ملخّص:
الاهتمام بالقيم الإنسانيّة، هو اهتمام بمصدر خصب من مصادر السّلوك البشريّ الرّاقي الّذي أنتجته عقليّة إنسانيّة تسمو على الصّراع وكلّ أشكال العنف وتقبل على الحياة بصدر أكثر رحابة وتسامح. فما بالك إن تعلّق الأمر بقيمة الحقيقة في مجتمعات تعيش بأكثر من وجه، فهي تهمّش الحقيقة وتغطّي قولها لأنّ وجهها قبيح، ولو قلنا هذه الحقيقة لتفكّكت جملة علاقاتنا الاجتماعيّة الهشّة أصلا. إنّنا نحبّ من يجاملنا ولو قال كذبا فإنّنا على استعداد لتقبّله، بل لتوهّمنا أنّه حقيقة نستميت في الدّفاع عنها. وفي هذا السّياق نستحضر قول القائل: “أصدق الشّعر أكذبه”.
بطبيعة الحال، لم تأتِ فلسفة ديكارت إلا لفضح التّلاعبات الّتي طالت الحقيقة في تاريخ تسيّده الكذب، فبات من يتكلّم لغة الحقيقة وكأنّه يكذب علينا واختلطت القيمتان ولبس الخطأ لبوسها وأصبح الوصول إلى الحقيقة مرتهنا بتصحيح الخطأ، وبهذه السّهولة يتناسى القائل بهذا القول أنّه من الصّعب كشف الخطأ ومعرفته لأنّنا في حاجة إلى معرفة الطّبيعة البشريّة في عمقها والّتي تخطئ نتيجة تفكيرها المحدود. وعلينا تدبير منهج واضح الخطوات واِتّباعه لبلوغ الحقيقة، متيقّنين من ضمانة الإله الطّيّب الّذي يجنّبنا مكر الشّيطان وتلاعب الحواس. فكيف لنا أن نصل إلى الحقيقة ونتجنّب الوقوع في الضّلال والخطأ؟
الكلمات المفاتيح: الحقيقة، الكوجيتو، الفلسفة النّظريّة، الفلسفة العمليّة.
Abstract:
Caring for human values is caring for a fertile source of refined human behavior produced by a human mentality that transcends conflict and all forms of violence, and thus accepts life with a more generous and tolerant heart, let alone, if things relate to the value of Truth in some two-faced societies that live in more than one way, marginalizing the truth and covering up what it says. For its hideous reflection which if voiced out, would disintegrate our already delicate social relations. In fact, we do love someone who compliments us, and if they tell a lie, we obviously find ourselves ready to accept this lie as an established fact and hence desperately defend it as such. Let us evoke here the saying: “The truest poetry is the falsest.” Of course, Descartes philosophy merely came to expose the manipulations that affected the truth in the history of lying. So, whoever speaks the language of truth became as if they were lying to us since we need to know human nature in its depth. This human nature which often errs for its limited thought. As a matter of fact, we have to arrange a method with clear steps, and pursue it to attain the truth. We are certain of the guarantee of a good God who spares us the deception of Satan and the manipulation of our senses. How can we reach the truth and avoid falling into error or going astray?
Keywords: truth, cogito, theoretical philosophy, practical philosophy.
1- تقديم:
تلوح في الأفق معالم عالم ينهار وتساق معه البشريّة إلى المجهول والسّبب عائد إلى الفهم القلق والمشوّش لقيمة الحقيقة والّتي أمست قيمة عمليّة “برغماتيّة” تستعمل لتقديم خدمة أو مصلحة ولجلب منفعة أو دفع مفسدة وتهيّج الجماهير وتصنعها كما تشاء. إذ لم يعد للحقيقة بعد ذاتيّ ولا قيمة في ذاتها وفقدت مطلقيتها وباتت قيمة كباقي القيم القابلة للاستعمال اليوميّ. ما هكذا نظر إليها رونيه ديكارت R. Descartes (1596- 1650) وما كان له أن ينظر إليها من هذا الاتّجاه، على العكس اعتبرها قيمة مطلقة تختلج في الكيان البشريّ وفطريّة ترقد في الطّبيعة البشريّة وتدرك بنور العقل المدرب بخطوات المنهج، يضمنها الإله الطّيّب الّذي يجود بها على كلّ خلقه بالتساوي حتّى لا يقع في شأنها صراع ونزاع يفكّك الكيان البشريّ ويزيد في ضعفه وتشتّته.
على هذا الأساس يفهم “المشروع الفلسفيّ” لديكارت والّذي يقوم على خلق الوحدة في الجسم البشريّ، فاختار لهذا الأمر إعادة قراءة مفهوم الحقيقة. وانطلاقا منه سينفتح على مواضيع أخرى؛ كأهمّيّة التّفكير والعقل، ضرورة المنهج لقيادته وتوجيهه، الاستفادة من تجربة الرّياضيّات وتطعيم الفلسفة بقضاياها، توحيد البشريّة على أسّ الأخلاق المؤقّتة ريثما توضع أخلاق في صيغة كونيّة تشبه قضايا الرّياضيات. هو مشروع بدأه ديكارت لكنّه لم يتوقّف بموته بل وجد له صدى في فلسفة فلاسفة آخرين، من أمثال: سبينوزا، ليبنز، هيجل… وكانط الّذي وجد “أنا عاقلة” صلبة خلّفتها فلسفة ديكارت، فحاكم منطلقاتها نظريّا وعمليّا قبل أن يسلّم بها كما يسلّم بقضايا الميتافيزيقا الّتي لا تحتاج إلى برهان بل فقط إلى إيمان وتسليم.
فكيف درس ديكارت الحقيقة؟ هل هي استمرار لرؤية الكنيسة أم قطيعة معها؟ ما هي خصائصها وسماتها؟ ما موانعها ومعوّقاتها؟ وكيف السّبيل إلى بلوغها؟
2- مفهوم الحقيقة…بداية الصّراع مع الكنيسة:
الحقيقة هي كلّ ما يمكن بلوغه بنور العقل الطبيعانيّ دون حاجة لإرشاد أو توجيه أيّ سلطة تفوقه كالكنيسة، فالاقتدار على الحقّ فعل بشريّ والبحث عنه يدلّ عن قربه من الإنسان. وكلّ تغرير ببعدنا عن الحقيقة وسحلها أمامنا، إنّما همّه حيازتها وجعلها في ملكه لوحده لا شريك له وهو ما يدعو للتّساؤل: هل البحث عن الحقيقة مشترط بالتّخلّص من هذه الطّريقة ومجاوزة كلّ سلطة تصبو لحيازتها؟
لا يحدث الصّراع ضدّ الحقيقة بل من أجلها، صراع ضدّ كلّ من يحاول احتواء الحقيقة وتسخيرها لخدمته. ضديدا لهؤلاء ينتصب ديكارت. وهو يعلن طعنه في وجه الكنيسة ومنظورها للحقيقة الّتي ربطتها بالدّين وبالمطلق كضامن لها دون أن تكلّف نفسها عناء البحث عن حقيقة الإله: هل هو مجرّد معطى إيمانيّ يخالط القلب؟ أم أنّه نظام طبيعاني ينتظم الكون وفق حركته؟ أم هو أقرب للعقل الرّياضيّ الحيسوبي المتقوّم بالدّقّة والصّرامة؟
لا يضيع ديكارت فرصة مساءلة الحقيقة دون مساءلة ضمانات تحقّقها بل لا ينفلت منه استشكال مناظير الكنيسة ومطاريحها ورجالاتها، لكن بطرق تميل للسّلم والمهادنة. فما الفائدة من مجاهرة الكنيسة بالعداء إن أمكن محاربتها سلميّا والانتصار عليها فكريّا، ولا نستغرب بعده أن يتوجّه ديكارت لها بتقديم مطوّل في كتابه: “مقال في المنهج” يشكرها ويثني عليها، ممّا يدفعنا للاستفهام: لماذا صمت ديكارت صمتا مطبقا ومريبا عن قضيتي حرق برونو وغاليلي الّذي ظل يساندهما؟ ولماذا تراجع عن إصدار كتاب: “العالم الجديد”؟ إذا كان البعض كألبير كامي قد ساند ديكارت في محنة صمته المطبق واعتبره صمتا فلسفيّا مشروعا يبيّن حياديّة الحقيقة وعدم عدائيّتها لأنّها لا تقبل أن تفرض بالعنف بل تفضّل الانسحاب حتى تكتشف، فإنّ الوجوديّين، وعلى رأسهم سارتر، اشتمّوا في الأمر خيانة من ديكارت وتراجعا عن مبادئ فلسفيّة راجحة رسّخها سقراط وخلفه الفلسفيّ حينما قاوم حكومة الثّلاثين الطّاغية بقوّة الحقيقة الّتي استمات في الدّفاع عنها.
الفلسفة في نظر سارتر التزام أخلاقيّ بقضايا العصر وانخراط وجوديّ شاقّ ومكلف في الشّأن الجماعيّ. وصمت ديكارت عن الحقيقة خيانة لمبادئ الفلسفة وتضحية بها أمام سلطة الكنيسة، ووظيفة الفيلسوف والفلسفة فهي الدّفاع عن قيمة الحقيقة ممّا يحيط بها من تضليل وتخطيء وتهميش وتوهيم… تتعرّض الحقيقة في كلّ مرّة لهذا القلب والتّضليل، فنحتاج من يعرف بصماتها وأسمائها الحقّ، ويستميت في الدّعوة إليها، وتحصينها ضدّ كلّ الهجمات ثمّ الدّفاع عنها في كلّ عصر وإن كان على حساب التّضحية بذات الفيلسوف[1]، لدرجة أنّ كلّ من عرف الحقيقة وانكشفت أمامه ماهيتها ولم يدافع عنها يُعتبر نذلا Salaud لا يستحقّ وصف المثقّف[2]، ومن هنا نفهم أنّ قضيّة ديكارت ومسألة الحقيقة مجال مطروح بقوّة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، فوقتنا ينشر الضّلال والوهم في وسائل الإعلام ويسخّر لها كلّ طاقاته ويعبّئ لها كلّ موارده. الأمر الّذي يعيد بسط أدوار المثقّف ووظائفه، ويسائل جدّيّة انتمائه للمدينة وتوغّله في قضايا الشّأن العام وقدرته على صناعة نخبة تقود الجموع وتوجّهها، أمّا صمت ديكارت فهو “تقيّة” ضدّ مضايقات الكنيسة وتحرّشها بروّاد حركة النّهضة.
للرّجل مشروع فلسفيّ وعلميّ غير مكتمل بعد والأولى إتمامه، ولهذا وضع قواعد أخلاقيّة سمّاها قواعد أوّليّة تُظهِر تحرّصه وتحوّطه الشّديدين. وفي هذا الصّدد وجّه رسالة إلى صديقه الأب مرسين سنة 1641 ينبّهه فيها لما يقبل عليه: «قرّرت أن أقاتل بمجمل أسلحتي هؤلاء الّذين يخلطون بين أرسطو والكتاب المقدّس، ويقومون بإساءة استخدام سلطة الكنيسة، أي هؤلاء الّذين أهانوا جاليليو(…) إنّني على ثقة من قدرتي على بيان أنّه ليس ثمّة عقيدة من عقائد فلسفتهم تتّفق مع الإيمان، مثلما تتّفق نظرياتي معه.»[3]. هذا خطاب ديكارت المُوَجَّه إلى أب من آباء الكنيسة، ورغم ذلك فهو يعلن له عن إدانته لسلوكها حيال جاليليو، وخلطها المستبشع بين الكتاب المقدّس المطلق وبين نظريّات أرسطو العلميّة النّسبيّة، وتشويشها بين الخطاب الإلهيّ والخطاب البشريّ القابل للمساءلة والاستشكال. وأكبر ثورة يعلنها ديكارت ضدّ الكنيسة ورجالاتها هو جهره بإمكانيّة بلوغ الحقيقة، وتيسير الوصول إليها عبر الاستعانة بالنّور الفطريّ الطبيعاني أي العقل المؤسّس على فعل الشّكّ، شكّ، في كلّ المعارف الّتي توغّلت في نفوسنا عن طريق تربية الآباء في حداثة سنّنا. أكاد أجزم أنّ ديكارت يلمز للكنيسة كمصدر للمعارف المشكوك في صحّتها، والممجوج خلطها بين حقائق الدّين ومعطيات فيزياء أرسطو. ويتّجه ديكارت حثيثا لاستبدال حقيقة مطلقة بحقيقة نسبيّة، تستمدّ مشروعيّتها من قيمة الشّكّ والبحث والاستقصاء بمساعدة نور العقل وفطريّة معارفه.
الضّامن لبلوغ الحقيقة حسب ديكارت هو المنهج الّذي يخلّص من جميع الآراء المسبقة préjuger ، ويهمّ كلّ المعتقدات الخاطئة وللمنهج قدرة على التّحرر والتّحرير، وفي هذا السّياق يعلّق كويري: «وهذا هو المنهج الدّيكارتيّ، المنهج الّذي يعني الطّريق المؤدّي إلى الحقيقة، والدّواء الّذي يشفينا من التّردّد والشّكّ»[4]، وعلى من أراد استعادة نقاء العقل والوصول إلى صفاء طبيعته وبلوغ يقين الحقيقة، مغادرة طوق جميع الأفكار والمعتقدات الّتي تلقّاها في حداثة سنّه، لا برهان يرسّخ هاته المعتقدات في النّفس، إذ هي مشدودة فقط بفعل العادة والعنف الاجتماعيّ[5]. ولتنقية الذّات منها لا محيد عن ممارسة فعل الشّكّ حتّى يمحص صحيحها من خطئها، ويبيّن مدى تلاعبها بعقلنا كما تفعل الحواس، فتظهر الأشياء الكاذبة على أنّها صادقة من قبيل تجربة السّراب، ويضرب رونيه مثلا عن الشّكّ بسلّة التّفّاح. يقول: «إذا كان لديك سفط من التّفّاح بعضه فاسد ومفسد للبعض الآخر، فكيف العمل إلّا أن تفرّغه بأكمله وتتناول التّفاح واحدة واحدة فتعيد الجيّد منه إلى السّفط وتطرح الرّديء»[6]، نلاحظ أنّ فعل التّمحيص وتملّي الحقيقة ينساق على دربين؛ أوّلا، نبدأ بإفراغ السّفط فنُزيل منه كلّ التّفّاح سواء كان فاسدا أم صالحا والفساد والصّلاح في هذا المستوى متساويان ومتماثلان لأنّنا لم نتبيّن ولم نمحّص بعد، والتّمحيص هو عمليّة تقليب التّفّاح وامتحانه من كلّ الجوانب فلا نرجع للسّفط إلّا الصّالح منه، والّذي تأكّد للعقل مطابقته مع مبادئه ومنطلقاته الطبيعيّة الفطريّة. وكلّما كانت الأفكار بسيطة لا تقبل الشّكّ، بلغت مرتبة الأفكار البديهيّة الواضحة بذاتها، وبقدر ما اختلطت الأفكار بعضها ببعض وتركّبت قضاياها، ارتفع منسوب الشّكّ فيها وزاد حجم رفضها وبالتّالي نفهم أنّ معيار الحقيقة هو البساطة والتّعقيد.
