ملخّص:
يحاول هذا المقال تسليط الضّوء على إشكاليّة حريّة الاعتقاد اعتمادا على لحظتين هامّتين من تاريخ المنظور اللّيبراليّ للحرّيّة بشكل عامّ، تتمثّل الأولى في التّأسيس الفلسفيّ لمفهوم التّسامح عند لوك من خلال فصله الحكم السّياسيّ ووظيفة الدّولة عن اعتقادات النّاس ونواياهم، أمّا الثّانية فتخصّ الصّياغة الرّولزيّة للتّعدّدية المعقولة المستندة إلى قاعدة أنّ كلّ النّاس أحرار ومتساوون، والمقارنة بين طرفي هذا السّجال غير المباشر بين واحد من اللّيبراليّين الكلاسيكيّين وواحد من أهمّ ورثة الإرث اللّيبراليّ الأنواريّ الكلاسيكيّ، مع إبراز أوجه التّداخل بينهما باعتبار الثّاني أسيرا للحدود الفلسفيّة الّتي أطّر بها الأوّل مفهوم التّسامح وقيّده.
ولأنّ الفهم اللّيبراليّ الكلاسيكيّ لإشكاليّة حرّيّة الاعتقاد -الّذي يمثّل مبدأ الحياد السّياسيّ للدّولة في تصوّر رولز امتدادا له- يتضمّن العديد من المفارقات النّظريّة والعمليّة، فإنّ ذلك سيجعل من النّظريّة السّياسيّة اللّيبراليّة موضوع نقد وشكوك إزاء مقاصدها ورهاناتها بين من سيعتبر مبدأ الحياد “وهما إيديولوجيّا” لتسييد مرجعيّة ثقافيّة على أخرى كما ذهب إلى ذلك ويل كيمليكا، ومن سيعتبره خللا بنيويّا في الأسس الكانطيّة للّيبراليّة العقائديّة الّذي يعود بالأساس في نظر مايكل ساندل إلى مفارقة “أسبقيّة الحقّ على الخير” وما ينجم عنها من انتهاكات لا أخلاقيّة في حقّ الأمن النّفسيّ والرّمزيّ للكثير من ضحايا التّعبير الحاقد أو العنصريّ.
الكلمات المفاتيح: اللّيبراليّة، حرّيّة الاعتقاد، الحياد، التّسامح، الاعتراف.
Abstract:
This article sheds light on the issue of freedom of belief based on two important moments in the history of the liberal perspective on freedom in general. The first, is Locks philosophical foundation of the concept of tolerance by separating political judgment and the role of the state from peoples beliefs and intentions. The second, concerns Rawlins formulation of reasonable pluralism based on the principle that all citizens are free and equal. The article compares then direct debate between one of the classical liberals and one of the most important heirs of the classical liberal enlightenment, the overlapping areas between them, as the second is bound by the philosophical boundaries within which the first conceived the concept of tolerance and limited it.
Because the classical liberal understanding of the issue of freedom of belief, which represents the principle of the state’s political neutrality in Rawls view as an extension of it, includes many the critical and practical paradoxes, this makes liberal political subject to criticism and doubts about its purposes and assumptions. Some will consider the principle of neutrality an ideological illusion to dominate a cultural reference over another, as Will Kymlick a argued, while others will consider it a structural flaw in the Kantian foundations of religious liberalism, which fundamentally, according to Michael Sandal, leads to the paradox of the priority of the right over the good and the resulting ethical violations against the psychological and symbolic security of many victims of hateful or racist expression.
Keywords: Liberalism, Freedom of belief, Neutrality, Tolerance, Recognition.
1- مقدّمة:
مثّلت القرون الوسطى وحروب الإصلاح الدينيّ بأوروبا (القرن السّادس عشر والسّابع عشر) مرحلة قاتمة إزاء حرّيّة التّديّن والاعتقاد، إذ لم تكن معتقدات الأفراد السّائدة آنذاك نتاج اختيار حُرّ وطوعيّ، بل كانت استجابة قهريّة ومُلزمة لسلطة الكنيسة الكاثوليكيّة الّتي لم تكن مجرّد مؤسّسة دينيّة وحسب، وإنمّا كيانا ميّتا سياسيّا له السُّلطة العليا على أنظمة الحكم السّياسيّ ودواليبه لذلك كان الاحتجاج(Protest) طريقا للخلاَص من كلّ القيود السّياسيّة واللاّهوتيّة الّتي تكبّل الفرد داخل المجتمع.
ورغم أنّ بروز البروتستانتيّة(Protestantisme) على واجهة الوجود الرّوحيّ لأوروبا قد خلخل بشكل جذريّ مركزيّة الكنيسة الكاثوليكيّة وأضعف سلطانها وجبروتها، إلاّ أن ضريبة ذلك كانت أكثر قسوة وأشدّ إيلاما لأنّ هذا التّحوّل تسبّب في صراعات عنيفة بين المذاهب العقائديّة المتصارعة، خاصّة في إنجلترا الّتي شهدت حروبا دمويّة طاحنة جعلت الفيلسوف جون لوك يقف وقفة تأمّل فلسفيّ عميق للتّفكير في سُبل العيش المشترك بين هذه المذاهب المتناقضة، فكانت رسالته في التّسامح ردّة فعل تجاه هذا المعطى الظّرفيّ المأساويّ لإنجلترا، وقد أضحى بعد ذلك واحدا من الأسس الفلسفيّة المُثلى لمفهوم التّسامح والتّعايُش بين الأديان والمذاهب والعقائد الدّينيّة ونصّا أخلاقيّا في تدبير الاختلاف وقبول الآخر، استلهم منه اللاّحقون مسالك تصوّراتهم، خاصّة الفيلسوف الأمريكيّ المعاصر جون رولز الّذي يعدّ الوريث الشّرعيّ للإرث الأنواريّ اللّيبراليّ الكلاسيكيّ الّذي صاغ نظريّته في العدالة عموما وموقفه من حريّة الاعتقاد على وجه الخصوص استنادا إلى إعادة استحضار الإسهام اللّوكيّ وتأويله بما يتناسبُ مع جهازه المفاهيميّ ورهانات نظريّته السّياسيّة وخصوصيّة قضايا حريّة الاعتقاد في الدّولة اللّيبراليّة المعاصرة، كي يتحقّق ما أسماه بالمجتمع المحكم التّنظيم الّذي يسمح بالتّعدّديّة المذهبيّة المعقولة.
هذا المنظور اللّيبراليّ للحرّيّة بوجه عامّ وحرّيّة الاعتقاد بشكل خاصّ سيكون محطّ نقد عنيف من قبل أنصار التّعدّديّة الثّقافيّة والاعتراف الّذين اعتبروا اللّحظة اللّيبرالية، سواء الحديثة أو المعاصرة، اختزالا لمفهوم التّسامح داخل منظومة ثقافيّة بعينها والتّعامل باستعلاء تجاه أيّة مرجعيّة ثقافيّة مُغايرة لها، لذلك مثّل الحياد السّياسيّ للدّولة في نظر هؤلاء دعامة إيديولوجيّة لتبرير دعم الدّولة اللّيبراليّة للمفاضلة بين ثقافتها ودينها ولغتها وما يختلف عنها.
كما قدّم الجماعتيّون (Communitarians) العديد من الشّكوك إزاء مصداقيّة التّسامح اللّيبراليّ، خاصّة في صيغته الرّولزية ووعيا منهم بأنّ الحرّيّة اللّيبراليّة تتعارضُ في العمق مع ما تعتقده الجماعة وتسمح لأن يُسلك ضدّ الحرّيّة وانتهاكها باسم حرّيّة التّعبير والاحتجاج والرّأي ما يخلّف أضرارا رمزيّة ونفسيّة للضّحايا، ولأنّ اللّيبراليّة لا تؤمن إلّا بالخيرات المادّيّة فإنّها بذلك تتسامح مع ما لا يمثّل تسامحا أخلاقيّا لأنّ الأولويّة في نظرها للحقّ لا للخير.
