المقدمة
ارتبطت ظاهرة “الطائفيّة السياسية”، تاريخيا، بفترات الحروب والأزمنة الملتهبة والتدخّلات الأجنبية في منطقتنا العربيّة والإسلاميّة. فكلّما عاشت أمّتنا العربية محنة سياسيّة أو حدثت فيها تمرّدات اجتماعية وشعبية أو مرّت بأزمة اقتصاديّة إلا وعاودت هذه الظاهرة إلى البروز وتم إحياء مسالكها والاستنجاد بمختلف أشكالها وتعبيراتها المذهبية والدينية والمناطقية والسياسيّة…الخ. فأصبحت منطقتنا العربية والإسلامية تعيش حالة من انعدام الأمن والاستقرار بشكل غير مسبوق. إذ لم تعد الأخطار التي يهدّد وجودها خارجية وذات أبعاد عسكرية فقط، وإنّما تعدّدت ميادينها وأصبحت محلية “وطنية” تديرها قوى سياسية داخلية مدعومة من الخارج عبر عديد الآليات والذّخائر الناعمة والخشنة معا. والمستحدث في هذه الظاهرة، بعد عام 2011، أنّها أصبحت علنيّة تتم الدّعوة إليها عبر كل أشكال وسائل التّعبئة الشعبية وفنون الدّعاية السياسية والثقافية والوسائط الإعلامية دون خجل أو حياء. وعلى الرّغم من أنّها ظاهرة ليست جديدة على صعيد الثقافة السياسية العربية، ولكن الجديد هو أن تتحول إلى عقيدة داخل نسيج العقل السياسي العربي.
لئن كانت الطائفية بمختلف تعبيراتها مُحرّمة في تشريعات الدّول وسياساتها في مختلف أنحاء العالم باعتبارها تهدّد وحدة شعوبها الوطنية والقومية، فإنّها كثيرًا ما كانت تمثّل مَصْيدة ناعمة تعتمدها الدول الاستعمارية الغربية ضمن سياساتها الخارجيّة للهيمنة على بلدان العالم الثالث، ومنها منطقتنا العربية والإسلامية. لقد عملت القوى الاستعمارية الغربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، على إثارة الصّراعات الطائفية في مختلف المناطق التي احتلتها وتحكمت في شعوبها، فاعتمدت على بعض الانتماءات التقليدية “ما قبل المواطنية”: القبلية والمذهبية والدينيّة والاثنية وغيرها، وأعطتها بعض الامتيازات على حساب المجموعات الأخرى في إطار ما عُرف بسياسة “فرق تسد”.
لقد تحوّلت هذه القضية في منطقتنا العربية خاصّة بعد عام 2011، إلى استحقاق بحثي علمي، وإلى “تيمة” ابستمولوجية تحتاج إلى تعريتها ووضعها على محك الرصد والتحقيق العلميين من قبل المختصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية عموما للوقوف على أسبابها المباشرة وغير المباشر، وكشف مختلف أبعادها وتجلياتها سواء أكان في مستوى الخطاب السياسي الاعلامي أو في مستوى ممارسات بعض الفاعلين السياسيين في مختلف أطرهم ومواقعهم (الأحزاب السياسية والمنظمات). فنحن اليوم، أمام وضع عربي سيء وشديد التّعقيد اختلطت فيه المفاهيم، وتداخلت فيه الممارسات ذات المرجعيات الطائفية، وبدأت تنتشر فيه مختلف أشكال التعصب والإرهاب ــ الفكري والمادي ــ وذخائر “الكولونيالية الجديدة”(Neo-colonialism). وهذه التحدّيات تضع النخب الفكرية والسياسية والثقافية والإعلاميّة في منطقتنا العربية أمام مسؤولية تاريخية لمعالجة هذه القضية معالجة علمية رصينة؛ فتحدد أسبابها الموضوعية، وتشخص تمظهراتها، وتقترح الحلول وطرق المعالجة المناسبة لها حتى تعيد أمّتنا قوّتها، وتحفظ تماسك مختلف مكوّناتها الإثنية والدينية والمذهبيّة في إطار وحدتها الثقافية والحضارية الأصيلة القائمة على التسامح والتّعايش السلمي بين مختلف هذه المكوّنات، وتحمي شبابنا من الوقوع تحت تأثير دعاة “الفتنة” مهما كانت عناوينها أو مبرّرات الدّعوة إليها.
نعتقد أنّ أول خطوة منهجية ينبغي علينا القيام بها لفهم أسباب عودة ظاهرة “الطائفية” إلى وطننا العربي والاستنجاد بها من قبل البعض، هي البحث في سياقاتها الإقليمية والدولية الجديدة، والعوامل الداخلية التي سمحت بمعاودة إنتاجها، حتى أصبحت إيقاعاتها السلبية جلية في مختلف المستويات السّياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، وباتت تهدّد كيان دولنا ووحدة شعوبنا وتعيق كل محاولات دمقْرطة حياتنا السياسية. ما هي أبرز أسباب تنامي النزعة الطائفية السياسية التي تمكنت من إحداث تغييرات جذرية على روحية الإنسان العربي وأسلوب تفكيره؟ هل بدأت الفضاءات الإعلامية تنشر قذارتها في أرض النفوس البشرية، وتشكل معولا أو سلاحا فتاكا لوحدة النسيج الاجتماعي في منطقتنا العربية؟
1ــ الطائفيّة السياسية وسياقات إنتاجها في منطقتنا العربية
نتيجة التحوّلات المهمّة التي شهدتها المنطقة العربيّة منذ عام 2011، تجدّدت بعض الأسئلة حول مستقبل أمّتنا في ظل انتشار الدّعوات إلى إعادة بناء خارطتها الجيو ــ سياسية، وتقسيمها وفق مكوّناتها الإثنية والدينية والمذهبيّة..الخ. فقد انتقلت مسألة إعادة التقسيم والتفتيت من منطقة المسكوت عنها إلى منطقة الجدل العلني في محاولة لتكثيف حالات التشكيك في وحدة شعوبها وتماسك هويتها الوطنية الجامعة لجميع مكوناتها الاجتماعية؛ وكثرت محاولة تشويه هذه الهوية وتسطيح مقوماتها الحضارية كمدخل لتحريف التاريخ وإعادة هندسة مستقبل المنطقة عبر إثارة المعارك “المفتعلة” وأشكال التناحر والصراعات الداخلية وبث روح “الفتنة” في نفوس جميع مكوّناتها السياسية والدينيّة والمذهبية، ودعم الاختلافات بينها ونسف كل ما يجعها ويوحّدها. طبعا إذ تحول التنوع والاختلاف إلى مشكلة قد يكون مدخلا للنزعة الطائفية وحينها يعجز الحاكم والنخب الفكرية والسياسية والاجتماعية مهما رصدت لها من إمكانيات من تكوين إجماع وطني يجمع مواطنيه تحت راية واحدة بحقوق وواجبات متساوية تضع الكل في خانة واحدة هي المواطنة”([1]).
1ــ 1ــ الطائفية السياسية: أزمة في العقل والعقيدة
عرّف حامد أبو زيد “الطائفية” على أنّها ” فعل تفتيتي، لا يتوقّف على ممارسة فعاليته عند نقطة محدّدة، قد تبدأ من نقطة ما، لكنها تنفجر ما لم تتم محاصرتها بأسرع وسيلة([2]). ومن أسس النزعة الطائفية في المجتمع هو التعصّب لمجموعة بشرية دون غيرها، لأنّ طبيعة تشكّلها يقوم على التّمايز الاجتماعي أو السياسي أو الديني الذي يتعارض مع وحدة المجتمعات الإنسانية، ويتعارض أيضا مع سنن التطور ومقتضياته. وتستهدف الطائفية في اختلاف أبعادها (سياسية ودينية وإثنية..) الانغلاق وتقديس الانتماء إلى الطائفة وعدم الاعتراف بالتشكيلات الأخرى المختلفة معها باعتبارها تعمل على تحويل الاختلاف معها إلى صراع وتناقض دائمين. وهذه النزعة الطائفية عندما تنتقل من الاجتماعي إلى السّياسي تصبح “عقيدة أيديولوجية” تؤدّي بالضّرورة إلى تقسيم المجتمع وتحوّله إلى مجموعة من الكتل أو الطوائف و”المليشيات”المنغلقة والمتصارعة فيما بينها بحسب تعدّد انتماءاتها الإثنية والدينية أو ولاءاتها السياسية الحزبيّة. فالطائفية هي علاقة انتماء الفرد إلى مجموعة من النّاس تجمعهم رابطة عقدية أو سياسية أو مناطقية أو قرابية أو غيرها.
على الرّغم من أنّ مظاهر “الطائفية” في وطننا العربي قد بدأت في التشكّل منذ “الفتنة الكبرى” (35ــ 41ه / 656 ــــ661م)، وكانت سببًا في تخلف العرب والمسلمين وسببًا مباشرًا في هزائمهم عبر التاريخ القديم والحديث، فإنّ بعض دعاة الفتنة مازال لم يستوعب هذا الدرس التاريخي. بل لقد انخرط بعض زعماء الحركات السياسية والاجتماعية في منطقتنا العربية في الدعوة إلى كل أشكال التعصب وتفرعاته؛ الاعتقادية والسياسية والمذهبية والمناطقية، حتى بات الشّباب لا يميّز بين العدو والصديق، وما هي القضايا التي يجب أن يناضل من أجلها. لقد خلّفت هذه الظاهرة آثاراً مدمّرة على جميع الصّعد، وكانت نتائجها سيّئة جدا على استقرار مجتمعاتنا وتطورها، حيث باتت تنتشر فيها جميع ظواهر الأنوميا الاجتماعية( Anomie sociale) والسياسية من الكراهيّة والعنف والإرهاب والقتل وغيرها، حيث بذرت هذه الظاهرة الأيديولوجة قذارتها في أرض النّفوس والأفئدة البشرية، فصار كلّ إنسان في منطقتنا العربية منبرا طائفيا، ومعولا، وسكينا، وقلما مأجورًا يمارس أبشع صور الطائفية والنفي والتكفير”([3]).
يذهب بعض المختصين في علم الاجتماع([4]) إلى أنه عندما ننظر إلى مجتمعاتنا العربية، نجدها تعاني بشدة من ظاهرة التعصب، ولم تزل كما كانت منذ قرون مجتمعات تقليدية تحكمها الهيمنة الأبوية وما ينبثق عنها من القبلية والعشائرية والعصبيات الطائفية والعائلية. فالوعي البشري كله محدود بالظروف الاجتماعية والحضارية الخاصة بالبيئة المحيطة بالإنسان، ولا يمكن أن نتحدث عن أزمة هوية بمعزل عن السياقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المنتجة لهذه الأزمة. ومثلما ذكر “فرانسوا بايار”(1998-88) إن “الهوية مرتهنة دوما بكمياء الواقع الاجتماعي”([5]). لذلك، ليس ثمة قيمة علمية لأي عمل يتناول أزمة الهوية بمعزل عن السياق المجتمعي المحيط، فالأنساق القيمية والخلقية تعبر عن هوية المجتمع وتؤسّس صور الاتفاق العام بين الأفراد في اتجاهاتهم وتقوم بدور الوسيط ((intermédiaire الرّابط بين وحدات المجتمع على اختلاف مستوياتهم المعرفية وانتماءاتهم الاجتماعية.
إنّ النزعة التطرفية عند الفرد أو الجماعة هي نزعة لا تقوم على أية معرفة حقيقية، بل تنتشر في مناخ التشوش العقلي والانحطاط الأخلاقي والاستبداد السياسي الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية؛ فهي نزعة تقوم غاليا، على ردة الفعل نتيجة مفاهيم مغلوطة وغريبة عن ثقافتنا وفاقدة لأي أساس ديني تنتشر وتتوسع في ظل حالة الفوضى الراهنة وحالة الخلل العام للأمة. ولا يمكن أن يكون لها البتة، من معنى إلا بالنظر إلى الاستعمار بما هو متماه معها. وكما نعرف أنه هو الذي يهدد كل شيء ليأخذ مجتمعنا العربي الإسلامي إلى دوامة الفتنة والفوضى العامة تحت عناوين ومسميات مختلفة ومتحولة بهدف تفكيك ما تم تحقيقه والعبث بتراكماته التاريخية العميقة. فأغلب الأحداث العُنفية والتوترات المربكة للمشهد العربي والمثيرة للاشمئزاز، تعود أساسا إلى تجذّر “اللاعقلانية” في عمق الشخصية العربية التي تتأثر ببيئتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وبكل معايير السلوك والقيم السائدة في هذه البيئة، فتتحول بعض الاعتقادات والشائعات إلى “أطر اجتماعية” (Des cadres sociaux) للتنويم والتوجيه.