يعلّمنا ديكارت أنّ إدراك الحقيقة وارتياد مضانها رهين بعمل تنظيميّ دقيق للعقلن وترتيب داخليّ لمعارفه ليشابه في دقّته وصرامته العقل الرّياضيّ، ويؤكّد كويري ذلك بقوله: «إذا كان النّظام والعلاقة هما الّلذان يكوّنان ماهية الرّياضيّات كما أسلفنا، فمن المستطاع التّعبير عن كلّ علاقة عدديّة بعلاقة مكانيّة، وإحالة الأعداد خطوطا والخطوط أعدادا واستخلاص علم أعمّ، هو علم العلاقات والنّظام. وهو علم عقليّ بحث»[7]. من المهمّ النّظر في الأشياء والتّأمّل في أبعادها، بل من المهمّ ربطها بسلسلة الأسباب والعلل والنّتائج أي التّفكير في ترابطاتها وتنظيماتها الدّاخلية، ومنه ينطلق ديكارت من مسألة كون العالم منظّما يسير وفق قوانين دقيقة يجب كشفها والإحاطة بها، فإذا وقع هذا سُمّي المبحث علما من العلوم لأنّ بذور العلوم ترتكز في نفوسنا داخليّا مختلطة بالحواس، متداخلة مع معارف المجتمع وأعرافه وعاداته… بما سبّب في تكدّرها وفقدانها لوضوحها وبساطتها، فلازب معاودة تخليصها من الكدر والفساد وسوقها إلى صفائها الأوّل، ويقول كويري في هذا السّياق: «بذور العلم هذه أو كما يسمّيها ديكارت فيما بعد … “المعاني الفطريّة” و “الحقائق الدّائمة” و “الطّبائع الحقّة الثّابتة”، أي ماهيات معقولة ومستقلّة تمام الاستقلال عن اكتساب الإدراك الحسّيّ. معان يكشفها الشّكّ في النّفس»[8]. أعاد ديكارت للنّفس البشريّة ثقتها المهزوزة من طرف مونتاني[9] الّذي عصف شكّه بكلّ ما طالته يده من معارف، فلا يقين هنا حتّى العالم لا وجود له إلّا في اللّغة. واللّغة كذبة من كذب التّاريخ يستوجب القضاء المبرم عليها، عسى أن نرى الأشياء بوضوح وشفافيّة.
لفت ديكارت النّظر إلى أنّ اليقين ممكن عندما نتوغّل في النّفس البشريّة بالوقوف على معارفها النّظريّة الطبيعيّة الّتي تشكّل نورا إلهيّا يحمله كلّ واحد منّا، كما يبعد المعرفة الحقّ عن المعطيات الحسّيّة الّتي هي رجس من عمل الشّيطان الماكر، يقول: «لأجل معرفة الوجود يجب أن نبدأ بأن نغمض أعيننا ونسدّ آذاننا ونبتعد عن اللّمس، يجب أن نتّخذ طريقا معارضا فنتّجه نحو أنفسنا ونبحث في عقلنا عن أفكار واضحة فإنّ هذه اللّغة الّتي تفهمها الطّبيعة، وبهذه اللّغة -لغة الرّياضيّات- تجيب الطّبيعة عن الأسئلة الّتي قد يلقيها عليها العلم في تجاربه»[10]، وطريق المعرفة، المعرفة الحقّة، يتطلّب تعليق العمل بالحواس ووضع المعارف الآتية منها بين قوسين، ثمّ سلوك سبيل العقل لكشف المبادئ والمنطلقات والتّعبير عنها بلغة رياضيّة حسابيّة دقيقة تشبه الموضوع المدروس وهو الطبيعة. فلم يعد محور اهتمام المعرفة هو الإله بل العالم والطّبيعة، وهذا شكل من التّديّن الجديد عند ديكارت، أدخل فيه عناصر العقل ومعطيات الرّياضيّات ليفسّر الواقع عوضا عمّا كان يفعله من تفسير العلم بعناصر الواقع وشهوده على صحّة عناصره[11]. ورغم هذا ينصرف ديكارت للشّكّ في الرّياضيّات بدورها فدقّتها لا تعفيها من المساءلة. وكثيرا ما أخطأ الرّياضيّون في الحسابات، يقول: «أنا مدين لهم بالشّكر (المقصود أساتذته: منهم مونتاني) على ما تعلّمته من أن كلّ شيء مشكوك فيه حتّى وإن كان مطابقا مع العقل»[12].
حينما يؤسّس ديكارت المعرفة والعلم على البرهان يبتعد بمقدار عن الكنيسة وفعل الإيمان، ويظهر هذا بجلاء في تمسّك الرّجل بالعقل وكلّ معرفة لم يبرهن على صحّتها (معارف الكنيسة مثلا) تعدّ خاطئة لا تبلغ نصاب الحقيقة، والأجدى التّخلّي عنها كما نتخلّى عن لباس بال لم يعد صالحا للاستعمال. الأحكام والأفكار والمعارف وحتّى العلوم بدورها تفقد صلاحيّتها عندما لا يبرهن على صحّة مقدّماتها وتختبر منطلقاتها. تلغى كما تلغى المعارف العامّيّة أو الحسّيّة ولا فرق في ذلك، يقول هوسرل: «إنّ الأحكام تبرهن عند تحريرها الحقيقيّ، على صحّتها وعلى توافقها، أي على توافق الحكم الّذي أطلقناه مع الشّيء المحكوم عليه بالذّات»[13]. يعدّل ديكارت الحقيقة بمطابقتها أو موافقتها مع الحكم العقليّ البائن كلّ البيان، والحاصل أنّ التّوافق الأكثر يوازن الحقيقة الأوضح، والتّوافق الأقلّ تنجم عنه حقيقة أقلّ؛ إنّه نوع من الانسجام/ التّوافق الّذي بحث عليه ديكارت داخل العقل، وهو منطق داخليّ قائم على تناسق المبادئ مع النّتائج. يخرج هوسرل من كلّ هذا بنتيجة تفيد أنّ “الأنا أفكّر” غير فارغة من الدّاخل، بل يحكمها منطق داخليّ طبيعيّ وفطريّ مدفوع بالتّفكير داخل منطق التّوافق والانسجام مع موضوعه الحائز على أسبقيّة أنطلوجيّة: حينما أفكّر في شيء ما، أتذهّن هاته الطّاولة أو أتأمّل ذلك القلم أو أخبر يدي… بينما يحوز فعل التّفكير أسبقيّة إبستمولوجيّة.
خلاصة القول أنّ الفكر يسبق موضوعه إبستمولوجيّا والموضوع يسبق الفكر أنطولوجيّا، وبهذا يشبه الأمر الإله والوجود[14] إذ يقول هوسرل: «إنّ نقطة الابتداء هي الموضوع المعطى “ببساطة” بالضّرورة؛ ومنه يصعد التّفكير إلى نمط الشّعور المطابق له، وإلى آفاق الأنماط الكامنة المتضمّنة فيه، ومن ثمّة إلى أنماط أخرى لحياة شعور ممكنة، يستطيع الموضوع أن يبدو فيها وكأنّه “ذاته”»[15]، فنقطة الانطلاق للبحث عن الحقيقة هي “الأنا أفكّر”، أنا أصليّة منها اشتقّ العالم، ومن خلالها كشف الإله عن نفسه وتجسّد في العالم[16]. وما الحقيقة إلّا تعالق ثالوث: العالم والأنا والإله. ويصعد ديكارت بالحقيقة من “الأنا أفكّر” إلى العالم ثمّ إلى الإله، عاكسا فعل سابقيه الّذين سفّلوا الحقيقة من الإله إلى العالم فالإنسان، وكلاهما حافظ على وسطيّة العالم ولكنّهما افترقا في هندستها وحركتها. أعاد ديكارت إصلاح التشوّهات الفكريّة الّتي طالت النّظر في الكون والإله والإنسان على يد الكنيسة، راسما لهذا الثّالوث نظاما تراتبيّا آخر غير النّظام التّراتبيّ القديم، الأمر الّذي يؤشّر لظهور حقيقة أخرى بصفات وسمات بديلة: فما هي صفاتها وخصائصها؟
3- الحقيقة البديلة عند ديكارت: خصائص وسمات:
نشهد حقبة جديدة مع ديكارت، لها ما قبلها وما بعدها، وتشبه اللّحظة السّقراطيّة الّتي قسمت الحقبة اليونانية إلى المابعد والماقبل، وكذا الفترة الحديثة مع ديكارت، توزّعت إلى ما قبله وما بعده والسّبب عائد -على الأقلّ في نظرنا- إلى التّصوّر الجديد الّذي جاء به لمفهوم الحقيقة، إذ تنتمي الحقيقة في نظره إلى الذّهن البشريّ وتأخذ صفاته وخصائصه كالوحدة والتّطابق والإطلاقيّة والثّبات. هي بداهة من البداهات الّتي لا حاجة لها بالبرهان، ويوضّح هوسرل ذلك بقوله: «إنّ هذه البداهة ستكون البداهة الكاملة المطلقة الّتي سوف تعطينا الموضوع ذاته بكلّ ما فيه من غنى في نهاية الأمر»[17]، البداهة، إذن، تحتوي عن الموضوع في مطلقيته وتظهره إظهارا تامّا لدرجة أنّه يمكن رؤية موضوعها من خلاله.
يلعب مفهوم “الغرابة والغريب” دورا محوريّا في فلسفة روني ديكارت بحسب فهم هوسرل، ويعني “الغريب” كلّ ما لا يطابق واقع ذات ويخالف وسطها. الغريب، إذن، هو عدم المطابقة على أن نفهم عدم المطابقة بالفعل الفكريّ لا مع الواقع المادّيّ، وكلّ ما عارض العقل ومبادئه وناقض بداهاته عُدّ غريبا ممّا يستوجب على الذّات أن تشيح عنه وتقذفه خارج الحقيقة. الغريب هنا، نقيض الحقيقة بالإضافة إلى الخطأ[18]، وديكارت يحيل دائما إلى فعل التّجريد الّذي يمكّننا من التّخلّص من الزّوائد والنّوابت بلغة كلّ من الفارابي وابن باجه وهو يحفظ لنا الأساسيّ منه، وكأنّ الحقيقة جوهر ثابت تُحمَل عليه الأشياء ولا يُحمَل عليها. التّجريد فعل احتفاظ بكلّ ما يخصّني: ما ينتمي إليّ، ما هو قريب منّي. التّجريد أو التّقويس أو التّعليق (الإبوخي) يحافظ للذّات والعالم بلوريّته وصفاءه. يفكّك تركيبه ليجعله بسيطا خفيفا شفّافا لا يرى منه إلّا ما ينتمي إليه بشكل خالص. في الحقيقة يمكننا أن نبلغ صلب العالم وعمق الذّات عن طريق امتحانه وتمرينه بواسطة فعل التّجريد، باعتباره فعلا تخليصا للعالم والذّات من الزّوائد، وتخليصه من الأعراض والإضافات علاوة على احتفاظه بالجوهر الأصليّ أسّ العالم، ووصل به الحال إلى أن لا وجود للإله إلّا على صعيد معرفته فلو لم يُعْرف الإله لما عُبِد[19].
إنّ ديكارت ليؤكّد أن لا حقيقة كفعل بسيط قريب من الأساس والأصل ومجاوز للطّبيعة. وكلّ ما هو أساسيّ أصليّ في العالم، بلغة ديكارت هو النّور الفطريّ، وقد فهمها هوسرل كظاهر ينهض العالم ليعبّر عنه وقد تأخذ الطّبيعة معناها الموضوعيّ، كما هو الحال مع العلوم الطّبيعيّة الّتي تجرّد موضوعها من كلّ الميولات والأهواء النّفسيّة. يلاحظ هوسرل أنّ العلوم الطّبيعيّة تعيش أزمة معنى ومقاصد بسبب عمليّات التّجريد والتّجريد المضادّ، فيدعوها إلى نوع من الطّبيعة الثّانية هي الطّبيعة الذّاتيّة[20]، والتّجريد فيها هنا يعني الاستقلاليّة عن الأجسام الأخرى أو تميّز كلّ مكوّنات العالم، وكأنّنا نقتطع جزءا من العالم ليحيل عليه فيما بعد إحالة مباشرة ليظهر عليه ويظهره، ويصير البدن أو الجسم حقيقة العالم، «هذا البدن الّذي يرتدّ على هذا النّحو إلى ذاته، بنوع من أنواع “الانعكاس”. وما هو في حيّز الإمكان، إنّي “أستطيع” في كلّ لحظة من اللّحظات، أن أدرك إحدى يديّ “بواسطة اليد الأخرى” أو إحدى عينيّ بواسطة إحدى يديّ إلخ… إنّ العضو يصبح شيئا حينذاك، كما يصبح الشّيء عضوا»[21]. للجسم قدرة هائلة على إدراك نفسه بنفسه في عمليّة انعكاس واستبطان من الذّات إلى الذّات، لذا من السّهل عليه إدراك العالم والانعكاس عليه.
إنّ الجسم هو ما يبقى لنا بعد نجاح تجربة التّجريد، هو حقيقتنا ومصدر انتمائنا للكون، ولا غرابة أنّ ديكارت لم يشكّك في قدراته كونه يأكل ويشرب وينام… بل شكّك في إدراكاته وإحساساته، أي ارتاب في شأن آلة من الآلات الّتي يوظّفها، كما نشكّك نحن في آلات الحرب لكن لا نشكّك في أدوات تساعدنا في معيشنا. إنّ التّصالح مع الجسم تصالح مع العالم وفهم أفضل لمكوّن عميق في الذّات، وهو كلام قد يصدم من تعوّد قراءة ديكارت قراءة تقليديّة تحطّ من قيمة الجسم، في خلط غريب بين الجسم والحواس. ولو فرضنا أنّ ديكارت حطّ من الجسم لما خصّص له عملا بعينه هو “انفعالات النّفس”، وشرح فيه كيفيّة عمل الجسم، وفي المقابل لم يخصّص للعقل أيّ كتاب فشتّان بين إدراكات الجسم وأفعاله.
