ملخّص:
يتناول أندرو فينبيرج، أحد أعظم فلاسفة التّكنولوجيا في عصرنا الحالي، مسألة الخوارزمية، انطلاقا من المقارنة مع بعض موضوعاته النّموذجية، ولا سيّما رؤيته للتكنولوجيا كبناء اجتماعي، والتي نستمدّها من كتابيْه: النظرية النقدية للتكنولوجيا (1991) وتكنولوجيا التّساؤل (1999).
بعد تحليله لفكر ماركس، وخاصّة كتاب الرأسمال وكتاب أسس نقد الاقتصاد السياسيّ (الغروندريسة) تطرّق أيضا لمسألة لووم جكارد Jacquard loom وباباج Babbage في مسار رأسمالية الأتمتة الآلية، والتي تقضي وتلغي العمل على مستويات عدّة، بما في ذلك المستوى الفكري. ليخلص بتعريف للأتمتة Automation في العمل باعتبارها أحد المراكز المنطقيّة للحركة التطوريّة والتاريخيّة التي تؤدّي اليوم إلى أسبقيّة ما يمكن تسميته بـ”الحكومة الخوارزمية”.
كما يسهب فينبيرج أيضا في ذكر المراجع النظريّة الأخرى، وتدقيق مجموعة من المفاهيم؛ مثل مفهوم “السنن التقني” ومفهوم الجهاز Dispositif عند مشيل فوكو، ويتيح إمكانية إعادة تحقيق فكر ماركوز … ويعتبرها مفاتيح من أجل نقد تكنولوجيا اليوم.
بالإضافة إلى ذلك، يستكشف فينبيرج مسألة فقدان البيئة المعيشة Lebenswelt كأحد أعراض الإنسان ذي البعد الواحد بسبب الرقمنة الواسعة في العالم التاريخيّ والاجتماعيّ، ويبحث عن إمكانية التحرّر في المستقبل.
الكلمات المفتاحية: الكلمات المفتاحية: النظرية النقدية، تكنولوجيا التساؤل، الخوارزمية، الجسد، الجنس.
Abstract:
Andrew Feenberg, one of the greatest living philosophers of technology, addresses the question of the algorithm starting from a comparison with some of his typical topics, in particular his vision of technology as a social construction derived from works like Critical Theory of Technology (1991) and Questioning Technology (1999). Automation in work is one of the logical centres of the evolutionary and historical movement that today leads to the primacy of what may be called ‘algorithmic governmentality’. After an analysis of Marx’s thought in the Capital and in the Grundrisse, the question of the Jacquard loom and of Babbage is also touched upon in the line of a capitalism of machine automation, which deskills and eliminates labour at many levels, including the intellectual one. Feenberg also dwells on other theoretical references, such as his concept of ‘technical code’, that of Foucault’s dispositif and above all the possibility of re-actualizing Marcuse’s thought, in the key of a critique of technology today. Furthermore, Feenberg explores the question of the loss of the Lebenswelt as a symptom of the one-dimensionality of the human being due to extensive digitalization in the historical-social world, and the future possibility of emancipation.
Key-words: Questioning Technolog, Critical Theory, Algorithms, body, sex.
1- مقدّمة:
أجرى إيغور بيلغريفي[1] هذا الحوار[2] مع الفيلسوف أندرو فينبيرج[3]:
نصّ الحوار:
س ـ إيغور بيلغريفي: أستاذ فينبيرج، نحن نعلم بأنك أستاذ محاضر على مدى سنوات عديدة ولديك خبرة طويلة في هذا الموضوع الذي يتعلق بفلسفة التكنولوجيا، وبالجوانب التاريخية والاجتماعية-السياسية المتعلقة به (الخوارزمية؛ الجينيالوجيا، النظرية، النقد)، الأمر الذي توّج بإصدار مجموعة من الكتابات؛ من ضمنها كتابان صدر أوّلهما في بداية التسعينات، وهو النظرية النقدية للتكنولوجيا (مطبعة جامعة أكسفورد، 1991)، والكتاب الثاني تكنولوجيا التّساؤل (روتليدج، 1999) الذي صدر مع نهايتها. صحيح أنه لم يتمّ ذكر الخوارزميات بشكل صريح فيهما، إلا أنّ هناك مسارا تطوريا قد يقود إلى الحديث عن خوارزمية العالمية في إجراءات العمل. وصحيح أنك في هذه الأعمال لم تتحدّث بشكل مكثف عن التقنيات الرقمية. ومع ذلك، يبدو لي أن هناك محتويات أو أدوات نظريّة ـ وهذا ما أطلب منك أن تبدأ به ـ ربّما يمكن تطبيقها على الوضع الحالي، وبالتالي على بعض التّحليلات الخوارزمية.
