطيع استخدامها استخداما مباشرا وعينيّا، وليس التّأويل من هذا المنظور سوى إعادة إنتاج للواقع السّياسيّ والاجتماعيّ بجملة من الفرضيّات الّتي تسمح بتشكيل قواعد نظريّة تكون واسطة بين واقع المجتمع الّذي يعيشه والواقع الّذي يتصوّره.
وإذا كنّا في هذا السّياق ابتعدنا بالفكر السّياسيّ العربيّ الإسلاميّ عن كلّ ما كان يُطرح من مقولات التّقدّم السّياسيّ، وفق ذلك المخاض النّهضوي في سبيل التّوصّل إلى جواب عن سؤال مداره: لماذا تأخّر الأنا وتقدّم الآخر؟ فإنّنا في هذه الحال مدعوّون إلى الإشارة إلى أنّ لحظة استقلال المستعمرات العربيّة بدأت تتلمّس آفاقا جديدة تسعى بواسطتها إلى الانفتاح على منجزات الغرب، وعلى هذا المنوال استفاد الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر من مكتسبات الحضارة الغربيّة، لكونه قد تلقّاها ضمن مخيال ثقافيّ جديد تطلّب محفّزات تأويليّة تدفع بالمجتمع العربيّ وبالدّولة المستقلّة في اتّجاه تبنّي منتجات ما أفرزته مفاهيم فلسفة الأنوار -الحرّيّة والدّيمقراطيّة ونظام الحكم-، ولأنّ تلك المفاهيم صارت النّموذج الأصليّ لانخراط الغرب في الحداثة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة.
وقد يكون ما كنّا بصدد القول فيه مفيدا للبرهنة على أنّ اختراق التّأويل لحقيقة الواقع السّياسيّ في الوطن العربيّ تكوّن وفق تعميمات أحدثها وهْم التّلقّي وعبر تأثير آليّات المتخيّل في رسم مشاريع سياسيّة استثمرها فاعلون مختلفون في تحريف رواسب معرفيّة أُخرجت من مرجعها الأصليّ عن طريق التّرغيب لتبنّي مقولة تحديث الدّولة المستقلّة. وأيّا تكن العلاقة الجدليّة بين التّلقّي والتّأويل فإنّ الحقيقة الّتي ندركها، ترى أنّ دولة الحداثة الغربيّة لم تكن نابعة من دون سياق فكريّ وحضاريّ، بل كانت نشأتها ضمن علاقة سببيّة تربطها بمنجزات فكريّة فلسفيّة أسّست لفكرة الحرّيّة والدّيمقراطيّة ودولة القانون.
4- من وهْم التّلقّي إلى مأزق التّأويل: أزمة مشروع بناء الدّولة الوطنيّة، أيّة معقوليّة؟
يدرك متتبّع تاريخ تشكّل الدّولة الوطنيّة أنّ نشأتها تشير إلى تلقّي قيم من حضارة غربيّة، وهذا التّلقّي لم يكن في نظرنا قد ترك أثارا مهمّة داخل المجال السّياسيّ العربيّ المعاصر، ويبدو أنّ الإحساس بالتّخلّف لم يكن في تعارض مع فكرة التّعايش والاتّفاق مع مقولات -الحرّيّة والعدالة والمساواة- تلقّتها المجتمعات العربيّة ودفعت إليها فكرة الدّخول في عصر إنسانيّ جديد خارج ذاكرة الاستعمار.
أدّى هذا كلّه إلى تكوّن صُور من أفكار مجرّدة ذات وظائف تعويضيّة[12] باعتبار أنّ مفاهيم الحرّيّة والعدالة والمساواة، كانت مفهومات تشكّل قوانين تأويليّة تتجلّى في كونها انفتاحا على الوجود الإنسانيّ ومسارا في اتّجاه التّغيير السّياسيّ الّذي لا يتمّ “بنجاح وإيجابيّة إلاّ إذا شعُر أفراد المجتمع، أي المواطنون، الّذين هم أعضاء هذا المجتمع مادّيّا وقانونيّا، بأنّهم جزء لا يتجزّأ من النّظام السّياسيّ”[13].
