ملخّص:
يتعلّق هذا العمل بتعقّب السّياق الذّي أتى فيه دريدا إلى مطارحة الفينومينولوجيا الهوسرليّة، وبزاوية النّقد التي اختارها: إنّ فينومينولوجيا العبارة هي عبارة عن جراماتيكا منطقيّة وميتافيزيقيّة تنهض على أساس الوعي وتجد فيه أساسها المتين. إنّ تأكيد هوسرل على انتساب اللّغة إلى فضاء المعقوليّة واللّوغوس وإخضاعه التّفكير في العلامة إلى طائلة المنطق، واعتباره العبارة مسرحا لظهور الحقيقة، هو الذي أبقى المشروع الفينومينولوجي منتسبا إلى ميراث ميتافيزيقي إرادويّ ومشدودا إلى الانطولوجيا الكلاسيكيّة وإلى ميتافيزيقا الحضور.
الكلمات المفتاحية: القصديّة، الفينومينولوجيا، المثاليّة، المعنى، التّفكيك.
Abstract:
this work traces back to the context in which Derrida discussed Husserlian phenomenology, and the angle of criticism that he chose: The phenomenology of the meaning is only a logical and metaphysical grammar that rises on the basis of consciousness and finds its solid foundation in it. Husserl’s emphasis on the affiliation of language to the space of reason and logos, his subjection of thinking about the sign to the authority of logic, and his consideration of expression as a stage for the emergence of truth, is what prevented him from discerning the difference between language and logic, and made the phenomenological project belong to a voluntaristic metaphysical inheritance and remain, despite its originality, attached to classical ontology and the metaphysics of presence.
Key Words: Intentionality, Phenomenology, Idealism, meaning, Deconstructing.
1- مقدّمة:
لئن كان مشروع نقد الميتافيزيقا عند دريدا يهدف أساسا إلى إعادة النّظر في مسألة الكتابة ووضعها الفلسفىّ، فإنّ إنفاذ هذا المشروع فلسفيا ارتبط ارتباطا وثيقا بالتأكيد على البنية الميتافيزيقيّة لفينومينولوجيا هوسرل. إنّ “الفينومينولوجيا الهوسرليّة هي المحلّ الأمثل بامتياز الذي أثيرت فيه مسائل تفكيكيّة”[1]، لأنّها خضعت أخيرا إلى طاغوت اللّوغوس الميتافزيقي رغم محاولتها التّحرّر من أسره، استعادته مضطرّة من أجل تحصين مواقع الوعي الترنسندنتالي وتأكيد عليائه.
يهدف هذا المقال إلى بيان الأصول الميتافيزيقية لنظريّة المعنى الهوسرليّة وإلى التأكيد على مبناها الميتافيزيقي، ذلك أنّ التّأسيس التّرنسندنتالي لنظريّة اللّغة في الفينومينولوجيا الهوسرليّة يكشف عن استمرارها في الاعتماد على الدّعائم الرئيسيّة ذاتها التي استقرّت عليها ميتافيزيقا الحضور. تواصل الفينومينولوجيا الهوسرليّة المسار ذاته الذي تقترحه مثاليّة أفلاطون، أي إثبات تبعيّة معنى الوجود الواقعي للأفكار من خلال تأكيد:
- أصليّة المعنى والانتظام القبليّ لتكوّنه الذي يمثّل التّطابق بين الحدس والعبارة العلامة الأكثر تدليلا عليه.
- انتساب نظام القول إلى بنية الماهيّة القائمة في التّجربة أصليّا وعلى نحو قبليّ وضروريّ.
حدّد هوسرل، الذي لم يصرف همّه إلى اللّغة إلّا ضمن أفق المعقوليّة، ماهيّة اللّغة بالفعل وعلى نحو تقليديّ انطلاقا من المنطقيّة معيارا لغايتها[2]. لذلك تقتضي البرهنة على أفلاطونية هوسرل الحديث على ارتباط مشكل اللّغة بسؤال الماهيّة عند أفلاطون وفي الميتافيزيقا القديمة بعامّة . كيف ذلك؟
إنّ “مشكل الماهيّة هو عين مشكل اللّغة والتّسمية. فالسّؤال “عمّا هي الفضيلة وعمّا هي الشّجاعة “يساوي السّؤال عمّا” نسمّيه الفضيلة والشّجاعة”. إنّ المشكل الأفلاطونيّ هو مشكل نقد اللّغة وتأسيسها”[3]. ويجعل سؤال الماهيّة -اللّغة من الفلسفة “انفصالا عن اللّغة المشتركة وعن العالم العاديّ كما عن الأساطير،
لذلك لم تكن الفكرة بدلالتها الأفلاطونيّة موضوع تأمّل بل هي إشرئباب نحو الأعالي وتقرير لانعدام أهليّة العالم الظواهريّ، وقدرة على تمييز الأشياء بالارتكان إلى طبائعها. فأن “تفكّر هو قبل كلّ شيء أن تفرّق وتفصل وتتعرّف على الشّيء، بما هو ليس الوقائع الأخرى. وأن تتفلسف هو أن تتعرّف على حدود معرفة مّا بما هي ليست معرفة أخرى. إذ لا يبلغ الوضوح كماله إلّا في التّميّز بما هو تحديد حقل هو في بدايته مبهم”[4]. أمّا اللّغة فلا تكون لغة حقّا إلّا متى نجحت فعلا في قهر تعدّديّة المعنى وضبطها.
يُصاغ هذا التّحديد للماهيّة بوصفها سؤالا ” ضمن الحدود التّالية: ما هو كذا؟ ما هي الشّجاعة، مثلا، ما هي الفضيلة”[5]، وباعتبارها كلّ ما يُقال على وجود موجود يتقوّم بذاته يرجع أوّلا وبالأساس إلى اللّغة، فالماهيّة يعبّر عنها في قول عن طريقه نقول ما هو الشّيء. وبعبارة أخرى، إنّ الحديث عن الحدّ هو حديث عن الماهيّة التّي نعبّر به عنها. وقد بيّن أوبنك أنّ “هذه الوحدة الموضوعيّة التّي تؤسّس وحدة دلالة الألفاظ، هي ما يسمّيه أرسطو الماهيّة “[6]، وتمكّن هذه الماهيّة من التّواصل والتّفاهم، لذلك يُعَدّ ثبات الماهيّة شرطَ وحدة المعنى، وبما أنّ للأشياء ماهيّة واحدة فإنّ للألفاظ معنى ثابت.
يتطلّب مفهوم الدّلالة تواطؤ المعنى ويقتضيه تعريف مبدأ الهويّة بالمعنى الأنطولوجيّ والمنطقيّ، وينبني هذا التّواطؤ في المعنى أخيرا في الماهيّة الواحدة المتطابقة مع ذاتها، أي في” هذا الذي من دونه لن يكون ثمّة لا عالم ولا لغة ولا أيّ شيء”[7]. وفي اللّجوء إلى هذه الماهيّة، يستند كلّ الدّحض للأدلّة السّفسطائية. فإذا لم تكن الدّلالة دلالة على شيء واحد بعينه وبالذّات، فهذا يعني أن ليس ثمّة دلالة على الإطلاق. وهكذا يكون التّحاور بين النّاس ممكنا، إذا اشتركوا في معنى الكلمات التي يتواصلون بها.
لا شكّ إذن أنّ الحرص على تأكيد التّطابق بين الماهيّة والمعنى، كان باعثه عند أرسطو وكذا من قبله عند أفلاطون تأسيس العلم الحقّ، ومجابهة الحجاج الباطل وظاهر الحقّ السّفسطائيّ الذي ينسف بإعراضه عن سؤال الماهيّة والمعنى معا. لذلك أكّد النّقد الأفلاطونيّ للشّعر والسّفسطة، قصورهما عن معالجة المباحث الإيدوسية وعن الانشغال بمسألة الماهيّات، لأنّهما (السّفسطة والشّعر) يثمران أغاليطا، ويهدّدان وحدة اللّوغوس. لذلك لم يغب تأكيد هذا التّلازم القويّ بين الفكر واللّغة (باعتبارها أداة له)، عن اهتمام اليونانيّين القدامى الذين ناقشوه مبكّرا وافترقوا فيه كما تذكر محاورة الكراتيل.
تتحدّد الفينومينولوجيا الخالصة بوصفها نظريّة في الدّلالة كما تنتجها اللّغة بقدرتها على التّعبير وترتيب المنطوقات وكما تؤصّلها نظريّة الحدس. إذ تنشغل بتنضيد الميدان الفينومينولوجيّ الذي تنتمي إليه أفعال الدّلالة وتجتمع فيه مقاصد المعنى وعبارات اللّغة: إنّها نظريّة في أصل المعنى ومنابعه الأولى. وهي بهذا التّخصيص بالذّات فلسفة الدّلالة المتواطئة التّي لا تحتمل شغب العبارة[8]. ليست الفينومينولوجيا إذن إلّا توضيحا لمعنى المثاليّة، تلك عبارة تلخّص أولويّة المسألة المثاليّة عند هوسرل ولعلّ ذلك ما قاده في التّأمّلات الدّيكارتيّة إلى إعلان “أنّ البرهنة على تلك المثاليّة هي الفينومينولوجيا ذاتها”[9]. إنّ مثاليّة هوسرل مثاليّة قصديّة يحدّدها بـــــ “الترنسندتاليّة الفينومينولوجيّة”، وهي مثاليّة مقومّة تتأسّس على أطروحة أنّ كلّ ما يوجد يتقوّم في الوعي وله، وأنّ أيّ وجود خارج الوعي هو عدم[10]أو لا معنى[11].
2- فينومينولوجيا القصد:
شكّلت قصديّة الوعي (أو الوعي باعتباره قصدية) بحقّ الفكرة الرئيسة التي يستند إليها التّأسيس الفينومينولوجيّ للمعنى. ويقرّ هيدقر وسارتر وميرلوبونتي وليفيناس-رغم اختلافهم-، بطرافتها والمكانة التي تحتلّها بالنّسبة إلى تاريخ الفلسفة عموما[12]. وتمثّل القصديّة المبدأ الذي رفعه هوسرل في الفقرة 84 من أفكار 1 إلى مرتبة “المبحث الرّئيسي للفينومينولوجيا”.
