الملخص:
لا يُمكن أنْ ينعكسَ معنى كلٍّ من التَّلمذةِ والأُستاذيَّةِ من خلالِ تحديدِ معنى كلٍّ من التِّلميذِ والأستاذِ، لأنَّهما يحملانِ في طيَّاتِهما رواسِبَ دينيّة قديمة تعودُ إلى القرون الوسطى: فالتَّلميذ يعتبرُ تابعاً وخادماً، والأستاذُ يبدو في مستوى مطلقٍ لا استثناءَ فيه. رغم الدَّورِ المِحوريِّ الَّذي تلعبُه الأستاذيّة في تاريخِ التَّعلم البشريِّ، وبالرّغم من أنَّها قدوةٌ ومثالٌ يُحتذى به، فإنَّها لا تستنسخُ ذاتها في التَّلمذةِ في كلِّ الأحوالِ، لأنَّ الأستاذيَّةَ الماهرةَ والنَّاجحةَ هي الَّتي تنتجُ التلمذةَ المُبدعةَ على الغالبِ. وفي المُقابلِ، فبالرّغم من أنَّ التلمذةَ في بدايتها تكونُ بالاقتفاءِ وبالتَّأثُرِ، فإنّ هذا لا يعنى أنَّها ستستمرُّ على هذه الحالِ، بل يُمكن أنْ تُصبحَ ناقدةً للأستاذيّةِ من منطلقٍ معرفيِّ لا يتجاوزُ الإخلالَ بالاحترامِ والإجلالِ. غرضُنا الأساسُ في هذه المقالةِ الإجابةُ عن الأسئلةِ الآتية: ما معنى التِّلميذ؟ ما معنى الأستاذ؟ ماذا نقصدُ بالتَّلمذة؟ ماذا نقصدُ بالأستاذيَّة؟ ما هي أنواعُ التَّلمذة؟ هل يُمكنُ الحديثُ عن نماذجَ مُشرقةٍ من التَّلمذةِ في التَّاريخِ البشريِّ؟ ما خصائصُ التَّلمذةِ؟ ما خصائصُ الأستاذيَّةِ؟
Abstract:
The meanings of both the discipleship and the professorship cannot be reflected by defining the meaning of each of the student and the professor, because they carry with them old religious deposits dating back to the Middle Ages. Despite the essential role that the professorship plays in the history of human learning, and that it is a role model and an example to be followed, it does not reproduce itself in the discipleship in all cases, because the skilled and successful professorship that mostly produces the creative discipleship. On the other hand, although the discipleship at its beginning is by following and being influenced, this does not mean that it will continue in this way, but rather it can become a critic of the professorship from a cognitive standpoint that does not go beyond respect and reverence. Our primary purpose in this article is to answer the following questions: What is the meaning of a disciple? What does professor mean? What do we mean by discipleship? What do we mean by professorship? What are the types of discipleships? Is it possible to talk about shining examples of discipleships in human history? What are the characteristics of discipleship? What are the characteristics of a professorship?
“جذُورُ التَّربيةِ مُرَّة، وثمراتُها حُلوة. إنَّ الَّذين يُعلِّمونَ الأطفالَ جيداً هُم أكثر تكريماً من الَّذين يَلدونَهم، فهؤلاءِ يمنحونَهم الحياةِ، وأولئكَ يمنحونَهم فنَ العيشِ الكريمِ”
المعلّم الأوّل أرسطو
” إنَّ التِّلميذَ الحقيقيَّ هو الَّذي يُظْهِرُ قَدْرَه من خلالِ الوصولِ إلى حدّ أبعدَ من أستاذِه”
المعلّم الأوّل أرسطو
“أفلاطون صديقي، لكنّ الحقيقة أكثر صداقة منه”
المّعلم الأوّل أرسطو
1- التّلميذ والتّلميذة:
“التِّلميذ” لفظٌ عربيٌّ أصلُه التِّلم بالكسر، وهو الغُلام، جمعُه تِلام وتلاميذ[1]، يفيد الخادم والتّابع[2]، وقدِ ارتبطَ معناه بطالبِ العلمِ أو الصّنعةِ، واختصَ في التَّعبير الحالي بالأطفالِ واليافعين المُتمدرسين، ولا يقتصر معنى التّلميذ باعتباره خادمًا للأستاذ وتابعًا له على اللّغة العربيّة بل هو يتعدّاه إلى كلّ من الانجليزيّة والفرنسيّة، فلفظ disciple المُشترك بين الفرنسيّة والإنجليزية، والَّذي يرجعُ إلى اللَّفظ اللّاتيني discipulus، له معنى يقتربُ من معنى “المُريد أو التَّابع” في العربيّة لِمَا له من حُمولة دينيّة ترجعُ إلى مُريدي المسيح بما يُشبه مُريدي شيوخ الصُّوفيّة، ويقتربُ منه لفظ follower الإنجليزيِّ الَّذي يعني التَّابع، وليس له من مُرادف في الفرنسيّة سوى لفظ disciple السَّابق، ويرتبطُ معناه كذلك بالانضباطِ والعقابِ والسَّوط، لمَّا نتحدثُ عن لفظ discipline، وهي معانٍ مُترسّبة في هذه المصطلحات من اللاَّتينية الَّتي كانت لغة القرون الوسطى. ولعلّ لفظ adherent الإنجليزي، ولفظ adhérent الفرنسيِّ يدلّان على المعنى نفسه باعتبار أنّهما يفيدان الموالاة.. لكنَّ اللَّفظَ الأقرب إلى معنى التِّلميذ والطَّالب هو لفظ student الإنجليزي، الَّذي يُرادفه لفظ étudiant الفرنسيّ. أمَّا لفظ pupil الإنجليزي الَّذي يُرادفه لفظ élève الفرنسي، فيختص بالتِّلميذ الصَّغير في المدارسِ الابتدائية والإعداديّة.[3] وهناك ألفاظ أخرى في اللّغة الإنجليزيّة ترتبطُ بالتِّلميذ من قبيل: المُتمدرس schoolboy وschoolchild، والمُتعلّم learner… يُشار إلى التَّلمذة في اللّغة الإنجليزيّة بلفظ discipleship، وهو اللَّفظُ الَّذي سنتبنّاه، رغم أنَّه يفيدُ الحالة الَّتي يكونُ عليها شخصٌ مّا تلميذاً أو تابعًا لمذهبٍ مُعيّن، وبالخصوص لمَّا يكونُ من أتباع المسيح. أمَّا لفظُ apprenticeship، فله معنى مرتبطٌ بالتَّلمذة في المجال الصّناعيّ والحرفيّ، أو ما نُسمّيه نحنُ بالمتعلّم الَّذي يُزاول مهنة أو صنعة مّا في ورشة أو غيرها. أمَّا في الفرنسيّة، فيشار إليها بلفظ discipulat، مع أنَّ هذا اللَّفظ له ارتباط بالتَّلمذة في المسيحيّة بشكلٍ أكثر.
وبناء عليه، سنتبنّى لفظ student للدّلالة على التّلميذ، ولفظ discipleship للدّلالة على التّلمذة في اللّغة الإنجليزيّة. وسنتبنّى لفظ étudiant للدّلالة على التّلميذ، ولفظ discipulat للدّلالة على الأستاذيّة في اللّغة الفرنسيّة. وسنتبنّى لفظ التّلميذ في اللّغة العربيّة بدلا من الطّالب، لأنَّ الطّالب له معنى في التّداول يرتبط بالتّعليم المباشر عن الأستاذ في الجامعة، وقد احتفظت المدارس العتيقة بلفظ الطّالب بدلا من لفظ التّلميذ الَّذي يُستعمل في المؤسّسات العصريّة. وهذا بخلاف التّلميذ الَّذي يستعمل بمعنى أعمّ، وقد يستمدّ المعرفة من أستاذه بشكل مباشر أو غير مباشر.
عُرِّف التِّلميذُ تربويّا بكونه: «الشَّخصُ الَّذي يدرسُ في المدرسةِ أو الجامعةِ»[4]. وهذا التعريف يجعلُ التّلميذ متلقّيا بشكل مباشر عن أستاذ في مؤسّسة معيّنة، لذلك فنحن لا نشترط هذا في تعريف التّلميذ، فمفهوم التّلميذ قد يمتدّ ليشمل المتأثّرين والأتباع والمنتمين، لذلك تجاوز معنى التِّلميذ من أجلِ تحديد معنى التّلمذة. وإذا تقرّر هذا، فما نقصده بـ “التّلمذة”، هو كونها عمليّة تلقّي المعارف والصّنائع والفنون والآداب والأفكار والقِيَم… بشكل مباشر أو غير مباشر عن معلّم أو أستاذ. وعمومًا، لا يمكن وصف التّلمذة بالتّدنّي أمام الأستاذيّة لأنّه رغم أنّ الأستاذيّة هي مقام المعرفة وأنّ التّلمذة هي مقام تقبّل العلم، فقد نجدُ هناك تفوّقًا للتّلمذة على الأستاذيّة، أو نجدُ أنّ التّلمذة قد تسمو معرفيّا متجاوزة الأستاذيّة، من منطلق تقدّم المعارف. وفي المقابل، قد لا تعبِّر التّلمذة في كلّ الأحوال عن التّلقّي الإيجابي الَّذي يجعلها مُبدعةً، فقد تكونُ تلمذةً سلبيّةً تسمحُ باتّساع المدى بين التِّلميذ والأستاذ، وقد تكون مجرّد تأثّرٍ وإعجابٍ، وقد تكون مجرّد اتّباع أعمى، وقد تكون تمرّدا، وقد تكون إساءة فهم، وقد تكون متهوّرة ومشوبة بالاندفاع والحماسة والتحدّي بما يجعلها ادّعاءً تعالميًّا مزعوماً.
2- الأستاذ والأستاذيّة:
“الأستاذ” لفظ معرَّب، يرجع أصله إلى اللّفظ الفارسي “أستاذ”، ومعناه المعلّمُ الماهرُ في صنعته وعلمه، قال الجواليقي:« فأمّا الأستاذ، فكلمةٌ ليست بعربيّة، يقولون للماهر بصنعته أستاذ، ولا توجد هذه الكلمة في الشِّعر الجاهلي، واصطلحت العامّة إذا عظّموا الخصيّ أن يخاطبوه بالأستاذ، وإنما أخذوا ذلك من الأستاذ الذي هو الصانع، لأنَّه ربّما كان تحت يده غلمان يؤدّبهم، فإنّه أستاذ في حُسن الأدب، ولو كان عربيّا، لوجب أنْ يكون اشتقاقُه من “الستذ”، وليس ذلك بمعروف»[5]. نلاحظ في هذا النَّص أنَّ الجواليقي برَّر عدم عربية لفظ “أستاذ” بالاستناد إلى مُبرّرات لغويّة، وبالأخصّ مُبرّرات صرفيّة، لعدم وجود أصلٍ اشتقّ منه، كما أنَّه لمْ يُشر إلى أصله الفارسي. غير أنَّ طوبيا العنيسي كان له مبررٌ عدم عربيّته، وأنَّه فارسيّ من منطلق علميّ، لمعرفته بالفارسيّة، قال: « أستاذ- فارسي “أستاد” معناه معلّم»[6]. وكذلك الأمر بالنِّسبة لأدى شير بقوله: «”الأستاذ” المعلّم وأستاذ الصّناعة ورئيسها، فارسيّته اُستاد، ومنه استا بالتُّركية والكردية»[7]. أمَّا لفظ “الأستاذية”، فهو مصدرٌ صناعي لتضمنه ياء النسبة وثاء التأنيث في آخره، فبما أنَّه لفظ مُعرَّب، فإنَّه يخضع كسائر الألفاظ المُعرَّبة إلى بعض المقتضيات الصَّرفية.
يُشارُ إلى الأستاذ في الإنجليزيّة بألفاظ متعدّدة: professor وteacher وmaster وlecturer و Mr. وفيما يبدو أنّ هذه الألفاظ تفيد معنى الأستاذ، فإنّها توظَّف في سياقات تجعل معانيها تختلف، فلفظ teacher، عادة ما يشير إلى الأستاذ في المدارس في المستويات الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة، ويختصّ لفظ professor بالأستاذ الجامعي. كما يختصّ لفظ lecturer، بالمٌحاضر في الجامعة. أمَّا لفظ master، فهو لفظ مشترك وعامّ ويحمل على المدرّس وربّ العمل والطّالب الجامعي، والحاكم، ورُبّان السّفينة…كما أنَّه من النّاحية اللّغويّة هو اسم وفعل وصفة، وهذا ما يجعل استعماله في السّياق يستوجب فهم طبيعته اللّغويّة من جهة، ومعرفة دلالته من جهة ثانية، وكذلك العبارة المختزلة Mr.، فهي تشير إلى “السّيد” من باب التّشريف والاحترام، وهي عامّة، ولا تشير إلى الأستاذ بصفة خاصّة. ويُشار إليه في الفرنسيّة بثلاثة ألفاظ: professeur و enseignant وmaitre. فالأوّل يُشير إلى الأستاذ في الأسلاك الثّلاثة والمستوى الجامعي، بينما يقتصر الثّاني على الأسلاك الأولى من التّعليم، لكنَّ الثّالث عامّ ومشترك شأنه شأن لفظ master، في الإنجليزيّة، وقد يُفيد معنى المُحاضر بواسطة الإضافة لمَّا نقول: maitre de conférences. أمَّا الأستاذيّة، فعادة ما يُشار إليها في الإنجليزيّة بلفظ professorship، فيما نجد التّعبير الفرنسيّ chaire de professeur، يقوم مقامها، والَّذي يشير إلى أستاذ كرسيّ محاضر في الجامعة. وبناء على هذا، فنحن سنتبنّى لفظيْ: professor وprofesseur للدّلالة على الأستاذ، وسنتبنّى لفظ professorship، للدّلالة على الأستاذيّة.