في ظلّ غياب القيم المواطنية في منطقتنا العربية، فإننا نحتاج إلى الوعي السياسي الرشيد لمقاومة النزعة التفكيكية والانقسامية التي أصبحت مستبطنة في العقل الجمعي مؤطرة إعلاميا ونفسيا وثقافيا وسياسيا، فباتت متحكمة في المشهد العام لدينامية مؤسّسات المجتمع والدولة معًا. وعندما يكون سلوك نخبة المجتمع وقادته السياسيين “طائفيا”، فإنّه يخلق وحدات تسويقية موازية لمؤسّسات المجتمع المدني، و”الموازي هو بالضرورة نتيجة لواقع فاقد للمعايير الاندماجية ويعني نوعا من القصور البنيوي والوظيفي”([6]) للنسق السياسي في الدّولة. ومن ثم، تغيب العقلانية عن المجال السياسة في تسيير هياكل الدّولة، وتنعدم فيها جميع أشكال المشاركة المجتمعية في إدارة الشأن العام وتظل العامل الرئيسي في اختلاق كثيرا من المعارك الداخلية الوهمية على حساب معاركنا مع الأعداء في الخارج. ونتيجة غياب العقلنة في إدارة المشهد السياسي، تحضر الطائفية وتسد هذا الفراغ في بنية العلاقات السياسية بكل أشكالها وأبعادها، لتتحول في الأخير إلى أحد مكوّنات”العقل السّياسي العربي” وعقيدتنا السياسية لدى النّخب والعامّة على حدّ السّواء.
1ــ 2ــ الكولونيالية الجديدة وسياقاتها المولّدة للطّائفيّة السياسية
ذكر “كيت داوت” في كتابه ” فهم الشرّ: دروس من البُوسنة”([7]) أنّه من خلال خطة منسقة لأعمال مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية للمجتمع ونتائجها الأكثر وحشية تتضمّن تدمير التّضامن ومكوّنات الهوية الوطنية والقومية، وأسس تنظيم العائلة، وبنية المؤسّسات السياسيّة والاجتماعية، ووعي الذات لكي يصبح الارتياب وسوء النيّة ــ التخوين والاتهامات الباطلة ــ التوجّهين السائدين لدى الناس. ومن ثم تعمّ مشاعر الاغتراب واليأس والكآبة والقلق والمشاعر السلبية بين الناس، وانقلبت أسس حياتهم الخاصة الهادئة بصورة عاصفة، لأنّ أسس الرّوابط الاجتماعية والثقافية والدينية قد حُرِثتْ، بل قُلِبت تمامًا رأسًا على عقب. وهذا ما يتطابق مع الخطة أو السيناريو الذي وضع في مراكز الأبحاث الغربية، وخصوصا الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن اصطنعت “دولة إسرائيل” لخدمة نفس الأهداف عن طريق اختراع “قوميات قطرية” عربية في شكل محميات قبلية خدمة لمصالحها ومصالح النخب السياسية التي وضعت على رأس أجهزتها البيروقراطية.
كما أشار “جورج قرم” في كتابه ” تعدد الأديان ونظم الحكم([8]) إلى مسألة التّسامح في الإسلام، وبيّن أنّ فترات التوتّر والاضطهاد لغير المسلمين في الحضارة الإسلامية كانت قصيرة، وكان يحكمها ثلاثة عوامل:
1ــ العامل الأوّل: مزاج الخلفاء الشخصي، وأخطر اضطهادين تعرض لهما الذميون وقعا في عهد “المتوكل”( 206ـ247ه/821ـ861ـم)، وهو الخليفة الذي تميزت طبائعه بالتعصب والقسوة. والخليفة “الحاكم بأمر الله”( 985ـ1021م) الذي غالى في التصرف معهم بشدة. وكلا هذين الحامين عم اضطهادهما المسلمين وغير المسلمين.
2ـ العامل الثّاني: هو تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسواد المسلمين، والظلم الذي يمارسه بعض الذمّيين المعتلين المناصب الإدارية العليا، فلا يفسر أن تدرك صلتهما المباشرة بالاضطهادات التي وقعت في عدد من الأمصار.
3ـ العامل الثّالث: مرتبط بفترات التدخل الأجنبي في البلدان الإسلامية، وقيام الحكام الأجانب بإغراء واستدراج الأقليات الدينية غير المسلمة إلى التّعاون معهم ضد الأغلبية المسلمة([9]).
لقد كانت التدخلات الاستعمارية الغربية، ومازالت، تشكل أحد أبرز عوامل تثوير النّزعة الطائفية والتوترات الداخلية في منطقتنا العربية والإسلامية، حيث عملت الدول الاستعمارية منذ احتلالها للمنطقة في القرن التاسع عشر، على تفكيك مقوّمات الهوية الوطنية والحضارية الجامعة لمختلف المكوّنات الاجتماعية والدينية في هذه الأمة. وهناك حقيقة يلمسها الدارس لمراحل وألوان هذه المخططات الاستعمارية الحديثة والمعاصرة للعب بأوراق الأقليات في والوطن العربي والعالم الإسلامي، هي وجود أصابع الصهيونية في كل هذه المخططات والمحاولات. وهذه التدخلات الخارجية ـ المباشرة وغير المباشرة ــ أدّت إلى حالة من الجمود والنكوص في أشكال الاندماج الاجتماعي، وانعكس في شكل “قطيعة حضارية”(Une rupture civilisationnelle) في المجتمعات العربية انكفاء ثقافيا وتخلفا اقتصاديا على امتداد العهدين المملوكي والعثماني، وأدى إلى عودة إحياء الانتماءات الموروثة الثقيلة في مستوياتها العصبيّة القبلية وانتماءاتها المذهبية والطائفية. ولم تتح لها ظروف الهيمنة الريعية في تاريخها المعاصر من خلق الظروف المجتمعية الملائمة للتطور والانتقال بالمجتمعات العربية إلى بناء مؤسّساتها السياسية الحديثة.
على الرّغم من أن النزعة الطائفية، على اختلاف أبعادها الدينية والإثنية والسياسية، تعدّ خاصية بنيوية مجتمعية لها جذور تاريخية وأبعادا أنثربولوجية يتم الاستنجاد بها وتثويرها كلما مرت الأمة بوضع أزموي وانتكاسوي سياسي أو اجتماعي أو حتى اقتصادي، فإنه لم يكن لأحد (فردا أو مجموعة) الجرأة، قبل سنة 2011، على أن يبوح أو يدعو إلى “الطّائفية” بشكل علني دون أن تصدر ضده عمليات التنديد من قبل الرأي العام و يتم تتبعه قانونية من قبل مؤسّسات الدولة، وتتخذ في شأنه العقوبة اللازمة بحسب خطورة ما يدعو إليه أو يفكر فيه. فقد أعيد الاشتغال على هذه الظاهرة في منطقتنا العربية والإسلامية اليوم، لتشكّل إحدى أهمّ عناوين التدخّلات الخارجية وضمن آليات شرعنة “قوّتها الناعمة” (Soft Power) في إعادة تنظيم الخارطة الجيوــ سياسية الجديدة لهذه المنطقة. وعلى الرغم من تباين المحللين لهذه الحادثة، إلا أنهم التقوا حول أهدافها وهي تهميش الرأي العام حتى لا يدرك حقيقة الوقائع وينسى أصل المشكلات وينسى أيضا ما حل بالمجتمعات العربية من نكبات ومحن اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وغيرها مع بداية ما تسمى بـ”ثورة الربيع العربي”.
لذلك، يعمل أعداؤنا اليوم، وخاصّة الاستعمار الغربي، على إثارة هذه النّزعة من جديد، بل يعملون على دعمها عبر مختلف الوسائل الظاهرة والمستترة وتحت عناوين مختلفة (سياسية واقتصادية وعسكرية..) من أجل تأبيد حالة الفتنة([10]) بين مختلف مكوّنات المجتمع المدني (الأحزاب، المذاهب الدّينية، والمنظّمات..)، ومن أجل استدامة وهْنُ الأمّة والعمل على مزيد تفكيك منظومة “الدّولة الوطنية” عبر آليات “القوة الناعمة” كما وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية. فلم تعد الأحزاب السياسية مثلا، تتعامل مع المجتمع باعتباره توليفة من المواطنين الذين تجمعهم وحدة الانتماء إلى الوطن، وينبغي تحقيق المساواة بينهم في الحقوق والواجبات في ظلّ مؤسّسة الدولة التي تحكمهم، بل تتعامل معهم باعتبارهم أفرادا ذوي مقامات ووضعيات اجتماعية وسياسية متمايزة بحسب منطق التمايز الطائفي ــ السياسي القائم في كل قطر عربي. وإنّ ما خلفته ظاهرة الطائفية في مستوى التخريب الفكري والقيمي والأخلاقي والإنساني، في خلال عقد من الزمن ــ بعد 2011 ــ قد فاق كل التوقّعات وحقق أغلب انتظارات الأعداء.
توجد مئات الوثائق المكتوبة، وكثيرا من الأحداث التاريخية، التي تؤكَد لنا أنَ الحملات الاعلامية المتواصلة التي تدعو إلى “التطييف” وإشعال فتيل الفتنة الداخلية بين المكونات الإثنية أو المذهبية والدينية والمناطقية، بشكل مباشر أو غير مباشر، تأتي في إطار الأهداف العدوانية ضد الأمة العربية من أجل تنفيذ مخطط تجزئة المجزأ والمضي بها أشواطا أكثر في المستقبل لفرض واقع إقليمي وجيوــ سياسي ضمن أهداف ما يسمى مشروع “الشرق الأوسط الجديد” وما يترتب عنه من تداعيات ونزاعات وحروب داخلية بين الأشقاء وبين أبناء الوطن الواحد، بل بين سكان الحي الذين يقيمون في نفس المنطقة أحيانا. فالإدارة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت تمارس ضغوطاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية على المنطقة وتدعم على الحركات الانفصالية ” قَسْرا” من أجل إضعاف الوازع الوطني والقومي لدى الشباب العربي والقيام بدور “كلاب الحراسة”([11]) ومن أجل فرض واقع انقسامي عربي غير مستقر.
لقد تعدّدت الكتابات التاريخية والتقارير الدولية التي كشفت ووثّقت مشاريع الغرب الاستعماري واستراتيجياته لتفتيت المنطقة العربية، بدءًا بـالمنظّر الصهيوني السّياسي “برنارد لويس” وصولا إلى ” هنري لفني” وخبراء الفكر في مراكز الأبحاث الأمريكية عبر تقاريرهم التي تتحدث عن استراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على الأقطار العربية وثرواتها دون غزو عسكري خارجي، وذلك من خلال التفتيت والتقسيم إلى مقاطعات وأقاليم متناحرة ومتنازعة على أسس طائفية. والمخطط الجديد للتقسيم واعتماد “القوة الناعمة” هو تعديل لما يعرف بمخطط “مشروع الشرق الأوسط الجديد” الذي أعلنه “برنارد لويس” في أواخر الثمانينات ثم تمت إعادة تعديله في أواخر عام 2004، وبداية عام 2005. والجديد في هذا المشروع، خاصة بعد 2011، هو أن القائمين عليه يعتمدون سياسات وبرامج تقسيم لينة للمنطقة تقوم على أسس طائفية ومذهبية وإثنية، وذلك لتهيئة الأجواء في المنطقة حتى يقبل الشعب العربي طواعية وبإرادة ذاتية هذا المخطط ويشارك فيه.