وربّما نستذكر في هذا السّياق المشروع الفكريّ السّياسيّ الّذي جاء مع فلسفة الأنوار حين سعت إلى أن يصبح العقد الاجتماعيّ رهانا نحو تغيير المجال السّياسيّ والاجتماعيّ في أوروبا، ولا شكّ في أنّ مؤسّسي هذا العقد نجحوا في ترك تصوّر، لم يكن على الإنسانيّة سوى أمر إحيائه باستدعاء العمل الجماعيّ[14].
ما نخلص إليه انطلاقا ممّا أوجزنا فيه القول هو أنّ نظريّة تلقّي تجديد المجال السّياسيّ الغربيّ تطوّر مع فلاسفة الأنوار، خاصّة مع “كانط” في مقاله “ما هو التّنوير؟” والّذي شدّد فيه على الحرّيّة الفكريّة من حيث يجب أن لا تكون مقلقة للنّظام[15]، وبلغ تجديد المجال السّياسيّ ذروته مع ظهور الرّأسماليّة وتنامي اللّيبراليّة. وهكذا استمدّت دولة الحداثة الغربيّة مشروعيّتها من أفكار فلسفيّة تمّ تلقّيها وتأويلها إلى مشروع اجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ أسهم في تحقيق موازنة بين الدّولة والمجتمع المدنيّ، ولا شكّ في أنّ نجاح مشروعيّة الدّولة المدنيّة في الغرب الأوروبيّ أنتجه ذلك الجهاز الأوّل الّذي قام على تلقّي مفاهيم -الحرّيّة والعدل والمساواة- تمّ تأويلها من أفكار مجرّدة ومن ثمّة تحقيقها في الواقع.
ولا جدال أيضا في أنّ تلقّي الفكر السّياسيّ في الوطن العربيّ لنمط الدّولة الحديثة، كان تحت عنوان تحديث الدّولة الوطنيّة، وشأن هذا التّلقّي أن ينسجم مع مقوّمات الدّولة المدنيّة في إطار احتواء ما تمّ تأويله من مفاهيم تخصّ الدّيمقراطيّة وتطوير المجال السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، لكنّ التّسليم بحقيقة تلقّي منجزات الحداثة الغربيّة تغيّر مع زعماء دولة الاستقلال، ولم يعد تأويل تجديد المجال السّياسيّ يتأسّس على القطع مع السّلطة الفرديّة والزّعامة السّياسيّة الّتي كانت نسقا ثقافيّا متوارثا.
وفي هذا السّياق يبدو أنّ الممارسة السّياسيّة داخل الدّولة الوطنيّة قد أدّى إلى عجزها في تشكيل مجال سياسيّ يتجاوز بُنى السّلطة التّقليديّة، ولعلّنا نزعم أنّ نتائج هذا العجز كان بسبب تلقّي الزّعيم العربيّ لتصوّرات الغرب الأوروبيّ بوصفه نموذجا في التّقدّم، لكن قام التّلقّي في الحقيقة على وهْم وفق آفاق تأويليّة استندت على الاقتناع بفكرة الزّعامة والشّخصيّة الكاريزميّة، ولعلّ هذا الجزء الخفيّ من وهمْ التّلقّي الّذي أضيف عرضا إلى سلطة الفرد الّتي تخلو منها منجزات الغرب الأوروبيّ المتقّدم، ساهم بشكل كبير في ضعف الانفتاح على مقولات الحرّيّة والدّيمقراطيّة.
انطلاقا ممّا سبق ذكره تكوّن خطاب مغاير لم يعد متعلّقا بتأويل شكل السّلطة بوصفها ترميزا على حرّيّة اختيار الحاكم، بل صار الخطاب السّياسيّ العربيّ المعاصر خطابا إيديولوجيّا بعيدا عن المشاريع الفكريّة الّتي تبتكر مقاربات جديدة، وضمن هذا الأفق قامت مزاعم سياسيّة توظّف خطابات إيديولوجيّة فاضت أبنيتها التّأويليّة بافتراضات لا تكشف سوى عن تثمين شخصيّ لزعيم الدّولة الوطنيّة بوصفه المؤسّس للدّولة المستقلّة والمتلقّي الأوّل الّذي بإمكانه أن يكون مبدعا انطلاقا من خبراته وإنجازاته. وهكذا كان فعل التّلقّي خارجا عن سياق تحويل الدّلالات الّتي تحملها مفاهيم الحداثة مع ما يلائمها من مرجعها الأصليّ، وحينئذ تمّت عمليّة إفراغ مرجعيّات التّقدّم والتّطوّر من محتواها الحقيقيّ.