فعل التّجريد يبلغنا أنانا، يقول هوسرل: «ومن جرّاء حذف كلّ ما هو غريب عنّي، هذا الحذف التّجريديّ، يبقي لي نوع نوعا من العالم، وطبيعة محوّلة إلى دائرة “ما يخصّني”… يبقى لي أنا نفسيّ طبيعيّ، له بدن وروح وأنا شخصيّ، هو منغمس في هذه الطّبيعة بفضل بدنه»[22]، فالّذي يشوّش على الحقيقة اختلاطها وتشابكها مع نقيضاتها هو الموضوع بمعيّة محموله، الجوهر يخالط الأعراض والزّوائد والفروع مضافة إلى الأساس والأصل والرّوح تلامس الجسم…
انتصب تفكير ديكارت على إقامة الحواجز والفواصل بين هذه العوالم، وذلك بتعرية الحقيقة ممّا أضيف لها من تشويش زاد في ارتباك طالبها حتّى وصل بالبعض إلى التّشكّك صميميّا في وجودها، مثل مونتاني حديثا والشكاك الكلبيين قديما. لا يجب حصر الحقيقة كما لا يصدق إطلاق العنان لها فكلا الطّريقين جُرِّبَ/ تمّ تجريبه قديما وحديثا وظهر فشلهما؟ في المقابل لم يجرّب وضع العالم بين هلالين لنبلغ منه إلى الأنا المتعالية المجرّدة الآنية الّتي يطلق عليها هوسرل الموناد الابتدائيّ، ودوره مبطّن في كشف حقيقتي وحملي لذاتي في وضوحها وتميّزها واختلافها عن مناداة أخرى تحوي نفس وجودي، وتسبح في كينونة الحياة وتلتقم إمكانات العيش، فقمين بها أن توجد على نحو مختلف متمايز يجوس بإمكانيّات أخرى للعيش. يقول هوسرل موضّحا تعالقات المونادات (أنا ديكارتيّ مفتوح): «إنّي بابتدائي من ذاتي، أنا المنادة الابتدائيّة في مرتبة التّكوين، إنّما أصل إلى المنادات الّتي هي منادات “أخرى” بالنّسبة إليّ، أو إلى الآخرين بصفتهم ذواتا نفسيّة طبيعيّة»[23]. ما كان بدعا أن يوسّع مجال الأنا ويمدّد فلا تعارض بين الأنوات أو المنادات، فهي أشكال تعبّر عن تجلّيّات الحياة وتنوّعاتها وكلّ مناد وحدة تختزل التّعدّد والتّنوّع في أحشائها، ومسكون بالتّغير في الزّمان والمكان، يغتني ويفتقر باستمرار وينفتح وينغلق بشكل دائم. أمست الحقيقة فعل مماثلة يفتح الأنا/المناد على أشباهها ونظائرها لا سيّما أنّها مماثلة مؤسّسة على فعل المغايرة[24].
الإدراك فعل مشاركة (من صفات الحقيقة القابلة للإدراك)، والمشاركة انفتاح تجربتين حياتيّتين كلّ منهما تمتلك من الحقيقة ما يعطيها مشروعيّة اللّقاء ويمنح لهذا اللّقاء المعنى، بل إنّ المشاركة فعل يجمع الأطراف بعضها ببع. ويرفع عنهم وهم امتلاك المطلق. وتأسيسا عليه؛ فإنّ الحقيقة تنتج المجتمع وتخرج كلّ أنويّة عن أنويّتها، وتفتح كلّ موناد على باقي منادات الكون. ونستنتج من كلّ ذلك أنّ مختلف التّعالقات والتّرابطات، الاتّصالات والانفصالات تلتقي على مائدة الحقيقة وتفترق عليها، فالحقيقة تثمر وسطا إنسانيّا موصوفا بالحميميّة والتّسامح شيمته التّنازل من أجل التّعايش. إنّ عالم الثّقافة عالم إنسيّ محض، وعندما عبّر ديكارت عن أناه فإنّما كان يميل إلى التّعبير عن ثقافته الّتي تعدّ الدّائرة الأوّليّة الأكثر حقيقة، عندئذ ينظر إلى الثّقافات الأخرى باعتبارها ثقافة أجنبيّة يمكن النّفاذ إليها بإدماجها وخلق ثقافة مركّبة منفتحة. كتركيب كلّ مكوّنات الأنا عليها.
ينادي ديكارت بحقيقة مشتركة متّفق عليها، مبنيّة على أسس الطّبيعة البشريّة الواحدة الموحّدة الّتي تجمع أكثر ممّا تفرّق، وتفتح أكثر ممّا تغلق. لا وجود لمفهوم جاهز قابل للاستهلاك اللّحظيّ أو صناعة خالصة للرّأي الواحد المتغلّب والمتحكّم في وسائل الإنتاج في المجتمع، والحقيقة ما تفقد حتى تستعيد رونقها، وبعد أن تسقط تنهض أكثر قوّة، يقول القدّيس أوغسطين في هذا السّياق: «لا تحاول الخروج من نفسك، بل عد إليها، فالحقيقة تكمن في أعماقك أيّها الإنسان»[25]. الحقيقة خير أسمى تتعلّق به كلّ النّفوس، صادر منها وعائد إليها. لذا طلب أوغسطين الاستقرار داخل النّفس لتحصيله، ويقرّ ديكارت بهذا المعنى: «وهذا “الخير الأسمى” إذا نظر إليه بالنّور الفطريّ نور الإيمان، لم يكن شيئا سوى معرفة الحقيقة عن طريق عللها الأولى»[26]. الحقيقة، إذن، تتساوى مع الخير الأسمى المطلوب لذاته المجعول بوصفه نورا يضيء الأجسام وإذا كان الخير الأسمى يدرك بالفلسفة الّتي تهدي خطواتنا وتمضي بنا في الظّلمات وتفتح أعيننا «ولأن يحيا المرء دون تفلسف هو حقا كمن يمشي مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما»[27].
تطلب الحقيقة بطريقة واحدة وسبيلها التّفلسف، ومبنى التفلسف هو البحث عن العلل الأولى والمبادئ الحقّة[28]، أي استنباط المجهول من المعلوم دون زيادة أو نقصان ودون إفراط أو تفريط، بلا كثير شكّ أو ريبة ولا تضخّم في اليقين. وعن حق يقول ديكارت: «لمّا كانت الحقيقة وسطا بين الرّأيين المتقابلين (أي الشّكّاك وأصحاب اليقين)، فإنّ كلّ طرف يبعد عنها بمقدار ما يكون ميله إلى معارضة الطّرف الآخر»[29]، كلا الفريقين جعل وكده البحث عن الحقيقة، غير أنهما ضلّا الطّريق إليها لأنّهما اعتمدا في بلوغها على الحواس، والحال أنّ الحواس كثيرة الخطأ ولا يمكن الوثوق بها والأحرى متابعة العقل. ومن جعل للحواس السّبق في بناء المبادئ (كالحارّ والبارد، الثّقل، الخلاء…)[30]، كمن ظلّ الطّريق واستمرّ في مسيره يتوغّل فيها حتّى صعب عليه سبيل العودة حينما فقه ضياع. وفي هذا السّياق يصرّح رونيه: «وكذلك شأن الفلسفة، إذا اصطنعنا فيها مبادئ فاسدة كان ابتعادنا عن معرفة الحقيقة ومعرفة الحكمة بمقدار ما نبذل من عناية في تعهّدها»[31]. يصطنع ديكارت لنفسه طريقا واضحا لبلوغ الحقيقة، طريق بسيط محدّد الخطوات؛ يبدأ بالشّكّ في كلّ المعارف ليستخلص ثبات الذّات المريبة ورسوخها، فمنها يستبطن وجود الإله الصّانع التّامّ مقارنة مع الأنا الشّاكّة النّاقصة وعن الإله يصدر العالم وكأنّنا أمام دوائر ثلاث تتوسّع معرفيّا من الذّات إلى الإله إلى العالم، أما أنطلوجيّا فمن الإله إلى العالم ثمّ الإنسان.
سبب بدء ديكارت بالبحث عن الحقيقة من الذّات هو قربها منه لأنّ الحقيقة تستلزم القرب لكونها الأبسط، والحقيقة تقتضي البساطة لكنّه عندما قلبها ومحّص معارفها بإخضاعها لتجربة الشّكّ التي تفاجئها بوهن وهشاشة معارفها، وكذب أغلبها كونها مؤسّسة على الحواسّ، والحواسّ تخطئ كما الحال في تجربة السّراب[32]. لا يعني هذا أنّ ديكارت شكّ في كلّ شيء، فهو استثنى الأفعال الإنسانيّة اليوميّة من مأكل ومشرب… ولا داعي للشّكّ فيها، لأنّه مضيعة للوقت والجهد، نقوم بها وانتهى الأمر فهي شاهدة على نفسها، نخبرها كما نخبر حواسنا أي نعرفها كما نعرف حواسنا، فماذا بقي لديكارت عندما أبعد الحواس عن إصابة الحقيقة؟
بقي له النّور الفطريّ الطبيعاني الّذي يكشف نقصنا، ويجلي فكرة الكمال فينا الّتي لم تأتنا من أنفسنا بل مصدرها كائن تامّ هو الإله. يؤكّد الفيلسوف الفرنسي ذلك بقوله: «وكذلك ما دمنا نجد في أنفسنا فكرة إله أو موجود كامل على الإطلاق، فيجوز لنا أن نبحث عن العلّة الّتي أوجدت تلك الفكرة فينا… نجد أنفسنا مضطرّين إلى الإقرار بأنّها إنّما جاءت إلينا من موجود كامل جدّا أي من إله موجود حقّا»[33]. ينوس كماله بوجوده، فلو كان عدما لكان نقصا في حقّ ذاته العليا ولما راودتنا فكرة الكمال؛ في هذه الحالة من أين لنا أن نحيط بأنفسنا؟ وحينما لا نلمّ بنقصنا لن نعرف هويّتنا الإنسانيّة الّتي عمادها فكرة النّقص. إنّ الشّكّ في فكرة الكمال شكّ في حقيقة هويّتنا، وبهذا الوضوح يسوقنا فيلسوف الكوجيتو للتّسليم ببداهة وجود الإله التّامّ الّذي يمثّل أصلنا ومنطلقنا، فهو خالقنا، وثبات وجود الإله عند ديكارت هو دليل وجود حقيقة مطلقة، لذا فإنّ معرفة أنفسنا تستدعي معرفة الإله[34]، ووجودنا مضاف لوجوده. موقعنا في الكون موقع الموجود بغيره بحسب عبارة ابن سينا وبقاؤنا رهين ببقائه، والدّليل هو الزّمان الّذي نتقلّب داخله، ويتكوّن من أنات (لحظات) ممزّقة منفصلة مثل حبّات عقد جمعت مّهددة بالتّفكّك في كلّ حين فالّذي يمنحها الاتّصال يجب أن يكون متّصلا، واتّصاله يدلّ على خروجه عن نسقها. فحق أن يوجد، وصح كون معرفتي بذاتي ووعيي بها ككائن متزمن، ينص على معرفتي بالإله، يكتب: «ومن الميسور أن نعلم أنّنا لا نملك قوّة تكفل لنا الاستمرار في الوجود أو حفظه علينا لحظة واحدة، وأنّ القادر على بقائنا وحفظ وجودنا خارج ذاته لا بدّ قادر على حفظ بقائه هو ذاته… ذلكم هو الله»[35]، بل هو يستطيع حفظ الكائنات والكون علينا، لذا كان أفضل منهج ينقلنا من معرفة أشياء الطّبيعة إلى تفسير كيفيّات خلقها[36].
ينتهج ديكارت عادة سبيل التّدرّج من البسيط إلى المركب؛ ممّا يعني أنّ معرفة الله باب يُمَكِّن ولوجه ، قصد معرفة عالمه المخلوق، ولعل في هذا رد على من استنتج الإله من الطّبيعة، وكأنّه أخرج البسيط من المعقّد أو سلك ضرب المعقّد ثمّ البسيط. وأيضا باِطّراح الأحكام المسبقة الّتي أصابتنا لوثتها في حداثته سنّنا لحظة كان عقلنا خفيفا مستغلّا من آبائنا ومعلّمينا… نسينا هذه الأحكام وأحطناها بهالة من القداسة، يصعب معها التّخلي عنها أو حتّى الشّكّ فيها، ثمّ زدنا بربط الأحكام بكلمات وألفاظ نردّدها كلّ مرّة حتّى فقدت معناها وبفقدان المعنى فقدت رباطها مع الفكر، وفي هذا الصّدد يقول ديكارت: «(…) للبحث عن جميع الحقائق الّتي في مقدورنا معرفتها، وجب علينا أن نتخلّص أوّلا من أحكامنا السّابقة، وأن نحرص على اِطّراح جميع الآراء الّتي سلّمنا بها من قبل، وذلك ريثما تنكشف لنا صحّتها بعد إعادة النّظر فيها»[37]، فالعالم الّذي يكشف لنا الذّهن أكثر مطابقة للواقع من العالم الّذي تظهره لنا الحواس والإدراك الحسّيّ نسبيّ، عكس التّأمّل العقليّ المطلق[38].
الحواس خدّاعة كثيرة الاضطراب، مشوّشة للمعارف. في المقابل هنالك حقيقة ثابتة، وهي أنّ مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائما، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدا[39]، ويختبر ديكارت دقّة معيار الوضوح والبداهة فيجري مقارنة بين قضايا تنتمي للحواس كالكمّ واللّون… وأخرى تدخل في أطر العقل الرّياضيّ كقضيّة مجموع اثنين وثلاثة خمسة، والمثلّث لن يزيد عن ثلاثة أضلاع… فالقضايا من النّوع الثّاني أصحّ وأصدق وأكثر حقيقة من الأولى، والفرق بينهما في شدّة الوضوح؛ مصدر الأولى الشّيطان الماكر الّذي يحبّ الإضلال، أمّا الثّانية فمرجعها الإله الطّيّب ضمانة الحقيقة وهو ما يقرّه رونيه، إذ يقول: «وإذن، سأفترض لا أنّ الله -هو أرحم الرّاحمين وهو مصدر للحقيقة- بل إنّ شيطانا خبيثا ذا مكر وبأس شديدين قد استعمل كلّ ما أوتي من مهارة لإضلالي»[40]. ومعناه أنّ الحقيقة مضمونة بضمانة الإله ومطلقة بإطلاقيّته. وهذه من صفاتها الّتي قد تتسبّب في عدم القدرة على إدراكها بشريّا دون ممارسة فعل التّشبّه بالإله لبلوغها من خلال التّأمّل، وللوصول إلى الحقيقة لابدّ من معرفة معوقات وصولها وموانعه: فما هي هذه الموانع؟
4- موانع الحقيقة ومعوّقاتها أو العقل في مواجهة الخطأ:
لم يباشر ديكارت بحث موانع الحقيقة ومعوقاتها بشكل مباشر لكنّه أشار إليها في أكثر من مناسبة، هذه الموانع إمّا أن تمنعنا من بلوغ الحقيقة كالحواسّ والشّيطان الماكر والعقل الّذي لم يستخدم وفق خطوات المنهج… أو أن تخلق في نفوسنا حالة من الوهم والارتباك، فتجعلنا نظنّ بصدق أنّ معارفنا حقيقيّة لأنّنا تعلّمناها من مصادر موثوقة كآبائنا أو معلّمينا أو حكمائنا…
يسكن ديكارت الحقيقة خارج الذّات، فمن يضلّه ويمنعه من بلوغها ويزيغه عن طريقها هو الشّيطان (خارج الذّات)، والضّامن لبلوغها هو الإله (خارج الذّات). ماذا تبقّى من ذات ديكارت؟ بقي شيء واحد، وهو: «(…) سأعدّ نفسي خلوا من اليدين والعينين واللّحم والدّم، وخلوا من الحواسّ… فإن لم أتمكّن بهذه الوسيلة من الوصول إلى معرفة أيّ حقيقة، فإنّ في مقدوري على الأقلّ أن أتوقّف عن الحكم»[41]، يستنتج هوسرل -كما رأينا سابقا- أنّ ديكارت وضع العالم بين قوسين حينما قوّس ذاته الّتي هي في آخر المطاف تجارب وخبرات حول العالم، ويقول رونيه في تأمّله الثّالث المسطّر لإثبات وجود الإله وجودا عقليّا: «الآن سأغمض عيني وأصمّ أذني، وسأفصل حواسي كلّها، بل سأمحو من فكري صور الأشياء الجسميّة جميعا…»[42]. ومعناه أنّ تعطيل الحواسّ وتقويس العالم الحسّيّ لا يؤثّر في الذّات المفكّرة، والحال أنّه لو كان خاصيّة سياديّة جوهريّة لغابت بمغيبه، وزالت بزواله.