لا يمكن أن نفكك معناها إلا بالنظر إلى علاقتها باستراتيجيات ظاهرة “الكولونيالية الجديدة”(neo-colonialism) في المنطقة العربية والإسلامية. فالقوى الاستعمارية الغربية هي التي تهدّد كل شيء لتدفع بالشعوب العربية والإسلامية نحو الاستلام إلى دوامة الفتنة والفوضى السياسية والاجتماعية (Le chaos social) تحت عناوين ومسميات متعدّدة، والعبث بما يوحدها ثقافيا وبما راكمه في تاريخه القديم والحديث من قوة حضارية عميقة. لذلك، تقوم استراتيجية الكولونيالية الجديدة على نظرية “الاستحواذ بالعملاء”([12])، ويتم التخطيط في هدوء وطمأنينة للعودة بمجتمعاتنا إلى الوراء مستغلة في ذلك “الثقوب السوداء”(Blacks Holes) التي أحدثتها في جدار الوحدة العربية منذ اتفاقية “سايكس ــ بيكو” عام 1916. ومن ثمّ، يعيد الاستنجاد والعمل على تدويل كل قضايانا وسياساتنا الداخلية، ومنها مسألة “الأقليات” حتى تجد طريقها بمهارة إلى عقول النخب الساذجة، وتتحول عندهم إلى موضوع جدالي و”قضية” أخلاقية وحقوقية تكون فيه هذه القوى هي صاحبة الحل والعقد بالمعنى الإسلامي للكلمة.
عندما نرصد ونتابع تغيّر الأحداث والمواقف السياسية في الوطن العربي خلال العقدين الماضيين نقف عند حقيقة مؤكدة وهي أن بلادنا العربية قد دخلت في مسار تحول خطير وغير مسبوق، وأنه ثمة تغيرات سوف تحدث لا تتوقف على مستوى التغيير السياسي والحكومي أو انتخابات المؤسسات النيابية، ولا تتوقف في مستوى توتر العلاقات بين الفاعلين السياسيين فقط، وإنما أيضا، وهو الأهم والأخطر في رأينا، هو أن هناك تغيرات لافتة في المستويات الأخلاقية والقيمية السياسية، تغيرات خطيرة في مستوى أدمغة بعض السياسيين و”المثقفين” وفي أنسجة عقولهم إن بقيت لديهم عقولا. فهؤلاء القادة السياسيون بدأوا يدمرون شعبهم بأيديهم عبر إثارة الفتن والصراعات المذهبية والعقائدية الدامية والمدمرة لوحدة الشعب والوطن. إنها من أصعب المراحل التي تمر بها أمتنا العربية حتى بات لدينا اقتناع أن “خيانة الوطن” أصبحت وجهة نظر لدى هؤلاء، وما كان غريبا ومحرما سياسيا أصبح مألوفا، وأصبح المعتاد والمباح غريبا وغير مقبول، ووجد أصحاب العقول النيرة والمبادئ السياسية الوطنية والقومية والإسلامية الرّاسخة أنفسهم غرباء في أوطانهم.
فهناك اتجاه نحو إضعاف سلطة “الدولة الوطنية” وتفكيك مؤسّساتها وتهميش من حضورها وإدارتها للمجتمع لصالح شبكات المصالح الشخصية والشللية الحزبية الضيقة. بل هناك من القوى السياسية من تدعو جهرا وعلانية، إلى استيقاظ أطر الانتماءات السياسية والاجتماعية السابقة على الدولة أو المنافسة لها. وأصبحت النتيجة شبه المؤكّدة هو الاتجاه نحو تفتيت وحدة المجتمع وتشتته وفق مصالح سياسية وشخصية. ففي ظل حكومات الربيع العربي”، كما في المعارضات السياسية المشتتة، قلّ أن تجد شخصا نأى بنفسه عن التّخريب السّياسي (من الداخل والخارج) للمشروع الثوري العربي الوليد. وتحولوا هؤلاء الانتهازيين وأصحاب النظرة السياسية الانتهازية والسطحية والمواقف الاعتباطية بين عشية وضحاها إلى “خبراء” وأصبحوا سادة المشهد السياسي في بلادنا.
في ظل هذه المحنة العربية الجديدة، بدلا من أن يقاتل العرب الأعداء المستعمرون لأوطانهم، يثيرون قضايا داخلية هامشية ويظلوا يقاتلون بعضهم بعضا، ويعيشون حالة “وهم جميل”([13]) بلا معنى يفتقدون فيه كل مرجعياتهم الدينية والثقافية والأخلاقية اللاّحمة لروابطهم السياسية مع الآخرين، حتى أصبحنا نعيش واقعا تصارعيا متوحّشا لا يحتكم لأيّة قيمة إنسانيّة”([14]). وهذا الأسلوب الذي يجري في ساحات الصراع والاقتتال العسكري، يجري أيضا في جبهات الفكر وفي مختلف الميادين والفضاءات الإعلامية من قبل بعض الحركات السياسية والنخب الفكرية والإعلامية التي أصبحت تنشط بشكل علني تحت مسميات وعناوين مختلفة: جمعيات ثقافية ومراكز بحوث أكاديمية بالجامعة وغيرها. ولكن من اللافت أنه في أغلب الأحيان لا يظهر قادة هذه الحركات بشكل علني ولا يكشفون عن أهدافهم الحقيقية؛ فهم يعملون على تعميم رهاناتهم الطائفية وعلى إعطائها معنى “حقوقي” مثلا باسم الدفاع عن الأقليات يتجاوز الإطار الحقيقي الذي نشأت فيه والجهات الرسمية التي تديرها من وراء البحار. ولهذا ينبغي علينا الانتباه إلى قدرة هذه الحركات ـــ في ظل تفكك مؤسسات الدولةــ على استقطاب الشّباب العربي عبر مختلف المغريات المادية والاجتماعية وغيرها لتصبح ذات قاعدة بشرية حتى من أولئك الذين لا ينتمون إليها سواء في مستوياها العرقية أو المذهبية.
أكيد أن أغلب العوامل القديمة التي كانت سببا في الاستعمار لم تختف بشكل نهائي، ولكن هناك مولدات جديدة في هذه اللحظة بالذات، التي تتوافق مع طبيعة التحولات التي شهدتها المنطقة العربية والعالم منذ بداية الألفية الثالثة. لقد أفرز الواقع الاحتلالي للوطن العربي مشاكل جديدة سواء من الناحية السياسية أو من النواحي الفكرية والاقتصادية والاجتماعية. وأهم مولدات النزاعات العربية الداخلية الراهنة العمل على اختلاق “ميثولوجيا الطائفة” و”أسطرتها” (Mythologisation)من أجل فتح المساحات لتسود حالة من الضبابية والأباطيل حول محاربة عدو محلي وهمي لا وجود له، عوضا عن محاربة العدو الخارجي الحقيقي الذي يهدّد الكل. ويبدو أن التناقضات الاجتماعية والفكرية والسياسية بين النخب تختبئ تحت عباءة قدسية”الطائفة” على حساب قدسية الوطن، لأنها كانت ممنوع البوح بها أو مغيبة، وبدا ظهورها بعد أحداث 2011 ، عنيفا ومفاجئا، ولأنها كانت مجبرة على الاختفاء والتستر أحيانا. فقد كان لظهورها الجديد واتساع رقعتها أفقيا وعموديا، مدمرا للكل. ولما فتح باب الجدل السياسي على مصراعيه في بعض أقطارنا العربية، اعتمده دعاة الفتنة، بشكل سري وانفجاري، لإحداث تغييرات في بنية مؤسسات الدول وتفكيك وحدتها الجغرافية. ومن ثم، عندما نضجت التناقضات والخلافات تحت عباءة الطائفة، كان من الطبيعي أن تتمزق هذه العباءة، وأن تصعد التناقضات من العمق إلى السطح، ممزقة القشرة الخارجية للوطنية، ومحطمة لراية الوطن الجامعة ( العراق، ليبيا، سوريا، اليمن)، فيتم استبدالها كما يستبدلون ألبستهم دون إحساس بأي حرج أو خجل مما يفعلون.
يبدو أنّ العرب أكثر الشعوب لا يعيرون اهتماما للأخذ بالدروس والعبر التاريخية، سواء في حالات السلم أو الحرب، خاصة بالنسبة إلى النخب والحكام. وفي مقابل ذلك، حذقوا في التمسك بالرواسب التاريخية للانقسام والنزعات الطائفية وخلق الفتن. وتعود هذه “السيماء الأنثربولوجية”(habitus anthropologique) إلى تمسّكهم بطقوس “التذكر السالب”(عقلية الانتقام والأحقاد والتشفي)، وعدم التعامل بروح “الحداثة” و”العقلانية” والترشّد السياسي مع التركة الثقيلة لمآسي الماضي وعذاباته أدى بهم إلى تكرارها. ولكن لا يعفون مثلما يقول بعضهم:”هؤلاء الواهمون أنهم أمام حرب تريد طحن أرواحهم وأجسادهم..تريد فرض جاهلية حديثة في أغلب أقطار العالم”([15])، حتى أن العالم لم يعرف أناسا أوتوا المقدرة على إخفاء أحد النيات وراء المعسول من الكلمات كما عرف ذلك في تجار الاستعمار الحديث”([16])، فتحولت الطائفية لدى بعض التيارات والنخب السياسية إلى إحدى موارد القوة الناعمة الجاذبة للأفراد وذات سلطة معنوية للهيمنة على الرأي العام الشعبي.
2ــ الطائفيّة السياسية وفن الدعاية الإعلامية
إن اتساع دائرة الاستنجاد بالعصبية السياسية وانتشارها في مجتمعاتنا العربية، كان نتيجة مباشرة لغياب أي كتلة سياسية تعاقدية مواطنية في تجاربنا السياسية الماضية. لذلك، يتم إحياء نسق اشتغال الثقافة الشعبوية القائمة على المرجعيات العشائرية والقبلية والمناطقية لاستقطاب المواطنين وتعبئتهم في معاركهم السياسية الداخلية. لا شك أنّ العوامل الداخلية في هذا الصراع قد تشابكت في الحد الأقصى مع العوامل الإقليمية والدولية الضاغطة، وامتزج فيها صراع الأيديولوجيات والأفكار بصراع القوى الإقليمية والدولية معا. وباتت لوحة المشهد السياسي معقدة وتتخذ ألوانا وترتدي ألبسة بحسب تغير ألوان التوازنات الإقليمية وأشكال تحالفات القوى الكبرى فيها. إلى أن تحولت الطائفية السياسية إلى ظاهرة اجتماعية أخطر من التدخلات الاستعمارية العسكرية، باعتبارها إحدى تجليات تعطل العقل المواطني وتصدّع النخب أخلاقيا في توجيه فعلها السياسي، وهي في كل الأحوال إحدى تجليات غياب العقلانية وضعف الولاء للدولة، ونتيجة احتماء الفاعلين السياسيين بالعلاقات القرابية وكل أشكال الحميمية التقليدية.
وقد بات التفكير النقدي في دور الخطاب السياسي الإعلامي العربي أمرًا مُلحّا حتى لا تبتلع صوره ولغته عقولنا ووعينا، وحتى لا تقصينا من الانخراط باقتدار في تغيير واقعنا وصنع مستقبل أمتنا. فما عجز الاستعمار الغربي عن تحقيقه عبر القوّة المسلحة لإخضاع شعوب هذه الأمة، منذ القرن التاسع عشر، نراه يتحقّق اليوم، عبر نظرية “هندسة العقول” الذي يمثل الإعلام أبرز أسلحته وأشدّها تأثيرا. فالبيئة الإعلامية الجديدة، وعبر مختلف وسائطها التقليدية والحديثة (التلفزية والإذاعية والافتراضية وتقنياتها الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي)، أصبحت ذات تأثيرات عميقة وبشكل غير مسبوق ـــ نوعيا ــــ في توجيه العقول وبناء الذهنيات وضبط أساليب تفكيرنا ونظرتنا إلى أنفسنا وإلى ما حولنا. فقد منحت هذه الوسائط الإعلامية الفرد إمكانيات جديدة في الانخراط في أنظمة تدريب العقل متعددة الأبعاد، وباتت تأثيراتها في هندسة عملياتنا الذهنية بلا حدود (تقنية، اجتماعية، علائقية، فكرية..)، لكن الثّمن كان باهظًا”([17]). وكلما كانت التحديات أقوى كانت الجهود اللازمة للتغلب عليها أكبر وأصعب، وكانت الوقفة اللازمة لتحليل الواقع ومعرفة القوى الفاعلة والوسائل الضرورية للانتصار على هذا التوتر السياسي أكثر أهمية وضرورة، وفي الانتصار على أي تحد أو أزمة، يتحول تكافؤ القوى المؤثرة والتجانس البنيوي للأفكار الفاعلة في التوتر، أداة ولادة جديدة”([18]).