قد تكونُ الأستاذيّة صفةً للمعلّم الماهر في علمه وصنعته، وتحملُ نوعا من الهبة والإجلال لِمَا لها من أهمّية في التّربية والتّعليم وترسيخ المعارف. وتُعدّ عمليّة محوريّة في كلّ مجال معرفيّ، إذ لا يمكن الاستغناء عن دور الأستاذ في كلِّ مجال أيّا كان، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، لأنَّ العصاميّين، ولو أنَّهم تخلّوا عن الأستاذيّة المباشرة كما يبدو، فإنَّهم لا يُحصِّلون المعارف من أنفسهم، ولكن يطّلعون على ما تركهُ غيرهم، وبذلك يُصبحون تلاميذ لهم بطريقة غير مباشرة.
ما يُمكن أن نستخلصه من تتبّع هذه الألفاظ الَّتي لها علاقة بالتّلمذة أنّها مشحونة بالدّلالات الدّينيّة، فالتّلمذة في اللّسان العربي نوع من التّبعيّة والخدمة، ويقوم مقامها “الصّحبة” و “التّبعيّة” لأنَّ الصّحابة كانوا من تلامذة النّبيّ، وكذلك التّابعون، الذين ساروا على دينه ونهجه. وفي اللّسانيْن الفرنسيّ والإنجليزي تتعدّى التبعيّة واقتفاء الأثر، ويُصبح لها ارتباط بالانضباط والانصياع، لأنَّها في المقام الأوّل اتّباع للمسيح. هذا الأثر الدّيني لا يُمكن تجاوزه لمَّا نستند إلى المعاجم اللّغويّة. إنّه يختزل التّلمذة في رتبة متدنّية، ولها علاقة بالاتّباع دون الإبداع. إنَّ التّلمذة باعتبارها مصدرا هنا لا تعني ما يعنيه التّلميذ أو الطّالب، لأنَّه أصبح لهما معنى تربوي مؤسّساتيّ. أمَّا بالنّسبة إلى الأستاذيّة فالأمر يختلف، فقد تمّ تجريدها من الطّابع الدّيني إلى حدّ مّا، وأصبح لها معنى تربوي فقط.
ما نريد حمله على التّلمذة من معنى هو أنَّها عمليّة تلقّي المعارف أيّا كانت من أستاذ أو معلّم بشكل مباشر أو غير مباشر، وما نريد حمله على الأستاذيّة من معنى هو أنّها عمليّة نقل المعارف أيّا كانت من أستاذ إلى تلميذ بشكل مباشر أو غير مباشر. فما هي الأشكال الَّتي تتّخذها التّلمذة؟ وهل هي مجرّدُ اتّباع؟ وما حدودُ هذا الاتّباع؟ هل هي مجرّد إعجاب وتبجيل للأستاذيّة؟ هل هي تمرّد على الأستاذيّة؟ ما معنى هذا التَّمرد؟ هل الأستاذيّة الماهرة تنتجُ التّلمذة المبدعة؟ هل يمكنُ أن تكون الأستاذيّة أدنى من التّلمذة؟ ما هي أخلاقيّات التّلمذة؟ ما هي أخلاقيّات الأستاذيّة؟
قد لا نُبالغ إذا ما قلنا إنَّ تاريخ العلم والمعرفة هو بالأساس تاريخ للأستاذيّة والتّلمذة بشكل مباشر أو غير مباشر، فالمبدعون عبر التّاريخ هم أفراد معدودون، هم الذين لقّنوا إبداعاتِهم لغيرهم، أو خلّفوها وراءهم كسراج يسترشد به من عاصرهم وتلقّى عنهم، أومن جاء بعدهم، فعلى رأس الفيثاغوريين مثلا الفيلسوف فيثاغورس، وعلى رأس مدرسة أثينا سقراط، وعلى رأس الأكاديميّة أفلاطون، وعلى رأس اللّيقيون أرسطو، وعلى رأس الذّريّين ديموقريطس، وعلى رأس الأبيقوريّين أبيقور…ولكلٍّ من هؤلاء أتباع وتلامذة أصبحوا أساتذة مبدعين، ومن المبدعين من تربّعوا على مجالات بعينها كما تربّع أبقراط على عرش الطبّ، وجالينوس على عرش التّشريح، وأوقليدس على عرش الهندسة، وبطليموس على عرش الفلك…كما استأنف آخرون إبداعاتهم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة كالخوارزمي في مجال الجبر، وابن الهيتم في مجال البصريّات، والخليل في مجال النّحو واللّغة والعروض، وسيبويه في مجال النحو، والجرجاني في مجال البلاغة…وفي العصر الحديث نجد في الفلك كوبيرنيك وكبلر، وفي الفيزياء غاليلي ونيوتن، وفي الكيمياء لافوزيه وبويل…واللّائحة طويلة.
3- التّلمذةُ التّبعيّة:
نقصد بالتّلمذة التّبعيّة تلك التي يقتصرُ فيها التّلميذ على الاتّباع والانتماء لصاحب دينٍ أو مصلحٍ أو صاحبِ مذهبٍ فكريٍّ أو مذهبٍ دينيٍّ، أو طريقةٍ صُوفيّة، أو زعيم سياسيّ…ويمكن تقسيمها إلى تبعيّة تبجيليّة وتقديسيّة، وتبعيّة انتماء مذهبيّ.
3- 1- التّبعيّة التّقديسيّة:
يمكنُ حصر هذا النَّوع من التّلمذة في ثلاث مجالات: المجال الدّيني، والمجال الصّوفي والمجال السّياسي، فأتباع الأنبياء والرُّسل والمصلحين وأقطاب الصوفيّة لهم رابطة مقدّسة مع أساتذتهم كما هو الحال مع أتباع موسى من بني إسرائيل، والحواريّون أتباع عيسى والصّحابة أتباع محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأتباع بودا، وأتباع كونفوشيوس، وأتباع زرادشت…المباشرين وغير المباشرين إلى يومنا هذا. ولا يزال المنتمون إلى هذه المِلَلِ والنّحل يدينون لأساتذتهم الأوائل برابطة مقدّسة. وفي ما يخصّ أتباع أقطاب الصّوفية، فهم كذلك يُعتبرون مريدين يتقرّبون إلى الله بمساعدة شيوخهم الذين ينيرون لهم طريق الوصول. قد يحصل نوع من التّأويل فيما ورد عن الأنبياء والمصلحين من قبل أتباعهم، لكن تبقى الرّابطة بينهما مقدّسة، وتنشأ عن هذه التّأويلات مذاهب كالشّيعة والسّنة في الإسلام، والأرثدوكس والكاثوليك والبروتستانت في المسيحيّة، وبهذا تتحوّل الأستاذيّة من الأنبياء إلى أصحاب المذاهب كالأحناف، والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الإسلام، وأتباع القدّيس توما الإكويني في المسيحيّة. إنّ ما جعلنا نعتبر أنّ هذه التّلمذة مقدّسة أنّها تقوم على روابط تتعلّق بالاعتقاد الدّيني الذي يجعل التّابع ينظر إلى المخالف نظرة الكفر والزّندقة، ولا يتسامح على العموم في المسّ بأساسيّات اعتقاده. ورغم أنّ الاختلاف أحيانا في المذاهب لا يقتصر على الاختلاف في الفروع كما هو الحال بالنّسبة إلى المذاهب الأربعة المذكورة، فإنَّه يصل إلى حدّ الاختلاف في الأصول كما هو الحال بين الشّيعة والسّنة والاختلاف بين الكنيسة البيزنطيّة التي تقول بعبديّة عيسى والكنيسة الكاثوليكيّة التي تقول بألوهيّته. ورغم انتماء كلّ منهما إلى دين واحد، فإنَّ المجازر التي درات بينهما تظلّ وصمة عار في تاريخ هاتيْن الدّيانتين. قد يختلفُ الانتماء الصُّوفي عن الانتماء الدّيني في المسالمة والمسامحة، ويمكنُ القول إنّ تاريخ الصّوفية هو تاريخ للتّضحية أكثر من كونه تاريخا للصِّراع.
قد يحصل أحيانا الانتماء المذهبيّ والإيديولوجي إلى التبعيّة المقدّسة، فالماركسيّة كما تمّ تمثّلها من قبل أتباع ماركس أصبحت مقدّسة شبيهة بالدّين، تجلّى ذلك في الماركسيّين السّوفيات والصّينيين وفي بعض دول أمريكا اللاتينية، كذلك الأمر بالنسبة للنّازية والفاشيّة، وكلّ التّنظيمات الإرهابيّة المغلقة في كلّ الأديان وفي الجماعات الإجراميّة.
ما يُمكن أنْ يقال مجملاً حول التّلمذة المقدّسة أنّها غير مباشرة على العموم عدا ما يتعلّق بالتّلمذة الصّوفيّة فإنّها تلمذة انصياعيّة واتّباعيّة واقتناعيّة، لا تحاول الخروج عن النّسق الدّيني أو المذهبي إلا بالرّدّة أو بالخيانة، وهي غير متسامحة في مجملها، (عدا التبعيّة الصوفيّة)، وتنظر إلى الأستاذيّة نظرة مقدّسة، زوّدت بمزايا تتجاوز الطّبيعة البشريّة أحيانا لما نتحدّث عن التبعيّة الدينيّة، وقد تكون انصياعيّة بدافع الخوف من الاتّهام بالخيانة لمَّا نتحدّثُ عن التبعيّة الإيديولوجيّة أو التبعيّة في التّنظيمات المغلقة أو الإجراميّة.
3- 2- التّبعيّة المذهبيّة والمعرفيّة:
ترتبط التبعيّة المذهبيّة بالتّيارات الفكريّة الكبرى، والتي عادة ما نشير إليها بإضافة ياء النّسبة إلى اسم علم من أعلام الفكر كما نقول: فيثاغوري، أو بإضافة ياء النسبة وثاء التأنيث ليصبح مصدرا صناعيّا كما نقول: فيثاغوريّة، وهذا من الذّوائع الشّوائع في تاريخ الفكر الفلسفي والسّياسي، فهناك الأفلاطونيّون، والأرسطيّون، والأبيقوريّون، والأفلوطينيّون، والرشديّون، والديكارتيّون والنّيتشويون، والماركسيّون، واللّينينيّون، والماويون… فكلّ هؤلاء ينتسبون إلى أشخاص مؤثّرين وأساتذة معلّمين، كما نجد في القديم من انتموا إلى أشياء أخرى ارتبطت بهم كالطبيعيين الذين ردّوا أصل الكون إلى عناصر طبيعية، أو الرّواقيّين، أصحاب الرّواق أو المظلّة، أو الذّريون نسبة إلى الذّرة أو الجزء الذي لا يتجزّأ… غير أنَّ الفترة المُعاصرة أصبح فيها الانتماء على الغالب لا إلى الأشخاص، بل إمّا إلى المنهج كما نقول: الوظيفية، والبنيوية، والتحليلية…أو إلى القضيّة الجوهريّة التي اجتمع حولها فئة من العلماء والمفكّرين كما نقول: الوضعيّة المنطقية، والوجوديّة، والبراغماتيّة… ولا يخلو كلُّ تيّار من هذه التّيارات من أستاذة أقطاب هم الذين تبنّوا هذه القضيّة أو هذا المنهج، فلمّا نتحدّث عن البنيويّة، فعلى رأسها العالم اللّساني فردنان دوسوسير، والتحليليّة على رأسها برتراند راسل، ولودفيج فيتغنشتاين، والوضعيّة المنطقيّة على رأسها موريس شليك، والبراغماتية على رأسها بيرس، والوجوديّة على رأسها سورين كيركارد…ولكلّ اتّجاه من هذه الاتّجاهات الفكريّة جذور، فالوضعيّة المنطقيّة مثلا تتبنّى أفكار الفلاسفة التجريبيّين، وتتبنّى أفكار أوغست كونت، وإميل دوركايم، وكارل ماركس…
إن السّؤال الذي نودّ طرحه هنا هو: هل الانتماء إلى مذهب منسوب إلى علم من الأعلام ينتج أتباعاً يستنسخون نفس الأفكار كما هو الحال في المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة؟ فلمّا نأخذ على سبيل المثال الوضعيّة المنطقيّة المعاصرة، هل أنجبت فلاسفة وعلماء متشابهين؟ هل رودولف كارناب يشبه هانز ريشنباخ ويشبه كارل غوستاف همبل، ويشبه إرنست نيجل، ويشبه آير، ويشبه باول أوبنهايم…إذا دقّقنا النّظر في أوجه التّشابه بين هؤلاء نجدها في رفض الميتافيزيقا، وأنَّ اللّغة تكتسب معنى من خلال الارتباط بالواقع، فالعبارة بالنّسبة إليهم إمَّا أنْ تكون تحليليّة تتميّز بصحّة التّعريف ومطابقة الفكر لذاته، بمعنى أنَّ المحمول متضمّن في الموضوع كما هو الحال بالنّسبة للقضيّة الرياضيّة، أو تكون تركيبيّة بمعنى تخبرنا بشيء موجود في الواقع كحقيقة مادّية. ولهذا فكلُّ العبارات الميتافيزيقيّة والأخلاقيّة لا معنى لها لأنَّها خارج الصّحّة بالمعنى العقلي، وخارج الصّدق بالمعنى الواقعي. أمّا آراؤهم في ما عدا هذا، فهي مُختلفة، ولا أحد منهم يعكس نفس أفكار الآخر خارج هذه المسألة المتّفق عليها.
