ملخّص:
يعتبرُ الشّعر العربيّ المعاصر عوالم متباينة تسكنها جملة من المعاني والرّموز والأساليب والرّؤى. ومن بين هذه التّقنيّات الّتي يلجأ إليها الشّعراء للتّعبير عن تصوّراتهم ورؤاهم، خاصّيّة الإيهام. ويُعدُّ الإيهام أحد الأساليب الأدبيّة الّتي تستدعي التّفكير والنّقاش، وتثير اهتمام الدّارسين والباحثين، وهو ما يُشرِّعُ لتعدّد التأويلات، ويُتيح للمتلقي المشاركة الفعّالة في فكّ رموز النّص وإعادة بنائه لغةً وإيقاعًا وتصويرًا.
ويُمثّل الإيهامُ آليّةً أسلوبيّة ودلاليّة تروم خلق عوالم دلاليّة متعدّدة عن طريق استخدام الرّموز والأصوات والخيالات. ويستند الإيهام إلى اللّغة والإيقاع والتّصوير والرّمز للتّعبير عن واقعيّة العوالم التّخييليّة، وعن الطّابع المرجعيّ للتّخييل وللانزياحات وللقضايا المطروحة. وهو ما يُدعّم الصّلات بين الواقعيّ والخياليّ، وبين النّصّ وبيئته، وبين الشّاعر ومحيطه. وعليه، يُعتبر الإيهام من أهم التّقنيّات في الشّعر العربيّ المعاصر، إذْ يُساهم في إذكاء الدّلالات وإثراء التّعبيرات، وإيصال الرّسائل بشكل مبتكر ومميّز.
الكلمات المفاتيح: الإيهام. المرجعيّ. التّخييليّ. اللّغة. التّصوير. المعنى.
Abstract:
Contemporary Arabic poetry is considered to be different worlds inhabited by a number of meanings, symbols, styles, and visions. Among these techniques that poet’s resort to express their perceptions and visions is the characteristic of illusion. Illusion is one of the literary methods that calls for thought and discussion, and arouses the interest of scholars and researchers. It allows for multiple interpretations and allows the recipient to participate effectively in decoding the text and reconstructing it in language, rhythm, and imagery.
Illusion represents a stylistic and semantic mechanism that aims to create multiple semantic worlds through the use of symbols, sounds, and imaginations. Illusion relies on language, rhythm, photography, and symbols to express the realism of imaginary worlds, and the referential nature of imagination, shifts, and the issues raised. This supports the connections between the real and the imaginary, between the text and its environment, and between the poet and his surroundings. Accordingly, illusion is considered as one of the most important techniques in contemporary Arabic poetry, as it contributes to raising connotations, enriching expressions, and conveying messages in an innovative and distinctive way.
Keywords: Illusion, Reference, The imaginary, the language, Photography, the meaning.
1- التّمهيد:
إنّ ما يُسوِّغُ لنا تدبُّرَ مسألة “الإيهام في الشّعر العربيّ” هو انفتاح العالم الشّعريّ التّخييليّ على العالم المرجعيّ والتّاريخيّ والواقعيّ بتحوّلاته السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، ذلك أنّ الشّعرَ كَيْنونةٌ مُتحَقِّـقةٌ في التّغيّر لا الثّبات: عمادها الاقتدار والتقرّر، وقوامها المقاومة والفعلُ، وأساسها التّوهّج والتّداعي.