ويمكننا أن نتساءل، إلى أيّ حدّ يمثّل المنظور اللّيبراليّ للحرّيّة بوجه عامّ وإشكاليّة حرّيّة الاعتقاد بالخصوص، صياغة شافية وشاملة لمعضلة التّسامح؟ وبأيّ معنى يمكن اعتبار التّصوّر السّياسيّ للعدالة -أو ما سمَّاه رولز بـ”اللّيبراليّة السّياسيّة”- التّعبير الأنسب لمفهوم التّسامح؟ ألا يعدو التّصوّر اللّيبراليّ لحرّيّة الاعتقاد تدبيرا إيديولوجيّا يعيد إنتاج واقعة القمع العقائديّ بأقنعة جديدة؟ هل استطاعت الدّولة اللّيبراليّة، حقّا، أن تكون محايدة إزاء مذاهب الأفراد ومعتقداتهم أم أنّ هذا الشّعار (الحياد) ظلّ مجرّد وهم؟ ما هي حدود التّصوّر اللّيبراليّ لحرّيّة الاعتقاد ومفارقاته؟ وكيف يمكن تدبيرها وتجاوزها؟
نقترح لمعالجة هذه التّساؤلات، أربعة محاور أساسيّة:
– المحور الأوّل يخصّ إشكاليّة حرّيّة الاعتقاد لدى جون لوك.
– المحور الثّاني يتمحور حول مبدأ الحياد السّياسيّ بوصفه شرطا لتحقيق السّلم والتّعايُش.
– المحور الثّالث يقترح اللّيبراليّة السّياسيّة بوصفها مفهوما ناعما للتّسامح.
– المحور الرّابع والأخير يتناول حدود التّصوّر اللّيبراليّ لحرّيّة الاعتقاد، وكذلك أهمّ الانتقادات الجمَاعتيّة الموجّهة للدّولة اللّيبراليّة إزاء مبدأ الحياد، استنادا إلى مُقاربتي ويل كيمليكا ومايكل ساندل.
2- لوك وإشكاليّة حرّيّة الاعتقاد:
شكّلت فلسفة جون لوك(1704-1632) J. Locke مُنعطفا حاسما وعلامةً فارقة في التّراث الفلسفيّ اللّيبراليّ (القرن السّابع عشر)، خاصّة في مجال الحقوق والحرّيّات المدنية فبفضلها أدرك الإنسان الأوروبيّ أنّه لا يمكن أن يضمن وجوده إلّا بضمان العيش المشترك، هذا الأمر جعله مطالبا باحترام الآخرين وتقبُّل اختلافاتهم بصرف النّظر عن انتماءاتهم الدّينيّة أو الفكريّة أو العقديّة.
لقد ساهمت هذه النّظرة الجديدة للإنسان ولنظام الحُكم السّياسيّ القائم على مبادئ الحكم المدنيّ في تأسيس براديغم جديد مبنيّ على الاختلاف وقُبول الآخر والإيمان بالحوار والتّعايُش ونبذ كلّ أشكال التّعصُّب والانغلاق والكراهية. استطاع لوك، بفضل هذه النّظرة الثّاقبة، أن يقطع شوطا كبيرا في تحقيق آمال الحداثة والتّنوير ورهاناتهما ممّا جعله -إلى جانب فلاسفة ومفكّرين آخرين أمثال جان جاك روسو، إسبينوزا، كانط ورولز في اللّحظة المعاصرة- من المنظّرين الكبار لفلسفة حقوق الإنسان. فما دلالة هذا التّصوّر الجديد الّذي قدّمه لوك للتّسامح وحرّيّة الاعتقاد؟ وما هي مرجعيّاته؟ هل يتضمّن مضمونا إيديولوجيّا يعكس رؤيته الأنواريّة اللّيبراليّة للدّيمقراطيّة والحرّيّة أم هو تعبير عن ردّ فعل تجاه تعصّب المذاهب الدّينيّة والعقائديّة المُعادية لقيم التّعدّديّة والاختلاف؟ كيف تعامل لوك مع إشكاليّة حرّيّة الضّمير والاعتقاد؟ هل نظر إليها بمنظور مُتعدّد أم بعيون مجتمعه الإنجليزيّ فحسب؟
يلاحظ القارئ لـ “رسالة في التّسامح” (1686) و”مقالتان في الحكم المدنيّ” (1690)، أنّ الهاجس الّذي كان يقف وراء تفكير لوك في دفاعه عن حرّيّة الضّمير والاعتقاد هو تحقيق السّلم والاستقرار، وهذا هاجس لازم لوك -وبعده رولز- بحكم مُعايشته لواقع مجتمعه الإنجليزيّ الهشّ خلال القرن السّابع عشر والّذي مزّقته الحروب العقائديّة، فتصوّره جاء كردّ فعل تجاه الصّراعات الطّائفيّة الّتي عاينها وعانى منها داخل مجتمعه بين الكاثوليكيّين والبروتستانتيّين.
على هذا الأساس، دافع لوك عن حرّيّة الفرد في التّديُّن والاعتقاد، ليس فقط من منطلق سياسيّ-قانونيّ يخصّ تدبير الدّولة لحرّيّات الأفراد واختلافاتهم المذهبيّة، وإنّما انطلاقا أيضا ممّا هو أخلاقيّ يتعلّق بترسيخ قيم التّسامح والتّعايش الضّامنة للأمن والاستقرار السّياسيّ والاجتماعيّ. فلمَّا كان الاعتقاد شأنا فرديّا يخصّ الإيمان الرّوحيّ للأفراد، فإنّ القانون المدنيّ لا يختصّ بتنظيمه أو الوصاية عليه، بل يضمن فقط احترام ممارسته بحرّيّة دون قسر أو إكراه، ذلك أنّ “الصّراعات الّتي تنشأ عن حرّيّة الاعتقاد لا يمكن تسويتها بالقوّة، بل بسلطة القانون”[1].
ليس من حقّ الحاكم المدنيّ أن يتدخّل في الأمور الدّينيّة لرعاياه أو إلزامهم بالقوّة على اعتناق دينه أو دين معيّن، لأنّ ذلك يرتبط بحرّيّتهم الشّخصيّة وقناعاتهم الخاصّة، فالحاكم له الحكم فقط على الخيرات المدنيّة (الأمن، السّلم، الحرّيّة، الاستقرار…) وليس على نوايا الأفراد ومعتقداتهم، وكلّ تجاوز لسلطته السّياسيّة سيؤدّي لا محالة إلى سيادة العنف والاقتتال وبالتّالي تهديد أمن الدّولة وسلامتها بما هي غايات أُسّست من أجلها.
يمكننا القول إنّه: “لا الحاكم المدنيّ، ولا أيّ إنسان آخر، مفوّض برعاية النّفوس”[2]، لأنّ مهمّة الحاكم تقتصر فقط على حماية الأفراد والحفاظ على خيراتهم المدنيّة وسنّ القوانين الّتي من شأنها تعزيز السّلم والاستقرار داخل الدّولة، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تمتدّ إلى نجاتهم، فـ”خلاص النّفوس -يقول لوك- ليس من شأن الحاكم المدنيّ أو أيّ إنسان آخر، ذلك أنّه ليس مفوّضا من الله لخلاص نفوس البشر، وأنّ الله لم يكلّف أيّ إنسان بذلك”[3].
وإن شكّك مؤمن ما في عقيدة مؤمن آخر، فهذا ليس من شأن سلطة الحاكم، فاليهوديّ الّذي لا يؤمن بأنّ العهد الجديد (أي الإنجيل) هو كلام الله لن يغيّر أيّة حقوق مدنيّة لأنّ إيمانه، وإن كان يشكّك في اعتقاد آخر، لا يمسّ أبدا الملكيّات الخاصّة بالأفراد، كما أنّ لا يهدّد السّلطة السّياسيّة السَّاهرة على حماية أمن مؤسّسات الدّولة وسلامة خيرات النّاس، طالما أنّ قوله لا يمسُّ في شيء حرّيّة الآخرين في اعتقاد ما شاءوا. وهذا معناه أنّه من حقّ أيّ شخص اعتناق الدّين الّذي يراه مناسبا وفعل ما يقتنع به دون قهر أو إكراه في إطار مبدأ “العيش المُشترك”.
