ملخّص:
لعل أبرز المواضيع التي لا تزال تناقش في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانيّة هي كيف نستوعب صورتنا عن العالم، فكيف نفهم هذه الصورة عند إدراكها؟ هل هي قبلية فينا لا تحتاج تفاعلا مع العالم الخارجي؟ هل هي صورة خاصة بكل واحد منّا أم أن هناك كلية الفهم التي تجمعنا كأفراد لإنتاجها؟ هل النّحو اللّغوي مثلا كفيل بقواعده الموحّدة أن يضمن لنا صدق صورتنا عن العالم؟ أم أنّ هناك منهج فلسفي قادر على ذلك؟ كيف فسّر ستراوسن العلاقة بين اللّغة المعبّرة عن هذه الصورة بين واقعيّتها واعتقادنا الخاصّ عنها؟ وما هو دور التّحليل اللّغويّ في الكشف عنها؟
الكلمات المفاتيح: الميتافيزيقا الوصفية، الميتافيزيقا المعيارية، التماثل النحوي، التماثل العلاجي، الاعتقاد والفعل.
Abstract:
among the most topics that are still discussed in philosophy and human sciences fields is how do we understand our image of the world, so how do we understand this image during perceive it? Is it a priori in us in the point we don’t need an interaction with the world to have it? Is it an image specific to each one of us, or is there a totality of understanding that brings us together as individuals to produce it? Is linguistic grammar a guarantee with its unified rules that guarantees us the sincerity of our picture of the world? Or is there a philosophical approach capable of that?
How did Strawson explain the relationship between the language expressing this image, its realism, and our own belief about it? and what is the role of linguistic analysis in revealing this image?
Keywords: descriptive metaphysics, revisionary metaphysics, grammatical analogy, analogy of therapy, belief and action.
1- مقدّمة:
نقدم في هذا المقال محاولة ستراوسن الإجابة عن سؤال كيف نقوم بفهم صورتنا عن العالم بشكل صادق؟ فعند بحثنا في التّراث الفلسفيّ، وخاصة الأنجلوسكسوني منه، نجد أنّ المشكل ارتبط دائما بالمنهج المعتمد في تحليل الإشكالات ودراستها، ومنه الإشكالية المعرفية بشكل خاص، لذا ينطلق ستراوسن من التسليم بفكرة أنّ “التجريبية البريطانية الكلاسيكية خاطئة”[1]، ويبرّر الأمر بسيطرة الذّاتية العقلانيّة الّتي تمتدّ أصولها إلى فلسفة ديكارت مرورا بلايبنتس على كلّ التأويلات والتحليلات الفلسفيّة القائمة. إذ من المفترض أن ينطلق كلّ تعليل عقلاني لنظريّة عن الواقع من البنية العامّة لأفكارنا ويعود بعدها إليها في حركة دائرية. وفي ذلك استبطان لا حضور فيه للعالم المادّي الّذي يعدّ منطلقا لكلّ المدركات وأساسا لكلّ اعتقاد وفعل من منظور ستراوسن. فما هي الخطوات التي اتّبعها ستراوسن من أجل التخلّص من هذه السّيطرة العقلانية؟ وما هو دور الفيلسوف التحليليّ من منظوره؟ وكيف حدّد علاقة الدّاخلي (الاعتقاد) بالخارجيّ (الفعل) في بناء صورتنا عن العالم؟
2- الاعتقاد والفعل: علاقة تبادلية:
اعتمد ستراوسن المنهج التحليليّ الوصفيّ، لا فقط من أجل مناقشة إشكالية المنهج العامّ في الفلسفة التجريبية الكلاسيكيّة ورؤيتها الثنائيّة لمصادر الحكم الصّادق، وإنما كان القصد الأكبر هو الكشف عمّا يؤسس حكمنا الصّادق لصورتنا عن العالم، بالانطلاق أوّلا من تحليل أهمّ التوجّهات التي جاء بها الفلاسفة واللغويّون التحليليّون.