وعليه وقع اختيارنا على هذه المسألة من قبلِ أن نَبْرأَها اسمًا ووَسْمًا، وجهًا وقفا، ظاهرا وباطنا اعتقادا وإيمانا: إيمانا بانبناء الظّاهرةِ الشّعريةِ بوصفها إِظِّهَارًا وانْعِطاءً وإِمْكانًا واقْتِدارًا على أُسُسٍ مُتَغيّرةٍ وقواعدَ متحرّكةٍ منها قائِمٌ وحَصيد. ويؤُولُ هذا التّباين بعد لَأْيٍ إلى انسجام ظاهرٍ وتصدّعٍ خفي. ذلك أنّ الشّعر بِنْيَةٌ مُعَقَّدَةٌ مُتألِّفةٌ من دقيق الأنماط التّصويرية وعميق الأشكال اللّغوية وغزير الألوان الإيقاعيّة. الأمر الّذي اقتضى منّا مداومةَ البحثَ ومواصلةَ التّفكيرِ بالشّعريّة ومع الشّعرية للبحث في صِيَغِها ومقوّماتها ودلالاتها، فالشّعريّة ذوات مُتَفرِّدةٌ وسياقات متعدّدةٌ تُحَقِّقُ ولا تَتَحقَّقُ، تَظهَر ولا تَتجلّى، تُطلَبُ ولا تُدرَكُ، تُشير ولا تَقول. وهي اللَّااكْتِمَال المُمانِعُ الّذي لا يَنْقالُ، والسَّنَدُ السّابِق على كلّ تَغْليقٍ مُتَرَحِّلٍ وحَدَثٍ مُقيم.
يُعبّرُ الشّعر عن أصوات الذّوات المَكْلُومَةِ، فينقلُ آلامها وهزائمها ومُعاناتها، ويُصوّر تطلّعاتها وآمالها، فقد ارتبط بالوجدانيّ والوجوديّ، وبالذّاتيّ والمُشترك، وبالفلسفيّ والحضاريّ، وبالمعرفيّ والذّوقيّ، وبالاجتماعيّ والسّياسيّ. وفي هذه السّياق، اتّخذ بعض الشّعراء المُعاصرين من القضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة والذّاتية مَعِينًا يَنْهلُون منه. ويقوم هذا النّوع من القصائد على الإيهامِ بواقعيّة القضايا المطروحة باعتبار الشّعر انعكاسًا لأحداث المجتمع وتحوّلاته. ويستند هذا الإيهام إلى مجموعة من الأسس الجماليّة والإبداعيّة والتّخييليّة. وهو ما حرصنا على التّبسُّطِ في إيراد خصائصه الإنشائية وتشعُّباته الدّلالية من خلال ديوان “نافخ الزّجاج الأعمى” للشّاعر التّونسيّ “آدم فتحي” الّذي انفردَ بشعريّة خاصّة؛ لها من القوانين الجماليّة المُتَكَتِّمَة في أقاصي النّصّ وأغواره ما يُبوّئهُ منزلة سميّة في الشّعر العربيّ قديمه وحديثه، فما مستويات الإيهام في مجموعة “نافخ الزّجاج الأعمى”؟
2- الإيهامُ كيانًا لُغويًّا:
إنّ نهوضَ فعل الكتابةِ عند آدم فتحي على طرائقَ لا يَطالُها إلّا الكلامُ المشحونُ بالتّوهّجِ والمسكونُ بالانفعالات الرّابضةِ في أقاصي النّصّ وأغوارِ الذّات وأعماقِ الذّاكرة، يقتضي من الدّارس تنويع أدواته وتحديث تصوّراته، وجهدا مضاعفًا للولوج في مسام النصّ، ولخلخلة ما تستّرَ من دلالات، وما تحجّب من تأمّلات. ولا تزيغ الكيانات اللّغوية في “نافخ الزّجاج الأعمى” عن الاندفاع الغنائيّ والتَّدَفُّقِ الخطابيّ اللَّذَيْنِ عاصرا كلّ الفتوحات الشّعرية فحسب، فقد طعّم الشّاعرُ نصّه بالحركة وبالاندفاعات والرّموز، فيرتاد آمادا شعريّة غير تلك الّتي وطأها نُظراؤه من رموز الشّعر العربيّ من أمثال محمود درويش وبدر شاكر السّيّاب وأدونيس والبيّاتي…
ويُعدُّ البناء اللّغوي في “نافخ الزّجاج الأعمى” كيانا زاخرًا بالحركة والسّكون وبالمرئي واللّامرئي وبالخطوط والظّلال، يتقاطع مع الرّسم والنّحت والفنون التّشكيليّة. ويجنح آدم فتحي في منجزه الشّعريّ إلى اللّغة المتعدّية. وتقوم هذه اللّغة على نقل مختلف قضايا العصر وإشكالاته نقلًا توثيقيًّا ووصفيًّا بسيط الأسلوب وواضح الدّلالة وانسيابيَّ المعنى. ويعمل هذا النّوع من الكتابة على تجريد الشّعر من مختلف التّهويمات اللّغويّة والمجازات المركّبة والاستعارات المكثّفة الّتي تحول بين الدّال ومدلوله، فالشّعر “المعاصر تنظيرا وممارسةً هو الّذي واجه المسألة اللّغوية واصطدم بـ “جدارها” المتعدّد الدلالة لأنّه كان يصدر عن مفهوم اللّغة الشّعرية المُتَعدّية، أي اللّغة الّتي تريد أن تكون ضيفة على ما هو خارجها فيه وبه تكون”[1]. وفي هذا الصّدد يقول آدم فتحي:
“جدّتك استراحت الآن.