3- الحياد السّياسيّ بوصفه شرطا للسّلم والتّعايُش:
لا شكّ أنّ هذا التّوجّه اللّيبراليّ الّذي كرَّسه لوك وسار على منواله رولز في اللّحظة المعاصرة، يعكس بجلاء نضجهما السّياسيّ ورقيّهما في اتّجاه ترسيخ الحقوق والحرّيّات الفرديّة، وبالأخصّ حرّيّة الضّمير والاعتقاد، من منطلق ما يسمّيه رولز بمبدأ “الحرّيّات الأساسيّة المتساوية”[4] (Principle of equal basic liberties) الّذي يقرّ بأنّ “الحرّيّة الدّينيّة لا يمكنها أن تكون مبرّرة إلّا في إطار الحرّيّة للجميع، أي حرّيّة الاعتقاد بغضّ النّظر عن ماهية هذا الاعتقاد(…)، وهو ما يعني أنّ المُتديّن أو المُتمذهب بهذا الاعتقاد أو ذاك، عليه أن يستحضر ولاءه نحو مبدأ الحرّيّات، وأن يمنحه الأولويّة عن ولائه تجاه عقيدته، فلا يمكنه بمنطق سليم أن يستفيد هو من حرّيّة الاعتقاد، ثمّ على أساس هذه العقيدة يسعى إلى قهر واضطهاد عقائد الآخرين”[5].
لذلك يتعيّن على الدّولة اللّيبراليّة، أن تسهر على الأمن الرّوحيّ لمواطنيها وحرّيّاتهم الفرديّة دون التّدخّل في شؤونهم الدّينيّة أو إلزامهم بتبنّي عقيدة دون أخرى، لأنّ ذلك يعتبر مساسا بمبدأ الحرّيّة بوصفه مبدأ دستوريّا مقدّسا، وعلى اعتبار أنّ “تسامح المذاهب الدّينيّة هو وسيلة للنّجاة وضمان للسّلم المدنيّ”[6]، وأنّ الإخلال به يشكّل تهديدا للاستقرار المنشود داخل الدّولة لهذا، فإنّ “فكرة الدّولة الدّينيّة مرفوضة”[7] عند رولز، فليس لدى الدّولة سلطة تفضيل ديانة على أخرى أو الولاء لعقيدة بعينها، “إنّها لا تُقحم نفسها بالعقيدة الفلسفيّة والدّينيّة، لكنّها تنظّم سعي الأفراد لمصالحهم الأخلاقيّة والرّوحيّة طبقا لمبادئ يتّفق عليها النّاس بأنفسهم في وضع بدئيّ من المساواة”[8].
لأجل ذلك، طالب لوك وسليله رولز بمبدأ “الحياد السّياسيّ” للدّولة والّذي يستلزم عدم انحيازها لعقيدة مذهبيّة بعينه: أوّلا، لضمان مبدأ “الحقّ في الاختلاف” والّذي يعدّ أحد مُثلها وقيمها العليا. وثانيا، لتحقيق مطلب “المساواة في الحرّيّة” بين كافّة المواطنين بكيفيّة مُنصفة وعادلة؛ إذ يرفض رولز رفضا مُطلقا منح أيّة حقوق وحرّيّات أساسيّة للفرد استنادا إلى انتمائه الثّقافيّ أو المذهبيّ الّذي ينتمي إليه[9]، لأنّ ذلك في اعتقاده، سيخلق تفاوتا راسخا بين المواطنين وذلك بتوزيعهم إلى فئتين، إحداهما: فئة المواطنين من الدّرجة الأولى، والأخرى: فئة المواطنين من الدّرجة الثّانية. وسينجم عن ذلك نسف أسس المجتمع الدّيمقراطيّ اللّيبراليّ القائم على فكرة كون جميع الأفراد مواطنين أحرارا ومتساوين.
بهذا المعنى، تضمن الدّولة اللّيبراليّة حرّيّة التّديُّن والاعتقاد لكافّة مواطنيها، إذ لا يمكنها التّضحية بحرّيّاتهم في سبيل عقائدهم الدّينيّة أو الأخلاقيّة المُتباينة، لأنّ “المبدأ المؤسّس للّيبراليّة هو سيادة الفرد على حقّ اختيار تصوّراته للحياة ومواجهة الحظر الّذي تمارسه السّلطة الدّينيّة أو السّياسيّة أو الاجتماعيّة”[10]، فواجب الدّولة يقتصر فقط على تأمين الشّروط الخاصّة بالحرّيّة الأخلاقيّة والدّينيّة لجميع الأفراد، ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا في إطار دولة مدنيّة- ليبراليّة غير مذهبيّة “تسهر على احترام حقّ اللّجوء في دلالته العقائديّة، فلا مكان لتجريم الرّدّة، أو إلزام النّاس بما يشوّش على طبيعتهم الحُرّة”[11].
إنّ هذا الفصل الواضح بين الدّولة والاعتقاد تَدين به الدّولة الحديثة لجون لوك أكثر من أيّ فيلسوف آخر، وهو نفس التّصوّر الّذي سيؤسّس للعلمانيّة بصيغتها الحياديّة، وستقوم عليه نظريّة العدالة السّياسيّة عند رولز في شقّها القيميّ المتعلّق بالحرّيّات الأساسيّة، ذلك أنّ التّعدُّد العقائديّ داخل المجتمع الدّيمقراطيّ اللّيبراليّ يقوم، في نظره، على افتراض وجود مذاهب شاملة ومعقولة[12]، ويفتح هذا الافتراض المجال لتقبّل كلّ العقائد على أساس منطق التّسامح والتّعايش انطلاقا من مرجعيّة أساسيّة مفادها أنّ إمكانيّة الحقيقة المطلقة في حدّ ذاتها غير موجودة، وبالتّالي لا فضل لمذهب على آخر أو لعقيدة على أخرى.
يُمكن تحقيق هذا التّصوّر عمليّا، حسب رولز، عندما تقرُّ كلّ المذاهب المعقولة بتصوّر سياسيّ للعدالة داخل مجتمع ينعته بـ”المحكم التّنظيم”A well– ordered Society ، وهو مجتمع “يقتنع فيه جميع الأفراد بأنّ العقيدة المعقولة الّتي يتمّ تبنّيها من طرف شخص متّصف بالمعقوليّة، هي عقيدة معقولة من ضمن أخرى ممكنة”[13] في إطار “المساواة العقَائديّة” والّتي هي شرط أساسيّ لتحقيق الإجماع المتشابك Overlapping Consensus، حتّى تتوافق كلّ المذاهب على نفس التّصوّر السّياسيّ للعدالة لتحقيق السّلم والاستقرار داخل المجتمع، وعليه، فإنّ المواطن اللّيبراليّ مُلزم بالاعتراف بالعقائد الأخرى المُغايرة والمُضادّة لعقيدته في إطار مبدأ التّسامح، لكن كيف يمكن ضمان التّعايش والاستقرار داخل مجتمع تخترقه التّعدّديّة العقائديّة؟
4- رولز والمفهوم النّاعم للتّسامح:
يتبيّن ممّا تقدّم بأنّ رولز، بصفته فيلسوفا ليبراليّا، ظلّ رهين أطروحة جون لوك فيما يخصّ الحرّيّات الفرديّة، فهو لم يُفكّر إلّا من داخل نسقه السّياسيّ للتّسامح والحرّيّة الدّينيّة بشكل خاصّ، بل أدهى من ذلك، إنّ مبدأ الحياد السّياسيّ للدّولة إزاء الحرّيّات الخاصّة الّذي ركّز عليه رولز كثيرا في تصوّره للعدالة ليس إلاّ تثمينا لتصوّر لوك المتمثّل في فصل الخيرات المدنيّة الدّنيويّة عن الاعتقاد الدّينيّ الأخرويّ.
يبدو هذا الانتماء واضحا من خلال استلهام رولز لمقاربة لوك -وإن كانت مقاربة فيلسوف العدالة وفق صياغة جديدة وفي سياق مُغاير- لأجل تدعيم تصوّره السّياسيّ للعدالة الطّامح إلى تحقيق التّوازن والاستقرار داخل مجتمع تخترقه التّعدّديّة المذهبيّة والعقائديّة. كلّ ما كان يهمّ رولز بعمق، هو إيجاد حلّ لمشكلة “واقعة التّعدّديّة المعقولة” (The fact of reasonnable pluralism) المطروحة بحدّة داخل المجتمع الدّيمقراطيّ اللّيبراليّ، ففي هذا المجتمع “يُقرُّ جميع المواطنين نفس التّصوّر السّياسيّ للعدالة، فرغم أنّ لهم تصوّرات دينيّة وفلسفيّة وأخلاقيّة مختلفة، إلاَّ أنّ هذا لا يمنع من وجود وجهة نظر سياسيّة مشتركة تسمح لهم بتصوّر عامّ لمبادئ العدالة يتّفقون عليه جميعا”[14]، وهم يدركون أنّ نجاح بعضهم يُعدّ أمرا ضروريّا ومتكاملا مع صالح البعض الآخر، ويكون لدى كلّ شخص في هذا المجتمع رغبة قويّة وفاعلة للعمل بمقتضى مبادئ العدالة ممّا يؤدّي إلى تماسك المجتمع واستقراره بالرّغم من تنوّع معتقدات أفراده وانتماءاتهم[15].