عطفا على ما سلف؛ لو قمنا بنفس الأمر للفكر لتعطّلت كلّ الأفكار المنسوبة للحواسّ عن الأشكال والألوان والأذواق… وستبقى فكرة واحدة، هي فكرة أنّني ناقص متناه؛ فكرة تستدعي فكرة أخرى، وهي فكرة اللّامتناهي[43] الّتي تعتبر من أهمّ صفات الإله بسبب كونها بيّنة بذاتها، وأكثر وضوحا وتميّزا في الذّهن، علاوة على كونها فكرة إجرائيّة، تمدّنا بالاقتدار على معرفة العالم، يقول رونيه: «إنّي قبل أن أعرف الله ما كان بوسعي أن أعرف شيئا آخر معرفة كاملة. والآن وقد عرفته سبحانه، قد تيسّر لي معرفة السّبيل وإلى اكتساب معرفة كاملة بأشياء كثيرة»[44] وبما أنّ العالم نتاج للإله، فلا يستغرب أن يحمل صفته أو صفاته لكنّه حامل لها على وجه النّقص (بلغة أفلاطون نسخة مزوّرة غير أصليّة أو سيمولاكر). وبالتّالي فإنّ معرفته بالإله تفتح أمامنا سبيلا لمعرفة العالم، ومثال ذلك: معرفتنا بالجسم تسهّل علينا معرفة ظلّه، وكأنّ ديكارت يرسم مسربا للحقيقة ويشقّ طريقا لها، فيبدأ بإثبات الذّات ثم يمرّ إلى تأكيد وجود الإله التّامّ ضمانة الحقيقة ليخلص إلى ترسيخ العالم بتغايره عن الأوّليّن.
هاهنا يفصل ديكارت بين الوجود العلميّ ذي الجوهر العقليّ، والوجود الحسّيّ المتقوّم بالجوهر الامتداديّ، ويدلّل على وجود العالم وحقيقته كونه موضوعا للهندسة، كما أنّي أتصوّره في ذهني الوجود الأكثر حقيقة من الوجود الحسّيّ الامتداديّ، ولو أنّه غير موجود لما تمكّنت من تصوّره عقليّا[45] بالإضافة إلى أنّ هنالك أجساما وأحاسيس تعرض لي دون أن أرغب فيها، فقد أشتمّ رائحة دون رضاي وقد ألتقط الصّور دون مشيئتي، وربّما أسمع أصواتا خارج رغبتي… هجوم الإحساسات عليّ من الخارج وانتدابها لذهني بغية التّفكير فيها، دليل قائم يدعو إلى التّسليم بوجود العالم الخارجي وكأنّ للحقيقة ركائز ثالوثيّة: الذّات/الأنا، العالم، والإله. ويصرّح ديكارت: «ما من فكرة في ذهني إلّا وسلكت من قبل طريق حواسي»[46]، وهذا يعني أنّ الحسّيّ متعلّق بذهني أشدّ التّعلّق والتّعالق، لدرجة لا أستطيع تصوّر ممارسة التّفكير دونه فأنا أوجد دائما بمعيّة جسم، يتجسّد فيه فكري ككائن هلاميّ مرن لا شكل له، ومسوق للتّقولب في جسم لا لخطيئة اقترفها كما تقول بها المسيحيّة وتقرّ بها الفلسفة الأفلاطونيّة، بل كمساعد وعماد يقوّي العقل للبحث عن الحقيقة. الجسم، إذن، يمنح الفكر صلابة الوجود ويترك له أمر الكشف عن حقيقة الماهيّة المتخفّية في ثنايا الوجود.
قد أنفصل عن العالم دونما انفصال عن جسمي (هذا من موانع الحقيقة: الانفصال عن العالم والجسم)، فهو أقرب ما أملك، وهو متماه ومحايث لفكري، ومعناه أنّ كلّ انفصال عن جسمي يعني انفصالي عن العالم الّذي يُعتَبر مادّة تفكّري ومنطلق تعقّلي. يلعب الجسم، إذن، دور الآلة الّتي أحرّكها من أجل قضاء حاجات ورغبات[47]، لذا يظلّ الفكر متّصلا كلّ الاتّصال بالجسم. هذا الرّبط تحدّث عنه ديكارت في كتاب: “انفعالات الجسم” حين ربط تفاعلهما في الدّماغ خصوصا في الغدّة الصّنوبريّة، قال: «(…) ومع أنّه من الممكن… أن يكون لي جسم قد اتّصلت به اتّصالا وثيقا إلّا أنّه لما كان لديّ من جهة فكرة واضحة ومتميّزة عن نفسي، من حيث إنّي لست إلّا شيئا مفكّرا لا شيئا ممتدّا، ومن جهة أخرى لديّ فكرة متميّزة عن الجسم، من حيث أنّه ليس شيئا ممتدّا وغير مفكّر. فقد ثبت أنّ هذه الآنية، أعني نفسي الّتي تتقوّم بها ذاتي وماهيّتي متميّزة عن جسمي تميّزا تامّا وحقيقيّا»[48]، إنّ تميّز الفكر عن الجسم لا يؤكّد انفصال الجسم عن الفكر، وإلّا لما استطاع الفكر تشكيل صورة واضحة عن نفسه المختلطة بجسمه كاختلاط ربّان السّفينة بها. ومنه نفهم أنّ وجود الذّات المفكّرة المستقلّة عن الحواسّ والجسم لا ينفي ترابطهما، بقدر ما يرسّخ تداخلهما وتشاكلهما على نحو تمايزيّ. مثال ذلك: أنا الآن جالس أدوّن مقالي فوق مكتبي أنقر على لوحة الحروف لأدوّن أفكاري، وأعبر بها إلى العالم الفيزيائي. يوازي هذا النّشاط العقليّ نشاط جسمي، فيديّ تتحرّكان حركات متسارعة فوق اللّوحة، ويتكوّر جسمي فوق الكرسيّ وتدور عيني باحثة عن الحروف المناسبة. أدرك نفسي داخل الزّمان والمكان، وفعل الإدراك يفجّر حقيقة أنّي لست جسما ممتدّا فقط بل مفكّر، ورغم ذلك أتأمّل نفسي أرتاد الغابة، وأمشي بين أشجارها وأخترق أنهارها… وكأنّ فكري يتميّز عن جسمي دون أن ينفصل عنه، وكيف ينفصل؟ ألا يفكّر عقلي في المشي في الغابة والمشي فعل جسمي بامتياز. ومنه، ندّعي أنّ ديكارت لم يفصل بينهما بقدر ما أقرّ بتمايزهما بحكم اختلاف قوانينها وإحداثيّاتهما. أيّ عالم تسكنه الحقيقة؟ هل هي بنت الفكر أم سليلة الامتداد والمادّة؟ أ هي تدرك بالعقل أم بالحواسّ؟
جواب ديكارت واضح؛ أستطيع تصوّر نفسي بدون حواسّ، بلا قدم، تنقصني يد، أعيش بغير عين… لكنّي لا أقدم على تمثّل نفسي بلا عقل أو فكر (من موانع الحقيقة الابتعاد عن الفكر)، إذ بمجرّد ارتفاعه عنّي ترتفع معه إنسانيّتي ولهذا، فإنّ ما يشكّل حقيقتي هو أنّي كائن عاقل ولا شيء زيادة. وكلّ شكّ ينتابني في صدق هذه القضيّة، يجب إخماده بالصّوت المدويّ للمثل الدّيكارتيّ التّالي: لديّ عن الشّمس معلومتان؛ الأولى أنّ الشّمس مثل القرص أو الدّينار في غاية الصّغر، ومصدر هذه المعلومة هي الحواسّ (بخاصّة حاسّة البصر). والمعلومة الثّانية، جاءتني عن طريق علم الفلك والرّياضيّات تؤكّد أنّ الشّمس أكبر بكثير ممّا نراه. وأنا أصدّق الفكرة الثّانية العقليّة وأرفض الأولى الحسّيّة. وبناء عليه، أوجب على نفسي أنّي كائن عاقل وهذا هو الأقرب لذاتي من الحواسّ الّتي إلى العالم وتشدّني بعيدا عن ذاتي[49]، نقيض العقل الّذي يولجني في ذاتي ويقرّبني منها.
كل ما سبق لا يعني أنّ ديكارت قطع كلّ علاقة بين العقل والجسم بل قال بعلاقة مزدوجة؛ انفصال واتّصال، ولكنّها تميل إلى الانفصال أكثر من الاتّصال. يقول الفيلسوف الفرنسيّ في التّأمّل السّادس: «(… إنّي لست مقيما في بدني كالنوتي في سفينته، بل فوق هذا متّحد به اتّحادا وممتزج به امتزاجا يجعل نفسي وبدني شيئا واحدا»[50]. فالبحّار ينتمي إلى السّفينة بقيادتها وتوجيه مسارها، لكنّه منفصل عنها من جهة إذا أصابها عطب أو أرادت الغرق لم يصبه بالضّرورة ولم يغرق بغرقها. مصيرها غير مصيره فالجسم، إذن، يعمل بطريقة آليّة طبيعانية عكس العقل الّذي يشتغل بطريقة ذكيّة. وكثيرا ما تثيرني قطعة اللّحم فآكلها مخدوعا بعدم معرفتي بالسّمّ فيها، الأمر الّذي يؤكّد آليّة الجسم وغباءه، في مقابل ذكاء العقل الّذي يكتشفه من تغيّر لون قطعة اللّحم هذه، يقول: «(…)طبيعتي لا تعرف جميع الأشياء معرفة تامّة شاملة»[51] أي بالطّبيعة؛ لا يعرف الجسم الحقيقة ولا يبحث عنها، إذ لم توضع في ماهيّته مسايرتها فقط جعل فيه متابعة ما يضمّ عيشه من مأكل ومشرب… ولو خدع لما أدرك الخداع إلّا عن طريق غير طريق الحواسّ وهو طريق العقل.
وثق ديكارت أشدّ الوثوق في العقل وسلّم له نفسه ليقودها ويوجّهها، فالعقل يتوفّر على إمكانيّة بلوغ الحقيقة، وإدراك ماهيّتها باعتباره نورا فطريّا في نظر الباحث جان ماري بيساد J. M. Beyssades الّذي وقف على ملاحظتين: الأولى وتتلخّص في «أنّ عقلانيّة ديكارت عقلانيّة مغلقة على نفسها، تبتعد عن كلّ ما ليس بذاتها»[52]. فالحقيقة مكتسبة من ذاتها مُعطاة مبدئيّا وجاهزة للاكتشاف فقط باِتّباع خطوات المنهج الدّيكارتيّ، اِتّباعا يحتاج إلى نظر عقليّ قويم، يسائل منطلقاته ويشكّ في معارفه ومسلّماتهن ويعيد تقعيدها قبل تسلّمها جاهزة ممهورة بالمطلقية. وهي الملاحظة الثّانية الّتي سمّاها بيساد بالثّقة الذّاتيّة[53]. يدافع هذا الباحث عن الوجه الثّاني من عقلانيّة ديكارت باعتبارها عقلانيّةً بنائيّةً، توظّف ملكاتها ومعارفها وتعبّئ الشّكل الرّياضيّ لصياغة حقائق مبنيّة[54]، ليخلص إلى أنّها عقلانيّة نقديّة تمكّن عصرنا من حلّ مشاكله وإخضاع منطلقاته ومبادئه للنّقد الذّاتيّ Autocritique[55]، إذ تغلب أدوار الشّكّ ووظائفه في النّسق الدّيكارتيّ على أدوار اليقين والكوجيتو cogito.
هدم ديكارت عناصر أناه الّتي لم يسهر على بنائها بنفسه بل أمدّه بها الموروث الجماعيّ، لذا لم يجد محيدا عن فكّ الارتباط بها مزحزحا ثبات الأرض الّتي نحاول أن نركن إليها وهي يابسة الحواسّ، فظنّ عن خيبة أنّنا انتقلنا معه إلى أرض جديدة ويابسة أخرى أصلب وهي يابسة العقل الرّياضيّ، فما فتئ يشكّك في معارفها بإدخال الشّيطان الماكر والمرض…[56] وهي مسبّبات الضّياع عن الحقيقة. يبرز الله كضامن للحقيقة، ولولاه لما كان الواضح واضحا والمتميّز متميّزا بل لما بقي للحديث عن حقيقة أي معنى[57].
نستنتج أنّ عقلانيّة ديكارت نقديّة وليست دوغمائيّة، تتكوّر على ذاتها وتنكفئ على بداهاتها ومعارفها الواضحة بذاتها، وتفعيلا لها تمّت زحزحة مركزيّة الكوجيتو عن قلب “النّسق الدّيكارتيّ” كي يعيد ترتيب البيت الدّاخليّ في أفق ترسيخ الشّكّ بوصفه مبدءا من مبادئ الفلسفة النّقديّة لديكارت. الأكيد في البحث عن الحقيقة والسّبيل لتحصّلها هو الشّكّ لا الأنا المفكر[58]، يقول: «(…) لا أعرف دواء أفضل من القيام بهدمه كاملا؛ لكي أقوم ببناء صرح جديد، لأنّي لا أريد أن أضع نفسي بين هؤلاء العمّال منزوعي الموهبة الّذين لا يعملون إلّا في إصلاح الأبنية القديمة، لأنّهم غير قادرين على بناء الجديد منها»[59].