فالوعي يعني دائما الوعي “بـ” شيء مّا (conscience de”)[13] فــــ “أن نقول إنّ الوعي هو الوعي بشيء ما، هو أنّه لا يوجد فكر (noèse) دون موضوع الفكر (noème)، ولا الأنا المفكّر (cogito) دون الموضوع المفكّر فيه (cogitatum)”[14] تحمل كلّ عمليّة وعي في طيّاتها موضوعها الخاصّ بها وتقذف بنا خارج أنفسنا نحو العالم ونحو الآخرين. إنّ الوعي إطلال وخروج، هو الفكر عندما “يتوجّه نحو” موضوعه (وهنا يتجلّى المعنى الاشتقاقي للكلمة اللّاتينية “intentio” بمعنى “التّوجّه نحو”). وتعني القصديّة القدرة التي يمتلكها الوعي في رصد الموضوع أو بالأحرى كينونة الوعي كانفتاح على الموضوع”[15].
يتجاوز التّوجّه القصدي بوصفه تعلّقا بالوجود ذاته، دائرة القصد الدّلالي الخالص ويتحرّر من انغلاق النّموذج اللّساني ليهبه معنى أنطولوجيّا في أفق العالم عبر تأكيد تضايف الوعي والموضوع باعتباره ملازما فصديا (Corrélat intentionnel). إنّ الظواهر ليست سوى معطيات تجد أساسها الأوحد في وصفها الذي يستند إلى قصديّة الوعي. فالقصديّة بهذا المعنى “لا تعني شيئا آخر غير هذه الخاصيّة العميقة والعامّة التي تجعل الشّعور شعورا بشيء من الأشياء أو تجعله يحمل بما هو “أنا أفكّر” موضوعه المفكّر فيه”[16]إنّ اللّغة هي الوجه القصديّ الأكثر تعبيرا، لأنّ معناها لا يتحدّد – كما في الألسنيّة- من خلال ذاتها، بل من خلال ما تقصده أو تدلّ عليه. وهو ما يتيح لنا فهما جديدا للرّابطة التي تصل الوعي بالشّيء، وتجمع بين المعقول والواقعيّ إذ أنّ الوعي لا يكون وعيا إلّا لأنّه معنى لذلك الشّيء ومعنيّ به.
لقد تمكّنت الفينومينولوجيا، عبر ابتداع مفهوم القصديّة الذي هو اكتشافها الرئيس[17]، من تجاوز أطروحة واقعيّة العلاقة بين الوعي والموضوع. إنّ المدرَك بالمعنى الفينومينولوجي ليس موجودا في حدّ ذاته، بل هو الكائن من حيث هو “القصد الإحاليّ”[18] ومن حيث هو مدرَك على نحو يجعل إدراكه لا يكون إلّا موافقا لكيفيّات الإدراك التي هي تعود أصليّا إلى طبيعة الإدراك في حدّ ذاته باعتباره نشاطا قصديا.
لا يكون الحضور إلّا حضورا قصديّا. إنّ الموضوع القصديّ ليس موجودا داخل الوعي ولا خارجه ولا حتّى في أيّ مكان آخر. إنّ فينومينولوجيا القصد بما هي نشاط إحاليّ، لا تفرّق جوهريّا بين إحالة “أنطولوجيّة” تصنع الشّيء الواقعي الذّي تموضعه وبين فعل الإحالة التّمثّلي الذي ليس له البتّة إحالة واقعية (لا وجود واقعيّا للإله جوبتير هناك فقط فعل التّمثّل لهذا الإله). إنّ القصد هو المعنى نفسه، إنّه وحدة الفعل والموضوع الفكريّين وقد تشابكا في علاقة تضايفيّة Corrélation noético- noématique.
للنّوامائي نمط وجود تعبّر هذه المفارقة عن خصوصيّته: فهو لا ينفصل عن الوعي ورغم ذلك ليس متضمّنا فيه، إنّه المضاف القصديّ الذي بمقتضاه لا يكون الموضوع واقعيّا داخل الوعي أو محايثا ولا يكون مع ذلك خارج الوعي أيضا أو مفارقا له، فالدّاخل هو الخارج والخارج هو الدّاخل[19]. ذلك ما يسمّيه هوسرل “تحايث التّفارق” (immanence de la transcendance). هذه الآصرة التي تصل الدّاخل بالخارج وتفصله عنه في الآن نفسه والتي تشير إلى اجتماع المفارق بالمحايث، تربك النّظام القديم للمقولات وتؤسّس لفوضى جديدة هي “فوضى النّواما “((an-archie du noèmeبصياغة دريديّة بليغة تعبّر عن الفوضى التي يشيعها هذا التآخذ الذّي تصنعه النّواما في نظام المفاهيم.
إنّ مركّب التّآخذ ذات – موضوع، يعني عند هوسرل أنّ كلّ موضوع مهيّأ سلفا للاختراق ونفاذ الفكر إليه، وأنّ الفكر لا ينتحي قصديّا ناحية موضوع دون أن يحوّله إلى موضوع قصديّ ويهبه بذلك معناه الموضوعي. وفي هذا الإطار يؤكّد هوسرل: “وكمثل الإدراك، فإنّ كلّ معيش قصدي له “موضوعه القصديّ” أي معناه الموضوعيّ: وذلك ما يكون عنصر القصديّة الأساسيّ”[20]ويدقّق هذا المعنى في موضع لاحق قائلا “كلّ معيش قصدي له نواما وفي هذا النّواما ثمّة معنى هو يتّصل بواسطته بالموضوع”[21].
تمثّل بنية التّآخذ والإنشباك هذه بؤرة انبثاق المعنى حيث الفكر ليس انغلاقا للذّات على ذاتها وتشرنقا، بل هو انفتاح وإطلال وهو قصد وتصويب، وحيث الموضوع واقع تحت شعاع الوعي باعتباره مركزا يشعّ بالمقاصد، “فبربطه الذّات بالموضوع بواسطة المعنى، أضاف هوسرل للمثاليّة لحظة جديدة: إمكانيّة إضاءة المعنى الحميم للتّعالي، المعنى الذي يمكن أن يكون لداخليّة الخارجيّ ذاتها بالنّسبة إلى كل صنف من أصناف الموضوعات”.
من داخل هذا الأفق الميتافيزيقي الذي لم تخرج فينومينولوجيا هوسرل عن إطاره، فهم جيرار كرانيل G.GRANEL قراءة دريدا لهوسرل عندما بيّن أنّه “يمكن القول إنّ مجمل قراءة دريدا لهوسرل، ناتج عن طريقة الإجابة على هذه المسألة التي لا نجدها عند هوسرل ولكن مع ذلك يمكن إدخال هذا الأخير كليّا ضمنها، ألا وهي: إنّ امتياز الوعي ليس سوى “إمكانيّة الصّوت الحيّ”. ألا يشرّع لنا ذلك أن نتساءل “ألا يتأسّس الحضور باعتباره وعيا بواسطة سموّ الصّوت، إنّها بديهيّة لم تحظ أبدا باهتمام الفينومينولوجيا”[22]، ما الذي يبرّر تسامي الصّوت وما فضيلته المميّزة؟
3- المعنى والمثاليّة:
3- 1- الدّلالة واعتزام القول vouloir dire:
يجد دريدا في هوسرل فيلسوف الميتافيزيقا النّموذجيّ، ذلك أنّ هوسرل يرى أنّ اللّحظة الحاسمة في الحقيقة اليقينيّة المطلقة هي لحظة الحدس الواعي بحضور الموضوع إلى الأنا المتعالي خارج التاريخ والعالم التّجريبيّ، وتتطلّب هذه الحقيقة لغة منطقيّة. ففي كتابه بحوث منطقيّة، يطوّر هوسرل منظومة قواعد شكليّة محضة تنأى عن أيّ تجريب يفسد نقاءها، ويقتضي ذلك التّمييز بين العلامات التّعبيريّة التّي تلتحم بحضور صوت الوعي الدّاخليّ الحاضر حضورا مباشرا، والعلامات الإشاريّة التي تتضمّن تجريب مباشرتيّة الحضور التّعبيريّ وتوسّطه وتلوّثه ونقائه.
عموما يردّ النّقد الدّريدي لميتافيزيقا الحضور الهوسرليانيّة إلى هذا التأكيد الذي جاء في كتاب الصّوت والظّاهرة “المعنى محفوظ للذي يتكلّم”. فــــ “حينما أتكلّم سيكون من خاصيّة الجوهر الفينومينولوجي لهذه العمليّة أنّني أسمع نفسي في الوقت الذّي أتكلّم فيه”[23].إنّ المعنى كلام، لذلك فهو مرتبط عند هوسرل بذات متكلّمة وحاضرة من خلال كلامها. غير أنّ ارتباط الكلام بالمعنى ليس ينفي أسبقيّة المعنى الذّي تقوله الكلمات أو تعبّر عنه والمعنى يسبق النّطق والتّعبير بالكلمات التي يبقى دورها ثانويّا ولاحقا في تقدير هوسرل، بسبب ذلك عدّ ديكارت العلامة المكتوبة خارجيّة بالنّسبة إلى الكوجيطو ولا تنتمي إلى دائرة الوضوح والتّميّز.
إنّ النّصّ الذي تمكّن العودة إليه من رصد جهود دريدا الرّامية إلى مجاوزة ميتافيزيقا الذّات هو النّصّ الذي ينطوي على نقده لنظريّة الدّلالة الهوسرليانية، (ونعني كتاب الصّوت والظّاهرة). ففيه يتركّز النّقد الدّريدي على القسم الذي خصّصه هوسرل لـــــ “التّعبير والدّلالة” في المجلّد الثّاني من بحوث منطقيّة[24]. حيث ينتصر هوسرل في هذا الجزء إلى دائرة الوعي الخالص ضدّ الدّائرة الوسيطة للتّواصل اللّغوي، وفيه يشدّد على انتساب الدّلالة إلى الماهويّة المثاليّة essentialité idéale وإلى حقل المعقول حتّى ينقّيها من الشّوائب التّجريبيّة للتّعبير اللّغوي.