ومن النّماذج المختلفة في تاريخنا الفلسفي، نجد أنَّ ابن سينا كان أرسطيّا، لكنّ انتماءه الأرسطي لم يكن كانتماء ابن رشد، رغم أنَّ هذا الأخير كان له أتباع في أروبّا، فإنَّ تعلّقه بالمعلّم الأّول جعله يحاول استنساخ أرسطو، وبذلك كانت تبعيّته لأرسطو سلبيّة إذا ما قورنت بتبعيّة ابن سينا والفارابي الإيجابيّة، قال ابن سبعين عن ابن رشد: «وهذا الرّجلُ ابن رشد مفتونٌ بأرسطو ومُعظمٌ له، ويكادُ أنْ يُقلِّده في الحسّ والمعقولات الأولى، ولو سمعَ الحكيم يقولُ إنَّ القائمَ قاعدٌ في زمان واحد لقالَ به واعتقده، وأكثرُ تآليفِه من كلام أرسطو، إمَّا يلخّصها، وإمَّا يمشي معها، وهو في نفسه قصيرُ الباعِ، قليلُ المعرفة، بليدُ التَّصور، غير مدركٍ. غير أنَّه إنسانٌ جيدٌ، قليلُ الفضولِ، ومنصفٌ، وعالمٌ بعجزِه، ولا يعوَّلُ عليه في اجتهادِه، فإنَّه مقلدٌ لأرسطو»[8]. أمَّا أبو نصر الفارابي، فقد كان مبدعاً إلى حد ما، رغم أنَّه كان أرسطيّا وأفلاطونيا في نفس الوقت، لأنَّ الفرق شاسعٌ، على سبيل المثال، بين محاورة الجمهوريّة عند أفلاطون والمدينة الفاضلة عنده.
ما يهمّنا من هذا الجردِ التّاريخيِّ أنَّ التّلمذة سواء كانت تلمذة تبعيّة ومذهبيّة، لم تكن تبعيّة سلبيّة في مُجملها، وإنَّما كانت تبعيّة حيويّة، وقد أفرزت أسماء لامعة لها آراء مستقلّة رغم انتمائها المذهبي، وبذلك فهي تختلف عن التبعيّة الاجتراريّة المقدّسة أو التبعيّة الإيديولوجيّة المتعصبة.
4- نماذجٌ خالدةٌ من التَّلمذةِ:
4- 1- التَّلمذةُ المباشرةُ بين التَّماهي والاستقلالِ:
لا يُمكن الحديث عن نموذج التّلمذة والأستاذيّة بشكلٍ واضحٍ في الفلسفة اليونانيّة دونَ ذكر التّسلسلِ الثّلاثي سقراط-أفلاطون-أرسطو، فالأوّل أستاذ للثّاني، والثّاني أستاذ للثّالث. ولم تكن تلمذة أفلاطون على أستاذيّة سقراط تشبه في شيء تلمذة أرسطو على أستاذيّة أفلاطون، لأنّ هذا الأخير خلّف محاورات فلسفيّة عديدة اكتفى فيها بالرّواية، وجعل من أستاذه سقراط بطلا لهذه المحاورات ممّا جعل وجوده في المحاورات لا يختلف عن وجود أستاذه المشكوك، وهذا جعل من التّلميذ أفلاطون مشكلة تنضاف إلى مشكلة أستاذه سقراط. أمّا تلمذة أرسطو على أستاذيّة أفلاطون، فهي مستقلّة في آرائها، ولا تجد حرجا في نقد الأستاذيّة.
4- 1-1- أفلاطون التّلميذ يتماهى مع أستاذه سقراط:
لا نعلمُ وجود أثر فكريّ مكتوب لسقراط (490-399 ق.م)، وكلّ ما وردنا عنه جاء من قبل الّذين تلوْه، لكنّ ما وردنا عنه من قبل هؤلاء فيه اختلاف: فأفلاطون تلميذه المباشر مجَّده، ووضعه على رأس الحقيقة، وكان بطله في المحاورات، وأرسطوفان (450-385 ق.م) الكاتب المسرحي سخر من تجريده في مسرحيته الكوميديّة “السَّحاب”، وأرسطو (322-384 ق.م) نظر إليه نظرة موضوعية لا تمجيد فيها ولا تنقيص. لكنْ ما يهمّنا هنا هو العلاقة التي جمعت بين سقراط الأستاذ وأفلاطون التّلميذ. لقد كان سقراط أستاذا كبيرا، وكان له أتباع كثر: «[فـــ] هذا الرّجل الخارق للمألوف لم يكن كالحكماء الذين تكلّمنا عنهم حتّى الآن. زعيم مدرسة: فالمدراس التي ستنسب نفسها إلى سقراط عديدة، ومناوئة لبعضها بعضا بصدد مسائل عدّة. ولا يجمع بينها أيّ تقليد مذهبيّ مشترك. وعلى هذا، لن يكون لنا من مدخل إلى سقراط لا بصورة مباشرة وذلك ما دام لم يكتب شيئا، ولا من خلال مأثور واحد، وإنّما من خلال مأثورات شتّى ترسم له صورا متباينة»[9].
إنَّ أكبر مشكلة تعترض القارئ لمحاورات أفلاطون تتعلّق بما إذا كان هذا الأخير هو مسجّل للمحاورات وراويها أم هو أحد المشاركين فيها، لأنّنا في أغلبها نجد بطل المحاورات هو أستاذه سقراط، فكيف نميِّز رأي التلميذ أفلاطون الكاتب أو الرّاوي عن رأي المُحاور الأستاذ سقراط داخل هذه المحاورات؟ لقد ردّ الأستاذ عبد الرّحمان بدوي هذه المسألة إلى معنى المثال المستوحى من النّحت من جهة، وإلى تقليده لكتّاب الرّوايات من جهة ثانية، قال:« كان المثَّال اليوناني [النّحاة صانع التّماثيل] يعني بأن لا يترك أثرا لصنعته، فكان لا يُظهر لها أثرا على المرمر الذي يصنعُ منه تمثاله، بل يُقدِّم هذا المثال صافيا نقيّا. وقد فعل أفلاطون في ميدان الفكر ما صنعه المثَّالُ اليوناني في ميدان النّحت، فإنّه قدّم لنا مذهبه محاولا دائما أن ينأى بنفسه عن المحاورات التي يتحدّث فيها عن هذا المذهب: فلم تظهر له فيها شخصيّة، وإن كان قد ظهر مرّتين أو ثلاث مرات، فإنّما كان ذلك وراء المناظر كلّها، ولم يكن لها أدنى أثر في حوادث الرّواية. وهو في هذا إنّما قلّد رجال المآسي والملاحم من حيث محاولتهم دائما أن يقدّموا أشخاص رواياتهم وكأنّها لا صلة لها مطلقا بنفوسهم. ومع هذا يستطيع الإنسان أن يتعرّف شخصيّاتهم»[10].
إذا ساندنا الأستاذ بدوي في هذا الطّرح، فالمسألة محلولة من أساسها، لكن هذا الطرح لا يرضيه هو نفسه مثلما لا يرضينا، لأنّها مسألة متداخلة وليس لها حلّ لأسباب عدّة، يمكن حصرها في النّقط الآتية:
- إذا اعتبرنا أفلاطون هو المُمثل الشَّرعي للمُحاورات، فإنَّ هذا يعني أنّ سقراط شخصيّة وهميّة اخترعها أفلاطون، وهذا الموقف مردود عليه، لأنَّ سقراط شخصيّة تاريخيّة وواقعيّة، ولها أكثر من تأثير في الفكر اليوناني[11].
- إذا اجتهد الباحثون في تمييز مذهب أفلاطون عن مذهب سقراط في المحاورات، على الرّغم من أنّ هذه المسألة عسيرة جدّا، فإنَّ المشكلة ستظلّ على حالها، لأنَّ أقوال سقراط في المحاورات ليست نهائيّة ولا راجحة[12].
- ما يجعل الحلّ غير ممكن أنَّ سقراط في المحاورات، ليس منتصرا دائما، فقد انهزم في محاورة “بروتاغوراس”، وفي محاورة “أوطيفرون”، وفي محاورة “اقراطيلوس”، وفي محاورة “برمنيدس”، وفي محاورة “السّوفسطائي”…
- أنَّ هناك محاورات متناقضة فيما بينها ممَّا يصعب نسبها لمذهب أفلاطون، فأقوال أفلاطون في محاورة “الجمهوريّة” تهدمها أقواله في محاورة “النّواميس”، وأقواله في محاورة “بروتاغوراس” تتناقض مع أقواله في محاورة “جورجياس”…[13].
- إذا كانت المُحاورات تدمج الاستدلال المنطقي والتّصوير البياني، أي أنّ هناك ازدواجيّة علميّة وفنية، فأيُّهما ننسب إلى سقراط؟ وأيُّهما ننسب إلى أفلاطون؟[14].
- يمكنُ تقسيم مضامين المحاورات إلى مرحلتين: مرحلة دوغمائيّة ومرحلة توكيديّة. أيُّهما تنسب إلى سقراط؟ وأيُّهما تنسب إلى أفلاطون؟[15].
إذا كان الأستاذ عبد الرّحمان بدوي قد انتصر للحلّ الَّذي قدّمه أفلاطون في الرّسالة السَّابعة، لمَّا تحدث عن رحلته إلى ديونيسوس من أجل تعمليمه الفلسفة، فوضع له مجموعة من المشكلات وطالبه بالبحث عن حلّ لها بشكل يوميّ، فمثل هذه المشكلات بالنسبة إليه تحتاج إلى مدّة ليست بالقصيرة، ومهما طال الزمن، فالفيلسوف عاجز عن معرفة الحقيقة كاملة، وما الفلسفة التي يكتبها الفيلسوف للنّاس سوى آراء لا يطالها اليقين، وقد تمتلئ بالشكّ[16]، فإنَّ المشكل سيظلّ قائما بالنّسبة إلى الباحث بسبب الاعتبارات المذكورة أعلاه.
ما يُمكن أنْ نستخلصه من هذا أنَّ أفلاطون التّلميذ لا يُمكن فصلُ آرائه عن آراء أستاذه سقراط، لأنَّه جعله الناطق باسمه، ومُمثّل الرّأي الأقرب إلى الصّواب في نظره، وسواء كان سقراط شخصيّة أساسيّة من شخصيّات المحاورات أم لا، فهذا يدلّ على المكانة التي يحظى بها سقراط الأستاذ عند تلميذه أفلاطون، فهذا النّوع من التّلمذة يجسّد الإعجاب بالأستاذيّة الَّذي يصل إلى حدّ التَّماهي إذ بواسطتها يجسّد التّلميذ ذاته ويُعزِّز آراءه.
4- 1- 2- أرسطو التّلميذ يستقلّ في رأيه عن أستاذه أفلاطون:
بدأت علاقة أرسطو تتشكّل مع أستاذه أفلاطون في الوقت الذي انتمى فيه إلى الأكاديمية، وله آنذاك ثماني عشرة سنة، ثمّ ظلّ في الأكاديمية حتَّى موت أستاذه أفلاطون سنة 347 ق. م. وإذا علمنا أنّ أرسطو ولد سنة 384 ق.م، وتوفّي سنة 322 ق.م، فإنَّه انتمى إلى الأكاديمية سنة 366 ق.م، ومكت بها حتَّى سنة 347 ق.م، أي ظلّ فيها ملازماً لأستاذه تسع عشرة سنة، وهي سنوات تُعادل الفترة التي يقضيها التلميذ في الدراسة من المرحلة الابتدائية إلى المراحل المتقدمة من التعليم العالي حتَّى إنهاء الدكتوراه. وعاش بعد موت أستاذه في الليقيوم Lyceum الَّتي أسّسها إلى أن تمّ نفيُه بعد موت الإسكندر، ثمّ توفّي بعد ذلك بسنة واحدة[17]. يُمكن الإشارة إلى أنّه لمَّا تولى سبوسيبوس Speusippus، ثم كزينوكراتيس Xenocrates رئاسة الأكاديمية خلفا لأفلاطون ، لم تسمح شهرة أرسطو باعتباره أستاذا للقائد العظيم الإسكندر المقدوني أنْ يكون في مكانة أقلّ من المشرف على الأكاديميّة، لذلك أسّس مدرسته الخاصّة به[18].
لقد تعلّم أرسطو في الأكاديميّة الأفلاطونيّة المنهج الجدلي الَّذي يعتمد المحاورة حول القضايا الفلسفيّة انطلاقا من الملاحظة أو من خلال الاستنباط، كما تعرّف على نظريّات الفلاسفة السّابقين، ثمّ إنّه أدرك أهمّية تعريف الحدود في أيّ استدلال، كما نجد التّأثير الأفلاطوني في كتابه “ما بعد الطّبيعة” لمّا خصّص فصلين لإثبات أن لا الأفكار ولا الأعداد تسمّى جواهر وماهيّات، وهذا يذكّرنا بمرجعيّته الأكاديميّة. كما أنّ المؤرّخين يتحدّثون عن كتابات أرسطو الأولى، والتي ضاعت في مجملها كانت على شكل محاورات بما لا يختلف عن محاورات أفلاطون[19].
تبعا لهذه المعطيات، فتلمذة أرسطو عن أستاذه أفلاطون مرّت بثلاث مراحل: مرحلة التّحصيل والاستيعاب، مرحلة الّتقليد واقتفاء نفس الأثر، تمّ مرحلة التّجاوز والإبداع. وهي في نظرنا أهمّ المراحل التي يجب أن يمرّ منها أيّ تلميذ نجيب. ونستحضر هنا أن أرسطو خالف أستاذه في قضايا جوهرية، كنظريّة الحقيقة التي يعتبرها أفلاطون معقولة ومفارقة للمحسوس فيما يعتبرها أرسطو ثاوية في الأشياء كصفات مقوّمة وملازمة لها، وهي ما سمَّاه بالجوهر في مقابل الأعراض التي هي صفات زائدة وغير مقوّمة للأشياء، كما خالفه في نظريّة المحاكاة، وتميّزت كتاباته الفلسفيّة بوحدة الموضوع، وبصياغة إجرائيّة تعتمد الجمل الخبريّة دون الإنشائيّة.
