ملخّص:
نروم من خلال هذه الورقة العلميّة البحث في موضوع الفنّ والجسد والعلاقة التي تنشأ بين هذين المكوّنين من خلال الرّقص الكناوي باعتباره فنًّا موسيقيًاّ يُراهن عليه الجسد عبر الحركات الجسمانيّة والإيقاعات الموسيّقيّة لينتزع سلطة الكلام ويُسائل الوجود والواقع المعيشي. إذ بواسطة “الرّقص الموجّه” و”الجذبة” ينفلت الجسد من الرّقابة ليخلق عالمه الخاصّ، عالمَ التّعبير الذي تقوم فيه الحركات والإشارات كلغة صامتة، بالإفصاح والجهر بما يقبع في الأعماق الدّاخليّة للكائن الكناوي الرّاقص، فيرسم في الفضاء أشكالاً وعلامات ممزوجة بتأوّهات، وألام، ودعوات، حيثُ يَصير الجسد مبدعاً للغته الخاصّة، مكبّلاً ومتحرّرًا، صامتًا وصارخًا، خافتًا ومتأجّجًا حتّى يبلغ مرحلة الانتشاء الرّوحانيّ (الجذبة)، وانتهاءً بالسّقوط في الأرض بحثا عن التّطهير.
إنّ الجسد في بحثنا ليس قبراً للنّفس وعائقًا لها كما اعتبره أفلاطون، وإنّما هو حاملٌ للهويّة، إذ من خلاله يتحقّق وجودنا في العالم. وهذا ما يجعل الجسد الكناوي الرّاقص معرفة مجسّدة، وكتابة منصهرة للتّاريخ والهويّة والثّقافة وليس مجردَ ثقافة فرجويّة عابرة.
الكلمات المفاتيح: الجسد، الفنّ، الرّقص، فلسفة الجسد، الفنّ الكناوي.
Abstract:
Through this paper, we seek to research the topic of art and the body and the relationship that arises between these two components, through Gnaoui dance. This musical art, on which the body bets through dance and musical rhythms, to seize the authority of speech and question existence and living reality. By means of “directed dance” and “attraction” the body escapes from censorship to create its own world, the world of expression in which the movements and signs act as a silent language, articulating and loudly speaking what lies in the inner depths of the dancing Gnaoui being, drawing in space forms and signs mixed with groans, pain, and prayers, where the body becomes a creator of its own language, shackled and liberated, silent and crying, faint and raging, until it reaches the stage of spiritual elation (attractiveness), ending with falling to the ground in search of purification. Consequently, the body in our study is not a grave for the soul and a hindrance to it, as Plato considered it, but rather a bearer of identity, and through it our existence in the world is realized. This is what makes the Gnaoui dancing body not just a fleeting culture of spectacle, but rather an embodied knowledge, and a writing fused to history, identity and culture.
Keywords: Body, Art, Dance, Philosophy of the body, Canon art.
1- مقدّمة:
يُشكّل الجسد في مُجمل الحضارات الإنسانيّة منفذاً لقراءة الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ، إذ يتجاوز البدن (اللّحم والدّم)، ليعكس الهويّةَ والتّكوينَ الاجتماعيّ، وفهم علاقات السّلطة، والتّصنيف الجندريّ والطّبقيّ للمجتمع. فمن خلال تتبّع سيرة الجسد تاريخيًا، نجد أنّ لكلّ حضارةٍ تمثّلها الخاصّ له، فهو قربان للآلهة في الحضارة الفرعونيّة، ومَثار جدل حول حقيقة الوجود لدى اليونان، ومفهومٌ إشكاليٌّ ما يزال النّزاع حوله مستمرًّا في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.[1] ولا ينبغي أن نفهم من هذا أنّ الجسد مفهومٌ يتوقّف فقط عند فتح منافذَ جديدةَ لقراءة ظواهر اجتماعيّة، واقتصاديّة، وثقافيّة. وإنّما أصبح أيضا مرتبطًا بظواهر معاصرة ذات علاقة بالنّقد الثّقافيّ، والحركات النّسويّة، وحركات التّحرّر الاجتماعيّ، وظاهرة الاحتجاج بالجسد العاري، بل إنّنا اليوم أمام مفاهيمَ جديدة للجسد في ظلّ التّطوّر التّكنولوجيّ، كالجسد الافتراضيّ، والجسد بلا أعضاء.
وعلى الرّغم من الاهتمام الذي حظي به مفهوم الجسد خاصّة في السّنوات الأخيرة، فإنّ الدّراسات حوله ماتزال جنينيّة وهشّة، نظراً لما يكتسيه هذا المبحث من تعقيد وتشابك في مستويات تحليله. ممّا يجعله أكثرَ عرضةً إلى التّهميش والتّحريم، والتّنميط. فيجد الباحث خاصّة “العربيّ” نفسه أمام موضوع حسّاس يرتبط بمسائل تتعلّق بالمظاهر الاجتماعيّة كالحجاب، والجنس، والحدود بين الأجناس.
إنّ “الجسد” أوّلاً وقبل كلّ شيء هو قضيّة الذّات بكلّ حُمولاتها النّفسيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة. وهذا ما يفسّر تقاطعه (الجسد) مع اهتمامات معرفيّة تحليليّة متعدّدة أهمّها: علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والأدب، والفلسفة، والتّحليل النّفسيّ، بل صار كذلك طليعة البحث في الجماليّات الفنّية، والتحولات الاجتماعيّة التي تعرفها المجتمعات المعاصرة[2].
وهذا الأمر يعني أنّه إذا كان الجسد مفهومًا ثقافيًّا فلسفيًّا أنثروبولوجيًّا، فإنّ قابليّته للتّحليل الجماليّ الثّقافيّ في الآن ذاته هي نفسها ما يؤكّد خصوبة البحث فيه وفي جدّته. ونحن في هذه الدّراسة لا تحكمنا أيّ نظرة إيديولوجيّة تبتغي تحريره من دائرة المحرّم، أو التّأكيد على هامشيّته، ولا نروم الخوض في ثنائيّة الجسد الأنثويّ والذّكوريّ، أو استجلابه من اللاّوعيّ إلى الوعيّ، ومن مجال المسكوت عنه واللاّمفكر فيه إلى مجال القول والفكر. وإنّما نسعى إلى تسليط الضّوء على دلالة ورمزيّة الجسد في الرّقص الكناوي، وتبيان كيف أنّه من خلال الرّقص الكناوي يَتحرّر من كلّ القيود التي تكبّله ليعبّر عن ذاته وكينونته. وقبل هذا سنحاول البحث بشكل مقتضب في الدّلالة الفلسفيّة لمفهوم الجسد، وأشكال حضوره في بعض الفنون كالرّسم التّشكيليّ، والمسرح، والموسيقى. ثمّ بعد ذلك سنركّز على الجسد الكناوي الرّاقص، وسنحاول الوقوف عند الدّلالات التي يمنحها الرّاقص لحركاته.