في الفصل الأوّل (العلامة والعلامات) من كتاب دريدا السّابق الذّكر، يبادر الفيلسوف بالحديث عن مفهوم العلامة أو الدّليل عند هوسرل. يميّز هوسرل بين العلامات الاشاريّة signes indicatifs والعلامات الدّالة signes signifiants (أي التّعابير) ويؤكّد أنّ بعض العلامات خالية من المعنى وهي المسمّاة إشاريّة. إنّ الإشارة، على خلاف العبارة تنتمي إلى العالم، لذلك” يتوجّب.. تجريدها و “ردّها” بوصفها ظاهرة خارجيّة وتجريبيّة حتّى وإن كانت متّصلة بالعبارة بالفعل اتّصالا حميما ومداخلة لها تجريبيّا”[25]، بل” إنّ كامل مشروع هوسرل- في ما هو أبعد من البحوث المنطقيّة – سيكون عرضة للتّهديد إذا كان التّشابك الذي يزاوج بين الإشارة والعبارة غير قابل للردّ إطلاقا ولا يمكن استئصاله”.[26] ولغة الحدس لغة تعبيريّة بالضّرورة وليست لغة إشاريّة indicative، والسّبب أنّ الإشارة تقتضي اختلافا مرجعيّا يتناقض مع بديهيّات الكمال الحيّ الذي يتّصف به الحضور إلى الحدس . فهي مجرّد علامة ميّتة لأنّها لا تفيض عن عقل حيّ.
يكمن جوهر اللّغة في التّعبير بوصفه “علامة دالّة”. ولا تتعلّق هذه العلامة بالتّعبير بوصفه مفهوما أو مؤشّرا أو موضوعا أو شيئا وإنّما نسمّي العلامة الدّالّة تلك التي تغطّي قصدا دلاليّا.إنّ ما يحرص هوسرل علي بيانه هو الخلوص المنطقيّ والتّعبيريّ للدّلالة بوصفها فضاء لتجلّي اللّوغوس، بوصفها “إرادة قول” وتعبير عن المعنى. إنّ “الدّلالة مرادفة عندنا للمعنى”[27] كما ذهب إلى ذلك هوسرل في البحوث المنطقيّة. أمّا خارجيّة الإشارة فلها وجهان؛ جسم العلامة الذي ليس روحانيّا والمشار إليه الذي هو وجود ينتسب إلى خارجيّة العالم. لذلك فكلّ ما يخرج عن المقاصد المحض للرّوح وعن الإحياء الذي مصدره النّفس يبقى خارج فضاء الدّلالة أي خارج العبارة.
تجد العبارة أصلها إذن خارج البنية الإشاريّة وبعيدا عن عمليّة التّواصل، خارج العالم، أي في عالم المثال والمونولوج. إنّ فعل التّواصل يظلّ سطحيّا دائما بالنّسبة إلى هوسرل، فهو يشير إلى الطّبقة الخارجيّة للعبارة.إنّ أصالة الفينومينولوجيا التّرنسندنتاليّة لا يحقّقها فعل التّبادل الكلاميّ، لأنّ التّواصل فعل سطحيّ.إنّ أصالتها تتحقّق دوما في غياب الآخرين، في غياب الاختلاف، في الوحدة المنعزلة للـرّوح حيث يكون الصّوت همسا لــــ “حياة النّفس المتوحّدة “[28]. لكن ما العبارة؟
إنّ العبارات بوصفها علامات هي علامات عازمة على القول[29]ومحمّلة بالدّلالة. لكنّ تحقيق فعل الدّلالة لصفائه التّعبيريّ لا يكون ممكنا إلّا حين تنقطع صلته بكلّ خارج مّا، وإنّه “بمقدار ما تحرّر التّعبير من وظيفة التّواصل، وتخلّص من كلّ جوانبه البدنيّة، يرقى إلى الدّلالة الخالصة”[30]. لئن كانت العبارة عند هوسرل تجسيدا، فهي تجسيد لمعنى داخليّ وتعبير عن معنى سبق وجوده في الوعي. كيف ذلك؟
التّجسيد ليس طبيعة أو خروجا ولكنّه معنى، إنّ المعنى “وهي كلمة تعدّ مع ذلك وبصورة عامّة مكافئة للدّلالة وتستعمل استعمالها”[31]. إنّ فعل الدّلالة لا يخرج إلّا إلى خارج يبقيه داخليّا، ويحفظه دوما تحت طائلة العبارة، إنّه يخرج عن نفسه ويقصد خارجا آخر هو ضمن الوعي في كلّ الأحوال. تجعل أفعال الدّلالة من الخارج معنى هو موجود أصلا في داخل ما هو صنو لموضوع ob-jet مثالي. تعدّ العبارة بوصفها علامة عازمة على القول المعنى الذي ينشأ ضمن داخل وخارج هما أصليّان، وهو يخرج عن ذاته ضمن الوعي ذاته وضمن قربى النفس auprès de soi أو حياة النّفس المتوحّدة.
لا تكون العبارة إلاّ دالّة إذ “يعود إلى مفهوم التّعبير أن تكون له دلالة”[32] ولا تكون إلّا مسكونة بقصد الدّلالة، والدّلالة هي ماهيّة العبارة التي ينبغي تمييزها عن الموضوع .. يختلف مفهوم التّعبير عند هوسرل “عن التّعيين والإظهار والبرهنة. والمعنى هو المعبّر عنه”[33]، ويتميّز عن “الموضوع المادّي وعن المعيش السّيكولوجيّ وعن التّصوّرات الذّهنيّة وعن المفاهيم المنطقيّة”[34]. لا تُعْطى الدّلالة مطلقا على مستوى الوظائف الواقعيّة أو النّفسيّة للوعي، ولا توجد كذلك خارج الوعي، إنّها كيان موضوعيّ ومثاليّ أو هي “وحدة قصديّة مماثلة لنفسها”. فقد ميّز هوسرل “بين عدم وجود الموضوع وبين غياب الدّلالة”[35] لتفادي الوقوع في الخلط بين الدّلالة والموضوع سواء كان ذلك الموضوع مادّيا أو سيكولوجيّا أو مجرّدا، لنخلص إلى أنه “يمكن أن توجد دلالات عبثيّة أي دلالات فيها معنى مقصود لكن دون إمكانيّة إشباع حدسيّ”[36].
تبيّن البحوث الأربعة الأولى من البحوث المنطقيّة أنّ الدّلالة رغم كونها وحدة مثاليّة موضوعيّة مستقلّة لا توجد خارج دائرة الوعي، ولا داخل الوظائف الواقعيّة النفسيّة للوعي رغم كونها معيشا نفسيّا، بل توجد في الوعي بوصفه فعلا قصديّا. إنّ المركّب الصّوتي المقول، لا يصير حقّا كلاما أو قولا تواصليّا إلّا لأنّ الذي يقوله بقوله يقصد ” التّعبير عن نفسه ومن ثمّة عن شيء ما”[37].
تتأسّس دلالة تعبير ما “في أفعال القصد الدّال وفي الملء الحدسيّ لهذا القصد، لا بالمعنى النفسيّ بلا ريب، بل بمعنى تأسيس متعال. إنّ المضمون الدّال هو شيء بذاته مثالي يأمل هوسرل العثور عليه في الماهية القصديّة للفعل الذي يمنح الدّلالة وفي المرجع الأخير، في ماهيّة الفعل الذي يملأ الدّلالة”[38]. وعندما يملأالقصد الدّلالة، تصبح التّسمية علاقة واعية بين الاسم والمسمّى[39].لذلك، فإنّ القول بغرابة الدّلالة عن الوعي يتناقض مع وعي الدّلالة.
لا يوجد من النّاحية الفينومينولوجيّة، إذن، أيّ فرق واقعيّ استنادا إليه يصبح لزاما علينا أن نميّز بين الدّلالة ووعي الدّلالة، بين المعيش والفعل، إذ القصديّة هي التي تجعل وعي الدّلالة يتماثل ويتماهى مع الدّلالة الموعى بها. لذلك فإنّ القول بغرابة الدّلالة عن الوعي يتناقض مع وعي الدّلالة. ليس ثمّة عبارة دون قصد لذات تقصد إحياء المعنى المقصود بإعطائه من لدنها روحانيّة هي في الأصل تخصّها قبل أن تكون تخصّه، لذلك يكون القصد في حال العبارة صريحا لأنه يحيي صوتا كان يمكن أن يظلّ في الباطن ولأنّ المعبّر عنه هو دلالة أي مثاليّة لا تنتسب إلى ما هو موجود في العالم[40].
غير أنّ تأكيد هوسرل ارتباط الدّلالة بالفعل القصديّ، واعتبار الفعل القصديّ معيشا للوعي، ثمّ تأكيده على اندراج هذا المعيش القصديّ بدوره ضمن وحدة أشمل هي “تيّار المعيشات “(الوعي هو “نسيج” أو “تيّار” المعيشات النّفسيّة أو هو المعيش أو الفعل القصديّ)، من شأنه أن يفرض على البحث تعميق النّظر في ماهية وعي الدّلالة ذاتها.
يسمّى نصّ الكلمة عبارة “لأنّه يعبّر عن الدّلالة المنتسبة إليه، وفيه يكمن فعل التّعبير بصورة أصليّة. والعبارة شكل جدير بالملاحظة يقبل التّناسب مع كلّ معنى ويسمو به إلى مملكة العقل، مملكة المفهومي (المعقول) ومن ثمّ إلى مملكة الكلّي”[41]. إنّ العبارة -بما هي اعتزام قول- تعبّر عن مسعى خروجيّ، خروج معنى ما، عن ذاته، ليس له أن يبقى منكفئا علي نفسه بواسطة الصّوت، الصّوت الفينومينولوجي من حيث هو إخراج قصديّ ومريد.