2ــ 1ــ آثار الدعاية السياسية على العقل الجمعي
أثبتت عديد الدّراسات في “علم النفس الجماعي”(Psychologie collective) وعلم النفس الحشود”(Psychologie des masses) أمرا مهمًّا و مسألة باتت معروفة، وهي أنّه في أي حشد من الناس يؤدي مجموع الانعكاسات العقلية اللاإرادية التي تحصل بين الأفراد المكونين له، إلى تشكيل نوع من النتائج هو ليس حتى في مستوى المعدل، بل في مستوى العناصر الأدنى”([19])، لأن المتحكم أصبح متعلقا بعقلانية الشبكات الاجتماعية التي جعلت الحياة بالنسبة إلى البعض فضاء للتعبير عن أفراحهم أو أحزانهم اليومية طالما أن هذه الشبكات قد تحولت إلى “رداء أو عباءة للإخفاء”([20]) أكثر مما هي وسيلة لتنشيط ملكة الوعي بطريقة عقلانية لحقيقة الواقع. ولم يعد انتشار الدعاية يتحقق بشكل عمودي فقط، وإنما ينتشر بشكل أفقي ومن داخل حواضن مجتمعية مختلفة.
تقوم هذه المقاربة النفسية على منطق علم “الدّعاية النّفسية” و”سطوة الصّورة” على المشاهدين من أجل التحكم في انفعالاتهم وردود أفعالهم. فسيكولوجيا الجماهير تنجذب وتتأثر في أفكارها عبر استخدام الصورة الذهنية، وبتكرارها في أغلب المواضع كي يتطبع بها الفرد. والانفعالات مثلما يقول “غوستاف لوبان” لا يمكن أن تترسّخ إلا من خلال الدّعاية، إذ “إن الانفعالات التحريضية التي تخضع لها الجماهير قد تكون كريمة أو مجرمة، بطولية أو جبانة، ولكن مهما اختلفت سوف تظل قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أنّ غريزة البقاء نفسها تزول أمامها”([21])، فهناك انعكاسات مهمة حدثت في حياتنا وثقافتنا لا يمكن توقع مداها في المستقبل. فالشائعات التي تمتلئ بها الصحف والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، مثلا، ليست أمرا عبثيا ارتجاليا، بل هي شيء مدبّر ومنظم، ولكل شائعة هدف ما. لقد كانت الشائعة ومازالت تمثل من أهم الأسلحة الحربية “الناعمة” المعروف التي استخدمت تاريخيا في كثير من المعارك. ومازالت هذه الشائعات تعد أقوى من الأسلحة النارية وأكثر فاعلية أحيانا في قلب موازين القوى بين المتحاربين. إذ يعمل هذا السلاح، بحسب البعض([22])، على تدمير شامل للعقول بطريقة هادئة تسللية للحس الجمعي وللرأي العام، فهو “سلاح لا نستطيع أن نحدد انطلاق شرره وناره، ولا أن نعرف موقع تخطيطه، لأنه يعمل في الخفاء. ليست الشائعات بالضرورة ظاهرة باثولوجية عقلية أو نفسية، بمعنى تعبيرها عن أفكار أو معلومات لا سوية تبغي الهدم والتحطيم، وإنّما يمكن أن تطلق الشائعات كأداة إرادية تلجأ إليها الأجهزة المعنية بإطلاقها بقصد التعرف على درجة تعبئة الرأي العام أو اتجاهاته إزاء موضوع محدد مسبقا. ومن ثم، تحتاج الشائعة إلى تربة اجتماعية خصبة تجد فيها مجالا للنمو والتكاثر والأتباع. ولهذا، يحرص مصمّموا الشائعات على ان يتحسسوا مواطن القوة والضعف لدى الجماهير ليبنوا على أساسها مضامين شائعاته ويحددوا مواقيت إطلاقها. فعن طريق الشائعات يثيرون معارك خفية داخل الجسم الاجتماعي الواحد للمجتمع بهدف التأثير في انفعالات الجماهير وعواطفهم وضبط ردود فعلهم.
من النّادر جدّا اليوم، أن نجد مجموعة بشريّة أو دولة أو أمّة أحادية العِرق أو الدّين أو اللّغة أو الثّقافة، فأغلب أمم العالم تتكوّن من طوائف واثنيات ومجموعات بشرية متعدّدة اللّهجات([23]) والأديان والمذاهب اندمجت كلّها وانصهرت في مجتمعات واحدة ولم تعد ذات شخصية إثنيّة أو دينيّة منغلقة عن نفسها، بل أصبحت تكوّن جميعها أممًا وشعوبًا ذات كيانات هويّاتية وثقافية متعدّد ولكنّها موحّدة سياسيا. ولئن بقيت هذه المسألة مسكوتًا عنها في الدّول الغربية لأنّها تهدّد وحدتها وتجانسها الهويّاتي، فإنّها كثيرًا ما تكون موضوع إثارة واستثمار سياسي والعمل على تحويلها إلى “هويّات مفترسة“([24]) عندما تكون جغرافيتها إحدى بلدان العالم الثّالث، لاسيما في البلدان العربية والإسلامية. لذلك، انتقد الكاتب الأمريكي “ستيوارت كوفمان”(Stuart Kauffman) ([25]) التحليلات الغربية التي قدّمت الحروب البلقانية بصفتها “حروبا عرقية”، مؤكّدا أنّ الأسباب العديدة والمعقّدة التي أدّت إلى المواجهات الدّامية بين الأطراف المتصارعة حيث لا يقوم ما يسميه بـ “الوعي العرقي” أو الدّيني إلا دورًا ثانويًا، ولا يحرّك الأحداث، بل تحرّكها مصالح مختلفة وخاصة.
كانت سياسة الغرب الاستعماري في منطقتنا العربية، ومازالت تقوم على القاعدة الاستعمارية “فرّق تسد” لتثبيت حالة التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ولتحقيق استغلالها وتخليد سلطانها عليها، وإشاعة سوء الظن والكراهية بين مختلف مكوناتها السياسية والإثنية والدينية واللغوية. فأصبحت كل مجموعة أو جماعة (سياسية واجتماعية ومذهبية وإثنية..) تطالب بوضع سياسي وقانوني خاص بها وتدعي أنها أكثر مظلومية من غيرها في المجتمع، ولكن هذه الضجة التي يثيرها العملاء من حين لآخر، إنّما هي من صنع المستعمرين ووكلائهم في المنطقة، ولا يمكن وصفها إلا بـ”الفتنة”([26]). ألم يقل “توني بلير” أحد مهندسي الحرب على العراق، في بداية انطلاق “ثورات الربيع العربي”، إنه يرحّب بعملية التغيير التي تريد هذه الثورات تحقيقها، ولكن يجب أن يكون هذا التغيير “متحكما به” ويخدم المصالح الغربية، الأمر الذي يفسر الأسباب التي تكمن وراء التدخلات الغربية لإجهاض هذا الربيع وحرفه عن مساراته الحقيقية والدفع به باتجاه العسكرة والعنف المسلح”([27]).
يعمل أصحاب هذا الخطاب “الطائفي” على أن يعيدوا الموتى أحياء، وأن يختلقوا أساطير قديمة أصابها التحلّل التاريخي وباتت من ترسّباته الجيولوجية، معتمدين على ما أنتجته تقنيات الإعلام الجديد (New Media) من إمكانيات للخدع والتعبئة عبر المؤتمرات والمهرجانات الشعبية والتظاهرات التهريجية عسى أن يخترقوا بها المخيال الاجتماعي والسّياسي “المُواطِني” وتمرير مشاريعهم الاستعمارية وبرامجهم السياسية المسطرة لهم لعزل القلوب عن العقول، وعزل الأرواح عن الأجساد، وفصل المغرب عن المشرق”([28]). وفي ظل الواقع العربي الذي يعاني من حالة تصحّر ثقافي وفكري وتفكّك اجتماعي وسياسي، تحولت فيه النزعة الطائفية إلى أخطر أشكال “الفيروسات” المعدية والمبيدات القاتلة لوحدة الشعوب والمفكّكة لسيادة “الدّول الوطنية” الحديثة، ومازالت قادرة على الانتشار والتوالد طالما بقيت أسبابها وبيئاتها الحاضنة لها ـ محليا ودوليا ــ قائمة. نعتقد أن هذه المعضلة تدل على أنّ النّزعة الطائفية قد تحولت عند دعاتها، نتيجة أسباب تاريخية وأيديولوجية وأنثربولوجية مختلفة مثلما ذكرنا، إلى مستوى القدْسنة (Sacralisation)، فباتت الدعوات إليها عبر المنابر الإعلامية تشكّل أحد خصائص مناسكنا الطقوسية الدنيويّة التي يحجّ إليها هؤلاء السّياسيون بشكل دوري كلّما عاشت بلادنا العربية محنة سياسية أو معركة انتخابية أو فضيحة اقتصادية.
وفي ظل القوانين الانتخابية “الهجينة” التي تقوم على نظام المحاصصة الطائفي (مثل لبنان والعراق…)، تتكثف الحملات الفتنويّة كي يتطبع معها الناس في سلوكياتهم وتمثّلاتهم الاجتماعية، ومن ثم تعم ثقافة الانحطاط السّياسي وتستوطن الفتنة “روح الشعوب” العربية والإسلامية. ومن المعروف، أنه في فترة انتكاسة الأمم والمحن تنتشر فيها جميع مظاهر الصراعات وافتعال المعارك والنزاعات الداخلية بين مختلف مكوناتها الاجتماعية والمذهبية والإثنية، مما يؤدي إلى تصدع ” الحس الجمعي” ( sens commun) المواطني الجامع للكل، وتنتكس ضمائر الناس وعقولهم البناءة، خاصة وأن وفي علاقتنا ــ نحن العرب ــ بالتاريخ، علاقة هجينة وحالة التباس دائما تبدو معه “ذاكرتنا الجماعية”(La mémoire collective) وكأنها مخزن للمشاعر والعواطف والحميميات، وليست مرصد للوعي والمعرفة والاستشراف والبناء!
2ــ 2ــ اختراق الخطاب السياسي الطائفي لـ “روح الشعوب”
من المؤكّد أن طوفان “الميديا”(Media) قد حطم أسوار النفوس وأبواب المناعة الذاتية للأفراد والمجتمعات، فأصبحت هذه الوسيلة أهم قوة ناعمة للسّيطرة على عقول الشعوب وتوجيهها عبر مختلف معاويل الهدم والبناء الثقافية والقيمية والسياسية..الخ. ولعل المسألة الأكثر تدميرا لهذا العقل هو تغيير طبيعة الأشياء وتزييفها حتى تصل في النهاية إلى مرحلة تدمير “روح الشعوب” العربية في مستوى عواطفها ومبادئها الإنسانية التي نشأت عليها. فمن خلال هذه الإستراتيجية التفكيكية انقلبت الأشياء والحقائق فأصبحت المحرمات مباحة والمباحات محرمة. وعمت النظرة السطحية للأشياء، وانتشرت المواقف الاعتباطية، ولم يعد الشعب قادرا على النفاذ إلى جوهر الأشياء وفهم طبيعة العلاقات بينها. كما أن الاستثمار الخاص في الإعلام لم يؤدّ إلى تطويرها واستقلاليتها، بقدر ما أدت إلى انحطاط مضامينها، سواء كان في السياسة أو الترفيه منذ بدأت “تركز على زيادة أرباحها لإرضاء المنفّذين”. ومثلما كتب “جون أدامز” رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من 1797إلى 1801) ([29]) إذا طرأ في يوم من الأيام تحسّن على مصير الإنسانية سيكتشف الفلاسفة وعلماء الدين المشرعون والساسة والمصلحون أن تنظيم الصحافة هي المسألة الأكثر صعوبة وخطرا وأهمية التي يتعين عليهم حلها”.