على سبيل المثال، يبدو لي، أنه في تلك الكتب يمكنك العثور على موضوع من هذا النوع: التكنولوجيا، إنها “تعمل بمفردها”. أوتوماتيكي (تلقائيّ)، تشبه إلى حد ما الآلة الأوتوماتيكية العالمية أو الآلات الأتوماتيكية سبيوكت Subiekt المذكورة، وقد ذكرت من بين أمور أخرى ذكرها ماركس في كتابه الرأسمال. وجدت بالفعل فكرة هذا الأداء الفوقي أو الميتا-أداء، والذي يميل إلى أن يكون آليا أكثر فأكثر (في عمليات الأتمتة المتكاملة والنسقيّة، والتي سوف يدركها الرقمي فيما بعد تاريخيا، ولو مع وجود طبقة مقاومة).
بعد أن سلّمنا بذلك، فإننا بحاجة إلى فكرة عن التكنولوجيا، والقدرة على قراءة التكنولوجيا، ممّا يسمح لنا بالمقاومة “بالبقاء في الداخل”. إنّ الجدل بين النموذج التكنوقراطي للسيطرة والنموذج الدّيمقراطي للتواصل، الذي تحدثت عنه في كتابك النظرية النقدية، ظهر تيار البناء الاجتماعيّ للتكنولوجيا كاحتمال ملموس. وكما قلت، فإنّ هذا مجرد مثال واحد من الأمثلة الممكنة. لذا، قبل التّعامل مع موضوع الحكومة الخوارزمية، والذي ربما يكون كما اقترحت نقطة انطلاق جيّدة، أريد منك تعليقا بسيطا على ما قلت حتى الآن.
ج. أندرو فينبيرج: يعمل البناء الاجتماعيّ للتكنولوجيا في كل النّماذج التكنوقراطية والدّيمقراطية للتكنولوجيا. إنّ كلّ تكنولوجيا مبنية اجتماعيا، رغم أنّ من يقوم ببنائها قد يكون يختلف اختلافا جذريّا. يمكن دمج ميزة عامة مثل العجلة أو الترس في مجموعة متنوّعة من الأنظمة التّقنية، مع عواقب اجتماعية مختلفة، اعتمادا على متطلبات الجهات الفاعلة الاجتماعية القادرة على التأثير في عمليّة التّصميم. يعدّ التشغيل التلقائيّ ميزة عامة، يمكن أن يلعب دوراً في نظام تقني ينظم ديمقراطيا أو تكنوقراطيا، لكن هذا الدّور سيكون مختلفا في كلّ حالة.
يعود كلّ هذا إلى اهتمام ماركس بشأن التكنولوجيا في كتاب الرأسمال وأسس نقد الاقتصاد السياسي، فهو يلاحظ أنّ العمل المشترك والمنسق لمجموعات العمّال يمكن أن يتجاوز مساهمة كل فرد في العمل. تقوم الرّأسمالية على احتكار واستغلال هذا الفائض، إنّ الرأسمالي لا ينظّم مجموعات العمّال فقط، بل يمتلك أيضا الأدوات التي يستخدمونها، وهو قادر على تعديل تلك الأدوات وفقا لمصالحه. يحتلّ الرأسمالي مكانة خاصة في تقسيم العمل كمنسق تقني للعمل ومستغلّ لمجموعة العمل. يتم تعديل أدوات مجموعة العمل تدريجيّا وفقا لهذه الأدوار. يجب أن تمكن الأدوات من التّحكّم في العمل أثناء يوم العمل، رغم عدم اهتمام العمّال بالإنتاج، وهذا ينطوي على تقليل الجهد والمهارة إلى الحدّ الأدنى.