لعلّ أوّل خطوة لتحقيق هذا القصد الأكبر، من منظوره، هو انتقاد الميراث الأوّل الخاص بالتجريبيّة البريطانيّة والّذي تسكنه النزعة الدّاخلية*، وهو عكس ما يمكن أن نسمّيه بالنّزعة الخارجيّة، على اعتبار أنّه “يناقش حياة الأفكار الدّاخليّة بشكل عام كسلسلات من الكينونات الخاصّة غير-المؤشكلة، أمّا النزعة الخارجيّة فتناقش العالم الفيزيائي العامّ والأجسام الفيزيائيّة المتفاعلة في المكان على عكس النزعة الخارجيّة الّتي تجعل الإشكال مقترنا بالذّاتيّة”[2]. إلّا أنّ ستراوسن يرى بأنّ ما يحكم علاقة الدّاخلي والخارجي هو قابليّة الملاحظة في الإدراك، أي أنّ هناك ترابطا وتواصلا بينهما، لا انفصالا حادّا، ويأخذ مثال إدراك مشاهد فيزيائيّة غنيّة ومعقدّة مثل امتداد الرّيف.
يشرح ستراوسن غنى تجربة الملاحظة الإدراكية لمنظر امتداد الرّيف وتعقيده بقوله إنّ ” أيّة محاولة لإحداث اختزال خارجي للتّجربة الإدراكيّة ليس فقط منافيا للعقل بشكل جوهري: بل هو هزيمة-ذاتية: لأنه يضرب في أساس جذب النزعة الخارجية ذاتها”[3]. لهذا نجده يؤيّد عدم التركيز على الجانب الخارجيّ لوحده، ويدعو إلى خضوع كلّ وصف غني باعتباره مدرَكا* إلى الوصف الكامل والغنيّ للتّجربة الذّاتية بالنسبة إلى المدرِك*، أو الّذي يقوم بفعل الإدراك. بمعنى أن أساس العلاقة تبادليّ، بين الذّات والعالم.
يمتد تأثير النزعة الخارجيّة في الفلسفة ليشمل فلسفة اللّغة، نظريّة المعنى، وفلسفة المنطق أيضا. ويبرز هذا التأثير بشكل أكبر في تمييز فلسفة القرن السّابع عشر خاصّة لايبنتس بين حقائق العقل من جهة، وحقائق الواقع من جهة أخرى. أو بمعنى أكثر دقّة الحقائق التحليليّة من جهة، والحقائق التركيبيّة من جهة أخرى، ومن نتائج هذه التمييزات هي جعلنا قادرين “على تحرير مصطلح المعنى، الهويّة أو التضمن أو عدم توافق معاني التعبيرات، العبارات، لقضايا مدركة بشكل مجرّد، والّتي تستعمل عباراتها بشكل صريح. ظاهريّا الأحداث القابلة للملاحظة والموضوعات، كما هي الرموز المكتوبة أو المقروءة من العبارات، وأنماط من السلوك المقبول أو المرفوض، تستعمل بعلاقة مع امتزاجات للعبارات اللّغويّة، من جانب المتحدّث والمستمع”[4] معا. بمعنى أن الصّدق يصبح تبادليّا وليس حالة داخلية استبطانيّة وفقط، أو بناء خارجي قائم على أسس امبريقية صرفة، لهذا، وبعد تحليله لعلاقة التحليل بالتركيب في بناء صدق العبارات، خرج ستراوسن بالاستنتاجين التّاليين: “أوّلا أننا فاعلون، أي أنّنا كائنات قابلة للفعل. ثانيا: أنّنا كينونات اجتماعيّة”[5]. فصورة العالم لا يمكننا أن نبنيها دفعة واحدة، وإنما يتم الأمر بمرور الوقت، بحيث نكوّن في كلّ لحظة رأيا إدراكيّا، هذا الرّأي الّذي يمتدّ في المكان، ويقوم بتحديد مكان-انشغال الأشياء الّتي لدينا ضمن تاريخ بل ومستقبل معيّنين. ويفيد ستراوسن بأنّ” ما أرغب في إضافته الآن هو أنّ صورة-اعتقاد العالم هذه لم تبنى بشكل مستقلّ عن دورنا ككينونات فاعلة”[6]. لكن ما الّذي يجعل مفهوم الفعل واضحا بالنسبة إلينا؟
يجيب ستراوسن بأنّ “ما يجعل مفهوم الفعل واضحا ويظهر دورنا ككينونات معرفيّة بعلاقة مع دورنا كفاعلين هو أنّ لدينا مواقف مؤيّدة وأخرى غير راضية اتّجاه حالات عديدة من المسائل الّتي نعتقد بامتلاكنا إياها في الحاضر أو الّتي نتصوّر بامتلاكها في المستقبل. اعتقاداتنا تهمّنا (…) بسبب هذه المواقف، بسبب ما يمكن أن يسمّى على نطاق واسع رغباتنا وما ننفر منه. لذا فأفعالنا مبنيّة على مزيج من الاعتقاد واستعداد للسّلوك”[7]. فاعتقادنا هو ما يوجّهنا بشكل أساسي نحو إنهاء لحالات معيّنة وغير مرضية لنا أو تجنّبها في مستقبل ممكن، كما أنّها توجّهنا أيضا نحو إدامة شؤون مرضيّة لنا حاليّا أو في مستقبل ممكن؛ وكلاهما موجّه في ضوء اعتقاداتنا.
