ملخّص:
تندرج إيتيقا المسؤوليّة لهانس يوناس في إطار الإيتيقا المعاصرة وقد تبلورت عبر سيرورة من النّقد الذي اتّخذ عنده عدّة أوجه؛ فهي نقد للعدميّة الأخلاقيّة التي يلتقي فيها الدّين الغنوصيّ القديم والعلم التّقنيّ الحديث مع وجودانيّة فلسفة هايدغر. وهي أيضا نقد للأخلاقيّة الكلاسيكيّة وخاصّة مع صورتها الكانطيّة التي قامت على مفهوم الاحترام، وليوطوبيا إرنستبلوخ التي قالت بمبدأ الأمل. في مقابل كلّ ذلك، قدّم هانس يوناس تصوّره الجديد للمسؤوليّة باعتبارها مبدأ أخلاقيّا انطلاقا من عدّة أسس أبرزها: حفظ الحياة عوض الأشكال التّقليديّة للخير الأسمى، والعلاقة العموديّة محلّ الـتّأسيس الأفقيّ، ورعاية الطّبيعة بدل السّيطرة عليها، والتّسلّح بالخوف مكان الأمل. ثمّ التّوجّه إلى المستقبل والانفتاح عليه عوض الارتهان بالحاضر، بما يجعلها مسؤوليّة تجاه الطّبيعة وتجاه الأجيال القادمة والإنسانيّة عموما لإنقاذها من عدميّة الحضارة التّكنولوجيّة.
الكلمات المفتاحية: هانس يوناس، الإيتيقا، المسؤوليّة، الخوف، المستقبل، الحضارة التّكنولوجيّة.
Abstract:
Hans Jonas’s ethics of responsibility falls within the framework of contemporary ethics, and has been crystallized through a process of criticism that has taken several aspects. It is a criticism of moral nihilism in which the ancient Gnostic religion and modern technical science, meet with the existentialism of Heidegger’s philosophy. It is also a criticism of classical morality, especially with its Kantian form, which was based on the concept of respect, and Ernst Bloch’s utopia, which spoke of the principle of hope. In contrast to all of this, Hans Jonas presented his new perception of responsibility as a moral principle based on several foundations, the most prominent of which are: preserving life instead of traditional forms of the highest good, vertical relationships instead of horizontal foundations, caring for nature instead of controlling it, and arming yourself with fear instead of hope. Then the future to which you should turn instead of the present, which makes it a responsibility towards nature, future generations and humanity in general to save it from the nihilism of technological civilization.
Keywords: Hans Jonas, ethics, responsibility, fear, future, technological civilization.
1- مقدمة:
إذا كان الإنسان يتّصف بالأخلاقيّة the morality، فإنّ التّفكير في الأخلاق من وجهة نظر فلسفيّة يطرح العديد من الإشكالات من بينها معياريّة المبدأ الأخلاقيّ أو الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه الحكم الأخلاقيّ([1]). وإذا كان هذا المعيار قد تراوح في تاريخ الفلسفة بين الخصوصيّة والكونيّة، وبين الذّاتيّ والموضوعيّ، وبين الخاصّ والعامّ، فإنّه من بين دوافع تعدّد معايير المبدأ الأخلاقي- بالإضافة طبعا إلى اختلاف الأنساق الفلسفيّة- طبيعة الواقع الذي تريد الأخلاق معالجته. ولعلّ هذا ما أغنى تاريخ الفلسفة الأخلاقيّة باتّجاهات متنوّعة ومتعدّدة. لكنّها، ورغم تعددها واختلافها، تتّفق على قاعدة مفادها أنّ الإنسان لا يسلك كحيوان، بل وفق قواعد ومبادئ. ينبغي تفكّرها في ضوء تقدّم العلوم والتّقنيّات ومستجدّات الفاعليّة البشريّة.
إنّ الخوض في قضايا الأخلاق أمر بالغ الصّعوبة نظرا إلى اعتبارات عدّة أهمّها: ضرورة التّأسيس المستمرّ لها وتأطير أبعادها ومعاييرها ومحدّداتها ومرتكزاتها في ظلّ غنى الشّرط الإنسانيّ وتجدّده. ولعلّ لانهائيّة القضايا والإشكالات التي تطرحها الأخلاق وتواشجها مع قضايا أخرى مركزيّة في الوجود الإنسانيّ (مثل العدالة والبيئة والتّعدّد الثّقافيّ…)، جعلتها محطّ اهتمام الكثير من الفلاسفة الذين أعادوا طرح المشكلة الأخلاقيّة في الفلسفة المعاصرة، ونمثّل لهؤلاء بأحد الفلاسفة المعاصرين الألمان وهو هانس يوناس الذي تميّز بمقاربة تنطلق من شرطيّة الإنسان المعاصر التي تتمثّل في التّحدّي الذي بات يفرضه خطر الحضارة التّقنيّة، وقد خصّص لذلك كتابه الموسوم بـ”مبدأ المسؤولية“([2])، وسعى من خلاله إلى معالجة مشكلة العدميّة (تجاه الحياة والمعنى والقيمة والغاية…) من خلال إيتيقا للحياة لحلّ الإشكال التّالي: إذا كانت الأخلاق ترتبط عموما بالكونيّة والشّموليّة من جهة وبالغيريّة من جهة أخرى، فهل يمكن للأخلاق التّقليديّة، التي تكرّست عبر التّاريخ الطّويل للفلسفة، أن تجيب عن معضلات الحضارة التّقنيّة أم هل أنّ الأمر يتطلّب التّأسيس لإيتيقا جديدة؟ وإذا كان الجواب يكمن في ضرورة التّأسيس لهذه الإيتيقا الجديدة، فما هو رهانها؟ وعلى أيّ أساس تقوم؟ ماهي شروطها؟ وبأيّ معنى ينبغي أن تتميّز عن الإيتيقا التّقليديّة وتعيد الاعتبار للحياة الإنسانيّة الأصيلة؟ أين تكمن جدّة الفعل الأخلاقيّ اليوم؟ وهل يشكّل التّفكير في السّلوك الإنسانيّ أخلاقيّا اليوم مدخلا لمواجهة العدميّة الرّاهنة؟
2- مشكلة الفراغ الأخلاقيّ:
رغم زخور تاريخ الفلسفة بمذاهب أخلاقيّة متنوّعة منذ اليونان إلى العصر الحديث، تكشف الحضارة المعاصرة بما هي حضارة تكنولوجية، عن فراغ أخلاقيّ vaccumethic كرّسته الفلسفة نفسها حتّى صرنا أمام مفارقة أخلاقية مفادها أنّه في الوقت الذي تتوافر للإنسانية المعاصرة تراكمات مذهبية أخلاقية كثيرة فهي أيضا فاقدة للجواب الأخلاقي عن مشكلاتها. أي أنه في زمن تحتاج فيه الإنسانيّة إلى الأخلاق، لا تستطيع الأخلاقيّات السّابقة أن تسدّ هذه الحاجة. وبتعبير آخر، توجد “تخمة أخلاقيّة” بقدر وجود “فقر أخلاقيّ” . فكيف ذلك؟
منذ اليونان، ربط أرسطو (384 ق.م -322 ق.م) الإيتيقا، بما هي حكمة نظريّة وعمليّة لتدبير الحياة الجماعيّة (السياسيّة أو المدنيّة)، بالفضيلة بصفتها غاية عامّة وشموليّة لهذه الحياة([3])، وبالتّالي ليست الفضيلة عنده مجرّد نمط فرديّ للعيش، بل هي دوما موجّهة نحو الغير، وهذا ما يجعل منها خيرا أسمى، ومعها تتحقّق السّعادة باعتبارها خيرا أخلاقيّا، فالإنسان يسعى إلى الخير لكي يكون سعيدا به. من هنا، تعتبر الممارسة البشريّة فعلا غائيّا وليس تحرّكا آليّا. وسلطة التّدبير السّياسيّ المبنيّ على أساس العقل الفلسفيّ هي التي تضع هذه الغايات في نطاق علم اصطلح عليه بـ “السياسة”. في هذا التّصوّر الذي يجعل من الأخلاق فضيلة سياسيّة أو مدنيّة، نجد أنّ القانون الأخلاقيّ الأرسطيّ مرتبط بالفضيلة باعتباره خيرا أسمى. وهو في ذلك يعبّر عن المرجعيّة الثّقافية للإغريق بصفته مرجعيّة سياسيّة، ثم إنّه موجّه نحو تحقيق السّعادة (الجماعيّة)([4]). وقد عرّف أرسطو الفضيلة، بما هي غاية الفعل الإنساني المكتمل، من جهة، على أنّها توسّط بين تطرّفين. أي أنّها تقوم على معيار الوسط العادل، فالكرم مثلا توسّط بين البخل والإسراف. ومن جهة أخرى عرّفها بكونها مقولة عامّة تشتمل على مختلف الخيرات الخارجيّة كالثّروة، والجسديّة كالمتعة، والنّفسيّة كالعقل أي أنّها ترد بمعنى القدرة.