تجعل الأتمتة العامل عبدا للآلة، في هذا السّياق الرأسمالي. يتمّ نقل القوى الفكرية للإنتاج إلى التّشغيل التلقائيّ للآلة، ويترك العامل مع عمليّات ميكانيكيّة بسيطة لا يمكن للآلة القيام بها. إنّ العمال غير المهرة الذين يمكنهم طلب القليل، ويمكن استبدالهم بسهولة، يتوافقون مع هذا النّوع من الوظائف الآليّة. في الحالة الأكثر تطوّراً، لا تتكوّن هذه العمليات أكثر من الإشراف والصيانة، التي تقوم بها شلّة من المؤطرين العمّال لمجموعة واسعة من الآلات. يتمّ تحقيق المثل الأعلى للمصنع بدون عمال بشكل تقريبيّ.
اعتقد ماركس أنّ هذا الشرط سيكون غير متوافق مع الرّأسمالية. إذا تمّ استخراج فائض القيمة من العمل غير المأجور، فإنّ النجاح النهائي للرأسمالية في القضاء على العمالة سيكون هو انهيارها. لا يقول ماركس بالضّبط كيف سيحدث هذا، لأنّه يرى بأنّ الأتمتة الكاملة ستكون متوافقة فقط مع مجتمع اشتراكيّ حيث يتمّ تقليص أدوار معظم العمّال إلى رعاية الآلات الأتوماتيكية. سترتفع مؤهّلات العمل في هذه الظروف، حيث يتمّ تكليف العمال بمهام فكرية من الدّرجة الثانية والتي تتطلب معرفة علميّة. لم يحدد ماركس درجة ديمقراطية العمل التي ينطوي عليها هذا النّظام، رغم أن انجلز Engels اقترح أن السيّطرة الديمقراطية ستكون مرغوبة ضمن حدود عملية.
يوجد الكثير من الجدل حول ما إذا كان ماركس من دعاة البنائيّة الاجتماعية بالمعنى الكامل للمصطلح. كان يعتقد بالتّأكيد أنّ أنواع وسائل الإنتاج مناسبة جوهريا لعلاقات اقتصاديّة محدّدة، وأظهر في حالة الرأسمالية أنّ الفاعلين الاجتماعين الرأسماليين، قاموا ببناء التكنولوجيا وفقا لاحتياجاتهم. لكنّه لم يكن بدون شكّ ليتخيّل عمليّة مماثلة لإعادة البناء الاشتراكي للتكنولوجيا من قبل العمال في ظل الاشتراكيّة. وبدلا من ذلك، فقد تكهّن حول مستقبل الأتمتة كما أوضحت، وهكذا تخطى عملية التحوّل التكنولوجي برمّتها المتضمّنة في المفهوم البنائيّ للانتقال الاشتراكيّ.
مهما كان الأمر، فإنّ ما حدث بالفعل عندما نجت الرأسمالية في تخطي نهايتها المتوقّعة، الأمر الذي يختلف عما توقّعه ماركس. أريد أن أذكر تغييرين مهمين فيما يتعلّق بالقرن التاسع عشر الذي عاش به ماركس. فقد ازدادت الأتمتة في ظل الرأسمالية من حيث الحدّة والنطاق، بما يتجاوز توقّعات ماركس. لقد استمرّ تقنين العمل في مجالات عديدة أكثر من أي وقت مضى. ما بدأ كاستراتيجية صناعية تحول في ظل الليبرالية الجديدة إلى طريقة لتنظيم العمل البيروقراطي في كل من الأعمال والحكومة. بالإضافة إلى أن التخفيض المجحف في العمالة في العديد من العمليات المؤتمتة للغاية لم يكن له التأثيرات التي تنبّأ بها ماركس، ويبدو أنه متوافق مع الرأسمالية.
لعبت الخوارزميات في هذا السّياق دورا مهما بشكل خاصّ. كما هو معروف، بدأ كلّ شيء بلووم جكارد Jacquard loom. كان هذا أحد أهمّ الابتكارات في أتمتة العمل في الرأسماليّة. كما رأى باباج Babbage إمكانية تحقيق نتائج مماثلة في حساب جداول الملاحة، وحصل على دعم من الحكومة البريطانية لإنشاء جهاز كمبيوتر لهذا الغرض. لو نجح، لكان تطبيق الأتمتة على جميع أنواع المهن البيروقراطية قد بدأ في القرن التّاسع عشر. هناك رواية خيال علميّ تتخيّل النتائج. في الواقع، لم يكن باباج قادرا على عمل “محرك مختلف” خاصّ به، ولم تتحقّق رؤيته إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية. هذا الإنجاز هو أساس الامتداد الجذريّ للأتمتة خارج الصّناعة، ليشمل مجالات مثل التّعليم والحكومة. هذا هو الجديد جذريّا في الرأسمالية المعاصرة.