لا يعتبر تنوّع المذاهب الدّينيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة داخل المجتمعات الدّيمقراطيّة الحُرّة، مجرّد حدث تاريخيّ سرعان ما يزول ويتلاشى بفعل الزّمن، بل هو نتيجة للاستعمال الحرّ للعقل (العقل العموميّ[16] Public reason) بما هو روح المجتمع الدّيمقراطيّ الدّستوريّ والّذي يسعى إلى جعل التّعدّديّة العَقَديّة مبدأ راسخا داخل منظومته السّياسيّة، بل إنّ رولز يعتبر هذا التّعدّد “ملْمَحا ثابتا للمجتمعات الدّيمقراطيّة الحديثة”[17].
لذلك، فإن سؤال العدالة لا يخرج عن كونه محاولة أخرى للإجابة عن الإشكال المركزيّ الّذي أرّق رولز حول كيفيّة تحقيق مجتمع حرّ، منسجم ومُستقرّ رغم التّعدّديّة الأخلاقيّة العميقة الّتي تسوده، ويُنظر فيه بعين الرّضى والاحترام إلى اختلافاتهم الأخلاقيّة والمذهبيّة.
يعتقد رولز، خاصّة في أعماله المتأخّرة: “اللّيبراليّة السّياسيّة” (1993) و”إعادة الصّياغة” (2001)[18]، أنّ الميزة الجوهريّة للمجتمع اللّيبراليّ تتمثّل في كون “كلّ أعضائه يقبلون نفس التّصوّر السّياسيّ للعدالة”[19] بغضّ النّظر عن اختلافاتهم المذهبيّة، وهو ما من شأنه أن يوفّر أساسا كافيا وأكثر معقوليّة لوحدة اجتماعيّة، علما أنّ الواقع المُعاش يُظهر أنّ هذا المجتمع لا يتميّز فقط بتنوّع عقائده بل وتعارضها أيضا، إذ لا تحظى أيّة من هذه العقائد بتأييد كافة المواطنين وإجماعهم، حتّى ولو كان هذا المجتمع محكم التّنظيم[20]، وبالتّالي فإنّ “أيّة محاولة لخلق وحدة إيديولوجيّة أخلاقيّة وسياسيّة للمجتمع منسجمة على أساس تصوّر معيّن للخير، ستُفضي بالضّرورة إلى ما يسمّيه رولز “واقعة القمع” The fact of oppression”[21]، أي اللّجوء إلى سلطة الدّولة من أجل حسم النّزاعات والخلافات، عندئذ ستبرّر الدولة جرائمها الرسمية التي لا مفر منها، يستتبعها فساد الدين والفلسفة والعلم، “فإذا قبلنا- يقول رولز- أن مجتمعاً سياسيا هو متَّحِد عندما تُوحده عقيدة مذهبية شاملة واحدة بذاتها، عندئذ لابد من الاستعمال القمعيّ لسلطة الدّولة والشّروط المرافقة له للحفاظ على المتّحد السّياسيّ، ولنسم هذه الحالة بواقعة القمع”[22].
لم تكن محاكم التّفتيش، في نظر رولز، حدثا عرضيّا في تاريخ الحضارة الغربيّة بل إنّه كان ضروريّا لتوحيد المجتمع حول التّصوّر الكاثوليكيّ، إذ كان لابدّ من قمع الهرطقة للحفاظ على المعتقد الدّينيّ المشترك، ونفس الإجراء يمكن أن يحصل مع أيّة عقيدة مذهبيّة شاملة -حتّى ولو كانت العلمانيّة Secular تروم إلغاء تعدّديّة معقولة. إنّ إكراه أفراد المجتمع على تبنّي عقيدة شاملة هو أمر غير مقبول حسب رولز، لأنّ المجتمع يحمل في ثناياه تنوّعا مذهبيّا، ويؤدّي الأخذ بذلك إلى عدم استقراره وتماسكه.
أمام أزمة المجتمع الدّيمقراطي، يقترح فيلسوف العدالة “اللّيبراليّة السّياسيّة” «Political liberalism» أو “التّصوّر السّياسيّ للعدالة”، منفذا للخروج من هذه الأزمة ويقتصر هذا التّصوّر على عالم السّياسة الّذي يشمل البنية الأساسيّة للمجتمع لكونها الموضوع المركزيّ للعدالة، وتكمن وظيفة هذه البنية في حلّ النّزاعات الشّائكة والعسيرة بين مختلف أفراد المجتمع، بحيث تعمل مؤسّساتها السّياسيّة على أساس مبادئ مشتركة للعدالة أمّا خارج عالم السّياسة فينبغي أن يحافظ المجتمع على تعدّديّته الأخلاقيّة.
إنّ “السّمة المميّزة للمجتمعات المفتوحة “Ouvertes” استنادا إلى تصوّر كارل بوبر، هي تعدّد التّصوّرات الفلسفيّة، الدّينيّة والأخلاقيّة، وكذلك أساليب الحياة وأنماط التّنشئة الاجتماعيّة من خلال ممارسة حرّيّة الاعتقاد والرّأي والّتي يجب أن تتكيّف معها كلّ الأشكال الدّيموقراطيّة”[23]، بالنّظر إلى كون المواطنين، سواء على صعيد حياتهم الشّخصيّة أو على مستوى حياتهم داخل الجماعات الّتي ينتمون إليها ينظرون إلى غاياتهم وتصوّراتهم للخير على أنّها غير قابلة للنّقاش، ولا يمكنهم التّخلّي عنها، إنّهم لا يتصوّرون أنفسهم بمعزل عن هويّتهم المتمثّلة في قناعاتهم الدّينيّة والأخلاقيّة.
خلافا لذلك، نجد التّصوّر السّياسيّ للعدالة مستقلّا بذاته فهو يعبِّر عن الأفكار والمبادئ السّياسيّة السّائدة داخل المجتمع الدّيمقراطيّ، مثل فكرة أنّ جميع الأفراد أحرار ومتساوون وأنّهم يمتلكون حسّ العدالة، كما يؤمنون بمبادئ الحقّ والدّيمقراطيّة في استقلال تامّ عن تصوّراتهم الذّاتيّة للخير. ومن هنا يصبح “التّصوّر السّياسيّ للعدالة أداة لتوجيه النّقاش والتّفكير بالشّكل الّذي يساعدنا على الوصول إلى اتّفاق سياسيّ على الأسس الدّستوريّة والمسائل الرّئيسيّة ذات الصّلة بالعدالة”[24].
بهذا المعنى، لا يتعارض التّصوّر السّياسيّ للعدالة مع القيم الدّينيّة والأخلاقيّة الّتي تقوم عليها العقائد الشّاملة، بل إنّه “يُمَكِّن المواطنين كافّة من ممارسة حقوقهم وحرّيّاتهم الأساسيّة مع احتفاظهم بتلك القيم في الوقت نفسه”[25]، وبذلك تكون اللّيبراليّة السّياسيّة هي التّعبير الدّيمقراطيّ الأنسب لمفهوم التّسامح، وتتّخذ مبدأ “الحياد” كمنهج في التّعامل مع مختلف المذاهب فهي “لا تؤيّد ولا تنتقد أيّة قيم دينيّة أو فلسفيّة أو أخلاقيّة تعتمدها تلك العقائد في نسقها الفكريّ”[26].
إنّ هذا الطّابع السّياسيّ الصّرف للمجتمع الدّيمقراطيّ اللّيبراليّ هو ما يجعله، في نظر رولز، مختلفا عمّا نجده في الجمعيّة Association أو ما يسمّى بالجماعة Community، ويتجلّى ذلك في أن “الانتماء للمجتمع لا يتمّ على شاكلة طوعيّة كنتيجة اختيار تداوليّ، بل إنّه مُعطى أوّليّ يمثّل نقطة انطلاق أساسيّة لهويّتنا”[27].
