ملخّص:
يهدف هذا البحث إلى رصد ظاهرة الرّمز وتمثّله في الممارسة الصّوفية، بالنّظر في نصوص المتصوّفة وتتبّع تلك الممارسة وتشعبّها عند أهلها. لنطرح من خلالها إشكاليات مهمّة تتّصل بمواقف المتصوّفة من اللّجوء إلى الممارسة الرّمزية أثناء تشكيل الخطاب الإشاري. وتتبعنا في الأثناء مختلف مظاهر الممارسة الرّمزيّة والانتقال من الشّعار إلى الرّمز اللّغوي المفرد وصولا إلى القصص الرّمزي فالرّمز الهندسي لنتبيّن شدّة تعقّد تلك الممارسة التّأويليّة للدّلالة عند أهل التصوف ممارسة دلاليّة عكسيّة تنهض على الإغماض لا الوضوح والبيان. فجاءت مخالفة لما ساد في الخطاب التّراثيّ من لجوء إلى البلاغة التقليدية وضوابطها. وانتقلنا بعد ذلك إلى رصد مظاهر تلك الممارسة الرّمزية، فكان الاشتغال على الرّمز: شعارا وقصصا ورموزا دينيّة وأشكالا هندسيّة.
يدور البحث على محاور رئيسيّة هي:
– الدّعوة إلى ضرورة النّظر في الرّمز عند أهل التّصوّف بغير ما ألفته الممارسة التّأويليّة التّقليديّة.
– مظاهر الممارسة الرّمزيّة عند المتصوّفة.
– علاقة المتصوّفة باللّغة ولغة الوجود.
الكلمات المفاتيح: سنَنٌ– شعار- خطاب الظّاهر– تأويل– لغة– تصوّف- رمز.
Abstract:
This research aims to deal with the phenomenon of the symbol in the Sufi practice by looking at the texts of the Sufis and tracking that practice and its ramifications among its people, in order to raise through it important issues related to the Sufis’ positions on resorting to symbolic practice during the formation of the indicative discourse. The singular language, up to the symbolic stories, the geometric shapes, let us see the intensity of the complexity of that practice, trying to explain the reasons for that.
The focus of the research was to consider the theoretical assimilation connected to the concepts, and we concluded that the interpretive practice of the significance of the people of Sufism is a reverse indication based on ambiguity rather than clarity. So, it was a contradiction to what prevailed in the traditional discourse of resorting to traditional rhetoric. Then we focused on the manifestations of this symbol: slogans, stories, religious symbols, and geometric shapes. Our research poses important problems, the most prominent of which are: How is it possible to access Sufi discourse without stopping at symbolic practice while it is the most important characteristic of that discourse? Why was the symbolic practice of the Sufis so complex, ambiguous and strange? Did the Sufis consider only the linguistic symbol in formulating the discourse and its semantic dimensions? How does Sufism represent the relationship between language and existence?
This research revolves around the main axes:
- The call for the need to consider the symbol of the people of Sufism.
- Aspects of symbolic practice among Sufis.
- Sufism’s relationship to language and existence.
Keywords: Code- Emblem- Exoteric practice- Interpretation- language- Sufism- symbol.
1- توطئة: في إشكالية الرّمز ودواعي النّظر فيه:
تشي الممارسة اللّسانية عند أهل التّصوّف بثراء لا يخفى في اعتماد الرّمز والرّمزيّة، فقد كانت الحاجة ومازالت ملحّة في إخفاء مدلولات خطاباتهم عن “العامّة” حتى لا تغدو مبتذلة مفرغة من أبعادها العميقة، كما إنّ تلك الممارسة تصدر عن رأي ومقولة ترى في ظاهر الألفاظ عجزا دلاليّا لا يستوعب مختلف الغايات الفكريّة للتّصوّف رؤية وممارسة. فبرزت في ذلك الخطاب ثنائيات ومفاهيم لم يألفها الخطاب الظّاهر، من ذلك تأسيسهم لدلالات جديدة لثنائية العبارة/ الإشارة. فالخطاب الصّوفي خطاب إشاريّ بامتياز دفع المتصوّفة إلى قول ذلك، طبيعة التّنافر الحادّ بين اللّغة والوجود، أو الفارق ما بين اللّغة والحقيقة وما بين المعنى والممارسة الصّوفيّة. فتساءل بعضهم عن مدى قدرة ألفاظ اللّغة على التعبير عمّا أُصطلح على تسميته “بالمواجيد” أو وصف لحظة الكشف. وقد ساهم كلّ ذلك – من وجهة – نظرنا في تعميق الشّرخ بين التّصوّف وغيره من القطاعات الفكريّة في الفضاء العربيّ الإسلاميّ، وازداد الأمر حدّة مع احتدام الصّراع المذهبيّ الذي غذّاه التّناحر على الحكم.
ما أحوجنا اليوم إلى تفهّم طبيعة الخطاب الصّوفي باعتباره جزءًا من الممارسة الفكريّة والدّينيّة في ديار الإسلام. والرّمز لغة هو “تصويت خفيّ باللّسان كالهمس، ويكون تحريك الشّفتين بكلام غير مفهوم باللّفظ من غير إبانة بصوت إنّما هو إشارة بالشّفتين” ويذهب بعضهم إلى أنّه “إشارة وإيماء بالعينين والحاجبين والشّفتين والفم”[1]. وجاء في التّنزيل ما يؤكد طبيعة الرّمز غير اللّغوية قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾[2]. وليس بعيدا عن هذا المعنى الدّال على نوع من القصور الدّلاليّ في العلامة ما نلمسه في الخطاب الصّوفيّ من حديث عن “المواجيد” أو ما تواتر في خطاب الشّطح عند أبي يزيد البسطاميّ (ت261ه/ 875م) ومن جاء بعده من أهل التّصوّف كالحلاج (309ه/ 922م) وابن عربيّ (ت638ه/ 1241م) وغيرهما. وتبدو الحاجة ماسّة إلى الاستفادة ممّا استجد في العلوم الإنسانية من إنجازات علميّة، وخاصة ما كان منها متّصلا بعلوم اللّسان والسّميائيات وعلم النّفس والاجتماع والأنثروبولوجيا التي كان بإمكان المشتغلين بها أن يفتحوا سبيلا نحو تفهم أعمق لظاهرة دينيّة تأخذ في الاعتبار التّحولات المختلفة التي يمكنها أن تطرأ على المجتمعات. فليس خافيا أن تمثّل البعد الباطنيّ للدين يفرز حتما تمثّلا مغايرا للتّديّن. ونزعم أنّ هذا المنحى ظلّ غائبا عن مختلف البحوث التي وجّهت عنايتها للفكر الصّوفيّ، وأهملته وقلّلت من شأنه. وقلّما عثرنا على دراسات تولى عنايتها بأثر المجتمعات في تشكيل المفاهيم والمصطلحات والرّموز عند أهل التّصوّف.
لقد سعى المشتغلون في تلك الحقول المعرفيّة إلى تتبّع مختلف أنواع الخطابات التي تفرزها الممارسة الإنسانيّة قصد نفض الغبار عمّا خفي على النّاظر إدراكه. ويُعدُّ الرّمز ركنا ركينا في تلك الدّراسات والبحوث، بل إنّ بعض الدّارسين القدماء خصّص جداول ومسارد لمختلف الاصطلاحات الصّوفيّة التي ظلّت خافية عن أعين النّاظرين في مصنّفات المتصوّفة باعتبارهم عند بعضهم يمثّلون خاصّة الخاصة.
نروم في بحثنا هذا رصد مختلف المحاولات التي بذل أصحابها الجهد في تحديد دلالاتها وأبعادها ورصد وظائفها المتنوّعة، كلّ ذلك في سياق رصدنا لظاهرة الرّمز عند أهل التّصوّف، ولن نخوض في مختلف التّحديدات والتّعريفات التي ساقها علماء الألسنيّة والمشتغلون بالسّميائية على وجه الخصوص[3]، ولا نجد فيما ظفرنا به من دراسات حديثة -على تنوعها- أفضل من دراسة “أمبيرتو إيكو” للرّمز والرّمزية في سياق عمل معمق عن “السّيميائية وفلسفة اللّغة”[4]، مثلما أنه لا مناص من العودة إلى المعاجم والموسوعات المختصّة، وفي هذا السّياق كان من المفيد النظر فيما قدّمه أصحاب “الموسوعة الكونيّة” من تعريفات وسموها بالتّقليديّة، ولكنّها لاحت لنا على غاية من الأهميّة. مثلما استفدنا من أطروحات “كاسيرير” وتزفتان تودوروف.
لقد نبّهتنا تلك الدّراسات والأبحاث إلى مسألتين ميّزت ظاهرة الرّمز والخطاب الرّمزي، يمكن أن نوجزها في الظّاهرتين التّاليتين: القابليّة للتأويل و غموض الرّامز. ويذهب تودروف، وهو يقلّب ظاهرة الرّمز في الموروث الغربيّ وخاصّة في الخطاب الرّومنطيقي، إلى أن ما يقع تحت الرّمزي ظواهر متعدّدة يجمع بينها قابليتها للتأويل، “فالرّمزي هو كل ما يسمح بتأويل وتحقيق معنى مباشر”[5]. أمّا النّاحية الثّانية التي نراها مميّزة في الخطاب الرّمزي فهي غموض الرّامز لا المرموز. ويرى تودوروف أن المعضلة كامنة في أنّه كيف للّامتناهي أنْ يمثل بطريقة متناهية وجميلة؟ وكيف للّانهائي أنْ يحضر في المحدود المتناهي؟ ولا يرى الأمر متيسّرا إلاّ عبر الرّمز والصّورة والعلامة[6]. ويخلص إلى جملة من الخصائص التي تميّز الرّمز عن المرموز(L’allégorie) . في حين يذهب بول ريكو إلى عمق القضيّة حينما يصل الرّمز بالحقيقة، فيراه سجين التّنوع اللّغوي والثّقافيّ، ولا يحصل إلاّ من خلال التّأويل، كما لا يمكن أن يوجد دون “وجود حقيقة يحيل عليها الرّمز”[7]. ههنا لا يمكننا أنْ نسحب رأي ريكور على جميع أنواع الخطابات، وخاصّة خطاب المتصوّفة، فلئن صحّ ذلك في الخطاب الإنسانيّ عامة، فإنّ الخطاب الصوفيّ لا يراه ممكنا لأنّ دلالة الرّمز عند المتصوّفة تقع خارج اللّغة وخارج الواقع العينيّ. إنّه في موضع “ما لا يقال”، إذ يغيب التّصوّر وينتفي الكلام. وهذا مكمن الإشكال في تناول ظاهرة الرّمز عند أهل التّصوف. وقد فتح عليهم أبواب الطّعن حتّى رموا بالزّندقة والكفر.