تعمل الإدارة الليبراليّة الجديدة في هذه المجالات البيروقراطيّة، وفقا للضرورات الرأسماليّة المتمثّلة في تقنين العمالة والقضاء عليها حتى في القطاعات غير الرأسمالية والقطاعات العامة للاقتصاد. لا يزال البناء الاجتماعيّ للتكنولوجيا المؤتمتة خاضعا لقيود التّقسيم الرأسماليّ للعمل، والذي يستبعد السّيطرة الديمقراطيّة والمدخلات في القرارات التكنولوجيّة، ويمتد إلى العديد من مجالات الحياة الاجتماعيّة الأخرى. أصبح من الواضح الآن أنّ جوهر الرأسمالية ليس مجرّد امتلاك وسائل الإنتاج، ولكن بشكل أساسيّ تنظيم كلّ نوع من النّشاط التعاونيّ من “فوق”، من موقع ينسّق ويستغلّ الأنشطة التي تتم “أدناه”. يمكننا أن نطلق على أكثر أشكال الأتمتة في ظل الرأسماليّة “الحكومة الخوارزمية”، طالما أنّنا نضع في اعتبارنا البنية الاجتماعيّة المحدّدة التي تعتمد على هذه التّنظيم.
أصبح البناء الاشتراكيّ للتكنولوجيا وتنظيم العمل الآن موضع تركيز أكثر من نسخته الماركسيّة الأصليّة، لم تعد القضية الرئيسيّة هي احتكار السّوق بل بالأحرى بناء التكنولوجيا.
كما توقّع ماركس، في ظل الاشتراكية، لن يتم تصميم العمليات الآلية لاستغلال القوى العاملة والسّيطرة على الأنشطة الاجتماعية. لن يتم تنظيمها من أعلى، بل يتمّ التحكم فيها من أسفل. سيتمّ تنسيق الوظائف الفنيّة للإدارة والهندسة مع العمليات الجماعيّة والديمقراطيّة التي تشمل مجموعة العمل بأكملها والمجتمع المحيط. سيكون التّوزيع الواسع للمهارات الفكريّة ضروريّا في مثل هذا النظام. ستعني نهاية الرأسمالية تصميما جديداً للأنظمة الآلية ودورا جديدا للعمالة.
س ـ إيغور بيلغريفي: شكرا لك على هذا التّحليل الدقيق لهذه المسألة، وتركيزك على فلسفة ماركس، وتطرّقك لوجهة نظر كلّ من لووم جكارد أو باباج، بطريقة أو بأخرى هذه هي الجوانب التاريخية الجينيالوجية للخوارزمية. دعونا نفصّلْ بالتّدقيق في مفهوم الحكامة الخوارزمية algorithmic governance أو الحكومة الخوارزميّة algorithmic governmentality. إنّ التّحليلات السّابقة، المبنيّة على وجه التّحديد على فكرتك عن البناء الاجتماعيّ للتكنولوجيا وعلى مركزية الممارسات في تحديد البنيات المنطقيّة للتّكرار التقنيّ (إذا وافقت، يمكن أن نسميها “خوارزميات ما قبل الرقمنة”)، هل لا تزال قادرة على قراءة الظّواهر المتعلّقة بالخوارزمية حتى اليوم؟ وما هي حدود هذه القراءة؟
ج. أندرو فينبيرج: حسنا، أعتقد أنه بمفهوم “خوارزميات ما قبل الرقمنة” قد تعني ما أسميته أنا بـ”السنن التقني”. هذا هو مبدأ التّصميم النسقيّ الذي يكيّف التكنولوجيا مع النّظام الاجتماعي. إن تقنين العمل هو مثل هذا السّنن التقني؛ يقوم بتنسيق تصميم مجموعة كاملة من التّقنيات وفقا لمبدأ واحد. إنّه إلى حدّ ما نوع من الإصدار المماثل لخوارزمية مشفّرة في الثّقافة الاقتصادية وليس في الكمبيوتر…