جدّتك الغائبةُ الحاضرةُ، ساهرةٌ في صورتها الأخيرة، بعِقْدِها
العَنْبَرِ، بخُرْصِها الفضيِّ. معلّقةٌ على جدار الغرفةِ مثل نجمة من البلّور”[2].
يُعوّلُ الشّاعر على هذه اللّغة المتعدّية في نسج معالم منجزه الإبداعيّ. وتتّسم هذه اللّغة ببعدها السّرديّ، وطابعها المرجعيّ الّذي يُعزّز صلة النّصّ بعالمه الواقعيّ. وعليه تتقلّص الحدود الفاصلة بين العوالم التّخييليّة والعوالم المرجعيّة، فيتعزّز حضور اليوميّ والتّصريحيّ والمباشر. وينسجمُ هذا الأسلوب مع دعاوي العديد من الشّعراء والمنظّرين الّذين قالوا بضرورة ابتكار لغةٍ شعريّة جديدة تستجيب لتحوّلات الرّاهن وتقطع مع المعاجم القديمة والأساليب البالية والبلاغة المتوارثة. وتقوم هذه اللّغة البديلة على “إبدال التّعابير والمفردات القديمة الّتي استنزفت حيويتها بتعابيرَ ومفرداتٍ جديدة مُستمدَّةٍ من صميم التّجربة ومن حياة الشّعب”[3].
وبناءً على هذه التّصورات، تغدو الكتابة الإبداعيّة ابتكارا دائما للّغة واختراعا حثيثًا للأساليب. وتصير القصيدة فعلًا مقاومًا للزّمن وللموت وللنّسيان وللرّتابة، فعلًا يُؤصِّلُ الإبداع في بيئته وعالمه وراهنه. وفي هذا الصّدد يُميّز بول فاليري (Paul Valéry) بين استخدامين للّغة بقوله: “بإمكان اللّغة أن تُحدِث نوعين من التّأثير، ففي المحادثة وتبليغ الفكرة تتخلّى الألفاظ عن دورها مباشرة لصالح الفهم (…) أمّا في الشّعر فالاستعمال للألفاظ يكون على نحو مغاير. إنّها الألفاظ نفسها بلا شكّ لكن دون أن يكون لها نفس القيمة والتّأثير، فهناك مسافة فاصلة بين اللّغتين، الأولى طبيعيّة عفويّة والثّانية صافية وسامية، ومع ذلك فالحدود بينها ليست صارمة ولا قاطعة”[4].
وفي هذا الإطار يقول الشّاعر آدم فتحي في قصيدة: “غراب إدغار ألان بو”
“مكانك حيث أنت. ولك عليَّ أن أُوقِدَ لك منارات كلِّ مدينة، شُرفاتها المجلّلةَ بالأزهارِ، فوانيس البلديّة.
لك عليّ إذا انطفأت كلُّها أن أُوقد لك عِصِيَّ البوليس، خوذاتِ الجنود، الجدرانَ العازِلةَ، الآلامَ الأحلام، ريشَ جناحيَّ، وإذا احتجت أصبحتُ من أجلك بشرا”[5].