من المفيد هنا أن نقف عند أسباب أزمة الدّولة الوطنيّة، ذلك أنّ العجز في تحويل تلقّي أسباب التّحضّر السّياسيّ، هو في الأصل ناتج عن عدم انخراط جماعيّ للسّلطة في دائرة التّأويل الموضوعيّ الّذي تنطلق فيه من فرضيّات تعمل على تحويل كلّ ما هو سياسيّ إلى منطق عقلانيّ.
وبناء على ما تقدّم يبدو أنّ دولة الاستقلال لم تتمكّن من معرفة ما يكْمنُ من دلالات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة قام عليها المجال السّياسيّ الغربيّ الّذي أدّى إلى تفاعل حقيقيّ مع مقولات القيم -الّتي جاءت بها فلسفة الأنوار- الّتي أشرنا إليها سابقا وحوّلتها إلى خدمة الدّولة والمجتمع، ومن هنا تأتي غرابة تشكّل المجال السّياسيّ في الوطن العربيّ والدّولة الوطنيّة ونزعم أنّ هذه الغرابة تعود في نظرنا إلى أمرين إثنين:
الأوّل، يتّضح عندما نرى عجز الدّولة الوطنيّة في أن تكون وعاء لسياسة تعكس المصالح الوطنيّة العامّة. والأمر الثّاني، يتبيّن حين نلاحظ حفاظ الدّولة الوطنيّة على نمط نظام السّلطة الأبويّ[16].
وانطلاقا من هذا المنحى ندرك أنّ التّلقّي الّذي نشأ مع زعماء الدّولة المستقلّة لم ينجح في الأخذ بمنجزات الغرب الحضاريّة بوصفه كان تلقيّا لا ينبثق من تلك المرجعيّات الفكريّة والمعرفيّة الّتي ظهرت في الغرب، ولا ندري إلى اليوم ما إذا كان الزّعيم العربيّ –باعتباره المتلقّي الأوّل لإنجازات الدّولة المستقلّة- قد مثّل متلقّيا متجاوزا للسّلطة التّقليديّة، أم أنّه كان متلقّيا يسعى إلى تطويع نمط جديد للسّلطة تُوهم بتحديث المجال السّياسيّ.
الواضح أنّ ما كان يتلقّفه زعماء الدّولة الوطنيّة من مفاهيم حول تحديث الدّولة لم يكن تلقّفا نابعا من مقوّمات داخليّة تدفع بالمجال السّياسيّ في اتّجاه التّغيير والتّبدّل، وبقطع النّظر عمّا تُوهمنا به العقلانيّة الغربيّة الّتي تزعم بتأويلاتها الإيديولوجيّة أنّها تسعى إلى نشر العدالة والمساواة، فإنّها في الحقيقة لم تؤثّر في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر، ذلك أنّ تلقّي ما شكّله المتخيّل حول شخصيّة زعيم الاستقلال وتأويله كان يصنع إليه إشعاعا كونه كان زعيما له تاريخ نضاليّ، الأمر الّذي أدّى إلى سيطرته على السّلطة، وليس خافيا عن الذّهن أن “نشير في هذا المقام، إلى أنّ ترويج الزّعامات لمفهوم التّخلّف، وإسناده إلى مجال التّنمية والاقتصاد، واستعماله وفق إيديولوجيا تبرّر بناء الدّولة دون السّعي إلى تطوير المجال السّياسيّ، كان ترويجا ساهم في إقصاء رؤية لفكر سياسيّ جديد”[17]، ولذلك عجزت الدّولة الوطنيّة على استيعاب تلقّي قيم مماثلة ومتجانسة مع ما هو إنسانيّ.
يبدو ممّا تقدّم أنّ محاولة تلقّي مشروع الحداثة في الدّولة الوطنيّة، بوصفه انخراطا في أفق انسياب الحرّيّة والعدالة والدّيمقراطيّة مثلما كافحت أوروبا لأجله، كان في الواقع تلقّيا مستندا إلى نزعة ماضويّة نجح من خلالها الزّعيم العربيّ في تأويل السّلطة من الحكم الخليفيّ إلى حكم الزّعيم المناضل، الأمر الّذي عطّل وجود مواقف صريحة تؤوّل تبنّي مشروع سياسيّ يُنهي حالة الاغتراب السّياسيّ داخل المجتمع العربيّ.