س ـ إيغور بيلغريفي: مرّة أخرى إذا عدنا لوجهة النّظر السّياسيّة-الاجتماعيّة، يبدو لي أنّ التّماثل الذي حدّدته بين الخوارزمية ومفهومك عن السّنن التقني (مثير جدا للاهتمام، في سياق هذا التّحليل) يمكن أن يكون مفيداً. هل يمكنك إخباري بالمزيد حول ما تقصده بـ”السنن التقني“؟
ج. أندرو فينبيرج: يترجم التّصميم التقني المطالب الاجتماعية كمميّزات. على سبيل المثال، “يُترجم” الطّلب الاجتماعيّ من أجل هواء نظيف في فرض سيارات صديقة للبيئية وتجنّب السيارات القديمة، التي تتسبب عوادمها في التّلوّث. يتجسد “المعنى” التقنيّ في البحت عن الهواء النظيف في هذا الجهاز. إن المبادئ العامّة للتّحويل هي التي أسميها “السنن التقني”. هذا هو النوع المثالي الذي يشير إلى المعنى الاجتماعيّ للمميزات التقنيّة. تنظّم بعض السنن مجالات كاملة للتّصميم التكنولوجي؛ مثلا، تقنين العمل Deskilling. إنّها أمل لجميع أنواع التقنيات. إذا فكرنا في الخوارزمية كنمذجة لمجال بواسطة عمليات الكمبيوتر، فيمكننا أن نرى السّنن التقني على أنّه يؤدّي وظيفة مماثلة على مستوى ثقافة الهندسة.
س ـ إيغور بيلغريفي: سؤالي الأهمّ لهذا اليوم، هو كالآتي: إذا كانت الخوارزمية، باعتبارها مصفوفة، مثل مصفوفة العالم المُدار (التي تتبنى المفهوم القديم لأدورنو Adorno)، والتي هي بالفعل موجودة، وتعمل (جيّد جدا!)، وتمّ تجاوزها بطريقة ما (وربّما تمّ تشيدها)، كيف يمكن أن نجد مفتاحا لمقاومتها، لتأجيل آثارها، لتعديلها (أو تحويلها)؟ كيف يمكن أن نحصل على خبرة نقدية ـ إن وجدت ـ في الخوارزمية؟
ج. أندرو فينبيرج: أعتقد أن أدورنو وماركوز قد بالغا في تقدير قدرة الرأسمالية المتطوّرة على تعديل بنية التّجربة اليوميّة. كلاهما رأى في المجتمع الاستهلاكي قوّة قادرة على رفض النقد، وفي الواقع كما نعلم، لا يزال النّقد عاملا في الحياة الاجتماعيّة. اعترف ماركوز بذلك تحت تأثير اليسار الجديد، على عكس أدورنو. إن المشكلة الرئيسيّة للنّقد في النظريّة النقديّة تتعلّق بالوعي بالاحتماليّة. نرى هذا الوعي يظهر في العديد من الحركات الاجتماعيّة اليوم، على سبيل المثال، حركة ضد التَغيُّر المناخيّ. هذا يخلق توترات داخل المجتمع لها عواقب وخيمة. إنّ العالم قد تغير استجابة لهذا الوعي الذي كان سائدا في السنوات الـ 75 الماضية، وهذا الأمر يجب أن يكون واضحاً، ولسوء الحظّ، لم يكن الأمر كذلك عند بعض المنظّرين النقديين. هذا لا يعني أنّ الثورة تلوح في الأفق، كما أنّ هذه المسألة من الناحية النظرية لا تتعلق بدور النّفي في النظام.