وعليه، تُعدُّ اللّغة في “نافخ الزّجاج الأعمى” تعبيرا دائما عن الرّغبة في التّحرّر من قيود المعجم وأغلال اللّغة عن طريق إعادة بناء المرجع والعالم والحدث، فاللّغة كيانٌ ينزعُ إلى خلق الممكن وإلى استبطان الذّات والعالم الآخر، فتعبّر عن هواجسِ الرّوح وتطلّعاتِ الحشود وقلقِ المصيرِ وغربةِ الجوهر والعالم. “وبهذا الرّبط بين تفسير الشّعر للعالم وتغييره من جهة، وبين الشّاعر الشّهيد من جهة ثانية، تكون اللّغة المُتعدّية، هي لغةَ الحقيقةِ الّتي لا يتحمّل أعباءها غير نبيّ. فالشّعر هنا فاعل مباشر في العالم، أي خارج القصيدة، والشّاعر نبيٌّ له مسؤوليّته التّاريخيّة في ممارسة “الواجب” الّذي يلتقي فيه الشّاعر العربيّ المعاصر مع غيره من كبار الشّعراء في العالم “[6].
3- الإيهامُ كيانًا تصويريًّا:
تُعدُّ الصّورةُ في ديوان “نافخ الزّجاج الأعمى” ضربًا من ضروبِ الممارسة المحايثة للوجود والأحلام والرّؤى. تَنهلُ من الواقع والمعيش، ومن الرّمزيّ والأسطوريّ، ومن الملموس والمجرّدِ، الأمر الّذي حوّل الجملة الشّعرية إلى لوحات تصويريّة وحالات شعوريّة مولّدةٍ للدّراميّ والحواريّ ومنشِئةٍ للصّراع وللحدث وللفعل، فالصّورة “في الأدب هي الصّوغ اللّسانيّ المخصوص الّذي بواسطته يجري تمثّل المعاني تمثّلاً جديدا ومبتكَرا، بما يحيلها إلى صور مرئيّة معبّرة، وذلك الصّوغ المتميّز والمتفرّد هو في حقيقة الأمر عدولٌ عن صيغٍ إحالية من القول إلى صيغ إيحائيّة، تأخذ مدياتِها التّعبيريّة من تضاعيف الخطاب الأدبيّ، وما تثيره الصّور في حقل الأدب، يتّصل بكيفيّات التّعبير لا بماهيّاته، وهي تهدف إلى تحويل غير المرئيّ من المعاني إلى المحسوس، وتعويم الغائب إلى ضرب من الحضور، ولكن بما يثير “الاختلاف” ويستدعي “التّأويل” بقرينة أو دليل”[7].
وقد حَظيت الصّورة الشّعريّة باهتمام الدّارسين قديمًا وحديثا باعتبارها جماع تصوّرات ذهنيّة وثقافيّة، وبوصفها تعبيرا لغويًّا مخصوصًا يُحوّل الوجود الحسّيّ إلى وجود رمزيّ والفضاءات العيّنيّة إلى رؤى تخييليّة مُجرّدة. وهو ما أدّى ببعض النّقّاد إلى اجتراح مصطلحِ الصّورة الفنّيّة، “ومع أنّ “الصّورة الفنّية” مصطلحٌ حديثٌ، صيغ تحت وطأة التّأثّر بمصطلحات النّقد الغربيّ والاجتهاد في ترجمتها، فإنّ الاهتمام بالمشكلات الّتي يشير إليها المصطلح قديمٌ يرجع إلى بدايات الوعي بالخصائص النّوعيّة للفنّ الأدبيّ”[8].
ويرى قسمٌ آخر من الباحثين أنَّ الصورة مفهوم زئبقيٌّ وهلامي يرفُض أنْ يَنْقالَ ي دون مُماطلةٍ، فالصّورة “من الألفاظ الغامضة وغير المحدّدة في الوقت نفسه بمعنى عام شديد الاتّساع وبمعنى أسلوبيّ مخصوص، وهي غير محدّدة لأنّ استعمالها في حقل البلاغة المعيّن سطحيّ جدًا ومعرّف تعريفا سيّئًا جدّا[9]“. وقد دعا بعض الإنشائيّين إلى ضرورة تحديث مكتسبات المدوّنة البلاغيّة وتحيينها، وقادتهم هذه المطالب إلى الانفتاح على مخرجات المدارس اللّسانيّة والإنشائيّة ومختلف الأشكال التّعبيريّة والفنون الجماليّة، وعليه يَعسُرُ فصل مبحث الصّورة “عن الجذور العميقة الضّاربة في الذّاكرة والمُتخيّل والتّفكير والحلم، فالصورة -بلا شك- موضوعَ تفكيرٍ أشدّ استعصاء على التّصنيفات إلى أجناس وأنواع لأنّها مداخِلةٌ لما نقوم به من عمليات ذهنيّة، ومداخِلَةٌ أيضًا لحياتنا العاطفيّة: فهي جزء لا يتجزّأ من نشاطنا النّفسيّ”[10].