وفي هذا السّياق نشير إلى أنّ الدّافع الأساسي إلى اختيار هذا الموضوع بالتحديد يتمثّل في معاينتي المباشرة وحضوري إلى بعض الحفلات الموسميّة الكناويّة في المغرب، إذ دائماً ما كانت الطّريقة التي يتمّ الرّقص بها، والطّقوس المصاحبة، يَشدّان انتباهي. وهو ما يشكّل صورة فنّية روحيّة يمتزج فيها الجمال الإبداعيّ مع الطّقوسيّ الفنّيّ. هذا بالإضافة إلى تخصّصي المعرفيّ في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الذي كان محفّزًا لي لدراسة هذا الموضوع من زاوية جماليّة فنّية سوسيو-أنثروبولوجيّة. هذا كلّه من أجل تبيان كيف أنّ الجسد الكناوي الرّاقص – بالإضافة إلى كونه يرقص – يتواصل، يحكي، ويعبّر عن مآسيه وآلامه وأفراحه.
2- في التّحديد الفلسفيّ لمفهوم “الجسد”:
يعتبر “الجسد” من المفاهيم المستعصية على الفهم نظراً لتراكم الدّلالات حوله، وتقاطعه مع مفاهيم أخرى متقاربة كـ “البدن” و”الجسم”، وتقابله مع مفاهيم أخرى مثل “الرّوح” و “النّفس” داخل التّصور الميتافيزيقيّ. فالجسد الذي نعنيه في دراستنا هذه ليس فقط ذلك الذي يتمظهر في العالم المادّيّ من خلال ثلاثيّة “الزّمان” و”المكان” و “السّبب” التي أوجدته كما يقول بذلك جيزيل بريليه: ما يقابله لدى ريكور مفهوم: chair، ولدى ريشر مفهوم leib:.[3] باعتباره تلك الكتلة الممتدّة في الطّول والعرض والعمق، ولها شكل ووضع ومكان. وإنّما الجسد الشّخصيّ/ الخاصّ الذي يشكّل الوحدة الأنطولوجيّة التي تَسم وجود الكائن في العالم الذي لا يخلو من علاقات ذات بعد ثقافيّ رمزيّ وتعبيريّ، يعيد بها الجسد صياغة العالم، ومنحه خصوصيّات جديدة في إدراكه وتعبيره وحضوره أمام العالم وأمام الآخرين[4].
وقد اختلف الفلاسفة على مرّ التّاريخ في تحديدهم للجسد كلّ وفق منظوره الفكريّ الخاصّ، فنجد أنّ الطّرح السّقراطيّ قد أَولى أهمّية كبرى للنّفس وللمعرفة النّفسيّة من خلال “اعرف نفسك بنفسك” وذلك على حساب الجسد. أمّا الفلسفة الأفلاطونيّة فقد “همّشت” الجسد، بل اعتبرته “قبرًا” وعائقًا لبلوغ الرّوح المعرفة والحقيقة، حيث يقول أفلاطون في هذا السّياق: “الجسم قبر النّفس لأنّها مدفونة فيه طوال الحياة”[5]. فالجسد حسب رأيه منجذب بطبيعته للملذّات والشّهوات، وهذا يؤثّر على النّفس، التي تسعى إلى العلم والحكمة، فيدخلها في عالم الغرائز أي العالم الحسّيّ. على هذا الأساس ركّزت فلسفة أفلاطون على النّفس واعتبرت الجسد مجرّد توليفة لأعضاء تُمثّل مصدر اللّذة والألم، واعتبرت العلاقة بينها (النّفس والجسد) هي علاقة تبعيّة، تتحكّم فيها النّفس في الجسد باعتبارها أكثر رفعة منه.
وسيحظى الجسد بمكانة واقعيّة نسبيًا مع ديكارت على خلاف أفلاطون، بالرّغم من أنّه لا يعدو أن يكون مجرّد موضوع كباقي الموضوعات الأخرى، ذلك أنّ الجسد حسب ديكارت له قوانين تحرّكه دون الحاجة إلى شيء خارجيّ عنه بما في ذلك النّفس. فمن خلال تمييزه بين الرّوح والجسد يبدو أنّ ديكارت لم يقم إلاّ بإعادة التّقليد الأفلاطونيّ، حيث شبّه الجسد بالآلة التي تعمل بطريقة ميكانيكيّة. أمّا عمليّة التّفكير فتتحقّق حسب اعتقاده من خلال الابتعاد عن العالم الحسّيّ ومتطلّبات الجسد، حيث أنّ التّأمّلات الميتافيزيقيّة تخلق الشّكّ في وجود الجسد والحواسّ والعالم والله، وبالتّالي فإنّ الشّكّ يعني أنّه يفكّر وهنا نكون أمام الكوجيتو الدّيكارتي: “أنا أفكّر إذن أنا موجود”[6]. ومن ثمّ فإنّ ماهية الإنسان لدى ديكارت تتجسّد في عمليّة التّفكير بمعزل عن الجسد.