لا شكّ في أنّ فعل التّلقّي الّذي أشرنا إليه سابقا بأنّه عمليّة لإنتاج الوهْم لحقل تأويليّ، قد مثّل المنحى الحقيقيّ لاستبداد السّلطة والتّخلّف السّياسيّ، وكان سببا في ترسيخ سلطة الغالب على المغلوب. والبيّن أيضا أنّ فعل التّلقّي في سياق تشكّل المجال السّياسيّ للدّولة الوطنيّة لم تكن غايته بناء نموذج لمجال سياسيّ منفتح، لأنّه في الواقع كان تلقّيا لا يخضع لشروط ما أفرزه الآخر من مصادر الرّقيّ السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.
5- خاتمة:
ما نخلص إليه من نتائج حول ما أحدثه التّلقّي من وهْم أدّى إلى مأزق في تأويل مكتسبات الحداثة الغربيّة على الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر، ذلك أنّ التّلقّي نشأ ضمن مشاريع سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة تكوّنت نتيجة دعايات زائفة من سلطة دولة الاستقلال.
ولا شكّ في أنّ زيف الخطاب السّياسيّ انصبّ على مقولة مكافحة التّخلّف الاجتماعيّ والاقتصاديّ، ومن هنا كانت السّلطة تمارس مشروعيّتها وفق بنية اجتماعيّة احتفظت لها المخيّلة الجمعيّة بصورة الزّعيم المنقذ للدّولة والمجتمع، وفي المقابل كان الشّروع في بناء الدّولة الوطنيّة “نتيجة مجال سياسيّ مستعار من خارج مدارها التّاريخيّ والسّياسيّ، وإن كان هذا المجال المستعار قد ترك آثارا في النّصوص القانونيّة، فإنّ تلك النّصوص لم تندرج في رؤية تأويليّة تطوّر من أسلوب السّلطة”[18]، الأمر الّذي يصوّغ لوجود الدّولة المصطنعة لكون الاصطناع جاء بفعل النّضال زمن الاستعمار وأدّى إلى الادّعاء بأنّ الزّعيم هو الّذي أنجز الدّولة[19].
وهكذا نستنتج أنّ التّأويل لمفاهيم الحداثة الّذي تلقّاه الفكر السّياسيّ العربي المعاصر، لم يكن تأويلا مستوعبا للمعارف الدّلاليّة والمعرفيّة الّتي نجحت في الغرب الأوروبيّ الّذي قطع مع كلّ المرجعيّات الخياليّة لصالح المرجعيّات الواقعيّة وذلك ضمن مسار تأويليّ لفائدة الدّولة المدنيّة.
قائمة المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم
- برجي (الأزهر): “الزّعيم والدّولة، بحث في تشكّل المجال السّياسيّ العربيّ المعاصر”، دار وسام للنّشر، الطّبعة الأولى، تونس، قصور السّاف ، 2024.
- بن عيّاد (محمّد): “الكيان والزّمان”، النّاشر كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، مكتبة علاء الدّين، الطّبعة الأولى، صفاقس، تونس، 2018.
- الجّويلي (محمّد): “الزّعيم السّياسيّ في المخيال الإسلاميّ بين المقدّس والمدنّس”، المؤسّسة الوطنيّة للبحث العلميّ، دار سراس للنّشر، تونس 1992.
- روبيرت ياوس (هانس): “جماليّة التّلقّي، من أجل تأويل جديد للنّصّ الأدبيّ”، ترجمة رشيد بنجدّو، دار كلمة للنّشر، الطّبعة الأولى، القاهرة 2004.
- عبد الله (ثناء فؤاد): “آليّات التّغيير الدّيمقراطيّ في الوطن العربيّ”، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطّبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1997.
- كاظم (نادر): “تمثّلات الآخر، صورة السّود في المتخيّل العربيّ الوسيط”، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط1، 2004.
- كلافال (بول): “المكان والسّلطة”، ترجمة عبد الأمير إبراهيم شمس الدّين، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، بيروت، 1990.
- هوبز (توماس): “اللّفياثان، الأصول الطّبيعيّة والسّياسيّة لسلطة الدّولة”، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، كلمة للثّقافة والتّراث، الطّبعة الأولى، أبو ظبي، 2011.