س ـ إيغور بيلغريفي: بالإضافة إلى ما قلته للتوّ، في رأيك، فإنّ بعض التّحليلات التي أجراها فوكو (والذي كنت قد اشتغلت عليه سلفا، على ما أتذكّر) يمكن استخدامها أيضا، على سبيل المثال مفهوم الجهاز Dispositive، الذي تمّ رفضه بشكل نسبيّ أو تمّ تكييفه … هكذا ألا ترى أن مفهوم “مجتمع العقاب disciplinary society” الذي سيكون، بطريقة ما، “منظّما” بمنطق خوارزمي، يتوافق إلى أبعد الحدود مع الوضع الحاليّ؟
ج. أندرو فينبيرج: لدى فوكو وماركوز قواسم مشتركة أكثر ممّا يُعتقد عادة. صنّف فوكو، مثل بعض المثقّفين الآخرين (منهم جيجيك أيضا) ماركوز على أنّه ينتمي إلى التوجهات المختلفة من اليسار الجديد مثل الفضائل الثّورية للجنس. في الواقع، مفهوم ماركوز عن “إزالة القمع repressive desublimation” مشابه لنظريّة فوكو عن استغلال الجنس من قبل النّظام الرّأسمالي. يحتاج المرء فقط إلى قراءة بضعة فصول من كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” لتجنّب هذا الخطأ الغبيّ. لا يشمل مفهوم الجهاز Dispositive، الذي سيتمّ ترجمته باللغة الإنجليزية بـ”apparatus”، فقط الأجهزة بل وأيضا الممارسات المرتبطة به. إنّ الجهاز هو مؤثّر اجتماعيّا وفعال تقنيّا في نفس الوقت. هذا نقد بنائيّ للتكنولوجيا، مشابه مرّة أخرى لموقف ماركوز. وهما يختلفان فقط في اليوتوبيا الأكثر إيجابيّة لماركوز.
س ـ إيغور بيلغريفي: شكرا. من أجل العودة إلى مفهوم واحد نتطرق إليه في تحليلات هذا العدد 34-2022 ( (Iمن المجلة الفلسفية Lo Sguardo. أودّ أن أسألك: في رأيك، ما هو نوع العلاقة الموجودة بين الجسد والأجساد والبدن بشكل عامّ، من ناحية، والحكومة الخوارزمية من ناحية أخرى؟ قصدي هو أنّ الخوارزمية بطريقة ما تؤثّر على الأجساد، فهي تعدّل العالم النفسي-الجسدي، على سبيل المثال، وينتهي بها الأمر في مجال اللاّوعي، لتصل أيضا إلى مجال “الذات subject”. بعد كلّ هذا، فيما يتعلّق بهذه الجوانب، يمكن القول بأنّ كتابات من مثل كتابات ماركوز لديها الكثير لتقوله، والتي حافظت على الإرث النظريّ النقدي لمدرسة فرانكفورت، والتي سبق وعملت عليها لفترة طويلة. كما يمكن مقارنة كتابات ماركوز التي اطّلعت عليها أستاذ فينبيرج ـ حول مسألة التقنية والحياة ـ مع نماذج نظريّة أخرى، خاصة هايدغر (أنظر أيضا كتابك هايدغر وماركوز. الكارثة والفداء للتكنولوجيا، روتليدج، 2004).
ج. أندرو فينبيرج: يظهر سؤال الجسد بأشكال عدة في السّياق المعاصر. ينظر الناس أكثر فأكثر إلى أجسادهم كأجهزة يتمّ تشغيلها في ظل الظروف المثلى بمساعدة الأدوات والممارسات التكنولوجية المختلفة. يتماشى هذا مع الظّاهرة النفسيّة التي يرى فيها الناس حياتهم بأكملها من وجهة نظر المشغّل التكنولوجي. هذه توغّلات لنموذج الكمبيوتر في النّفس، والتي لها تأثير على تحويل الجسد إلى جهاز ميكانيكيّ.
يوجد فيض هائل من النّصائح على الإنترنت تغطّي كلّ جانب من جوانب آلة الجسد، ويتمّ إنفاق مبالغ ضخمة على العلاجات الوهميّة التي من المفترض أن تحافظ عليه في حالة جيّدة. يرتدي الناس ساعات رقميّة تراقب معدّل ضربات القلب وعدد الخطوات التي يمشونها على مدار اليوم. يمكن للمرء أن يجادل بأنّ هذه الممارسات شبه خوارزمية تقيس العمليات الجسديّة وفقا لمقياس معين. ما نفقده هنا، هو أنّ هذا التعقيد الذي تعرفه وجهة نظر الشّخص الأول، حول الوجود والبيئة المعيشة Lebenswelt، تجعلنا أمام مجرّد علاقات ميكانيكية. هذه هي أعراض انتصار البعد الواحد على الإنسان. من المدهش أن نلاحظ أنّ ماركوز كان بالفعل حسّاسا لهذه المسائل، وركز بشكل كبير على استعادة التجربة الجسديّة الحسّيّة، في معارضة النّظرة المثاليّة للجسم “المِطواع” القابل للتّسويق المعلن عنه في الإعلانات التلفزيونيّة.