لا تكون العبارة، إذن، دون قصد تنشره الذّات وتهبه روحانيّته بفضل القدرة على تحويل المعيشات النفسيّة إلى أشكال من التّعبير (معيشات تعبيرية)، أي عندما تصبح العبارة المنطقيّة “وسطا” “غير منتج” يأتي “ليعكس” طبيعة المعنى السّابقة على العبارة. “إنّ طبقة التّعبير ليست منتجة -وتلك هي خاصّيتها النّوعية-[42]. و “إنّ المركّب الصّوتي المتمفصل..، لا يصبح كلمة منطوقة أو خطابا تواصليّا بصفة عامّة، إلّا لكون من يتكلّم..، يفعل ذلك قصدا: “التّعبير عمّا في ذاته لشيء ما”، أي لكون من يتكلّم…، يضفي على المركّب الصّوتيّ معنى يريد إيصاله إلى من ينصت إليه”[43].
لذلك، فإنّ مبدأ المبادئ لا يستبقي من أثر اللّغة شيئا. فحكم المنهج يفرض دائما وضع طبقة العبارة بين هلالي الردّ، لأنّ ” المعنى سابق على الكلمة، فهو إذا أوّل الأسبقيّات، وأوّل تعاليات الوجود على المظهر”[44]. إنّ اللّغة “تقطع النّسيج المتّصل الذّي يصلنا حيويّا بالأشياء ويقيم كالسّتارة بينه وبيننا”[45]، لذلك يجب على الفيلسوف “أن يصمت ويتطابق في صمت، ويلحق في الكينونة بفلسفة قد قدّت فيها سلفا”[46].
لا يعني نقد الميتافيزيقا في هذا المجال أكثر بكثير من التّنبيه إلى ما آل إليه النّظر العلميّ والتّفلسف من وهن “الاستعمال المتداول للّغة”، ومن الدّعوة إلى التّوقّي ضدّ المخاطر الأنطولوجيّة للعنصر اللّغوي الذي صار يقترح نفسه بديلا خطابيّا عن الظّواهر، لذلك فإنّ “العودة في نهاية المطاف إلى مستوى التّجارب النّظريّة التي يتعيّن الابتداء بها لدى الفيلسوف دالّ فضلا على ضرب غريب من أولويّة اللّالغوي على اللّغوي ما دامت هذه التّجارب كما هو باد للنّاظر لأوّل وهلة من جنس قبل لغويّ أصلا: من جنس صامت.
إنّ الصّمت عنوان كل تجربة أصيلة كما في كلّ تجريب فينومينولوجي للعالم وفي كل معاشرة للأشياء، ألفة وسكينة، لقاء واستئناس حميم[47]. لذلك استحدثت الفينومينولوجيا “سبلا أخرى لمعالجة الظّواهر لا تحفل بالأمر اللّغوي، إنّما تختزل الوسائط النّظريّة وتعود إلى الطّبقات العميقة للمعنى من حيث هي سبيل للإقبال على العالم إقبالا مباشرا أي العودة إلى الوضع الذي يستبين فيه المعنى أصليّا ومباشرا”[48]. وليست هذه العودة إلاّ ارتدادا للأصل من أجل استصفائه استصفاء رجعيّا.
لا تكون العبارة عبارة ذات دلالة إذن إلّا متى كانت مسكونة بفعل دالّ هو اعتزام قول، وهو أمر يتهيّأ فقط لمن يتكلّم وليس لمن يقرأ، للصّوت لا للكتابة. إنّ الصّوت هو تعبير عن هذا الحضور الذي يبين عن أفلاطونيّة الدّلالة عند هوسرل، وتعدّ مركزيّة الصّوت السّبب الذي به يفسّر دريدا الامتياز الميتافيزيقي الممنوح للحاضر، لذلك نجده يتساءل لماذا يعتبر الصّوت الأكثر مثالية من بين العلامات؟ من أين يأتي هذا التّواطؤ بين الصّوت والمثاليّة؟[49].
3- 2- مثاليّة الصّوت:
ما الذي يصنع مثاليّة الصّوت؟ بطرحه لهذا السّؤال يرنو دريدا إلى تفكيك العلاقة بين المركزيّة الصّوتية ومركزيّة اللّوغوس التي قوامها المطابقة بين العبارة والدّلالة المنطقيّة وإلى فكّ الارتباط الجوهريّ بين الصّوت والعبارة، التّداخل بين الفكر والصّوت ووحدة الصّوت والمعنى داخل اللّوغوس، أي في النّهاية بين العنصر الصّوتي (بالمعنى الفينومينولوجي وليس بمعنى الجهر الذي هو ضمن العالم) والتّعبيريّة أي المنطقيّة التّي تخصّ دالّا نفخت فيه الحياة من أجل الحضور المثاليّ للدّلالة[50].
يعود تعالي الصوت إلى أنّ المدلول الذّي هو من ماهية مثاليّة دوما، والدّلالة المعبّر عنها حاضرة فورا عند فعل العبارة. إنّ الجسم الفينومينولوجي للدّال يبدو وكأنّه يمّحي في اللّحظة التي يولّد فيها . إنّ هذا الامّحاء للجسم المحسوس ولخارجيّته، إنّما هو بالنّسبة إلى الوعي هيأة للحضور المباشر للمدلول بعينه[51]. يبقى الصّوت حسير الأنا ولا مكان فيه يتّسع للآخر أو للعالم لذلك يلزم عن بنية الكلام نفسها ان يصغي المتكلّم إلى نفسه وهو يتكلّم، فهو يدرك في الآن ذاته الأشكال الحميميّة للوحدات الصّوتيّة ويفهم قصد العبارة الخاصّ بها. إنّ الكلام فعل حيّ يحيي جسم الدّال ويحوّله إلى عبارة عازمة دون أن نخشى الموت في جسم دالّ ألقي به في العالم وفي كاشفيّة المكان[52].
إنّه بمقدور الصّوت أن يقول الدّلالة المثاليّة التي هي قائمة عنده دون أن يغامر بتخطّي الحدود المثاليّة لباطن الحياة الحاضرة لذاتها، ففي “الحديث المنفرد الجوّاني تتلاشى الإشارة التي تقدّم حاملا للدّلالة المعبّر عنها، وتغدو “لا مبالية في ذاتها”[53]. إنّ هذا الحضور للذّات، للفعل الذّي ينفخ الحياة في الرّوحانيّة الشفّافة لما يتجلّى، يدعونا إلى القول أنّ الكلام دوما حيّ[54]. فأنا أسمع نفسي، أصغي إلى ما أقول في ذات الوقت الذي فيه أنا أتكلّم، أتحقّق كحضور فيه يتزامن النّطق والسّمع ويتطابقان. إنّ الكلام انعطاء محض وإنّ عمليّة الإنصات إلى حديث النّفسs’entendre parler هي انفعال بالنّفسauto- affection يتساءل دريدا في الصّوت والظّاهرة عمّا يجعله يختّص بالمحوضةpureté والكلّية.
يبدو أنّ عمليّة الإنصات إلى حديث النّفس- بما هي انفعال محض بالنّفس – تردّ إلى حدّ السّطح الباطن، أدمة الجسد الخاصّ، ويبدو أنّه بمقدورها أن تتبرّأ من هذا الخارج في الباطن [55].وإنّ هذه الباطنيّة المحض هي ما يرفعها إلى مراتب الكليّة، ويرفع هذا الانفعال المحض بالنّفس إلى مقام الشّرط الذي في غيابه لن يتسنّى لأيّ عالم أن يظهر كما هو يظهر.
إن الصّوت بإمكانه أن يعرض الشّيء المثاليّ الذي يرتبط به، دون أن يغامر خارج المثاليّة، أي خارج داخليّة الحياة الحاضرة لذاتها “كما يقول صاحب الصّوت والظّاهرة، إنّ المعنى الذي ينطوي عليه أي منطوق حاضر إلى وعي المتكلّم، أي ينتسب حميميّا إلى “نيّته” حين النّطق. وليس المقصود بالصّوت ههنا المادّة المسموعة أو المضمون الفيزيائيّ، وإنّما هو الصّوت الفينومينولوجي الذي يحوّل جسم الكلمة جسدا حيّا Chairويقلبه إلى لحمة روحيّة.
هذا الصّوت الذي يتكلّم ويصغي إلى كلامه، يتكلّم من قبل العالم ومن فوقه، يبقي حاضرا لذاته دائما في ما يقول، فالمتكلّم يحقّق عند استماعه لصوته وهو يتكلّم دفعة واحدة ثلاثة أفعال يتعذّر التّمييز بينها: فهو ينتج أشكالا صوتيّة، ويدرك الشّكل المحسوس للأصوات، وفي الوقت نفسه يفهم الدّلالة المنشودة. لا تفسّر هذه الخاصيّة أولويّة الكلام فحسب، بل تقوم دليلا على أنّ وجود المعقول يقوم في الحضور المعيش، في البداهة المباشرة للوعي التي تجسّدها روحانيّة الصّوت.
وبهذا المعنى فإنّ مركزيّة الصّوت ومركزيّة العقل تنتمي كلّ منهما إلى الأخرى، وتمثّل مركزيّة الصّوت تفسيرا للامتياز الميتافيزيقيّ الممنوح لمفهوم الحاضر، إنّ حاضر الوعي امتلاء وشفافيّة وحضور للذّات أمام ذاتها في طويّتها الحميمة عبر كلمتها الحيّة.إنّ تأكيد هوسرل على التّقارب المطلق بين الدّال والمدلول وانتمائهما إلى الدّائرة النّوتيقية -النّويمائية للوعي الحاضر والمباشر، سيمكّنه من إثبات وجود طبقة قبل تعبيريّة للمعنى يقتضي بلوغها ردّ اللّغة في جملتها من أجل استصفاء المعنى وتأكيد خلوصه وواحديّتهunivocité.وكنّا قد بيّنا أنّ واحديّة المعنى هذه تضمنها الماهيّة، أمّا تعدّدية معنى اللّفظ فهي الدّليل على أنّه لا يحوز في ذاته على معنى يخصّه، وهو ما يمنع مثاليّة معناه[56].