ما يهمّنا هنا أن أرسطو جسَّد مفهوم التّلمذة الفعّالة والمبدعة، ولم يكن احترامه وتقديره لأستاذه سببا في الانسياق مع نفس المنوال الفلسفي الذي اختاره أستاذه، وإنّما كانت تلمذته منطلقا لإبداع لا نظير له، وهو الإبداع الذي جعل منه المعلّم الأوّل، وجعل فلسفته تتربّع على عرش الفكر لعدّة قرون. فلمّا تلتقي الأستاذيّة الماهرة والتّلمذة النّبيهة والمبدعة، فلا تخرج عن كونها تجسيدا لأستاذيّة أفلاطون العظيم وتلمذة أرسطو المعلّم الأوّل الحكيم.
4- 2- التَّلمذة المُباشرة بين الانصياع والإبداع:
كثيرة هي التّلمذة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، وإنْ كانت غالبا ما تتّسم بالتّقليد والاتّباع، فإنَّ هذا لا يجعلها تخلو من وجود نماذج مشرقة، فابن جنّي النَّحوي واللُّغوي المشهور رغم علوّ كعبه في النَّحو والصَّرف وفقه اللّغة لم يتخلّصْ من سلطة أستاذه أبو علي الفارسي، الَّذي لا يذكره في مسألة إلاَّ ويُرجِّح رأيه وإنْ كان رأي أستاذه مخالفاً لأهل النَّظر. كما أنَّ تلمذة النَّحوي الكبير سيبويه على أستاذه الخليل بن أحمد لمْ تكن تلمذة سلبيّة كما سادَ في اعتقاد الكثير، وإنَّما كانت تلمذة فعّالة ومُبدعة، وخرجتْ عن الأستاذيّة في كثير من الأمور.
4- 2- 1- ابن جني يقدم رأي أستاذه على رأيه:
إنّ العلاقة التي ربطت النّحوي الكبير أبي علي الفارسي وتلميذه أبي الفتح ابن جنّي (322-392 ه) علاقة بدأت غريبة وانتهت بالإعجاب الشّديد، فحسب بعض الرّوايات، فقد كان ابن جنّي في حداثة سنّه وهو تلميذ لأبي علي الفارسي، يدرس عنه الأدب، فحصل في نفسه نوع من الغرور، وظنّ نفسه قد اكتمل وانتهى علما، وأصبح مؤهّلا للأستاذية، لذلك فارق أستاذه وكوّن حلقة للإقراء، فمرّ عليه شيخه أبو علي الفارسي، فقال معاتبا له عبارة أخذت منه كلَّ مأخذ، ونبّهته إلى مكانته العلميّة الحقيقيّة: “زبَّبتَ وأنتْ حِصْرم”، ومعنى هذا أنّك أينعت ونضجت قبل الأوان، فالزَّبيب غاية النّضج، لأنَّه قبل أن يكون عنبا ناضجا، يصبح زبيبا أنضج. فما بالك بالحِصرم الَّذي هو أول ما يظهر من حبّات العنب، والمغزى من هذا التَّمثيل، أنّك غادرت مجلسي قبل أنْ يكتمل علمك، فكيف تصبح زبيبا في غاية النّضج (أي شيخا وأستاذا)، وأنت ما زلت حِصرم، وعنبا نيّئا (أي في بداية التّلمذة). لقد كان لهذه الكلمات أثرٌ كبيرٌ في نفسيّة ابن جنّي، وكانت سببا في ملازمة أستاذه أبي على لمدّة أربعين سنة حتَّى وفاته، وبعد ذلك تصدَّر مكانه في الأستاذيّة بمدينة الموصل. يُعدّ هذا النّموذج من العلاقة مثالا للتّلمذة المغرورة، التي تتجاوز المراحل التي على المتعلّم أنْ يمُر منها، فليس من السَّهل أن تصبح أستاذا إلّا بالنّضج والاستيعاب وتحصيل الفنّ الذي تدّعي أنّك تريد تبليغه للآخرين. وقد نصادف كثيرا من المستأسذين الذين لم يكتمل علمهم، ويدعون أنَّهم أهل لمهمة الأستاذية. ومهما يكن، فإن ابن جني عرف قدر مكانته من خلال تقدير أستاذه، واستدرك الأمر، ولازم أستاذه أربعين سنة حتى نضج علمه، وبذلك أصبح ابن جني، وما أدراك ما ابن جنّي في الصّرف والنحو.
ما يصادفه القارئ لكتب ابن جنّي أنَّ رأي أستاذه أبي علي يبقى فوق رأيه في القضايا الشّائكة، فكان دائما ما يستحضر رأي أستاذه بإجلال، ولا يُخالفه وأن كان غير صائب، ومُخالفا لأهل النّظر في اللّغة والنَّحو والصَّرف. ولنعرض في ذلك مسألة أصل اللّغة: أهي تواضع واتّفاق أم وحي وتوقيف؟ وهي مسألة تدخلُ في باب فلسفة اللّغة، وليس في باب اللّغة. نحن نرى أنَّ ابن جني ليس له موقف واضح في هذه المسألة، لأنّنا نراه يقول بالاتّفاق، ونراه حينا ينجذبُ نحو التّوقيف متأثّرا بقول أستاذه، قال: « هذا موضعٌ مُحوج إلى فصلِ تأمّلٍ، غير أنَّ أكثر أهل النَّظر على أنَّ أصل اللُّغة إنَّما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف. إلّا أنَّ أبا علي-رحمه الله- قال لي يوما: هي من عند الله، واحتجّ بقوله سبحانه “وعلّم آدم الأسماء كلّها” وهذا لا يتناول موضع خلاف…»[20]. إنَّ النّاظر في هذا النّصّ بإمعان، يلمس أنَّ ابن جنّي هو على رأي أهل النّظر، أي يقول بالتّواضع والاصطلاح، لكنّ رأي أستاذه دفعه إلى عدم مخالفته، ولو أنّه على غير حقّ، ولو أنّه مخالف لأهل النّظر، لذلك نجد ابن جنّي مرتبكاً في اتّخاذ موقف في هذه المسألة، فقد أخضع في البداية قول أستاذه للتّأويل دون أن يستطيع تجاوزه، قال:« وذلك أنّه قد يجوز أنْ يكون تأويله أقدر آدم على أنْ واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة.»[21]، وقد أخذ منه الانجذاب نحو أستاذه كلَّ مأخذ ولو على حساب الاضطراب والتّشويش الذي حدث له دون أنْ يستطيع التّصريح بما يخالفه والانصياع إلى رأي أستاذه وهو مكره، وذلك بيِّن من خلال قوله: «وأعلم فيما بعد، أنَّني على تقادم الوقت، دائم التّنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدّواعي والخوالج قويّة التّجاذب لي، مُختلفة جهات التّغوّل على فكري. وذلك أنَّني إذا تأمّلت حال هذه اللّغة الشّريفة اللّطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدّقّة، والإرهاف، والرّقة ما يملك علي جانب الفكر، حتَّى يكاد يطمح به أمام غلوة السِّحر. فمن ذلك ما نبَّه عليه أصحابنا –رحمهم الله- ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفتُ بتتابعه وانقياده، وبُعد مراميه وآماده صحّة ما وفّقوا لتقديمه منه…اعتقاد كونها توفيقا من الله سبحانه، وأنَّها وحي.»[22]. فابن جنّي رغم الحيرة، ورغم الكفاءة العلمية بقي أستاذه يُمارس عليه الوصاية، وانتظر حسب رأيه تقادم سنه ونضج علمه كي لا يخالف أستاذه في مسألة فصِّل فيها القول من قبل أهل النّظر. قد يكون هذا من عيوب التّلمذة، لكن لمَّا نتحدّث عن ابن جني اللّغوي والنّحوي، فالأمر بالنّسبة إليه لا يعدو أنْ يكون تقديراً واحتراما لأستاذه، ولأنَّ اجتهاده في النّحو فاق ما قدَّمه أستاذه، لذلك، فهو أكثر شهرة منه.
4- 2-2- سيبويه يبدعُ باستقلالٍ عن رأي أستاذه الخليل:
من نماذج الأستاذيّة الماهرة والتّلمذة المبدعة في التّراث العربي الإسلامي تلك التي نشأت بين سيبويه وأستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي في علم النّحو. فالخليل يكفيه في الأستاذيّة أنْ يكون هو واضعُ علم العروض، وأنْ يكون واضع الحركات لضبط شكل الكلمات، وأنْ يكون واضع أوّل معجم عربي مرتّباً على أساس صوتي، فكلُّ هذا السّبق والإبداع يشهد له بالمهارة في صناعة النَّحو والعروض واللّغة والموسيقى. ويكفي سيبويه في التّلمذة أنْ يكون واضع أوّل كتاب في النَّحو العربي، كان له عظيم الأثر في تاريخ النّحو والصّرف العربيّين، وعلى كلّ العلوم العربيّة من تفسير وفقه وأصول…ورغم أنَّ سيبويه قد تلقّى تعليمه على أساتذة آخرين في النَّحو واللّغة، لكنَّ تأثير أستاذه الخليل فيه كان أكبر، قال ابن خلكان: «وأخذ سيبويه النَّحو على الخليل، وعن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب، وأخذ اللّغة عن ابن الخطّاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره.»[23]. وما يدل على هذا التّأثير أنَّ العلاقة بينهما تميّزت بالإعجاب والاحترام المُتبادَل، فمن شدّة إعجاب الخليل بتلميذه سيبويه أنَّه كان يخاطبه لمّا يراه بالتّرحيب، فقد نقل ابن خلكان عن ابن النَّطاح قوله:« كنت عند الخليل بن أحمد، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحباً بزائر لا يُملُّ، قال عمر المخزومي، وكان كثير المجاملة للخليل: ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلّا لسيبويه»[24].
على خلاف ما يتمّ تداوله أنَّ سيبويه لم يُدوِّن في “الكتاب” إلاَّ أراء أستاذه الخليل، فإنّ هذا الرّأي مجانب للصّواب، لأن سيبويه لا يستحضر رأي الخليل وحده في “الكتاب”، وإنَّما يستحضرُ آراء كلِّ النُّحاة الذين عاصروه أو الّذين روي عنهم، كما أنَّ “الكتاب” هو تأليف خالص لسيبويه، لأنّ رأيه هو الغالب، ولأنّ رأيه مبنيّ على الرأي والرأي المضادّ، وفيه الأخذ والرَّد، ورأي أستاذه ليس إلّا جزء من الآراء المعروضة، وقد خالف أستاذه الخليل في غير ما مسألة من المسائل النَّحوية. وعكس هذا الرّأي لا يجهر به إلاَّ مُدعٍ، أو ممّن لم يقرؤوا ولا صفحة واحدة من “الكتاب”. لقد نهج سيبويه في الكتاب منهج العلماء في استقراء الشَّواهد من كلام العرب وشعرهم، ولهذا، فهو يبدأ في الغالب انطلاقا من الأقوال العربية المُتداولة عند العرب الفصحاء، ويخاطب العلماء، كما في قوله:« وذلك قولك:… وإذا قلت:…وتقول:…»، وهذه العبارات لازمة تحضر في أغلب أبواب الكتاب، وأورد كذلك عبارة:« زعم الخليل رحمه الله…» بالإضافة إلى زعم آخرين أمثال يونس بن حبيب وعيسى بن عمر في قليل من المواضع دلالة على اعتقادهم في بعض الأمور، ومشيرا إلى الآراء المخالفة لهم. ومهما يكن، فما هو مشاع من الاختلاف بين سيبويه التلميذ والخليل الأستاذ في الأمور النحوية نذكر:
- الاختلاف حول أداة التّعريف “أل”، فالخليل اعتبرها حرف تعريف، وهمزتها همزة قطع، لكنّ سيبويه اعتبر أنّ حرف التّعريف هو اللّام وحدها، وأّن همزتها همزة وصل، اجتلبت للنّطق بالسّاكن[25].
- تأصيل “مهما”، فالخليل اعتبر أصلها “ما” الشّرطية، وأضيفت لها “ما” أخرى زائدة، فأصبحت “ماما”، فاستقبحت، وتم إبدال ألفها الأولى هاء دفعا للتّكرار، فصارت “مهما”. أمَّا سيبويه، فاعتبر أصلها “مه” و”ما” الشّرطية[26].
- مجرى النّعت على المنعوت، فالخليل اعتبر أنّ الاسم المجرور على الجوار يوافق الاسم الذي يجاوره في عدّته وفي تذكيره وفي تأنيثه، لكنّ سيبويه أجاز الجرّ على الجوار وإن اختلف المتجاوران[27].
وخلاصةُ القول، فشخصيّة سيبويه التّلميذ، نادرة، وغير مُتكرّرة في التّاريخ العربي، جمعت بين الشّباب وحسن المظهر، والعلم الدقيق والعميق لقوانين لسان العرب، غير أنَّ لحنه أمام أحد علماء الحديث في بداية طلبه للعلم، وأصله الفارسي، والحبسة الَّتي كان يعاني منها، والإهانة والتّحامل عليه جهلا في المؤامرة الَّتي حاك خيوطها الكسائي وتلامذته أمام هارون الرشيد في المسألة الزنبورية كلّها أمور لم تنلْ من عبقريّته، ولم تكن لتحول دون تخليد إبداعه، وكيف لا يكون تلميذا مبدعا وهو تلميذ للخليل الأستاذ المبدع.