2- الرّمز من الوحدة اللّسانية إلى القصص الرّمزي:
تخبرنا الدّراسات السّميائية المعاصرة عن ظاهرة اتّساع الدّلالات التي يحملها الرّمز وتنوّع استخداماته، وهذا ما دعانا إلى التّوقّف عند مختلف تلك التّعريفات علّنا نصيب منها غرضنا، فنلج الخطاب الصّوفيّ من زاوية أخرى غير زاوية الاختلاف والائتلاف. يستوقفنا (ههنا) كاتب مقالة رمز «Symbole»في الموسوعة الكونيّة عند ثلاث مجموعات من التّحديدات التّقليديّة التي تتّصل بمدلولات مفهوم الرّمز. فلئن كان اللّفظ واحدا فإنّ دلالاته تعدّدت مع مرّ الأيّام والسّنين والقرون، ذلك التّنوّع الذي ينفتح عادة على ثراء ميّز الممارسة الرّمزية عند بني البشر. ونرجّح أن يكون ذلك خاضعا للتحوّلات التي تشهدها المجتمعات، فليست حاجات مجتمع القرن الأوّل للهجرة مطابقة لحاجات مجتمع القرن الرّابع للهجرة. فالانتقال من مجتمع القبائل وطريقته في تقبّل الحياة الرّوحية كما يعرضها القرآن، لن يكون مطابقا لتمثّل المجتمع الإسلاميّ في الزّمن الإمبراطوريّ بعهديه الأمويّ والعباسيّ، وخاصّة في طوره الثّاني، ومجتمع السّلطنة زمن السّلاجقة وما تلاهم. وهذا مبحث لو تمّت العناية به لأفرز نتائج باهرة يمكنها أن تكشف شيئا من ممارسة المسلمين للتديّن الباطنيّ.
يشير التّحديد الأول الذي يعرضه أصحاب الموسوعة الكونيّة إلى المعنى المتداول الذي يكاد يتطابق مع مفهوم التّماثل ويمكن أن يلمس بوضوح في استخدام الشّعار l’analogie emblématique، إذْ للشّعار وجه تدركه الحواسّ وخاصّة ما كان متّصلا بالبصر، كاعتبارنا الحمامة دالّة على السّلام أو الأسد باعتباره رمزا للقّوّة والشّجاعة والبطش، فضلا عن الشّعارات التي يحملها الإنسان في كلّ مناسبة واحتفال. ولاشكّ أنّ ذلك لا يكون إلا إذا حذف المتلقّي كلّ المفاهيم الأخرى التي تتّصل بلفظ الأسد كاعتباره حيوانا لاحما. فلا يعقل أن نستدعي في رمزيّة الأسد أنّه يسير على أربع على سبيل الذّكر لا الحصر. وأمر الانتقاء حاصل في الذّهن لا محالة. ولعلّ ما يثيرنا ههنا أنّه يتحوّل إلى نوع من الاتّفاق الجماعيّ على ضرورة انتقاء دلاليّ/تاريخيّ، نلمسه في مصنّفات البلاغة وآراء البلاغيّين. ولاحظ صاحب المقال ههنا خاصيّة مميّزة في تلك الرّموز تلوح في تطابق دلالات تلك الشّعارات مع رغبة في تجسيد المعنى المجرّد، وهو ما يمكّن من فهم كيفيّة اشتغال الذّهن البشريّ، وقدرته على محاصرة الظّواهر، وتحويلها من المحسوس إلى ما هو ذهنيّ نفسيّ، بل وعاطفيّ في كثير من الأحيان. ولنا أنْ نتساءل عن علاقة ذلك كلّه بالممارسة اللّسانية عند أهل التّصوّف، فهل في الرّموز الصّوفيّة ما يشي بالرّغبة في تجسيد الفكرة المجرّدة وتقريبها من أذهان المريدين، أم أنّ في ذلك إغماضا وإيغالا في التّعمية على نحو ما كان يشير إليه الإمام القشيريّ في رسالته[8]؟
تظهر الممارسة الرّمزية عند أهل التّصوّف رغبة في ستر المعنى وإخفاء الدّلالة أكثر من رغبتها في تجسيد المجرّد. فالممارسة اللّسانية عند المتصوّفة تنزع إلى نوع من الممارسة الدّلاليّة العكسيّة. إنّها الرّغبة الجامحة في إغماض المعنى وتعتيم دلالات اللّفظ، التماسا للتّخفي وسترا للمعنى عن غفلة العوام، ثم إنّ التّجربة أحوج ما تكون إلى لغة ذات أبجدية مختلفة عمّا يسود الفضاء اللّساني المتداول. وقد عبر الإمام القشيري عن تلك الرّغبة بالقول: “اعلم أن لكلّ طائفة من العلماء ألفاظا يستعملونها، وقد انفردوا بها عمّن سواهم، كما تواطؤوا عليها لأغراض لهم فيها، من تقريب الفهم على المتخاطبين بها، أو للوقوف على معانيها بإطلاقها، وهم يستعملون ألفاظا فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم والستر على من باينهم في طريقهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع من التّكلف، أو مجلوبة بضرب من التّصرّف، بل هي معان أودعها الله تعالى في قلوب قوم واستخلص لحقائقها أسرارا”[9]. يكشف تعليل الغموض في الاصطلاح الصّوفي والرّمز تحديدا – وهو بلا ريب من صميم تلك الممارسة – رغبة علماء التّصوّف في إخفاء الحقائق الصّوفيّة لأنّها تنهل من عمق التّجربة الذّوقيّة، وليست نتاج كدّ الرّويّة، ولا هي من مستخلصات التّجربة العقلية، بل هي خلاصة الذّوق والإلهام الذي أودعه الله قلوب عباده الصّالحين، وهذا وجه من وجوه التّمايز في الممارسة اللّسانية عند أهل التّصوّف، يعكس حجم التّنافر والتّباين في إجراء الاصطلاح بينهم وبين غيرهم من القطاعات العلميّة في الفضاء العربيّ الإسلاميّ. ذلك التّباين الذي سيتأسّس عليه التّمايز والافتراق بين العوام والخواص في التّعبير عمّا يختلج في الصّدور من معاني الوجد والعشق والفناء في التّعلق بخالق الأكوان. ولعلّ ذلك كان جالبا للاستنكار والرّفض، ورميهم بشتّى النّعوت التي تذهب ببعض الفقهاء والمشتغلين بالظاّهر حدّ التّكفير والإخراج من الدّائرة الإسلاميّة.
ويمكن أن نقسّم الرّمز الصّوفيّ إلى ثلاثة أصناف على النّحو الذي تقرّره مصنفات أهل التّصوّف نفسها وهي كالآتي:
– رموز ذات طبيعة لسانيّة تحمل دلالات مغايرة لما جاء في المعجم وما استقر في الممارسة اللّغوية العربيّة.
– رموز ذات توجّه تصويريّ تجسيديّ يذكّر بالوجه والقفا في قطعة النّقود.
– رموز ذات منحى تصويريّ لكنها تذكّر بالمجال الهندسيّ وهي ما أطلقوا عليه تسمية الدّوائر الصّوفيّة والنّقاط.
نروم في بداية النّظر والتّحقيق أن نعدّ الخرقة الصّوفيّة من جهة القول باتّصالها بجسد الصّوفيّ، أوّل ما يُرى منه ضمن الرّموز التّصويريّة، وهي أدخل في الرّمز/شعار. ويأتي حديث المتصوّفة عن الخرقة والمرقعة في إطار الحديث عن شعار دالّ على الفقر والتذلّل لله. ويظلّ ارتداؤها يذكّر المتصوّف بأنّه لم يغادر محلّ العبوديّة، وعليه إنْ أدرك ذلك أنْ يلتفت إلى مرقعته، تلك التي تلقّاها من شيخه في الطريقة أو التقطها من الطّرقات[10]، وقلَّب من أجلها المزابل لتحمل في طيّاتها جسدا عليه أن يصفو من كدر البشريّة، ولابدّ لأجل ذلك من مراقبة الفعل البشريّ، واللّباس جزء من ذلك الفعل المحمّل بالدّلالات. ولذلك يرى “الهجويري” (ت492ه) في الخرقة “علامة بين الخلق ويكون الخلق رقباء عليهم (من يرتدي الخرقة) فإذا خالفوا أطلق فيهم لسان الملامة”[11]. ههنا يلتقي الرّمز بالعلامة، وينبهنا “أمبرتو إيكو” نقلا عن “تودوروف” إلى حجم التّقارب بين الرّمز والعلامة والانتقال من حالة الاعتباطيّة إلى وضعيّة التّبرير وانعدام المقابلة بين “خاصيّة عدم النّفاذ الموجودة في الرّمز بالمواطأة في العلامة…”. وهذا ما يدعو الرّائي إلى تفعيل آلية التأويل لديه وإلاّ وقف دون الدّلالة وعمي عن رؤية الحقيقة. ولاحظ المتصوّفة أنّ إخلال المريد بقواعد الطّريقة، أو دخوله في الدّنيا بشكل يهمل فيه إصلاح الباطن، يدفعه إلى التّحلّل في كلّ شيء وأوّلها اللّباس، ولكنّ الخرق تظلّ تذكّره بمنزلته وضرورة تعهّد باطنه واستحضار ربّه في كلّ حين. إنّه ههنا علامة دالّة على واجب الالتزام. ويذهب “أرنيست كاسيرير” Ernest Cassirer إلى أنّ تصوّر الأشياء لا يثبت إلا حين يتشكّل رمزا ولذلك فإنّ دراسة الأشكال الرّمزيّة ستمكّن الباحثين من النّفاذ إلى دراسة التّصوّرات الإنسانيّة. غير أنّ تصوّر “كاسيرير” للظّاهرة الرّمزيّة جاء أوسع من حيث تعدّد الأشكال الرّمزية (لفظيّة/ دينيّة/ فنيّة/ رياضيّة/. . . ) واصلا كلّ ذلك بالتّجربة التّاريخيّة للعقل البشريّ، بل عدّ ذلك تعبيرا عن الملحمة التي خاضها ذلك العقل. ويرى هذا الفيلسوف أنّ أقدم تلك الأنماط الرّمزية هما اللّغة والأسطورة، ووصل ذلك بعصور ما قبل التّاريخ. ولذلك كان التّاريخ البشريّ حافلا بالرّمز والأشكال الرّمزيّة، إذ ثمّة دوما اتّصال وثيق بين الرّمزيّ والأسطوريّ. وينبئنا التّاريخ الدّينيّ بوفرة استعمال الرّمزيّ والأشكال الرّمزيّة، بل يكاد يكون الدّينيّ – باعتباره تصوّرا وممارسة – تجلّيا خالصا للرّمزيّ. ويعلن الهجويري (ت492ه) صاحب كتاب “كشف المحجوب ” عن أنّ المرقعة “شعار المتصوفة”[12]. ويروم ما وسعه الجهد إثبات علاقتها بقواعد الدّين الإسلاميّ ومصادره الأساسيّة وهي لا شكّ ممارسة تبريريّة تعكس رغبة في تمييز الصوفيّ عن غيره بما قد يحرج المدافعين عن نفي التّمايز. ويظلّ اللّباس إلى اليوم مجال جدل في المجتمعات العربيّة الحديثة التي غزتها موجات الدّرجة ودور الأزياء. فعن أيّ خرقة يتحدث المتصوّفة وعن أيّ تمايز في ديانة ارتدى روّادها ما كان متاحا مبذولا في زمانهم؟