وإذا كانت الغنوصيّة بعد ذلك قد انتهت إلى عدميّة أخلاقيّة مؤسّسة على العدميّة الكوصمولوجيّة القائمة على ثنائيّات: الإله/العالم، الإنسان/العالم، النّور/ الظّلام… حيث لا التزام أخلاقيّ أو تكليف للإنسان تجاه العالم الذي ينبغي التّحرر منه بالكشف عن الشّرارة الإلهيّة ومعرفة gnôsis الجانب النّوراني (الإلهيّ) في الإنسان الذي يوجد في وضعيّة السّكران أو النّائم، فإنّ التّصور الفلسفيّ الأخلاقيّ في العصر الوسيط ظل مرتبطا بالأرسطيّة مع التّوفيق بينها والمرجعيّة الدّينيّة، حيث ستصبح غاية الفعل الأخلاقيّ هي نفسها الغاية الإلهيّة باعتبارها مصدر كلّ خير مع إضفاء طابع المعقوليّة على هذا التّصوّر الغائيّ.
وفي مقابل التّصوّر الثّيولوجيّ للعصر الحديث المستلهم للبراديغم الأرسطيّ، سيقوم العلم الحديث على تصوّر معيّن للعلميّة الموضوعيّة تنفي أيّة غائيّة أو قيمة/خير أو ذاتيّة عن قوانين الطّبيعة الفيزيائيّة المكتوبة بلغة رياضيّاتية، وبالتّالي تقصّي المنظور الأخلاقيّ عن علاقة الإنسان بالطّبيعة باعتباره حكما ذاتيّا مسبقا مضادّا لكلّ علميّة، غير أنّنا سنجد أنّ العصر الفلسفيّ الحديث عمل على تجاوز هذه العدميّة الأخلاقيّة بتطويره للعديد من التّصوّرات الأخلاقيّة التي أعادت النّظر في أساس الفعل الأخلاقيّ وفي مفهوم الخير([5]). ومن بينها نجد تصوّر ديفيد هيوم (1711 – 1776) الذي اعتبر أنّ أفعال البشر لا تخضع لمعيار ثنائيّة الصّدق والكذب الذي نجده في المعرفة، بل ترتبط بمعيار آخر يتمثّل في ثنائيّة “الخير” الذي نميل إليه ونقبله، و “الشّر” الذي ننفر منه ونرفضه. بهذا المعنى، فإنّ الحياة الأخلاقيّة تتطلّب الرّجوع، حسب هيوم، إلى الطّبيعة البشريّة، وإلى مفهوم الإحساس لأنّ الجانب الأخلاقيّ في نظر هيوم موضوع إحساس وليس موضوع أحكام عقلية([6]). وهذا ما جعل هيوم يقول أنّ الفضائل الأخلاقية تقوم على ما يسمّيه بالحسّ الأخلاقيّ كمفهوم موجّه ضدّ التّوجّهات العقلانيّة والثّيولوجيّة. ولعلّ هذا ما نستشفّه من قوله: «نحن نقبل بفعل ما بوصفه خيرا أو نرفض فعلا ما بوصفه شرا لأنّه يولد فينا انطباعا بالرّضى والقبول والمدح أو بالألم والنّفور والذّمّ»([7]). ففضائل مثل: التّضامن والكرم والوفاء… هي فضائل أخلاقيّة مقبولة عند الجميع أو بالأحرى لدى الحسّ السّليم، ونحن نميل بحكم طبيعتنا البشريّة إلى الأفعال الأخلاقيّة الفاضلة ونتعاطف معها. وإذا كان الإحساس بالجميل إحساسا إستطيقياésthétique ، فإن الإحساس بالخير من ماهية إتيقيّةéthique يختلف باختلاف ظروف الإحساس نفسه: الخير أو الشّرّ، السّرور أو الحزن، الحبّ أو الكراهيّة، الرّغبة أو النّفور، الأمل أو الإحباط… أي ما يولّد اللّذّات من جهة وما يولّد الألم من جهة أخرى.
هكذا إذن نرى أنّ فكرة الخير الأسمى التي تبلورت مع الفلسفة اليونانيّة كفضيلة، أخذت شكل إحساس لدى هيوم، لكنّها ستأخذ شكل “حساب” في النّزعة الأخلاقيّة النّفعيّة التي تأثّرت بالنّزعة التّجريبيّة، فمع جرمي بنثام (1748 – 1832) مثلا، نجده يؤكّد أنّ الخير الذي يمكن أن يجنيه الإنسان هو السعادة كغاية موجهة للأخلاق، لكن النّفعيّة ترى السّعادة بوصفها حسابا أو عددا وليس فضيلة، فالفعل الأخلاقيّ هو الذي يحققّ السّعادة الأكبر لأكبر عدد من النّاس. إنّ المنفعة هي غاية الأفعال البشريّة وأساس الحياة الأخلاقيّة أيضا. فما يحدّد معياريّة الفعل الأخلاقيّ حسب بنثام ليس المبدأ، بل النّتيجة التي ينبغي أن تكون نافعة لأكبر عدد من النّاس. وليست المنفعة خيرا وغاية إنسانيّة إلاّ لأنّ الإنسان أنانيّ بطبعه محكوم بثنائيّة اللّذّة والألم حسب نزعة المنفعة العامّة([8])؛ إذ يقول بنثام: «لقد وُضِعَت الطّبيعة البشريّة تحت سيطرة سيّدين متسلّطين هما: الألم واللّذّة»([9]). لذلك لا يمكن تأسيس الفعل الأخلاقيّ على مبدأ مفارق للطّبيعة البشريّة كالواجب أو الفضيلة، بل إنّ بنثام رفض صيغة “ينبغي” لأنّها تقييد وسلطة على الميولات الطّبيعية للنّاس. ولهذا تتأسّس الأخلاق النّفعيّة على مبدأ مُحايث للطبيعة البشرية هو السعي نحو أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس. فدور الفيلسوف ليس أن يقول للنّاس: “ينبغي فعل كذا” وإنّما أن يقول: «إنّ من طبيعة الإنسان أن يفعل كذا»([10]). فهل يمكن أن نتصوّر المبدأ الأخلاقيّ في استقلال عن الواجب أو الإلزام؟
إنّ مذهب السّعادة([11]) لا يقصي مذهب الواجب بما هو القانون الذي يفرض علينا البحث عن كمالنا وعن سعادتنا الحقيقية. معنى ذلك أنّ الأخلاق لا تقدّم نفسها إلاّ في شكل واجب، خصوصا وأنّ الأخلاق تهمّ المجال العمليّ بما هو مجال الحياة المشتركة بين الأنا والغير. هذا الواجب اتّخذ في الكانطية شكل قانون أو تشريع. فإذا كانت الأخلاق ما قبل كانط واقعية، عمليّة ومعتدلة وخاصة عند أرسطو([12]) فإنّ الأخلاق الكانطيّة مجرّدة وقطعيّة، وهي كذلك لأنّها ليست طبعا أو شعورا تفسّره الحياة النّفسيّة أو الاجتماعيّة، بل قانونا عقليّا خالصا. تلك هي مهمّة ميتافيزيقا الأخلاق عند كانط (1724-1804) وهي بحث شروط تحوّل العقل الخالص إلى عقل عملي.
إن الأخلاق تشريع للعقل العملي الخالص، هذا التّشريع يصبح واجبا أخلاقيّا ملزما لكل الكائنات العاقلة بصرف النّظر عن أيّ اعتبار آخر. بمعنى أنّها تحديد لما ينبغي أن يكون عليه التّصرّف تبعا للاستقلال الذّاتيّ للإرادة بما هي إرادة([13]) عاقلة خالصة، حرّة([14]) وكونيّة ومُشَرِعَة تستمدّ قيمتها من ذاتها([15]). هكذا نرى أنّه إذا كان أرسطو قد دعم فكرة الأخلاق بفكرة الفضيلة، فإنّ الأساس الدّاعم للقانون الأخلاقيّ في إيتيقا كانط هو العقل. وإذا كانت السّعادة هي الخير الأسمى في الأرسطيّة، فإنّ فكرة الخير الأسمى حضرت أيضا في الكانطيّة لكن تحت اسم “الإرادة الخيّرة المطلقة”، رهان فلسفة الأخلاق إذن عند كانط هو أن تصبح الإرادة الأخلاقيّة إرادة خيّرة، ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ عن طريق الاستقلال الذّاتيّ للإرادة أو الحرّيّة. وبالتّالي لا يؤسّس كانط منظوره الأخلاقيّ على السّعادة أو المنفعة أو الإحساس لأنّ ذلك سيجعل من الكائنات العاقلة (الأشخاص) أشياء أو مجرّد وسائل وبالتّالي تفقد الأخلاق طابعها الكونيّ وتفقد الكرامة الإنسانيّة احترامها.