تجعل مثاليّة المعنى، وخلوصه وانعطائه أصليّا وعلى نحو حميم في النّفس، الظّفر به لا يتيسّر بغير الصّوت، خصوصا إذا كان الصّوت هو الوجود حذو النّفس “الذي يحرس الصّمت”. ويعكس ردّ الإشارة والتّوجّه نحو مثاليّة المعنى الباطن في الوعي موقفا من الغير ويمثّل تحقيرا للتّواصل. فما الذي يعنيه التّواصل وما الذي يقتضيه؟
إنّ التّواصل هو” الإرسال المكلّف بتمرير هوّية موضوع مدلول بين ذات وأخرى، وكذا تمرير معنى أو مفهوم يكونان جوهريّا غير مرتبطين بسيرورة التّمرير هذه وبعمليّتها الدّالة”[57]، وهو لذلك يفترض” ذواتا (تكون هوّيتها وحضورها سابقين على العمليّة التواصليّة) وموضوعات (مفاهيم مدلوليّة ومعنى مفكّر فيه لا يحقّ للتّمرير التّواصليّ أن يشكّلها أو يحوّلها)”[58].لذلك تمنع روحانيّة المعنى المدلول عليها الإحياء الذي تتيحه الإشارة من أن يكون محضا أو كليّا لأنّه يبقى في التّواصل مشوبا باللّاشفافيّة الجسميّة للدّال ومنغمس فيها.
لا تزيد الإشارة عن “إقامة علاقة برّانية بين المعنى والعلامة وبين المدلول والدّال” يستحيل بمقتضاها “الدّال إلى إخراج extériorisation المدلول وتعبير عنه . وتتحدّد اللّغة هنا بوصفها تعبيرا (كشف عن حميميّة الدّاخل)”[59]. إذا كان التّواصل ينتمي إلى ماهيّة الإشارة، فذلك لأنّ خارجيّة الإشارة تجعل معيش الغير غريبا عن حدسنا الأصليّ وخارجا عنه. لذلك ففي كلّ مرّة يختفي فيها الحضور الفوريّ والتّام للمدلول يكون الدّال إشاريّا، وتتشابك فيه التّعبيرات مع الإشارات إذ لا تقترن تعابير اللّغة بالإشارات إلّا في التّواصل[60].
إنّ التعبيريّة الإشاريّة قاصرة عن إجلاء المعنى الحيّ لأنّ الدّلالة الإشاريّة تصدق ضمن اللّغة على كلّ ما يقع تحت طائلة ردود الحدثيّة la factualité، الوجود العالمي وكل ضروب اللّاضرورة واللّابداهة[61]. أمّا التعبيريّة الأصليّة والحقّ فهي القصد الفاعل، الذي يبعث الحياة في قول يتعيّن على مضمونه أن يكون حاضرا حضورا في الوعي لحدس أو لإدراك باطنيّين. لأجل ذلك “يقوم هوسرل بوضع قاعدة عامّة تقضي بأن تكون إرادة القول فعلا للتّعبير. فكلّ شيء يمكن قوله حتما ومبدئيّا، وكلّ شيء مطالب بالترقّي إلى العموميّة المفاهيميّة التي تشكّل أصل منطقيّة اللّوغوس”[62].
أمّا “العلاقة بالغير بوصفها لا حضورا هي شائبة تلحق العبارة” وخطرا يتهدّد المعنى الأصليّ، لذلك يتعلّق الفصل الثّاني من الصّوت والظّاهرة (ردّ القرينة)، بردّ الإشارة بوصفها ظاهرة خارجيّة حتّى وإن كانت بالفعل تتصّل بالعبارة اتّصالا حميميّا أو كانت متداخلة معها تجريبيّا.”فلردّ الإشارة داخل اللّغة والإمساك بناصية التّعبيريّة المحضة ينبغي مباغتة الآخر”[63]. إنّ الآخر باعتباره علامة أو كتابة أو إنسانا أو طبيعة يظلّ دائما غريبا وضديدا يفضي اللّقاء به إلى تصدّع الهوّية وتأزيم الأصل. لذلك صار يتوجّب علينا إذن ” النّظر إلى اللّغة والتّواصل بما هما عنصران ثانويّان ووظيفيّان قياسا إلى الفكر الذّي يتميّز أساسا بأنّه فكر متفرّد ومستكفئ”[64].
لا سلامة للأصل إذن ولا نقاء إلّا بإقصاءين: إقصاء العلاقة بالآخر التّي يجسّرها التّواصل الإشاريّ، بطرد “الإشارة خارج دائرة اللّغة الخالصة (أي خارج “منطقيّة” اللّغة)”[65] أوّلا، ثمّ إقصاء العبارة بوصفها طبقة لاحقة على الطّبقة الأصليّة للمعنى ثانيا. إنّ نظام الصّوت إنّما يجد في العلاقة بين هذين الإقصاءين ما به يفرض سطوته وسلطانه العجيب. لذلك كانت الميتافيزيقا دائما، وهذا ما نستطيع التّدليل عليه، تعمل على انتزاع حضور المعنى (سواء بهذا الاسم أم بأسماء أخرى) من المغايرة[66].
4- المبنى الميتافيزيقي للفينومينولوجيا الهوسرليّة:
إنّ تأكيد هوسرل على انتساب اللّغة إلى فضاء المعقوليّة واللّوغوس وإخضاعه التفكير في العلامة إلى طائلة المنطق، واعتباره العبارة مسرحا لظهور الحقيقة وأنّ الدلالة المنطقيّة هي عبارة لا تتجلّى إلّا في منطوق[67].هو الذّي حال دون تبيّنه الفرق بين اللّغة والمنطق، بين الجراماتيكية (النّحوية) والمنطق بلغة دريدا، وجعل المشروع الفينومينولوجي برمّته متردّدا “بين الاندفاع خارج اللّغة للالتقاء بالأشياء ذاتها في عرائها الأصليّ عن الألفاظ إيهاما بضرب من البراءة الميتافيزيقية الأوّليّة للوجود وثقة في أشياء كأنّما هي تخلق للفيلسوف قبل أن تدرك وقبل أن تقال أو تكتب، وبين اعتبار اللّغة مرتبة تأسيسيّة لدائرة المعنى ولمعقوليّته كونها الحامل المنطقيّ للعبارة إذ ليس ثمّة وجود ولا علم بالوجود بغير قول”[68].
إنّ ما يسعى دريدا إلى توضيحه وتأكيده هو أنّ تاريخ الفلسفة بلغ ذروته الميتافيزيقيّته مع حدسيّة فينومينولوجيّة، ظلّ- على وجوه الجدّة فيها- مفهوم القصديّة فيها ينتسب إلى ميراث ميتافيزيقي إرادويّ. هناك قصديّة وقع افتراض سابقيّتها على العبارة تمثّل أساسا لمعنى أصليّ سيتحوّل لاحقا إلى عبارة دالّة. إنّ ” ماهيّة اللّغة هي غايتها telos وغايتها هي الوعي المريد بما هو عزم- على- القول”[69]، وانّ الغائيّة بما هي النّواة التي يلتئم حولها كل مشروع الفينومينولوجيا المتعالية ليست على وجه الحقيقة وفي الأصل سوى نزعة إرادويّة متعالية. وتعدّ إرادة القول تعبيرا عن الحضور الذي في رحابه يدلّ المعنى على نفسه، وكلّ ما يخرج عن إرادة القول للنّفس عند حضور المعنى هو بلا معنى. وتمثّل دائرة انتشاء المعنى دائرة الصّمت والمونولوج، لأنّنا “في الحياة الرّوحية الوحيدة لا نحتاج إلى كلمات واقعيّة ولكن فقط إلى كلمات متخيّلة[70].
لا تكتفي الفينومينولوجيا الهوسرلية -ذات المبنى الميتافيزيقي-فقط برفض الاختلاف، لكنّها تدفن الوجود في أصل حضوريّ وتردّه إلى امتلاء الماهية، لذلك كان دريدا يرى أنّ ” فكرة هويّة تجربة معاشة، تكتسب صدقها من الحضور تكشف عن النّواة الميتافيزيقيّة للفينومينولوجيا، بمعنى أنّ نموذج القصد الدّال الممتلئ بالحدس يخفي “الفرق الزّمنيّ وما هو آخر”différence temporelle et l’altérité“[71]. إنّ رفعة الحاضر هذه، امتياز تعرّف فيه دريدا على تناقض أساسيّ للفينومينولوجيا الهوسرليّة، فعبر إدانة الكتابة وتمجيد الصّوت، وعبر تمجيد الصّوت غير المسموع للرّوح في مقابل الصّوت، يكون هوسرل قد جرّد الكائنيّة من أصالتها المعيشة أصيل ما دام يطمع في تحقيقها في وسط تكون فيه مقطوعة عن كلّ صلة بمعيش الغير.
إنّ بنية الخطاب لدى هوسرل، دائرة نوتيقيّة – نومائيّة للوعي[72]ومثاليّة لا تعني أكثر من إمكانيّة دائمة لإنتاج الذّات باعتبارها حضورا، فالمثاليّة “هي خلاص الحضور أو هي السّيادة عليه ضمن التّكرير، وليس هذا الحضور في صفائه حضورا لشّيء يوجد في العالم، إنّما هو منغلق علي نفسه بأفعال تكرير هي نفسها أفعال مثالية”[73]. إنّها البنية الميتافيزيقيّة للمعنى الفينومينولوجي بوصفه ما يمثّل للوعي في شكل حدس إدراكي. لقد استعادت الفينومينولوجيا عمليّة فهم الوجود استنادا إلى براديغم الفكرة أو الإيدوس من خلال محاولتها إثبات معنى الشّيء بصفته شأنا من شؤون الوعي، فهي تؤكّد ضرورة استنطاق الواقعي من خلال ترابطه بالوعي. إنّ الحقيقة الفينومينولوجيّة هي استئناف للمفهوم التّقليدي للحقيقة بما هي مطابقة بين العقل والشّيء. الحقيقة بما هي معنى الوجود على جهة الوجود الحقّ.