4- 3- نقد ابن سينا للناتلي أستاذه المباشرة واعترافه بتفوق أستاذه الفارابي غير المباشرة:
من الظّواهر الغريبّة في تاريخ التّلمذة أنْ يُقرّ التّلميذ بضعف أستاذه الَّذي درّسه مباشرة، وذلك ليس من باب التَّنقيص، وإنَّما من باب الحقيقة والواقع، ذلك ما كشفه ابن سينا عن أستاذه أبي عبد الله الناتلي، الَّذي درَّسه بشكل مباشر. جاء في سيرة حياة ابن سينا الَّتي أملاها على تلميذه أبي عبيد الجوزجاني ما يلي:« ثم وصل إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي، وكان يدَّعي التّفلسف، فأنزله أبي دارنا واشتغل بتعليمي. وكنت قبل قدومه أشتغل بالفقه والتردّد فيه إلى إسماعيل الزاهد، وكنت من أفره السّائلين، وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذي جرت عادة القوم به. ثم ابتدأت بقراءة كتاب إيساغوجي على الناتلي، فلمّا ذكر لي حد الجنس أنَّه المقول على كثيرين مختلفين بالنّوع في جواب “ما هو؟”، فأخذته في تحقيق هذا الحدّ بما لم يسمع بمثله. وتعجّب مني كل العجب، كان أي مسألة قالها تصورتها خيرا منه، وحذر والدي من شغلي بغير العلم، حتّى قرأت ظواهر المنطق عليه. وأمَّا دقائقه، فلم يكن عنده منها خبر. ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي، وأطلع على الشروح حتى أحكمت علم المنطق. فأمَّا كتاب أوقليدس، فإنِّي قرأتُ عليه من أوله خمسة أشكال أو ستة، ثم توليت بنفسي حل الكتاب بأجمعه. ثم انتقلت إلى المجسطي، ولما فرغت من مقدماته وانتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: “تول قراءتها وحلها بنفسك، ثم اعرضها عليَّ لأبيِّنَ لك صوابه من خطئه“. وما كان الرجل يقوم بالكتاب فحللته. فكم من شكل ما عرفه إلا حين عرضته عليه وفهمته إياه. ثم فارقني الناتلي…»[28].
إذا ما أردنا أنْ نستخرج عيوب الأستاذيّة الَّتي وصف بها أبو عبد الله الناتلي، والتي ميّزناها في النص بخط غليظ، يُمكننا حصرها في:
- أنّ الناتلي لم يكن فيلسوفا، وإنما كان من مدّعي التفلسف.
- أنّه ضعيف الفهم، لأنّ فهم التّلميذ متقدّم عليه؛
- ضعيف التّصوّر، لأنّ تصوّر التّلميذ أحسن من تصوّره؛
- كان يقف على ظواهر الأشياء دون سبر دقائقها؛
- قليل المعرفة، لعدم معرفته بالأشكال الهندسيّة؛
إذا كان نصّ ابن سينا يُعدِّد مساوئ أستاذه الناتلي، فإنَّه يتضمّن كذلك محاسن أخلاقيّة لا يمكن تجاوزها، ويُمكن حصرها في العبارات التي وضعنا تحتها خطّ، وهي كالآتي:
- أنَّ الناتلي تعجب من نباهة تلميذه، ولم يكن في وضع سيّء لتفوّق تلميذه.
- أنَّ الناتلي قدّم نصيحة لوالد ابن سينا بأن لا يهتم بشيء آخر سوى العلم، لما رآه فيه من النباهة والذكاء.
- الاعتراف بضعف الفهم وبالضّعف المعرفي، واستحسان ما عليه تلميذه من الذّكاء دون معاداته.
- ترك المسائل لتلميذه ليكملها، وفي هذا تحفيز وتشجيع.
- رغم ما قيل عنه، يظلّ أستاذه الذي كان بداية انطلاقه في العلوم المنطقية والعلوم الهندسية.
- رغم ضعفه المعرفي، فإنَّه يميّز بين الخطأ والصَّواب على حدّ قوله.
قد يبدو ما حكاه ابن سينا عن أستاذه أمرا لا أخلاقيّا، لأنَّ أبي عبد الله الناتلي رغم هذه المساوئ، يظلُ أستاذه أولا وأخيراً، لكنَّه عدَّد وفضح مساوئه في التاريخ، وكان من الممكن أنْ يذكره بخير لسموّ أخلاقِه على الأقلّ. هل يعتبر هذا غرورا بالنّسبة لابن سينا؟ ربّما لا يعتبر ما قاله غرورا، ولا نوعاً من التّعالم، ولا جرأة تتجاوز هبة الأستاذيّة، ولكنّ عبقريّته لم تجد في الأستاذيّة ما يجلو لها اللَّبس، ويرفعُ عنها التَّعقيد، ويثلج نار الشَّغف المعرفي وحبّ الاستطلاع الذي كان يسكنه، لذلك تولّى وهو تلميذٌ البحث والتّنقيب بنفسه. ولو كان ابن سينا مغرورا، وناكرا لفضل أستاذه عليه، الَّذي درَّسه مباشرة، لما اعترف بفضل الأستاذية لأبي نصر الفارابي، وهو الَّذي كان أستاذه الكبير على الرَّغم من أنَّه لم يُدرِّسه بشكل مباشر، وبينهما ردح من الزَّمن. ذلك ما حكاه في سيرته بقوله:« وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فلم أفهم ما فيه، والتبس علي غرضُ واضعه حتَّى أعدْت قراءَته أربعين مرّة، وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه، ولا المقصود به، أيِسْت من نفسي وقلت: هذا كاتب لا سبيل إلى فهمه. فحضرت يوما وقت العصر في الورّاقين، فتقدّم دلاَّل بيده مُجلّد ينادي عليه. فعرضَه عليَّ، فرددته ردّ مُتبرّم معتقدا أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي: “اشتريه فصاحبه مُحتاج إلى ثمنه وهو رخيص. وأبيعكه بثلاثة دراهم.”. فاشتريتُه، فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعْت إلى داري، وأسرعْت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنَّه كان صار لي محفوظا على ظهر القلب. وفرحتُ بذلك، وتصدقتُ في اليوم الثاني بشيءٍ كثيرٍ على الفقراء شكرا لله تعالى»[29].
يبدو هذا النَّص إقرارا واعترافا بالأستاذيّة الحقّة، التي لا تقف عند حدود الفهم والمعرفة، ولكن تتجاوز ذلك، بالوصول إلى الأغراض والغايات، لقد وجد ابن سينا التّلميذ الأستاذيّة الحقّة في أبي نصر الفارابي المعلّم الثّاني، فكما نسب لأستاذه الناتلي عدم الفهم وفضحه، فكذلك أقرّ هو نفسه بعدم الفهم، ووجد الحلّ عند الفارابي ومجّده وعظّمه، وهي معادلة تثبت أنّ ابن سينا لا ولاء له في العلم ولا برّ، فالجهل سيّء ويفضح، عليه وعلى غيره، والعلم خير ويمجد، لذلك كان تلميذا للفارابي، وكان هو نفسه أستاذا للكثيرين.
4-4- رغم تأثير أستاذيّة شوبنهاور غير المباشرة، أبدع التّلميذ نيتشه فلسفة مستقلّة:
تعدّ تلمذة نيتشه على شوبنهاور غير مباشرة، فهو لم يتلقَّ عليه الفلسفة أو فقه اللغة، ولكن تعرفه عليه كان بمحض الصدفة، إذ يروى في بعض مقالاته أنه لمَّا كان طالبا في جامعة لايبزغ، وهو خارج من الجامعة في الطّريق صادف كتابا في متجر يبيع الكتب، فإذا هذا الكتاب يحمل عنوان “العالم كإرادة وتمثل” للفيلسوف الألماني شوبنهاور. حمل نيتشه هذا الكتاب معه إلى المنزل، ولمّا انتهى من قراءته، أعجب به إعجابا حماسيّا، وروّج لأفكار شوبنهاور بين أصدقائه، ما جعلهم جميعا يجدون عزاءهم في عبارات شوبنهاور لمّا تصادفهم بعض المشكلات. لقد وصف نيتشه شوبنهاور في إحدى المقالات بأنّه المعلّم أو المربّي، وبالغ في تمجيده لدرجة أنّه أعتبر نفسه من القرّاء المتميّزين له، والذين لا يقفون عند قراءة صفحة واحدة ممّا كتب، وإنّما يسترسلون في قراءة كلّ الصّفحات وينصتون إلى كلّ كلمة قالها[30].
على الرّغم من أنّ شوبنهاور كان ميتافيزيقيّا، ونيتشه كان عدوّا للميتافيزيقا، فإنّ نيتشه تأثّر بفكره في المراحل الأولى في تشكّل مذهبه، فقد ورد في بعض شذراته الأولى ما يوحي بتبنّي بعض التّصوّرات الميتافيزيقيّة، كما أن كتابه “ولادة التراجيديا” الذي استلهم فيه روحي الأبولونية والديونيزوسية، فالأولى رمز للثّبات والنّظام والعقل، والثانية رمز للأهواء والغريزة والتغير والحياة، وهذا لا يختلف عن تصوّر شوبنهاور في تقسيمه للفنّ لما ميّز الفنون الجميلة عن الموسيقى، فالأولى تشبه القوّة الأبولونية، والثّانية تشبه القوّة الديونيزوسية. إنّ المجال الذي كان فيه نيتشه مع أستاذه شوبنهاور على وفاق هو مجال الجمال[31].
أمّا مجال الحقيقة والعقل، فقد خالفه: فإذا كان شوبنهاور ينظر إلى الخطأ الذي يقع فيه العقل على أنّه سم قاتل، فإنّ نيتشه يعتبر أنّ العقل هو سلسلة مترابطة من الأخطاء، والتي لولاها لما تقدّمت البشريّة[32].
وفي مجال الأخلاق، آمن نيتشه بكلّ مقدّمات أستاذه شوبنهاور، لكنّه أنكر كلّ النتائج التي ترتّبت على هذه المقدّمات: فإذا كان شوبنهاور قد رأى أنّ العالم مليء بالشّرّ، والإنسان في وضع يُرثى له، فماضيه مظلم وسوداوي كحاضره ومستقبله، والعالم لا أمل فيه ولا نجدة لتجاوز المحن والعنت، فقد قبل نيتشه كلّ هذه المقدّمات، لكنّه لم يقبل أنّ الخلاص سيكون من خلال “الإرادة من أجل الحياة”، ومن خلال التّعاطف مع آلام الآخرين، والاستسلام للشّرّ والتّقاعس والانصياع والمهادنة، فقد اختار استراتيجيّة المحارب الذي لا يعرف الاستسلام، والذي لا يهدف إلّا إلى إثبات ذاته عبر “الإرادة من أجل القوّة”، لقد اتّخذ له نموذج الإمبراطور نابوليون القويّ والشّجاع، خلافا لشوبنهاور الذي بحث عن السّكينة والهدوء واتّخذ له نموذج الرّاهب البوذي الغارق في التّأمّل، والذي ينشد الوصول إلى حال النيرفانا[33].
هكذا تكون التلمذة، مليئة بالإعجاب للأستاذيّة، لكنّ قوّة أستاذيّة شوبنهاور لم تنتج نفسها في تلمذة نيتشه، وإنَّما ولَّدت تلمذة متمرّدة، لقد كان السّبب الذي دفع نيتشه للإعجاب بشوبنهاور هو استقلاليّته في الرَّأي وعدم تكرار نفس المنهج الذي سار عليه من سبقوه، فقد تمرّد هذا الأخير على الأنساق المغلقة[34]، وبما أنّه أستاذ متمرّد، فلا غرابة إذن في أن يكون تلميذه متمرّدا. هكذا تكون الأستاذيّة المؤثرة، وهكذا تكون التّلمذة المتمرّدة.
5- التّلمذة على التّعدّد:
يعتبر هانز-جورج غادامير من التّلاميذ المميّزين الذين أتيحت لهم الفرصة ليتتلمذوا على كبار الأساتذة، ويعاشروا مجموعة من التّلاميذ النّجباء. فما يميّز هذه الشّخصيّة أنَّها عمَّرت طويلا، فقد ولد سنة 1900، وتوفّي سنة 2002، أي عاش ما يزيد عن القرن، وقد سجّل في سيرته الذّاتيّة المعنونة بـ”التّلمذة الفلسفيّة” بعض الارتسامات والانطباعات والشّهادات والتّأثيرات التي كان وقعها كبيرا من قبل أساتذته وأصدقائه على تكوين شخصيّته الفكريّة، وخصَّص لكلّ واحد من هؤلاء الأساتذة والأصدقاء فصلا خاصّا، والذين يصل عددهم على حسب ما ذكر في فصول الكتاب إلى عشرة- ثمانية من الأساتذة، واثنان من الأصدقاء والزّملاء-. يمكن اعتبار هذا الكتاب من أهمّ الكتب التي تعنى بفهوميْ “التّلمذة والأستاذيّة”. لكنْ ما يلاحظ على غادمير في ذكره لهذه الشّخصيّات الفكريّة التي أثّرت في الثقافة الألمانية حتَّى حدود أواخر القرن الماضي أنّه احتفظ بالتّأثّر البالغ من قبل أستاذه الكبير مارتن هيدغر، كما أنَّه لا يذكر شخصيّة من هذه الشَّخصيات إلاَّ ويذكر هيدغر، وهذا يدلّ على الدّرجة التي كان يحظى بها عنده.
في الفصل الثّالث، تحدّث غادمير عن أستاذه الذي أشرف على رسالته في الدّكتوراه، وهو الفيلسوف بول غيرهارد ناتورب Paul Gerhard Natorp (1854-1924)، الَّذي وصفه بالشيخ الموقّر الذي كان تلميذه هيدغر ينظر إليه باحترام بالغ، قال:« دعوني أختم القول عن بول ناتورب بذكرى شخصيّة، عندما كنَّا طلبة في ريعان الشَّباب، يغمرنا طيشُ الشّباب النّزق، كنّا نرى ناتورب قصير القامة، الأشيب بعينيه الواسعتين المفتوحتين، وعلى كتفه رداء لا يُنسى، وكان غالبا برفقة هيدغر الشابّ يتمشّيان إلى روتنبرغ، وكان هيدغر يولي احتراما بالغا للرّجل العجوز الموقّر، ولكنّ الرّجلين يجدان نفسيهما، في أغلب الأحيان في صمت عميق وطويل، فكان هذا الحوار الصّامت بين الجبلين قد شغف عقولنا كجانبيْ الظّلمة والنّور لفلسفة واحدة»[35].