فضلا عن ذلك، لا يحدّد المجتمع الدّيمقراطيّ غايته انطلاقا من مرجعيّة مذهبيّة كما هو حال الجمعيّات، وإنّما من خلال ديباجة دستوريّة (ميثاق /عقد اجتماعيّ)، وهو ما يجعله أيضا متميّزا عن الجماعات القوميّة والأقلّيّات الثّقافيّة والإثنيّة، “ففي المجتمع الدّيموقراطيّ يجب أن يكون تصوّر العدالة مستقلّا عن المذاهب الأخلاقيّة والفلسفيّة والدّينيّة المتعارضة في ما بينها”[28]، إذا فهمنا منها إقامة وحدة اجتماعيّة شاملة على أساس عقيدة بعينها (دينيّة، أخلاقيّة، لغويّة، عرقيّة…)، فمثل هذه القوميّات تتعارض مع طبيعة المجتمع الدّيمقراطيّ الّذي يتأسّس على العقل العموميّ والّذي يترك للمواطنين كامل الحرّيّة في شأن الاستقلاليّة الأخلاقيّة من منطلق حرّيّة الضّمير والاعتقاد، ويضع كلّ العقائد على قدم المساواة.
5- حدود التّصوّر اللّيبراليّ:
بالرّغم من قيمة التّصوّر اللّيبراليّ للتّسامح، سواء كما عبّر عنه لوك في صيغته الكلاسيكيّة أو كما أعاد تأويله وصياغته رولز في اللّحظة المعاصرة، إلّا أنّه ظلّ محدودا وعلّة ذلك، أنّ لوك يختزله في البعد الدّينيّ فقط، وفي سياق منظومة مغلقة (منظومة الحداثة والأنوار). إنّ التّسامح الّذي يُنادي به لوك نابع بالأساس من عقليّة أنواريّة ليبراليّة تمجّد العقل والإنسان الحديث.
وجّه لوك رسالته عن التسامح بالأساس إلى الإنسان الأوروبيّ، فالحروب العقائديّة الّتي كان يقصدها ويتكلّم عنها هي حروب بين المذاهب الأوروبيّة المسيحيّة فحسب (البروتستانتيّة والكاثوليكيّة بالخصوص)، وعندما يتحدّث عن الدّيانات الأخرى كاليهوديّة والبوذيّة والإسلام فإنّه يشير إليها فقط كأطراف للسّجال على سبيل تدعيم تصوّره، بمعنى أنّه لا يدمجها في صلب الموضوع، وهذا ما يجعلنا نُقرّ بمحدوديّة مقاربته.
إنّ لوك، وتبعا لذلك، لا يدعو إلى تسامح الإنسان المسيحيّ-الأوروبيّ مع غيره (البوذيّ، المسلم، اليهوديّ…) وإنّما يحاول أن يجعله إنسانا متسامحا ومتصالحا مع ذاته، وهو الأمر الّذي يجعلنا نُقرّ بأنّ ديمقراطيّة جون لوك – أي الدّيمقراطيّة الّتي أسّس عليها تصوّره للتّسامح- هي ديمقراطيّة غير منسجمة لأنّها تؤمن بعقل واحد هو عقل الأنوار.
يمكن أن نؤكّد، إلى جانب ذلك، على أنّ التّسامح بصيغته الأنواريّة اللّيبراليّة -سواء مع لوك أو لدى فولتير- ظلّ تسامحا بعْديّا، وبقي موضوعه في سياق الإنتاجات البعْديّة[29] (الدّينيّة مع لوك والإيديولوجيّة-الفكريّة مع فولتير)، ولم يكن منصبّا على السّياقات البدْئيّة للإنسان بكونها مختلف الحتميّات القبليّة الّتي لا يتدخّل فيها من قبيل الجنس واللّون والعرق والجغرافيا والإثنيّات والأقلّيّات… إلخ وليس المهمّ، من النّاحية المبدئيّة أن نتسامح فكريّا (الأفكار، المبادئ، المعتقدات، الدّين…)، وإنّما يجب أوّلا أن نعترف بسياقاتنا البدئيّة وننظر إليها على أساس المساواة، وبالتّالي يغدو الاعتراف شرطا للتّسامح.
عطفا على ذلك نتساءل، ما معنى أن يكون المرء متسامحا؟ أن يكون الإنسان متسامحا معناه أن يعترف للآخر: أولّاً، بغيريّته أي بسياقاته البدئيّة وينظر إليها من زاوية المساواة لا من منظور التّفاضليّة والاستعلاء. ثانيا، عليه أن يتقبّل كلّ المرجعيّات الفكريّة والعقائديّة باختلافها وتعدّدها، لا تواجدها فقط وإنّما تقبُّلها في حدّ ذاتها، فحتّى الأفكار والعقائد الّتي تبدو غير عقلانيّة نحن مُلزَمون بتقبُّلها واحترامها. هنا يكون معنى التّسامح أوسع، أي بين مرجعيّات متعدّدة ومختلفة وليس وفق مرجعيّة واحدة منكفئة ومنغلقة على ذاتها.
لم يستطع رولز، بصفته الوريث الشّرعيّ للإرث اللّيبراليّ، أن يذهب بعيدا بمفهوم التّسامح بل ظلّ أسيرا للتّصوّر اللُّوكيّ الُمغلق، ذلك أنّ التّسامح الّذي يؤسّس له فيلسوف العدالة لا يشمل سوى المذاهب الشاملة والمعقولة والّتي تؤكّد جميعها على نفس التّصوّر السّياسيّ للعدالة داخل المجتمع المحكم التّنظيم، وبالتّالي فإنّ التّعدّديّة المعقولة الّتي يتحدّث عنها صاحب “العدالة كإنصاف” ليست مفتوحة بل هي مغلقة تخصّ فقط العقائد المعقولة لمواطنين أحرارٍ ومتساوينَ، والحال أنّه ليس بالضّرورة أن نتبنّى نفس التّصوّر اللّيبراليّ للعدالة لنتسامح.
إنّ هذه المفارقات الّتي لازمت مفهوم التّسامح بدلالته اللّيبراليّة، سواء في صيغته الأنواريّة الكلاسيكيّة أو المعاصرة، كانت من أبرز العوامل الّتي أدّت إلى بروز إشكاليّة التّعدّديّة الثّقافيّة و”براديغم الاعتراف”، فهذا الفيلسوف الكَنَدي “ويل كيمليكا[30]Will Kymlicka ” (1962- ….) يُطالب الدّولة اللّيبراليّة بضرورة الاعتراف بثقافة الجماعات الأقلّيّة والإثنيّة وعن حقّها في التّمايُز الثّقافيّ والهويّاتيّ دون إقصاء أو تمييز، مؤكّدا على أنّ مهمّة الدّولة ليست هي إدماج أفراد المجتمع -المتعدّد ثقافيّا- في بوثقة ثقافيّة واحدة منسجمة ومتجانسة وإنّما هي بالأساس رعاية الاختلاف والحفاظ عليه.
وقد قادت هذه الملاحظات “ويل كيمليكا” إلى مراجعة المفهوم الكلاسيكيّ للتّسامح لأنّه في نظره يتضمّن نوعا من الحيْف والظّلم واللاَّمساواة ومعه سيتغيّر المنطلق ومعه الرّهان، فليس الهدف من التّسامح هو النّجاة، أي الحفاظ على الحياة وتجنّب الموت والعنف والاقتتال، وإنّما الغاية منه هي الحفاظ على الاختلاف ورعايته وتطويره على أساس أنّ التّعدّد والاختلاف هو أسّ الحضارة الإنسانيّة وجوهر الطّبيعة البشريّة. وهذا ما حدا بكيمليكا إلى القول بأنّ أيّ تسامح لا ينطلق من مبدأ الاعتراف لا يستحقّ اسم التّسامح.