لا يمكن فهم العلاقة بين هذين البعدين، الإعلام والطائفية السياسية، إلا من خلال معرفة القوة التأثيرية التي تمتلكها وسائل الاعلام الحديثة في الدعاية السياسية منذ الحرب الباردة، حيث شكلت سلطة رابعة ووجها بارزا من أوجه الاستبداد والتضليل والطغيان. وقد اعتمدت في استراتيجيتها الدعائية على عديد الوسائل مثل سبر الآراء وتوجيه آراء الجمهور عبر وظيفتها التخديريّة نحو مسائل محدّدة تتحكم فيها هي وتشكلها. وساهمت هذه الوسائل في عديد المناسبات في عمليات تجنيد الشباب بشكل فردي وجماعي للانخراط في معارك وحروب وهمية لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وفي ظل عالم الاتصال الإلكتروني والرّقمنة الجديدة أصبحت عمليات اغتصاب العقول وتكوين الكتل البشرية الحاملة لثقافة الفتنة من المهام اليسيرة منذ أن تم تأسيس “تنظيم القاعدة” بزعامة أسامة بن لادن بشكل علني. حيث استغل “الجهاديون” في أواخر تسعينيات القرن الماضي، شبكة الأنترنت كمركز توزيع ومكتبة ومنصة لتبادل المعلومات والترويج للكتب والتسجيلات الصوتية والفيديوية. وقد نشر “تنظيم القاعدة” كمّاً كبيرًا ومدهشا من الوثائق عن نفسه بين عامي 2003 و2004، مما جعل هذا التنظيم الإرهابي يمصل، بحسب البعض، أكثر جماعة عُنفية تحمل مشروعا سياسيا طائفيا باسم الدين الإسلامي التي وثّقت أنشطتها على مرّ التاريخ”([30]) قبل ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وسورية”(داعش) في عام 2014 بشكل علني أيضا.
إن خطورة الصّراعات التي يتضمنّها هذا التاريخ وتغذيها “عقلية التخاصم”([31]) في ظل عجز “الدولة الوطنية” العربية عن تحقيق المطالب الأساسية لشعبها. فقد كشفت هذه التنظيمات إحدى حقائق مكوناتها وسوء إدارتها، وبدت تظهر سلوكيات لا معيارية مرضية و”أنومية” بالمعنى الدوركايمي للمصطلح، أضعفت روابط المواطن بدولته وبمجتمعه حتى بدأ يشعر بحالة من الاغتراب عن وطنه. ولهذا، تعدّدت ردود الأفعال لدى بعض التنظيمات والقوى السياسية في مستوى المطالب والسلوكيات الانتهازية والبراغماتية، حتى وصل بعضهم إلى عدم التردّد في القيام بأعمال ترقى إلى مستوى الخيانة الكبرى، فعمت الفوضى وانتشرت جميع أشكال التمردات الشعبية في مختلف الساحات واخترقت أعمال التخريب كل الأفضية والمؤسّسات العامة والخاصة. أما آليات عقلية التخاصم ــ الطائفية ــ فهي في أغلبها ما ورائية (أسطورية، دينية…)، ولكنها واقعية المنشأ والتبلور. وهذه العقلية حسب الكاتب ” إبراهيم محمود” تحكم الثقافة العربيةــ الإسلامية منذ لحظة تشكلها، وطريقة تفعيلها في الواقع؛ هي عقلية لم توجد في عدم، ولا ولدت في فراغ، إنما لها تاريخها الممهّد لها، وعناصرها المهيّئة لولادتها بالشكل الذي نقرأ عنه في إطار الثقافة العربية الإسلامية؛ كونها عقلية تقوم في داخل حاملها علة نبذ الآخر، لإعلاء شأن الذات وتأليهها، وتجريم الآخر في مختلف المجالات”([32]). لكن في مقابل ذلك، فقدت شرعيتها رغم حشدها في بداية التأسيس للجماهير في محاولة لتعزيز مجالات تعبيرها عن المظالم التي تدّعي أنها تعرضت لها.
مع بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، نشطت الآلة الإعلامية والدّعائية الصهيونية، واستغلت الحالة العربية المفكّكة والمائعة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، لنشر مفاهيمها وفرض أجنداتها السياسية، والتحكم في هذه الوسائل من اجل خلط أوراق المنطقة وإعادة ترتيبها وفق مصالحها. ففي ذروة السيطرة الامبريالية الاستعمارية على المنطقة العربية عام 1950، ادّعى “برنارد لويس” (Bernard Lewis) أنه على العرب أن يحلوا مشاكل تأقلمهم مع العالم المعاصر بقبولهم لواحد أو لآخر من النسخ المتنافسة للمدنية المعاصرة المتقدمة إليهم بمزج ثقافتهم الذاتية وهويتهم بكامل المدنية المسيطرة في المتوسط”([33]). ثم مع أحداث 17 ديسمبر 2010 التي انطلقت من تونس، تطورت عمليات تجييش الشعب العربي وعسكرته عبر الوسائط الإعلامية الافتراضية في إطار سياسة “فرق تسد” التي اعتمدتها القوى الاستعمارية ضمن استراتيجيتها في حربها الناعمة في منطقتنا. فتكثفت عملياتها وبلغت حملاتها السياسية مستوى كبيرا من الخطورة، بل غدت ظاهرة لافتة سواء عبر المدونات الشخصية للفاعلين السياسيين أنفسهم أو عبر وكلائهم الافتراضيين الرقميين، فكانت تداعياتها وأعراضها الباثولوجية كبيرة خصوصا من قادة التيار الإسلاموي بمختلف تعبيراته السياسية (الإرهاب، العنف، السلب، القتل..).
لقد تحول المشهد الإعلامي في تونس، وفي المنطقة العربية عموما، إلى فضاء تواصلي سمته الرئيسة الخطابات الثأرية والانتقامية التي تدعو صراحة إلى تصفية الحسابات مع الآخر، أي تحول الفضاء الافراضي إلى شكل من أشكال “العسكرة الإعلامية” لمحاربة الخصوم وتغيير عقائد الناس وتهميش عقولهم، لتخلق عندهم حالة من الانغماس المطلق مع العالم الافتراضي التي وصفها البعض بظاهرة “الاستحمار الإلكتروني”([34])؛ وهي الحالة النفسية التي يتحول فيها مستخدمو هذه الوسائط من ” ذوات فيزيولوجية” إلى مجرد أرقام مهما كانت أعمارهم ومستوياتهم المعرفية والأكاديمية والثقافية، وعلى اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية. فهذه الوسائط الرقميّة زادت من منسوب فراغ ” العقل السياسي” والتدمير الذاتي له؛ ” حيث يرمي البعض نفسه في السياسة قبل أن يكون مثقفا، وهذا سبب كل الأخطاء التي يتعرض لها فكرنا جميعا، لأنه يجذر الحماقة والجهل لهؤلاء، وهذا الجهل الجديد” بحسب بعضهم([35])، سوف يزداد مادام سببه مازال قائما، وسوف تزداد خطورته وتشتد أكثر في المستقبل.
استخدمت أمريكا في “قوتها الناعمة ” على الإعلام ـ منذ إعدادها للحرب على أفغانستان ثم العراق ــ من أجل السيطرة على روح الشعوب وأفئدتها قبل السطو على عقولها وقلوبها. وكانت “الميديا” مثلما يذهب عديد الخبراء، أهم ذخيرة ناعمة في حروبها منذ تأسيسه؛ فهي عبارة عن “فريق الرد السريع” في الإعلام استخدمها البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) من أجل السيطرة على الوعي الشعبي (الأمريكي والعربي)، ومن أجل تمهيد الأرض أمام قواته قبل الغزو عام 2003 وأثناء الحرب وبعدها. ففي الحروب الأمريكية مثلا، وبسبب الامكانات الهائلة لهوليود” والإعلام المرئي بشكل عام، كانت الميديا هي “فريق الرد السّريع”. فقد أسند قسم الحرب النفسية في البنتاغون لشركة أمريكية اسمها SAIC قبل غزو العراق مهمّة إعداد “فريق الرّد السريع” الإعلامي، ويتكون من خبراء أمريكيين في الإعلام وفي الحرب النفسية والاستعانة بمذيعين عراقيين يدينون بولائهم للجيش الأمريكي، من أجل تمهيد الأرض أمام قوات الغزو قبل 2003 وفي أثنائه وبعده”([36]). إن أسلوب الاحتلال الإعلامي للمخيلة العربية أصبح كاسحا وعميقا ومدمّرا أكثر من اللازم حتى لبعض أولئك المثقفين الذين يعتقدون لأنهم محصّنين أكثر من غيرهم. وفي ظل الأحادية القطبية لأمريكا، غير الحكيمة، وقعت حرب مضللة في العراق وأفغانستان، ووقع تراجع كبير في احترام حقوق الإنسان.
لقد كانت استراتيجية “الإبادة الذاتية” للشعوب أهم استراتيجية اعتمدتها القوى الامبريالية منذ القرن التاسع عشر، ومازالت” تعتمدها في ظل ” الكولونيالية الجديدة” لفرض هيمنتها الناعمة عليها من دون أن تعترضها أية مقاومة. لذلك، فإن الهيجان السياسي الذي تعيشه المنطقة العربية الملتهبة شامل ومركب الأركان، وستظل حالة الشقوق العليا والثقوب السوداء قائمة مادامت النخب الفكرية والأكاديمية والسياسية والاجتماعية مهمّشة ومقصية من عمليات المشاركة في تدبير الشّأن العام. أما الأعداء فهم وحدهم الذين يهتمون باختيار المعارك المناسبة وتوصيفاتها اللغوية لفرض رؤيتهم ومعايير تقييماتها “الإنسانوية” لتحقيق سياساتهم الاستعمارية. فتحولت أغلب المفاهيم المستخدمة في هذه الأحداث إلى مصيدة من أجل سرقة أهم ما فيها من نبل في المعاني (حماية حقوق الإنسان، الديمقراطية، إدانة الإبادة الجماعية …) لكي يتمكنوا من الهيمنة والبرمجة الذهنية والثقافية والنفسية للشعوب التي نشأت على مديح الحماقة والتطبع مع التبعية والامتنان للمحتلين والغزاة الحقيقيين للوطن. لقد أصبحت هذه الحالة من التطبّع مع التبعية قوة ناعمة تمكنت على مدى عقود في تشريع حياة الإذلال للمحتلين ووكلائهم المحليين. لقد انطلقت من العراق ويبدو أن مسارات الأحداث اليوم تؤكد أن الحالة الليبية ــ رغم الاختلاف في بعض عناصرها وخاصة في تشكيلة تحالفاتها ــ تتجه نجو إعادة استنساخ المشهد العراقي الذي تعمل القوى الاستعمارية على تعميمه على المنطقة كلها لو سمحت لهم الفرص ذلك.
إذًا، في إطار خلق مشروعية اجتماعية ذات مداخل طائفية، ومن أجل إعادة مأْسَسة الهويّات الإثنية أو المذهبية والرّفع من رصيدها الرّمزي وفرض حضورها في المخيال الاجتماعي والسّياسي العربي، يعمل أعداء الأمة على نشر “الفتنة النّاعمة” عبر جميع الأفضية والمؤسسات ووسائل الإعلام بمختلف أشكالها وعبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، وخاصة عبر شبكة من الجمعيات التي تقوم بدور محوري في تعبئة الفئات الاجتماعية المهمشة وخاصة فئة الشباب، والعمل على استغلالهم بما توفره لهم من اغراءات مادية وإحاطة نفسية ومعنويّة ضمن أنشطتها المدنيّة. فمن خلال متابعتنا وتوثيقنا لأنشطة هذه الحركات والجمعيات، خلال السّنوات الثّماني الماضية، وجدنا مثلا أنّ ” الحراك الأمازيغي” يعتمد على مختلف آليات الجذب والإغراء والتسويق لمشاريعها، مستغلا في ذلك السّياقات المحليّة والإقليميّة الجديدة التي تتميّز بحالة من الانحلال السيّاسي غير المسبوقة، و”الأنوميا” المجتمعية، وتطوّر وسائل الإعلام والتكنولوجيات الإلكترونية التي جعلت مجتمعاتنا مخترقة من جميع الجهات، فجعلها البعض مصبّا لجميع فضلات “الكولونيالية الجديدة” (Néo-colonialisme)([37]).
أصبح خطابها الإعلامي يعزف على أوتار مزاجيات الخوف من عدو وهمي، وهو وسيلة للتدبير السياسي على المستوى الوطني كما على المستوى الدولي. ومن ثم يفضي الشعور بالخوف إلى نتيجة تتجسد في رد الفعل المتمثل في زرع الرعب لدى الآخرــ الشقيق، وهو الأمر الذي حصل منذ حرب الخليج الثانية (1991)، والذي شكل أولى أعمدة النظام الدولي الامبريالي الجديد؛ فبات الخوف، منذئذ، آلية للفعل السياسي وطريقة جديدة تعتمدها أنظمة الدّول وقادة التيارات السياسية في إدارة مجتمعاتها والتحكم فيها([38]). ومن ثم، نجحت هذه الاستراتيجية التي أصبحت مدعومة بمنظومة من القوانين الداخلية التي تستعمل فزاعة ” الإرهاب” برعاية دولية، وتتخذ وفقها القرارات المصيرية دون توفر أية معلومة أو معرفة بالعدو الحقيقي الذي يشكل مصدر الخطر الحقيقي ويهدّد البلاد. إذ يتم تركيز الانتباه (Fixation) على كل ما هو سمعي وبصري لما تنشره وسائل الإعلام بعد تشكيل مضامينها بحسب كل مرحلة من مراحل المعركة وضمن الأهداف المحدّدة فيها مسبقا.