يرى الهجويري أنّ “لبس المرقعة سنّة ويسند رأيه بقول ينسب إلى الرّسول يقول فيه: «عَليْكُمْ بِلِبَاسِ الصُّوفِ تَجِدُونَ حَلَاوةَ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ»”[13]. هكذا ينخرط المتصوّفة، مثل الفرق الإسلامية، في توظيف الحديث لإضفاء المشروعيّة على الممارسة العقديّة والسلوكيّة. ويمتدّ التّأصيل للّباس المرقعة إلى سير الصّالحين من الخلفاء الرّاشدين والصّحابة والتّابعين إلى أن يصل كلّ تلك السّير بسيرة الصّوفيّة الأوائل كمالك بن دينار (ت131ه) وسفيان الثوري (ت161ه) وغيرهما وعلى الرّغم ممّا في الخطاب من مبالغات وغلوّ يتعالى على التاريخ، فإنّه يعكس بلا مراء رغبة الصّوفيّ في تأصيل روحانيّته ضمن سياق روحانيّة أصلية هي الرّوحانيّة الأولى في الإسلام. إنّها محاولة في وصل الماضي الدّينيّ بالحاضر كدأب كلّ فرقة دينيّة. ولعلّ أطرف ما أورده الهجويري أنّ المرقعة تشير برمزيتها إلى جملة من الدّلالات المتناقضة في الظاّهر المتّسقة في الباطن، يقول في ذلك وفي الجملة: “المرقعة زينة لأولياء الله عزّ وجلّ، يعزّ بها العوام ويذلّ بها الخواص (الظاهر)، وعزّ العوام هو أنّهم حين يرتدونها يحترمهم الخلق، وذلّ الخواصّ هو أنّهم حين يرتدونها ينظر إليهم الخلق بعين العوام ويلومونهم بذلك”[14]. ولأجل ذلك يلحّ المتصوّفة في طلب الباطن “لأنّ كلّ منْ يكتفي بظواهر الأشياء لا يصل إلى التّحقيق أبدا”[15]. وكلّ متصوّف هو من أهل التّحقيق، وهذا يعني أن نعدّل التّصوّر العام الذي يعدُّ الصّوفيّ ذلك الحالم الذي يعيش خارج حقائق العالم، وخارج ذاته يحيا حياة رومانسيّة، إنّه السّاعي وراء الحقيقة ويودّ لو يلتصق بها، فيكون بذلك أشدّ النّاس واقعيّة عبر المطابقة بين التّجربة والقول، والمرقعة دليل على ذلك لأنّها تظلّ تذكّر الصّوفيّ دوما أنَّ التّجربة الصّوفيّة الحقّ هي التّجربة المشبعة بالحضور الإلهيّ[16]. لكن هذا الخطاب يتجاهل أنّه يصطنع خطابا فرقي في بداياته لو عمّق النّظر في التّاريخ قبل لحظة محي الدّين بن عربي (ت638ه). وكلّ حضور إلهيّ هو استدعاء بالضّرورة لثنائيّة خالق ومخلوق، عابد ومعبود. وفي ذلك إطراح لكل ما هو دنيويّ يكون بمثابة الحجاب الذي يحجب رؤية الرّبوبيّة، يقول الهجويري: “واعلم أنّ وجود الآدميّة حجاب الرّبوبيّة، ولا يفنى الحجاب إلاّ بدور الأحوال والتّربية في المقامات”[17]. ومدار الأمر عند أهلها الشّعور بالفقر، “فالمراد من لبس المرقعة لهذه الطّائفة هو مؤنة الدّنيا، وصدق الفقر لله تعالى”[18]. ويذهب الأمر ببعض المشايخ أنْ يلبس المرقعة الواحدة مدّة تصل ستّة وخمسين عاما[19]. فهل كانوا بذلك يصطنعون ديانة أقرب ما تكون إلى ديانات الشّرق الأدنى؟
ينبّهنا الهجويري إلى التّحولات التي طالت ممارسة لبس المرقعات، فقد تبدّلت أحوال النّاس، وانقلب شعار المرقعة علامة افتخار وتباه، فتحولت إلى بدعة، وهو ما دفع طائفة من “المحقّقين” إلى ترك ارتدائها في مخالفة صريحة “لأهل البدع”، لأنّه من وجهة نظر فقهيّة كلّ “مخالفة شعار أهل البدع سنّة، ولو كانت مخالفة للسّنة”[20]. ويرجح الهجويري أن يكون الصّوف “قد تشعث وانتقلت الأنعام في الغارات من مكان إلى مكان”[21]. يبدو أن الشّعار الذي يتّخذ في زمن من الأزمنة لا يبقى على حال، ويتأثّر بتبدّل الأحوال والأزمان والأعصر، فيكون التّصوّف وأهله قد تأثر بما يطرأ على العصر من تحولّات. ولم يكتف المتصوّفة في اتخاذ المرقعة لباسا بل اختلفوا في ألوانها ودلالات تلك الألوان. ومن أشهر الألوان التي اختاروها لأثوابهم اللّون الأزرق، وقد استعمل لغايات ثلاثة: أوّلهما أنّ الثّوب الأبيض سريع الاتّساخ والجماعة أهل سفر وسياحة، ولذلك “يصعب غسله فيطمع فيه كلّ شخص”، وثانيهما أنّه لون دالّ على الحزن اتّخذه “أصحاب الوفاة والمصائب”، ولذلك يقول الهجويري: “والدّنيا دار المحنة، وخربة المصيبة، ومفازة الغمّ، وآفة المبتلين بالفراق، وحصن البلاء، فلمّا رأى المريدون أنّهم لم يبلغوا مقصودهم في الدّنيا، لبسوا الأزرق، وجلسوا في مأتم الوصال”[22]. أمّا الدّافع الثّالث فإنّه متّصل بموقف المتصوّفة من السّلوك ظاهرا وباطنا، فرؤوا التّقصير في المعاملات والخراب في القلب والفوت في الوقت”[23]. وللمرقعة تفسير إشاريّ يتوقّف عنده الهجويري سريعا مشيرا في الأثناء إلى أنّه صَنّفَ كتابا في ذلك أطلق عليه “أسرار الخرق والملوّنات”، أمّا التّفسير الإشاريّ فيتعلّق أمره بما يجب أن يكون عليه الباطن من خوف ورجاء وصبر وقبض وبسط ومخالفة للنّفس والإخلاص وصحّة اليقين[24]. ثم إنّ المتصوّفة توسّعوا في الألوان بحسب تبدّل الأزمان. وذهب بعضهم إلى عدم الالتزام لونا من الألوان وتحلّل في ذلك، ولم يتقيّد بقواعد الرواد.
غير أنّ المطّلع على الأدب الصّوفيّ يدرك عدم اكتفاء المتصوّفة بظاهرة الرّمز المفرد أو الشّعار الواحد. وقد يتّخذ الواحد منهم العلامة اللّغوية رمزا يورد في أسيقة غير ما ألفته الذّائقة في الخطاب المتداول بين النّاس، فضلا عن الأشكال الهندسيّة التي رسموها تعبيرا عن الذّات/ الله/ الوجود ونعني بذلك النّقاط والدّوائر والحروف. وتزخر الرّسائل الصّوفيّة وكتب الأخبار والطّبقات بذكر المريدين وأحوالهم وانتقالهم من طور الخلاعة والضّياع إلى طور الولاية والالتزام بمذهب أهل التصوّف. وكثيرا ما كانت تلك الأخبار والأقاصيص مزيجا من العجيب والرّمزيّ والأسطوريّ، يتوسّل فيها الرّاوي بثقافة المصر والبلد الذي نشأ فيه، وقد يبلغ الأمر ببعض الأخبار أن تتلاقى مع سير أشدّ إيغالا في القدم، وهو ما يضفي عليها طابع الغرابة والإثارة. ويستوقفنا الهجويري عند قصة “أبي إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور” (ت781م)، وهو الذي انتمى إلى طبقة حاكمة في بلدته بلخ من أرض خراسان ببلاد فارس. وانشغل باللّهو والصّيد. غير أنّ صيغة تتكرّر في تلك السّير – إمّا بصيغة الخبر في قوله: “وكان في بداية أمره” أو بصيغة الإنشاء في قوله: “كيف كان بدء أمره؟”- ستنقلنا إلى اللّحظة التي يتحوّل فيها الوليّ من طور العوام إلى طور الخواصّ من أهل التّصوّف والتّحقيق وكلّ ذلك بإرادة إلهيّة لا دخل للإنسان فيها، ويعكس ذلك التّحوّل في النّهاية ما تجود به المنن الإلهيّة على صاحبها، تتجسّد في الاختيار والاصطفاء الذي سينقل المرء من طبقة العوام إلى طبقة المريدين والخواصّ من أهل التّحقيق، فيغدو هو نفسه رمزا ونموذجا يحتذى. تقول الأسطورة إنّ هذا الوليّ ركض قبل انتدابه للولاية وراء غزال أو ثعلب بحسب ما جاء في “طبقات الصّوفيّة” للسّلمي، فأنطق الله ذلك الغزال بلسان عربيّ فصيح: “ألهذا خُلقتَ؟ ” أم بهذا أُمرتَ؟” وهو حدث عجيب يخرج عن حدود المنطق والعقل ليستقرّ في فضاء العجيب والخارق، فضاء يغدو فيه الحيوان ناطقا بلسان الإرادة الإلهيّة. ويذهب الهجويري في تأويل ذلك قائلا: “وكان هذا القول دليلا له، فتاب وكفّ يده تماما عن ممالك الدّنيا وسلك طريق الزّهد والورع…”[25]. وتذهب “آنا ماري شيمل” إلى أنّ هذا النوّع من القصص له في الأصل اتّصال وثيق بـ”لغة أسطورة بوذا”[26]، منبّهة في ذات الحين إلى أهميّة “بلخ” في تأسيس التّصوّف الشّرقي في القرن الرّابع الهجريّ، مشيرة في ذات الحين إلى أنّها كانت في الأصل مركزا للدّيانة البوذيّة ولا ريب أن تتسرّب إلى الاعتقاد الجديد ما علق من معتقدات قديمة، وهي اعتقادات اختفت على التّدريج من المصر مع قدوم الدّين الجديد، ولكنّها ظلت ثاوية في المتخيّل والرّمزيّ، وقد تكون تلك الاعتقادات القديمة بمثابة خلفيّة ثقافيّة تعضد الاعتقاد الجديد من خلال التّداخل في بناء المتخيّل، فكانت السّيرة استنفارا للطّاقة الرّمزيّة لثقافة المصر وما يحتويه من عقائد اضمحلّت على التّدريج بفضل قوّة الدّين الجديد واندفاعاته بمختلف أشكالها ومظاهرها، لكنّ المتخيّل ظلّ يغذّي الجانب الفنيّ وإنْ كان ذلك من جهة الشّكل لا المضامين. هكذا تستفيد سيرة الشّيخ “إبراهيم بن أدهم” بضرب من التّناصفيّ بناء السّيرة الجديدة وقد بُعثت خلقا جديدا من وراء ماديّة مغرقة في ماديته لتحلّ محلّها روحانيّة تكون لها السّيادة والاستمرار. وجاء في طبقات الصّوفيّة للسّلمي ما نصّه:” قال أبو عبد الله السّنجاري: يا أبا إسحاق، خبّرني عن بدء أمرك كيف كان؟ قال: كان أبي من ملوك خراسان، وكنت شابّا فركبت إلى الصّيد، فخرجتُ يوما على دابّة لي ومعي كلب، فأثرت أرنبا أو ثعلبا، فبينا أنا أطلبه إذ هتف بي هاتف لا أراه فقال: يا إبراهيم، ألهذا خلقتَ أم بهذا أُمرتَ؟ ففزعتُ ووقفت، ثم عدت فركضتُ ثانيةً، ففعل بي مثل ذلك ثلاث مرات. ثم هتف بي هاتف من قربوس السّرج: والله ما لهذا خلقتُ ولا بهذا أُمرتُ. قال: فصادفت راعيا لأبي يرعى الغنم فأخذتُ جبّتهُ الصّوف فلبستها، ودفعتُ إليه الفرس وما كان معي، وتوجّهتُ إلى مكّة. فبينا أنا في البادية إذا أنا برجل يسير، وليس معه زاد. فلمّا أمسى وصلّى المغرب حرّك شفتيه بكلام لم أفهمه، فإذا أنا بإناء فيه طعام وإناء فيه شراب، فأكلتُ وشربتُ. وكنتُ معه على هذا أيّاما. وعلّمني اسم الله الأعظم ثم غاب عنّي وبقيتُ وحدي. فبينا أنا ذات يوم مستوحش من الوحدة، دعوتُ إله هبه فإذا أنا بشخص آخذ بحوزتي وقال: قلْ تُعْطَ. فراعني قوله: لا روع عليك ولا بأس، أنا أخوك الخضر”[27]. تنضح القصّة إيحاء وتخييلا، وتصف تحوّل الصّوفيّ من طور البذخ والانغماس في متع الحياة إلى طور الزّهد والورع وانبعاث الرّوحانية الجديدة، في فضاء يمتح غريبا وعجيبا وخرقا للعادات، كما يؤكد متن الحكاية أهميّة الوليّ الذي يهدي المريد إلى الطريقة المثلى، فإذا غاب عن المريد تاه في الوحشة والوحدة، ويستفيد القصّ من الطاقة الإيحائيّة لقصة موسى مع الخضر كما جاء بعض تفصيلها في التنزيل[28]. هكذا تتحوّل بعض عناصر القصّة إلى عالم الرّمز على المريد فك شفرتها وتأويل ما جاء فيها طيّ العبارة، فإذا أدرك ذلك بذوقه تنبّه إلى ضرورة التّخلّص من أثواب الدّنيا حتى يدرك حقيقة الحياة، ولعلّ في ذلك إيماء إلى حكاية بوذا مع المرض فقد كان ابنا لملك، لكنّه لا يدرك معنى الحياة الصّميمة، كما أن من ضرورات إدراك الحقيقة ارتداء لباس خشن يذكّر الصّوفي دوما بضرورة التّخلص من نوازع المادّة. ولأجل ذلك يذهب الهجويري إلى أنَّ “خلوص محبّة الحقّ يتأتّى من معاداة النّفس والهوى”[29]. ويسترسل في تقرير ما يستوجب على المريد اتخاذه من أخلاق وأوامر ونواهي تفضي إلى استقامة الظّاهر والباطن عبر الجمع بين “ما يتوجّب معرفته وما ينبغي عمله”.