يرى ستراوسن أنّ علاقتنا بالأشياء في العالم هي علاقة فعليّة متبادلة، إذ أنّنا، وفي تعلّمنا لطبيعة هذه الأشياء، نختار إمكانات الفعل المناسبة للأمر، والعكس صحيح، فمن خلال الفعل نتعلّم أكثر عن طبيعة هذه الأشياء ويظهر الأمر بشكل أوضح في الأمثلة التّالية، إذ أنّ ” مفهومي عن الباب هو مفهوم من خلال فعل الفتح الّذي يمكّن من المرور داخل أو خارج المبنى أو الغرفة، ومن خلال فعل الإغلاق الّذي يمكنني إخراج مشهد أو صوت لما هو في الجانب الآخر”[8]. وما يجمع الأشياء المختلفة وغير المنتمية لبعضها بعضا في هذه الحالة المتمثّلة في الشّخص، الباب، الأشياء داخل الغرفة أو خارجها… هي العلاقة السببيّة الّتي تجمع بين هذه الأشياء في اعتقاد معيّن. الأمر الّذي فسّره ستراوسن بأنّ “هناك رابطة جد مهمّة بين مفهوم الاعتقاد ومفهوم الفعل، تطفو في مزيج من الاعتقاد والرّغبة، (…) السبب الّذي قد أعطيته من قبل هو في التّأكيد على عاطفية الرّابطة بين التجربة الإدراكية والاعتقاد بالذّاتي”[9]. لكن ما معنى أن نمتلك اعتقادا؟ وهل يمكننا تبنّي تعريف هيوم القائل بأنّ امتلاك اعتقاد هو عبارة عن التمتّع بفكرة أو بصورة حيويّة ما خاصّة؟
يجيب ستراوسن بالسّلب[10]، ففي حالة تبنّينا لموقف هيوم نجد بأنّ هناك إمكانيّة لشخص أن يتصوّر إدراكا ما أو يتخيّل شيئا ما من دون الاعتقاد بواقعيّته. لهذا يشترط ترابطا بين مفاهيمنا المتشكّلة عن الموضوعات ووعينا بإمكانات الفعل الّتي تمنحها إيّانا ذات الموضوعات من خلال القصدية، على اعتبار أنّ عمليّة استيعاب مفاهيم الاعتقاد يكون من خلال قصدية هذا الاعتقاد الّذي دائما ما يكون اعتقادا بشيء ما، “بمعنى أنّ الاعتقاد بهذا الشيء يتم بشكل واقعي. أو على الأقل يكون متجهّزا، إذا أعطيت الإمكانية، للفعل بطريقة مناسبة”[11]. لذا فللاعتقاد دور مركزي بحكم أنّه عنصر من ثلاثة عناصر ذاتية موجودة في أية “كينونة عقلانية (إلى جانب) الرّغبة، والفعل القصدي، يمكن أن يختلف من شخص لآخر، لكن لا أحد من هذه العناصر الثّلاث يمكن أن يكون مفهوما، أو حتّى مماثلا، إلّا في علاقته بالآخرين (…) فمستعمل-المفهوم هو بمثابة فاعل أي (…) مستعمل-المفهوم ككينونة اجتماعية”[12].