يعني ذلك “أنّ النقد الفينومينولوجي للميتافيزيقا لحظة ضمن اليقين الميتافيزيقي”[74]، إذ لم يوفّق هوسرل في الإفلات من سلطان المقولات الدّيكارتية في مسعاه إلى الإحاطة بالحياة وبتاريخ الوعي، فـ “الأساس الأخير للفكر عند هوسرل يبدو كأنّه غريب عن التّاريخ، فهو معنى يستبطنه الفكر وليس واقعة يفترضها أو تنبسط فيه. والوعي الذي تعكف عليه الفينومينولوجيا ليس متورّطا بأيّ شكل في الواقع ولا هو معرّض لحرج الأشياء والتّاريخ”[75].
لذلك، لن يتسنّى تدبّر الوجود في ظلّ فينومينولوجيا مازالت مشدودة إلى تاريخ الميتافيزيقا. تلك الفينومينولوجيا التي جعلت من المعنى “وحدة تفكّريّة موضوعيّة كملازم قصديّ لفعل الإدراك”[76] وجد فيها بول ريكور شاهدا على أفلاطونيّة هوسّرل ورأى جيل دلوز في هذه التّحليلات الهوسّرليّة التقاء “بالمصادر الحيّة لاستلهام رواقيّ”[77]. أمّا هابرماس فقد وجد فيها فعلا استنباطيّا وتأسيسيّا قوامه “العودة التّأمليّة إلى بداهة شعوريّة متحرّرة من أيّة تأويليّة. وبناءً عليه، فإنّ مفهوم العقلنة ذاته وسعيا منه لإيجاد أنموذجه الخاصّ به، سيلجأ للتفيّأ تحت ظلال العقلنة المنطقيّة الرياضيّة[78]“.
لا تحتاج وثاقة الوجود الباطنيّ إلى أن يكون مدلولا عليها إشاريّا[79]فهي حاضرة لذاتها حضورا مباشرا، “فالمعنى سواء كان “مدلولا” أو معبّرا عنه أم متشابكا مع عمليّة الدّلالة، عبارة عن مثاليّة idealité معقولة أو روحيّة يمكنها أن تتّحد بالوجه المحسوس للدالّ لكنّها تظلّ في غنى عنه، مكتفية بذاتها. فحضوره ومعناه، أو لنقل جوهر معناه، لا يقبل أن يفكّر فيه إلّا خارج هذا التّشابك.
يعلّق الردّ إلى المناجاة الوجود التّجريبيّ ويبقيه محفوظا بين قوسي الردّ، ففي الحياة المتوحّدة للنّفس لا نستعمل كلمات فعليّة إنّما كلمات اعتباريّة فقط. تؤخذ الكلمة لحظة المناجاة على جهة التّمثّل فحسب. فنحن لا نحتاج عند تخيّل الكلمة إلى حدوثها التّجريبيّ. إنّ وجودها ولا وجودها سيّان. يؤكّد هذا الردّ، الذي يريد أن يتحقّق في وسط مقطوع عن كلّ صلة بالغير، انتساب الفينومينولوجيا إلى الانطولوجيا الكلاسيكيّة وإلى ميتافيزيقا الحضور.لذلك يبقى المشروع الفينومينولوجي الهوسرليّ في جملته محكوما بجدل المعنى والحضور الميتافيزيقيين[80]، “فلأنّ القصديّة تتّجه إلى المعنى – الذي يحدّد الحضور بمثل ما تتجّه إلى الحضور الذي يشبع المعنى- تكون الفينومينولوجيا ذاتها ممكنة”[81].
إنّ هوسرل –وذلك هو الاعتراض المركزيّ لدريدا- أعمته الفكرة الأساسيّة للميتافيزيقا الغربيّة، القائلة إنّ مثاليّة الدّلالة المطابقة لذاتها، لا تضمن إلّا بالوجود الحيّ للتّجربة المباشرة التّي تبلغ بالحدس، وتعاش في داخليّة الذّاتيّة المتعالية وقد تخلّصت من كلّ عنصر تجريبيّ، وإلّا ما كان ليخطئ حول حقيقة أنّه في النّقطة المنبع لهذا الحضور المطلق في الظّاهر، يتفتّح فرق وغير ملازم لعفويّة اللّحظة الحيّة، يصفهما دريدا باعتبارهما “تأجيل منتج للفرق” أو “ما لم يحدث بعد” لحاضر مؤجّل دائما، هو الخلفيّة لجملة من الإحالات، لا يمكن لشيء أن يعاش بدونها باعتباره حاضرا في حدّ ذاته[82]، وإنّه وبقدر ما يتجسّد اندساس الأساس في الحاضر بقدر ما تلوح تباشير الفرق والمغايرة، وإنّ وحدة المعطى الحدسيّ هي وحدة مركبّة اعتباطيا ومنتجة، و “أنّ حضور الحاضر المدرك ليس بإمكانه أن يظهر بما هو كذلك إلّا على قدر مساوقته المتّصلة للّاحضور وللاّإدراك[83]. و”إذا كان حاضر الحضور للذّات ليس أمرا بسيطا، إن كان يتقوّم نفسه في تقويم أصليّ لا يردّ إلى شيء فحينئذ سيكون برهان هوسرل عرضة للدّحض من أصله”[84].
تمثّل هذه السّيرورة الأصليّة للتّأجيل والتغيير Altération في قلب الذاتيّة المتعاليّة دليلا على أنّ المغايرة هي فنّ اختراع غيريّة نشطة ومؤقتة ومفتوحة، وهي الدّليل على البنية الفرقيّة للأصل. إنّ كلّ وحدة صوتية أو كتابيّة هي آخر على الدّوام. وهكذا “يتوصّل دريدا إلى قلب الأصوليّة الهوسرليّة عندما ينقل القوّة الأصليّة من الذّاتيّة المولّدة، إلى الإنتاجيّة المغفلة والمؤسّسة للتّاريخ التّي هي إنتاجيّة الكتابة “[85].
5- خاتمة:
لقد كنّا نهدف ببيان خصائص القول الفينومينولوجيّ في اللّغة إلى التأكيد على تجذّر فينومينولوجيا العبارة ورسوخها في عمق الذّاتيّة المتعالية بوصفها ذاتا مدركة لموضوعاتها وقاصدة إليها، وإلى التّشديد على أنّ التحليل الفينومينولوجي للّغة يتأسّس على تعالي الوعي الحاضن لكلّ نشاطات الأنا بوصفه أصلا مطلقا للّغة من حيث هي مزاولة حيّة للمعنى وتعبيرا دالّا يجد في الصّوت تعبيرته الأنقى.” إنّ العبارة ليست طلاء خارجيّا أو مجرّد رداء إضافيّ، بل هي تشكيل عقليّ يمدّ الصّفيحة القصديّة الفرعيّة بوظائف قصديّة جديدة ويستمدّ منها وظائف قصديّة متضايفة”[86].
ينتشر التّقابل الميتافيزيقيّ بين الواقعة والماهية ويستعاد ضمن تفاوت بين ضربين من العلامات، العلامات الإشارية والعلامات التّعبيريّة “بوصفها علامات حاملة للدّلالة”[87]. لذلك، فــــ “إنّ اللّغة الفينومينولوجية لم تفلح في الانفصال عن اللّغة المتداولة وإنّ ماهية اللّغة الفلسفيّة، ولاسيّما تلك التي يعتمد هوسرل بنائها بحسب نظريّته في العبارة، وإنّما هي مجازيّة في الأصل أي غير مستقلّة عن آليّة المقايسة والتّماثل وعن روابط التّناسب والتّشابه”[88]. لذلك لم يكن هوسرل في تقدير هيدقر فينومينولوجيا حقّا لأنّه “حبس نفسه في دائرة الأنا الواعي، وجعل الوجود متضايفا إلى الوعي على نحو قبلي، بمعنى أنّه جعل ماهيّة الوجود مستنفذة في كونه موضوعا للوعي، وبذلك يفقد كلّ موجود – بما في ذلك الوجود الإنسانيّ-دلالته ومعناه. وهذا يعني أنّ موقف هوسرل.. قد حجب عنّا (في نظر هيدقر) وجود الموجود”[89].
لقد قدّمت الفينومينولوجيا الدّلالة على العلامة، لذلك “سيكون علينا أن نعمد إلى إخضاع العلامة للحقيقة، اللّغة للوجود، الكلام للفكر والكتابة للكلام”[90]. إنّ فينومينولوجيا العبارة عبارة عن جراماتيكا منطقيّة وميتافيزيقيّة، تنهض على أساس الوعي وتجد مبتدئها ومنتهاها فيه، وعي، لا يعبّر أخيرا إلّا عن صنوه الأوحد وهو الحضور. إنّ تفكيك ميتافيزيقا الأصل يتشابك عند دريدا بتفكيك منطق الفكر الذي يتأسّس على الاعتقاد في فكرة حضور فعليّ للمعنى خارج العلامات[91]. إنّها ميتافيزيقا الحضور التّي يغتذي كلّ نظامها المفاهيميّ من ذلك الموقف الذي لا يرى في المعنى إلّا أصلا وماهيّة وحضورا. فلسفة الحضور، بهذا الاسم كان دريدا يشير إلى كلّ نظم المعرفة الفلسفيّة التّي أنتجها الغرب إلى حدود اللّحظة التّي صار فيها يتوجّب على التفكيك أن يطرح على الميتافيزيقا- من خلال التّسّلل إلى داخلها – أسئلة تجعلها تظهر تلقائيّا عجزها عن الإجابة وتفضح تناقضاتها الدّاخليّة، انّه نوع من الهدم المحايث للميتافيزيقا عبر إنهاكها داخليا ورجّ نظامها المراتبي.