بعد هذه اللّمحة السّريعة على بعض المذاهب الأخلاقيّة التّقليديّة، يتّضح أنّ القاسم المشترك بينها هو ربط الفعل الأخلاقيّ بالخير كغاية مباشرة، سواء اتّخذ شكل فضيلة أو منفعة أو إحساس أو واجب عقليّ، وهنا يتدخّل النّقد اليوناسيّ، ليبيّن أنّ ما يجعل هذه الإيتيقا التّقليديّة عاجزة عن أن تكون إيتيقا للإنسان المعاصر، في نظره، هو افتقارها للقدرة على استشعار الخطر الذي يهدّد حياة الإنسان، وبالتّالي غايتها ليست حفظ النّوع البشريّ حاضرا ومستقبلا، بل تحقيق فضيلة أو سعادة أو كمال وكرامة الإنسان. وهذا ما جعلها إيتيقا متمركزة حول الإنسان، حيث تراه ماهيّة ثابتة ومنفصلة عن الطّبيعة، ممّا حال بينها وبين الميتافيزيقا بما هي بحث في شرط كينونته. ومردّ ذلك في نظر يوناس هو جدّة العصر التّقنيّ الذي يعتبر شرط انبثاق إيتيقا جديدة متمثّلة في “التّهديد” الذي تفرضه الحضارة التّقنيّة.
3- إيتيقا المسؤوليّة والشّرط التّكنولوجيّ:
يقول يوناس منتقدا الأخلاق التّقليديّة: «ولا واحدة من الأخلاق التّقليديّة استطاعت أن تأخذ بعين الاعتبار الشّرط الكلّي للحياة الإنسانيّة والمستقبل البعيد ووجود النّوع نفسه»([16]). وفي هذا الحكم يؤاخذ هانس يوناس على الأخلاق التّقليديّة، بصيغة جامعة قاطعة، إهمالها لشرطيّة الحياة الإنسانيّة من جهة أولى، والمستقبل من جهة ثانية، والنّوع الإنسانيّ من جهة ثالثة. وفي المقابل دعا إلى ضرورة التّأسيس لـنموذج أخلاقيّ جديد يقوم على “مبدأ المسؤوليّة”. ويكمن مبرّر هذه الدّعوة في الأطروحة التّالية: «إنّ وعد التقنية الحديثة انقلب إلى تهديد للطبيعة بما فيها الطبيعة الإنسانية، وإنّ التّحدي المطروح اليوم على الأخلاق هو الحفاظ على الطّبيعة والإنسان، أي على الحياة. لذلك تشكّل التّقنية أرضا جديدة(بكرا) للتّفكير الأخلاقي لأنها مجالا للممارسة الجماعيّة»([17]). فخطر التّقنية التي صارت ديناميّة عالمية، يضع المسؤوليّة في مركز الإيتيقا ويعطي الأولويّة لإحساس الخوف على حساب الأمل منتقدا بذلك يوطوبيا إرنست بلوخ. وهنا يشترك يوناس مع هوبس في جعل الخوف أساس التّشريع وإن كان يكتسي عند كلّ واحد منهما دلالة مختلفة عن الآخر. إنّه تهديد لحقّ القريب الذي يشاركنا الحياة، وقد عبر يوناس عن منطلقه في ذلك بالقول: «أطروحتنا هي أن الأشكال الجديدة والأبعاد الجديدة للفعل الإنسانيّ تستدعي إيتيقا التّبصّر والمسؤوليّة تتلاءم معها، وهي أيضا جديدة مثل جدّة الاحتمالات التي تتعامل معها»([18]) .وهكذا نجد أنّ أطروحة يوناس هذه تذهب في اتّجاه مستويين أو تسعى لتحقيق رهانين مترابطين ومؤسّسين لبعضهما البعض: الأوّل نقديّ والثّاني حيويّ.
- بالنسبة إلى الرّهان النقديّ: يتمثّل في نقد الأخلاق التّقليديّة خاصّة في صورتها الكانطيّة ومبدأ الأمل عند إرنست بلوح الذي يكثف الإتيقيا الماركسيّة الخاضعة بدورها للبرنامج البيكوني والقائم على معرفة الطّبيعة من أجل السّيطرة عليها وتسخيرها لطموح الإنسان. فقد انطلق فيه يوناس كما رأينا من نقد الافتراض الضّمنيّ للأخلاق التّقليديّة، والقائم على أنّ للإنسان ماهيّة أو حقيقة ثابتة مميّزة له، ويرفض صاحب كتاب ظاهرة الحياة([19]) هذا التّصور الماهويّ للإنسان ويؤكّد في المقابل أنّ ماهيّة الإنسان ليست ثابتة، بل هو وحدة مادّية-نفسيّة منفتحة على ذاتها والعالم، وتتأثّر بالفاعليّة البشريّة وضمنها المستوى التّقني. فالعلم الحديث الذي صار علما-تقنيا، بنى علاقة جديدة للإنسان مع الطبيعة ومع ذاته لا تقوم على انتمائه لها وإنّما على علاقة ذات بموضوع. وإذا كان تدخّل الإنسان سابقا في الطبيعة لم يؤدّ إلى اختلال توازنها، فإن التّدخل الحالي الذي يتخذ شكل تدخل تكنولوجي لاستثارة الطبيعة والإنسان، أدّى إلى الإضرار بها وتغيير ماهية الفعل الانساني نفسه. وهذا ما يفرض الربط بين الأخلاقية من جهة والعلم والتّقنيّة من جهة أخرى([20])؛ وبما أنّ التقنية فاعلية إنسانية تغير الطبيعة وتغير الإنسان، فهي تطرح مفارقة عبر عنها يوناس كما يلي: «إن[التقنية] في الحقيقة من إبداع الإنسان، لكنّها في مرحلة ما تجاوزته وهيمنت عليه، وألقت به في أتّون آلة حضاريّة كاسحة حتّمت عليه تجاوز الإحساس بالصّدمة والدّهشة إلى التّفكير في التّحوّل الجوهريّ الذي يعيشه في خضمّها، والنّكوص إلى تحديد غاياته ومسؤوليّاته في ظلّ متغيّراتها». ولهذا فقد تجاوزت التّقنية: «من حيث هي مجهود إنسانيّ، بشكل براغماتي الغايات المحدودة للأزمنة السّابقة»([21]). إنّها تعبير عن حرّية الإنسان، غير أن هذه الحرية نفسها تملك إمكانية وضع ضوابط لتحديد معايير التصرف وفقها. والخلاصة أنّ ما يسجّله يوناس في هذا المستوى المتعلّق بالنّقد، هو أنّ الأخلاق التّقليديّة، ذات نزعة إنسانيّة متمركزة([22])anthropocentrisme، فهي ترى الأخلاق بين الإنسان والإنسان بما هو إنسان ذو طبيعة أو ماهية ثابتة. وبالتّالي ليس موضوعا أو نتيجة لفاعليّته التّقنيّة التّحويليّة. إنّها أخلاق مبنيّة على مسلّمة «أحبّ قريبك كنفسك»([23])، كما أنّها إيتيقا موجّهة نحو الحاضر المشترك وليست نحو المستقبل.
استنادا إلى ذلك، نجد أنّ المبدأ الأخلاقي في الإيتيقا التّقليدية بين جماعة الفاعلين الإنسانيين (الكائنات العاقلة)، موجّه نحو الفرد الحاليّ وليس اتّجاه الطّبيعة أو الجماعة المستقبليّة، كما أنّه قاعدة لا تراعي الشّرط الحالي للإنسان المعاصر. ذلك ما ينطبق بوضوح على صيغته الكانطيّة فما يحدّد قبول الأمر الأخلاقي أو رفضه هو قدرة الإرادة على تفسير التّوافق أو عدم التّوافق المنطقيّ وليس القبول أو الرّفض الأخلاقيّ([24]). في حين أن الأمر الأخلاقي اليوناسي ينبني على فكرة التّوجّه نحو المستقبل فضلا عن كونه يستند إلى الكينونة الفعليّة أو الحياة وعلى الفاعليّة البشريّة الرّاهنة. فإذا كان لنا الحقّ بأنّ نخاطر بحياتنا الخاصّة، فإنّه ليس لنا الحق بالمخاطرة بذلك الذي يخص الإنسانية([25])؛ أي الحياة، إذ ليس من حقنا أن نختار الموت (اللاكينونة) للأجيال القادمة، ولهذا فمبدأ المسؤوليّة إلزام تجاه “ما ليس بعد”. كما أنّ الأمر الأخلاقيّ اليوناسي لا يستهدف التّوافق المنطقيّ القائم على توافق الفعل مع ذاته، بل يسعى إلى تحقيق توافق من نوع آخر، هو توافق الفعل مع نتائجه البعيدة المتمثّلة في استمرار الحياة الأصيلة للنّشاط الإنسانيّ في المستقبل([26]). لذلك لن يكون الطّابع الكونيّ للأمر اليوناسيّ افتراضيّا، بل زمنيّا يهم الأجيال القادمة ومكانيّا يهمّ الطّبيعة. وهذا البعد الزّمكانيّ يغيب كلّيا في الصّيغة المنطقيّة اللّحظيّة للأمر الكانطي رغم طابعه الكوني أيضا، وبالتّالي سيكون من الضّروري في التّأسيس للأخلاق الجديدة، الانتقال من مذهب العقل إلى مذهب الكينونة أي الميتافيزيقا. وهي ليست ميتافيزيقا الأخلاق الكانطيّة ولكنّها ميتافيزيقا أنطولوجيّة-حيوية.