بناء على هذه الحجّة، ترسّخت لدى كيمليكا قناعة مفادها أنّ التّسامح يقتضي الاعتراف المتبادل بين الجماعات الثّقافيّة والدّولة اللّيبراليّة وفق مبدأ المساواة والحقّ في الاختلاف. ويقتضي هذا الاعتراف “العمل بمبدأ التّسامح المبنيّ على تقدير المضمون المعرفيّ لما يؤمن به الآخر، هذا المضمون الّذي قد لا يكون المرء متّفقا معه، بل قد يكون رافضا له، ومع ذلك عليه أن يدافع عن بقائه. ومعنى ذلك أنّ التّسامح الّذي يكون أرضيّة للاعتراف المتبادل لا يجب أن يقوم على اللّامبالاة أو الحكم المسبق، وإنّما على معرفة عقليّة وعلى موقف مسؤول”[31].
ورغم اِدّعاء الدّولة اللّيبراليّة مبدأ الحياد (neutrality) تجاه المعتقدات الثّقافيّة والأخلاقيّة السّائدة داخل المجتمع بحجّة خلق مجتمع سياسيّ منسجم ومستقرّ، إلّا أنّها تخلّت عن هذا المبدأ، وهذا ما جعل كيمليكا يصفه بــ “الوهم الإيديولوجيّ”[32] الّذي وظّفته الدّولة القوميّة لتكريس الثّقافة الرّسميّة (ثقافة الجماعة المهيمنة) على حساب ثقافات الجماعات الأخرى المغايرة لها.
إن فكرة حياديّة الدّولة (State neutrality)القوميّة المتَّحدة والمتجانسة ثقافيّا ليست في نظر كيمليكا سوى “أسطورة”[33]، ذلك لأنّ جميع الأنظمة الدّيمقراطيّة الغربيّة الحديثة ومنذ نشأتها “سعت في الواقع، في وقت من الأوقات، إلى تعريف نفسها بأنّها دولة واحدة القوميّة”[34]، إذ عملت دوما على وتعزيز ثقافة قوميّة واحدة ومتجانسة ونشرها داخل مجتمعاتها سواء في المجال العامّ أو في المجال الخاصّ[35]، كما سعت إلى إدماج كافّة مواطنيها في ثقافة الجماعة المسيطرة مقابل طمس ثقافة الأقلّيّة ولغتها وتراثها الرسميّ، ودعمتها في ذلك “إيديولوجيا عنصريّة وعرقيّة أكّدت أنّ كلّا من لغة وثقافة مجموعة الأقلّيّات والسّكّان الأصليّين متخلّفة ومتدنّية، إن لم تكونا بربريّتين، ولا تستحقّ الاحترام والحماية”[36].
يتجلّى هذا الأمر، وكما يوضّح كيمليكا، من خلال تبنّي الدّولة القوميّة لسياسات تعبّر عن هويّتها الخاصّة فقط، مقابل إقصاء الهويّات الأخرى الأصيلة وتهميشها، وذلك لإبراز لغتها وتاريخها وثقافتها وآدابها وأساطيرها ودياناتها وتشريعاتها الخاصّة. وعليه، فإنّ العمل وفق مبدأ حياديّة الدّولة يخلّ بالتّوازن المنشود تحقيقه بين الجماعة المهيمنة ثقافيّا والجماعات الأقلّيّة الخاضعة لها، بحيث تكرّس هذه الحياديّة اللاتسامح واللاتوازن بينهما، فـ”تصبح حياديّة الدّولة مجرّد أداة بيد الجماعة المهيمنة لحماية ثقافتها وتقويتها والتّعزيز من شأنها على حساب الجماعات الثّقافيّة الأخرى داخل نطاق الدّولة-الأمّة”[37]، وهذا يُغذّي مشاعر الحقد والكراهيّة لدى هذه الجماعات، ومن هنا لا يمكن تحقيق التّسامح -بمعناه الأوسع- في غياب ثقافة الاعتراف بالغير في غيريّته واختلافه.
بالإضافة إلى نقد ويل كيمليكا، اعترض مايكل ساندل Michael Sandel (1953-….) على الزّعم اللّيبراليّ القائل بــ “أسبقيّة الحقّ على الخير” «Priority of the right over the good»، فبالنّسبة إلى رولز، وكما هو الحال عند كانط وسائر اللّيبراليّين، المجتمع العادل هو الّذي تحكمه مبادئ سياسيّة لا تفترض أيّ تصوّر مُسبق للخير ويحرص دائما على عدم إملاء أيّ نموذج معيّن في الحياة على أفراده، تاركا لهم أكبر قدر من الحرّيّة في تحديد القيم الّتي يتبنّونها والغايات الّتي يسعون إلى نيلها في الحياة.
يعتبر ساندل هذا الزّعم اللّيبراليّ بمثابة “وعد كاذب”«False Promise» [38]، إذ كيف يمكن تصوّر مبادئ الفرد وغاياته باستقلال تامّ عن توجّهاته المسبقة للخير وبعيدا عن الشّروط الاجتماعيّة الّتي يعيش في حضنها؟ بالنّسبة إلى ساندل، تستمدّ مبادئ العدالة قُوَّتها الأخلاقيّة من قيم مُشتركة أو سائدة داخل جماعة أو تقليد ثقافيّ محدّد، فهي الّتي تحدّد ما يعتبر عدلا أو العكس، ما يعني أنّ غايات الأفراد ليست مستقلّة أو مُحايدة عن قناعتهم الأخلاقيّة والدّينيّة، وفي هذا السّياق يقول ساندل: “إنّ المَثل الّذي يتطلّع إليه مجتمع ما ويتصوّره محكوما بمبادئ محايدة، إنما هو الوعد الكاذب الّذي تعدنا به اللّيبراليّة حين تؤكّد القيم الفرديّة وتدَّعي حيادا لا يمكن تحقيقه أبدا”[39].
لأجل إدراك تهافت المبدأ اللّيبيراليّ القائم على “أسبقيّة الحقّ على الخير”، يضرب لنا ساندل مثالين: أحدهما، يتعلّق بـ”الحقّ في الحرّيّة الدّينيّة” «The right to religious liberty»، والآخر يرتبط بــ “الحقّ في حرّيّة التّعبير” «The right to free speech». وفي ما يخصّ الأوّل، يؤكّد اللّيبراليّون أنّه يتوجّب على الدّولة دعم الحرّيّة الدّينيّة (حرّيّة المعتقد) من أجل احترام الأشخاص كذوات حُرَّة ومُستقلّة قادرة على اختيار قناعاتهم الدّينيّة الخّاصة.
يُعلِّق ساندل على هذا الزّعم فيقول بأنّ الاحترام الّذي يشير إليه اللّيبراليّون في هذا السّياق ليس احتراما للدّين في حدّ ذاته بل هو احترام للذّات مهما كانت ديانتها، أو بصيغة أخرى، إنّه احترام للكرامة المتمثّلة في القدرة على اختيار المرء لدينه بكامل حرّيّته، ففي نظرهم، وُجدت المعتقدات الدّينيّة لتُحترم، لا بحكم مضمونها ومحتواها وإنّما لكونها “نتيجة الاختيار الحرّ والطّوعيّ للفرد”[40].
يوضّح هذا المثال في نظر ساندل فكرة “أسبقيّة الحقّ على الخير” لدى اللّيبراليين، وهو ما يسعى إلى دحضه وبَيَان تهافته، ويقول في ذلك: “إنّ ما يجعل معتقدا دينيّا ما أهلا للاحترام ليس كونه موضوع اختيار فرديّ حرّ، وإنّما علاقته بالخير والفضائل الاجتماعيّة الّتي يسعى إلى تحقيقها من أجل انتشار طرق في العيش تستحقّ التّشريف والاستحسان”[41]، أمّا إذا ساوينا بين القناعات الدّينيّة ومختلف المصالح والغايات الّتي يمكن لذات مستقلّة أن تختارها، فسيكون من الصّعب علينا التّمييز بين ما يُمليه الضّمير من جهة، وما تُمليه الخيارات الشّخصيّة من جهة أخرى.
أما في ما يتعلّق بــ “الحقّ في التّعبير” فيتناول ساندل في هذا المقام مسألة التّمييز بين التّعبير الحرّ والتّعبير الحاقد، ويرى أنّ اللّيبراليّين لا يمنعون التّعبير الحاقد من حيث هو كذلك كما أنّهم لا يعارضون فرض قيود عليه، إلّا إذا نجم عنه أذى مادّيّ لا لفظيّ فحتّى دُعاة المَيز العنصريّ وخطاب الكراهية تُقرُّ لهم اللّيبراليّة بالحقّ في التّظاهر والتّعبير عن آرائهم مادامت الذّات حرَّة ومستقلّة. إنّ الدّولة في نظرها يجب أن تكون مُحايدة تجاه آراء يتبنَّاها مواطنوها. نعم، يمكن أن تحدّد وقت التّظاهر ومكانه وكيفيّته لكنّها لا تستطيع أن تحدّد محتوى الخطاب، وهذا المثال يُعبِّر حرفيّا عن النّظرة اللّيبراليّة للعدالة والّتي تتأسّس على أولويّة الحقّ على الخير.