وتتّسمُ الصّورة الشّعريّة في “نافخ الزّجاج الأعمى” بتنوّع المرجعيّات وتعدّد الدّلالات. وقد اعتمد آدم فتحي في سائرِ منجزه على جملة من اللّوحات التّصويريّة الجزئيّة والكلّيّة الّتي تنهل من معين الواقع، وتنحت معالمها من مقالعِ اليوميّ، وهو ما شكّلَ مشهديّةً توثيقيّة ومرجعيّةً صبغت المتن الإبداعيّ، الأمر الّذي يُعزّزُ الصّلات بين العالمين التّخييليّ والواقعيّ. وهكذا تُصبح عمليّة الكتابة فعلَ تَضايُفٍ متبادلٍ بين العوالم الإبداعيّة التّخييليّة والعوالم الواقعيّة الحقيقيّة. وهو ما يُوهِمُ بمرجعية المُتخيَّلِ، وما يُوحي بحقيقة الممكن والمستحيل. ومثال ذلك قول الشّاعر في قصيدة “السّمّاعة”:
“اخلعْ ملابسكَ يأمُرُهُ الطّبيبُ فيفعلُ. يقفُ الشّاعرُ عاريًا.
يستعجلُهُ الطّبيبُ، دون أن ينتبهَ إلى السّمّاعةِ يحمرُّ خدُّها على صدره:
وهذه؟ مُشيرًا إلى كلمات وأوجاع”[11].
هكذا يكون الإيهام التّصويريّ التّجسيدَ الأسمى للخلق الشّعريّ بكلّ مكوّناته الإيحائيّة والإيقاعيّة والتّصويريّة والرّمزيّة، فيُعيد رسم العلاقات بين العناصر والسّياقات وبين الفضاء التّخييليّ والفضاء المرجعيّ، وبين الإنسان والتّاريخ. وتعدُّ الصّورة الإنشاءَ الّذي يُعبّر من خلاله الشّاعرُ عن افتنانِهِ بالتّأسيس والبناء. وهي إلى جانب ذلك التّعبير التّصويريّ والإيحائيّ عن كينونة الشّاعر ووجوده، وهو ما عبّر عنه “غاستون بشلار”Gaston Bachelard بقوله: “وفجأة تتمركز صورة في وسط كينونتنا المتخيَّلَةِ تلتقطنا، تثبّتنا، تنفثُ فينا كينونةً، فيحتاج “الكوجيتو” إلى شيء محسوس من هذا العالم، شيء يمثّل العالم بمفرده، وهذا الشّيء الصّغير المتخيّل هو حدٌّ لاذع يخرق الحالم يُثير فيه تأمّلا حقيقيّا، فكينونته هي في آن كينونة الصّورة وكينونه الانتساب إلى الصورة الّتي تُدهش(…) ففي التّأمّلات الشّاردة الّتي تحلم بشيء محسوس، تغدو كينونتنا الحالمة متعدّدة الميول والصّلاحيّات (…) هذا الشّيء نفسه يغيّر كينونته، إنّه يرتقي إلى الدّرجة الشّاعريّة “[12].