بات للشّكّ الدّيكارتيّ أدوار ووظائف كبيرة يتزلّفها لهدم البناء القديم ووضع إكليل من الزّهور على قبره، وليمض مسرعا لبناء الجديد. ديكارت فيلسوف يريد أن يدلف من البداية لا أن يسير من بداية مستأنفة، يرغب أن يسلك غير سبيل القدماء في نشدان الحقيقة واستقصائها، يهدم القواعد ويبني على أنقاضها الجديد، يقول: «(…) من خلال هذا الشّكّ المطلق، باعتباره نقطة ثابتة وغير متحرّكة، أريد أن أستنبط معرفة الله، ومعرفتك، وأخيرا معرفة كلّ الأشياء الموجودة في الطّبيعة»[60]، ويظلّ الشّكّ محتبسا في الذّات، ثابتا كنقطة أرخميدس يعصف وينسف كلّ بناء متهاو أيل للانهيار، وأوّل ضحاياه هو الأنا الأولى المزيّفة الّتي تشكّلت في غفلة عن الذّات وفي غياب وعيها، ويستمرّ ضحاياها في التّزايد: الحواس، العالم، العقل… ويصرّح رونيه على لسان إيدوكس مخاطبا بوليندر: «أنت موجود، وتعرف أنّك موجود، لأنّك تعرف أنّك تشكّ، ولكنّك أنت الّذي تشّكّ في كلّ شيء ولا تستطيع أن تشكّ في نفسك، من أنت؟»[61]، ويجيب بوليندر أنّه من الصّعوبة تعريف نفسه بشكل تامّ، فكلّ تعريف يقوّض أسلوب الشّكّ، ويغلب أسلوب اليقين المخالف للحقيقة. يبدو أنّ الشّكّ مرجع ومعيار ثابت لا يتزحزع وعلى أساسه تمتحن كلّ المعارف والمكتسبات والآراء ليمحص أحقّها وأصوبها من خطئها[62]، ويقرّ بهذا ديكارت: «(…) ومع ذلك لدينا بعض المبرّرات لتسمية الأخطاء الّتي ارتكبتها بالموافقة، بحيث أنّني مدين بها الآن بمعرف ما الّذي أكونه؟ باعتباري أشكّ، وهو ما لا يمكن أبدا أن أسمّيه جسديّا، وإضافة إلى ذلك فأنا حتّى لا أعرف إن كان لديّ جسد، ما دمت قد أوضحت لي أنّي أستطيع الشّكّ فيه»[63].
لا يستثني ديكارت من الشّكّ حتّى الجسم، لأنّه بالإمكان التّخلّي عنه. يحصل هذا في المنام والتّأمّلات العقليّة لذا لا يمكن بناء الحقيقة عليه، كما يناط بالعقل دور المبلّغ للحقيقة متى روعيت خطوات المنهج التّالية: «الأوّل ألّا أقبل شيئا ما على أنّه حقّ، ما لم أعرف يقينا أنّه كذلك… وألّا أدخل في أحكامي إلّا ما يتمثّل أمام عقلي في جلاء وتميّز… الثّاني: أن أقسّم كلّ واحدة من المعضلات الّتي سأختبرها إلى أجزاء على قدر المستطاع… الثّالث: أن أسيّر أفكاري بنظام، بادئا بأبسط الأمور وأسهلها كي أتدرّج قليلا قليلا حتّى أصل إلى معرفة»[64].
يشكّل ديكارت طريقا إلى الحقيقة واضح المعالم والخطوات، مستعينا بدقّة الرّياضيّات وصرامة منهجها، وكأنّه يجعل سبيل بلوغ الحقيقة أقرب إلى متناول الرّياضيّين من غيرهم، وعلى غيرهم اللّحاق بهم باستعمال نفس المنطلقات والمبادئ. تبدأ من قاعدة الشّكّ ثمّ التّقسيم فالتّركيب وأخيرا المراجعة، وعند الالتزام بهذه القواعد أو الخطوات نستطيع حلّ المعضلات والمسائل العالقة في الحياة. كما يمكننا حلّ جلّ المشكلات في العلوم[65]، فقواعد المنهج دائما مناط بها إبلاغ الحقيقة بواسطة فعليْ الهدم والبناء؛ هدم معارف هشّة متهادية مشكوك في صحّتها وتقويضها، وعلى أنقاضها ترصّص معارف صلبة أكثر حقيقة من الأولى[66]. وفِعْلا الهدم والبناء يشترطان وجود أسّ ثابت ننتقل إليه مرحليّا، مثال ذلك أنّ ديكارت وضع أخلاقا مؤقّتةUne morale provisoire ، ويقول في هذا السّياق: «الأولى أن أطيع قوانين بلادي وعوائدها… وكانت حكمتي الثّانية أن أكون أكثر ما أستطيع حزما وتصميما في أعمالي، وألّا يكون استمساكي بأشدّ الآراء عرضة للشّكّ… وكانت حكمتي الثّالثة أن أجتهد دائما في أن أغالب نفسي لا أن أغالب الحظّ، وأن أغيّر رغباتي لا أن أغيّر نظام العالم، بالجملة أن أتعوّد الاعتقاد بأنّنا لا نقدر إلّا على أفكارنا، قدرة تامّة»[67]، ومن هذه الأفكار الأكثر ثباتا ورسوخا والّتي خرجت من تجربة الشّكّ أكثر قوّة، تخرج حقيقة «أنا أفكّر إذن أنا موجود»[68]. ونلج مع ديكارت لمعرفة يقينيّة مطلقة، تؤمن بوجود عالم موضوعيّ مطلق لا دخل للذّات في بنائه، وتشكيل عناصره. وهذا ضديد السّائد في الفكر العلميّ المعاصر (لا ديكارتيّ بلغة باشلار)[69]، وأمسى الواقع يُبْنى من طرف ذات العالم بشكل نسبيّ قابل للمراجعة والهدم، وإعادة البناء في كلّ مرّة[70]، الأمر الّذي يؤثّر في مقولات ديكارتيّة بنت نظرته المطلقة للحقيقة من قبيل: الشّكّ، الفكر، الواقع، المادّة، البداهة… إذ صار الواقع العلميّ المعاصر غير قابل للشّكّ لشدّة انفلات ظواهره (الميكروفيزياء)، وموادّه لا ترى بالعين المجرّدة غير قابلة للاختبار المخبريّ، ولا بسيطة يسهل عزلها والتّحكّم في مسارها بل أكثر تعقيدا وتركيبا؛ ليست بالبديهيّة الواضحة بذاتها بقدر ما هي مسلّمة Axiome ، ينطلق منها العالم لبناء نظريّته العلمية، ويؤكّد باشلار ذلك بقوله: «إنّ الأفكار البسيطة هي فرضيّات عمل، مفاهيم عمل، ينبغي أن يعاد النّظر فيها حتّى تفوز بعملها الابستمولوجيّ الصّحيح»[71].
في إطار مراجعته للمنظومة الدّيكارتيّة، يولج باشلار إحداثيّة اللّاعقل/اللّاعقلانية إلى مجال العقل/العقلانيّة، فيعتبر أنّ هذا الجانب له بالغ الأثر في النّتائج الّتي يصل إليها العالم، عارض باشلار قضيّة الحقيقة بالتّجربة الّتي تظلّ قائمة ومركزيّة في بناء الحقيقة، ولا يجب الخلط بين التّجربة والحواسّ لكون التّجارب أكبر من فعل الحواسّ، ويكفي كدليل ما يقدّمه العلم المعاصر من تجارب ناجحة في المختبرات كحقول لصياغة التّجربة. يقول غاستون موضّحا تجربة الشّمعة الدّيكارتيّة: «إذا تغيّر الشّمع، أنا أتغيّر، إنّي أشعر بإحساسي الّذي هو في كلّ لحظة تفكيري. كلّ تفكيري، لأنّ الشّعور هو التّفكير بالمعنى-الدّيكارتيّ- الأوسع للكوجيتو»[72]. أجرى باشلار توسيعا لمفهوم الكوجيتو الدّيكارتيّ ليشمل مفهوم التّجربة، ويدخل في بناء الأنا الموسّعة الّتي تجمع الفكر مع التّجربة، إذ يقول: «يتّضح، إذن، أنّ التّأمّل الموضوعيّ الّذي نتابعه في المختبر يسوقنا إلى إضفاء موضوعيّة تدرّجيّة تتحقّق فيها بأنّ واحد تجربة جديدة، وفكر جديد»[73]. وهذا الزّواج الّذي تمّ على يد باشلار بعد أن حصل الطّلاق البائن بين الفكر والتّجربة، أطلق عليه: العقلانيّة التّطبيقيّة، عقلانيّة ديكارتيّة ملحومة بالتّجربة وهو نوع من الفكر العلميّ الممتزج بالتّجربة، وهو فكر نسبيّ يتابع أحداث الواقع المتطوّر وقادر على النّموّ والمتابعة، سلس وأكثر ليونة وغير متجوهر. يؤول في الأخير إلى التّطوّر، ويكسر الأطر والنّماذج الجاهزة الّتي تقولب الحقيقة وتصوغها في طابع إطلاقيّ وأكثر عقلانيّة أو أوسع تجربانيّة. ولهذا ركّز باشلار على ديكارت المنهجيّ أكثر من ديكارت العقلانيّ أو لنقل إنّ عقلانيّة ديكارت اختصرت في نظر باشلار في عقلانيّة منهجيّة، فـ«المنهج لا يقضي بما يجب على الآخرين عمله، بل لا يقدّم لهم النّصح والإرشاد بالمعنى الصّريح، إنّه اجتهاد شخصيّ للإنسان الّذي يستخدم نور عقله الطبيعيّ؛ إنّه تسجيل لذلك الاجتهاد الشّخصيّ، تسجيل لذلك النّصح الّذي يقدّمه العقل لذاته»[74].
5- سبيل بلوغ الحقيقة ديكارتيّا: “وصفة” ديكارت لطالب الحقيقة:
لا نتوقّع من فيلسوف أن يحدّد طريقا سالكا، وخصوصا فيلسوف عقلانيّ، آمن أنّ العقلانيّة ممارسة فرديّة، تستوجب عملا منهجيّا يقود تجاه الحقيقة متى تيسّر إعمال العقل بطريقة منهجية، فمع ديكارت بات المنهج أكثر أهمّيّة وقيمة من الحقيقة، الّتي ارتهنت بمدى حسن قيادة العقل وتطويع الفكر للنّسقي؛ أي للبحث عن المطلق اللّانهائيّ الخالد[75]. العقل في حاجة إلى رياضة وتعليم يسعفانه لنيل الحقيقة، ويطلق نجيب بلدي على هذا العقل كلمة “البصير“. يقول: «يبدأ اكتشاف الحقائق بالشّكّ في جميع الأشياء والموضوعات، أي بإخلاء الذّهن من جميع الأحكام السّابقة في تلك الأشياء والموضوعات، وعدم الارتباط بحكم ما أيّا كان. ويكون الشّكّ هذا كفيلا وحده لإيجاد حقيقة أولى لا تحتمل شكّا أو إنكارا»[76]، فمن الحقيقة الأولى تخرج حقائق أخرى، مثال ذلك؛ من حقيقة وجود الذّات/الأنا إلى حقيقة وجود الإله ثمّ العالم، ويقول ديكارت مخاطبا مرسين: «في القول في كلّ مكان أنّ الله هو الّذي أنشأ هذه القوانين في الطّبيعة، كما ينشئ ملك القوانين في مملكته…»[77]، وهي حقيقة لا تسبقها معرفيّا إلا حقيقة “الأنا مفكّرة” الّتي تضمن بالضّرورة حقيقة “الأنا موجود”. فهنالك تماه مطلق بين الفكر والوجود لدرجة يصبح فيها الفكر -بما هو وعي واضح بذاته حامل لمؤثّرات وجوده الخاصّ ووجود باقي الموجودات المنظّمة في الأنا أفكّر كحقيقة أولى مجرّدة- فوق كلّ شكّ أو ارتياب[78].
وفي نفس السّياق يقول الباحث لويس: «جملة القول إنّني أدرك ذاتي على أنّي روح خالصة، عندما ألاحظ هذا الرّجوع الدّائم إلى الآنيّة، أيّا كان موضوع التّفكير»[79]، نحن، إذن، أمام أنا صلب دائم الحضور ممتلئ أمام نفسه أزليّ يشبه نقطة أرخميدس الّتي على أساسها قام الكون. أمّا عند ديكارت فعلى أساسها أنشئت المعرفة وضمنت وجود باقي الكائنات، «فالتّفكير يثبت فقط وجود كلّ فكرة على حدة. هذه النّاحية من الفكرة هي “الحقيقيّة” و”الصّوريّة” من حيث أنّ ملكة التّفكير تصبح فكرا بالفعل بصور فكريّة متلاحقة»[80]. ترجّح عند ديكارت وجود حقيقة صوريّة أكثر صرامة، وموعودة ببلوغ حقيقة مطلقة فوق كلّ اعتبارات التّشكيك والارتياب. وتأتي هذه الحقيقة كمقابل لحقيقة نسبيّة مشكوك فيها ذات منحى؛ إمّا حسّيّ أو شيطانيّ ماكر، وكلاهما يضلّان الباحث عن الحقيقة، ويخلطان له الحقيقة بالخطأ والوهم أو الحقيقة بالنّوم.
يسقط احتمال الإضلال والوقوع في الخطأ أو هما معا، ومجانبة الحقيقة والوقوع في شراك نقيضها حال يذكّي مزيدا من الحذر في التّعاطي معها، لا يكون إلّا على أساس ضمانة الإله الخيّر لأنّ إمكانيّة الإضلال والوقوع في الخطأ تعارض صفات الإله التّامّ، ولمّا كان الإله كاملا فليس بإمكانه إضلالي أو تغليطي أو عُدّ نقصا في حقّه، يقول جنفياف في هذا السّياق: «(…) المكر الّذي يشتمل عليه، هو كالخطأ نفسه، دليل نقص في الوجود، بينما الله هو الوجود التّامّ يفيض من قدرته الذّاتيّة. إنّه سبب ذاته، وفي الوقت نفسه سبب كلّ وجود آخر… الله مصدر كلّ حقيقة، برئ عن الخطأ»[81].