على هذا الآساس يمكن القول إنّ الفلسفات التي غيّبت العينيّ والحسّيّ (أفلاطون، ديكارت، كانط) همّشت حضور الجسد في الممارسات المعرفيّة، وجعلته يفتقد إلى مقوّمات وجوده. ولكن هذا لن يدوم طويلا، إذ سرعان ما رُفع الحصار عن الجسد، وتمّ تجاوز الخطاب المهمّش له مع الفلسفة الحديثة – خاصّة الفينومينولوجيا المرلوبونتيّة-، حيث تمّ الارتقاء بـــ “الجسد” في مجالات التّحليل الفلسفيّ والنّفسيّ، وفي المقاربات الأدبيّة، ممّا ساهم في خروج الجسد من دائرة المسكوت عنه واللاّمفكّر فيه إلى مجال الحقيقة والوعي. فبدأ الجسد يأخذ مساراً مُغايراً من خلال تموقعه ضمن التّجربة الإنسانيّة المعرفيّة، إذ صار بالإمكان الحديث عن “فكر للجسد”، وبروز مفهوم “الجسد الخاصّ” باعتباره آداة لإدراك العالم وفهمه. يقول ميرلوبونتيني: “الجسد كائن في العالم كالقلب في الجهاز العضويّ”[7]، وبالتّالي فهو ليس قبراً تسكنه النّفس وإنّما هو فاعل يوفّر لصاحبه الإحساس بالحركة وإدراكها إدراكًا مباشرًا كلّياً. هذا التّحوّل الذي طرأ في دراسة الجسد (كونه موضوعا معرفيّا)، ساهم في إخراجه من دائرة التّفكير الماوراء طبيعي، وربطه إلى حدّ كبير بالتّفكير في الهويّة والذّات. باعتبار فكرة الجسد ذات صلة بالحداثة الفكريّة والثّقافيّة. يقول موريس مرلوبونتي: “إنّ الجسد كائن في العالم كالقلب في الجهاز العضويّ”، ويقول كذلك: “لسنا فكراً وجسداً، لسنا وعياً قبالة العالم، بل نحن فكرٌ متجسّدٌ وكيانٌ في العالم”[8]. بمعنى أنّ جسدي ليس مجرّد موضوع قائم بذاته أو مستقلّ عنّي، بل “إنّني جسديّ”. هكذا تحوّل الكوجيتو الدّيكارتي من “الفكريّ” إلى “الجسديّ”.
وسيشهد التّفكير الفلسفيّ حول الجسد تحوّلاً نوعيًّا مع ميشيل فوكو، الذي يُعتبر من أهمّ المنظّرين لموضوع “الجسد” في العصر الحديث، حيث ربطه بموضوع “الجنس” و “السّلطة”. فالجنس حسب رأيه مظهر من مظاهر أنشطة الجسد، ممّا يجعل منه رهانًا اجتماعيًّا وسياسيًّا. إنّ الجسد في فكر فوكو خاضعٌ إلى تأثيرات وقوى متعدّدة تهدف إلى ترويضه وتطويعه. ففي اعتقاده تتمحور إشكاليّة السّلطة بأصناف محدّدة من الجسد وهي الجسد الآلة، حيث الجسد مجرّد آداة عمل وإنتاج، والجسد الرّاغب- الشّهوانيّ الذي يسعى نحو إشباع رغباته، ممّا يجعله عرضة للخطيئة، فتقوم السّلطة بردعه وترويضه. وكذلك الجسد النّوعيّ الذي لا يرتبط بالجسد الفيزيولوجيّ، ثمّ الجسد الوجوديّ الذي يبيّن كيف يمكن للإنسان أن يؤسّس علاقته مع جسده وفقَ ضوابطَ محدّدة[9]. وما يميّز هذه الأنواع من الأجساد في نظر فوكو هو أنّها تمتلك خاصّية التّغيّر والتّبدّل والتّعلّم والتّرقّي والتّردّي، وهي في ذلك تنشئ أنواعًا عدّة من العلاقات بين الجسد والآخرين، ممّا يجعل من الجسد نقطة التقاء بين السّلطة والمعرفة.
هكذا يصير الجسد شيئاً كباقي الأشياء في العالم، كذات وموضوع، ناظر ومنظور، حاسّ ومحسوس، قادرا على الفعل والتّأثير والتّواصل، من خلال الرّموز والإشارات التي تجعل من الحياة الاجتماعيّة مشبعةً بالمعاني والرّموز والدّلالات، التي تتّخذ أشكالاً مختلفةً كالإيماءات وتعابير الوجه وحركات الجسد. والتّالي فهو ليس مجرّد تجسّد مادّيّ بيولوجيّ عضويّ فقط، وإنّما هو أيضا صنيعة ثقافيّة ووسيلة للتّميّز والاختلاف، إذ من خلاله يتميّز الفرد عن الجماعة، المرأة عن الرّجل. هذا التّميّز هو الذي يخلق الهويّة، وهو بالتّالي الذي يجعل من الجسد معلمًا هوياتيًّا مهمّا في عمليّات التّبادل الاجتماعيّ والعلائقيّ. يقول دافيد لوبروتون: “الجسد نتاج التّقاليد الشّعبيّة، وبروز النّزاعات الفرديّةـ وهو يجسّد تمحور الفرد حول نفسه في نطاق تجربته ومعرفته بالأمور”[10]. وهذا يعني أنّ وجود الإنسان وهويّته يتحقّقان من خلال جسديّته، فدونه لن يكون الإنسان، بل لا يمكن الحديث عن الإنسان دون العودة إلى جسديّته.
لا شكّ إذن أنّ الجسد من أشدّ المفاهيم الفلسفيّة التباسًا وذلك راجع إلى المعاني التي اتّخذها هذا المفهوم في الفكر الفلسفيّ عبر التّاريخ. إنّ الجسد الإنسانيّ مختلف عن باقي الكائنات الأخرى، من حيث هو جسدٌ ذاتيٌّ يشعر به صاحبه ويحسّ به، فهو جزء من شخصيّة صاحبه، ومصدر الفكر والوعي والحركة. وعليه فهو ليس بناءً جاهزاً، أو كياناً معزولاً لا يتأثّر ولا يؤثّر، وإنّما هو مجموعة من الآليات التي تشكّل منظومة من العلاقات التّواصليّة التي تحقّق للفرد الحضور الاجتماعيّ والعلائقيّ في محيطه، إذ من خلاله يتحقّق وجودنا في العالم في اللّحظة التي نظهر بها كأجساد، الأمر الذي يجعل منه موضوعا من موضوعات الوجود والمعرفة.
3- حضور الجسد في الفنّ:
إذا كانت الثّقافة تمثّل روح المجتمع الذي تنفخ فيه الحياة ، فإنّ فنّ المجتمع هو الأشدّ تعبيراً عن هذه الرّوح”[11]. هذا الدّور المحوريّ الذي يلعبه الفنّ في الحياة الإنسانيّة في الغالب ما يجد متنفّسه الجماليّ عبر “الجسد”. هذه الخاصّية التّعبيريّة والتّجسيديّة للحياة الإنسانيّة التي يقوم بها الجسد، هو ما تلمّسه الفنّانون وأدّى بهم إلى اعتباره من بين السّمات الأساسيّة في مختلف المجالات الفنّية سواء في الشّعر والرّواية، أو المسرح والرّسم، أو الرّقص والموسيقى. فنجد الجسد العاري في فترة المائة عام الأولى من عصر النّهضة الكلاسيكيّ عندما تداخل التّحليل الجديد مع عادات العصور الوسطى في التّرميز والتّشخيص، فبدا حينها أنّ أيّ مفهوم مهما بلغت عظمته، فإنّه يمكن التّعبير عنه بالجسد العاري، وأيّ شيء مهما كانت تفاهته، فإنّ تحسينه يكون بإعطائه شكلاً بشريًّا. ولعلّ هذا ما يؤكّده قول أحد الفنّانين: “إنّ الجسد البشريّ هو أكثر الأشكال جمالاً وكمالاً، ولهذا لا نملّ من رؤيته، وبين هذا وذاك توجد غابة من الأجساد العارية المرسومة أو المحفورة بالجصّ أو البرونز أو الحجر ممّا ملأ كلّ مكان خال في عمارة القرن السّادس عشر…”[12]. ولكن في الوقت نفسه يمكن أن يشكّل دخول الجسد لمنعطف الفنّ، خروجًا من ذاتيّته وكينونته البشريّة الحيّة، ليصير مجرّد رمز داخل لغة التّشكيل الفنّيّ.