كثيرا ما يتمثّل الأولياء بسيرة الأنبياء. فيقع المزج بين القصص القرآنيّ وما جاء في التّفاسير والسّير وبين قصص الأولياء وسيرهم مزجا يرفعهم إلى درجة المقدّس ويضفى على حكاياتهم نوعا من المشروعيّة الرّوحية التي ستؤثر في الواقع الاجتماعيّ، فيغدو الوليّ صاحب خوارق وكرامات سيكون لها وقعها على العامّة، خاصّة إذا صادف أن أومأت إلى ما ترسّب في مخيال أهل ذلك المصر، وامّحت بعض آثار القصّة الأصليّة وعوّضت بقصّة أهل الدّين الجديد المنتصر. وهذا ما يدفعنا إلى تفحّص الرّمز المفرد وأبعاده ومكانته بين أصحاب الطّريقة. ونلمس هذا التّمثل الجديد للقصص القرآنيّ في خطاب السّهرورديّ المقتول (ت587ه) فيجعله أمرا ذاتيّا ينشأ من تذوّق فرديّ للعبارة القرآنيّة، فـ«اقرأْ الكتَابَ بِوَجْدٍ وطَرَبٍ وفكْرٍ. واقرأْ القُرآنَ كَأنَّهُ نزَلَ في شَأْنِكَ»[30]، وهذا الموقف سيظلّ يتردّد في أغلب مصنّفات أهل التّصوّف.
3- في تأصيل الرّمز الصّوفيّ المفرد:
تنشأ الممارسة الرّمزية عند أهل التّصوّف من جهة الاعتقاد بضرورة تأويل الظّواهر المدركة بالحسّ قصد بلوغ العوالم الباطنة، ويفترض هذا الاعتقاد التّحول من الدّلالة المشتركة إلى الدّلالات الخاصّة بأهلها، وهو ما يشكّل لديهم الوعي بالانتماء إلى فئة اجتماعية تتميّز عن غيرها من أهل الإسلام. وهذا الوعي الاجتماعي يتشكّل لغة قبل أن يتحوّل إلى ممارسة وفعاليّة ثقافيّة ومذهبيّة وأحيانا فِرْقيّة. يتحوّل الصّوفيّ من عالم العوام واللّهو واللّعب كما في إحدى الروايات التي أوثرت عن ذي النّون المصري (ت245ه)[31]، ويغدو المتصوّف نفسه رمزا لحالة الاغتراب والتّمايز عن عالم المادّة. فذو النّون المصريّ رمز الصّوفيّ الذي أرسى قواعد المذهب بحديثه عن المقامات والأحوال، لكنّه يظلّ الصّوفيّ الأوّل الذي مزج الخطاب الصّوفيّ بالقول الشّعري الرّمزيّ بعد أن امتزج الشّعر بالزّهد في القرنين الأوّل والثّاني للهجرة، وعبّر عن المواجيد بلغة الإشارة، متجنّبا كلّ حديث في الظّاهر. أمّا أهمّ ما ميّز سيرته، فكثرة انقطاعاته إلى ذكر الله، وتركه أمر الزّاد والقوت، وهجره النّاس حتى كثرتْ سياحاته. ولنا في أقوال “أبي يزيد البسطاميّ” (ت261ه) ما يعدُّ امتدادا لهذا التّوجّه في التّصوّف الذي يرى المحبّة في ترك ما في أيدي الخلائق والعناية بالذّات لأنّ في ذلك انشغالا بالحقّ دون الخلق. ولأجل ذلك كثر حديثهم عمّا شاهدوه وما أكلوه في الصّحارى والفيافي، وجرّبوا الجوع والعطش حتى أنّ بعضهم ترك التّزوّد في البادية مبالغة في الاعتقاد في التّوكّل. ومن المتصوّفة من لقّب بألقاب غلبت عليه كالكبريت الأحمر والتّرياق المجرّب وكان معروف الكرخيّ رمز الفتوّة لأنّه قال ذات مرّة: “للفتيان ثلاث معاملات: وفاء بلا خلاف، ومدح بلا جود، وعطاء بلا سؤال”[32]. أمّا “سُمنون بن عبد الله الخواص” (ت298ه)، فقد كان رمزا للحبّ لذلك كان يطلق عليه “سُمنون المحبّ” أمّا هو فيسمّي نفسه “سُمنون الكذّاب”[33]. تنشأ الرّمزية من الكُنى والنّعوت التي يطلقها العامّة والخاصّة على المتصوّف وهو منشغل بأمره منتحل لمذهبه دون سواه من المذاهب، وههنا يكون اللّقب أقرب إلى الأيقونة منه إلى الرّمز. ولم يجد المتصوّفة سبيلا للتّعبير عن مواجيدهم غير الإغراب، من ذلك قول سُمنون في الحبّ إنّه “لا يعبّر عن شيء إلا بما هو أرقُّ منه، ولا شيء أرقّ من المحبّة فبِمَ يعبّر عنها؟”[34]. فبأيّ عبارة يمكن للصّوفيّ أن يبلغ المعنى ويصيب المقصد؟ لقد صارت العبارة تنوء بجمل ما يعتمل في صدر أهل التّصوّف.
أمّا الضّرب الثّاني من الرّموز، فهو ما اُتّخذ من ألفاظ لغويّة ذات دلالات دقيقة متداولة سواء أكان ذلك في المعجم العامّ أم في المعجم الخاصّ، وحوّلتْ رموزا دالّة يختصّ بها أهل المذهب دون سواهم. ويكون ذلك لأمرين اثنين:
- الخوف على انكشاف الأسرار لغير أهل التّصوّف
- قدرة الرّمز الصّوفيّ على نقل التّجربة الصّوفيّة الغامضة.