3- المهمّة العلاجية للفلسفة: انتقاد للتراث التجريبيّ:
ما وجّه الفلسفة التحليلية من منظور ستراوسن في مقاربة الصّدق اللغوي هما تماثلان اثنان: الأوّل هو التماثل النّحوي الّذي ترتكز فيه صحة اللغة على التّماثل الحاصل بين العبارة المنطوقة وبين القواعد اللّغوية الخاصّة بكلّ لغة على حدة، على سبيل المثال مماثلة صحّة القول المعبّر عن فعل تم في الماضي مع القواعد المماثلة لزمن الماضي في ذات اللّغة، أمّا بخصوص التماثل الثاني فهو ما سمّاه فيتغنشتاين، وبعد ذلك ستراوسن، بالتّماثل العلاجي؛ المرتبط بوظيفة وصف مصدر التّشويش على الحكم الصادق في النظرية المطروحة قيد البحث، والقيام بوصف تقنية معالجة لها، وهنا بالضّبط تكمن مهمّة الفيلسوف التحليليّ بحسب ستراوسن المتوقّفة عند حدّ الوصف مع عدم سعي محاولاته إلى إقامة نظريّة أو مذهب جديد، وهذا بالضبط هو صلب الميتافيزيقا الوصفية المتعارضة مع الميتافيزيقا المعياريّة التي رفضها ستراوسن بسبب تدخّلها في تشكيل المعرفة، واعتبارها واحدة من أسباب الالتباس في الحكم على صدق أفكارنا.
يظهر هذا الالتباس الّذي تخلقه الفلسفة المعياريّة عند تحليلنا للطّرق والمقاربات المتنوّعة الّتي حاول من خلالها العديد من الفلاسفة من قبيل لوك، هيوم، وبيركلي مثلا شرح صورتنا العامّة عن العالم بطريقة معيارية تتأسس على إقصائها للعديد من العناصر وإعطائها الأفضلية لعناصر أخرى، وكما جاء أيضا بها كلّ من ديكارت ولايبنتس الّلذين اعتمدوا المقاربة المعياريّة نفسها، وكانت نتيجة ذلك الصّورة الحاصلة عن عالمهم إنتاج ” أساس جدّ ضيّق لتتالي الحالات العقليّة الذّاتية، مع تضمّن، قبل كلّ شيء لانطباعات حسيّة “[13]، لهذا نجد بأنّ كلّ ما حقّقناه من وراء هذه المقاربات هو الفشل في توضيح صورتنا العامّة عن العالم، لتصبح الحاجة إلى العلاج والنّقد أساسية من أجل إعادة توضيح هذه الصّورة العامّة، لكن هذه المرّة بالاعتماد على التحليل الوصفي، ويتمثل “دور الفيلسوف التحليليّ في مساعدتنا على الاستقامة: التحرّر من التشويشات الملحّة، والنّماذج الخاطئة الّتي تسيطر على عقولنا، وجعلنا قادرين على رؤية ما يواجهنا بوضوح، كما قال فيتغنشتاين: ‘تناول الفيلسوف للسّؤال هو مثل تناوله لمرض ما'”[14]. لكن في البداية وجب تشخيص المرض.
يرجع مصدر المرض أو التّشويش في أفكارنا إلى الخمول الحاصل في مفاهيمنا وأفكارنا عند عدم عملها لوقت طويل، أو عند فصلها عن استعمالاتها الآنيّة باعتماد أنماط نحويّة نسقيّة وربط دلالاتها نظريّا وتطبيقيّا بهذه الأنماط. وهذا ما يجعل المتماثلات* النحويّة المجازية السّطحية كما يسمّيها ستراوسن “تتولّى تفكيرنا وتقودنا للتّناقض أو السّخافة أو الخرافة والتشويش الملتبس الّذي لا أمل به”[15]. وهذا ما يتطلّب حلّا عاجلا من أجل إزالة هذا الالتباس.