تتأدّى فلسفة الحضور، بوصفها شكلا منهجيّا مخصوصا إلى اختزال الانفتاح على العالم إلى مجرّد “أفعال روحيّة” وإلى علاقات داخليّة بين الفكرة وما نتمثّله، وهي بذلك تظلّ غير وفيّة ثلاث مرّات لما تتعهّد هي نفسها بالعمل على توضيحه: إنّها غير وفيّة للعالم المرئي ولمن يراه ولعلاقاته بـ “الرّائين ” الآخرين”[92]. إنّ تفكيك الأصل والطعن في واحديّة المعنى وفي فكر التحليق وفلسفة الحضور، معناه الانعطاف بوجهة التّسآل الفلسفي من الماهية كأصل نهائيّ يضمن وحدة المعنى وثباته إلى ما فيه تتجذّر الماهية ذاتها، ومنه يتحدّر المعنى وإلى ما منه ينهل الفيلسوف، أي إلى “هذا المجال الملتبس الذي نجد أنفسنا فيه عند استبعاد الفصل بين الواقعة والماهية …إنّه مجال حياتنا المعرفية”، المجال الذي فيه يجب أن نعتبر “كثرة الحوادث المتفرّدة.”[93]، إلى هذا العرق المشترك للمدلول والدّال، للكتابة والكلام.
هذا المجال الخصب والمولّد للمعنى هو مجال التّجربة بكلّ تنويعاتها ومعانيها الحيّة من حيث أنّ التجربة محنة وتفجّع مفعم بالأمل، ومن حيث هي هذا المجال المفتوح الذي لا نموذج له ولا مقتدى، والذي يجد كلّ معناه في ديناميّته “بما أنّ المعنى انفتاح وليس تسييجا”[94]، وفي همّ السّؤال لا في وضوح الإجابة، وفي توزّعه الذّي يمتدّ إلى العينيّ والمجرد، إلى الوجود والعدم، إلى المعنى واللّامعنى، وإلى الكتابة والكلام. وإيجازا إلى أعماق السّطوح جميعها، خاصة بعد “اكتشاف حقيقة أنّ العمق لم يكن سوى مجرّد لعبة وثنيّة من ثنايا السّطح.”[95] وهو معنى شبيه في مصيره بمصير المعنى الميتافيزيقيّ للإنسان الذي “سوف يندثر، مثل وجه من الرّمل مرسوم على حدّ البحر.”[96]
إنّ الشّغف التّأسيسيّ للفينومينولوجيا المتعالية في صيغتها الهوسرليّة وتعلّقها بمطلب الأصل والأساس، جعلاها تتعامى عن “هذا التّواشج الواثق بين العالم والكينونة والذّي من دونه تكون الماهية جموحا ذاتويّا وعجرفة”[97]. لذلك أخفق الحرص الهوسرليّ على تحصيل وحدة المعنى في امتلاء الحضور الحاضر “لأنّ الحضور والمعنى لا يتطابقان مطلقا تمام التّطابق”[98].
قائمة المراجع:
- انقزو، (فتحي). هوسرل ومعاصروه: من فينومينولوجيا إلى اللّغة إلى تأويلية الفهم، ط1، المغرب/لبنان: المركز الثقافي العربي، 2006.
- انقزو، (فتحي). هوسرل واستئناف الميتافيزيقا، تونس: دار الجنوب للنشر، 2000.
- بوحجة بن علي، (ناجة). “هوسرل والكوجيطو الديكارتي”، الفكر العربي المعاصر، العدد120-121، شتاء2002،
- توفيق، (سعيد). الخبرة الجمالية: دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتيّة، بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنشر والتوزيع، 1992.
- دريدا، (جاك)، الصّوت والظاهرة، مدخل لمسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل، ترجمة وتقديم فتحي انقزو، الطبعة الأولى، المغرب: المركز الثقافي العربي، 2005.
- دريدا، (جاك)،اليزابيت رودينيسكو.ماذاعن غد؟: “محاورة”، ترجمة سلمان حرفوش وتقديم فيصل دراج، الطبعة الأولى، دمشق: دار كنعان، 2008.
- دريدا، (جاك)،في علم الكتابة، ترجمة وتقديم انور مغيث ومنى طلبة، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2008.
- دريدا، (جاك)،مواقع: حوارات، ترجمة فريد الزاهي، الطبعة الأولى، المغرب: دار توبقال للنشر والتوزيع، 1992.
- رورتي، (ريتشارد). الفلسفة ومرآة الطبيعة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل ومراجعة ربيع شلهوب، الطبعة 1، بيروت-لبنان: المنظّمة العربيّة للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، 2009.
- ريكور، (بول). الوجود والماهية والجوهر لدى أفلاطون وأرسطو(درس ألقي في جامعة سترازبورع سنة 1953-1954)، ترجمة فتحي انقزو، محمّد بن ساسي، حبيب الجربي، محمّد محجوب، إشراف محمّد محجوب، الطبعة الأولى، تونس: المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، 2012.
- سعيد، (جلال الدّين) . معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، تونس: دار الجنوب للنشر، 2004.
- غادامير، (هانس جورج) . الحقيقة والمنهج: الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفيّة، ترجمة حسن ناظم وعلى حاكم، (صالح)، مراجعة جورج كتورة، الط1، طرابلس- الجماهيرية العظمى: دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع، 2007.
- غروندان، (جان)، التأويلية، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة،2017،
- محجوب (محمّد). هيدغير ومشكل الميتافيزيقا، تونس: دار الجنوب للنشر، 1995.
- ميرلوبنتي، (موريس). ظواهريّة الإدراك، ترجمة فؤاد شاهين، بيروت-لبنان: معهد الإنماء القومين 1998.
- ميرلوبنتي، (موريس)، المرئي واللامرئي، ترجمة وتقديم عبد العزيز العيّادي، الطبعة الأولى، بيروت-لبنان: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2008.
- نايل، (حسام). استراتيجيات التّفكيك، جاك دريدا وبول دي مان مع مناقشات جوناثان كلر وميشيل رايان، . ترجمة وتأليف حسام نايل، عمان: أزمنة للنشر والتوزيع، 2009.
- هابرماس، (يورغن). العلم والتقنية “كايديولوجيا، ترجمة حسن صقر، اللاذقية-سوريا: منشورات الجمل، 2003.
- هابرماس، (يورغن)، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995.
- هابرماس، (يورغن)، إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، الط1، الجزائر: منشورات الاختلاف، 2010.
- هوسرل،(ادموند).تأمّلات ديكارتيّة أو المدخل إلى الفينومينولوجيا، ترجمة تيسير شيخ الأرض، بيروت-لبنان: دار بيروت للطباعة والنشر، 1958،
- هوسرل،(ادموند). فكرة الفينومينولوجيا (خمسة دروس)، ترجمة فتحي انقزو، بيروت-لبنان: المنظّمة العربيّة للتّرجمة، 2007.
- هوسرل،(ادموند). أفكار ممهّدة لعلم الظاهريّات الخالص وللفلسفة الظاهرياتيّة، نقله إلى العربيّة أبو يعرب المرزوقي، الطبعة الأولى، بيروت-لبنان: جداول للنّشر والتوزيع، 2011.
- هوسرل،(ادموند).مباحث منطقية ج1، مقدّمات في المنطق المحض، ترجمة موسى وهبة، لبنان: المركز الثقافي العربي 2010.
- Aubenque, Pierre. Le problème de l’être chez Aristote. Paris: PUF, 1962.
- Benoist, Jocelyn. Intentionnalité et langage dans les recherches logiques de Husserl. Paris: P.U.F, 2001.
- Deleuze, Gilles. Logique du Sens. Minuit. Paris: Minuit, 1969.
- Derrida, Jacques. Introduction, in Husserl, L’origine de la géométrie. Jacques Derrida (Traduction et introduction). Paris: PUF, 1962.
- Derrida, Jacques, Marges de la philosophie. Paris: Minuit, 1972.
- Dufrenne, Mikel. La notion apriori. Paris: PUF, 1959.
- Gobb- Stevens, Richard. Husserl et la philosophie analytique. Paris: Vrin, 1998.
- Grondin, Jean. Introduction à Hans-George Gadamer. Paris: Cerf, 1999.
- Husserl, Edmund, Recherches logiques. Hubert Elie Arion kelkel et René Schérer (trad.). Paris: PUF, 1969.
- Husserl, Edmund, L’origine de la géométrie, Traduction et introduction par Jacques Derrida (Trad et intro). Paris: PUF, 1962.
- Husserl, Edmund, La crise des sciences européennes et la phénoménologie Transcendantale. G. Granel (Trad.). Paris: Gallimard, 1976.
- Husserl, Edmund, Idées directrices pour une phénoménologie. Paul Ricœur (Trad). Paris: Gallimard, 1950.
- Husserl, Edmund, Méditations cartésiennes, trad. G. Peiffer et E. Levinas (trad.) Paris: vrin, 1992.
- Levinas, Emmanuel. En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger. Paris: Vrin. 1967.
- Levinas, Emmanuel. Théorie de l’intuition dans la phénoménologie de Husserl. Paris: Vrin. 1970.
- Lyotard, François. La phénoménologie, Paris: PUF, 1954.
- Merleau-Ponty, Maurice. Phénoménologie de la perception, Paris: Gallimard, 1945.
- Ricœur, Paul. A l ‘école de la phénoménologie. Paris: Vrin, 1986.
- Thévenaz, Pierre. Qu’ est-ce que la Phénoménologie, Revue de théologie et de philosophie, Lausanne, 1952
[1]– جاك دريدا، اليزابيت رودينيسكو، ماذا عن غد؟، “محاورة”، ترجمة سلمان حرفوش وتقديم فيصل دراج، الطبعة الأولى، دمشق، دار كنعان، 2008، ص301.
[2]– جاك دريدا، الصّوت والظاهرة، مدخل لمسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل، ترجمة وتقديم فتحي انقزو، الطبعة الأولى، المغرب، المركز الثقافي، 2005، ص31.
[3]– بول ريكور، الوجود والماهية والجوهر لدى أفلاطون وأرسطو (درس ألقي في جامعة سترازبورع سنة 1953-1954)، ترجمة فتحي انقزو وآخرون، إشراف محمّد محجوب، الطّبعة الأولى (تونس، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، 2012)، ص21.
[4]– بول ريكور، الوجود والماهيّة والجوهر لدى أفلاطون وأرسطو، ص25.