وهنا توجب على المتصوّفة الفصل بين العبارة التي تتّصل عادة بالمعنى الظّاهر المتداول في المعاجم لأنّها تتّصل بالخطاب البشريّ الدّنيويّ، فيتخلّون عن جانبها المرجعيّ/ الإحاليّ، في حين تعدّ الإشارة خطابا إلهيّا وجب على العارف إدراكه من خلال تجاوز الخطاب الوضعيّ واختراق طبقاته السّميكة من دالّ ومدلول ومرجع. ويمكن القول إنّ الخطاب الصّوفيّ هو ممارسة الكتابة الرّمزية بامتياز، ذلك أنّ الوجود يتراءى للمتصوّف في قالب رمزيّ لا تطاله العبارة المتداولة، وهو ما ولّد لدى المشتغلين به نوعا من الغربة تجاه السّائد والمألوف والغرابة في إجراء الألفاظ والرّموز. وضمن هذا السّياق يتنزّل قسم وافر من الشّعر الصّوفيّ الذي يرى في الرّمز قدرة على مخاطبة القلب والوجدان. وامتزج هذا الخطاب بالغزل فزاد في الإغراب وهيّج الطاعنين عليه والمشنّعين بأهله لما في ذلك من إيماء إلى نوع من التّجسيم والتّشبيه الذي يرى فيه أنصار “العقيدة المثلى” ضربا من المروق عن الدّيانة ومخالفة ما جاء به السّلف الصّالح، ولا غرابة بعد ذلك أن تلمس في كتب طبقات الصّوفيّة ذكرا للسّلف الصّالح تأكيدا للمشروعيّة ودرء لشبهة الخروج عن الدّين. ويظلّ الرّمز فوق كلّ ذلك موقفا يعكس ما يختلج في باطن العرفاء من أهل التّصوّف وسلاحا يلوذ به أهله، فيكون بذلك وسيلة تنقل العارف إلى حقيقة الوجود وما خفي منه حتى بلوغ غاية الغايات. ويذهب بعض الدّارسين إلى أنّ الرّمز الصّوفيّ أكثر اتساعا من الرّمز الأدبيّ ويختلف استخدامه من صوفيّ إلى آخر في درجة الإلغاز والعمق[35]. ولئن نبّه بعض الباحثين إلى ما يتميّز به الرّمز الصّوفيّ من غموض، فإنّهم لم يصلوا ذلك بمسألة الغربة التي يعيشها الصّوفيّ إلا لماما، فقد أوغلوا في البحث اللّساني غافلين عن البعد الاجتماعيّ للتّجربة. وكان لزاما على قارئ تلك الأدبيّات وخاصّة ما جاء منها في الأشعار أن ينتبه إلى طرائق تصريف المعنى حتى لا يقع في الالتباس والتّلبيس. ومن أشهر الرّموز عند المتصوّفة رمز الخمرة، ويتردّد ذكرها في أشعار ابن الفارض (ت632ه)، يقول على البحر الطويل:
شَربـنَا عَلَى ذكر الحَبِيبِ مُدَامــــــــــــــــــــــــةً *** سَكِرْنَا بِها مِنْ قَبْلِ أنْ يُخْلَقَ الكَرْمُ
لها البَدْرُ كَأْسٌ، وهي شمسٌ يديرها *** هِلاَلٌ، وكم يبدُو إذَا مُزِجَتْ نجــــــــــمُ
لولاَ شَذَاهـا ما اهتديـتُ لِحَانِــــــــــــــــــــــــــــــــهَــا *** ولوْلَا سَنَاهَا ما تصوّرها الوهـــــــــــمُ”[36]
ويتأوّل البورينيّ (ت1024هـ) معنى الخمرة الإلهيّة وما تعلق بها من رموز، فيذهب إلى أن الصّوفيّة أرادوا بها ذات الخالق. وجعلوا عمليّة الخلق نابعة من المحبّة الإلهيّة. أمّا المدامة فهي المعرفة الإلهيّة، في حين تأوّل دلالة الكرم وجعلها تعبيرا رمزيّا عن الوجود. فقد طرب المتصوّفة لسماعهم الحكمة الإلهيّة في قوله :﴿أَلستُ بِربِّكُم﴾، فكان ذلك الاستمتاع قبل نشأة الوجود”[37]. ينزع الخطاب الصّوفيّ عند “جماعة العشّاق” إلى الرّمزيّة، وهي عمليّة انتقال من الخطاب الظّاهر إلى الخطاب الباطن، فينشأ عن ذلك صرح مصطلحيّ، وبناء رمزيّ يخالف ما تداوله مؤسّسو الخطاب البلاغيّ العربيّ. تبدو بلاغة جديدة لم تستسغها ذائقة الفقهاء ورجال الدّين الذين مالوا إلى الخطاب الظّاهر في تأسيس الدّلالات الدّينيّة، ورفضوا كلّ تأويل باطنيّ. ولم يكتف المتصوّفة في بناء الإشاريّة بالدّلالات الرّمزيّة للخطاب القرآنيّ، بل وظّفوا كلّ ما يتّصل بقوّة المتخيّل والأسطوريّ في بناء التّصوّرات الصّوفيّة عن الكون والفساد والإنسان والعالم والوجود. وقد تبدّى ذلك في تصوير حال الرّوح وتشبيهها، في رحلتها بين عالمي المرئي والمستور، برحلة الطائر الأسطوريّ[38]. ونعثر في “حكمة الإشراق” على تلك الرّحلة بين المشرق والمغرب. وهي رحلة كنّى عنها المتصوّفة بالرّحلة بين “القيروان واليمن”. فوسموا المادّيّ المظلم بالقيروان، وشبّهوا بلوغ العالم الرّوحانيّ ببلوغ اليمن بلد الشّروق، وفيها تشرق في القلب الأنوار الإلهيّة[39]. لقد شغف المتصوّفة عموما والإشراقيّون خصوصا بالرّحلة الرّوحيّة، فجعلوا التّطواف في الحقائق الإلهيّة منتهى التّجربة وغاية السّالك في طريق الله. وعليه أثناء ذلك التّطواف أن يمارس نوعا من التّأويل الباطنيّ.
وينهض التّأويل عند الإشراقيّين على بلوغ المقصد الأسنى للكلام الإلهيّ. وليس ذلك الكلام إلا «جوهرا أوّلا خلقه الله من ذاته في بدء الكون دون وسيط، وليس من قدرة تستطيع بالتّالي معرفة هذا الكلام والنفاذ إلى طبيعته إلاّ قدرة الله»[40]. لكنّ الإشراقيّين اتّفقوا على أن “الحكماء المتألّهين” يملكون من القدرة ما يسمح لهم أن يبلغوا تلك الأسرار وأن يشهدوا بقلوبهم حقيقة التّأويل ومنتهاه. ههنا كان مدار الخلاف بينهم وبين الفقهاء والمتكلّمين. فقد ذهب فريق منهم إلى القول بالتّشابه بين فعل الأنبياء الناطقين بالأمثال والحكيم المتألّه، بل إنّه قد يتجاوز مرتبة النّبيّ في معرفة الحقائق الإلهيّة، وضربوا لذلك مثل احتياج “موسى إلى الخضر وداود إلى لقمان”[41]. لقد ظلّ ذلك الاعتقاد ضامرا في نصوص المؤسّسين يكاد يتلبس بمفهوم الولاية والإمامة عند أهل التّشيّع حتّى صار جزءا من التّوازن والتّماسك بين أجزاء الوجود، فاستحقّ الاستخلاف بحقّ. « فالحكيم المتوغّل في التّألّه عديم البحث، وهو خليفة الله. ولا [يخلو] الأرض (كذا!)[42] عن متوّغل في التّأله أبدا، ولا رئاسة في أرض الله للباحث المتوغّل في البحث الذي لم يتوغّل في التّألّه أبدا»[43]. تكمن أهميّة المؤوّل في جمعه بين منهجين أوّلهما عقليّ وثانيهما ذوقيّ. فهل يعني ذلك رغبة الإشراقيّين في إنشاء نوع من المصالحة الفكريّة بين التّيّار المشّائيّ والتّيّار الأفلاطونيّ المحدث في الثّقافة الإسلاميّة أم يعني ذلك ضبط ملامح المؤوّل باعتبار التّلازم بينه وبين بنية الوجود؟ ويؤكّد “شيخ الإشراق” هذا التّوجّه في ضبط ملامح المؤوّل قائلا: «فإنّ المتوغّل في التّألّه لا يخلو العالم عنه، وهو أحقّ من الباحث فحسب، إذ لابدّ للخلافة من التّلقي»[44]. ويتطابق مفهوم المؤوّل عند الإشراقيّين مع مفهوم الإمام سواء أكان ظاهرا أم مستورا. فهو الأقدر على تأويل الحقائق الوجوديّة وواجب وصلها بالحقائق الإلهيّة. وعلى هذا الأساس كان فعل التّأويل علامة على استقامة الزّمان وانتشار النّور فيه، أمّا غيابه فيعني غياب التدبير الإلهيّ وبالتّالي العدم والفناء أو ما يطلق عليه الإشراقيّون بالظّلام والعماء[45]. إنّ إغراق المتصوّفة في ذكر صفات المؤوّل يجعل منه أمرا مركزيّا في إدراك عمليّة التّأويل نفسها. فإدراك أسرار الحقائق الربّانيّة تفترض وجود ملكات تتجاوز حدود الملكات الذّهنيّة لعموم البشر. فلا تأويل بلا حكيم متألّه عديم البحث. لا شكّ أنّ هذا الاعتقاد سيولد لدى التّيّار السّنيّ المؤمن بظاهر الرّسالة نوعا من الرّفض والسّخط لأنّه يقصي المعنى الظّاهر طلبا للمعنى الباطن. في حين لا يرى الفقيه بُدًّا من وصل المعنى الظّاهر بالمعنى الباطن، ولأجل ذلك وضع ابن سبعين (ت 669ه) كتابا عجيبا وسمه بـ “بدُّ العارف” حاول فيه أن يتجاوز خطاب الظّاهر ونراه يغمض في نهايات كلّ فصل من فصول كتابه الغريب.
يستنفر ابن الفارض النّص الغزليّ وطاقاته المعبّرة عن وجدانيّة تختلف عن تجربة شعراء الغزل على الرّغم من كثرة الإشارة إلى تجاربهم العشقيّة في ديار نجد وأرض الحجاز لما فيها من تذكير بمكة والكعبة، فتختلط أنوار المصابيح بحسن ليلى العامريّة، ويلتمس من راكب النّاقة أن يمرّ بتلك الدّيار حتّى يتنشّق عبير المكان ويسأل بين “ثنيّات اللّوى” عن عاشق مثله برّح به الشّوق ويرجو أن يبلغ أهلها السّلام، يقول في ذلك على البحر الكامل:
“أوَ ميضُ برقٍ بالأُبيْرقِ لَاحَ *** أمْ في رُبَا نَجدٍ أَرَى مِصباحَا؟
أمْ تلكَ ليلى العامرية أسفرتْ *** لَيْلاً ، فصيَّرتِ المساءَ صَباحَا
يَا رَاكبَ الوجناءِ ، وُقيتَ الرّدَى*** إنْ جُبتَ حَزَنًا أوْ طَويتَ بِطَاحَا
وسَلكتَ نَعْمانَ لأراكِ فعُجْ إلى*** وادٍ هناك ، عهدتُهُ فيَّاحَا
وإذَا وصلتَ إلى ثنيّاتِ اللوى*** فانشدْ فؤادًا بالأُبيطحِ طَاحا[46]
كنّا في أوّل عهدنا بالنّظر في أعمال المتصوّفة قد توقفنا طويلا عند قول لمتصوّف قلّما أشار إليه الباحثون، مع شدّة تأثيره في الأدب الفارسيّ، وهو الأخ الأصغر لأبي حامد الغزاليّ ونعني به أحمد الغزاليّ (ت520ه)، وعرّج على ذكره الباحث الفرنسيّ هنري كوربان Henry Corbin في معرض محاولته التّأريخ للفلسفة الإسلاميّة، فقد وصف هذا المتصوّف رحلة العارف نحو الحقيقة ووسمها بعشق خالص. وحاول كوربان أن يضع الحدّ الفاصل بين فهم الفقيه الذي يحكم الظّاهر في تحديد علاقة الخالق بالمخلوق وبين فهم المتصوّف القائم على مصطلح الحبّ/ العشق/ الإلهيّ، ونبّه إلى أنّ كلّ من أحمد الغزاليّ وروزبهان الباقلي الشّيرازي (ت606ه) قد استأنفا الحديث عن الحبّ كما تأسّس عند الحلاج (ت309ه)، ويراه نابعا من اعتقادهم أنّ الوجود كلّه تجلّ إلهيّ Théophanisme وهو يعني بالضّرورة وجوب تأوّل الجمال بوصل الظّاهر بالباطن، وأنّ المعنى الأصليّ للصّورة الإنسانيّة ليست إلا تجليّا إلهيّا، فقد تكشّف الله لذاته في الصّورة الآدميّة، في الإنسان الملكوتيّ الذي وجد في الأزل. وعبّر الحلاج عن ذلك بالقول:
سبحان من أظهر ناسوته*** سّرُّ سنا لاهوته الثّاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا *** في صورة الآكل الشّارب[47]
ويذهب هنري كوربان إلى أنّ روزبهان الباقلي يعقد بذلك الصّلة بين العشق الإنسانيّ والعشق الإلهيّ[48]. أمّا أحمد الغزالي فقد عبّر عن عشق خالص بين العاشق والمعشوق، وتولّى الباحث نقل النّصوص من الفارسيّة إلى الفرنسيّة، ثم تولّى المترجمون العرب عمليّة النّقل إلى العربيّة في هامش البحث. وجمع هذا الصّوفيّ بين صورتين: صورة العاشق والمعشوق، وصورة الفراشة والنّار[49].