ومثلما استحوذ الجسد على المساحة البيضاء في لوحات الفنّانين، فإنّنا نجده كذلك في المسرح، حيث لعب المفهوم الجماليّ للجسد في الثّقافة الأوروبيّة منذ اليونان الدّور الأساسيّ في نشأة الحاجة إلى المسرح واستمراره عبر العصور، إذ كانت الاحتفالات التي تقام في المعابد اليونانيّة القديمة فرصةً لتوظيف الجسد تعبيريًّا، ثمّ خرجت إلى الشّارع لتتحوّل إلى عروض احتفاليّة ينظّمها الكهنة، زد على ذلك تخصيص قاعات لتقديم العروض، وصولا إلى الإنجاز اليونانيّ المتمثّل في الإلياذة والأوديسة. ففي كلّ هذه المراحل كان المسرح يعتمد بالآساس على الجسد لاسيّما جسد الممثّل، هذا الأخير الذي تأرجحت مكانته بين البزوغ والأفول ثمّ البزوغ ثانية كجوانبَ مهمّة في تعبير الممثلذ. ممّا يؤكّد على الأهمّية البالغة للجسد لدى الممثلّ كآداة معبّرة حاملة للمعاني. وذلك في ما يسمّى بـــ”الغريزة التّمثيليّة”[13] باعتبارها ذلك الدّافع الطّبيعيّ للحدث الدّراميّ الذي يتواجد عند البشر جميعًا. ويستعين الممثّل في ذلك بعناصر يستخدمها بجسده من تعبيرات وإيماءات وإشارات وحركات دالّة تحمل معاني عدّة.
إنّ تقدّم المسرح إذن وتطوّره راجع بالآساس إلى الدّور الكبير الذي لعبه الجسد الإنسانيّ، وفي هذا الصّدد قال أندريد جيدّ “أنا أصنع الهيكل العظميّ وأنت تكسيه لحما”[14] بمعنى أنّ نجاح المسرح رهين بذلك التّوافق والتّكاثف الذي ينشأ بين المؤلّف والممثّل والمخرج، من أجل خلق إبداع النّصّ تأليفًا وإتقانًا لعرضه.
هذا الشّيء نفسه نجده في الموسيقى، فهي كالمسرح تكره الطّبيعة السّاكنة، لهذا نجدها ترتبط بالزّمن لتخلق لذاتها مكانًا خاصًّا بها، كما يقول أدونيسّ “إنّ زمنيّة الموسيقى نابعةٌ من مكانيّتها”[15]، أي أنّ سرّ ماهيّتها يكمن في انتقالها ما بين الحركة والسّكون، وهو ما يبعث نغمات تتسرّب مباشرة إلى الأذن لتتماهى مع الرّوح، فتنعكس على الجسد وتوقظ فيه مشاعرَ حبيسةَ. هذا التّفاعل الجسديّ مع الموسيقى هو ما يُضفي عليها حسًّا جماليًّا مضاعفًا. فالموسيقى يُطلق عليها كذلك فنّ الأذن باعتباره (الأذن) العنصر الآساس في هذا الفنّ، فمن خلاله ينتج المبدع ويقيّم المتلقيّ النّاقد العمل الفنّي. وبالتّالي فإنّ علاقة الموسيقى بالجسد هي علاقة حقيقيّة وليست افتراضيّة، حيث يتجرّد الشّعور المتولّد عن سماع الموسيقى بغضّ النّظر عن نوعها، حزينة كانت أم سعيدة، عن كلّ الرّغبات أو الاحتياجات الإنسانيّة، فتتماهى الذّات الإنسانيّة مع الرّوح حدّ التّوحّد والاندماج. على هذا الأساس يمكن اعتبار قيمة الجمال المنبعث من السّيل الموسيقيّ المتدفّق كامنة في تنمية ذائقة الإنسان وتهذيبها، من خلال تجاوزها للشّهوات والرّغبات المادّية. بمعنى أنّ جماليّة الموسيقى منزّهة عن أيّ منفعة[16].
على العموم يمكن القول إنّ جماليّة الجسد قد تجسّدت في الفنّ من خلال ارتباطه بسمتين رئيسيّتين هما “المقدّس” و “المدنّس”، حيث الألم واللّذّة يتجاذبانه منذ نشأة الخليقة. فالألم والمعاناة يمكن أن يتحوّلا إلى عامل مطهّر يحيل الإنسان إلى رتبة القداسة على خلاف اللّذّة. وبمجرّد دخول الجسد عالم الفنّ والإبداع لا بدّ له أن يلمس طرفي هذين الثّنائيّتين (اللّذّة والألم)، وحينئذ تذوب الحدود الفاصلة بين الفنّ والحياة في هذا الوسيط الجسديّ. فتصير كلّ منطقة من الجسد مستعملة كوسيلة ومرحلة داخل حكاية إشاريّة فنّيّة لفظيّة وموسيقيّة. هذه الحكاية تنتظم كتحوّل مستمرّ من إقليم جسديّ إلى آخر”[17].