المراجع الأجنبيّة:
- Althusser (Louis): «Ideology; and ideological. State Apparatuses». In critical theory since. 1965
- Durand )Gilbert): «L’imaginaire. Essai sur les sciences et la philosophie de l’image». Hatier, Paris 1994.
- Sartre )Jean-Paul): «L’imagination». P.U.F. Paris 1994.
المواقع الإلكترونيّة:
- بنگراد (سعيد): “السّميوزيس والقراءة والتّأويل”، موقع سعيد بنكراد، مقال منشور على الموقع: http://saidbengrad.free.fr.
- عبّاس (أشواق): “الأزمة البنیویّة للدّولة العربيّة المعاصرة”، مجلّة الدّيمقراطيّة، مقال منشور على الموقع: http://democracy.ahram.org.
[1]– louis Althusser: Ideology; and. State Apparatuses. In critical theory since. 1965. p242.
[2]– نادر كاظم: مثّلات الآخر، صورة السّود في المتخيّل العربيّ الوسيط، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط1، 2004، ص39.
[3]– ادر كاظم: مثّلات الآخر، صورة السّود في المتخيّل العربيّ الوسيط، مرجع سابق، ص33.
[4]– هانس روبيرت ياوس: جماليّة التّلقّي، من أجل تأويل جديد للنّصّ الأدبيّ، ترجمة رشيد بنجدّو، دار كلمة للنّشر، الطبعة الأولى، القاهرة، 2004، ص101.
[5]– آل عمران، الآية 41.
[6]– سعيد بنگراد: السّميوزيس والقراءة والتّأويل، موقع سعيد بنكراد، مقال منشور على الموقع: http://saidbengrad.free.fr.
[7]– استعمالنا كلمة مخيال والقصد من هذا ما ينتجه الذّهن من تصوّرات وتخيّلات تؤدّي إلى البحث في آليّات التّخيّل، لمزيد التّوسع راجع: محمّد الجويلي، “الزّعيم السّياسيّ في المخيال الإسلاميّ بين المقدّس والمدنّس”، المؤسّسة الوطنيّة للبحث العلميّ، دار سراس للنّشر، تونس 1992، ص24.
[8]– راجع في هذا السّياق: جيلبير دوران في حديثه عن المتخيّل وفلسفة علم الصّورة.
-Gilbert Durand: l’imaginaire. Essai sur les sciences et la philosophie de l’image. Hatier. Paris. 1994.
[9]– محمّد بن عيّاد: الكيان والزّمان، النّاشر كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، مكتبة علاء الدّين، صفاقس، تونس، الطّبعة الأولى، 2018، ص19.
[10]– توماس هوبز: اللّفياثان، الأصول الطّبيعيّة والسّياسيّة لسلطة الدّولة، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، كلمة للثّقافة والتّراث، الطّبعة الأولى، أبو ظبي، 2011، ص53.
[11]– وماس هوبز: اللّفياثان، الأصول الطّبيعيّة والسّياسيّة لسلطة الدّولة، مرجع سابق، ص49.
[12]– Jean-Paul Sartre: L’imagination. P.U.F. Paris 1994. P.11.
[13]– ثناء فؤاد عبد الله: آليّات التّغيير الدّيمقراطيّ في الوطن العربيّ، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطّبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1997، ص211.
[14]– بول كلافال: المكان والسّلطة، ترجمة عبد الأمير إبراهيم شمس الدّين، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، ، الطّبعة الأولى، بيروت، 1990، ص140.
[15]– الأزهر برجي: الزّعيم والدّولة، بحث في تشكّل المجال السّياسيّ العربيّ المعاصر، دار وسام للنّشر، ، ط1، قصور السّاف، تونس، 2024 ، ص110.
[16]– أشواق عبّاس: الأزمة البنیویّة للدّولة العربيّة المعاصرة، مجلّة الدّيمقراطيّة، مقال منشور على الموقع: http://democracy.ahram.org.
[17]– الأزهر برجي: الزّعيم والدّولة، بحث في تشكّل المجال السّياسيّ العربيّ المعاصر، مرجع سابق، ص222.
[18]– المرجع نفسه، ص190.
[19]– الأزهر برجي: الزّعيم والدّولة، بحث في تشكّل المجال السّياسيّ العربيّ المعاصر، مرجع سابق، ص192.