ليست إيتيقا يوناس وحدها الموجهة نحو المستقبل، بل هناك أشكال أخرى من بينها نموذج الأخلاق الثّورية في الفلسفة الماركسيّة التي يكثّفها مبدأ الأمل عند إرنست بلوخ([27]) في إطار تصوّره اليوتوبي الذي يتوجّه بالوعي نحو ما ليس بعد le non pas encore وما لم يتحقّق بعد([28])، فرغم أنّ يوتوبيا بلوخ تشترك مع اليوتوبيات الأخرى (مثل يوتوبيا أفلاطون (الجمهورية) أو توماس مور(يوتوبيا)) في التطلع إلى حياة أفضل فإنها تختلف عنها. فاليوتوبيات التي أسلفنا ذكرها تفتقد للبعد الواقعي والطابع العملي، بينما يوتوبيا بلوخ متعينة تستند على الإمكان الديالكتيكي الناتج عن التداخل بين الأمل والعمل أو الحلم والفعل. فهي في نظر يوناس ليست سوى أخروية معلمنة une eschatogogie secularisée رغم أنها تتوجه نحو المستقبل وتأمل في غد أفضل، لأنها تنطلق من فكرة أنّ كلّ ما سبق مجرد مراحل تحضيرية لما سيأتي، للخلاص الذي لا يستبعد التّقنيّة، بل يتأسس عليها لتحقيق وقت الراحة أو الفراغ. وحتى عبارة أنسنة الطّبيعة ليست سوى إخضاعها للنموذج البيكوني، أي لسيطرة الإنسان. في حين أن ما يعرفه العصر التقني الحالي لا يستدعي حسب يوناس التّسلح بالأمل، بل بالخوف على الحياة والمسؤوليّة تجاه الأجيال القادمة، أي أنّ المطلوب إذن هو الحكمة والتبصر لا التّفاؤل والأمل. واستكشاف الخوف هو ما يسمح بذلك.
- أما بالنسبة إلى الرّهان الحيويّ فيتمثّل في محاولة تجاوز كلّ أشكال اليوطوبيا سواء اتّخذت شكل علم للتّقنية أو فلسفة للأمل من أجل إعادة التّأسيس لإيتيقا الحياة، ولهذا صرّح يوناس قائلا: «هناك شكلان تاريخيان عمليّان-وصفيّان لفكرة النموذج هما: النّموذج البيكونيّ للسّيطرة المتنامية على الطّبيعة والنّموذج الماركسيّ، القائم على النّموذج الأوّل، والحالم بمجتمع بدون طبقات»([29]). ويضيف في موضع آخر: «إنّ تهديد الكارثة المستمر من خلال النّموذج البيكوني l’idéal baconien للهيمنة على الطّبيعة بواسطة التّقنيّة العلميّة ترجع إلى نجاحه» أي أنّ الانتصار الظّاهر للنّموذج العلميّ-التّكنولوجيّ يخفي هزيمة شاملة وإخفاقا في تحقيق وعد تحرير الإنسان. وقد اتّخذ هذا النّجاح صورتين: الأولى اقتصاديّة والثّانية بيولوجيّة، والعلاقة بينهما متبادلة تقود بالضّرورة إلى الأزمة الواضحة اليوم([30]). فالنّجاح الاقتصاديّ الذي يتجلّى من خلال ازدياد نسبة إنتاج الخيرات وتنوّعها وتخفيض كمّية العمل الإنسانيّ المطلوب ما يوفّر الرّفاهيّة لعدد متزايد من النّاس ويرفع نسبة الاستهلاك بشكل غير إراديّ سيدخل المجتمع الإنساني في تبادل استقلابي مع البيئة الطّبيعية بشكل مفرط ويزيد من أخطار استنزاف الثروات الطبيعية. وهي أخطار ستزداد وتصير أكثر قوّة بفعل “النّجاح” البيولوجي وكذلك بفعل الانفجار الديمغرافي الذي يفرض التقليل من هامش المجال الحيوي وتزايد استغلاله لصالح الهيمنة المتزايدة للتقنية.يفرض الخطر التقني سؤالا أخلاقيا جديدا حول «كيف يمكن للإنسانية أن تبدأ من جديد فوق أرض تعرضت للتدمير(دُمّرت) وهو أمر (أُقصِي) تم إقصاؤه من كل تأمل»([31]). ولذلك فإنّ إشكالية الإنسانيّة المعاصرة لا تتعلّق بالمشكلات التّقليديّة للأفراد: الوفاء والخيانة والكذب والشّجاعة… وإنّما بقيمة الحياة نفسها كشرط للكينونة. وتتطلّب واجبا يناسبها. ولهذا سعى يوناس من خلال تأسيسه للإيتيقا على مبدأ المسؤوليّة وفق قاعدة: «تصرّف وفق الطّريقة التي تجعل من نتائج سلوكك متوافقة مع استمرار حياة إنسانيّة أصيلة على الأرض»([32])إلى حفظ الحياة ومقاومة العدمية التكنولوجية نظرا إلى أنّ التّقنيّة باتت سلطة جديدة تقتضي إلزامات أخلاقيّة جديدة. وهكذا فهي شرطيّة لتأسيس إيتيقا موجّهة للفعل الإنسانيّ الذي أنتج التّقنيّة وتغير بها. معنى ذلك أنّ إيتيقا يوناس حول المسؤوليّة محاولة لتجاوز الفراغ الأخلاقيّ الذي خلّفته الإيتيقا التّقليديّة، وهذا الفراغ يتحدّد بغياب أيّ جواب أخلاقيّ عن مشكلة الحياة، فما يبعث على الخوف اليوم ليس الفضيلة أو السّعادة أو المنفعة أو الكرامة الإنسانيّة، بل الحياة الإنسانيّة. وهذا يتطلّب مراجعة أسس الإيتيقا، ليس فقط من خلال البحث عن الخير الإنسانيّ، ولكن أيضا عبر البحث عن خير الإنسان خارج الإنسانيّة (المجال الحيويّ في كلّيته وأجزائه التي هي تحت تصرّفنا)([33]). والقطع مع التّصوّر العليّ للطّبيعة الذي يعتبر أنها مجرد وسائل لا تستحقّ الاهتمام. ولن يعوّض هذا الفراغ سوى إيتيقا الحياة القائمة على مبدأ المسؤوليّة المبني على استكشاف الخوف عوض الأمل، وهذا ما نفهمه من قول يوناس أنّنا: «نعارض مبدأ الأمل بمبدأ المسؤوليّة وليس بمبدأ الخوف، لكن بدون شكّ يشكّل الخوف جزءا من المسؤوليّة»([34]).
4- نموذجان متميّزان للمسؤوليّة:
لقد بنى يوناس تصوّره لإيتيقا المسؤوليّة انطلاقا من نموذجين متميّزين للمسؤوليّة هما: المسؤوليّة الوالديّة والمسؤوليّة السّياسيّة، لكي يكشف اقتناعه بأنها لا تُبنى بين طرفين على المستوى نفسه من الحظ في الوجود، بمعنى أنها لا تتأسس على المساواة، بل على التفاضل inégalité. كما أنها موجّهة نحو القابل للتّأثّر أو الطّرف الأضعف، فوجود الآخر- وليس فقط الغير- هو ما يفرض المسؤوليّة في نظره. إنّها قدرة على الإلزام منبثقة من وجود موضوع ما. وهذا الإلزام يكون إمّا مؤقّتا أو أبديّا.