في الفصل الرّابع، تحدّث عن أستاذه الفيلسوف الألماني ماكس شيلر Max Scheler (1874-1928)، الذي كان فينومينولوجيّا، ومهتمّا بالأنتروبولوجيا الفلسفيّة، فبالرّغم من القوّة الفكريّة لهذا الفيلسوف، فإنَّه بقي مغمورا عند الكثيرين، بسبب انسياقه مع الفكر الذي دشّنه إدموند هوسرل، دون أن يبدع فيه، فقد طغت قوة حضور كلّ من هوسرل وتلميذه هيدغر على الفكر الفينومينولوجي، ولم تترك مجالا لبروز شخصيّة ماكس شيلر، قال:« كان رجلا مدهشا حقّا، ولكنّك إذا سألت اليوم شابّا، أو حتّى رجلا كبيرا، معنيّا بالفلسفة، عن ماكس شيلر، فإنّه بالكاد يعرفه. ربّما يعرفه مفكّرا كاثوليكيا كتب كتابا بالغ التأثير عنوانه الشكلانية في الأخلاق والأخلاق اللّاشكلانّية للقِيَم، وكانت له نوعا مّا صلة بالحركة الظّاهراتيّة التي أسّسها إدموند هوسرل، وعلى خطاها سار، إن بحقّ أو بباطل، مارتن هيدغر، بيد أنّ شيلر ليس حاضرا في الوعي الفلسفي المعاصر كذلك الحضور الذي يحظى به هوسرل أو هيدغر، فلم كان ذلك؟ ومن كان هذا الرّجل؟»[36]. فكما أشار إلى علاقة ناتورب وهيدغر سابقا، ووصفها بالمساواة، فإنّه يقارن هنا ماكس شيلر بهيدغر، ويعتبر هذا الأخير أقوى وأشهر منه على المستوى الفكري.
في الفصل السّادس، تحدّث عن معلّمه المبجّل مارتن هيدغر Martin Heidegger (1889-1976)، الذي كان يفخر هو وزملاؤه بكونهم تتلمذوا عنه، لكنّه ينتقد تلامذة مزعومين لهيدغر من محدودي القدرات، وغير المثابرين، مصنّفا إيّاهم درجات: درجة ثانية ودرجة ثالثة، ومنهم الذين لم يقلّدوا هيدغر الأستاذ سوى في بعض السّلوكات الشّخصيّة، والذين كانوا أشبه بالمتملّقين له، والأتباع الأغبياء، ممّا دفعه للقول بأنّه لم يكن يحبّ أن يكون زميلا لأستاذه، قال:« كنَّا مجموعة صغيرة فخورة، نفخر بمعلّمنا، فبدأت طرق عمله تدخل عقولنا، واليوم أنظر في ما كان يحدث بالنسبة لأولئك الهيدغريين من المرتبة الثّانية أو الثّالثة، أولئك الذين كانت قدراتهم الأكاديميّة محدودة، أو أنّهم لم يستمرّوا مطوّلا في دراستهم، فلقد أثّر فيهم هيدغر تأثير مسكر. فنمت هذه العاصفة إلى درجات غدت فيها تساؤلات هيدغر الجذريّة والمعقّدة على شفاه العديد من المقلّدين، فأخذ المشهد طبيعة هزليّة، وأعترف أني لم أحبّ آنذاك أن أكون زميلا لهيدغر، فالطّلبة الذين كانوا قد انتحلوا من السيد “كيف يسعل ويبصق” بدأوا في الظّهور في كلّ مكان…»[37].
في الفصل السّابع، تحدّث عن أستاذه في اللاهوت رودولف كارل بولتمان Rudolf Karl Bultmann (1884-1976)، الذي كان بروتستانتيا ينتمي إلى مدرسة المصلح الدّيني مارتن لوثر، فقد وجد علاقة من التّفاعل بين أستاذه هيدغر والأستاذ بولتمان، لكنّ تأثير هيدغر في فكر بولتمان كان أقوى، قال: «لقد وصفت سابقا منحى من مناحي الأجواء المحيطة بهيدغر وحصيلة الأخذ والعطاء بينه وبين بولتمان. لاءم بولتمان بطريقته الخاصّة التحليل الوجودي للوجود الإنساني الذي قرأه في تفكير هيدغر وفي كتاب الكينونة والزمان. فقد وضع تفكير هيدغر بين يديه الوسائل المفهومية ليشكّل فهمه الذّاتي الخاصّ بمعتقداته وعمله اللّاهوتي الّناتج عنها. لم تكن هذه المعرفة معرفة موضوعيّة ببساطة، ولا عملية تجديد مفاهيم المعرفة الممنوحة له باعتباره واقعا تحت تأثير نداء العقيدة. فبنية الهمّ، وتوقّع الموت، والزمانية والتاريخية، التي اشتغل عليها التّحليل الوجودي للوجود خدمتْهُ لعناصر لفهم فلسفي للوجود»[38]. يبدو أنّ كارل بولتمان شيد فكره بناء على ما رسمه هيدغر في فلسفته الوجوديّة التي وضع خلاصتها في كتابه “الوجود والزّمان”.
في الفصل الثّامن، تحدّث عن زميله الفيلسوف غيرهارد كروغر Gerhard Krüger (1902-1972)، الذي كان هو كذلك من تلامذة هيدغر، ومن المتأثّرين بآراء بولتمان اللّاهوتيّة، فقد وصفه بأنّه متأثّر بالغ التأثّر كما هو الحال بالنّسبة له بالفكر الثوري الذي دشّنه أستاذهما هيدغر، قال:« إنّ الزّخم الفلسفي الصّادر عن مارتن هيدغر، الذي بدأ في العام 1923 التّدريس مدّة خمس سنوات في ماربورغ، جذب كروغر في الاتّجاه نفسه. فما عبر عنه هيدغر بكلماته كان شيئا ثوريّا لوعينا آنذاك، لأنّ فكره عاد بنا إلى خبرات الوجود الأوّلية بطريقة تستبدل الأعمال العلميّة بتأمّل فلسفي جذري، وتحت هذا التّأثير بدأ غيرهارد كروغر الاشتغال في فلسفة كانط وفي المعنى الفلسفي للخبرة الإنسانية بالحياة»[39].
في الفصل العاشر، تحدّث عن أستاذه الفيلسوف الذي ينتمي إلى المدرسة الهيجيلية الجديدة ريتشارد كرونر Richard Kroner (1884-1974)، والذي هاجر إلى أمريكا بسبب أصله اليهودي كسائر الفلاسفة والعلماء اليهود الذين اضطُهدوا، وهاجر أغلبهم، وكم أبان من تعاطف معهم، ممّا يدلّ على أنّه لم يشاطر النّازية مجازرها في حقّ اليهود، فقد شهد لهذا الفيلسوف بقوّة تأثيره، ووصفه بالمعلّم في قوله:« وعندما كلّفت بالذهاب إلى مدينة كيل في العام 1934 لأشغل وظيفة كرونر التعليمية مؤقتا، تلمست من خبرتي كم كان تأثيره قويا كمعلم. وقد كان ذلك في آخر لقاء لي به قبل هجرته، وكان لقاء ملؤه الدفء المبهج الذي عهدناه دائما بيننا»[40].
في الفصل الحادي عشر، تحدّث عن أستاذه هانز ليبس Hans Lipps (1889-1941)، الذي لم يرَ في أعماله من إبداع سوى تأثّره بفكر أستاذه العظيم (أستاذ غادامير) مارتن هيدغر، قال:« ففي أوّل عمل له في مرحلة النّضج، وهو كتاب تحليل المنطق التّأويلي، يتجلى بوضوح تأثير كتاب الكينونة والزمان. إذ نشهد هناك عودة إلى أرسطو وجذور المنطق الأرسطي، من أجل تهيئة الخلفية التي جعلت منها اللغة نفسها تجريدية بوصفها السياق الحي للأشياء، وبوصفها اكتمال الوجود»[41].
في الفصل الخامس عشر، تحدّث عن أستاذه العالم الفيلولوجي الألماني كارل راينهاردت Karl Reinhardt (1886-1958) الذي وصفه بالمعلّم الفريد من نوعه، والصّارم في طبعه، فهو شخص غير قابل للوصف باللّغة، رغم فشله في الإلقاء، بسبب التّلعثم والحبسة التي كان يعانيها، قال:« ليس من اليسير أن أقدّم هنا صورة عن كارل راينهاردت تخبرنا من كان هذا المعلّم والباحث. وخصوصا كيف انضمّ إلى جامعة فرانكفورت. فقد كان فيه شيء من الفرادة لا يمكن القبض عليها بسهولة. خلف الصّرامة القاسية لتهكّمه وسخريّته السّاطعة كانت تقبع صرامة جماعة العلم الفيلولوجي الذي كان من مؤيّديه دائما، والدّقّة الاحترافيّة في بيت والديه برانكفورت، حيث تلقّى تعليمه. فكيف يمكن أن يقدّم رجل كهذا في كلمات لمن لم يعرفوه أبدا؟ وكيف يمكن أن يتعرّفه مرّة أخرى أولئك الذين عرفوه وأولئك الذين قدّروه؟ في جوهر هذا الرّجل شيء لا يمكن بلوغه، مثال ذلك سحر حضوره المشرق. وطلبته الذين استمعوا إليه يعرفون جيّدا كم كان مظهره على المنصّة يشعر المرء بالخيبة. فما خبروه من هذا الحضور هو ارتجال مستمرّ، وكلام مربك ومتلعثم، وحبسة، وصمت، وتكهّن مباغت لمحاكاة مكتملة سواء كانت تعرض مشهدا من أريستوفانيس أو إشارة إلى سقراط»[42].
في الفصل السّابع عشر، تحدّث عن أستاذه الكبير كارل ياسبرز Karl Jaspers (1883-1969)، الذي يعتبر من المؤسّسين للفلسفة الوجوديّة، فبالرّغم من التّأثير الذي لحقه من قبل الشّاعر الألماني شيلينغ، والذي كان بحقّ معلّما للفيلسوف الدّانماركي سورين كيركيكارد، فإنَّ غادامير لا يرى فرقا بين أستاذه هيدغر والأستاذ ياسبرز في الإبداع الفلسفي، فكلاهما جعلا الفلسفة تأخذ طابعا جديدا، وغير مألوف، قال في هذا الصّدد:« يقتفي كارل ياسبرز في تحليلاته مشاعر شيلينغ العميقة، شيلينغ معلّم كيركيكارد، تلك المشاعر التي عكست ضمن الفكر المثالي انفصال ممكنات الذّهن عن أساس الواقع الرّئيسة التي يعتاش علها العقل. وكما هيدغر، جعل ياسبرز الفلسفة تصدح بنغمة جديدة وغير مألوفة، وهي نغمة غير مألوفة لدى الكانطية المحدثة السّائدة آنذاك في هايدلبيرغ»[43].
في الفصل الثّامن عشر تحدّث عن أحد زملائه الذين ساروا على المنهج الذي رسمه أستاذهما مارتن هيدغر، وهو كارل لوفيت Karl Löwith (1897-1973)، فقد اعترف له بالتفوّق في توضيح أفكار أستاذهما:« دعوني الآن أعرض عليكم طريقته في التّفكير من منظور شخص سار على الطّريق نفسها. إنّ هذه المنظورات ذات قيمة، وهي ليست مجرّد طرق للمعرفة، وإنّما هي جزء من وجودنا الأصيل، وما من أحد قال هذه الأشياء بأوضح ممّا فعله لوفيت في كتابه الأوّل. لقد واصل هذا الكتاب المعنون دور الفرد رفيقا طريقا بالغ الأصالة في سياق التّعليم العظيم الذي تلقّيناه جميعا من مارتن هيدغر، وهو رؤية الكائنات الإنسانيّة فرادى، منظورا إليهم من جهة العموميّات التي تدور حول جوهر الفكر الفلسفي النّمطي بقدر ما ينظر إليهم من جهة الوظائف الاجتماعيّة التي يؤدّونها»[44].
يتبيَّن من خلال ما سبق أنَّ غادامير كانت له تلمذة مُتعدّدة على أساتذة متعدّدين، وعاشر تلاميذ من أمثاله متفوّقين، لكن تأثير هيدغر بالنّسبة له يجعله يعترف بكونه الأستاذ الأكبر، وأنّ فكره هو الذي سيط على كلّ الأساتذة والتّلاميذ، وذلك بين من خلال النّصوص السّابقة.