يلجأ ستراوسن في ذلك إلى نظريّة فيتغنشتاين الاستعماليّة للّغة كعلاج للهوّة الّتي تحدث عند اعتماد آليات اللّغة المنطقية، فبدل البحث في القضايا إن كانت صادقة أم كاذبة وجب التركيز على الاستعمال اليومي للّغة الّذي سيخوّل لنا إخراج الكلمات من صوريّتها المنطقية المحضة إلى فهم استعمالاتها اليومية العادية الواقعيّة، وهذا هو المقصود بالمماثلة العلاجية. ويوضّح ستراوسن هذا التماثل بشكل أكبر في مثال لغوي تطبيقي له يتمثّل في النحو القشتالي الّذي تأسّس على خاصيّة الاستعمال، فعند تقديم هذا النحو “إلى الملكة إيزابيلا، كان جوابها عبارة عن سؤال ما هي استعمالاته. والجواب الّذي قدّم جاء بالنّيابة عن النحو كان كخاصيّة تاريخيّة-عالمية، تحيل على اللّغة كأداة في يد الإمبراطورية. كانوا يتكلّمون القشتالية بشكل صحيح نحويا لأنّ القشتالية الصحيحة نحويا كانت ببساطة هي ما يتكلّمونه. لم يضع النحو معيارا لصدق العبارات الّتي يتحدّثونها، وإنما كانت العبارات الّتي يتكلّمونها هي الّتي تضع معيارا للصّحة بالنسبة إلى النّحو. فإذا كانت إيزابيلا قد طلبت بناء، بطريقة منهجية قصوى، لنظام من القواعد أو المبادئ على ضوء ما يمكن تقريره، مع احترام لأيّ تسلسل للكلمات القشتاليّة، سواء كانت مبنية على عبارات صحيحة وكاملة نحويا أم لا، فستكون في حيرة كبيرة”[16].
ما يودّ ستراوسن إبرازه من خلال هذا المثال هو أنّ قواعد النّحو في الحالة القشتاليّة قد تم تحديدها بشكل غير صريح قبل فترة طويلة من وضع قواعد النّحو الصّريحة لها بفترة طويلة، ويدافع عن فكرة أن قواعد النّحو غير الصّريحة جدّ ضروريّة للخطاب، وبالتّالي، ضرورية لأيّ فكر أوّلي. يظهر الأمر بصورة جليّة في الطريقة الّتي يتعلّم بها الأطفال التحدّث بشكل صحيح نحويّا قبل أن يسمعوا بقواعد النّحو الأمر الّذي يظهر أوّلية الاستعمال في بناء الأسس اللّغوية، ويبرز الأمر أيضا فيما قبل في “نظريّة المعرفة (…) التي تعلّمنا التعامل مع كلمات ‘نفس الشّيء’، واقعي، يوجد، والتعامل معها بشكل صحيح، من دون أن نكون واعين بالمشاكل الفلسفيّة للهويّة، الواقع، والوجود. تعلّمنا بنفس الشّكل التعامل مع مجموعة من المصطلحات الشاسعة وغير المتجانسة، مثل المصطلحات الأخلاقيّة: جيّد، سيّء، خاطئ، صحيح، عقوبة. المفاهيم الزمكانيّة: فكرة السببيّة والتفسير، أفكار المشاعر: الحزن، الغضب، الخوف، الفرح. العمليّات العقليّة من أنواع مختلفة: التفكير، الاعتقاد، التساؤل، التذكّر، التوقع، التخيّل، الإدراك والحسّ التجريبي: رؤية، سمع، لمس، امتلاك أحاسيس: كلّ هذه المجموعات من المفاهيم التصنيفيّة من أجل أنواع من النّاس، حيوانات، نباتات، موضوعات طبيعيّة، سيرورات، أو أحداث، قطع أثريّة إنسانيّة، مؤسّسات، وأدوار”[17]. وبطبيعة الحال نتعلّم هذه الكلمات الّتي تعبّر عن هذه المفاهيم بطرق متعدّدة من منظور ستراوسن، لكننا نتعلّمها بشكل غير محدود، ودون أيّة غاية منطقية، أو كوسيلة من أجل التمكّن من تعليمات نظريّة عامّة خالصة نظريّا.