يقضي النّموذج الأوّل بأنّها مسؤولية تجاه الأبناء الذين أنجبناهم، لأنّنا المسؤولون عن ولادتهم (حياتهم)، ولهذا فأساسها إذن طبيعيّ وهو فعل الإنجاب، صحيح أنّه يمكن للآباء انتظار “ردّ الجميل” خاصّة في وقت الشيخوخة، لكن ذلك ليس شرطها، إنّها مسؤوليّة لا تبادليّة وغير مشروطة. فهي مسؤوليّة بالطبيعة أو الولادة كفعل بيولوجيّ، وبالتّالي ليست مسؤوليّة بين بالغين أو ذوات عاقلة مستقلّة. فهي تتميّز بكونها لا تقوم على أيّة موافقة مسبقة، وهي غير قابلة للتّراجع أو الإلغاء، ومجالها هو العلاقة الحميميّة المباشرة. أمّا النّموذج الثّاني المتعلّق بالمسؤوليّة السّياسيّة فيقضي بأنها تعاقديّة أو اتفاقيّة خاضعة لثنائيّة القبول أو الرّفض، وبالتّالي فهي اختياريّة (التّرشح لمنصب أو وظيفة مّا)، ولهذا يعتبر التّراجع فيها ممكن، إنّها مسؤوليّة صناعيّة وليست طبيعيّة كالأولى. ومن نماذجها مسؤوليّة رجل السّياسة. إنّ أساسها إذن هو الاختيار الحرّ، أي الاختيار في تحمّل مسؤوليّة ممارسة السّلطة وتنفيذها، صحيح أنّ للسّلطة مزايا عديدة تجعلها موضوع طمع، لكن هذه القوة الجاذبة للسلطة لا تنفي عنها أساس المسؤولية عند السياسي الأصيل على وجه الخصوص. وموضوع المسؤولية في هذا الشكل المتميز هو الشّأن العموميّ Res publica إنّه شأن الجميع([35]). غير أنّ موضوعها هم الأفراد المواطنون المحتملون الذين يتمتعون بالاستقلال الذاتيّ بغضّ النّظر عن هويّاتهم، ولهذا تتمّ هذه المسؤوليّة عن طريق مؤسّسات ووسائل ومنظّمات.
بناء على هذين النّموذجين، ينطوي مفهوم المسؤوليّة على مفهومي “الحقّ” و “الإلزام”. فعندما يتمّ تأسيس وجود حقوق للغير فهذا يعني أنّه تأسيس لإلزام باحترامها([36]). وإذا كانت فكرة المسؤوليّة حاضرة أيضا في الأخلاق التّقليديّة إلا أنها اتّخذت طابعا عقليّا من جهة، في حين أنها ستكتسي في إيتيقا الحياة بعدا آخر يجمع بين الجانب العقلي (الموضوعي) وجانب الإحساس (الذاتي) إذ يصرّح قائلا: «إنّ ماهية طبيعتنا الأخلاقيّة معنيّة بالنّداء، تماما كما أنّ العقل ينقله إلينا، فإنّه يجد جوابا في الإحساس، إنّه إحساس المسؤوليّة»([37]). وهذا التّكوين المزدوج لا ينفصل عن المستقبل (البعد الزمنيّ)، لأنها إيتيقا تتعلق بحقوق ما لم يولد بعد، أي أنّها مطروحة على عاتق الحاضر تجاه المستقبل الممكن. ولأن المستقبل غير ملزم بأيّ واجب تجاه الحاضر فهي مسؤوليّة غير تبادلية. إنّها مسؤولية نحو الأجيال القادمة. ومن خلالها تجاه كينونة الإنسان. مبرّر هذه المسؤوليّة بما هي أساس إيتيقا المستقبل هي أنّها تهديد وجود الأجيال القادمة وتهديد للوجود الإنسانيّ وللحق في الحياة بوجه عامّ. ويقول يوناس موضّحا ذلك: «بما أنّه على أيّ حال هناك أناس في المستقبل في وجود لم يطلبوه، لكن بمجرد ما إن يتحقق سيصبح لهم الحق في إدانتنا نحن أسلافهم، لأننا تركنا لهم شرورا بفعل فعلنا المهمل الذي كان يمكن تفاديه. لقد ألحقنا الضّرر بالعالم وبالدّستور الإنسانيّ»([38])، وبالتّالي يمكن للأجيال القادمة أن تُحمّل الأسلاف البعيدة مسؤولية شروط وجودها. ولهذا لابدّ -حسب يوناس- من استباق الوعي بهذا الحق الخاصّ بضحايا المستقبل، ليس باعتباره أمنية وإنّما واجب. هذا الاحترام المفترض تجاه الأجيال القادمة لا يمكن أن يكون بدوره تبادليّا لأنّه مسؤوليّة تجاه الكينونة والإنسانية. وهذا ما يجعله إلزاما من طبيعة أنطولوجية. بهذا المعنى لا يفصل يوناس بين الواجب والكينونة. حيث مصلحة الغير التي ينبغي احترامها ستصير بالنّسبة إليّ بشكل غير مباشر-إن لم تكن أصلا مباشرة-نتيجة الإلزام، أي إلزام احترام حقّ الآخرين (في الحياة)([39]). أي أنّ التّفكير في الكينونة ورعايتها يقتضي واجب الكينونة لحفظ الحقّ فيها.
لم يكن الحقّ في الحياة أساس الأخلاق التقليدية، بل احترام إنسانية الإنسان وكأنّ صفة الإنسانية معطى أصليّ أو فطريّ، وهذا ما جعل منها نزعة إنسانيّة متمركزة حول ذاتها إذ لم تنفتح على الطّبيعة ولم تجعل من الحياة خيرا أسمى. صحيح أنّ يوناس لا يقول بوجود خير في ذاته أو شرّ في ذاته، لأنّ ما يحدّد كلّ واحد منهما هو التوجه نحو غاية ما. وهذا ما يجعل الغاية لا تنفصل عن القيمة، والقيمة الموجهة لأخلاق المسؤوليّة هي “الحياة نفسها”. فإيتيقا يوناس بما هي إيتيقا المستقبل، ترى في الحياة العضويّة الغاية الشّاملة والكلّية والنّهائيّة، حيث لا تقوم بدونها للغايات الأخرى قائمة. وهكذا يعيد يوناس الأكسيولوجيا إلى حضن الأنطولوجيا.
5- في أسس إيتيقا المسؤوليّة ومبادئها:
كأيّ إيتيقا، تنطلق إيتيقا المسؤوليّة من عدّة مبادئ ومن بينها المعرفة الواقعيّة للآثار البعيدة الممكنة للفعل الإنسانيّ إذ يقول يوناس: «تُدرَجُ هذه المعرفة الواقعية والممكنة المتعلقة بمجال الوقائع، بين المعرفة المثاليّة ومذهب إيتيقا المبادئ، والمعرفة العمليّة المتعلّقة بالتّطبيق السّياسيّ التي يمكن فقط استعمالها مع هذه المعاينات الافتراضيّة لما يستوجب توقّعه أو ما يجب تفاديه»([40]). يقوم هذا المبدأ إذن على ما يسمّى بعلم المستقبليات المقارن الذي يسمح بمساهمة المعرفة، المتعلقة بمستقبل العلم والتقنية، في معرفة المبادئ. وهذا ما يقودنا إلى مبدأ آخر هو استكشاف الخوف. فما دمنا نجهل الخوف سنجهل ما ينبغي حمايته ولماذا. ومن واجب الفلسفة الأخلاقيّة أن تراعي مخاوفنا أكثر من مراعاة رغباتنا. فها هي رغبة الإنسان في التّقدّم صارت خطرا على الإنسان نفسه. إنّ هذا الخوف ليس على شاكلة الخوف الذي تحدث عنه توماس هوبس لدفع الناس إلى التّعاقد السّياسيّ، بمعنى أنّه ليس خوفا مرضيّا أو انفعاليّا pathologique بل موقف واعٍ تجاه الحياة وحقّ الأجيال القادمة في بيئة سليمة. كما أنّه نابع من الوعي بخطر التّقدّم التّقنيّ على الحرّية لأنّه يقلّص من هامشها([41])، إذ لم تعد التّكنولوجيا دليلا على حرّيّة الإنسان فقط، بل مجالا لإخضاعه، وهي ليست عاملا لتحقيق اكتفائه، وإنّما نهرا لا يشبع تعطّشه الذي صار دون غاية واضحة. ولهذا فمبدأ المسؤوليّة من طبيعة احترازيّة وقائية أكثر منها علاجية.
لكن من هو هذا الإنسان المسؤول عن التقنية والمسؤول عن حق الأجيال القادمة في حياة أصيلة على الأرض؟ يجيب يوناس بأنه ليس أنا ولا أنت، بل الفاعل الجماعيّ. بما أنّ الإنتاج التّقني شغل فضاء الفعل الجماعي فإنّ الأخلاق مدعوّة أيضا إلى أن تشغل مجال الإنتاج الجماعيّ، أي أنّه مادامت ماهيّة الفعل الإنسانيّ قد تغيّرت([42])، فلابدّ أيضا لماهيّة السّياسة أن تتعدّل([43]). يقول هانس يوناس: «إذا كان مجال الإنتاج قد استثمر فضاء الفعل الجوهريّ، فإنّه لابدّ للأخلاقيّة أن تستثمر مجال الإنتاج الذي كانت بعيدة عنه. وينبغي أن يكون ذلك في شكل سياسة عموميّة. لم يسبق في الماضي للسّياسة العموميّة أن تعاملت مع مشكلات بهذه الحجم مغطية لخطوط الاستباق الإسقاطيّ. وفي الواقع، فإن تحوّل ماهيّة الفعل الإنساني يعني تعديل الماهيّة الأساسيّة للسّياسة»([44])، وهذا ما يجعل من إيتيقا المسؤوليّة عند يوناس إيتيقا سياسيّة. أي أنها لابدّ أن تتحوّل إلى برنامج سياسيّ تفرض فيه الدّولة، بوصفها المشرّع للقوانين بغاية ضمان استمرار الحياة الإنسانيّة، قوانينها المستمدّة من إيتيقا الحياة والمسؤولية. وهي دعوة في جوهرها لربط السياسة بالأخلاق بعد أن عمل العصر الحديث على الفصل بينهما. المسؤولية إذن هي مسؤولية السّياسيّ ومن ورائه الفضاء العموميّ الذي ينبغي أن يستشعر هذه المسؤوليّة، فتصبح غاية الحفاظ على الحياة قلقا سياسيا. من هنا فإيتيقا المسؤولية اليوناسية لا تتوجّه للسّلوك الفرديّ بقدر ما تتّجه للسّياسات العموميّة.