س ـ إيغور بيلغريفي: شكرا لك أستاذ فينبيرج. هناك سؤال أخير: ما توقّعك للسيناريوهات المستقبلية؟ فيما يتعّلق بالانتشار المتزايد للخوارزميات، بماذا “تشعر” أو كيف “تتخيّل” مجتمع المستقبل، ومعه التكنولوجيا نفسها؟ بالإضافة إلى ذلك، وبشكل عكسّي، ما هو المستقبل الذي تتصوّره والخاص بالمعرفة النقديّة؟
ج. أندرو فينبيرج: أتمنّى أن أقول إنّني أرى الاشتراكية في المستقبل، وليس لديّ أي سبب للاعتقاد بأنّ هذا سيحدث على المدى القريب. إذن ماذا أرى؟ إنّني معجب بظهور النّقد والطّعن في الخمسين سنة الماضية. لقد عشت خمسينات القرن الماضي عندما اقتصر النّقد على نخبة صغيرة من المثقّفين. كانت فترة الخمسينات في الولايات المتحدة هي الخلفيّة لمفهوم ماركوز عن البعد الواحد. لقد قطعنا شوطا طويلا منذ ذلك الحين. قد يكون من الصعب فهم ذلك إذا لم تكن قد عشت في تلك الفترة سلفا. إنّ ظهور وعي نقديّ واسع النّطاق يكذّب الفكرة السخيفة القائلة بأنّ النّقد “استنفد طاقته run out of steam”. الواقع هو في تقابل دائم، سواء مع اليمين أو اليسار. يبدو أنّ هذا يقود إلى اتّجاهين غير متوافقين: نوع جديد من الفاشية يقوم على كراهية “النّخب” كنتيجة للّيبرالية الجديدة. أو عودة دولة الرفاهيّة مع العديد من الجوانب الجديدة المتعلّقة بالهوية والمحيط. هذه النتيجة الأخيرة ليست اشتراكيّة بعد، لكنّها على الأقل تفتح المستقبل لكلّ الإمكانيات البشريّة.
بالطبع، سيتمّ تنظيم المجتمع في كلتا الحالتين من خلال الحكومة الخوارزمية، والتي لديها القدرة على اختيار التّغيير والابتكار. كانت هذه بالفعل فكرة ماركوز عن البعد الواحد. الوضع اليوم أقلّ أصالة ممّا قد يتخيّله المرء. النقطة المهمّة هي أنّ التّقابل أصبح أكثر انتشارا ممّا كان عليه في الماضي، وهذا يفتح إمكانيّة غير مسبوقة.
[1]-ـ إيغور بيلغريفي: أستاذ مساعد بجامعة فيرونا، حاصل على دكتوراه في الفلسفة، من اهتماماته “الأخلاقيات وقانون حماية البيانات” و”الأخلاق وفلسفة الفرد” … له مجموعة من المقالات والحوارات منها حوار آخر مع أليساندرو سارتي، نشر في كتاب “التغاير التفاضلي L’hétérogènese différentielle ” أشكال التعالق بين الرياضيات والفلسفة والسياسة. (2020) (بالفرنسية).
Igor Pelgreffi Università degli studi di Verona igor.pelgreffi@univr.it
[2]– المصدر:
http://www.losguardo.net/en/homepage 34-2022(I), Algorithm: Genealogy, Theory, Critique, Edited by Igor Pelgreffi, Massimiliano Badiono, Ubaldo Fadini
[3]– أندرو فينبيرج فيلسوف أمريكي من مواليد 1943، وأستاذ محاضر بجامعة سيمون فريزر في فانكوفر، حاصل على كرسي البحث الكندي في فلسفة التكنولوجيا، مهتم بنقد التكنولوجيا والعلوم والدراسات المرتبطة بها وكذلك بالفلسفة القارية. سبق أن نشر العديد من الكتب والمقالات في هذا المجال، والتي ترجمت إلى لغات عديدة، منها ما هو مترجم إلى العربية، خاصة كتاب “فلسفة العمل”. ماركس ولوكاتش ومدرسة فرانكفورت. ترجمة كرم أبو سحلي. Andrew Feenberg Simon Fraser University feenberg@sfu.ca