لهذا، ينبغي علينا أن ننتبه إلى أنّ هذا الخطاب السياسي الإعلامي بمختلف وسائله ومظاهره وتلوّناته، وضمن توصيفاته ونعوته غير الدّقيقة وعباراته الغامضة والمشوّهة للأسباب العميقة للمشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، قد تحوّل إلى أداة لإخفاء حقائق الوقائع وإعطائها أكثر من معنى وتأويل([39])، فقد زاد في منسوب سيولة ثقافة الكراهيّة بين مكوّنات المجتمع الواحد. كما أنّ بعض المدوّنين السياسيين ــ سواء عن وعي منهم أو دون وعي ــ ومن خلال متابعتنا لكرونولوجيا الأحداث منذ 2011، تبيّن أنّهم يتعاملون مع قضايا المجتمع وفق منطق الحماسة العاطفية والبراغماتية السّياسية، وفي إطار التآمر المكشوف على وحدة مجتمعانا والعمل بكل الوسائل على الاعتداء على سيادة دولنا واستقلالها. ومن ثم، بدأت تتشكل هندسة سياسية استعمارية جديدة في منطقتنا العربية تعتمد آليات التعبئة الشعبية وشرعية الهيمنة على الرأي العام من خلال وسائل الإعلام أكثر من هيمنتها على الساحات والميادين. ونجحت بعض القوى السياسية الرجعية ــ بمختلف تياراتها السياسية ــ في تسييس الهويات الوطنية وتفكيك العلاقات الاجتماعية اللاحمة للوحدة بين مختلف مكوّنات المجتمع، واستقطبت أغلب قواعدها عبر الخطاب الطائفي بمختلف أشكاله (السياسية والاجتماعية والدينية والقطاعية..). غير أن عملية التعبئة كانت تغذيتها الراجعة أحيانا عكس انتظاراتهم، فقد أثارت قضايا عميقة تردّت أصداؤها السلبية لدى المؤيدين لهذه الحركات وقواعدها وأمام الرأي العام العربي عموما، وانكشفت حقيقتهم ومسرحيتهم الخطيرة التي تبيّن أنها تستهدف إعادة هندسة ديمغرافية المنطقة العربية وتغيير مجالها الإقليمي الواسع. فلما تسلمت القوى الإخوانية وحلفائها من الليبراليين السلطة في بعض الأقطار العربية (تونس ومصر والمغرب) قدّموا عديد التّنازلات لوكلائهم المتحكمين فعليا في النسق العالمي. ولم تكن هذه التنازلات شكلية أو بسيطة، بل كانت مهمة وجوهرية وخطيرة تمس من وجود كيانات هذه الدول وسيادتها. لذلك، سرعان ما وجدت نفسها خارج السلطة نتيجة خيانتها لشعوبها، فانكشفت حقيقتهم بأنّهم ليسوا إلا باعة أوهام.
فكيف يمكن أن نتحرّر ونتقدّم ونحن نمارس الاستبداد بالرأي ونتعامل بـ”العقل السّياسي الطائفي” ضمن تنظيماتنا السياسية والاجتماعية والمهنية الضيقة؟ لماذا غالبا ما تنطلق ثوراتنا العربيّة من أهداف نبيلة ولكن تكون مآلاتها سيّئة ونتائجها ارتداديّة حتى يتم استخدامها ضمن الآليات “النّاعمة” في تخريب الوطن؟
لقد عمل أعداء الأمة ــ في الداخل والخارج ــ على منع أية إمكانية تفسح المجال للتساؤل من قبل المشاهدين حول مدى وجاهة المعلومات المنتشرة ودقة نعتها للأحداث كما هي موجودة فعلا في الساحات العربية. وباعتبار أنه عندما يكون مصدر الخبر واحدا، فلن يدخل الشك في مصداقيته أو زيفه عند أحد. وعلى الرّغم من أن تأثير القوة الناعمة يستغرق وقتا أطول ويستند إلى تخطيط دقيق، فإن هذه الأداة غالبا ما تكون أكثر فاعلية في توجيه الرأي العام، وإنجاز أهداف أصحابها ومشغليهم في الخارج. وفي خضم هذه الحالة من التشويش العام (السياسي/الفكري/ الاعلامي) وفي ظل المشهد السياسية الهجين الذي تشهده الساحة العربية والإقليمية، عادت إلينا مفاهيم غريبة وفاقدة لأية أسس علمية أو عقلانية، أو أية مرتكزات واقعية وعملية لتحقيقها، بل تقوم على ما يمكن نعته بـ” الميثولوجيا” التي تستهدف تعميم حالة الخلل العام وإدامته في الواقع العربي، لكي نظل نسبح في بحيرة “الفوضى” و”حروب الذاكرة والهوية” في مختلف أبعادها السياسية والدينية والثقافية والمذهبية، حيث يُضحّى بالكائنات الحقيقية لصالح فكرة تجريدية، ويُقدّم الأفراد قربانًا في محرقة للنّاس كمجموع شعب”([40]). ومن ثم، توسعت دائرة الفراغات والثقوب السوداء التي تسللت منها ضغوطات القوى الخارجية لتستغلها من أجل شرعنة تدخّلها المباشر في تقرير مصير أمّتنا.
تهدف هذه العملية الانتقائية اليومية لهذه الموضوعات الهامشية ومحاولات تغييب الحقائق أمام المتابعين للشأن السياسي إلى ابتزاز النفوس وطمس الحقائق ضمن ما يسميه بعضهم بــ “الرهابقراطية”([41]). ولم تستهدف هذه الاستراتيجية في المغالط عامة الناس فقط، بل انطلت أيضا على النخب وأهل الثقافة والفكر وصانعي القرار السياسي في المنطقة. فقد تشكلت أغلب الأحداث العربية على مدى أكثر من عقدين من الزمن وفق هذه الاستراتيجية التي تقوم على الكذب وشعار ” بعد العاصفة يحلو الجو” في تحالف خفي أحيانا ومكشوفا أحيانا أخرى بين الاخوان والصهاينة (دعم المنظمات المتطرفة والإرهابية ماديا وبشريا) لتطويع الأذهان وضمان سكونيتها وتغييب روحها النقدية، ومن ثم القبول بالمذلة للخارج والتطبيع مع الصهيونية. لقد عملوا خلال السنوات الماضية من أجل تحقيق هدف استراتيجي وهو تغييب الحقائق عن أعين الناس وتشكيل المشهد في ظلمة العمى العربي.
سعت التنظيمات الإخوانية وحلفائها من القوى السياسية الرجعية والليبرالية، منذ انطلاق الأحداث من توس عام 2010، على تهميش القضايا الجوهرية التي انتفض من أجلها الشعب العربي (التحرر والتنمية ومقاومة الفساد واستعادة السيادة الوطنية…) واستخدموا فيها جميع الوسائل الإعلامية من أجل إخفاء الحقائق. في مقابل ذلك، حولوا أغلب الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية ذخيرة فتنويّة وأداة لنشر مناخ ” الفزع” و”التخويف” في مهاجمة الأنظمة العربية الوطنية قبل سقوطها في ليبيا وسورية واليمن وغيرها؟ لقد اعتمدوا ترسانة من المصطلحات السياسية المجردة والمتعارضة مع حقيقة المعارك الدائرة في الساحة العربية واخرجوها من سياقاتها الإقليمية والدولية الشاملة، في إطار تحالفهم مع القوى الاستعمارية وهجومهم على رموز هذه الأنظمة، واستخدموا فيها نعوتا وعبارات لا أخلاقية مثل: ” الطاغية” و”التحرير من النظام” و”جيش النظام” و” ميليشيا النظام” وغيرها من الكلمات التي اعتمدتها وسائل الإعلام الغربية بشكل مكثف من أجل توجيه الرأي العام والتحكم في صيرورة الأحداث وتغطيتها بشكل يتم فيه نقلها من جانب واحد، لكي تكون مؤثرة وتنقل للرأي العام الوقائع من وجهة نظرها فقط، وحينئذ يتم قبولها واستيعابها من قبل الجمهور العربي دون نقد أو تشكيك في حقيقتها وصدقية مصادرها.
يمكن القول أن الإخوان، خلال العشرية الماضية، قد نجحوا عبر الدعم السخي الذي قدم لهم ( المادي واللوجستي والعملياتي ..)، سواء أكان بشكل مباشر من دول الناتو الاستعمارية وبعض الأنظمة الخليجية المتواطئة معهم أو غير مباشر من قبل دولة العصابات الصهيونية، من أجل التحكم في المشهد السياسي عبر توجيه المجتمع إعلاميا من خلال أسلوبهم البراغماتي في تدبيرهم الطائفي لمؤسسات الدولة. وتم اختيار هذه المضامين بما يناسب أهدافهم وسياقات المعركة لكي تستطيع الهيمنة على الضمير الجمعي، ولكي تتبنى هذه الجماهير المواقف وفق أهدافها دون أن تتوفر لديها أية معرفة حقيقية، حتى أنهم باتوا لا يميزون بين العدو والصديق ( أصبح برنار هنري ليفي يقدم في وسائل الإعلام الإخوانية بل اعتبروه صديقا وزعيما سياسيا ثوريا ديمقراطيا..).
أصبح الوضع العربي الملتهب اليوم على جميع الجبهات، مناسبا تماما لكي يوجهوا مثل هؤلاء المخادعون الرأي العام ويسيطرون على العقل الجمعي وفق الخطط والبرامج التي يضعها لهم وكلائهم ومشغليهم في الداخل والخارج. ولم يعد خافيا على أحد، أن الأمة العربية تمر اليوم بمرحلة صعبة جدا سمتها العامة هي التمزق السياسي والتفكك الاجتماعي، والصراع حول الهوية وانهيار مؤسسات الدولة وفقدان السيادة الوطنية. وهذه المتاهة في نظرنا من أصعب المحن التي عرفتها أمتنا العربية في تاريخها المعاصر، وتتطلب امعان النظر في أسبابها وتتبع جذور تشكلها وتعرية “جنيالوجيتها” حتى نتمكن من وضع الوسائل والحلول الممكنة لها برؤية علمية ونقدية، وبعيدا عن الفكر الطوباوي وعواطف الغضب ومشاعر الحماسية؛ فمعضلة أمتنا عميقة تحتاج إلى عمق النظر وسديد الفهم والتحليل. لقد تغيرت القيم والثوابت الوطنية وانهارت الأخلاق السياسية، وبات المجتمع مغتربا عن ذاته ومستباحا من الشرق والغرب وله القابلية للاستعمار أكثر من أي وقت مضى دون أي شك. لقد نجحت بعض نخبنا في التشويش على أذهان الناس، وإدخال الشك والإرباك في صفوف شعوبهم وتوجيههم نحو نمطية محددة من التفكير التي يريدونها، في مقابل ذلك، غابت عن دائرة نظرهم حقيقة المشكلات التي تحيط بهم ومسمياتها الفعلية.
وتحولت الحرب الطائفية في منطقتنا العربية إلى مسرحيات تتألف من أحداث عنف مادي ورمزي ومن نماذج قيمية وممارسات سياسية مستحدثة غير متوقعة، وفي كل مرة يختفي اللاعبون الحقيقيون في كتمان واضح، ويحل محلهم نواب عن الدولة لا يمكن لأحد أن يحل طلاسمها إلا إذا فكك الثقافة الأصلية التي جمدت منطق الدولة وشوهته. فلم تعد المؤسسات السياسية هي التي تحدد تصرفات فاعليها، وإنّما أصبحت الالتزامات والتوافقات السياسية الخفية بين الأضداد هي التي تحدد وتبني حقل أفعالهم ومواقفهم حتى يتمكنوا من أن يستمروا بالتلاعب لمصلحتهم وترويض قطعانهم وتقييد سلطة مختلف القوى الهائجة وغير المتناسقة والمبعثرة في المجتمع. لهذا، ينبغي علينا أن نبحث في طبيعة هذه الصراعات التي ارتقت عندنا إلى مستوى “الفتنة”، والتي زادت الوضع تعقيدا فأصبح مليئا بالتعرجات والتوترات “الخفية” والظاهرة، فـغدا الجميع يتحارب مع الجميع (حرب الكل ضد الكل)؛ إنها معضلة مستمرة والكل في صميمها دون استثناء نتيجة الزحف الأعمى لنظام “الخدع” و”الدعاية” الذي تحول إلى مقام المبدأ الأساسي للفعل السياسي عند نخبنا التي استغلت تطور تكنولوجيا الاتصال وتقنيات الإعلام الرقمي، فأصبح الواقع يتداخل بالافتراضي، والحقيقة تمتزج بالخيال، والصادق يمتزج بالمزيّف.