إنّ السّلوك الحاليّ يحدد مصير الآخر القادم ويشكّل خطرا عليه، بينما هذه الأرض ليست ملكا للأجيال الحالية وحدها وإنّما هي ملك مشترك للجميع، مما يجعلها بدون ملكية أو حيازة. صحيح أن الأجيال الحالية يمكن أن تبرّر سلوكها برهان “التّحسين” l’amélioration أي بمعنى أنّ الجهد التّقنيّ المبذول هو بغرض وضع أفضل وحياة أسهل وطموح أكبر وإبداع أكثر، لكن إيتيقا المسؤوليّة عند هانس يوناس تؤكّد أنه لا يمكن تبرير خطر التّهديد التّقنيّ المتّجه نحو القضاء على الحياة، ولذلك تتّخذ إيتيقا المسؤوليّة طابعا إلزاميّا على السّياسات العموميّة، ممّا يجعلها مقيّدة لهذا التّقدّم التّقنيّ وضابطة له. لأنّه يمكن القبول بانتحار الفرد أو مناقشته على الأقلّ، لكن لا يمكن القبول بانتحار الإنسانيّة. فوجود الإنسان وحياة الإنسانيّة لا يمكن أن يكونا موضع رهان([45])، وهنا يقول يوناس: « يؤكّد الأمر الأخلاقي الجديد تحديدا أنّه لنا الحقّ في المخاطرة بحياتنا الخاصّة، لكن ليس لنا الحق في المخاطرة بالإنسانيّة»([46]). وبالتّالي صاغ المبدأ الأخلاقيّ للمسؤوليّة كما يلي: «تصرّف وفق الطّريقة التي تجعل من نتائج سلوكك متوافقة مع استمرار حياة إنسانيّة أصيلة على الأرض»([47]). وبتعبير آخر «افعل بطريقة تكون فيها نتائج فعلك غير مدمرة لإمكانيّة مستقبل أيّة حياة» أو «لا تخاطر بشروط العيش اللاّمحدود للإنسانيّة على الأرض». معنى ذلك أنّ هدف يوناس ليس هو عقلنة الأمر الأخلاقيّ وإنّما هو الحفاظ على بقاء حياة إنسانيّة أصيلة، أي أنّ هاجسه الأخلاقيّ أنطولوجيّ حيويّ بالدرجة الأولى.
وهكذ انخلص إلى أنّ مفهوم المسؤوليّة قد اتّخذ في إيتيقا يوناس بما هي إيتيقا للمستقبل شكل “إحساس”، وليس مبدأ عقليا فقط. وهكذا يميّز يوناس بين الأساس العقلانيّ للإلزام وهو “العقل” بوصفه المبدأ المشروع وراء المطالبة بما “يجب”، والأساس السّيكولوجيّ لتحريك الإرادة وهو “الإحساس”. الأول موضوعيّ والثّانيّ ذاتيّ. وهما مكمّلان لبعضهما البعض ومتفاعلان([48])، إذ يسهمان في تسويغ المبدأ الأخلاقيّ ويعطيانه مشروعيّة داخليّة قبليّة وخارجيّة بعديّة. إذ لا يمكن للجانب الموضوعيّ أن يحققّ اكتفاءه الذاتيّ، أي أمره، ولا يصبح فعّالا إلاّ من خلال التقائه بالإحساس بوصفه قوّة دافعة للإرادة لتحديد ما يجب، والخلاصة أنّ المبدأ الأخلاقي اليوناسي ذاتيّ وموضوعيّ في الوقت نفسه.
6- على سبيل الختم:
انطلاقا ممّا سبق يمكن أن نخلص إلى أنه رغم عدم تبلور مفهوم المسؤولية مع يوناس، فإنّه منحه دلالة جديدة، حيث ينبني واجبها على المعرفة والإرادة والقدرة. إنّه إذن واجب الكينونة، وهي شروط تكشف حسب يوناس أنّ الناس على استعداد بأن يكونوا كائنات أخلاقية لأنهم امتلكوا القدرة على أن يكونوا متأثرين، وهذا فقط ما يجعلهم أيضا قادرين على أن يكونوا لا أخلاقيّين([49]).أي أنّ صفة الأخلاقيّة ليست ماهية إنسانية وإنّما نتاج لشروط الوجود الإنسانيّ. فعاليّة الأمر الأخلاقيّ إذن تأتيه من الإحساس. لذلك يؤكّد يوناس على ضرورة: «تجاوز الفجوة بين المساءلة المجرّدة والتّحفيز المتعين عن طريق رابط الإحساس الذي وحده يحرّك الإرادة»([50]). والسّبب في ذلك يعود إلى أنّ الكينونة -في – العالم هي كينونة مع الغير، حاضرا ومستقبلا، وبالتالي أضحت إيتيقا المسؤولية اعترافا بحق الآخرين في الحياة، وهي من طبيعة عمودية قوية غير تبادلية ودائمة غايتها استمرار الحياة. كما أنها عبارة عن وجهة نظر إيكولوجيّة أكثر منها أنثربولوجية، وهذا لا يعني أنّها مضادّة للإنسان أو متجاهلة له، بل تنظر له كجزء من الطّبيعة وكامتداد لها، لا كمركز. إنّ نزعة التّمركز الإنسانيّ هذه هي التي صوّرت الإنسان ذاتا والطّبيعة موضوعا، ولهذا «صار الإنسان هو المتسبّب الوحيد في المشكلات البيئيّة»([51]). ولا يمكن حفظ حياة الإنسان إلاّ بالحفاظ على الطّبيعة وتحمّل مسؤوليّة ذلك لأنّ الطّبيعة لا تحتاج للإنسان بدليل أنها سابقة عليه، في حين أنّ الإنسان في حاجة للطبيعة. ولهذا لا حقّ له في السّيطرة عليها، بل لابدّ أن يسعى إلى الحقّ في الحياة من خلال الحفاظ على الطّبيعة. بهذا المعنى، تأخذ إيتيقا المسؤولية بعين الاعتبار أبعادا جديدة هي: قابليّة الطّبيعة (المجال الحيويّ) للتّأثّر، والدّور الجديد للمعرفة في الأخلاق ثمّ الحقّ الأخلاقي في مستقبل الطّبيعة. وباختصار، المصلحة الوحيدة في إيتيقا المسؤولية هي الحفاظ على الطبيعة ومصير الإنسان من حيث إنّه تابع لحالة الطّبيعة وجزء منها.
إضافة إلى ذلك، تستنتج أن إيتيقا المسؤولية بما هي إيتيقا للحياة والمستقبل، تربط المسؤولية بالمعرفة وبالفعل، وبالتالي بالحرية، فهي تزداد بزيادة حريتنا. ولهذا يكون الإنسان حرا إذا أبدع (بما في ذلك تقنيا) وتحكم في إبداعه، وبالتالي فهو مسؤول لأنه فاعل بشكل قصدي (غائي) حر. وهذه القصديّة تتحدّد من خلال المعرفة والتقنية اللتان تتمتّعان بمكانة فاعلة في المعادلة الأخلاقيّة، حيث تأخذ إيتيقا المسؤوليّة بعين الاعتبار دور المعرفة التّقنيّة التي تعطي قوتها لفعلنا، ولهذا فهي تؤكّد على أنّ النّموذج البيكونيّ الذي دعا إلى معرفة الطبيعة لأجل السّيطرة عليها وتطويعها، وهو نفسه الشعار الذي رفعه ديكارت في العصر الحديث “أن نجعل من أنفسنا سادة للطبيعة ومالكيها”، يجعلنا اليوم حسب يوناس نحكم بتفوق الإنسان الصانع Homo Faber على الإنسان العاقلHomo sapiens([52]). إنها إيتيقا تنطلق من دور التقنية وتدخلها في الطبيعة وتحويلها إلى طبيعة الفعل الإنساني. مما جعل التّقنية تطرح موضوعات ونتائج غير مسبوقة على الفكر الأخلاقيّ الذي لا ينبغي أن يتوجّه للحاضر المتعلّق بالقريب الشّبيه([53]). بل نحو الطّبيعة والمستقبل الخاصّ بالأجيال القادمة. وهو بعد لم يكن من الممكن تصوّره في الأخلاق التقليديّة. وهذا ما يجعل إيتيقا المسؤوليّة عند يوناس بيو-إيتيقا([54]) تنتمي إلى الأخلاقيات التطبيقية التي تمثل فكرا أخلاقيا جديدا منفتحا على الحياة الاجتماعية وعلى مجالاتها مثل: الطب والمهن والبيئة والإعلام …فهي جواب على تحدي البيو-تكنولوجيا التي جعلت من الحياة العضوية موضوعا قابلا للتدخل، أي باعتبارها تركيبة يمكن أن تخضع للتغير وإحداث التحولات الملائمة عليها([55]). وميزة الأخلاقيات التطبيقية أنها ليست تطبيقا لنماذج أخلاقية نظرية تقليدية في ميادين الممارسة البشرية، بل انفتاح للفكر الفلسفي الأخلاقي على أرض بكر بفعل تحولات المجتمع والحياة باعتماد مقاربات مختلفة، كما أن من تياراتها من وسع الوعي الأخلاقي لينفتح على الكائنات غير الإنسانية كالطبيعة وحيواناتها([56]).