انتهى المتصوّفة إلى أنّ ما يعجز عن وصفه اللّسان لا يقال باللّغة بسبب غياب التّصور، فكلّ لغة إنّما مجالها المشترك، ولابدّ من توفّر المتصوّر حتّى تتمكّن من القيام بدورها الرّئيس وهو تحليل المعلومات. فعن أيّة معلومات يمكن أن نتحدّث في غياب إدراك واضح للحظة الحقيقة؟ تلك اللّحظة التي وسمها المتصوّفة بسمات متنوّعة كالكشف والفناء والصّحو والسّكر وغيرها. إنّها اللّحظة التي أطلق عليها أيضا لحظة “ما لا يوصف”[50]، فالجأهم ذلك إلى الممارسة الرّمزية درء للشّبهات وتعبيرا عن عجز الجهاز اللّغوي المشترك.
وقد يضطر المتصوّف إلى شرح ما جاء مستغلقا في الخطاب أو ما كان سببا في الاتّهام بالزّندقة والمروق عن الدّين كما في تجربة محي الدّين بن عربي (ت1241م).[51] اضطر “الشّيخ الأكبر” أنْ يشرح ما في ديوانه من تعريض بالنّساء وتعلّقه بذكرهنّ ووصل ذلك بروحانيّة صوفيّة تصل المعنى الغزليّ بما أسماه ابن عربي بالأسرار الإلهيّة ويمكن اعتباره ما لا يدرك، درء للشّبهات ودفعا للتّهم التي اتّهمه بها فقهاء حلب، يقول في كتابه “ذخائر الأعلاق”: «وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أنّ الولد بدر الحبشيّ والوالد إسماعيل بن سود كير سألاني في ذلك، وهو أنّهما سمعا بعض فقهاء حلب ينكران هذا من الأسرار الإلهيّة، وأنّ الشّيخ يتستّر لكونه منسوبا إلى الصّلاح والدّين، فشرعت في شرح ذلك، وقرأ عليَّ بعضه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء، فلمّا سمع ذلك المنكر الذي أنكره ثاب إلى الله سبحانه وتعالى، ورجع عن الإنكار على الفقراء وما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتّشبيب ويقصدون في ذلك الأسرار الإلهيّة… »[52].
وقد يكون ذلك محاولة من الشّيخ شرح لحظة الكشف لمريديه، فينقل ما كان غير متيسّر في الوصف إلى قالب حسّي يسهل إدراكه، يقول ابن عربي في ذلك: «إنّ الله سبحانه لمّا عرّفني حقائق الأشياء على ما هي عليه في ذواتها، وأطلعني كشفا على حقائق نسبها وإضافاتها، أردت أن أدخلها في قالب التّشكيل الحسّي، ليقرب مأخذها على الصّاحب الوليّ عبد الله بدر الحبشيّ، وليتّضح لمنْ كَلَّ بصره عن إدراكها…»[53]، ولنا أنْ نتساءل عن إمكانية تحقّق المعنى في الشّرح، أي بمعنى إلى أي مدى نجح المتصوّفة في نقل التّجربة الرّوحيّة؟ ونذهب إلى أنّ الغالب على الأمر الاحتكام إلى المذهب والاعتقاد الظاّهر ، وهو ما يمكّن من صدّ هجمات الصّوفيّ على أنظمة الدّلالة المتداولة بعد أن استحكم غلق النّص المؤسس على يد الشّرّاح والفقهاء عموما.
ومهما يكن من أمر، فإنّ النّصّ الصّوفيّ يستنفر طاقة المؤوّل الذي عليه أن يستدعي التّصوّر الصّوفيّ للوجود حتى لا يرتبك لديه نظام الدّلالة والفهم وإلا عُدَّ ذلك من باب التّهجّم والادّعاء بغير ما هي عليه حقيقة الخطاب الصّوفيّ. لكنّهم على الرّغم من ذلك كلّه، دخلوا في صراع طويل مع غيرهم من الفاعلين في الفضاء الاجتماعيّ، خاصّة حينما يتعلّق الأمر بتفهم الحقيقة الدّينيّة، وبسط القول في المعنى الإشاريّ للقرآن الكريم. ههنا وقعت النّفرة، واتّسع الخرق. وانعكس ذلك بقوّة في محاكمة الحلاّج، ومطاردة طائفة من أهل التّصوّف، ولاقى فريق منهم ذات المصير الذي لقيه الحلاّج (ت309ه)، كعين القضاة الهمذانيّ (ت525ه)، وشهاب الدّين بن أميرك السُّهرورديّ (ت587ه). إنّ العامل السّياسي/ المذهبيّ كان المحرّك الذي قاد ذلك الاصطدام، ويسّر السّبيل نحو الافتراق.
لئن تجنّب المتصوّفة بفضل خطابهم الرّمزيّ الوقوع في صراعات فكريّة ومذهبيّة خانقة، فإنّ ذلك لم يجنّبهم الوقوع في الإغراب اللّغويّ من جهة والغربة الفكريّة من جهة أخرى. فكانوا بين أمرين لا مفرّ من مواجهتهما: إمّا تجنب الواقع ومختلف تجليّاته والالتجاء إلى خطاب في غاية الإغماض، وهو ما ييسّر نفور الذّائقة العامّة ويقتصر الأمر على صراع بين فئة محدودة من المجتمع يمكن ردها إلى طبقة الفئة العالمة أو خاصّة الخاصّة، وإمّا الانغماس في حياة النّاس وقضاياهم مع المحافظة على طبيعة الخطاب الصّوفيّ القائم على جدارة الرّمز في التّعبير عمّا اختلج في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس، مع محاولة تقريبها من الفهوم عبر اتّخاذ القوالب الشّعرية المتداولة سبيلا إلى قلوب العوام، خاصّة إذا أمكن تحويل تلك الأشعار المفعمة بالرّموز إلى عالم الإنشاد والغناء الصّوفيّ. تمكّن المتصوّفة على الرّغم من صعوبة التّعبير عن التّجربة وعمقها من النّفاذ إلى صميم المجتمع الإسلاميّ متجاوزين حرفيّة القراءة وأحادية الفهم. وقد وجدت آراءهم طريقها إلى مناطق نائية من العالم الإسلاميّ كبلاد فارس والهند، خاصّة حينما استدعت رموز أهل ذلك المصر، واستقرّ في المتخيّل من اعتقادات قديمة ظلت ثاوية في النّسيج الثّقافيّ والسّلوك الرّمزيّ. كما ازدهرت الرّوحانيّة الصّوفيّة في بلاد المغرب والأندلس واستفادت كثيرا من انفتاحاتها على غيرها من التجارب.
يستوقفنا الحلاّج سيرة وأدبا عند طائفة من الرّموز الصّوفيّة، وهو الذي عُدّ عند قسم وافر من الدّارسين واحدا من أبرز روّاد الإشراق. وقد كان له أثر بالغ في صياغة الرّمز الإشراقيّ عند شهاب الدّين السّهرورديّ[54]. ومن بين تلك الرّموز، ما جاء في الأخبار من حديث عن أنّه كان يطعم كلبا أسود تعبيرا عن النّفس الغريزيّة فيه كما تأوّله الشّراح من بعده. فقد حاول المتصوّفة الروّاد تجسيد الاعتقاد صورة ورمزا. ولا شكّ أنّ مراقبة النّفس ومحاصرتها كان تقليدا صوفيّا سبق الحلاّج بقرون، ونلمح آثارها في غيرها من التّجارب الرّوحانيّة وخارج ديار الإسلام. ولعلّ أكثر الرّموز التي كان لها أثر في أعمال أبي منصور الحلاّج ما ورد في “طاسين الأزل والالتباس”، فقد جاء في شرح أحد أبرز من حافظ على إرث الحلاّج بعد مقتله، وهو روزبهان البقليّ الشّيرازيّ (أواخر القرن 12م) ما يفيد بأنّ الأزل والالتباس رمزان للإشارة “من المعرفة إلى السّعادة الأزليّة وحقائق الأبديّة، والشّقاوة الأزليّة، مع جميع النّكرات”[55].
4- الرّمز شكل هندسيّ وعدد وحرف يُتَأوّل:
ومن الرّموز التي اعتمدها الحلاّج في طواسينه الأشكال الهندسيّة. ولمسنا الأمر ذاته عند محي الدّين بن عربيّ. فقد حملاها مواقف الصّوفيّة ذات التّوجّه الكلاميّ. فعالج الحلاّج من خلال تلك الدّوائر مسألة “من يدّعي معرفة المشيئة والحكمة والعلم”، وينتهي به الأمر بالطّرد كما وقع لإبليس في القصّة الدّينيّة، إذ يشرح الأمر بالقول على لسان إبليس: «إنْ دخلت في الدّائرة الأولى (مشيئة الله) اُبتليت في الثّانية (حكمته) وإنْ حصلت في الثّانية اُبتليت بالثّالثة (قدرته)، وإنْ قنعت بالثّالثة اُبتليت بالرّابعة (معلومته وأزليّته)، فلا ولا ولا ولا ولا. . . »[56]، ويعلّق روزبهان البقليّ الشّيرازيّ على تلك الأقوال: «علم من نفسه (إبليس) أنّه فهم من علم المشيئة، وعلم الحكمة، وعلم القدرة وعلم العلم، وكانت عاقبته الطّرد، إذا سجد أو لم يسجد، فتبع مراد الحق، وقرأ في لوح المشيئة: أنّ إبليس كان كافرا، وقرأ في ورقة الحكمة: أنّ إبليسا كان ملوما، وقرأ في درجة القدرة: أنّ إبليسا كان مطرودا، وقرأ في أمّ الكتاب أنّ إبليسا كان محجوبا، بسبب أنّه وجد الخلاص منذ البداية لمّا اُبتلي ﴿ وهْوَ القَاهِرُ فوْقَ عِبَادِهِ﴾ ولم ينفع السّجود: جفّ القلم، بما هو (كائن) إلى الأبد، (منقول عن شرح الشّطحات)»[57]. لقد ألهمت قصّة سجود إبليس الفكر الصّوفيّ واعتمدها الحلاّج دليلا على عجز من يدّعي معرفة المشيئة الإلهيّة، فكانت القصّة الرّمزيّة تعبيرا خالصا عن ذلك الادّعاء الذي أفضى إلى الطّرد. أمّا “اللاءات” أو تواتر النّفي فقد ذهب روزبهان إلى القول بأنّه أوقع إبليسا في الكبر بترك الأمر وادّعاء علم القدر[58]. وتبقى الدّوائر معبرة عن العلاقة بين الله والعالم وبين الوجود والموجودات بالمفهوم الصّوفي، وهي علاقة قائمة على الاحتواء لا اتّصال فيها ولا انفصال. يظلّ النّصّ القرآنيّ ملهما للخطاب الصّوفيّ ووفّر للمتصوّفة مادّة رمزيّة غزيرة ، فالكلمات ترحل عبر الزّمن لكن تأوّلها ووضعها في أسيقة الدّلالات يظلّ أمرا منوطا باشتغال المؤوّل فما بالك بمؤوّل زاده الذّوق!