[5]– المرجع نفسه، ص15.
[6]– Pierre Aubenque, le problème de l’être chez Aristote,(.Paris: PUF, 1983) p.127.
[7]– M. Merleau ponty,Le visible et l’invisible,( Paris: Gallimard, 1964), p.145.
[8]– راجع: فتحي انقزو، هوسرل ومعاصروه، من فينومينولوجيا اللّغة إلى تأويلية الفهم، المركز الثقافي العربي، ط1، المغرب/لبنان، المركز الثقافي العربي، 0200، ص135.
[9]– Husserl, méditations cartésiennes, G.Peiffer et E. Levinas (trad.) (.Paris:.vrin, 1992), p.144.
[10]– هوسرل، أفكار1، ص164.
[11]– Husserl, méditations cartésiennes, p.141.
[12]– لبيان مكانة فكرة القصديّة في الفكر الفلسفي المعاصر، راجع على سبيل المثال:
– M.Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, (Paris: Gallimard, 1945), pp.469-495.
– E.Levinas, « Intentionnalité et métaphysique » et « Intentionnalité et sensation », in En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, (Paris: Vrin, 1949), pp.137-144.
[13]– Husserl, Méditations cartésiennes, , p.14.
[14]– J.F; Lyotard, La phénoménologie,( Paris PUF,2004), p.54.
[15]– Mikel Dufrenne, la notion apriori, (Paris, PUF, 1959), p.159.
[16]– هوسرل، تأمّلات ديكارتيّة أو المدخل إلى الفينومينولوجيا، ترجمة تيسير شيخ الأرض )بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، 1958(، ص103.
[17]– موريس ميرلوبنتي، ظواهرية الإدراك، ترجمة فؤاد شاهين) معهد الإنماء القومي،1998(، ص14.
[18]– هوسرل، بحوث منطقية، المجلد II، الجزء الثّاني البحث الخامس، الفقرة12، ص 178.
[19]– “إنّ ما هو محايث فعلا يعتبر واثق الوجود من قبل إنّه لا يشهد لغيره، لا “يقصد خارج” نفسه شيئا، لأنّ ما هو مقصود ههنا هو كذلك معطى بنفسه وبنحو مطابق تماما.” إدموند هوسرل، فكرة الفينومينولوجيا (خمسة دروس)، ترجمة فتحي انقزو، بيروت، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، 2007، ص34.
[20]– هوسرل، أفكارI. مرجع سابق، الفقرة 90، ص 310.
[21]– المرجع نفسه، الفقرة 135، ص452.
[22]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص16.
[23]– المرجع نفسه، ص87.
[24]– يمثّل كتاب “الأبحاث المنطقيّة” النّصّ النّواة لكلّ الفينومينولوجيا، لذلك يعالج دريدا في كتابه: “الصّوت والظّاهرة” مشكلة العبارة كما فهمها هوسرل بالبحث المنطقيّ الأوّل، معالجة كان غرضها الرّئيس الكشف عن البنية الميتافيزيقيّة لنظريّة المعنى الهوسرليانيّة.
[25]– دريدا، الصّوت والظاهرة، مرجع سابق، ص59.
[26]– المرجع نفسه والصفحة نفسها.
[27]– هوسرل، بحوث منطقية، المجلّد الثّاني، مرجع سابق، ص59.
[28]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص52.
[29]– المرجع نفسه، ص65.
[30]– يورغن هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 1995، ص269.
[31]– ادموند هوسرل، أفكار ممهّدة لعلم الظاهريّات الخالص وللفلسفة الظاهرياتيّة، نقله إلى العربيّة أبو يعرب المرزوقي، الطبعة الأولى، بيروت-لبنان، جداول للنّشر والتوزيع، 2011، ص 308.
[32]– هوسرل، بحوث منطقيّة، مرجع سابق، ص61.
[33]– G. Deleuze, Logique du sens, p32.
[34]– هوسرل، بحوث منطقية، مرجع سابق، ص61.
[35]– المرجع نفسه، ص62.
[36]-Paul. Ricœur, A l‘école de la phénoménologie, (Paris: Vrin, 1986), p.11.
[37]-Gobb- stevens Richard, Husserl et la philosophie analytique,( Paris: Vrin, 1998), p.166.
[38]– هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، مرجع سابق، ص270.
[39]– Benoist (jocelyn), intentionnalité et langage dans les recherches logiques deHusserl, (paris: P.U.F, 2001), p.111.
[40]– Benoist, intentionnalité et langage, p.87.
[41]– هوسرل، أفكار ممهّدة، مرجع سابق، ص308.
[42]-المرجع نفسه، ص309.
[43]– Husserl, Premières recherches logiques (paris: 1961, PUF, 1961), pp 32.33.
[44]– ريكور، الوجود والماهية الجوهر لدى أفلاطون وأرسطو، ص 24.
[45]– موريس ميرلوبنتي، المرئي واللاّمرئي، ترجمة وتقديم عبد العزيز العيّادي، الطّبعة الأولى، بيروت، المنظّمة العربيّة للترجمة، 2008، ص206.
-[46] المرجع نفسه والصّفحة نفسها.
[47] انقزو، هوسرل ومعاصروه، مرجع سابق،ص124-125.
[48]– فتحي انقزو، هوسرل واستئناف الميتافيزيقا، تونس، دار الجنوب للنشر، 2000، ص21.
[49]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص127.
[50]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص126.
[51]– المرجع نفسه، ص127.
[52]– المرجع نفسه، ص128.
[53]– هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، مرجع سابق، ص269.
[54]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص128.
[55]– المرجع نفسه، ص130.
[56]– Aubenque, le problème de l’être chez Aristote, p.121.
[57]– جاك دريدا، مواقع، حوارات، ترجمة فريد الزّاهي، الطّبعة الأولى) دار توبقال للنشر، 1992(، ص27.
[58]– دريدا، مواقع، مرجع سابق، ص27.
[59]– المرجع نفسه، ص33.
[60]– هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، مرجع سابق، ص268.
[61]-G-S.Richard, Husserl et la philosophie analytique, (paris: Vrin, 1998), p.166.
[62]-Derrida, «La forme et le vouloir-dire”, in; Marges de la philosophie,(paris, Minuit, 1972). , p.196.
[63]– دريدا، الصّوت والظاهرة، مرجع سابق، ص77.
[64]– يورغن هابرماس، إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، الط1)الجزائر، منشورات الاختلاف، 2010(، ص13.
[65]– دريدا، مواقع، مرجع سابق، ص34.
[66]– المصدر نفسه، ص.33
[67]– Husserl, l’origine de la géométrie, op.Cit p.16.
[68]– انقزو، هوسرل ومعاصروه، مرجع سابق، ص101-102.
[69]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص70.
[70]– المصدر نفسه، ص13.
-[71] هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، مرجع سابق، ص274.
[72]– Babaras.Renauld, introduction a la philosophie de Husserl, les éd de la transparence, 2004, Lourai, France. Pp 31-32.
[73]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص 33-34.
[74]– المرجع نفسه، ص28.
[75]– E. Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Gallimard, Paris 1964, p.151.
[76]– Deleuze, Logique du sens, op.cit. p.32.
[77]– Ibid.
[78]-هابرماس، إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، مرجع سابق، ص13.
[79]– هل يجب علينا أن نقول أنّ هذا الذّي يتكلّم وحده يتكلّم لنفسه، وانّ الكلمات تقدّم إليه أيضا إشارات، أي مؤشّرات لتجاربه النّفسيّة المعاشة الخاصّة؟ لا أعتقد انّه بالإمكان الدّفاع عن مثل هذا التصور” .ضمن:
Husserl, Recherches logiques, op.cit, p.40.
[80]– لا تزيد الفينومينولوجيا بهذا المعنى كثيرا عن “معاودة المأثور الميتافيزيقي نهوضا لشرف المعنى على العبارة وللصّوت على النسخ والتدوين اعتقادا أنّ اللّغة نفسها مبنيّة على سياق من التّعلّقات المثليّة أو من سياقات الماهية المترابطة بنحو قبلي محض وأنّها تنشأ من منظومة أفعال وطبقات أولى سابقة على التّعبير تعتمل حياة النفس أو هي ممكنة بوصفها حديث النّفس لنفسها قبل كلّ حديث”. ضمن:
انقزّو فتحي، هوسرل ومعاصروه، من فينومينولوجيا اللّغة إلى تأويليّة الفهم، المركز الثقافي العربي، المغرب/لبنان، ط1 2006، ص23.
[81]-Paul Ricœur, A l’école de la phénoménologie, Vrin, Paris1986, p.11.
[82]– هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، مرجع مذكور، ص276.
[83]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مصدر مذكور، ص . 108
[84]– المرجع نفسه، ص104.
[85]– هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، مرجع سابق، ص271.
[86]– هوسرل، أفكار ممهّدة لعلم الظاهريّات الخالص وللفلسفة الظاهرياتيّة، مرجع مذكور، ص310.
[87]-Husserl, recherches logiques, tom 2, p.35.
[88]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص21.
[89]– سعيد توفيق، الخبرة الجماليّة، دراسة في فلسفة الجمال الظّاهراتيّة، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنشر والتوزيع، بيروت1992، ص80.
[90]– دريدا، الصّوت والظّاهرة، مرجع سابق، ص56.
[91]– جان غروندان، التّأويليّة، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة2017، ص101.
[92]– ميرلوبنتي، المرئي واللامرئي، مرجع سابق، ص98.
[93]– Michel Foucault. L’archéologie du savoir. Paris Gallimard 1969. P.32
[94]– M. Merleau Ponty, Notes des cours au collège de france1959- 1961, Gallimard, Paris1996, p.134.
-[95] فوكو، تقديم كتاب نيتشة، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، مرجع سابق، ص10.
[96]– فوكو، الكلمات والأشياء، مرجع سابق،ص313.
[97]– M. Merleau-Ponty, Le visible et L’invisible, Gallimard, Paris1964, p151.
[98]– Jean Hyppolite, Figures de la pensée philosophique, PUF, Paris, 1971, T2, p.617.