يرفض الجماعتيّ ساندل هذا الزّعم بنفس المنطق الّذي رفض به الأوّل، فهو يُلحّ على ضرورة ربط الحقوق بالقيم المشتركة السّائدة داخل المجتمع، ففي المثال السّالف الذّكر المتعلّق بالأذى وما ينجم عنه، أكّد ساندل على أنّ “التّصوّر اللّيبراليّ للأذى ضيّق جدّا، لأنّ من يرى نفسه محدّدا بالمجموعة العرقيّة أو الدّينيّة الّتي ينتمي إليها، قد تتسبّب له الشّتيمة في أذى، لا يقلّ خطورة عن الأذى الجسديّ”[42].
ومن بين الأمثلة الّتي يستحضرها ساندل هاهنا، المسيرة الّتي قام به النّازيّون الجُدد بمدينة سكُوكي الأمريكيّة (Skokie) حيث يتواجد الكثير من النّاجين من المحرقة اليهوديّة. إنّ هذه المسيرة، كما يلاحظ، كان هدفها إثارة المخاوف والعودة إلى ذكريات ومشاعر أليمة عودة مسَّتهم في هويّتهم وتاريخهم وماضيهم الأليم.
هذا يعني، أنّ الأذى اللّفظيّ الّذي قد يتسبّب فيه خطاب الكراهيّة لا يقلّ شأنا عن الأذى المادّيّ، فكلاهما سيّان بالنّسبة إليه، و”هذا الأذى يجب مقاربته بالخير المترتّب على نُصرة التّعبير الحرّ”[43]، إذ المهمّ هو القيمة الأخلاقيّة للتّعبير من حيث علاقته بالمكانة الأخلاقيّة للهويّات القائمة الّتي قد يُهينها الخطاب أو ينال منها، و بهذه الأمثلة الواقعيّة حاول ساندل أن يُبيّن مدى تهافت مبدأ حرّيّة التّعبير والاعتقاد الّذي تأسّست عليه النّظريّة اللّيبراليّة.
6- على سبيل الختم:
لا شكّ أنّ المنظور اللّيبراليّ للحرّيّة يمثّل لحظة فارقة في تاريخ الإنسان فبفضله أنهت أوروبا قرونا من الاستعباد والقمع والاستبداد، ودشّنت أفقا رحبا للوجود والعيش المشترك الضّامن لحرّيّة الإنسان وكرامته، حتّى مثّلت فردوسا جديدا يُضاهي السّعادة الّتي افترضها روسو في لحظة الطّبيعة، يلجأ إليها المضطهدون في معتقداهم ومذاهبهم وتديّنهم طلبا للأمن وحرّيّة التّصرّف وكرامة الاختيار الحرّ.
غير أنّ هذا المنظور، رغم جانبه المُشرق، قد تضمّن العديد من المفارقات والشّكوك والاتّهامات جعلته موضع أزمة بنيويّة، خصوصا وأنّ مُثله العليا من قبيل العلمانيّة والحرّيّات الفرديّة قد تهافتت جدواها الأخلاقيّة في كثير من البلدان الغربيّة بسبب التّوظيف العكسيّ بل والإيديولوجيّ لها في اتّجاه تقييد الاعتقاد عوض ضمان حرّيّته، وخير مثال على ذلك، قرار منع الرّموز الدّينيّة في الفضاءات العموميّة بفرنسا والّذي مثّل بؤرة عمليّة لإعادة استشكال المنظور النّظريّ اللّيبراليّ ككلّ للحرّيّة ولواقعة حرّيّة الاعتقاد على وجه الخصوص.
كلّ هاته المفارقات، تُبرز بوضوح مدى حدود التّصوّر اللّيبراليّ لحرّيّة الاعتقاد والحاجة الملحّة لإعادة النّظر في أسسه ومنطلقاته النّظريّة والعمليّة، وهو ما لا يمكن أن يتحقّق إلّا بالتّخلّي عن مزاعم الشّموليّة والكونيّة والإيمان بالنّسبيّة والاختلاف في سبيل تحقيق العيش المشترك، لكن لا يجب أن يكون هذا المطلب مطيّة لمحو الاختلاف بين الحقّ والباطل، الصّدق والكذب، الخير والشّر… وغيرها من القيم أو مطيّة للقول بتساوي الحقائق كما لا يجوز الاحتجاج بالتّسامح وحرّيّة الاعتقاد لتبرير المساس بقيم الآخرين وحرّيّاتهم الأساسيّة.
قائمة في المراجع:
بالعربيّة:
- كيمليكا (ويل): أوديسا التّعددية الثقافية، سبر السّياسات الدّوليّة الجديدة في التّنوّع، ترجمة إمام عبد الفتّاح إمام، عالم المعرفة، العدد 377، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، 2011.
- لوك (جون): رسالة في التّسامح، ترجمة: منى أبو سنّة، تقديم ومراجعة: مراد وهبة، المجلس الأعلى للثّقافة، القاهرة، الطّبعة الأولى، 1977.
- المصباحي (محمّد): من أجل حداثة متعدّدة الأصوات، ورش لفلسفات الحقّ والثّقافة والسّياسة والدّين، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت-لبنان، الطّبعة الأولى، نوفمبر2010.
- هاشمي (محمّد): نظريّة العدالة عند جون رولز، نحو تعاقد اجتماعيّ مغاير، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 2014.
الأجنبيّة:
- Audard (Catherine): Tolérance et raison publique, Le libéralisme politique de John Rawls, Collective work: La Tolérance politique, classiques Garnier, Paris, 2019.
- John (Rawls): Justice as Fairness: Political not Metaphysical, Philosophy and Public Affairs 14, 1985.
- John (Rawls): Political Liberalism, New York, Columbia University Press, 1993.
- John (Rawls): A Theory of Justice, Cambridge, MA: Harvard University Press, 1971. Revised Edition, 1999.
- John (Rawls): Justice as fairness: A Restatement, Eric Kelly, Ed, Cambridge, MA, Harvard University Press, 2001.
- Kymlicka (Will): Liberal Individualism and liberal Neutrality, Ethics Journal, Vol.99. No.4 July 1989.
- Michael (Sandal): Liberalism and the limits of justice, Cambridge University Press, Second edition, 1982.
[1]– A. Catherine: Tolérance et raison publique: Le libéralisme politique de John Rawls, Collective Work :La Tolérance politique, classiques Garnier, Paris, 2019, P3.
[2]– جون لوك: رسالة في التّسامح، ترجمة. منى أبو سنّة، تقديم ومراجعة. مراد وهبة، المجلس الأعلى للثّقافة، القاهرة، الطّبعة الأولى، 1977، ص24.
[3]– المصدر نفسه، الصّفحة نفسها.
[4]– يتضمّن المبدأ الأوّل لنظريّة العدالة عند رولز مجموعة من الحقوق والحرّيّات الأساسيّة المُتساوية مثل: حرّيّة الضّمير والاعتقاد، حرّيّة التّفكير والتّعبير، حرّيّة التّجمّع، الحرّيّة الأخلاقيّة والحرّيّة الشّخصيّة الّتي تتضمّن سلامة الشّخص النّفسيّة والجسديّة وغيرها من الحرّيّات الأساسيّة المتساوية الّتي يُدافع عنها رولز ويراها ضروريّة، لأنّه بدونها لا يستطيع المواطنون كسب صفة “المواطنة” Citizenship.
[5]– محمّد هاشمي: نظريّة العدالة عند جون رولز، نحو تعاقد اجتماعيّ مغاير، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 2014، ص14.
[6]– A. Catherine, Tolérance et raison publique: Le libéralisme politique de John Rawls, op-cit, P1.
[7]– J. Rawls: Justice as fairness: A Restatement, Eric Kelly, Ed, Cambridge, MA: Harvard University Press, 2001, P.186.