بقي أن نشير إلى أن النموذج الأخلاقي الذي يقترحه يوناس، والمتمثل في إيتيقا المسؤولية، ليس معزولا عن مشروعه الفينومينولوجي الذي أراده أن يكون تحديا للعدمية بما هي إنكار للحياة([57])، ولهذا، يمكن القول إن فينومينولوجيا يوناس عندما أعادت الأخلاق إلى مجال الأنطولوجيا، قد شكّلت نقدا لميتافيزيقا هايدغر التي اهتمّت بالكينونة وأهملت التّفكير في الغير ومعه التّأسيس للأخلاق أو إدراجها داخل مشروعه الفينومينولوجي. غير أن سعيها لتجاوز العدمية الأخلاقية ونقد كل نزعة ثنائية أو توجه يوطوبي (تقني أو فلسفي) لم يمنعها في نظرنا من السقوط في يوطوبيا أخلاقية لتفادي الكارثة التكنولوجية. فاليوطوبيا بما هي تجاوز للواقع (المعطى) الذي يعتبر هنا الواقع التكنولوجي الخطير، تجعل من إيتيقا المسؤولية شكلا متميزا لها. وتزداد السمة اليوطوبية بروزا فيها بفعل افتقار النموذج الإيتيقي اليوناسي لبرنامج أو بديل سياسي متكامل بالرغم من أنه يتبنى إيتيقا سياسية. فنقده للنموذج الرأسمالي الديمقراطي والنموذج الاشتراكي التّسلطي ودفاعه عن استبداد مستنير لفرض إيكولوجيا سياسية، يجعل منه نموذجا فاقدا للأساس المادي والإجرائي (القوى الاجتماعية) القمينة بتفعيل مبدأ المسؤولية أمام الهيمنة الجامحة للتقنية وتغول قوى اجتماعية مناهضة للسلم والطبيعة. بما يعني أن المبدأ الأخلاقي للمسؤولية في نظرنا لا ينفصل إن (عن) موازين القوى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمشاريع المجتمعية المتصارعة([58]).
قائمة المصادر والمراجع:
- توفيق الطويل، مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط.1، نونبر 1953.
- عمر بوفتاس: البيوإيتيقا الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011.
- محمد بن سباع، “الفلسفة الايكولوجية عند هانز يوناس “نحو أخلاق جديدة لمستقبل الطبيعة والإنسانية“، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد 15، العدد 26، 2018.
- نورة بوحناش، الأخلاق والرهانات الإنسانية، ط 1، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،
- Aristote, Ethique à Nicomaque, trad. par J. Tricot, Echos du Maquis, 2014.
- Avishag Zafrani, Le défi du nihilisme : Ernst Bloch et Hans Jonas, Hermann, Paris, 2014.
- David Hume, Enquête sur les principes de la morale, Trad par André Lery. Revue par Michelle Beyssade Flammarion, Paris 2006.
- Ernst Bloch, Le principe espérance, tome 1, trad. de l’allemand par Françoise Wuilmart Gallimard,
- Hans Jonas, Le Principe responsabilité, une éthique pour la civilisation technologique. Trad. de l’allemand par Jean Greisch, Paris, Flammarion, 1990.
- Hans Jonas, The phenomenon of life: toward a philosophical biology, Originally published: New York: Harper & Row, 1966.
[1]– سبق لآرثور شوبنهاور أن عبّر عن مشكلة المعياريّة الأخلاقيّة بقوله: «من السّهل تقديم الوعظ الأخلاقيّ لكن من الصّعب التّأسيس للأخلاق». انظر:
– Arthur Schopenhauer, Le fondement de la morale, Trad. de l’allemand par Auguste Burdeau, Aubier, paris 1978.
[2]– يكتسي كتاب هانس يوناس مبدأ المسؤولية أهميّة كبرى في مشروعه الفلسفيّ، وقد نشره أوّل مرّة سنة 1979 باللّغة الألمانيّة Das Prinzip Verantwortung، ونشره مرّة أخرى بترجمة إنجليزيّة (بمساعدة ديفيد هير) في سنة 1984The Imperative of Responsibility. أما التّرجمة الفرنسيّة فلم تظهر إلا سنة 1990 وكانت من إنجاز جان غرايش.
Cf.: Hans Jonas, Le Principe responsabilité, une éthique pour la civilisation technologique. Trad. de l’allemand par Jean Greisch, Paris, Flammarion, 1990.
[3]– لقد ميّز أرسطو في كتابة الأخلاق إلى نيقوماخوس بين ثلاثة أنواع من الحياة (المعيشة): عاميّة générale خيرها اللذة وأخرى سياسيةpolitiqueخيرها المجد، ثم حياة تأمّليّة contemplative غايتها الفضيلة كخير أسمى. فإذا كان كلّ بحث أو فعل أو اختيار حسب أرسطو هو بالضّرورة موجّه نحو خير ما فإنه لا ينبغي للحياة الأخلاقية والبشرية عموما أن ترتبط بخيرات وغايات ظرفية، بل ينبغي لها أن تسعى إلى غاية أو خير في ذاته يسميه أرسطو بالخير الأسمى أو الفضيلة، وتبقى السعادة غاية الغايات.
– Aristote, Ethique à Nicomaque, trad. par J. Tricot, Echos du Maquis, 2014, p. 20-41.
[4]– لا تتحقّق السّعادة الفرديّة داخل الحياة المدنيّة، بل في الحياة التأملية وهي أسمى أشكال السعادة لأنها ترتبط بالعقل وبدائرة الحقيقة.
[5]– وهذا يعني أن الأخلاق مشكلة فلسفية وليست علمية، قبل أن يعمل هايدغر على إخراج الأخلاق من دائرة الاهتمام الفلسفي منظورا إليه كتفكير في الكينونة وإنصات لنداءاتها.
[6]– هكذا يكون موقف هيوم امتدادا لأرسطو في هذا الجانب. فقد أكّد أرسطو أنّ البحث في المجال العمليّ عموما لا يمكن أن يُنتج يقينا مثلما هو الأمر في الرّياضيّات أو الفيزياء، بل هو بحث في ما يوجد بين ما هو ثابت وما هو ظنّيّ (وقد ترجمه إسحاق بن حنين بـ “أكثر الأمر”). وهي مسألة منهجيّة في فلسفة أرسطو تقضي بأنّ الموضوع يحدّد طبيعة المنهج، فلا ندرس مثلا قضايا الرّياضيّات والسياسة بمنهج واحد. (انظر: أرسطو طاليس، الأخلاق، الطّبعة الأولى، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرّحمان بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، 1979، ص56).
[7]-David Hume, Enquête sur les principes de la morale, Trad par André Lery, Revue par Michelle Beyssade Flammarion, Paris, 2006, p.187.
[8]– فكرة أساسيّة في الأخلاق الرّواقيّة طوّرتها نزعة المنفعة العامّة لكي تجعل من اللّذّة شكلا من أشكال المنفعة. للاطّلاع على أهمّ مدارس النّفعيّة وجذورها الفلسفيّة يمكن العودة إلى: توفيق الطّويل، مذهب المنفعة العامّة في فلسفة الأخلاق، مكتبة النّهضة المصريّة، القاهرة، ط.1، نونبر 1953.
[9]– Jeremy Bentham, An Introduction to The Principles of Mokals and Legislation, Oxford at the Clarendon Press, London, (Reprint 1996). p.1.
– تمّت الطّبعة الأولى لهذا العمل في عام 1780 ونُشر لأوّل مرّة في عام 1789. ومرّة أخرى بعد تصحيح من المؤلّف في عام 1823.
[10]– توفيق الطّويل، مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، مرجع سابق، ص104.