4- الإيهامُ كيانًا مكانيًّا:
يُعدُّ الاحتفاء بالمكان من السّمات المميّزة للشّعر العربي الحديث، وهو ما حوّل العمليّة الإبداعيّة من الكتابة داخلَ المكان إلى كتابةِ المكان، ومن الكتابة صُلبَ العالم إلى كتابةِ العالم والفضاء والحيّز. وهكذا تغدو الكتابة مكانًا ومكانةً، ويغدو المكانُ لغةً طَيِّعَةً، وتصيرُ اللّغةُ إيقاعًا، والإيقاعُ صورةً، والصّورةُ علامةً، والعلامةُ جدلاً، هذا الجدلُ الّذي يأخذُ مُدياتِهُ من معاندةِ الفكرةِ واغتراب الذّات وجموح الإبداع وجنوحه إلى المُغايرِ والمُختَلِف. والمكان هو مجال الفعل والحدث والدّلالة، وهو على حدّ تعبير غاستون باشلار: “المكان الّذي ينجذبُ نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مُباليا، ذا أبعادَ هندسيّةٍ وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشرٌ ليس بشكل موضوعيّ فقط، بل بكلّ ما في الخيال من تحيّز، إنّنا ننجذبُ نحوه لأنّه يكشف الوجود في حدود تتّسمُ بالحماية”[13].
يُمضي الشّاعر حياته مُترحّلًا من مكان حسّيّ إلى آخرَ رمزيٍّ، ومن حيّز ثقافيّ إلى آخرَ معرفيّ ومن فضاءٍ وجدانيّ إلى آخرَ وجودي، فانتماء الشّاعر إلى الأمكنة ليس انتماءً مادّيًا وحسب، ولكنّه انتماءُ الجوهر المغترب إلى خلجاته النّفسيّة والشّعوريّة والتّجريبيّة. وانتماءُ الذّات إلى كتابة الرّؤيا والحلم والشّعور والحضور والغياب.
لقد شُحنتْ الأمكنة في ديوان “نافخ الزّجاج الأعمى” بدلالات إيحائيّة تعكس تجاربه الحياتيّة، فالمكان في منجز آدم فتحي أمكنةٌ من قبيل: الأرض، البحر، السّماء، البئر، المدينة، الوادي، الدرب، المقبرة، المشرحة، العيادة، الحديقة، المعبد، المترو… ولكلّ من هذه الأمكنة فرادتهُ وإيقاعه وأصواته وحضوره وحدثانه. وتتظافر هذه الفرادات جميعُها في ذات المبدع لتصبح ولادةً دائمة: ولادة الإنسان وولادة النّسيان، وفي ذلك يقول آدم فتحي في قصيدة “بيضة النّسيان”:
“لِدْنِي أَيُّها الإنسانُ. كأنّي ما وُلدتُ في حِنّاءِ قابُس، في مغارَةِ أَغْماتَ، في شَرْخِ نَفْزاوَة، في حريق طروادة، في دُوَّارِ الشُّرَيفاتِ، في رمادِ قرطاج، في رُكام هيروشيما، في خليج تونس، في فرنِ أُشْفِـيـتْـزْ، في مجزرة حلبْجة، في مرمَدة نيويورك، في فضيحة رُواندَا، في مذبحة بيروت، في مقبرة قانا، في محرقة غزَّة”[14].
5- الإيهامُ كيانًا رمزيًّا:
يُعتبر استدعاء الرّمز من الخصائص الفنّيّة المميّزة الّتي طبعت المدوّنة الشّعرية العربيّة الحديثة، فهو تعبير رمزيّ عن رغبة الذّات في الانعتاق من قبضة الواقع ودلالاته، والإفلات من أبعاد المكان والزّمان والجسد، وبموجب ذلك يتحرّر الشّعور من الانطباعات المحسوسة، فيطلُّ عمّا تحجّب وتوارى قصد اكتشاف منابع الفطرة والجمال والخلق والرّوح، ولا يتعلّقُ الأمر “بالرّعشة المُتعالية للرّوح الّتي سرعان ما تتوه وسط الكون الشّفّاف للأفكار الخالصة فقط. إنّ الرّمزيّة تكشف القدرة اللّانهائيّة للفكر الخلّاق. لكنّها ليست سوى الرّغبة في الجمال”[15].