[8]– Ibid. P.187.
[9]– يؤكّد رولز في هذا السّياق على أنّ أطراف العقد في سياق الوضعيّة البدئيّةOriginal position ، وهي أداة منهجيّة لاختيار مبادئ العدالة، يجهلون اعتقاداتهم وتصوّراتهم الدّينيّة والأخلاقيّة والثّقافيّة والإثنيّة، كما يجهلون وضعيّتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وبصفة عامّة كلّ ما من شأنه أن يؤثّر على تصوّرهم السّياسيّ للعدالة، إنّهم يكونون في حالة يدعوها رولز “حجاب الجهل” Veil of ignorance، يختارون -وهم تحت هذا الحجاب- مبادئ العدالة باعتبارها ميثاقا للمجتمع الّذي سيعيشون فيه.
[10]– A. Catherine : Tolérance et raison publique: Le libéralisme politique de John Rawls, op-cit, P1.
[11]– محمّد هاشمي: نظريّة العدالة عند جون رولز، مرجع سابق، ص149.
[12]– تتمثّل المذاهب الشّاملة حسب رولز في معتقدات الأفراد والمؤسّسات العاملة في المجال الخاصّ مثل الجمعيّات والكنائس والنّقابات، وتكون العقيدة شاملة حين تشتمل على المعتقدات ذات الصّلة بما هو قيّم في حياة الإنسان مثل العقائد الدّينيّة الّتي تؤكّد حرّيّة الضّمير والاعتقاد وتدعم الحرّيّات الدّستوريّة الإنسانيّة، وأيضا العقائد الفلسفيّة اللّيبراليّة المختلفة مثل فلسفة كانط وجون لوك وجون ستيوارت مل وكذلك المثل الأخلاقيّة المرتبطة بالفضيلة والطّباع السّيكولوجيّة الّتي تميّز سلوكنا غير السّياسيّ، ويعتبرها رولز “شاملة” بالمعنى الجزئيّ فقط، لأنّها ليست نسقيّة ولا كاملة، فهي شاملة لأنّها تشمل قيما لا سياسيّة. للمزيد أنظر:
-J. Rawls: Justice as fairness: A Restatement, op-cit, PP.33-34.
[13]– محمّد هاشمي: نظريّة العدالة عند جون رولز، مرجع سابق، ص223.
[14]– J. Rawls: Justice as fairness: A Restatement, op-cit, P32.
[15]– من الواضح أنّ التّعدّديّة الأخلاقيّة الّتي يتحدّث عنها رولز هنا لا تعني سوى معتقدات أفراد المجتمع محكم التّنظيم وأفكارهم، وبذلك فهي لا تشمل تنوّع الثّقافات غير المعقولة داخل المجتمع. بمعنى آخر، إنّ التّعدّديّة الأخلاقيّة الّتي يقصدها رولز هي التّعدّديّة المعقولة بين مواطنين أحرار ومتساوين يتّصفون بالعقلانيّة والمعقوليّة، وينحصر هذا التّصوّر فقط على أفراد المجتمع الدّيمقراطيّ اللّيبراليّ. اُنظر:
-Ibid. PP. 32-33-34.
[16]– عبّر كانط عن هذا المطلب في مقالته الشّهيرة “ما هو التّنوير؟” من خلال تمييزه بين الاستعمال العموميّ للعقل والاستعمال الخصوصيّ.
[17]– J. Rawls: Justice as fairness: A Restatement, op-cit, P.34.
[18]– يمكن اعتبار كتاب “نظريّة العدالة: إعادة الصّياغة” بمثابة مراجعة وتقويم لـ”نظريّة العدالة” (1971) نتيجة الانتقادات الشّديدة الّتي تلقّاها رولز من قِبل المحافظين خاصّة روبرت نوزيك، إلى جانب النّقد الجمعاتيّ بمختلف توجّهاته ومرجعيّاته. دون أن ننسى الملاحظات القيّمة الّتي وجّهها إليه هابرماس في مناظرتهما الشّهيرة والّتي نشرت على صفحات “الجريدة الفلسفيّة الأمريكيّة” « The Journal of Philosophy »
[19]– J. Rawls: Justice as fairness: A Restatement, op-cit, P.9.
[20]– من الواضح أنّ رولز أعاد النّظر في تصوّره “لفكرة المجتمع المحكم التّنظيم” الّذي عبّر عنه في كتابه الأوّل “نظريّة العدالة”، نتيجة الانتقادات الّتي تعرّض لها، وهو ما صرّح به في “إعادة الصّياغة”، قائلا: “أعتقد أنّ المجتمع المحكم التّنظيم الّذي يقبل كلّ أعضائه العقيدة الشّاملة ذاتها هو مجتمع مستحيل الحدوث نظرا لواقعة التّعدّديّة المعقولة”. أنظر في هذا الصّدد:
– J. Rawls: Justice as fairness: A Restatement, op-cit, P9.
[21]– A. Catherine : Tolérance et raison publique: Le libéralisme politique de John Rawls, Collective work : La Tolérance politique, classiques Garnier, Paris, P.4.
[22]– J. Rawls: Justice as fairness: A Restatement, op-cit, P.34.
[23]– A. Catherine: Tolérance et raison publique: Le libéralisme politique de John Rawls, op-cit, P.3.
[24]– J. Rawls: Political Liberalism, New York, Columbia University Press, 1993. P.XVIII.
[25]– Ibid. P.XVIII.
[26]– Ibid. PP.XIX- XX.
[27]– محمّد هاشمي: نظريّة العدالة عند جون رولز، م س، ص216.
[28]– A. Catherine: Tolérance et raison publique: Le libéralisme politique de John Rawls, op-cit, P.7.
[29]– نقصد كلّ ما أنتجه الإنسان وينتجه من أفكار ودين وثقافة ومبادئ ومعتقدات… إلخ، أيّ كلّ ما يأتي بعد ولادته.
[30]– نشير هنا إلى أنّنا سنعتمد حصرا على مقاربتي ويل كيمليكا ومايكل ساندل اعتمادا على مساهمتها المهمّة بشأن التّعدّديّة الثّقافيّة ومفهوم الاعتراف الّذي حاولا من خلاله أن يؤسّسا لتصوّر جديد للتّسامح وحرّيّة الاعتقاد بوصفه بديلا للطّرح اللّيبراليّ.
[31]– المصباحي محمّد: من أجل حداثة متعدّدة الأصوات ورشّ لفلسفات الحقّ والثّقافة والسّياسة والدّين، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى، 2010، ص119.
[32]– ويل كيمليكا: أوديسا التّعدّديّة الثّقافيّة. سبر السّياسات الدّوليّة الجديدة في التّنوّع، ترجمة: إمام عبد الفتّاح إمام، عالم المعرفة، العدد 377، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، 2011، ص83.
[33]– المصدر نفسه، ص86.
[34]– المصدر نفسه، ص85.
[35]– حسب كيمليكا، تتضمّن الأنظمة شديدة التّنوّع والّتي تتفاخر الآن بتنوّعها مثل فرنسا وكندا، والنّموذج الاستثنائيّ الوحيد في الغرب في نظره يتمثّل في سويسرا الّتي لم تحاول إنشاء لغة قوميّة واحدة في نطاق الدّولة، بل سمحت باستمرار وجود الأقلّيّات الّتي تتحدّث الفرنسيّة والإيطاليّة كجماعات لغويّة متميّزة. اُنظر في هذا السّياق:
ويل كيمليكا: أوديسا التّعدّديّة الثّقافية. سبر السّياسات الدّوليّة الجديدة في التّنوّع، م س. ص85. اُنظر أيضا:
Will Kymlicka: Liberal Individualism and liberal Neutrality, Ethics Journal, Vol.99 .No.4 (July 1989), P903.
[36]– ويل كيمليك: أوديسا التّعدّديّة الثّقافيّة. سبر السّياسات الدّوليّة الجديدة في التّنوّع، م س، ص86.
[37]– W. Kymlicka: Liberal Individualism and liberal Neutrality, op-cit, P.901.
[38]– M. Sandel: Liberalism and the limits of justice. Cit.op, Preface to the second edition, P.10.
[39]– Ibid.
[40]– Ibid. P. XV.
[41]– Ibid. P. XV.
[42]– M. Sandel: Liberalism and the limits of justice. P.XVI.
[43]– Ibid. P.XII.