لهذا فمهما حاول رجل النّحو إنتاج نموذج نحويّ نسقيّ مبنيّ على قواعد منطقيّة للبنية المفاهيميّة العامّة، فإنّ التّطبيق اليوميّ غير الواعي والضمنّي الخاصّ بهذه البنية هو مهمّة الفيلسوف الّذي يسمح أساس اشتغاله بدراسة ما يتحكّم في أسسها من مفاهيم-مفاتيح ضمنيّة غير صريحة من قبيل: الهويّة، المعرفة، المعنى، التّفسير، والوجود. لكنّ السّؤال الّذي يطرحه ستراوسن هو ما إذا كانت هناك علاقة تجمع كلّا من التماثل النحوي والتماثل العلاجيّ، أي، هل علاقتهما هي فعلا علاقة قطيعة وتعارض فقط؟
يجيب ستراوسن بأنّ هناك ما يجمع بين التماثلين، وهناك ما يختلفان فيه، معتبرا بأنه “من الواضح امتلاكهما لنقط مشتركة مهمّة بينهما، يوجد موضع الثقل بها في الاستعمال الحالي للمفاهيم في المجالات الّتي يمتلكونها بشكل خالص. يرتبطان معا بالارتباطات العاديّة للحياة اليوميّة أو بالارتباطات الرّسميّة للمهندسين، الفيزيولوجيين، علماء التاريخ، حكواتيين، أو الريّاضيّين(…) أما التماثل العلاجي من جهة أخرى، يبدو بأنّه يتم تصوّره بمثابة فكر سلبي أكثر[18] . فنحن لا نبني نسقا لكن ‘نجمّع مذكّرات’ من أجل هدف معيّن، وهذا الهدف هو تحرير أنفسنا من التشويشات والحيرة الّتي نكتسبها عندما تكون مفاهيمنا خاملة في الذّهن. لذا وبناء على هذا الفهم فالفيلسوف لا يشرح شيئا إلّا، ربّما، مصدر حيرتنا، كيف تظهر”[19].
ينتقد ستراوسن التماثل النّحويّ لاشتماله على العديد من العيوب والاختلالات “إذ تتأسس جاذبيّة هذا التماثل على التعارض بين إتقان التطبيق، من جهة، ومن جهة أخرى، القدرة على تمييز بناء المبادئ الّتي تتحكّم في التطبيق بطريقة صريحة. وهذا ما خلق مأزقا في خطّ تمييز واضح بين المفاهيم القبل-نظريّة والمفاهيم النّظريّة الضرورية (…) ويظهر الأمر بشكل أوضح في الفرق بين المعجم المشترك للنّاس والمعاجم الخاصّة للفيزيائي، والفيزيولوجي، والاقتصادي، والرّياضي، والكيميائي”[20]. إذ يمكن للتّماثل النّحوي أن تكون له استعمالات في المعجم المشترك بين الناس، وهذا ما يشترك فيه مع التّماثل العلاجي؛ إلّا أنّ اختلافهما يظهر في اعتماد التماثل النّحوي على ما هو أكثر تعقيدا فيما يخصّ المعاجم الخاصّة للعلوم المتخصّصة، والأصحّ، من منظور ستراوسن، هو الأخذ بعين الاعتبار فكرة أنّ إتقان مفاهيم التخصّصات لا تكون إلّا من خلال تعليمات نظريّة صريحة. لهذا بحث عن سبل تعامل التّماثل النّحوي مع هذا المأزق.
يوضّح ستراوسن المأزق بقوله: ” إذا اقترح أحدهم على ديكارت بأنّ الفلسفة لا علاقة لها بالفيزياء، أو لأرسطو بأنّ لا علاقة له بالبيولوجيا، أو للوك وهيوم بأنّ ما نعرفه يسمّى السيكولوجيا التجريبيّة وليس لها أيّ مجال للخوض فيها، أو لكانط بأنّ الفلسفة ليس لها ما تفقه عن العلم الطبيعي بشكل عام، سيجد كل واحد منهم أنّ مثل هذه الاقتراحات غير واضحة. فإذا ارتبطت الفلسفة ببنية تفكيرنا، ستكون بالتّأكيد مرتبطة ببنية تفكيرنا الكلّي، وليس فقط مع الأقل تقدّما والأكثر شيوعا”[21]. لهذا يرى ستراوسن الحلّ في إيجاد تمييز بين المفاهيم النّظريّة للقول من قبيل: الفيزياء النوويّة أو الاقتصاد التي تعتمد على مفاهيم تقنية وبين المفاهيم غير-التقنيّة من قبيل المعرفة والهويّة، ليخلص بعد ذلك إلى أنّ “ما نحتاجه ليس نظريّة تفسيريّة عامّة، وإنّما تخصّصا قائما بذاته معالج يذكّرنا بوقائع الاستعمال كالتّذكّر لمجموعة من المذكّرات من أجل غاية معيّنة، الّتي من خلالها فقط يمكننا تشخيص مصادر الأوهام الفلسفية الّتي نحن موضوعها عندما تنجرف عقولنا بعيدا عن الوقائع”[22].