فتن الحلاّج كغيره من المتصوّفة بالحروف المقطّعة في القرآن، ولا يراها كذلك بل هي لا تختلف كثيرا عن الشّكل الهندسي، و بدت له في تواصل مع مضامين النّصّ القرآنيّ و “نص الوجود”، لأنّها تحمل الدّلالة والحقيقة الإلهيّة. ويؤكّد الحلاّج في نصوص “الولاية” أهميّة تلك الحروف ودلالتها الرّمزيّة بالقول: «في القرآن علم كلّ شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السّور، وعلم الأحرف في لام الألف، وعلم لام الألف في الألف، وعلم الألف في النّقطة، وعلم النّقطة في المعرفة الأصليّة، وعلم المعرفة الأصليّة في الأزل، وعلم الأزل في المشيئة، وعلم المشيئة في غيب الهو، وعلم غيب الهو ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ولا يعلمه إلاّ هو»[59]. ألا يكون الحلاّج بذلك قد فتح الطريق لأولئك الذين شكّلوا فرقة باطنيّة سمّت نفسها الحروفيّة؟ وهي جماعة باطنيّة قلّما ذكرتها الدّراسات واعتنت بما كانت تؤمن به من معتقدات. غير أنّ المتأمّل في الخطاب الصّوفيّ منذ نشأته الأولى إلى أنْ استوى على قدميه على يد الحلاّج، يدرك شدّة عناية المتصوّفة بالحروف التي وردت في أوائل السّور القرآنيّة[60]. ويبدو أنّ لتلك القضيّة علاقة وثيقة بعناية المسلمين بفنّ الخطّ. فقد تفنّنوا في رسم الحروف وتأسّست لديهم معرفة دقيقة بالخطوط. وتوسّعوا في ذلك أيّما توسّع. كما شجّعت السّلطة المركزيّة على العناية بالقرآن والمساجد، فظهر لدى المسلمين عناية فائقة بالأحرف وطرائق رسمها. ويؤكّد القرآن أنّ تلك الحروف هي الحاملة للوحي وبالتّالي توجب حفظها والعناية بها شكلا ومضمونا، صورة ظاهرة وتأويلا باطنا. فقد ورد في الآية التّاسعة بعد المائة من سورة الكهف قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفَدَ البَحْرُ قَبَلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدَا﴾[61]. وتوقّف المتصوّفة المتأخرون كابن عربيّ عند الأبعاد الباطنيّة لهذه الآية القرآنيّة. ورأوا فيها وصفا للعظمة وتأكيدا للجمال والكمال الإلهيّين. فتلك الحروف بحسب ما جاء في تحليل “آنا ماري شيمل” هي «وعاء الوحي ولا يمكن التّعبير عن أسماء الله وصفاته إلاّ بواسطتها، ومع ذلك فإنّ تلك الحروف مختلفة عنه، فهي “حجاب المغايرة” الذي يجب على الصّوفيّ تخطّيه. . »[62]. ويتغّني الحلاّج بأسرار الحروف في ديوانه قائلا: (بحر المتقارب)
كتبتُ إليهِ بفهْمِ الإِشَارةِ****وفي الأنْسِ فتّشْتُ نُطقَ العبَارة
كتابًا [لهُ] منهُ عنْهُ إليْهِ****يُتَرجِمُ عنْ غَيْبِ علمِ الستارة
بِواوِ الوصالِ ودالِ الدَّلالِ****وحاء الحياءِ وطَاءِ الطَّهارة
وواو الصّفاء وصاد الصّفاء **** ولامٍ وهاءٍ لعمـر مـداره
على سرِ مكنونِ وجد الفُؤَادِ **** وخاء الخفاء وشِينِ الإِشَارة
وللحقِّ في الخَلْقِ حقٌ حقّق **** بحقٍ إذَا حقّ حقُّ الزّيـارة
بهم لا بهم، إذَا هم لاَ هم **** ولا غيرهم في سموّ السّرارة(. . . )[63]
يتأوّل الحلاّج من خلال عرضه للحروف ودلالتها أسرار الاعتقاد الصّوفيّ في الوجود والعالم والقرآن. وهي تلك العوالم الثّلاث التي أقرّها المتصوّفة عموما. لقد أوُدعت تلك الحروف أسرارا إلهيّة على المتصوّف إدراك دلالتها الباطنة حتّى يبلغ درجة الولاية الصّوفيّة. ومن الرّموز التي أحبّها الحلاج ما جاء من” حديثه عن العشق الإلهيّ من خلال رمزيّة “كأس الخمرة الالهيّة”. ومهما يكن من أمر فإنّ المتصوّفة آمنوا بما تشتمل عليه العبارة القرآنيّة من طاقة إيحائيّة، فرؤوا في الحرف والكلمة الإلهيّة تعبيرا عن الجمال الإلهيّ وعظمته. وقد ذهب الشّراح في ذلك مذاهب شتّى تجمع كلّها على القدرة والعظمة. وعلى هذا الأساس أنشأ الحلاّج كتابا صاغ عنوانه من حرفين “طاء” و”سين” وسماه “الطّواسين” وهما حرفان يطالعان قارئ القرآن في بعض السّور كالنّمل والقصص. ويرى بعض الدّارسين أنّها دالّة عند الحلاّج على الطهارة” أي تنزيه الله وطهريته الأزليّة من كلّ حيف. والسّين رمز السّناء أي الرّفعة الأبديّة والتّجلي النّهائي للمطلق/ الله. أمّا حرف النّون الذي في نهاية “الطّواسين”، فيرمز إلى النّوال وهو العطاء غير الممنون الذي تمنحه الحقيقة الإلهيّة الأرواح والأجساد التي تقطنها ببهاء نورها وبمقتضى الرّغبة والانجذاب العشقيّ الذي قدّرته لها في مطلق المطلق”[64]. وتذهب آنا ماري شيمل إلى أنّ ذلك لا يخرج عن مسألة توظيف الحرف، بغاية ستر الخطاب الصّوفي عن العوام[65]. وتخطت عناية المسلمين بالحروف المقطعة في القرآن مجرد التّلويح إلى القدرة الإلهيّة وستر الأسرار فحاولوا وصل ذلك بتأولهم للوقائع التّاريخية فبرز ما يسمّى “الجفر” عند أهل التّشيّع و”هو عبارة عن تأمّلات أحداث حاضرة ومستقبليّة مستنتجة من توليفة حروف أو أرقام، قد تحول في كثير من الأحيان إلى التّنبؤ وقراءة المستقبل”[66].
أمّا رمزيّة الأرقام والأعداد فقد عدّها المتصوّفة خزّان أسرار كونيّة يمكن من خلال فكّ طلاسمها الوقوف على حقائق الكون. من ذلك تأمّلهم للرّقم “7” ودلالته في القرآن، فضلا عن العدد “40” والرّقم”3″ وقد جاء ذكر تلك الأرقام في القرآن، فأثارت حيرتهم ودعتهم إلى التّأويل. واستند ابن عربيّ في ذلك إلى ما جاء في الآية41 من سورة آل عمران، إذْ يقول فيها تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾، وفي الآية تأكيد الرّبط بين الكلام والرّمز والعدد وكان ذلك بأمر إلهيّ. أمّا العدد أربعون، فإنّه يتّصل عند المتصوّفة بأيّام الخلوة، كما أنّ هذا العدد ورد في غير السّياق الإسلاميّ مثل الإنجيل ونحوه[67]. لقد كانت الأبعاد الرّوحية والأخلاقيّة التي تأوّلها المتصوّفة سبيلا إلى بناء تصوّرهم للوجود الرّوحانيّ، وقد وجّههم وجهة أخلاقيّة جعلت من الوجود الظّاهر والباطن بنية متّحدة متّسقة اتّساقا، كما جعلت من فهمهم للعلاقة بين العبد وربّه علاقة تأويل للخطاب الإلهيّ الخفيّ. أمّا الضّرب الأخير للرّموز الصّوفيّة فيكمن في الرّمز الهندسيّ. ويبدو أنّ أوّل المؤسّسين الذين أرسوا قواعده هو أبو منصور الحلاّج (ت309ه)، فقد جاء في الطّواسين ما يدلّل على ذلك، ويمكن أن نذكر الرّسم الذي اعتمده الحلاّج في “طاسين الدّائرة” الذي وصل فيه بين النّقطة وحرف الباء والدّائرة في محاولة لترجمة حال المريد للحقّ[68]. يقول الحلاّج “البراني ما وصل إليه، والثّاني وصل وانقطع، والثّالث ضلّ في مفازةّ «حقيقة الحقيقة»[69]. ويشفع تحديداته بشكل هندسيّ في شكل باء تتكرّر ثلاث مرّات فوق بعضها البعض، وما بين الثّانية والثّالثة مستطيل تتوسّطه ثلاث نقاط وأمامه نقطة، والجميع داخل مستطيل أكبر. ويتأوّل روزبهان الباقلي كلّ ذلك بأنّه ظاهر الإيمان لجميع المؤمنين[70].
5- خاتمة:
هكذا نخلص إلى أنَّ الخطاب الصّوفيّ هو أشدّ خطابات المسلمين التصاقا بظاهرة الرّمز، بل هو في صميمه خطاب رمزيّ بامتياز. يسَّر انتقالهم من مجرّد جماعات تعضد الخطاب الفقهيّ الظّاهر وتناصر أصحابه في العلن، إلى خطاب جماعات بدأت تنغلق على نفسها باستتارها وراء الرّمز والقصص الرّمزيّ. على الرّغم من كل ذلك فإنّ الخطاب الصّوفيّ استطاع أن ينفذ إلى قلب المجتمع الإسلاميّ حينما مزج الرّمز بالشّعر والغناء، والتقط طائفة منهم ما كان ثاويا في قلوب الناس من معتقدات وتصوّرات لم يقدر الدّين الجديد على محو آثارها، وهو ما يسّر سريانه على ألسن العوام حتى وإن جهلوا مضامينه الوجوديّة والعرفانيّة. كما نلمس استفادة القصص الرّمزيّ من الموروث القصصيّ السّابق لانتشار العقيدة الإسلاميّة خاصّة في بلاد فارس وأرض الأناضول. ولعلّه بذلك قد صالح بين العقيدة الإسلاميّة و”أخلاف العقائد” مصالحة بدت لنا خفيّة في شكل قوالب رمزيّة تحيط بتلك الحكايات والأقاصيص، وربّما جعلها مستساغة في تربتها الاجتماعيّة متعدّدة الأعراق والأجناس، فلاقت في نفوس متقبّليها قبولا حسنا غذّى الشّخصية الصّوفيّة ضمن حيز ضيق يحتفي بالإخفاء. وقد يفسّر لنا ذلك وجها من وجوه اعتقاد المتصوّفة ومن بعدهم العامّة، في كرامات الأولياء في القرون اللاّحقة بعد أن نتجاوز زمان التأسيس للمذهب.