من أهم ما كشفته الأحداث السياسية العربية والإقليمية منذ ثلاثة عقود من الزمن (1991)، أن الصراعات الدائرة على أرضنا العربية، هي صراعات وحروب بالوكالة تستهدف كلها وحدة أمتنا وتهددّ مصيرنا العربي المشترك؛ فهي صراعات بين الوجود العربي وبين الوجود الاستعماري الغربي في منطقتنا، ومآلات هذا الصراع سوف تحدّد مصير العالم كله. لذلك، كشفت الانتفاضات الشعبية التي شهدتها منطقتنا العربية خلال السنوات الماضية، بشكل واضح، أنه إذا حدث أي خطر حقيقي يمكن أن يهدّد المصالح الجيو ــ سياسية للقوى الامبريالية، لم تتردّد هذه القوى، سواء أكان بشكل مباشر أو عبر عملائها المحليين، على القيام بأي تدخل وكل شيء وألقت جانبا أقنعة الديمقراطية وحقوق الإنسان مهما كانت نتائج تدخلها كارثية على الأمة وشعوبها. فهي مستعدة للاعتداء على سيادة الدول وسلب ثروات شعوبها وتغيير أنظمتها بالقوة عبر مختلف آليات الافتراء والتضليل والحصار والتخريب وشراء ذمم النخب لكي تبقى هذه المنطقة كلها في مدارها وتابعة لها، وشواهد والأدلة على هذه الاستراتيجية الاستعمارية كثيرة لا تحصى ولا تعد.
وضمن هذه الاستراتيجية الغربية، تحوّلت أمتنا العربية إلى أكبر سوق لهندسة المؤامرات على غرار “بالبازار الفلسفي الأثِيني” الذي كانت تتناقل فيه المعلومات الخاطئة وتنتشر فيه كلّ أشكال الخرافات والأساطير المسلّية للناس، وتصبغ فيه المفاهيم الزّائفة. في ظل هذه البيئة المفككة وجدت “عفاريت المافيا” ــ المحلية والدوليةــ الساحة العربية فارغة لتتغذّى بمآسي شعوبها وعذاباتها المعيشيّة وانهياراتها النّفسيّة، حيث يتفنّن فيها المجرمون باصطياد غنائمهم وأفْلَمة جرائمهم الماديّة والرّوحيّة للذّات العربية بكلّ وقاحة وتبجّح، طالما أنّ القوانين لم تعد لهم رادعة. أصبح المجتمع العربي يعيش في ظل “العبودية المقنّعة” ويسيّره “نظام التّفاهة”، وهي أخطر أشكال العبوديّة الحديثة والأشدّ قذارة من تلك العبوديّة التي عاشها الإنسان سابقا منذ بداية ظهور نظام العبوديّة. فالعبودية المقنّعة والمعاصرة تنتشر فيها كلّ أشكال الأغلفة اللغويّة والقانونيّة والأخلاقيّة والإعلاميّة ليخفي بها “سادة البلاد” أهدافهم الحقيقيّة، وتتسلّل بها قيمهم في التفسّخ الأخلاقي وتدمير القيم الوطنية الجامعة للشعوب والموحدة للأوطان لتعزيز سياساتهم اللاهوتية في الطّاعة الهادئة، والمخادعة والدّهاء السّياسيين وضمان استئساد نظام التفرقة بينها والتعامل معها ككتل من الحشود البشرية المتذرّرة.
من المؤلم أنّنا بتنا نعيش في واقع انقطعت فيه الارتباطات بين مقدّمات ثورة “الشّعب يريد” ونتائجها، فأصبحت بلادنا مستباحة من الشرق والغرب، وارتفع فيها منسوب الفساد والثقافة المافيويّة والنّفاق السّياسي والدّيني دون خجل أو حياء ممّن أطرشونا بالوعود الكاذبة والأوهام الباطلة، فتحقّقت أهدافهم في تمزيق أحشاء الأمّة بـ” ألُوف من الضّحايا وأنهارِ من الدّماء”) أنظر بشير رفعت، أحد زعماء الإخوان في مصر، من كتابه “مأساة العربي المسلم5519). ودخلنا في حقول ألغام شديدة الخطورة في الوهن العقلي، تنوّعت فيها أرضيات الصّراع وأدواتها وتوالدت فيها الفتن السياسية وانفلتت مآلاتها من أية مراقبة أو تحكم من قبل الفاعلين السياسيين بشكل لم يعد يطاق، وباتت “الأرض للطّوفان مشتاقة… لعلّها من ردنِ تُغسَلُ ” مثلما يقول الشاعر أبو العلاء المعري. لقد وصل مدى “الطائفية السياسية” من الخطورة إلى أن تحولت إلى مستوى البراديغم الموجه للعقل والوعي السياسيين وعنصرا من عناصر “المخيال السياسي” الجمعي لدى بعض القادة السياسيين، حيث أصبحت تشكل نظاما معرفيا وتواصليا في مختلف أبعادها ومستوياتها المجتمعية في حياتنا اليومية. إذ لم تعد المسألة الطائفية، مثلما كانت في الماضي القريب، من “المحرّمات”(Les tabous) التي لا يمكن الاصداح بها في المنابر الإعلامية أو الدعوة إليها علانية دون خجل أو خوف، أو يوجد اتفاق بين الجميع على تجريمها والمعاقبة عليها من قبل تشريعات الأنظمة السياسية والاستهجان الشعبي العام لها، بل أصبحت تتّخذ أشكالا علنية وتعتمد ذخائر سياسية وثقافية وإعلامية مختلفة مُنفلتة من أية رقابة رسمية أو شعبي، خاصة في بعض الدول العربية التي تعيش أزمة سياسية داخلية.
وفي هذا السياق ندعو إلى:
1ــ ضرورة الوعي بمدلولات المفاهيم في الخطاب السياسي وأهميتها المركزية في تشكيل العقل الجمعي وإزالة الغموض حول الكثير منها التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها، أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها، ولا سيما وأن كثيرا من الاشكاليات المطروحة ناتجة عن اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية. فأنماط التفكير العلمي القائمة على النظرة الكلية (Macro)تشير إلى أن الظواهر المعزولة (Micro)لا يمكن فهمها بشكل صحيح إلا إذا أخذت في علاقتها بكلية المجتمع وفي السياق الشامل لتاريخه القديم والحديث، وقضية الطائفية لا تشذ عن هذه القاعدة المنهجية العامة.
2ــ ضرورة الانتباه إلى استراتيجية الأعداء وعملهم الدّائم على تشويه الوحدة الوطنية لدولنا العربية وتفكيك نسيجنا المجتمعي في إطار أهداف ما يسمى بـ “مشروع الشرق الأوسط الجديد”(2004)، حيث يعملون على تحويل وجهة الأوضاع السياسية العربية في أقصر فترة زمنية ممكنة، وإنتاج حالة سياسية جديدة بطريقة قيصرية تقوم على تفكيك رمزيّة مؤسّسات دولنا ووحدة أمتنا، والعمل على تعميم نظام الطائفية السياسية وتحويله إلى حقائق ثابتة. إن عمليات غسيل الأدمغة تتم بالغواية (الليونة والنعومة)، ولا تتم بالخشونة، بل عبر ” تقنيات هندسة المزاج( The Engineering of Consert) التي ابتكرها عالم النفس الأمريكي ” إدوارد برنايز” (Edward Bernays) ضمن استراتيجية الدعاية التي تعتمدها المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) منذ الحرب الباردة ضد خصومها، والتي تمهد بها الأرضية الإعلامية والنفسية في عملياتها السرية والتدخلات المباشرة في اغتيال القادة السياسيين أو في تغيير أنظمة الدول المناوئة لها. فقد وصلت حالات التدخل إلى مستوى فظ في القرار السيادي مثل اختيار المسؤولين والوزراء وقادة مؤسسات الدولة، أو عبر التدخل المباشر في هندسة نتائج الانتخابات الرئاسية أو التشريعية عبر آليات ناعمة وخفية باسم مراقبة شفافية الانتخابات والدفاع عن الديمقراطية في هذه المنطقة.
3 ــ نتيجة غياب استراتيجية عربية واضحة ومحدّدة الأهداف لتأطير الشباب فكريا وسياسيا، أصبحت شعوبنا وقواها الوطنية تفقد حصانتها ضد الضغوطات ومعاويل التّهديم ضمن ساحات التحولات الدوليّة الكاسحة. لهذا، ينبغي علينا أن نواجه هذه الحالة الارتدادية في المشهد السياسي وفي المتاهة العربية بروح نقدية ومتبصرة انطلاقا من تكثيف الدراسات العلمية والأكاديمية المتخصصة لتعرية هذه القضايا وتفكيكها ونشرها عبر مختلف الوسائط والأفضية المتاحة. نحن في أمس الحاجة إلى تجديد المعالجات الموضوعية وتكثيف زوايا النّظر والتنويع في المداخل العلمية لهذه الظاهرة التي باتت تهدد وجودنا العربي والإسلامي بشكل غير مسبوق في تاريخنا المعاصر.
كنا نأمل من هذه “الصدمة التاريخية” التي تعيشها أمتنا أن تكون عامل مراجعة وإعادة بناء للعقل السياسي العربي، لكن مآلاتها تحولت إلى عمليات تدميرية لأدبيات فلسفة الثورات السياسية الناجزة؛ فتكثفت الاعتداءات ــ الناعمة والخشنة ــ على روحية المواطنة العربية وأخلاقياتها الإنسانية في مختلف الساحات والأفضية دون قيود أو حدود. هذه الاعتداءات الرمزية التي تستهدف في عمقها البسيكو ــ سوسيولوجي تفكيك الهوية العربية والإسلامية الجامعة لأبناء هذه الأمة في شموليتها تفكيكا وتدميرا كاملا، كان فيها النصيب الأكبر لنخبنا أو “كيميائيو العواطف”([42]) السياسية من أجل خدمة مصالحها الشخصية والحزبية، أو في إطار دعمها لبعض الأنظمة العربية والخضوع لضغوطات الدّول الاستعمارية، كل ذلك من أجل أن يتطبّع الإنسان العربي مع ثقافة البزنسة السياسية و”براديغم الطاّعة”( الطاهر لبيب) والتواكل الاجتماعي وعدم المبالاة وغياب الدافعية نحو المشاركة في إدارة الشأن العام والنهوض بمجتمعه وتغيير واقعه، ويظل يعيش في ظلام سرمدي بلا حدود.
إن الخطاب الطائفي الذي أصبحت متحكما في عقول بعض نخبنا السياسية العربية يعبر في أحد مستوياته عن حالة من الهوس والتعبيرات عن العقد النفسية المعاصرة، فهو عبارة عن ” بوذية إعلامية” تدعو أتباعها إلى عبادة الوهم مادامت الوعود تخاطب المشاعر وتعمر النفوس. هذه الوسائل العلاجية التخديرية تمثل علاجا ضد مصادر القلق الذي أصبح مُمأسسا ومستبطنا ذهنيا، ومخرجاته مطبوعة في مختلف السيماء الاجتماعية للأفراد واستعداداته الأخلاقية المولدة للأفعال أو “الإكسيس” (l’hexis)بالمعنى الأرسطي للكلمة. لقد تحولت الطائفية عند بعضهم إلى عقيدة سياسية وإحدى إفرازات تراكمات تجاربهم الماضية وفشلهم في مواجهة إكراهات الواقع وتحدياته. كما تمثل هذه الظاهرة في بعدها الماكرو ــ سوسيولوجي إحدى أبعاد أزمة الفكر السياسي العربي الذي ظل يراوح بين الإصلاح والثورة وعديم الجدوى وفاقدا للانجازية. فتكتيكات النخب الإصلاحية التي استهدفت إعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع كانت، على مدى أكثر من نصف قرن، تسير في اتجاه معاكس للتكتيكات الثورية، على الرّغم من أن الجماهير العربية كانت واعية بالتحديات ومتمسكة بأي انجاز ــ على المستوى القطري أو العربي ــ وتستقبل محصلة أي مجهود بالترحاب الإيجابي([43])، كلما كان في اتجاه استعادة الأمة قوتها ومكانتها التاريخية في العالم.