معصومية الله أمام الخطأ وإمكانيّة تبعيّة الخلائق والموجودات لقوّته، تجعل من ذاته ذاتا حقيقيّة يشعّ منها نور اليقين. إنّ الإله أشبه بالملك الّذي يصدر القوانين اللاحمة لمملكته؛ قدرته مطلقة وإرادته غير محدودة وفعله لا نهائيّ. لقد أمكن للإله جمع النّقائض، وجعل المثلّث يحوي أكثر من ثلاثة أضلاع لكنّه لم يرد لأنّه وجد في هذا الأمر نقصا يخالف حقيقة طبيعته وطبيعة الأشياء، وكأنّ الحقيقة احترام لقوانين الكون ومنطقه الدّاخليّ أو لنقل بكلام تسهل عبارته: هي مطابقة الأشياء لنفسها. وتوجد جرأة ديكارتيّة في استعماله للشّكّ أوّلا، ثمّ توسيعه لمجاله ثانيا، وخلق له ثالثا بمواصفات ميتافيزيقيّة غالية عليه بل بمواصفات إبستمولوجية معرفية.
الإله، إذن، يحكم الكون ليس لأنّه الأفضل أخلاقيّا بل لأنّه الأرقى معرفيا. المعرفة والنّظام هنا يفوقان الأخلاق، والقيم المعرفية أفضل من القيم الأخلاقية والحقيقة قيمة معرفيّة تجانب الخطأ، وليست قيمة أخلاقيّة تمتنع عن الكذب. نستنتج ممّا سبق أنّ الحقيقة نقيض للخطأ لا للكذب، بمعنى آخر يعلي ديكارت من شأن المعرفة فوق الأخلاق والميتافيزيقا ويعلنها ثورة هادئة باردة وعميقة على إبستيمي عصر النهضة، وكذا رؤية الكنيسة للكون والنّظام المعرفي. فهي ظلّت تعتبر الخطأ شرّا ونقيصة تكبّل يد الإنسان، وتخضعه لمصير محدّد مسبقا، والحال أنّ ديكارت أعاد النّظر في مسألة الخطأ واستشكل أفقه عساه يعيد حقّ المعرفة وقداستها قبل قداسة الأخلاق ودروشتها، فمن حقّي أن أعرف بل من طبيعتي كبشريّ أن أعرف حقيقة الأشياء الّتي أتعامل معها وتقع تحت مجالِ إدراكي. فلا أهمّيّة لأن أتقاسم وجودي مع كائنات غريبة عنّي، وأنا لا أعرف عنها أيّ شيء. تصطدم هاته الرّغبة الجامحة في المعرفة (إرادة مطلقة) بإدراك وفكر نسبيّين يعرفان البعض ويجهلان الكلّ؛ أي هنالك تداخل مستغرب في الكيان البشريّ بين النّهائيّ النّسبيّ (المعرفة) واللّانهائيّ المطلق (الإرادة)، وقد أرغب في أمر أجهله فأقع في الخطأ، فيكفل تصحيح الخطأ الزّيادة في المعرفة وتصحيح الخطأ، ومن الزّيادة في حجم معرفة الفكر ليواكب إثباتات أو منفيات الإرادة، فحالما تنفي الإرادة أو ترغب الرّغبة في أمر يعرفه الفكر ويحيط بكلّ جزئيّاته وتفاصيله، نبلغ الحقيقة بكلّ بساطة.
يحمّل ديكارت، إذن، الخطأ للذّات البشريّة ويدفعه عن الإله، وهذا لم يمنع ديكارت من البحث عن سؤال: هل الحقيقة كائنة أم غير كائنة؟ أموجودة هي أم غير موجودة؟ هل نستطيع بلوغها إن كانت موجودة أم لا؟ وهكذا استشكل ديكارت قضايا ترتبط بالمنهج المبلغ لها، تحت سؤال: ما السّبيل للوصول إليها؟ ما الخطوات الممكنة من ولوجها؟ كيف نتجنب الخطأ؟
لم يكن وجود الحقيقة، في أي لحظة وفي كلّ الحالات، موضع شكّ أو مجال ارتياب عند ديكارت، فكلّ شك في وجودها ارتياب في وجود الإنسان المتطلّع إليها، وشكّ في الإله الضّامن لها، والشّكّ في الحقيقة يلغيها ويقوّض أسسها، ويفقدها معنى الإطلاقيّة. فماذا يراد لي إن أنا شككت ولم أصل إلى أيّ حقيقة؟ ما قيمة شكّي وما هي أهمّيّته إذا لم يدعم الحقيقة ويسندها؟ المعضلة لا تنزوي في ماهيّة الحقيقة أو جوهر الإنسان بل في جهله سبل استهدافها ومراميها[82].
الحقيقة ليست بحاجة إلى إنسان كيفما علا شأنه ومقداره لتكون حقيقة، بل هي تحق ذاتها بذاتها ولا تستند إلى سلطة الماضي، يعرف بها الأشخاص ولا تعرف هي بهم، ولم يجد ديكارت غضاضة في النّيل من سلطة كلّ من يعرف الحقيقة بالأشخاص، من قبيل قول: سقراط الحكيم وأفلاطون الإلهيّ وأرسطو المعلّم الأوّل… ولم يقُنع أرسطو ولم يعُرف أفلاطون… إلّا لأنّهم راموا الحقيقة وبحثوا عنها، ومعلوم أنّ الحقيقة ليست وقفا على أحد من النّاسّ أو فئة منهم، إنّما هي في متناول الكلّ؛ تدرك بعفويّة وتمنح نفسها لمن يرى بوضوح وتميّز وبكامل الحرص ودون تسرّع أو تمسّك بالآراء السّابقة، منخدعا بسلطة السّلف الصّالح ومكانة الحكماء والمفكّرين والفلاسفة، فلا أحد عظيم أو حكيم أو معلّم أوّل… كلّها ألقاب لا تعبّر بصدق عن علاقة صحيحة بالحقيقة، فهذا أقرب ما يكون لروح النّقل والمحاكاة منه لروح الحقيقة الّتي هي مخاض عسير يخلخل البداهات والمسلّمات. الحقيقة تحبّ التّخفّي والتّحجّب وراء عالم الظّواهر؛ العالم الحسّيّ الزّائف المرئيّ، وهم وكثيرا ما شبّهه ديكارت بالحكم الّذي لا نعرف متى بدأ ولا أين ينتهي؟ ومن ثمّة تختلط علينا الوقائع.
الحقيقة واقفة هناك، بعيدا، متوارية خلف الحواسّ راقدة في العقل الرّياضيّ المحاسب والمكمّم، مكتوبة بلغة الأعداد لا بلغة الحروف لأنّ لغة الحروف لغة خشبيّة تمويهيّة خدّاعة، ترهننا للّغة الطبيعيّة المبنيّة أصلا على الاستعارة والتّشبيه والكناية، وكثيرا ما تتكلّم بالمباشرية، ومعانيها منثنية عكس اللّغة الصّناعيّة للرّياضيّات الّتي تعتبر لغة مباشرة لا تحتمل أكثر من معنى. يفسح ديكارت للحواسّ إمكانيّة التّدرّب على رؤية نور العقل والاسترشاد به، فنحن نلمس ونشمّ ونسمع ونبصر بإشارته، وبذلك نكتشف الحقيقة في تمام وضوحها. يقول: «أمّا خصائص مثل الصّلابة واللّون فهي نسبيّة، لا يمكن قياسها، هي إحساسات ذاتيّة تظهر في العقول البشريّة من الأشياء لكنّها ليست حاضرة فيها بالفعل»[83]، فكلّ الأشياء والموجودات والكائنات الّتي نتعامل معها محاولين إخلاء حقيقتها، تأتلف من مكوّنين: مكوّن كيفيّ عرضيّ (لون، رائحة، شكل…) ندركه بالحواسّ الخدّاعة. وآخر كمّيّ مطلق، يمثّل جوهر الأشياء ندركه بنور العقل الفطريّ، مثلا؛ الشّمس تظهرها الحواسّ صغيرة مقدار الدّرهم أو الدّينار، فيما يطلعنا العقل بحساباته الفلكيّة الدّقيقة أنّها أكبر ممّا قدّمته حاسّة البصر. نجد أنفسنا أمام مفارقة: بمن نثق؟ هل في الحاسّة أم العقل؟ الأقرب لطبيعتها هو العقل، ويكفي أن نمنهجه وننظّم إدراكاته أمّا الحواسّ، فهي أقرب للكون من أنفسنا.
الحقيقة هي ما يجعل الشّيء متعيّنا، إذ تخرجه من هلاميّته وتمنحه وجودا عينيّا أي تجوهره. الحقيقة هي جوهر الأشياء، وجوهر الأشياء هو حقيقتها. وفي غياب الجوهر تتحوّل الأشياء إلى ظواهر وأشكال بلا موضوع تقع عليه، وهذا الأمر مستبعد بل ومستحيل. وبناء عليه فإنّه كلّما كانت الحقيقة أكثر بروزا وتميّزا كان الشّيء أكثر وجودا، ووجوده يعني حمله لصفات وسمات تؤشّر على وجوده. معنى الحقيقة هنا هو الرّؤية المحايدة للأشياء؛ أي التّجرّد من الأحكام المسبقة والمعارف الأوّليّة الّتي تحول دوننا وإدراك الشّيء في صفائه، ودون أن نكدّر صفاءه بما نلقيه عليه من معارف تصبغه بالزّيف والاختلاط، فيفقد بريق الوضوح والتّميّز، الأمر الّذي يجعله عرضة للشّكّ المنهجيّ الّذي لا يتوفّر حتّى يصل إلى الحقيقة، «فديكارت بهذا يضع معايير الحقيقة ومقاليدها في يد الإنسان وحده غير معلّق إيّاها بأسباب السّماء أو بآثار الدّهور بأثينا من خلفها صوت أرسطو أو أيّ صوت آخر»[84]، ولا زلنا نشتمّ في المنهج الدّيكارتيّ ربطا للحقيقة بالتّجرّد والصّفاء، إنّها مقولة غير ذاتيّة لا نتدخّل في إنتاجها بل فقط في استهلاكها، وجعلها مقياسا صالحا لوزن الخطأ، وكذلك لا ترتبط الحقيقة بأيّ جهة خارجيّة زمانيّة كأرسطو أو مكانيّة جغرافيّة (أثينا مثلا) أو قدسيّة (نقصد الكنيسة)، فهي تظلّ متجرّدة من الزّوائد والأعراض…
لعبت الحقيقة دور “المنقذ من الضّلال” والمخرج من آفة الرّيبة لتمنح الذّات الاستقرار والثبات، هي حال تشابه فيها ديكارت مع الغزالي[85]، إذ تمثّل الحقيقة طوق نجاة من الاهتزازات النّفسيّة لعصر عصف بالاطمئنان، وكاد يضحّي بإمكانيّة المعرفة لولا أن سلّطت عليه قوّة عقليّة صارمة، آمنت باستطاعة المعرفة والاقتدار على العلم. والمقصود هنا، ديكارت الّذي أوصل البشريّة إلى برّ الأمان عندما نادى: “اليابسة اليابسة”، دلالة على اكتشاف الكوجيتو حسب هيجل… فاستحقّ توصيفه بمكتشف قارّة الأنا وأب الفلسفة الحديثة. ونحن ندّعي أنّه استحقّ هذا التّوصيف لاعتقاده بوجود حقيقة مطلقة توحّد البشريّة، وتنهي عهود صراعها حول الملكية والسلطة. لذا اتّجه ديكارت صوب العلوم واعتنى خصوصا بالرّياضيّات، محاولا جعل الحقيقة مثلها، واحدة بين البشريّة لا تنازع حول صدق قضاياها. مشروع ديكارت، إذن، هو من أجل ترييض الحقيقة عسى أن نوحّد البشريّة على صعيد واحد، ونمنع عنها أشكال الصّراع والنّزاع.
رسم منهج منضبط الخطوات ينير طريق الحقيقة، ويهدي الفرد إلى الصّواب والحقيقة، ويثبّته وسط عاصفة الشّكّ. ولو انقلبت العصا أمامه ثعبانا فسيشكّ في مكر الحواسّ، ولن يشكّ في كون مجموع واحد وواحد، اثنان[86]. يتوسّع الأمر حتّى يصل إلى أمور الدّين عند ديكارت، والّتي لا تقبل إذا خالفت مشمولات العقل ومتأملاته، فلا صوت يعلو فوق صوت الحقيقة ولا مطلب أعلى من مطلبها ولا غاية تفضّلها. فكيف نجعلها مزموما وهي زامم؟ وكيف نجعلها مقودا وهي قائد؟ هذه هي شرعة طالب الحقيقة: رجل سام ذو قيم رفيعة وحاسّة رهيفة وعقل فطن، يشهد على الحقيقة رغم أن لا شاهد عليها غير ذاتها فهو ذاتها، وشاهد على صحّة المشهودات، وضامن لصوابها بعد أن كان الإله هو هذا الضّامن. نحن نرى انزياحا خطيرا ومنعطفا فكريّا حادّا في فكر ديكارت، بمقتضاه لم تعد الحقيقة شأنا إلهيّا بل مطلبا بشريّا، وعندما نقول هذا نصبح قادرين على ربط الحقيقة بالذّهن وبمطابقتها لبداهات العقل فما كان ديكارت، ليستثمر كلّ طاقاته العقليّة بدعا دون أن يصل إلى نتيجة تخلّصه من أعباء الشّكّ. بمعنى آخر؛ الحقيقة هنا تطابق البداهة الّتي تعبّر عن ماهيّة الشّيء وجوهره، فإذا كان لكلّ شيء ماهيّة ثابتة لا تقبل التّغيّر فإنّ بلوغ الماهيّة معناه الوصول إلى الحقيقة، وبناء عليه نتساءل: ما السّبيل إلى بلوغ ماهيّة الأشياء؟ هل عن طريق الحواسّ والتّجربة أم بالعقل والتّفكير؟ هل هنالك منهج يبلّغنا هذا الأمر دون عناء وباقتصاد للطّاقة والجهد؟
نلاحظ أنّ ديكارت جعل للأشياء ماهيّة ثابتة تعبّر عن وجودها وتسمح بإمكان كشفها، وعند الوصول إلى ماهيّتها نقدر على معرفة حقيقتها، ويشهد حجم التّمايزات الّتي وضعها بين الأشياء ممّا يقود إلى اختلافها وتغاير ماهيتها، إذ لا توجد ماهيّة واحدة، وبالتّالي لا وجود لحقيقة مطلقة ونهائيّة دون أن يعني هذا شطب كلّ حقيقة ومحوها، على العكس يحتفي رونيه بالحقيقة، ويطالبنا بالبحث عنها دون الظّنّ أنّنا بصدد حقيقة مطلقة ونهائيّة، ومنه نتساءل: لماذا نقع في الخطأ؟ ألا يمثّل جزءا من طبيعتنا إن لم نقل من طبيعة الحقيقة؟ ما فائدة الشّكّ والمنهج إن كانت الحقيقة مطلقة؟ ما معنى أن نشكّ ونفكّر في غياب شيطان ماكر أو حواسّ مضلّلة؟ أليست كلّ المفاهيم الدّيكارتيّة مترابطة ويشدّ بعضها بعضا؟
يكاد ديكارت يبلغ إلى مستوى يجعل فيه الحقيقة عبارة عن فكرة محرّرة من العالم؛ أي أنّه يجرّدها من المعطيات الحسّيّة المضافة للأشياء دون أن تمثّل جوهرها ويبعدها عن الأهواء والرّغبات النّفسيّة ويترفّع بها عن الخطأ[87]، وفي هذا الصّدد يأتي فعل انفتاحه على العلوم لتقوية الحقيقة وتمتينها فلسفيّا، وقد برر هذا الأمر بحلم رآه سنة 1619: فهل وقع أم لم يقع؟ هل فعلا هو الدّافع الأساسي والوحيد لبحث ديكارت عن تطوير العلوم وإفادتها من الفلسفة؟
ظلّ ديكارت يعتقد عدم تنافي الحقيقة الفلسفيّة الّتي وصل إليها بالنّور الطّبيعيّ للعقل مع ما جاء به العلم والعقيدة المسيحيّة[88]، لذا نراه يشكّل الحقيقة ويثني عليها ويدعو إلى أخلاق مؤقّتة كاتّباع عادات القوم وشرائع الكنيسة وعدم مخالفة السّائد منها… وكأنّه يعتبر الحقيقة جاهزة، ويكفي الإيمان بها واتّباعها، وقد تراجع عن نشر كتاب: “العالم” الّذي يزكّي فيه نتائج غاليلي ومطاريحه الفلكيّة[89]، لكن ما شهده من إعدام لبرونو سنة 1600 والحكم على غاليلي بعدم مغادرة بيته ثمّ محاكم التّفتيش… منعه من نشره[90]. إنّ توخّي الحقيقة دفعه لمسح الطّاولة ومعناه فقد حالة الطّفولة، وتشطيبها من قاموس الحياة الإنسانيّة. فهي مرحلة الخطأ الّذي يجب تصحيحه، فمرحلة “حداثة السّنّ” شحنت ذاتنا بتمثّلات وآراء مشكوك في صحّتها، ومجرّد آراء مسبقة لا ترقى إلى الحقيقة، بل إنّ الحقيقة تطالبنا بالتّخلّي عنها والتّنصّل من معطياتها الّتي تشبه حالة الحلم. فالطّفولة حلم من كثرة مشابهته للواقع ظننّا أنّه حقيقة.