4- فنّ كناوة… حينما يتكلّم الجسد:
4- 1- التّعريف بالفنّ:
يُشكّل الجسد خزّانًا ثقافيًّا رمزيًّا تُبلور من خلاله الذّات الإنسانيّة عن ما يختلج فيها من مشاعر وانفعالات، ألم ومعاناة، فرح وسعادة، وذلك حسب السّياقات التي تتحرّك في حدودها، عبر أشكال ولغات وصور متعدّدة للتّعابير الجسديّة كالغناء أو الايماءات أو الصّراخ أو الرّقص. أمّا بخصوص فنّ كناوة فإنّه يقوم بإيقاعاته الموسيقيّة وحركاته الجسديّة التّعبيريّة، حيث يمتزج البعد الجماليّ الفنّيّ مع الجانب الرّوحانيّ الطّقوسيّ، ليروي معاناة العبيد الأفارقة الذين تمّ تهجيرهم من بلدانهم وجيء بهم إلى المغرب في القرن 16 في زمن الحروب والتّجارة بالبشر[18]. فما هي إذن الدّلالات والمعاني التي تسكن عمق لغة الجسد المتداول في طقوس الكناوة؟ وكيف يمكن للجسد أن يمتلك وينتزع سلطة الكلام ليُسائل الوجود والاستغلال والعرق والهويّة والتّهميش؟
ولأنّ موسيقى الكناوة تقليدًا شفهيًّا، فإنّ ذلك أدّى إلى غياب دراسات موثّقة تؤرّخ لأصول هذا الفنّ الموسيقيّ، بيد أنّ الفرضيّات الأكثر رواجًا ترى أنّ أصل كلمة “كناوة” يعود إلى كلمة “قناوي”، بمعنى “القنّ” أي”العبيد”، وهم الرّجال السّود المنحدرين من جنوب الصّحراء الأفريقيّة، والذين جيء بهم إلى المغرب للعمل لدى العائلات الكبرى والأعيان، أو للخدمة العسكريّة في جيوش السّلاطين المغاربة[19]. في حين يرى البعض أنّ أصل موسيقى كناوة يعود إلى عاصمة مالي “تمبكتو”، والبعض الآخر يقول إنّها من السّودان. ومن خلال ملاحظة أزيائهم المزركشة، وقراقبهم النّحاسيّة، وطرابيشهم الملوّنة يتبيّن أنّها فنّ موسيقيّ إفريقيّ الأصل. فنجد أحد عازفي هذا الفنّ يسمّى ب”المْعلّم” يقول “إنّ العبيد أو أسرى الحرب، جيء بهم إلى المغرب، في القرن 16، في زمن الحروب وتجارة العبيد، انتشر هؤلاء الأشخاص في أرض المغرب، تزوّجوا واختلطوا بباقي المغاربة، وأنجبوا أطفالاً، ليصبحوا نساءً ورجالاً. هؤلاء الأشخاص تمسّكوا بتقاليدهم وحنينهم إلى أرض الأجداد وألفوا موسيقى كناوة[20].
تأسيسًا على ما سبق يمكن القول إنّ الفنّ الكناوي في البداية كان تقليداً هامشيًّا خاصًّا بالزّنوج المغاربة، وذلك في حدود الزّوايا الدّينيّة والاحتفالات الموسميّة. لكن منذ حوالي ربع قرن تقريبًا أصبح الاهتمام بموسيقى “الكناوة” المغربيّة في تزايد مستمرّ، فصار يستهوي الجيل الجديد من الفنّانين المغاربة، واهتمام موسيقيي الجاز والرّوك والبلوز الأجانب نظرا لإيقاعاتهم الموسيقيّة المميّزة[21]. الأمر الذي جعل منه ظاهرة فنّية موسيقيّة ذات طابع عالميّ، حيث خُصّص لهذا الفنّ مهرجان سنويّ عالميّ في مدينة الصّويرة. وإذا كانت موسيقى الكناوة في بداياتها الأولى تحكي آلام العبوديّة والاغتراب، فإنّها في المخيال الشّعبيّ قد ارتبطت بالشّعوذة واتّخذت بعدًا روحانيًّا سحريًّا.
4- 2- تعابير الجسد بين “الرّقص الموجّه” و”الجذبة”:
يتمّ التّمييز بين مستويين أو مرحلتين تعبيريّتين للجسد الرّاقص الكناوي، ويتعلّق الأمر بمرحلة “الفرجة الدّنيويّة” ومرحلة “الشّطحات الرّوحانيّة”. فمن خلال هذين المستويين يمرّ الجسد بإيقاعات حركيّة راقصة وموجّهة تغطّي المرحلة الدّنيويّة، وأخرى ارتجاليّة قريبة إلى الصّوفيّة أو الجذبة. وهذا يتمّ في ليلة طقوسيّة تنفرد فيها الفرقة الكناوية بالرّقص لحالها ويتمّ فيها إقصاء الجمهور بشكل مؤقّت إلى حين مرحلة افتتاح “الرّحبة”[22]. في هذه الأثناء يدخل الجسد في مستويات متعدّدة للحضور، حيث يكون له حضور روحانيّ وامتلاكيّ، وفي الوقت نفسه حضور استعراضيّ جماليّ. فعوض الاستعانة بالكتابة التّاريخيّة التي تخضع إلى سلطة ورغبات الأفراد، ممّا يؤدّي إلى تحريف وتشويه تاريخ هذه الجماعة وما تعرّضت إليه من معاناة وإقصاء، يكون الرّهان هنا على الجسد الكناوي الرّاقص بقدراته التّعبيريّة على تشكيل أنطولوجيّة رمزيّة، تاريخيّة، إيحائيّة، وسلطة في اكتساح المجال، والتّحرّر من كلّ القيود الاجتماعيّة والتّاريخيّة والثّقافيّة. بمعنى آخر أنّه في هذه المرحلة الدّنيويّة من طقوس “محلة أولاد بامبارا”، أي اللّيلة الكناويّة الطّقوسيّة، يكون الجسد الرّاقص المدوّنة الصّادقة والعميقة القادرة بلغتها الصّامتة على قول الحقيقة التي تعيد الهويّة وبناء الماضي، وتوثيق الوجود التّاريخيّ والممارسة الثّقافيّة من خلال الجسد كمكان ثابت للوجود في العالم.