6- التلمذة العربيّة المعاصرة:
فقدت الأستاذيّة بريقها ضمن الأنظمة المؤسّساتيّة للتّعليم الحالي في كلّ الدّول، وخصوصا في المراحل الابتدائية والإعداديّة والثانويّة، والسّبب في ذلك يرجع إلى هيمنة السياسات التربويّة التي تحاول ترسيخ إيديولوجيتها المرتبطة بطبيعة النّظام السياسي السّائد في البلد، وقد أدّى هذا إلى تقييد الإبداع لدى الأستاذ، فهذا الأخير أصبح مجرّد مدرّس موظّف يتلقّى برامج ومناهج وطرق للتّقويم، وعليه أن ينفّذها تحت أعين هيئة المراقبة، حتّى لو كانت هذه البرامج والمناهج وطرق التّقويم فاشلة. فالأساتذة في هذه المراحل التعليمية الثلاثة يتنافسون في الطرق الديالكتيكية لتدريس الموادّ بما يجعل التّلاميذ وآبائهم راضين ومقتنعين بها، ولا مجال لتأثير الأستاذ في التّلميذ سوى في طرق الإفهام، التي يترتّب عليها الحصول على أعلى النقط التقويمية من أجل التّنافس على ولوج المؤسّسات التكوينيّة العليا، ككلّيات الهندسة والطبّ…والخطر الأكبر الذي يهدّد الأستاذيّة والتلمذة كليهما في بعض الدّول العربية ظهور التّعليم الخصوصي المستقلّ عن إدارة الدّولة، والذي يتعامل مع الأستاذ كمستأجر لا غير، ويعطي أهمية للنّتائج على حساب الوسائل والغايات، وهنا نصبح أمام أستاذية ضعيفة ومستأجرة، ونصبح كذلك أمام تلمذة مفبركة، لها تفكير نمطي يحول دون تحقّق الإبداع. لذلك ضعف الإبداع بين النّاشئة في العالم العربي، فلا تكاد تجد بين أقسام المرحلة الثانويّة مستقبل كاتب أو شاعر أو فيلسوف أو عالم. ومن الغريب الحاصل في تدريس مادّة الفلسفة في دول شمال إفريقيا، وبالخصوص المغرب والجزائر وتونس، أن برنامج مادّة الفلسفة مستورد (مُهرَّب على الأصحّ) من البرنامج الفرنسي، بكلّ مفاهيمه، وإشكالاته، وحتّى الفلاسفة الذين يناقشوا هذه الإشكالات[45]، وهذا يجعل الفكر غريبا عن الأستاذ قبل التّلميذ، وبذلك تكون الفلسفة نفسها عقبة أمام التّفكير، لأنّها تصرفهم عن طرح الإشكالات الحقيقية التي تصادفهم في واقعهم، وتحول دون التفكير في حلّها، ولهذا تصبح الفلسفة المستوردة قاتلة للفلسفة الحقيقيّة النّابعة من واقع التّلميذ. إنّ الرّأي الذي يعتبر أنّ تدريس الفلسفة مهمّ ويساهم في انتشار الفكر النّقدي ويدفع حرّية الفكر إلى الأمام رأي خاطئ، ما لم يأخذ بعين الاعتبار المحتوى الفلسفي الذي يتم تدريسه، والكيفية التي يتم بها التدريس، فالتلميذ الذي يدرس قضايا لم يتم تبيئتها في ثقافته، وينصت إلى معالجة الفلاسفة من خلال نصوص مقطعة ومنفصلة عن السياق العام للفيلسوف، ويطالب هذا التلميذ في الأخير بكتابة إنشاء فلسفي محدد بمنهجية نمطيّة تؤدّي في الأخير إلى كتابة إنشاء واحد من قبل كلّ التلاميذ، فأين مبدأ الاختلاف في الفكر؟ ماذا سينتج التفكير النّمطي عند كلّ التلاميذ؟ إنّه لن ينتج سوى عقلية القطيع في آخر المطاف.
أمّا على المستوى الجامعي، فالأستاذيّة اتباعيّة على الغالب، والإبداع عندها محدود، ورغم أنّ الأستاذيّة الجامعيّة لها نوع من الاستقلاليّة النسبيّة بما يسمح بالإبداع بالمقارنة مع الأستاذيّة في المراحل التعليمية السّابقة، فإن تدنّي المستوى الحاصل في المراحل التعليميّة السّابقة يجعل الفارق بين الأستاذ والتلميذ شاسعا، لكنّ وعي بعض الطّلبة بتدنّي مستواهم يجعلهم يضاعفون مجهوداتهم في التّحصيل من أجل الوصول إلى مستوى أرقى، كما أنّ التّأثير الإيديولوجي الذي تغديه الأحزاب السياسيّة أو التيارات الفكريّة، وما يعرف بالتيار التقدمي (أو العلماني) في مقابل التيار الدّيني (الرّجعي) يجعل من الطلبة أتباع ومريدين لبعض الأساتذة…ومهما يكن، فآخر نخبة من الأساتذة الذين كان لهم تأثير عميق في الفكر العربي المعاصر في النّصف الأوّل القرن الماضي تجلّت في الأساتذة الثلاثة المشهورين، وهم: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وطه حسين، فكلّ الكتّاب والمفكّرين والأدباء والمحقّقين… في هذه المرحلة تتلمذوا وتأثّروا بهؤلاء. لكن بفعل التحولات السياسيّة الكبرى إبّان الحرب الباردة، والانقلابات العسكريّة التي عرفها النّصف الثّاني من القرن العشرين في العالم العربي، سرقت الأستاذيّة من المبدعين وأسندت إلى الزّعماء السياسيين، خصوصا في الدّول التي حكمها الجيش، إمّا أهل الفكر في هذه المرحلة، فقد نشبت عقولهم مخالب الإيديولوجيا، فأنتجوا شيعا وأتباعا يتصارعون فيما بينهم إلّا الباحثين والمحقّقين والمترجمين الموضوعيين الذين يسدون خدمة معرفيّة للقارئ العربي، فلهم الاحترام، وهم الأساتذة الأجلّاء بحقّ.
خلاصة القول، فالأستاذ في المرحلة الحالية ليس له من الأستاذيّة سوى الاسم، وتأثيره محدود، وإن كان له تأثير، فذلك لا يرجع إلى كفاءته العلميّة بقدر ما يرجع إلى شهرته وتداول اسمه، وقد ساهم الإعلام العربي بشكل كبير في صنع كثير من الأساتذة، الذين تقلّ كفاءتهم العلميّة على كثير من الأساتذة الأكّفاء المغمورين، الذين يشتغلون في صمت، ولا يريدون الأضواء أن تسلط عليهم، فهؤلاء يستحقّون الاحترام، والتّلميذ اللّبيب والنّجيب في هذه المرحلة، هو القادر على اكتشاف الأستاذيّة الحقّة الجديرة بالاحترام وسط شيوع أنواع من الأستاذيّة المصطنعة والمزيّفة.
7- خصائص التّلمذة وخصائص الأستاذيّة:
من خلال تأمّلنا في مجموع النَّماذج من التّلمذة والأستاذيّة يُمكننا استنتاج مجموعة من الخصائص الَّتي ينبغي تقسيمها إلى قسمين: خصائص تتعلقُ بالأستاذيّة، وخصائص تتعلّقُ بالتّلمذة.
7- 1- خصائص الأستاذيّة المبدعة:
- ليس كلّ أستاذ جدير بتحقّق الأستاذية فيه ما لم يُشهد له بذلك من قبل تلاميذ مباشرين أو غير مباشرين، ويعرفون معنى الأستاذية، وتتحقق فيهم صفة التلمذة، ولهذا، ليس الأستاذ هو الذي يحقق صفة الأستاذية في نفسه.
- المهارة في المجال الذي يهتم به، إذ لا يمكن أن تتحقق الأستاذية إلا بذلك.
- الهبة والسلطة المعرفيّة، إذ لا يقع التّأثير في التّلميذ دونهما.
- عدم الارتجال إذا كان الأستاذ يعاني من مساوئ في النّطق كالحبسة التي نجدها عند سيبويه وكارل رينهاردت لكي يسقط في الارتباك والتّلعثم، ويمكن أن نذكر واصل بن عطاء المُعتزلي الذي كان ألثغا (ينطق الراء غينا)، فتجنبَ استعمال حرف الرّاء في كلامه، فبدلا من استعمال لفظ “الدار” كان يستعمل لفظ “البيت”، لكن هذا إن كان يجديه في الخُطب المرتجلة، فإنّه لم يكن ليجديه في قراءة الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة والأشعار التي تتضمّن كلمات فيها حرف الرّاء. (هذه المسألة متعلّقة بالأستاذيّة المباشرة).
- عدم الادّعاء المعرفيّ، وعدم التّطاول على المجالات المعرفيّة كما لمسنا ذلك من الناتلي، فقد تكون فراسة التّلميذ المتعطّش للمعرفة سببا للتنقيص من قدر الأستاذية كما حصل مع ابن سينا.
- كلّما كانت الأستاذيّة رائدة في مجال إلّا وأصبحت أستاذيّة للجميع كأستاذيّة أرسطو في المنطق والنّقد الأدبي والأخلاق والسياسة…وأستاذية الخليل في علم العروض، وأستاذية سيبويه في النّحو العربي، وأستاذيّة الجرجاني في البلاغة العربيّة…
- تمكين التّلميذ من المعرفة بداية، وخلق حوار تقويمي أثناء كلّ تقدّم معرفي، أي عدم الاكتفاء بالإلقاء دون التيقن من حصول التّمكين المعرفي (إذا كان الأمر يتعلّق بالأستاذيّة المباشرة).
- تبنّي أساليب الإقناع دون الإخضاع.
- تقدير التّلميذ النّجيب وإجلاله للمزيد من التفوّق كما حصل مع الخليل وتلميذه سيبويه، وتحفيز التلميذ المتعثّر ليتحسّن، واستفزازه إذا كان متهوّرا كما حصل مع أبي علي الفارسي وتلميذه أبي الفتح بن جني.
- الاستقلال في الرّأي، وعدم التّقليد، كما هو الحال عند شوبنهاور، فلو كان من المقلّدين لما نال إعجاب تلميذه نيتشه، ولما اعتبره معلّما ومربّيا.
- التّمييز بين الاحترام الأخلاقي والاختلاف المعرفي، فأن يبرّ التّلميذ بأستاذه أخلاقيّا، فلا يعني هذا أنّه لن يكون عاقّا له معرفيّا.
- تجنّب الإيديولوجيا ما أمكن، وخصوصا في اتّخاذ المواقف، والاهتمام بالبحث والمعرفة، لأنّ المعرفة تصمد، والإيديولوجيا تضمحلّ. فكلّ المشاريع العربيّة الإيديولوجيّة على سبيل المثال ولدت ميّتة، ومصيرها النّسيان، لكنّ تأليف كتاب قيّم حول موضوع دقيق، أو تحقيق مخطوط باحترافيّة عالية يقدّم خدمة جليلة للباحثين على مرّ التاريخ.
- ألّا تحاول الأستاذيّة استنساخ نفسها في التّلمذة، فإذا كانت غاية الأستاذ أن يصنع تلميذا يشبهه مبدئيا، فإنّ هذا لا يعني أنّه سيكون على شاكلته في النّهاية إذا كان تلميذا مبدعا.
- تجنب السّقوط في الخطأ المعرفي ما أمكن، لأنّ فيه إقلال من قيمة الأستاذ، فترجمة التّراجيديا بالمدح، والكوميديا بالذّمّ في كتاب “الشّعر” لأرسطو، جعلت كلّ الفلاسفة العرب يسقطون في هذا الخطأ الذي يجعل ما كتبه الفلاسفة العرب عن كتاب الشعر لا قيمة له، بما في ذلك ابن رشد رغم أنّه ليس مسؤولا عن هذه التّرجمة الخاطئة.
7- 2- خصائص التّلمذة الجيّدة:
- احترام الأستاذ وإجلاله، إذ لا يمكن أن يكون التّلميذ تلميذا إلّا بخضوعه للأستاذ أخلاقيّا لا معرفيّا.
- استيفاء المعرفة، إذ لا يمكن أن تحصل له المعارف، ويحصل له الاستيعاب والدّراية دون اجتياز مراحل محدّدة، وإلّا كان متهوّرا كابن جني في بداية تعلّمه لما عجّل بالأستاذيّة قبل أوانها.
- لا تتحقّق التّلمذة الفعّالة بالاتّباع الأعمى والانصياع للآراء دون بناء رأي خاص، كما هو الحال عند أرسطو وسيبويه.
- تجنّب التّعصّب لرأي الأستاذ بدون دليل، وعدم الاعتقاد بأنّ ما يقوله حقيقة مطلقة.
- الفصل بين التّأثير العاطفي للأستاذ والآراء الصّادرة عنه، لأنّ الخلط بينها قد يسقط التّلميذ في التّقليد الأعمى.
- تجنّب الإطراء والتزلّف للأستاذ، والحرص على أن ينال الأستاذ إعجابه به من خلال العمل والمثابرة.
- عدم الاقتصار على ما يستقى من الأستاذ الواحد، والنّهل ممّا يرد من عند الآخرين، لأنّ ذلك من شأنه أن يبني شخصيّة أوسع اطّلاعا وأكثر فهما كما هو الحال مع غادامير الذي استفاد في تكوين شخصيّته ليس من أستاذ واحد، ولكن من أساتذة وزملاء له رغم التّأثير الكبير الذي مارسه عليه أستاذه مارتن هيدغر، وكما جعل سيبويه رأي أستاذه الخليل من بين الآراء في النّحو العربي كما هو حاصل في “الكتاب” حيث استحضر آراء عيسى بن عمر ويونس بن حبيب…
- قد تتجرّد التّلمذة بعد التمكّن المعرفيّ والعلمي من الأستاذيّة، وتبني استقلالا معرفيّا ومنهجيّا ذاتيّا، وهي أعلى درجة التّلمذة في الإبداع.