يدعونا استحضار الحقيقة، والسّعي في طلبها إلى اجتثاث العاطفة، والتّنكّر للمشاعر المتماهية مع الحواسّ والشّيطان الماكر، وكلّ تطابق مع العاطفة يعطف بنا (يميل بنا) عن الاقتراب من الفكر المجرّد الّذي تسكنه الحقيقة كاملة كمال جلائها. إنّ العاطفة كما الطّفولة تعبّر عن حياة الوحشة والبدائيّة كما جاء مع هيجل في فلسفة التّاريخ، لذا حقّ توصيف ليفيناس للفلسفة بكونها «وعي الشّيخوخة الّتي تمتصّ أخطاء الطّفولة وتتجاوزها»[91]، فالفيلسوف يتّجه دائما نحو اللّانهائيّ، وأفقه في اتّساع مستمرّ. والشّيخوخة تعني الاقتراب فعليّا من الحقيقة، وتصحيح تمثّلات الطّفولة وجموح الشّباب. إنّها مرحلة المراجعة الذّاتيّة، مرحلة الشّكّ، مرحلة التّغاير والأخرية[92].
اقترب ديكارت في مرحلة الشّيخوخة من الحقيقة في نظر ليفناس، وكلّ باحث يريد كشف الحقيقة في فلسفته مطالب بالسّعي إليها في مراحل ديكارت العمريّة الأخيرة[93]، فالتّفلسف يكتمل أفقه، ويختمر في مرحلة الشّيخوخة الّتي تعني غلبة العقل على الغريزة والرّغبة، كما هي مرحلة التّوشيح بالحقيقة بعد بحث مضن ومكدّ عنها في مرحلة الشّباب[94]. فهل تستطيع هاته المرحلة العمريّة ترجمة الحقيقة والتّعبير عنها؟ هل اللّغة وافية ضافية، وقادرة على قول الحقيقة وقد أصبحت محمّلة بخبرات وتجارب ذاتيّة؟ هل بالمقدور الإصغاء إلى الحقيقة وقولها وتقبّلها في عرائها الموحش والصّادم في ذات الآن؟ هل للحقيقة هويّة ثابتة يمكن الرّكون إليها؟ هل تدخل الحقيقة في حدود الممكن أم ضمن المستحيل؟ المفكّر أو اللّا مفكّر؟ الثّابت أم المتحرّك؟
6- على سبيل الختم:
التّوقّف مع ديكارت يطرح تحديّا مقتضاه: ما الجديد الّذي سيقال بعدما قيل؟ ألا يعدّ البحث عن الحقيقة موضوعا استنزف الدّراسة وصار من المعلوم بالضّرورة؟
وقفنا على مثل هذا الأمر كثيرا في مقالنا، ووجدنا كثيرا من المسوّغات الّتي تحفّزنا للزّيادة في بحث هذا الأمر، خصوصا مثل هذه الدّعاوي الّتي لا تسند على أسس صلبة فوجدنا أنّ الرّجل كثيرا ما ظلمت رؤيته الحقيقة، ونعيد هذا الأمر إلى بعد كتب تاريخ الفلسفة[95]، والّتي لم يكن همّها بالدّرجة الأولى ملامسة قضيّة بعينا مثل الحقيقة، بقدر ما كان مشغلها تقديم صورة مصغّرة عن الفلاسفة عموما وديكارت خصوصا، ووجدنا عجبا.
أوّلا: يجب مراجعة إطلاقيّة الحقيقة الّتي قال بها ديكارت، والّتي نجدها فعليّا حاضرة في بداية حياته حين كان متشبّعا بالرّياضيّات، أمّا في أواخر حياته خصوصا كتاب “مبادئ الفلسفة” فقد فتح الحقيقة على سؤال المنهج وخطواته، وقال بإمكانيّة بلوغ الحقيقة، والميل عن الخطأ إذا أحسنّا إعمال العقل، ممّا جعله ينسب الحقيقة ويجعلها قضيّة فرديّة مثلها مثل الأخلاق المؤقّتة.
وثانيا: تردّد صوت يؤكّد رفض ديكارت للجسم كوسيلة تطلب الحقيقة، وهو لم يرفض الجسم بقدر ما اعتبره جوهرا خاصّيته الامتداد في التّأمّل السّادس، ولم يبعده عن الحقيقة بل رفض إدراكات الجسم الّتي لا تسعفه في بلوغ الحقيقة وهي الحواسّ، وذلك لأنّه لا يتّهم الجسم كما لا يتّهم العقل حين لا يحسن استعماله. وعليه ندعو لمزيد من التّحرّي والتّقصّي في كلّ الفلسفات وخصوصا فلسفة ديكارت، بل إنّ الباحث مطالب أكثر ممّا مضى بمساءلة القضايا البديهيّة حول الفلاسفة، والّتي تقدّم لنا صورة مغلوطة عنهم خصوصا، ونحن أمام قيمة الحقيقة الّتي يقع عليها اليوم الصّراع، وتمثّل بؤرة للاقتتال حول من يتملّكها من الدّول والمجتمعات، فهي اليوم شأن عالميّ وقضيّة وجوديّة يجب فتح نقاش عميق حولها.
لائحة المصادر والمراجع:
المراجع بالعربية:
- باشلار، غاستون: الفكر العلميّ الجديد. ترجمة: عادل العوا. مراجعة: عبد الحليم الدّائم. المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع. ط2. بيروت 1983.
- برهييه، إميل: تاريخ الفلسفة، القرن السّابع عشر. الجزء 4. دار الطّليعة للطّباعة والنّشر.ط1. 1989.
- بلدي، نجيب: ديكارت. نشر دار المعارف. ط2. القاهرة. 1987.
- الخشت، محمّد عثمان: أقنعة ديكارت العقلانيّة تتساقط. دار قباء للطّباعة والنّشر والتّوزيع. ط1. القاهرة 1998.
- ديف روبنسون، وكريس جارات: أقدم لك… ديكارت. ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام. نشر المجلس الأعلى للثّقافة.ط1. القاهرة 2001.
- ديكارت، رونيه: البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعيّ. ترجمة: مجدي عبد الحافظ. نشر المركز القوميّ للتّرجمة. ط2. القاهرة 2014.
- ديكارت، رونيه: التّأمّلات في الفلسفة. ترجمة: عثمان أمين. المركز القوميّ للتّرجمة.ط1. القاهرة 2014.
- ديكارت، رونيه: حديث الطّريقة. ترجمة: عمر الشّارني. المنظّمة العربية للتّرجمة. ط1. بيروت 2008.
- ديكارت، رونيه: مبادئ الفلسفة. دار الثّقافة للطّباعة والنّشر. ط1. القاهرة 1975.
- ديكارت، رونيه: مقال في المنهج. ترجمة: محمود محمّد الخضيري. نشر الهيئة المصريّة العامّة للكتاب. ط3. القاهرة 1985.
- روديس لويس، جنفياف: ديكارت والعقلانيّة. ترجمة: عبده الحلو. منشورات عويدات. ط4. بيروت 1988.
- زقزوق، محمود حمدي: المنهج الفلسفيّ بين الغزالي وديكارت. نشر دار المعارف.ط1. القاهرة. 1997.
- فضل الله، مهدي: فلسفة ديكارت ومنهجه، دراسة تحليليّة ونقديّة. دار الطّليعة للطّباعة والنّشر. ط3. بيروت 1996.
- فوكو، مشيل: تأوّل الذّات، دروس ألقيت في الكوليج دوفرانس لسنة 1981- 1982. ترجمة وتقديم: الزّواوي بغوره. دار الطّليعة للطّباعة والنّشر. ط1. بيروت 2011.
- كويري، ألكسندر: ثلاثة دروس في ديكارت. ترجمة: يوسف كرم. المركز القوميّ للتّرجمة. ط1. القاهرة 2014.
- لوقا، نظمي: الله أساس المعرفة عند ديكارت. المطبعة الفنّيّة الحديثة. ط1. القاهرة. 1992.
- هوسرل، إدموند: أزمة العلوم الأوروبيّة والفينوميلوجيا الترنسندنتاليّة. ترجمة: إسماعيل لمصدق. المنظمة العربيّة للتّرجمة. ط1. بيروت 2008.
- هوسرل، إدموند: تأمّلات ديكارتيّة أو مدخل إلى الفينومينولوجيا. ترجمة: تسير شيخ الأرض. دار بيروت للطّباعة والنّشر. ط1. بيروت 1958.
- يوسف الحاج، كمال: رنيه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة. دار مكتبة الحياة. ط1. 1992.
المراجع باللغات الأجنبية:
- Beyssade, Jean-Marie: Descartes et le rationalisme. Acte du colloque de Tunis, 2-3 Décembre, Faculté de sciences Humaines et sociales de Tunisie 1997.
- Descartes, René : Correspondance. ED: Vrin . Paris 1996.
- Discours de la méthode. TR: Denis Moreau. ED: Le livre de poche. Paris 2000.
- François-Xavier de Peretti: Certitude évidence et vérité chez Descartes, La question du fondement cartésien de la connaissance. Thèse présentée en vue de l’obtention du grade de Docteur de l’université l’Aix-Marseille soutenue en séance publique et contradictoire le 1er mars 2014.
- Lévinas, Emmanuel: humanisme de l’autre homme. Livre de Poche. Paris.
- Totalité et infini, Essai sur l’extériorité. ED: Maritinus Nijhoff. Paris 1971.
- Merleau-Ponty, Morrice: Eloge de la philosophie et autres essais. ED: Gallimard. Paris 1989.
- Octave Hamelin: Le système de Descartes. ED: Félix Alcan . Paris 1921.
- Olivo, Gilles: Descartes et l’essence de la vérité. ED: Presses universitaire de France. Paris 2005.
- N. Nemp: New studies in the Philosophy of Desecrates. ED: Macmillan. London 1966.
[1]– Merleau-Ponty, Morrice: Eloge de la philosophie et autres essais. ED: Gallimard. Paris 1989. P41.
[2]– Ibid. P65.
[3]– ديكارت، رونيه: البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعيّ. ترجمة: مجدي عبد الحافظ. نشر المركز القوميّ للتّرجمة. ط2. القاهرة 2014. ص22.
[4]– كويري، ألكسندر: ثلاثة دروس في ديكارت. ترجمة: يوسف كرم. المركز القوميّ للتّرجمة. ط1. القاهرة 2014، ص38.
[5]– Olivo, Gilles: Descartes et l’essence de la vérité. ED: Presses universitaire de France. Paris 2005. P39.
[6] – نقلا عن: ثلاثة دروس في ديكارت، ص38.
[7]– كويري: ثلاثة دروس في ديكارت، ص43.
[8]– كويري: ثلاثة دروس في ديكارت، ص45.
[9]– “ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne (فبراير 28 1533- 13 سبتمبر 1592) أحد أكثر الكتاب الفرنسيّين تأثيرا في عصر النّهضة الفرنسي. رائد المقالة الحديثة في أوروبا. وكان يقلّد اليونانين والكلاسيكيّين في عاداتهم في رصف الحكم والأمثال في ثوب مسجوع، وتأثر كثيراً بكتابات أرسطو، ولكنّه تفرّد بأسلوبه المرسل وظهرت شخصيته بوضوح.
يشتهر ميشيل دي مونتين بمقالاته الّتي نُشرت في ثلاث مجلّدات، ودرس الكثير من الأدب اليونانيّ واللّاتينيّ القديم، وشاء أن يفكّر مشاهير زمانه في النّسج على منوال بعض أبطال اليونان وروما في حياتهم. وكان من رجال حاشية الملك شارل التاسع ملك فرنسا ردحاً من الزّمن.
كانت كتاباته الأولى خلاصة لفترة من العزلة فرضها مونتين على نفسه ليعيش حياة تتميّز بالهدوء وتخصبها القراءة. وكانت هذه الخلاصة انعكاسًا لعدّة عوامل أثّرت في هذه التّجربة الذّاتيّة لمونتين: كثقافته وعزلته وتأمّلاته وعنايته بالأدب عنايته بمشكلات عصره الفكريّة والاجتماعيّة، فتداخلت هذه العوامل وظهر انعكاسها عندما بدأ مونتين الكتابة عام 1571″. أنظر موقع ويكيبيديا:
https://ar.wikipedia.org
[10]– نقلا عن: ثلاثة دروس في ديكارت. ص56. التّسويد في النّصّ منا. أنظر في هذا الصّدد مثل المريض في كتاب: البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعي، ص87.