إنّ النّاظر في مشاهد الرّقص الكناوي، أي في هذه التّراجيديا الطّقوسيّة الاحتفاليّة لليلة الكناويّة، يلحظ أنّها تعكس في عمقها سيميولوجيا الرّاقص السّارد الذي يعبّر عن مأساة العبوديّة في قالب فنّيّ حركيّ تشكّله وتبدع فيه جغرافيّة الجسد الذّاكرة، وفق مجموعة من الحركات الخاصّة للسّاقين والرّكبتين وإشارات اليدين وانحناءات الرّأس. فإذا كان الفنّان يستلهم تجربته الفنّية العميقة ليوظّفها في الرّسم أو كتابة أبيات من الشّعر، أو رسم لوحة فنّية يجسّد من خلالها دفقته الشّعوريّة[23]، فإنّ الرّاقص الكناوي يستعين بالموسيقى وبالرّقص لإيصال تجربته الانفعاليّة إلى الآخرين. فمثلا في رقصة تُدعى “سَوَيُّو” يقوم الرّاقص الكناوي بالرّقص وهو مقيّد السّاقين، متحرّكًا بإيقاعات خفيفة إلى أن يتلاشى القيد وتتحرّر حركاته نحو الأعلى بشكل عموديّ، إذ يقوم بالقفز نحو السّماء ودكّ الأرض، كما لو أنّ الجسد هنا يحاول النّفاذ إلى الباطن بحثًا عن الجذور. وتتمّ هذه الحركات بالموازاة مع عموديّة ضوء الشّموع وصعود دخان البخور نحو الأعلى. كلّ هذه العناصر تتداخل فيما بينها من أجل تشكيل طقوس تُجسّد عموديّة الجسد الرّاقص إعلانًا واحتفًاء بتحرّره. أمّا بخصوص الإيقاع الحركيّ الخفيف والبطيء في الرّقصة، فإنّ له دلالة سيميائيّة تحيل على التّحرّر من كافّة قيود العبوديّة للأسلاف، وعدم نسيان الماضي الأليم وما تعرّضوا له من إهانة. “لقد تمّ بيعهم في أسواق النّخاسة في مختلف بقاع العالم عبر السّفن ومات أكثرهم في الطّريق”[24].
يشكّل الجسد في هذا الصّدد الذّاكرة التي تقاوم الضّياع والتّشظّي، فعبر هذه الحركات والتّعبيرات التي تشكّل المخزون الإشاريّ للرّاقص الكناوي، يتمّ إحياء ما يحاول زمن العبوديّة محوه، وإعادة بناء الهويّة المفقودة وعن حقّها في الوجود. ويرافق هذه الحمولة الصّامتة للجسد المعبّرة عن معاناتها التّاريخيّة وحنينها إلى الأصول (بلاد السّودان)، ترديد بعض المقاطع الغنائيّة من قبيل:
دابا يجود الله
دابا يحنّ الله
سير وأجي حمادي
لبلاد السّودان سير
آربي العفو
سير وأجي
جابونا من السّودان
السّودان يا يمّة
السّودان غير عبيد
السّودان يا السّودان
جابوني وباعوني
فارقوني على حبابي[25]
وإذا ما حاولنا الوقوف عند دلالات هذا المقطع الذي يُغنّى بنبرات الحزن والأنين، فإنّنا نجده يفيض بالمعاناة المأساويّة التي تخدم وتزكّي تلك الرّقصات الجسديّة. كلماتٌ تجسّد فراق الوطن والأهل، وتوحي إلى تصورّهم لذاتهم، إذ هم مجرّد عبيد تمّ بيعهم وشراؤهم، فيستنجدون بالله ويطلبون منه العفو والفرج أملاً في استعادة الذّات والهويّة الأفريقيّة المفقودة[26]. وتحاول الجماعة الكناويّة في هذه اللّيلة أو ما يسمّى بــ”محلّة أولاد بامبارا” خلقَ متنفّس وفضاء، ولو بشكل مؤقّت، بعيداً عن المجتمع الواقعيّ. مجال ينعمون فيه بشيء من الحرّية ويحتفلون بثقافة الجسد والرّقص بطريقتهم الخاصّة، بعيدًا عن ما هو رائج في المشهد الثّقافيّ العاديّ والمشترك بين عامّة النّاس. وبالتّالي فهو فضاء أسطوريّ طقوسيّ غنيّ برموز وإشارات الجذور والأسلاف، التي تحقّق لهم انتماءهم الوجدانيّ. فمثل هذه الأماكن هي أكثر من مجرّد بقع على الأرض، إذ ترمز إلى مجموعة من الصّفات الثّقافيّة المميّزة، وتقول شيئًا ليس فقط عن أين تسكن، ولا من أين أنت، وإنّما من أنت؟[27]. بمعنى أنّه في هذا الجوّ الغنائيّ، حيث الاحتفاء بالجسد الرّاقص، تتشكّل لحظة فارقة في معرفة الذّات، تأخذ موقفا تجاه العالم، من خلال مساءلة الكينونة والهويّة والانتماء.
إنّ هذا الهاجس الوجوديّ الذي يُحاول تشكيل الذّات المدمّرة والهويّة المفقودة، يظلّ مرافقًا للجسد الكناوي في كلّ رقصاته وتموّجاته. لكنّ هذا المشهد الجماليّ (الدنيويّ) الطّقوسيّ لليلة الكناوية لا يقف عند هذا الحدّ، وإنّما يتعدّاه إلى تجربة روحيّة ومعتقدات موروثة، تتجلّى في طقوس “الجذبة” كرقص غير موجّه (المرحلة الثّانية من تعابير الجسد). وهي مرحلة تُعبّر عن وصول الرّاقص الكناوي إلى أقصى درجات الانسجام والتّماهي مع الإيقاع الموسيقيّ الرّوحانيّ، الذي يكون مصحوبًا بإيقاع صاخب لآلات محدّدة وخاصّة “القراقب” و “الهجهوج” مع التّصفيق باليد. في تلك اللّحظة يصير الجسد هو الكينونة الغامضة والصّامتة التي تحتوي هذا السّلوك الطّقوسيّ المعقّد.
إنّها ممارسة فيها نوع من التّطهير والتّحرير للجسد عبر الموسيقى والرّقص، الذي يحوّله من الجسد الاجتماعيّ المتشبّع بالعادات والقيم الأخلاقيّة، إلى جسد روحانيّ يدخل في عوالم خاصّة. هكذا تكون”الجذبة” شكلاً تعبيريًّا تعويضيًّا، يفسح المجال للأهواء والمواقف الإنسانيّة والانفعالات المقموعة التي كانت خاضعة لإكراهات الواقع، بالبروز الخروج إى الوجود والتّعبر عن نفسها. فتصير “الجذبة” هنا نوعًا من بيداغوجيّة الوجود التي تكشف بشكل رمزيٍّ دفينٍ عن الظّواهر النّفسيّة والعائليّة والاجتماعيّة. إنّها سجلٌّ من الدّلالات التي تسمح بعرض حكاية حياة الذّات[28]. هذا يتوافق، إلى حدّ ما، مع ما جاء به هيجل في كتابه (علم الجمال)، حيث يرى أنّ هدف الفنّ النّهائيّ هو تخفيف الهمجيّة وتهذيب الأخلاق، لأنّه يجعل الإنسان يواجه غرائزه وكأنّها غريبة عنه، وفي ذلك إنقاذ لنفسه من تلك القيود والغرائز التي تقيّد حرّيته على اعتبار أنّ تحويل الأهواء والغرائز إلى موضوع قابل للتّصور يفقدها قوّتها، ويجرّدها من ثقلها وكثافتها. فيكفي إذن أن نجسّد آلامنا إلى الخارج (الرّقص) حتّى نتخلّص منها. فيصير الفنّ مثل “الدّين”، ما دام أنّه يُحاول التّعبير عن حاجات ومتطلّبات الرّوح[29].