8- خاتمة:
يبدو من خلال ما سبق أن التّلمذة قد تكون اتباعيّة وانصياعيّة وقد تكون مستقلّة وإبداعيّة. وليس كلّ تلمذة اتباعيّة سلبيّة أو إيجابيّة، وإنّما تكون سلبيّة إذا كانت مجرّد تقليد واتّباع أعمى، أو إذا كانت شحن وتحريض على العنف من منطلق ديني متزمّت أو من منطلق إيديولوجي يهدف إلى تحقيق مطالب على حساب طرف أو أطراف أخرى. غير أنّها بالرّغم من كونها تلمذة اتباعيّة قد تكون إيجابيّة لمّا تكتسي طابع الإبداع في الاتّباع كما حصل مع أفلاطون التّلميذ لمّا تفاعل مع أستاذه سقراط في المحاورات من شدّة التقدير والإعجاب، ولم يعد شخصا اسمه أفلاطون، وإنّما أصبح اسما مركّبا يتألّف من سقراط-أفلاطون، وإن كان من شيء يحسب لأفلاطون التّلميذ من الإبداع، فلا يخرج عن كونه صاحب أرقى وأجمل فلسفة تنبض بالحياة رويت على لسان فلاسفة حول قضايا فلسفيّة ترتبط بمجالات كثيرة. كما أنّ ابن جنّي التّلميذ الذي كان متّبعا لآراء أستاذه أبي علي الفارسي، ولم ينفلت من قبضته أبدع في مجال النّحو والصّرف وفقه اللّغة، وأثره فيه ظاهر لا غبار عليه ولا يمكن تجاوزه، ثمّ إنّ ابن سينا الذي وإن كان أرسطيّا، فإنّ انتماءه الأرسطي لم يكن عقبة أمامه في الإبداع الفلسفي، فرغم انتقاده لأستاذه المباشر الناتلي، اعترف بأستاذية أبي نصر الفارابي الذي كشف له الغايات والمقاصد من كتاب “ما بعد الطبيعة” الذي رغم حفظه له، وجد صعوبة في فهمه، ورغم هذا، فابن سينا كان بحقّ شخصيّة مبدعة في الطبّ والشّعر والفلسفة، كما أنّ نيتشه الفيلسوف الألمعي والنّاقد المهدّم، والذي كان لا يتفلسف دون حمل المطرقة من أجل الهدم، لم يذهب به تأثيره الفيسيولوجي من قبل أستاذه آرثر شوبنهاور الذي اكتشفه بالصّدفة إلى تبنّي آرائه، بل ناقض نتائج أفكاره رغم القبول بمقدّماتها. أمّا التّلمذة المبدعة في أعلى صورها، فتجلّت في مدى احترامها للأستاذيّة، وفي مدى تأثيرها في كلّ العصور، كذلك كانت تلمذة أرسطو المعلّم الأوّل الذي لم يحبّ شيئا قبل أستاذه أفلاطون سوى الحقيقة، وقدّم للبشريّة مبادئ في كثير من العلوم، وكذلك كانت تلمذة سيبويه الذي أحبّ أستاذه، وأحبّه أستاذه، وقدّم للعرب قانونا في النَّحو والصَّرف حفظ لسانهم من اللَّحن، وساعدهم في فهم لغتهم على مدى قرون عديدة. أمّا التّلمذة في عصرنا الحالي، فانحصرت في جيل بداية القرن الماضي على أستاذيّة جمال الدّين الأفغاني وأستاذيّة محمّد عبده وأستاذيّة طه حسين، فهؤلاء الثّلاثة هم الذين أثّروا بشكل كبير في آخر نخبة مبدعة في العالم العربي، أنجبت شعراء وأدباء وباحثين ومحقّقين لهم مكانتهم في الفكر والثّقافة المعاصريْن.
لائحة المصادر والمراجع:
بالعربية:
- إسماعيل، “الخلاف بين الخليل بن أحمد وسيبويه في بعض المسائل النحوية: دراسة مقارنة”، مجلة: Jilsa Jurnal Ilmu Linguistik & Sastra Arab، ISSN 1410-9050، جامعة سونان أمبيل بسورابايا، إندونيسيا، XVI, Momor 1, April 2016, pp. 18-26
- بدوي، عبد الرحمان، أفلاطون، خلاصة الفكر الأوروبي، سلسلة الينابيع، مكتبة النهضة المصرية، 1964.
- بريي، إميل، تاريخ الفلسفة، ترجمة جورج طرابيشي، كتابي للنشر والتوزيع، الجزء الأول، الفلسفة اليونانية، 2000.
- الثعالبي، أبو منصور، كتاب فقه اللغة وسر العربية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د.ت.
- ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق عبد الحكيم بن محمد، المكتبة التوفيقية، مصر، 1418ه.
- الجواليقي، أبو منصور، المعرَّب من للكلام الأعجمي على حروف المعجم، تحقيق ف. عبد الرحمان، دار القلم، دمشق، سوريا،1990.
- ابن خلكان، شمس الدين، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 1970.
- دولسن، غريس نيل، “تأثير شوبنهاور في فريديريك نيتشه”، ترجمة أحمد فريحي، مجلة مؤمنون بلا حدود الإليكترونية، 08 نونبر 2022، (com/articles).
- الرازي، محمد بن أبي بكر عبد القادر، مختار الصحاح، إخراج دائرة المعاجم في مكتبة لبنان، مكتبة لبنان ناشرون، 1993.
- ابن سبعين، عبد الحق، بد العارف، تحقيق جورج كثورة، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1978.
- سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، الكتاب، تحقيق إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2009. (خمسة أجزاء)
- ابن سينا، الحسين أبو علي، كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تحقيق تقديم ماجد فخري، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، 1985.
- شير، السيد أدّى، كتاب الألفاظ الفارسية المعربة، دار العرب للبستاني، الفجالة، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1987-1988.
- ابن عقيل، بهاء الدين عبد الله، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل لمحمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، لبنان، 2010.
- العنيسي، طوبيا الحلبي اللبناني، كتاب تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها بحروفه، مكتبة العرب، الفجالة، مصر، 1932.
- غادامير، هانز-جورج، التلمذة الفلسفية : سيرة ذاتية، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013.
- غادامير، هانز-جورج، طرق هيدغر، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2007.
- ابن كثير، عماد الدين، البداية والنهاية، تحقيق محمد بن الجميل، مؤسسة زاد، القاهرة مصر، 2012، (الجزء السادس: تاريخ الدولة العباسية).
- ابن هشام، جمال الدين، شرح قطر الندى وبل الصدى، اعتنى به محمد هادي الشمرخي المارديني، مكتبة سيدا للطباعة والنشر والتوزيع، ديار بكر، تركيا، 1435ه.
المعاجم:
- الفيروزآبادي، مجد الدين، القاموس المحيط، تحقيق مجدي فتحي السيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، مصر، د.ت. (أربعة أجزاء).
- المعجم الوسيط، معجم اللغة العربية، إخراج أبراهيم مصطفى، وأحمد حسن الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد علي النجار، المكتبة الإسلامية للطابعة والنشر والتوزيع، إسطنبول، تركيا، 1972. (جزآن).
بالأجنبية:
- Cambridge Dictionary.
- Dictionnaire Encyclopédique, Hachette, Spadem-Adago, Paris, 1980, (3 volumes.).
- Dictionnaire Latin de Poche, écrit par Auzanneau. B & Yves Avril, le Livre de Poche, 2000.
- Dolson Grace Neal., “The Influence of Schopenhauer upon Friederich Nietzsche”, The Philosophical Review. May. 1901, Vol. 10, No. 3 (May. 1901), pp. 241-250, Duke University Press.
- Merriam-Webster’s Collegiate Dictionary, Springfield, Massachusetts, USA, 11th edition, 2003.
- Oxford Dictionary.
- Violi, Unicio J., Creek and Roman Classics, Monarch Press, USA, 1965.
[1]– الفيروزآبادي، مجد الدين، القاموس المحيط، تحقيق مجدي فتحي السيد، المكتبة التوفيقة، القاهرة، مصر، د.ت، الجزء الرابع، ص.94.
[2]– جاء في المعجم الوسيط: «التلميذ: خادم الأستاذ من أهل العلم أو الفن أو الحرفة…وخصه أهلُ العصر بالطالب الصغير، جمعه تلاميذ وتلامذة». (المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، إخراج: إبراهيم مصطفى، وأحمد حسن الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد علي النجار، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، إسطنبول، تركيا، 1972، الجزء الأول، ص.87.)
[3]– اعتمدت، وسأعتمد في التأصيل اللغوي لألفاظ في هذه المقالة في تحديد: التلميذ والتلمذة، والأستاذ والأستاذية في اللغتين الإنجليزية والفرنسية على المعاجم الآتية:
– Merriam-Webster’s Collegiate Dictionary, Springfield, Massachusetts, USA, 11th Edition, 2003.
– Dictionnaire Encyclopédique, Hachette, Spadem-Adago, Paris, 1980, III Vo.
– Dictionnaire Latin de poche, écrit par Auzanneau, B & Yves Avril, Le Livre de Poche, 2000.
– Cambridge Dictionary (dictionary.cambridge.org).
– Oxford Dictionary
[4]– Cambridge Dictionary.
[5]– الجواليقي، أبو منصور، المُعرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، تحقيق: ف. عبد الرحيم، دار القلم، دمشق، سوريا، 1990، ص125.
[6]– العنيسي، طوبيا الحلبي اللبناني، كتاب تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها بحروفه، مكتبة العرب، الفجالة، مصر، 1932.
[7]– ادّى شير، كتاب الألفاظ الفارسية المعربة، دار العرب للبستاني، الفجالة، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1987-1988، ص10.
[8]– ابن سبعين، عبد الحق، بد العارف، تقديم وتحقيق: جورج كثورة، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1978، ص.143. ربما هذا الحكم الذي قدمه ابن سبعين على ابن رشد، لا يخصه وحده، وإنما يمكن تعميمه على الفلاسفة العرب جميعا، قال ابن خلدون:« ثم كان من بعده {يقصد أرسطو} في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب، واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل»، ويمكن اعتبار هذا الحكم هو الأصح.
[9]– بريي، إميل، تاريخ الفلسفة، ترجمة: جورج طرابيشي، كتابي للنشر والتوزيع، 2000، الجزء الأول: الفلسفة اليونانية، ص119.
[10]– بدوي عبد الرحمان، أفلاطون، خلاصة الفكر الأوروبي، سلسلة ينابيع، مكتبة النهضة المصرية، 1964، ص100.
[11]– المرجع نفسه.
[12]– المرجع نفسه.
[13]– المرجع نفسه.
[14]– المرجع نفسه، ص109-110.
[15]– المرجع نفسه، ص110-111.
[16]– المرجع نفسه، ص112.
[17]– Violi, Unicio. J., Creek and Roman Classics, Monarch Press, USA, 1965, p.415.
[18]– Ibid. p.417: «There has been some questions as to why Aristotle did not return to the Academy. Speusippus had died, but the Academy had already elected one of Aristotle’s old friends. Xenocrates, as head. It was obvious that the teacher of Alexander of world reputation could not accept a position lower than head of the Academy. It was fitting that he opens his own school»
[19]– Ibid. p.416: «1. One effect of the dialectic method on Aristotle was to make distinguish between that kind of knowledge which could be gained through discussion and that which could be acquired through observation and deduction.
2-Probably because there was so much discussion, Aristotle had a chance to learn and examine thoroughly all the theories of the earlier philosophers.
…3. Another effect of the discussion method was to make both Aristotle and his fellow students realize the value of definition and orderly thinking. An argument has no value unless you define your terms and argue in a systematic manner»
[20]– ابن جني، أبو الفتح، الخصائص، تحقيق: عبد الحكيم بن محمد، المكتبة التوفيقية، 1418 هجرية، الجزء الأول، ص.51.
[21]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[22]– المصدر نفسه، ص56.
[23]– ابن خلكان، شمس الدين، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 1970، الجزء الثالث، ص463.
[24]– المصدر نفسه، ص463-464.
[25]– ابن هشام، شرح قطر الندى وبل الصدى، هامش ص16.
[26]– وقد خالف ابن هشام كل من الخليل وسيبويه في هذه المسألة، واعتبر “مهما” بسيطة وغير مركبة في قوله:« وهي بسيطة، لا مركبة من مه وما الشرطية، ولا من ما الشرطية وما الزائدة، ثم أبدلت الهاء من الألف الأولى دفعا للتكرار، خلافا لزاعمي ذلك.». فالرأي الأول لسيبويه، والثاني للخليل. (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام، ص343).
[27]– إسماعيل، “الخلاف بين الخليل بن أحمد وسيبويه في بعض المسائل الفقهية”، ص23.
[28] ابن سينا، أبو علي، كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تحقيق: ماجد فخري، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، 1958، ص24.
[29]– المصدر نفسه، ص.25.
[30]– Dolson, G.N., «The Influence of Schopenhauer upon Friedrich Nietzsche», The Philosophical View. May. 1901. Vol. 10. No. 3, pp. 241-250. p.241.
لقد قمنا بترجمة هذه المقالة (للفيلسوفة الأمريكية غريس نيل دولسون) حول نيتشه، إذ يرجع تاريخ نشرها إلى سنة 1901، أي بعد سنة واحدة من وفاة نيتشه، وقد نشرناها في موقع المجلة الإليكترونية: مؤمنون بلا حدود بتاريخ 08 نونبر 2022. يمكن للقارئ الاطلاع عليها.
[31]– Ibid. p.243.
[32]– Ibid. p.246.
[33]– Ibid. p.247.
[34]– Ibid. p.249-250.
[35]– غادامير، هانز-جورج، التلمذة الفلسفية : سيرة ذاتية، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013، ص69.
[36]– المصدر نفسه، ص71.
[37]– المصدر نفسه، ص111-112.
[38]– المصدر نفسه، ص128.
[39]– المصدر نفسه، ص134.
[40]– المصدر نفسه، ص163.
[41]– المصدر نفسه، ص173.
[42]– المصدر نفسه، ص226.
[43]– المصدر نفسه، ص284.
[44]– المصدر نفسه، ص292.
[45]– يتضمن برنامج مادة الفلسفة في المغرب على سبيل المثال اثنين وعشرين مفهوما كلها مستوردة من البرنامج الفرنسي. مفهومان في الجذوع المشتركة، وثمانية مفاهيم في السنة الأولى بكالوريا، واثنا عشر مفهوما في السنة الثانية بكالوريا، تكتمل أو تنقص حسب الشعب والمسالك، عدا الجذع المشترك الذي يدرس مفهومان في كل الشعب والمسالك. قد يعترض علينا بالقول إن هذه المفاهيم المستوردة تدخل في الفكر الكوني المشترك، فما العيب في استيرادها؟ لكن هذا الاعتراض مضلل، لأن المشكل لا يتعلق باستيرادها بقدر ما يتعلق بكيفية التعامل معها لتصبح فاعلة في الفكر المحلي، وبذلك تجعل التلميذ قادرا على تحليل ونقد الواقع الذي يعيش فيه، ويفكر في حلول للمشكلات التي تعترضه، لذلك، فالمفاهيم المستوردة تحتاج إلى إعادة بناء بما ينسجم مع واقع الأستاذ والتلميذ معا. فاعتراضنا هنا ينصب على الاستعمار الفكري الذي تمارسه الإمبريالية الثقافية الفرنسية في شمال ووسط إفريقيا. فهذه البلدان لا يسمح لها بالتفكير إلا على الطريقة الفرنسية.