نحن ندرك جيدا أن مجال نشاط العقل الجمعي فسيح جدا، وفي داخل هذا المجال معيار أو نمط أو طريقة في التفكير المميزة لكل جماعة تتقارب في المنشأ والتربية والبيئة الاجتماعية، أي تجمعها الثقافة العامة الأوسع للمجتمع الذي تنتمي إليه. كما أنّ من بين الجنس البشري، والمجموعات البشرية أوجها من التشابه وأوجها أخرى من الاختلاف. وإن أجهزة الهضم في الكائنات البشرية متشابهة، وإن الخلاف في أدائها ووظائفها خلاف بين فرد وآخر، وليس خلافا بين جماعة وأخرى، وإن يكن هذا الخلاف عظيما ويرجع إلى أسباب معقّدة([44])؛ والنخب السياسية مثل بقية الناس، هم مركّبات ذهنية معقّدة أشدّ تعقيد مهووسة تماما برؤيتها المشوّهة أيديولوجيا وسياسيا تعمل على إغراء بعض الشرائح الاجتماعية والشبابية التائهة من المجتمع. على الرّغم من أن هذه النخب لا تمثل سوى نفسها، لكنها تظل خطيرة جدا لأنّها على استعداد للقيام بأي شيء من أجل الحفاظ على مصالحها الشخصية والحزبية. فالقوى السياسية التي تتبنى قضايا الشعب وتحمل روح الثورة وتدافع عنها لم يعد لها وجودا يذكر في الساحة العربية.
حاولنا، في حدود هذا القسم من الدراسة، أن نأتي على بعض الإشكاليات وذكر بعض الأمثلة من مخرجات ظاهرة الخصاء الذهني للنخب السياسية العربية وأعراضها المرضية التي أصبحت ماثلة في العقل الجمعي مثل: “التنمر السياسي” و”الطائفية السياسية” وغيرها التي باتت مستبطنة في الذاكرة الجماعية للأمة، والتي لم تكن ممكنة إلا عن طريق ما وفرته وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي من فرص لقتل العقول وغسل الأدمغة عبر تفننها في الدعاية وعسكرة الحشود. لهذا، يحتاج الحقل السياسي في منطقتنا العربية إلى رؤية بحثية نقدية ومعالجة عقلية رصينة لمختلف أبعاد هذه الظاهرة، خاصّة وأن اللّعبة السّياسة بطبيعتها غير محايدة وأساليب توظيفها متعدّدة في هندسة العقل الجمعي وفق أهداف القوى المتحكمة في المشهد السياسي، سواء أكان في الخير أو في الشر.
مراجع الدراسة
[1]ـ حسام كصّاعي، إشكالية الطائفية في الفكر العربي المعاصر، صفحات للدّراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2016، ص37.
[2]ـ حامد أبوزيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 1999، ص55.
[3]ـ حسام كصّاعي، إشكالية الطائفية في الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص9.
[4]ـ هاني الجزار، أزمة الهوية والتعصب: دراسة سيكولوجية للشباب، هلا للنشر والتوزيع، الجيزة، مصر، الطبعة الأولى، 2011، ص 12.
[5]ـ ورد في هاني الجزار، أزمة الهوية والتعصب: دراسة سيكولوجية للشباب، مرجع سابق، ص 59.
[6]– Emile Durkheim, Leçon de sociologie, Paris, PUF, 1956, p.58.
[7]ـ أنظر مايكل أوترمان وآخرون، محو العراق: حطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع آخر، ترجمة أنطوان باسيل، شركة المطبوعات للنشر والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2011.
[8]ـ جورج قرم، تعدّد الأديان ونظم الحكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة، دار النهار للنشر، بيروت، 1998.
[9]ـ جورج قرم، تعدّد الأديان ونظم الحكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة، المرجع نفسه، ص24.
[10]ـ من أهمّ المصطلحات التي أصبحت متداولة في التّعبيرات السّياسية لفظ “الفتنة”. وأصل هذه الكلمة في اللغة العربية له معاني عديدة ولكنها سلبية. فأصلها مأخوذ من قولك: فَتَنْتُ الفِضّة والذّهب أي أذَبْتُهما بالنّار ليتميّز الرّديء من الجيّد. وفي معناها البسيط تدلّ على كل خطاب أو ممارسة من فرد أو مجموعة تعمل على بثّ الفرقة بين الناس وجعلهم يتقاتلون ويتطاحنون. كما تعني التشكيك وإضلال الناس والوقوع في المعاصي والنفاق، واشتباه الحق بالباطل: مثلما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى:” والذين كَفروا بعْضُهم أوْلياءَ بعضِ إلاّ تفعلوه تَكُنْ فتنةٌ في الأرْض وفسادٌ كبيرٌ”(الأنفال، الآية 74).
[11]– Cf. Paul Nizan, Les chiens de garde, Paris, François Maspero, 2è éd, 1965.
[12]ـ أحمد بن نعمان، فرنسا والأطروحة البربرية: الخلفيات، الأهداف، الوسائل والبدائل، شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، الجزائر،الطبعة الثانية، 1997، ص47.
[13]ـ الطيّب بوعزّة، نقد الليبراليّة، تنوير للنّشر والإعلام، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى 2012، ص22.
[14]ـ الطيّب بوعزّة، نقد الليبراليّة، المرجع نفسه، ص22.
[15]ـ محمد غزالي، الاستعمار: أحقاد وأطماع، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2005، ص9.
[16]ـ محمد غزالي، الاستعمار: أحقاد وأطماع، المرجع نفسه، ص13.
[17]ـ سوزان غريتفيلد، تغيّر العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا؟، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد445، فيفري 2017، ص247.
[18] ـ داريوش شايغان، الأصنامم الذهنية والذاكرة الأزلية، ترجمة حيدر نجف، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2007، ص7.
[19]ـ رينيه غينون، أزمة العالم الحديث، ترجمة عدنان نجيب الدين وجمار عمار، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، الطبعة الأولى، 2016، ص100.
[20]ـ سوزان غريتفيلد، تغيّر العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا؟، مرجع سابق، ص116.
[21]ـ غوستاف لوبون، سيكولوجيا الجماهير، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص64.
[22] ـ محمد طلعت عيسى، الشائعات وكيف نواجهها، وكالة الصحافة العربية، ناشرون، مصر، الطبعة الأولى 2020، ص8.
[23]ـ يذكر المؤرّخ عثمان سعدي في كتابه البربر عرب عاربة وعروبة الشمال أفريقي عبر التاريخ، أنّ العالم المتخصّص في البربرية ” رونيه باسيه” يقدّر عدد اللهجات في شمال أفريقيا ــ قبل الفتح الإسلامي وانتشار اللغة العربية، بخمسة آلاف لهجة، وينكر وجود لغة بربرية أو أمازيغية، وإنما الذي يوجد ــ في نظره ــ ” هو مجرد واقع لهجوي خاص بكل قرية يصعب التفاهم بين مستخدميها، ص9.
[24]ـ أنظر سالم لبيض، الأقلية البربرية في تونس، منشورات سوتيميديا للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، تونس، 2017.
[25]-Cf. Stuart J. Kaufman, modern Hatreds: The Symbolic Politics of Ethnic War, (Comell University Press), Ihaca, 2001.
[26] ـ أنظر مصباح الشيباني، ” الحراك الأمازيغي في المغرب العربي: نبش في الهوية في ظلمة الطائفية”، مجلة المستقبل العربي، العدد 509، يوليو / جويلية 2021.
[27]ـ عبدالباري عطوان، الدولة الإسلامية: الجذور، التوحش، المستقبل، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2015، ص12.
[28]ـ أحمد بن نعمان، فرنسا والأطروحة البربرية: الخلفيات، الأهداف، الوسائل والبدائل، مرجع سابق، ص 17.
[29] ـ جان كلود برتراند، أدبيات الإعلام : دينتولوجيا الإعلام، ترجمة رباب العابد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ، لبنان، الطبعة الأولى ، 2008، ص9.
[30] ـ توماس هيغهامر، الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ترجمة أمين الأيوبي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2003، ص 25.
[31] ـ ابراهيم محمود، الفتنة المقدسة: عقلية التخاصم في الدولة العربية الإسلامية، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 1999، ص 10.
[32] ـ ابراهيم محمود، الفتنة المقدسة: عقلية التخاصم في الدولة العربية الإسلامية، مرجع سابق، ص12.
[33] – Bernard Lewis,(1950), The Arabs in History, ( London:Hutchinsons’s University Library), p.178.
[34] ـ نديم منصور، الاستحمار الإلكتروني، منتدى المعارف، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2016، ص31.
[35] ـ توماس ديكونانك، الجهل الجديد ومشكلة الثقافة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2004، ص7.
[36] ـ نيثان غردلز ومايك ميدافوي، الإعلام الأمريكي بعد العراق:حرب القوة الناعمة، ترجمة بثينة الناصري، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015، ص13.
[37] ـ اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين (1981) مع بداية رئاسة “رونالد ريغان” نظاما دعائيا محكما من أجل فرض تسويات سياسية في المنطقة العربية وفي العالم، وتثبت هذه الاستراتيجية على أن الغدر متأصل في سياستها. فقد اعتمدت كل أشكال الحيل النمطية المتبعة بهدف حشد الحلفاء والأتباع ضد تهديد “المؤامرة” والعدو المجهول “الإرهاب” حتى تخلق إحساسا بالخوف وتحقق تعبئة المجتمع الدولي حول موضوع جديد بعد أن استنفد موضوع “حقوق الإنسان” شرعيته ضمن استراتيجية سياساتها الخارجية والتخلص من “عقدة فيتنام”. ومن اللافت أنه منذ أواخر الثمانينات، مع تفكك الاتحاد السوفياتي،”أصبح الاهتمام مقصورا على إرهاب “اللصوص” وليس إرهاب الإمبراطور وعملائه. أنظر نعوم تشومسكي، الإرهاب الدولي:الأسطورة والواقع، ترجمة لبنى صبري، سينا للنشر، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى1990
[38] ـ هذه الحالة بدأت مع غزو العراق عام 2003، وتكررت في غزو ليبيا عام 2011، حيث اعتمد إعلام حلف الناتو هذه الاستراتيجية للتغطية على جرائمه في منطقتنا. فكانت إحدى عناصر هذه الاستراتيجية هي الاستخدام الوصفي للمصطلحات من قبيل “الطاغية” وغيرها ضمن صيرورة الأحداث مؤثرا بشكل أكثر ومفيدا من الناحية العقلية، حيث يتم نقلها دون نقد أو تمحيص لمضامينها ومدى وجاهتها ودقة نعوتها للأحداث في الواقع.
[39] ـ طيب تبزيني، من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا للدراسات والنشر، دمشق، ط2، 2002، ص 19.
[40] ـ ايزايا برلين، الحرية: خمس مقالات عن الحرية، ترجمة يزن الحاج، التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015.
[41] ـ الرهابقراطية تعني ممارسة السلطة والهيمنة على المجتمع عبر آليات التخويف من عدو وهمي بينما العدو الحقيقي فلا يتحدثون عنه.
[42] ـ ستيفان تسفايج، بناة العالم: القران الجديد لا يحب شبابه، ترجمة محمد جديد، دار المدى للإعلام والثقافة، بغداد، الطبعة الثالثة، (د.ت)، ص327.
[43]ـ مثلا في حرب لبنان مع الكيان الصهيوني عام 2006. توحدت جميع الشعوب العربية وساندت “حزب الله” بكل مذاهبها الدينية واثنياتها الاجتماعية وتياراتها السياسية، لأنها كانت تدرك أن هزيمة دولة الصهاينة هو انتصار لأمة كلها وليس لحزب الله.
[44] ـ كرين برنتن، أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي، ترجمة محمود محمود، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2020، ص44.
2 تعليقات
شكرا دكتور على هذا المجهود الجبار وانارة السبل امامنا
مقال قيم وجدير بالقراءة استاذ مصباح … خالص الشكر والتقدير وبالتوفيق في قادم أعمالك.