[11]– يُطلق على المذهب الذي يرى في السعادة غاية الوجود الإنساني اسم l’eudémonisme. ويطلق على مذهب اللذة اسم L’hédonisme . ورغم أنّ السّعادة غاية أخلاقيّة في الأفلاطونية-الأرسطية وفي الأبيقورية وفي النّفعيّة… فإنّ أساس السعادة ليس واحدا في هذه الفلسفات. فلا تعدو مثلا أن تكون السّعادة من وجهة نظر ج. بنثام أو ج. ستيوارت سوى لذّة عند أفلاطون أو أرسطو، لأن السّعادة فضيلة (خير أسمى) تتحقّق بالحكمة أو التّأمّل العقليّ.
[12]– يبيّن مفهوم الوسط العادل أنّ أرسطو لم يسع إلى صياغة نموذج أخلاقيّ مثاليّ، بل سعى إلى أخلاق واقعيّة أو عمليّة.
[13]– لا يتعارض التشريع الأخلاقي بالنسبة لكانط مع الحرية، فالحرية خضوع إراديّ للقوانين التي شرّعها العقل العملي الأخلاقي الخالص، لأنّ القانون الأخلاقيّ تعبير عن الاستقلال الذّاتيّ للعقل الخالص العمليّ، أي تعبير عن الحرّيّة.
[14] – بعد أن اصطدم كانط باستحالة تأسيس الميتافيزيقا تأسيسا يقينيّا على غرار اليقين الفيزيائي والرياضياتي، نقل مشكلة الحرية من دائرة العقل الخالص إلى دائرة العقل العملي لكي تكون أساس التّشريع.
[15]– هذا يختزل النّقد الكانطيّ للأخلاق السّابقة عنه وخاصّة أخلاق السّعادة عند أرسطو والمنفعة عند جرمي بنتام والإحساس عند ديفيد هيوم. فأساس الواجب الأخلاقيّ ليس طبيعيّا ولا سياسيّا ولا نفعيّا ولا انفعاليّا… وإنّما عقليّ تفرضه ضرورة العقل الخالص العمليّ.
[16]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, Op. Cit., p.33.
[17]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op. cit., p. 7.
[18]– Ibid.p.51
[19]– Hans Jonas, the phenomenon of life: toward a philosophical biology, originally published: New York: Harper & Row, 1966.
الغرض من الكتاب هو إعادة فهم الإنسان من منظور فينومينولوجيا الحياة، والقائمة عند يوناس على مفهوم “البيولوجيا الفلسفية”، لأجل النظر إلى الإنسان كوحدة سيكو-فيزيائية وتجاوز الثّنائية سواء في مستواها الكوصمولوجي أو مستواها الأنثروبولوجي.
[20]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op. cit.,p. 315
[21]– Ibid. p. 35.
[22]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op. cit., p.22.
[23]– Ibid. p. 26.
[24]– Ibid., p.38.
[25]– Ibid. p. 20.
[26]– Ibid. p. 40.
[27]– Ernst Bloch, Le principe espérance, tomes : 1 ;2 ;3. Trad. de l’allemand par Françoise Wuilmart. Gallimard. 1976.
[28]– Ibid. p.74.
[29]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p.273.
[30]– Ibid. p. 268.
[31]– Ibid. p.269.
[32]– Ibid. p. 40.
[33]– Ibid. p.34.
[34]– Ibid. p. 420.
[35]– ولهذا فهي مسؤوليّة تتميّز عن المهام التّقنيّة للموظّفين. وهذا ما يميز الحكومة عن الإدارة.
[36]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p.87.
[37]– Ibid. p.169.
[38]– Ibid. p.91.
[39]– Ibid. p.151.
[40]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p.56.
[41]– Ibid. p. 76.
[42]– يمكن القول هنا في إطار المقارنة بين يوناس وهوبس إنّ كليهما يؤسّسان الفعل السّياسي على الطّبيعة البشرية وعلى مفهوم الخوف، فشكل الدولة ومعها السياسة ينبني على طبيعة الكائن الإنساني، وهذه دلالة تقسيم هوبس لكتابه الليفياتان إلى قسمين: “في الإنسان” و “في الدولة”. غير أن مفهوم الخوف عند هوبس نفسي يهم الأمن الخاص في حين أنه عند يوناس فينومينولوجي يهم الحياة البشرية في مجملها.
[43]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p.37.
[44]– Ibid. id.
[45]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p. 84.
[46]– Ibid. p. 39.
[47]– Ibid. p. 40.
[48]– Ibid.
[49]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p. 170.
[50]– Ibid. id.
[51]– محمد بن سباع، “الفلسفة الايكولوجية عند هانز يوناس “نحو أخلاق جديدة لمستقبل الطبيعة والإنسانية“، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد 15، العدد 26، 2018، ص. 92.
[52]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p.35.
[53]– Hans Jonas, Le Principe responsabilité, op.cit., p. 30.
[54]– البيوإيتيقاbioéthique (بالإنجليزية bioethics) : مفهوم تمت صياغته في أواخر سنة 1970 من طرف علماء البيولوجيا لأجل إثارة انتباه الرأي العام و المهتمين إلى التفكير في قضيتين مستعجلتين: الأولى وهي مسؤولية الحفاظ على البيئة التي تمثل أساس الحياة البشرية . والثانية الانعكاسات المستقبلية جراء التقدم السريع لعلوم الحياة مع إمكانية تعرض الطبيعة البشرية للتعديل والتغير. ومن بين الكتب التي تناولت موضوع البيو إيتيقا نجد الكتاب الصادر سنة 1971 بعنوان: البيو إيتيقا جسر نحو المستقبل Bioethics: Bridge to the Future لصاحبه فان رونسولير بوتر Van Rensselaer Potter الذي اهتم بالبيولوجيا التطورية وانعكاساتها على تغير الطبيعة بشكل عام والطبيعة البشرية على وجه التحديد. وهكذا قدمت البيوإيتيقا نفسها حسب لوروي فالترز Leroy Walters (أستاذ بجامعة Georgtown من بين أعماله: أخلاقيات العلاج الجيني البشري) كفرع من فروع الأخلاقيات التطبيقية واتخذت من التطبيقات والتطورات التي تتم داخل حقل البحث الطبي موضوعا لها.
– يمكن العودة للدراسة التي قام بها د. عمر بوفتاس: البيوإيتيقا الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،2011. وهي في الأصل عبارة عن الجزء الأول من أطروحة قدمها الباحث لنيل شهادة الدكتوراه سنة 2005.
– Cf. Encyclopedia of bioethics, 3º Edition, Edited by Stephen G. Post, Vol 1, USA, 2004. p. XI.
[55]– د. نورة بوحناش، الأخلاق والرهانات الإنسانية، ط 1، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2013، ص237.
[56]– تزامن ظهور ما يسمى بأخلاق الحيوان كفرع من الأخلاقيات التطبيقية مع تنامي حركات تحرير الحيوان في القرن 20العشرين انطلاقا من رصد أخطاء السلوك الإنساني اتجاه الحيوان(الركوب والأسر والضرب والذبح والسلخ والأكل…) فأخلاق الحيوان تعنى بالموقف الأخلاقي للإنسان ( الحيوان الناطق) تجاه الحيوان الأعجم وهو أمر كان غائبا في الفكر الأخلاقي التقليدي الذي ظل – برغم استثناءات قليلة يشير إليها توم ريغن – يعالج المشكلة الأخلاقية بين الإنسان ونوعه، بل أن حتى تلك الاستثناءات في نظر “ريغن” – كحالة جون لوك John Locke- رفضت ضرورة عدم القسوة حيال الحيوانات حتى لا تتحول إلى قسوة على الناس الأخرين، أي ليس موقفا أخلاقيا اتجاه الحيوان كغاية وشعوره بالألم بل لهدف آخر وهو الإنسان.
– أنظر: مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئية من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية، ترجمة معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 332، أكتوبر 2006، ص74.
كما أن هناك من يرى أن التراث العربي الإسلامي عرف تناولا للمسألة الحيوانية من خلال الرسالة الثامنة من رسائل إخوان الصفا والمعنونة بـ ” في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها“.
[57]– في هذا الصدد يمكن الاطلاع على رسالة الدكتوراه التي تقدمت به الباحثة ” أفيزاغزافراني” وتم نشرها بعنوان:
– Avishag Zafrani, Le défi du nihilisme : Ernst Bloch et Hans Jonas, Hermann, Paris, 2014.
[58]– السؤال هنا هو: ما هي القوى الاجتماعية والسياسية المؤهلة لقيادة هذا الفعل السياسي -البيئي- والترافع عنه؟ هل هي قوى طبقية أم فئوية؟ وبأي مشروع اجتماعي؟ لماذا لم ترق كل المحاولات الرامية إلى التقليل من خطر التقدم التقني على الطبيعة والانسان إلى أن مستوى النجاح في إبعاد خطره؟ ألا تصبح هذه الدعوة مجرد دعوة حالمة في غياب التأسيس المجتمعي الذي يأخذ بعين الاعتبار الصراع القائم بين المشاريع المجتمعية والمصالح الاجتماعية على المستوى الاقتصادي والسياسي؟