وعليه إذن فإنّ الجسد في لحظة الجذبة يحاول النّفاذ والغوص في أعماق الذّات الجاذِبة، حيث تأثير الموسيقى يُفجّر طاقة الجسد الجذّاب، فيجعله ينخرط في سيولة تعبيريّة حركيّة (تبدأ بالرّأس حتّى القدمين)، تُحيل إلى تمرّد الذّات وتجاوز الواقع، ولو بشكل مؤقّت، من خلال السّفر الطّقوسيّ الأسطوريّ لروح الكناوي إلى أرض الأسلاف. كما لو أنّ الجسد هنا يحتوي مسبقًا على خطاطة مألوفة للسّفر صوب الأجداد. ويكون ذلك عبر رقصات كوسمولوجيّة، من خلال دوران الجسد الذي يجسّد إعادة ترتيب الأمكنة والفضاءات. هذا الاعتقاد في الرّقص يُشبه إلى حدٍّ ما الطّقوس الهنديّة التي تؤمن بكون الرّقص المقدّس الطّقوسيّ من شأنه إعادة خلق العالم من جديد.
هنا وجب لفت الانتباه إلى أنّ الذّات الجاذبة تمارس تعبيرها الجسديّ بمعزل عن الآخر، بمعنى أنّها لا تلتقي في إنجازها الحركيّ مع الجماعة، وبالتّالي فالجذبة أشبه ما تكون بصفحة بيضاء، لأنّها تبدأ من الصّفر في كتابة الجسد الرّاقص، ما دامت غير مجسّدة في قالب حركيٍّ إيقاعيٍّ إشاريٍّ محدّد ومتعارف عليه داخل المجتمع الكناوي[30]. وهذا ما يجعل الذّات الرّاقصة منغمسة في عالمها الخاصّ السّديميّ، وغيرَ مكترثة للجمهور الذي ينتظر مشهدًا جماليًا فنّيًا يتحقّق عبر الرّقص الموجّه وفق تعبيرات جسديّة متناسقة، كما هو الحال في كلّ الرّقصات التي تخضع حركاته لإيقاعات الموسيقى حتّى يتمّ تقييمها جماليًا، عبر توافقٍ إيمائيٍّ واعٍ وإراديٍّ قابل للتّداول كخطاب راقص.
5- الخاتمة:
يبدو مما سبق أنّ مساءلة الجسد بمثابةِ تساؤلٍ جدّيٍّ عن كيف نحيا بأجسادنا؟ وفي هذا الصّدد يقول فاليري: “اعرف نفسك بنفسك جسديًّا”. وهذا نداءٌ لنا لكي يكتشف كلٌّ منّا جسده ويحاول أن يفهمه وأن يمتلك المقدرة على فكّ شفرة لغزه.[31] فالجسدٌ مكوّنٌ يصعب قراءته، ذلك أنّ محاولة قراءته ستكون بمثابة استخراجٍ لمكبوتاته وتجاربه القديمة، وإحياء ذكرياته المدفونة. لكن وإن كانت قراءة ما يحمله من دلالات صعبة، فإنّ ذلك سيُترجم إلى حركات ورقصات تجعل الجسد يُخرج كلّ ما يجول في داخله. فالجسد تحكمه سلطات وقيود تبعث فيه الخوف من جسده بالتّحديد، والخوف من انفعالاته التي يكون انتصارها بمثابة سقوط للعقل والحقيقة[32]. وهذا ما يجعل الرّقص الكناوي من أخصب التّعبيرات التي ترتكز على الجسد، حاملةً في طيّاتها تفاصيلَ جذور الذّات ومعاناتها الثّقافيّة والعرقيّة على مرّ التّاريخ. فيمتزج الفرح والحزن، الأسطوريّ والدّينيّ، الألم والحنين، المأتميّ واللّعبي في قالب فنّي طقوسيّ جماليّ فرجويّ، يتّخذ من خلاله الجسد الرّاقص الكناوي بُعداً تواصليًا في امتداده مع العالم، وذلك من خلال الوضعيّات المختلفة التي يتّخذها من حركات وإيقاعات وإشارات. فالتّواصل الذي يحدث بين الرّاقص الكناوي والجمهور يكون ذا مصداقيّة وصيغة خاصّة مادام أنّه يُحاكي تجربتهم الخاصّة والمشتركة. بمعنى آخر أنّ القيمة الجماليّة للجسد هنا تكمن في بعده التّواصليّ.
قائمة المصادر والمراجع:
المراجع باللّغة العربيّة:
- إنغليز (ديفيد) وهغسون (جون): “سوسيولوجيا الفنّ، طرق للرّؤية“، ترجمة ليلى الموسوي، مراجعة محمّد الجوهري، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو 2007.
- بخساس (شيماء): تعرّف كيف وصلت موسيقى الكناوة إلى المغرب، صوت ultra، 2017.
- جراهام (جوردون): مدخل إلى علم الجمال، فلسفة الفنّ، ترجمة محمّد يونس، الأمل للطّباعة والنّشر- القاهرة، 2013.
- حيول (محمّد): فلسفة الجسد، الحوار المتمدّن، 17/01/2013.
- الزّاهي (فريد): الجسد والصّورة والمقدّس في الإسلام، أفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء، 1999.
- الصّالحي (عبد الإله): موسيقى كناوة: طقوس للاستشفاء، العربيّ الجديد، 2014.
- صيّاد (أحمد سيّد): تكوين الممثّل بين ستاتسلافسكي وقرودوفسكي، دراسة مقارنة، رسالة لنيل شهادة الماجستير، وهران-جامعة السّانيا، 1994.
- أبو عرب (محمّد): “كيف يروي الجسد تاريخنا العربيّ؟”، رصيف 22، 2016.
- عطيّة (أحمد عبد الحليم): فلسفة الجسد، تأليف سمية بيدوح، دار التّنوير للطّباعة والنّشر والتّوزيع- تونس، 2009.