قامت شعرية “نافخ الزّجاج الأعمى” على إنشاء تصوّرات رمزيّة تنشدُ الخلاص من أسر الواحد المتعدّد، وتروم الكشف عن الجواهر الخالصة والحقائق الأبديّة الّتي شوّهتها نُتوءات الفكر والرّوح والوجود، وهو ما يُبرّر نكوص الشّاعر إلى الذّاكرة: ذاكرة الفكر وذاكرةِ الشّعور والنّصِّ، “فالشّاعر الرّمزيُّ يرى الواقع الماديَّ لا في عنصر من عناصر مادّيته، بل يراه في صورة أو شكل مثاليّته”[16].
ويتّخذُ الرّمز أبعادًا عدّة في ديوان “نافخ الزّجاج الأعمى”. وهي رموز سياقيّة وجماليّة يلجأ إليها الشّاعر للتّعبير عن خلجاته وآماله وآلامه. وتنقسمُ هذه الرّموز إلى رموز ذات مرجعيّة أدبيّة وفنيّة (الفنّانة صليحة، الشّيخ إمام، الفنّان التّشكيليّ نجيب بلخوجة، الموسيقيّ النمساوي موزارت، الشّاعر اليوناني كافافي، الرّسّام الهولنديّ فان غوغ، الرّسّام والنّحات السّويسريّ ألبيرتو جياكوميتي، الشّاعر المكسيكيّ أوكتافيو باز، الكاتب والشّاعر الأمريكيّ إدغار ألان بو…)، ورموز ذات مرجعيّة فلسفيّة (أرسطو طالس)، رموز ذات مرجعيّة صوفيّة (أحمد بن عروس الّذي تنسب إليه الطريقة الصوفية)، ورموز ذات مرجعية خيالية (بيناكيو)…
شكّلت الرّموز عند آدم فتحي لوحات جماليّة ودلاليّة وحالات شعوريّة ومعرفيّة. وقد عبّرت هذه اللّوحات والحالات عن انتساب الشّاعر إلى الذّاكرة والتّاريخ والمرجع انتساب الباحث عن الفرادة والأسرار، وعبّرت عن مفارقات الذّات وغربة العناصر الخالدة في الوجود الإنسانيّ.
6- الخاتمة:
صفوة القول، إنّ تاريخ الشّعر العربي هو تاريخ التّحوّلات والصّراع: صراع الثّابت والمتغيّر، والشّكل والجوهر، والتّليد والمُستَحدَث، والتّأصيل والتّجريب، والمعنى واللّامعنى. وليس ديوان “نافخ الزّجاج الأعمى” للشاعر “آدم فتحي” بمنأى عن هذه التّحوّلات، فقد استفاد من انفتاحه على سائر الأشكال التّعبيريّة على غرار القصّة والرّواية والرّسم والمسرح والنّحت وغيرها. وقد تطعَّم النّصّ الشّعريّ لآدم فتحي بمنجزات المدارس النّقدّية وبحركات التّجريب، هذه الحركات الّتي حوّلت القصيدة إلى مختبر لغويّ وإيقاعيّ وتصويريّ ودلاليّ. وهو ما حوّل الكتابة إلى رهان بحثيّ دائم، وإلى مشروع لا يكتمل، وإلى عمل ورشويّ مُركّب يتداخل فيه المرجعيّ بالتّخييليّ والذّاتيّ بالمشترك، والماديّ بالمثاليّ والطّبيعيّ بالميتافزيقيّ.
وننتهي من كلّ ما تقدّم إلى أنّ الكتابةَ الشّعريّةَ عند آدم فتحي لغةً وإيقاعًا وتصويرًا وإيحاءً ورمزًا، هي كتابةُ الانفلاتِ والعُدولِ والتّنافذِ والإدهاشِ. وهي إلى جانب ذلك كتابةُ الإضمارِ والظّهورِ، وكتابة الانْصياع والتّمرّدِ، وكتابةُ التّرحّلِ والثّباتِ، والمُقبلِ والمُسْتَقبَل، والتّمكّنِ والتّمنّعِ، والتّحريضِ والتّملُّص. وما كان ذلك ليتحقّق في كلّ مرّة دون أن تكون اللّغة دَيْدنَ الشّاعر وسبيلَهُ، فاللّغة هي ما تُحيلُ الدّاخلَ المظلمَ، والماوراءَ المُتَكَتِّمَ على مَنابِتِهِ على الخارجِ المشحونِ بالتّجاربِ والاندفاعات. وتُعدُّ الكتابةُ بهذا المنحى نمطًا من المقاومة ونوعًا من الانتماء الطّوعي إلى المُشترك الجماليّ والثّقافي والتّاريخيّ والسّياسيّ والاعتباريّ.