قائمة المصادر والمراجع:
- إيكو، (أمبرتو)، فلسفة التأويل، ترجمة أحمد الصّمعي، بيروت، لبنان، المنظمة العربية للترجمة، 2005.
- البسطامي (أبو يزيد)، المجموعة الصّوفية الكاملة ويليها كتاب تأويل الشّطح، تقديم وتحقيق قاسم محمد أمين، سورية دمشق، دار المدى للثّقافة والنشر ، 2004.
- الحلاّج، الأعمال الكاملة: قاسم محمد عبّاس، بيروت، لبنان، رياض الرّيس للكتاب والنّشر، 2002.
- الخوالديّة (أسماء) : الرّمز الصّوفيّ بين الإغراب بداهة والإغراب قصدا، الرّباط، منشورات الاختلاف ، 2014.
- السّهروردي (شهاب الدّين): اللّمحات، تحقيق وتقديم إميل معلوف، بيروت، لبنان، دار النّهار للنّشر، 1969.
- السّهروردي (شهاب الدّين): ، مجموع مصّنفات شيخ اشراق، جلد دوم، يشتمل كتاب حكمة الإشراق، رسالة في اعتقاد الحكماء، قصّة الغربة الغريبة، تصحيح وتقديم هنري كوربان، تهران، پژوشگا علوم إنساني ومطالعات فرنگی، 1373ه. ش.
- شيمل (آن ماري): الشّمس المنتصرة، دراسة في آثار الشّاعر الإسلاميّ الكبير جلال الدّين الرّومي، ترجمة عيسى علي العاكوب ، سورية، دمشق، مكتبة مؤمن قريش، 2016.
- ابن عربي (محي الدّين)، ترجمان الأشواق، اعتنى به عبد الرّحمان المصطاوي، بيروت، لبنان، دار المعرفة، 2005.
- ابن عربي (محي الدّين)، ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، حقّقه وعلّق عليه محمد عبد الرّحمان الكردي، باريس، دار بابليون، (د.ت)
- ابن عربي (محي الدّين)، الكوكب الدّري في مناقب ذي النّون المصريّ، تحقيق سعيد عبد الفتّاح، بيروت، لبنان، مؤسسة الانتشار العربي، 2002.
- ابن الفارض، الدّيوان، تقديم وشرح عبد القادر محمد مايو، مراجعة أحمد عبد الله فرهود، سورية، حلب، دار القلم العربي، 2001.
- القشيري (عبد الكريم): الرّسالة القشيريّة، تحقيق نواف الجرّاح، بيروت، لبنان، دار صادر، 2001.
- -كوربان (هنري): تاريخ الفلسفة الإسلاميّة، ترجمة نصير مروّة وحسن عبسي بيروت، لبنان ، عويدات للطباعة والنّشر، 1998.
- محمد (الولي): الصّورة الشعريّة في الخطاب البلاغيّ والنّقديّ، ط1، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، 1990.
- نولدكه، تاريخ القرآن، تعديل فريدريش شفالين نقله إلى العربيّة جورج تامر، بالتّعاون مع فريق عمل مؤلف من عبله معلوف-تامر، وخير الدّين عبد الهادي، ونقولا أبو مراد، بغداد، منشورات الجم، 2008.
- الهجويري (أبو الحسن)، كشف المحجوب، دراسة وترجمة وتعليق إسعاد عبد الهادي قنديل، مراجعة وتقديم، بديع جمعة، القاهرة، المجلس الأعلى، 2007.
المراجع الأجنبية:
- Encyclopaedia Universalis , France ,1990 , Corpus 21.
- Corbin (Henry): En Islam iranien, Aspects spirituels et philosophiques, Gallimard, 1972.
- Corbin (Henry): L’Homme de la lumière dans le soufisme iranien, Henri Viaud, France ,1971.
- Louis Massignon, Essai sur les origines du lexique technique mystique musulmane, Les édition du cerf,Paris,1999.
- Louis Massignon, La passion D’al-Hallaj, TomII, Librairie orientaliste,Paul Geuthner, Paris,1922.
- Todorov, Tzvten, Teorie du symbole, Paris, Seuil, 1977.
[1]– ابن منظور، لسان العرب، بيروت- لبنان، دار إحياء التّراث العربيّ، 1999، ص312.
[2]– آل عمران، 3/ 41.
[3]– رصد الوليّ محمّد مختلف المعالجات لظاهرة الرّمز والرّمزية وما تثيره من قضايا نظريّة في الفصل الثّالث من كتابه الموسوم بـ”الصّورة الشّعرية في الخطاب البلاغيّ والنّقد”، ط1، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، ص189 ، 1990.
[4]– إيكو، السّيميائيّة وفلسفة اللّغة، بيروت، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، 2005 ص313.
[5]– المرجع نفسه، ص457
[6]– Todorov, Théories du symbole ,collection poétique ,Editions du Seuil, Paris 1997, p212
[7]– إيكو، السّيميائية وفلسفة اللّغة، ص457.
[8]– القشيري، الرّسالة القشيريّة، بيروت لبنان، دار صادر ،2001، ص21.
1- القشيري، الرّسالة القشيريّة، مرجع سابق، ص21.
[10]– الهجويري، كشف المحجوب، القاهرة، المجلس الأعلى، 2007 ص247.
[11]– الهجويري، كشف المحجوب،مصدر سابق، ص245.
[12]– الهجويري، كشف المحجوب، مصدر سابق،ص241.
[13]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[14]– الهجويري، كشف المحجوب، مصدر سابق، ص245.
[15]– المصدر نفسه، ص246.
[16]-البسطامي، المجموعة الصّوفيّة الكاملة ويليها كتاب تأويل الشّطح، سورية، دمشق، دار المدى للثّقافة والنّشر ، 2004، ص 12
[17]– الهجويري، كشف المحجوب، مصدر سابق، ص246.
[18]– المصدر نفسه، ص247.
[19]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[20]– المصدر نفسه ، ص248.
[21]– المصدر نفسه ، الصفحة نفسها.
[22]– المصدر نفسه ، ص250.
[23] – الهجويري، كشف المحجوب، مصدر سابق، ص250.
[24] – المصدر نفسه، ص 252.
[25] – المصدر نفسه، ص314.
[26] – آنا ماري شيمل، الشّمس المنتصرة، دراسة في آثار الشّاعر الإسلاميّ الكبير جلال الدّين الرّوميّ، سورية، دمشق، مكتبة مؤمن قريش، 2016، ص53.
[27] – السّلمي: طبقات الصوفية، ص29.
[28]– الكهف 18/ 60.
[29] -الهجويري: كشف المحجوب ، مصدر سابق، ص315.
[30]-السّهروردي: كلمة التصوف، مصدر سابق، ص79.
[31] – ابن عربي، الكوكب الدّري في مناقب ذي النّون المصريّ، تحقيق سعيد عبد الفتّاح، بيروت، لبنان، مؤسسة الانتشار العربي، 2002، ص66.
[32]– الهجويري، كشف المحجوب، مصدر سابق، ص325.
[33] – المصدر نفسه، ص349.
[34]– الهجويري، كشف المحجوب، مصدر سابق، ص 350
[35] -الخوالدّية، الرّمز الصّوفيّ بين الإغراب بداهة والإغراب قصدا، الرّباط، منشورات الاختلاف، 2014، ص27
[36]– ابن الفارض، الدّيوان، تقديم وشرح عبد القادر محمد مايو، مراجعة أحمد عبد الله فرهود، سورية، حلب، دار القلم العربي، 2001 ص121.
[37]– المصدر نفسه، ص121.
[38]– آنا ماري شيمل، الأبعاد الصّوفية في الإسلام وتاريخ التّصوّف ، بغداد، منشورات الجمل، 2009. ص83.
[39]– اُنظر “قصّة الغربة الغريبة” للسّهروردي، إذ يقول: “سافرت مع أخي عاصم من ديار ما وراء النّهر إلى بلاد المغرب للصّيد، فوقعت بغتة في القيروان. . . “، اللمحات للسّهروردي، ص49.
[40]– المصدر نفسه، ص36.
[41]– المصدر نفسه، ص37.
[42]– هكذا في الأصل، قد يكون من الأثر الفارسي.
[43]– ابن عربي، حكمة الإشراق، ص12.
[44]– المصدر نفسه، ص12.
[45]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[46] – ابن الفارض، الدّيوان، ص53.
[47]– الحلاّج ، الأعمال الكاملة، بيروت، لبنان، رياض الرّيس للكتاب والنّشر، 2002، ص291.
[48]– كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلاميّة،بيروت، لبنان، عويدات للطباعة والنشر ، 1998، ص298.
[49]– المصدر نفسه، ص298.
[50]– استقينا الملاحظة من عنوان مداخلة ألقاها الباحث التّونسي توفيق بن عامر في المجمع التونسي للآداب بيت الحكمة بتاريخ الأربعاء 10/04/2019، ولنا في رباعيّات الخيّام ما يجدّد الحديث عمّا لا يقال.
[51]– ابن عربي، ترجمان الأشواق ، بيروت، لبنان، دار المعرفة، 2005.
[52]– ابن عربيّ، ذخائر الأعلاق، شرح ترجمان الأشواق، باريس، دار بابليون، (د.ت) .
[53]– ابن عربي، إنشاء الدّوائر، بيروت، لبنان، (د.ت) .
[54]– تؤكد آنا ماري شيمل الصّلة المتينة بين الحلاّج وشيخ الإشراق على النحو التّالي: “وقد تلقى السّهرورديّ إلهاماته من مصادر متنوّعة، يجب التّركيز على ذكر الحلاّج من بينها”، الأبعاد الصّوفيّة في الإسلام وتاريخ التّصوف، ص 294
[55]-الحلاّج، الأعمال الكاملة، ص189.
[56]– المصدر السابق، ص201.
[57]– المصدر السابق، ص202.
[58]– الحلاّج، الأعمال الكاملة، مصدر سابق، ص202.
[59]– المصدر نفسه، ص231.
[60]– توقّف المستشرق الألماني “نولدكه” ومن جاء بعده عند السّور التي افتتحت بحروف مقطعة وهي تسعة وعشرون سورة، ويطلق على تلك الحروف “الحروف المبهمة التي تسبق بعض السّور”، وذكر مختلف الآراء حولها قديما وحديثا، اُنظر، تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، تعديل فريدريش شفالين، بغداد، منشورات الجمل، 2008، من ص299 إلى ص311.
[61]– الكهف 18/ 109.
[62]– آنا ماري شيمل، الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التّصوّف، ص469.
[63]– الحلاّج، الأعمال الكاملة، ص308.
[64]– خوالديّة، الرّمز الصّوفيّ، ص45.
[65]– آنا ماري شيمل، الأبعاد الصّوفية في الإسلام وتاريخ التّصوّف، ص471.
[66]– المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[67]– خوالديّة، الرّمز الصّوفيّ، ص 51.
[68]– راجع الرّسم في “طاسين الدائرة ” :الحلاّج الأعمال الكاملة، وقد ورد في الهامش شرح لما جاء ملغزا في هذا الطّاسين على يد روزبهان البقلي الشّيرازي، ص175.
[69]– الحلاج، الأعمال الكاملة، ص .175
[70]– لمن شاء التّفصيل فليراجع هامش الأعمال الكاملة للحلاّج ص176-178.