- العكش (منير) وآخرون، أدونيس الحوارات الكاملة (1980-1960)، بدايات للطّباعة والنّشر والتّوزيع، دمشق، 2005.
- الكبيسي (محمّد علي): الجسد ولعبة الأسماء في كتاب تاريخ الجنون، مجلّة الفكر العربيّ العالميّ، مركز الإنماء العربيّ، بيروت، العدد 1، 1988.
- كرانغ (مايك): الجغرافيا الثّقافيّة، ترجمة سعيد منتاق، عالم المعرفة، العدد 317، يوليو 2005.
- الكاشف (مدحت): اللّغة الجسديّة للممثّل، أكاديمية الفنون، دراسات ومراجع المسرح، القاهرة، 2002).
- مشذوب (علاء): الجسد صورة.. سرد، الطّباعة والنّشر والتّوزيع، بغداد، 2014.
- مصطفى (شاكر): الأدب في البرازيل، سلسلة عالم المعرفة، عدد 101، 1986.
- محمّدي (عبد القادر): سميائيّات الجسد في طقوس كناوة: بحث في الهويّة والامتداد، أنفاس، 31/12/2017.
المراجع باللّغة الأجنبيّة:
- David le Breton, La Sociologie du Corps, Paris: Editions Corrigee, 1997.
- Jean- Francois Bert, “Mise en scene, mise en image: la representation du corps dans les histoires de Michel Foucault”, in question de Communication, n 4, 2003.
- Patrice Pavice, L`analyse des spectacles, Paris: Nathan, 1996.
- Tobie Nathan, “Transe et thérapie” in psychologie, Tome 29, n2.
[1]– محمد أبو عرب: “كيف يروي الجسد تاريخنا العربيّ؟”، رصيف 22، 2016، (موقع إلكتروني). شوهد في تاريخ 23/10/2020 https://raseef22.net/article/77777-
[2]– المرجع نفسه.
[3]– علاء مشذوب: الجسد صورة.. سرد، بغداد الطّباعة والنّشر والتّوزيع، 2014، ص83.
[4]– فريد الزّاهي: الجسد والصّورة والمقدّس في الإسلام، أفريقيا الشّرق- الدّار البيضاء، 1999، ص32.
[5]– أحمد عبد الحليم عطيّة: فلسفة الجسد، دار التّنوير للطّباعة والنّشر والتّوزيع، تونس، 2009، ص6.
[6]– أحمد عبد الحليم عطيّة: فلسفة الجسد،مرجع سابق، ص22.
[7]– المرجع نفسه، ص19.
[8]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[9] -Jean- Francois Bert, “Mise en scene, mise en image: la representation du corps dans les histoires de Michel Foucault”, in question de Communication, n 4, 2003.Vu dans 23/10/2020. http://questionsdecommunication.revues.org/5644
[10]– David le Breton, La Sociologie du Corps (Paris: Editions Corrigee, 1997), 9.
[11]– ديفيد إنغليز وجون هغسون: سوسيولوجيا الفن، طرق للرؤية، ترجمة ليلى الموسوي، مراجعة محمّد الجوهريّ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو 2007، ص44.
[12]– محمد حيول: فلسفة الجسد، الحوار المتمدّن، 2013 ,17/01/شوهد في تاريخ 23/10/2020 https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=341446
[13]– مدحت الكاشف: اللّغة الجسديّة للممثّل، أكاديميّة الفنون، دراسات ومراجع المسرح، القاهرة، 2002، ص56.
[14]– أحمد سيّد صيّاد: تكوين الممثّل بين ستاتسلافسكي وقرودوفسكي، دراسة مقارنة، رسالة لنيل شهادة الماجيستير، وهران-جامعة السّانيا، 1994، ص4.
[15]– منير العكش وآخرون: أدونيس الحوارات الكاملة (1980-1960)، بدايات للطّباعة والنّشر والتّوزيع، دمشق، 2005، ص63.
[16]– علاء مشذوب: الجسد صورة.. سرد، مرجع سابق، ص89.
[17]– Patrice Pavice, L`analyse des spectacles, (Paris : Nathan, 1996), 263.
[18]– عبد القادر محمّدي: سميائيات الجسد في طقوس كناوة: بحث في الهويّة والامتداد، أنفاس، 31/12/2007 ، شوهد في تاريخ 24/10/2020. في http://alantologia.com/blogs/330/
[19]– عبد الإله الصّالحي: موسيقى كناوة: طقوس للاستشفاء، العربيّ الجديد، 2014 29/09/..(موقع إلكتروني) شوهد في تاريخ 23/10/2020… https://www.alaraby.co.uk
[20]– شيماء بخساس: تعرّف كيف وصلت موسيقى الكناوة إلى المغرب؟، صوت ultra، 13/07/، 2017، (موقع إلكتروني) شوهد في تاريخ 23/10/2020 https://www.ultrasawt.com
[21]– المرجع نفسه.
[22]– خلال مرحلة الرّحبة يتعاطى الجمهور مع الطقوس الرّوحانيّة في شكل جذبة هي أقرب إلى تموّجات أجساد صوفيّة.
[23]– جوردون جراهام: مدخل إلى علم الجمال، فلسفة الفنّ، ترجمة محمّد يونس، الأمل للطّباعة والنّشر، القاهرة، 2013، ص53.
[24]– شاكر مصطفى: الأدب في البرازيل، سلسلة عالم المعرفة، عدد 101، 1986، ص27.
[25]– عبد القادر محمّدي، سميائيات الجسد في طقوس كناوة: بحث في الهوية والامتداد، الأنطولوجيا، 31/12/2017. موقع إلكتروني، شوهد بتاريخ: 23/10/2020 https://alantologia.com/blogs/330/
[26]– مايك كرانغ: الجغرافيا الثّقافيّة، ترجمة سعيد منتاق، عالم المعرفة، العدد 317، يوليو 2005، ص232.
[27]– المرجع نفسه، ص141-142.
[28]– Tobie Nathan, “Transe et thérapie” in psychologie, Tome 29, n2, 180.
[29]– علاء مشذوب: الجسد صورة.. سرد، مرجع سابق، ص90.
[30]– عبد القادر محمّدي: سميائيات الجسد في طقوس كناوة: بحث في الهويّة والامتداد، مرجع سابق.
[31]– أحمد عبد الحليم عطية، فلسفة الجسد، مرجع سابق، ص11.
[32]– محمّد علي الكبيسي، الجسد ولعبة الأسماء في كتاب تاريخ الجنون، مجلّة الفكر العربيّ العالميّ، العدد 1، 1988، مركز الإنماء العربيّ، بيروت، ص107.