يردّ ستراوسن مصدر الأزمة بشكل أساسي إلى ما يسمّيه بالنّزعة الكولونيالية الفكريّة الّتي جعلت التخصّصات ترغب في إمساكها بمفاتيح الإتقان العامّ للفهم الإنساني. وهي من منظوره عادة صبيانيّة للذّهن. ومثالها هي صورة ديكارت عن العالم إذ “يمكن النّظر إليها كشكل من الوعي أو بروبغاندا غير واعية لصالح عدة توجهات للتطوّر في العلوم الطبيعيّة”[23]. فمن خلال منهجه الاستبطاني جعل ديكارت علم الهندسة مقياسا لكلّ أفكاره، بحيث إنّ كلّ خصائص الأشياء في العالم الفيزيائي هي خصائص مجالية بما فيها أجسام الأشخاص. وبالتالي، فإنّ نظرة ديكارت للعالم ليست ميتافيزيقية كما تبدو لأنه ” أعطى صورة عن العالم فيها فقط وقائع ما عدا الإله. بحيث تكون هذه الوقائع من جهة ثباتا مادّيا خالصا ذات خصائص واقعية مجالية. ومن جهة أخرى لدينا الثّوابت الفكريّة الخالصة، الإيكو، والّتي هي الجوهر المتواجد في الفكر والمتضمّن للقدرة على فهم اليقين-الذّاتي للأكسيومات البديهيّة ونتائجها الاستنباطيّة”[24]. لذا ومن أجل الانعتاق من هذا الزخم الّذي وضعتنا فيه النزعة الكولونيالية الفكريّة وجب أن نتّجه نحو علاج المفاهيم والأفكار المترسّخة في خطاطاتنا المفاهيمية ومراجعتها، والكشف عن مصدر التشويش والحيرة.
4- خاتمة:
نستخلص ممّا تقدّم إلى أنّ صورتنا الخاصة عن العالم بحسب ستراوسن تتطوّر معرفيا، ومفهوميّا وسلوكيّا من خلال وجودنا في سياق اجتماعيّ غير صريح أو مباشر، لذا فاكتساب “اللّغة بدون تطوير التفكير أمر لا يمكن تصوّره، إذ يجب الاعتماد على التواصل البين-ذاتي (…) فإذا كان الإنسان في عالمه سيكون من الضّروري الاعتراف بأنّ عالمه هو أساسا عالم اجتماعي”[25]. لذا فدراسة البعد الكلّي الكوني للغة بشكل علاجيّ، كما شرحنا، هو الأولى بالتركيز وليس النحويّ التّجزيئي بحسب كلّ لغة على حدة. هذا الأمر هو ما ضمّنه ستراوسن وحاول بيانه عند تحليله لاستعمالات العبارات الجمعيّة مثل نظامنا المفاهيميّ أو البنية العامّة لفكرنا.
[1]– Strawson P. F, Analysis and metaphysics, An introduction to philosophy, Oxford university Press, USA. 1992. P. 71.
* Internalist : ويمكن ترجمته ليس فقط بالدّاخلي وإنّما بالاستبطان أيضا، على أساس أنّ ستراوسن انتقد ديكارت لنفس الفكرة لكونه اعتمد على منهج استنباطيّ محض.
[2]– Ibid. PP. 74. 75.
[3]– Ibid. P. 76.
*- Perceived.
*- Perceiver.
[4]– Ibid. PP. 76.77.
[5]– Ibid. P. 77.
[6]– Ibid. P. 78.
[7]– Ibid. P. 78.
[8]– Ibid. P. 79.
[9]– Ibid. P. 79.
[10]– Ibid. P. 80.
[11]– Ibid. P. 80.
[12]– Ibid. P. 80.
[13]– Ibid. P. 74.
[14]– Strawson P. F, Analysis and metaphysics, P. 3.
*- Analogies.
[15]– Ibid. P. 4.
[16]– Ibid. P. 5.
[17]– Ibid. P. 6.
[18]– Ibid.P.8 السلبي هنا لا يعارض الإيجابي وإنما يفيد عدم التغيير أو التغيّر
[19]– Ibid. PP. 8.9.
[20]– Ibid. P. 10.
[21]– Ibid P. 11.
[22]– Ibid. P. 14.
[23]– Ibid. P. 15.
[24]– Ibid. PP. 15.16.
[25]– Ibid. PP. 80.81.