هكذا تصير شعريّةُ ديوان “نافخ الزّجاج الأعمى” حدثًا مؤسِّسًا ليس منهُ خلاصٌ وليس بَعْدَهُ فِكاكٌ. وهي شعريةُ الامِّحاءِ والتَّضادِ بوصفها انكشافًا رَجْراجًا يُرَى من داخِلِهِ خارِجُهُ فلا حضورَ هناك ولا غياب. وبناءً عليه يغدو الإيهام كيانًا شفّافًا يطفح بالذّاتيّ والموضوعيّ، وبالوجدانيّ والأنطولوجيّ، وبالمُعلنِ والمُضمر، وبين ما كان ويكون وما يجبُ أن يكون.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
- فتحي (آدم)، نافخ الزجاج الأعمى، أيّامه وأعماله، منشورات الجمل، بغداد، بيروت، ط1، 2011
المراجع العربية والمعرّبة:
- باشلار (غاستون) ، جمالية المكان، تر، غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، لبنان، ط6، 2006.
- باشلار (غاستون) ، شعرية أحلام اليقظة، علم شاعرية التأملات الشاردة، ترجمة جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والترجمة، ط1، بيروت1991.
- بنيس (محمد)، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاته، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط3، 2001.
- الخال (يوسف)، الحداثة في الشعر، دار الطليعة للطاعة والنشر، بيروت، دط، دت.
- عصفور (جابر)، الصورة الفنية، في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي، ط3،1992.
- موسى (بشرى صالح)، الصورة الشعرية في نقد العربي الحديث، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994.
المراجع الأجنبية:
- Hythier (Jean), Poétique de Valery, Arand Colin, 2éme édition, 1970.
- Juszezak (Joseph), Les sources du symbolisme, Sedes, Paris,1985.
- Minazolli Angès), Encyclopoedia universalis. Arcticle « image », Paris, 1996, Coupus,11.
- Moreau (François),L’image littèraire, Paris, Sedes, 1982.
[1]– محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاته، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط3، 2001، ج3، ص88.
[2]– آدم فتحي، نافخ الزجاج الأعمى، أيّامه وأعماله، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، ط1، 2011 ص22.
[3]– يوسف الخال، الحداثة في الشعر، دار الطليعة للطاعة والنشر، بيروت، دط، دت، ص80.
[4]– Jean Hythier, Poétique de Valery, Arand Colin,2éme édition, 1970, P72.
[5]– آدم فتحي، نافخ الزجاج الأعمى، أيّامه وأعماله، ص183،182.
[6]– محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاته، ج 3،ص89.
[7]– بشرى موسى صالح، الصّورة الشعرية في نقد العربيّ الحديث، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994، ص3.
[8]– جابر عصفور، الصورة الفنية، في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي، ط3،1992، ص7.
[9]– François moreu, l’image littèraire, Paris, Sedes, 1982, p9.
[10]– Angès minazolli. Encyclopoedia universalis. Arcticle «image», Paris. 1996, Coupus, 11, p928.
[11]– آدم فتحي، نافخ الزجاج الأعمى، أيّامه وأعماله، ص119.
[12]– جاستون باشلار، شعرية أحلام اليقظة، علم شاعرية التأملات الشاردة، ترجمة جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والترجمة، ط1، بيروت1991، ص133،134.
[13]– غاستون باشلار، جمالية المكان، تر، غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، لبنان، ط6، 2006، ص31.
[14]– آدم فتحي، نافخ الزجاج الأعمى، أيّامه وأعماله، ص158.
[15]– Joseph Juszezak, Les sources du symbolisme, Sedes, Paris, 1985, p103.
[16]– Ibid., p54.