[11]– Descartes et l’essence de la vérité. P52.
[12]– ديكارت: البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعي، ص94.
[13]– هوسرل، إدموند: تأمّلات ديكارتيّة أو مدخل إلى الفينومينولوجيا. ترجمة: تيسير شيخ الأرض. دار بيروت للطّباعة والنّشر.ط1. بيروت 1958، ص59.
[14]– المرجع نفسه، ص117- 118.
[15]– هوسرل: تأمّلات ديكارتيّة أو مدخل إلى الفينومينولوجيا. ص134.
[16]– François-Xavier de Peretti: Certitude évidence et vérité chez Descartes, La question du fondement cartésien de la connaissance. Thèse présentée en vue de l’obtention du grade de Docteur de l’université l’Aix-Marseille soutenue en séance publique et contradictoire le 1er Mars 2014. P22.
[17]– هوسرل: تأمّلات ديكارتيّة أو مدخل إلى الفينومينولوجيا، ص157.
[18]– ديكارت، رونيه: التّأمّلّات في الفلسفة. ترجمة: عثمان أمين. المركز القوميّ للتّرجمة. .ط1. القاهرة 2014، ص215- 216.
[19]– Certitude évidence et vérité chez Descartes. P275.
[20]– هوسرل، إدموند: أزمة العلوم الأوروبيّة والفينوميلوجيا التّرنسندنتاليّة. ترجمة: إسماعيل لمصدق. المنظمة العربيّة للتّرجمة. ط1. بيروت 2008.،ص217.
[21]– هوسرل: تأمّلات ديكارتيّة أو مدخل إلى الفينومينولوجيا،ص219.
[22]– المرجع نفسه، ص220.
[23]– المرجع نفسه، ص280. التّسويد في النّصّ منّا.
[24]– المرجع نفسه، ص281.
[25] – هوسرل: تأمّلات ديكارتيّة أو مدخل إلى الفينومينولوجيا، ص332.
[26] – ديكارت، رونيه: مبادئ الفلسفة. دار الثّقافة للطّباعة والنّشر.ط1. القاهرة 1975، ص31.
[27] – المرجع نفسه، ص31.
[28] – المرجع نفسه، ص33.
[29]– ديكارت: مبادئ الفلسفة. ص35. ما بين قوسين إضافة منّا للتّوضيح.
[30]– أنظر كتاب: تأمّلات في الفلسفة الأولى. ص246-247.
[31]– ديكارت: مبادئ الفلسفة، ص37.
[32]– أنظر: ديكارت: البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعي، ص87، 93.
[33]– المرجع نفسه، ص65.
[34]– Descartes et l’essence de la vérité. P97.
[35]– ديكارت: البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعيّ، ص67.
[36]– المرجع نفسه، ص69.
[37]– المرجع نفسه، ص106.
[38]– أنظر التّأمّل الأوّل في كتاب “تأمّلات في الفلسفة الأولى”، حيث يوقفنا ديكارت على أهميّة ممارسة فعل الشّكّ أمام حواسّ كثيرة الخطأ، تخلط علينا حالة النّوم بحالة الاستيقاظ. يقول: «كلّ ما تلقّيته حتّى اليوم وآمنت بأنّه أصدق الأشياء وأوثقها قد اكتسبته من الحواسّ أو بواسطة الحواسّ غير أنّي جرّبت هذه الحواسّ في بعض الأحيان فوجدتها خدّاعة؛ ومن الحكمة أن لا نطمئنّ كلّ الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرّة واحدة»، ص72- 73.
[39]– ديكارت: تأمّلات في الفلسفة الأولى، ص76- 77.
[40]– المرجع نفسه، ص80.
[41]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[42]– ديكارت: تأمّلات في الفلسفة الأولى. ص130.
[43]– لنا مقال يهتمّ بقضيّة فكرة اللّامتناهي ودورها في فتح أفق الفكر الدّيكارتيّ بخاصة والفكر العلميّ عموما. هشام مبشور: رؤية ديكارت للعالم وتحدي الانتقال إلى تصور جديد حوله. مجلة تبين. العدد 28. المجلد السابع. ربيع 2019.
[44]– ديكارت: تأمّلات في الفلسفة الأولى: التّأمّل الخامس. ص221- 222.
[45]– راجع التأّمّل السّادس من كتاب: تأمّلّات في الفلسفة الأولى. ص232-234.
[46]– المرجع نفسه، ص245.
[47]– يشبه هذا ما عبّر عنه ابن باجه في: رسالة الوداع، حينما اعتبر الاهتمام بالجسم داخلا في الاهتمام بآلة تقوم لنا بدور من قبيل اهتمام النّجّار بالأدوات الّتي يعمل بها، يقول: «فكما أنّ الإنسان، إذا عدم الآلات الإراديّة(الحواسّ)، لم يمكنه أن يعمل الأعمال الّتي لتلك الآلات، كذلك المحرّك الأوّل، إذا عدم آلاته الطّبيعيّة. فإنّ النّجّار متى عدم القدوم وسائر آلاته لم يصنع من الآلات شيئا. كذلك الإنسان، إذا عدم البدن، لم يباطش.
وإذا كان ذلك كذلك، فإنّا نجد دوي الإراديّة ثلاثة أصناف: منهم صنف لا يبالون بآلاتهم ولا يحرسونها حتّى تفسد عليهم سريعا فتخترم أعمالهم ولا يمكنهم متى شاؤوا أن يعملوا أو يشقّ عليهم، ومنهم من يصرف وكده إلى حفظ آلاته والصّيانة لها والعناية بها حتّى يكون معظم وكده في حفظها ويجتنبون معظم منافعهم، كما يعرض ذلك للمتكلّمين باليسار، فيكون يسارهم قد ذهب باطلا، ويكونون عبيدا لآلاتهم من غير أن يشعروا ويتلذّذ بوجودها غيرهم، وكلا الصّنفين مذموم الحال. ومنهم من إنّما يحرسها ويصونها في وقت ما لا يحتاج إليها ويبذلها ويستخفّ بها في الحين الّذي يستعملها، ولا يبالي عند استعمالها على ما يجب هل تلفت أو بقيت. وأحوال هؤلاء فقط هي المحمودة، وهم الّذين توسّطوا بين الصّنفين قد أخذوا من كلّ قسم أحسن ما فيه وبدّدوا أسوأ ما فيه (…) ولذلك قال صاحب الشّريعة عليه السّلام: “خير الأمور أوسطها”.». رسائل ابن باجه الإلهيّة. حقّقها وقدّم لها: ماجد فخري. دار النّهار للنّشر.ط1. بيروت 1968. ص117. ما بين قوسين إضافة منّا للتّوضيح. وعلى أهمّيّة الجسم وآلاته في المتن الباجيّ إلّا أنّه لم يعتبره الفاعل الأوّل، بل منفعل والفاعل هو النّفس، يقول: «الأوّل على الإطلاق في الإنسان هو النّفس وأجزاؤها، أمّا الجسد فهو مجموع الآلات. فإنّ مجموع الآلة الطّبيعيّة هو البدن، ولذلك الحيوان قد يموت ولم يعدم من جسده عضو، كما قد يغيب النّجّار ولا يعدم من آلاته آلة، غير أنّ الفعل لا يتمّ لها إذ المحرك الأول قد عدم…». رسائل فلسفيّة لأبي بكر بن باجة. تقديم وتحقيق: جمال الدّين العلوي. دار الثّقافة ودار النّشر المغربيّة. ط1. الدّار البيضاء. ص138.
[48] – ديكارت: تأمّلات في الفلسفة الأولى، ص249- 250.
[49]– أنظر المثل في: ديكارت: البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعيّ، ص87.
[50]– المرجع نفسه، ص253. التّسويد منّا. راجع أيضا كتاب: ديكارت، رونيه: مقال في المنهج. ترجمة: محمود محمّد الخضيري. نشر الهيئة المصريّة العامّة للكتاب. ط3. القاهرة 1985. صص263- 264.
[51] – المرجع نفسه، ص259.
[52]– Beyssade, Jean-Marie: Descartes et le rationalisme. Acte du colloque de Tunis, 2-3 Décembre, Faculté de sciences Humaines et sociales de Tunisie 1997. P7.
[53]– Ibid. P8.
[54]– Ibid. P46.
[55]– Ibid. P14.
[56]– أنظر: ديكارت: البحث عن الحقيقة بالنّور الفطريّ. ص88.
[57]– Beyssade, Jean-Marie : Descartes et le rationalisme. P10.
[58]– Descartes et l’essence de la vérité. P123.
[59]– ديكارت: البحث عن الحقيقة بالنّور الفطريّ. ص87. ومقال عن المنهج. ص181.
[60]– المرجع نفسه، ص92.
[61]– المرجع نفسه، ص92.
[62]– أنظر الحوار المثير بينهما في نفس المرجع. صص93- 94.
[63]– المرجع نفسه، ص96.
[64]– ديكارت: مقال في المنهج. صص191- 192. قارن مع ترجمة عمر الشّارني: «فكانت الأولى أن لا أقبل أبدا شيئا على أنّه حقيقة دون أن أعرف (معرفة) جليّة أنّه كذلك، أي أن أبتعد تمام (الابتعاد) عن التّسرّع والظّنّ… (تمثّلت) الثّانية في تقسيم كلّ من الصّعوبات الّتي أفحصها إلى ما يمكن من الأجزاء… و(تمثّلت) الثّالثة في تسيير أفكاري حسب نظام، مبتدئا بأبسط المواضيع… وأيسرها على المعرفة للارتقاء شيئا فشيئا، وحسب تدرّج إلى معرفة اعتبرها تركيبا… وكانت الأخيرة أن أقوم في كلّ المواطن بتعدّدات على درجة من الاكتمال ومراجعات على درجة من الشّمول، بحيث أكون واثقا من أنّني لم أهمل شيئا». حديث الطّريقة. ترجمة: عمر الشّارني. المنظّمة العربيّة للتّرجمة. ط1. بيروت 2008. من ص49 إلى ص102. الملاحظ أنّ هاته التّرجمة تغرق النّصّ في الهوامش وتكثر من الحواشي، فكان مبرّرا لعدم اعتمادها في مقالنا. قابل الترجمتين مع النص الفرنسي:
Descartes : Discours de la méthode. TR: Denis Moreau. ED: Le livre de poche. Paris 2000. Pp 88-89-90.
[65]– ديكارت: مقال في المنهج. صص90-91. قارن ترجمة الشارني. صص103-104. والنّصّ الفرنسيّ. صص90-91.
[66]– أنظر القسم الثّالث من كتاب: مقال في المنهج. ص198. قارن ترجمة: عمر الشّارني. ص115. والنّصّ الفرنسيّ. ص96.
[67]– المرجع نفسه، ص199-200-201. قارن ترجمة: عمر الشارني. صص123-124-125-126. والنص الفرنسي. صص96-97-98-99-100-101-102.
[68]– المرجع نفسه، ص214. قارن: ترجمة: عمر شارني. «أنا أفكّر، إذا فأنا(كائن)». ص176. والنّصّ الفرنسيّ. Je pense . donc je suis» ». ص111.
[69]– باشلار، غاستون: الفكر العلميّ الجديد. ترجمة: عادل العوا. مراجعة: عبد الحليم الدّائم. المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع. ط2. بيروت 1983. صص142-143.
[70]– باشلار: الفكر العلميّ الجديد. ص132.
[71]– المرجع نفسه، ص148.
[72]– المرجع نفسه، ص165.
[73]– المرجع نفسه، ص169.
[74]– بلدي، نجيب: ديكارت. نشر دار المعارف. ط2. القاهرة. 1985. ص65.
[75]– Certitude évidence et vérité chez Descartes. P331.
[76]– بلدي، نجيب: ديكارت. ص103.
[77]– نقلا عن كتب: بلدي، نجيب: ديكارت. ص190.
[78]– راجع كتاب: روديس لويس، جنفياف: ديكارت والعقلانيّة. ترجمة: عبده الحلو. منشورات عويدات. ط4. بيروت 1988. ص ص40-41.
[79]– المرجع نفسه، ص43.
[80]– جنفياف: ديكارت والعقلانيّة. ص51.
[81]– المرجع نفسه، ص60.
[82] – يوسف الحاج، كمال: رنيه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة. دار مكتبة الحياة. ط1. 1992. صص16-17.
[83]– ديف روبنسون، وكريس جارات: أقدم لك… ديكارت. ترجمة: إمام عبد الفتّاح إمام. نشر المجلس الأعلى للثّقافة.ط1. القاهرة. 2001. ص102.
[84]– لوقا، نظمي: الله أساس المعرف عند ديكارت. المطبعة الفنّيّة الحديثة. ط1. القاهرة. 1985. ص68.
[85]– أنظر: زقزوق، محمود حمدي: المنهج الفلسفيّ بين الغزالي وديكارت. نشر دار المعارف. ط1. القاهرة. 1989. ص22.
[86]– المرجع نفسه، ص92.
[87]– فضل الله، مهدي: فلسفة ديكارت ومنهجه، دراسة تحليلية ونقديّة. دار الطّليعة للطّباعة والنّشر. ط3. بيروت 1996. صص130-131.
[88]– راجع في هذا الصّدد كتاب: الخشت، محمد عثمان: أقنعة ديكارت العقلانيّة تتساقط. دار قباء للطّباعة والنّشر والتّوزيع. ط1. القاهرة 1998. ص57. لم نجد في الأمر أيّ نقيصة أو ضعف للفلسفة الدّيكارتيّة أو تشوّه أصاب الفكر العقلانيّ لديكارت كما أكّد عليه الباحث الخشت. لأنّ جلّ المفكّرين في عصر النّهضة الّذين ثاروا على الكنيسة تعلّموا في مدارسها وما كان بإمكانهم التّفكير ضدّها لو لم يدرسوا فيها. وثانيا؛ نلاحظ أنّ توفيق ابن رشد بين الفلسفة (الحكمة) والشّريعة (الإسلام) لم يضعف فلسفته بل زادها قوّة. فكذا بالنّسبة إلى ديكارت. إنّ ابن رشد هو ديكارت الفلسفة الإسلاميّة كما أنّ ديكارت هو ابن رشد عصر النّهضة -لو صحّ التّوصيف.
[89]– لو كتب هذا العمل ونشر؛ سنكشف أفقا فكريّا وعقلانيّا آخر لديكارت، ولانهارت جملة من الفرضيّات والقراءات عن ديكارت. فندعو الباحثين إلى مزيد من التحوط في قراءاتهم لفلسفة ديكارت. فلا تؤخذ مأخذ الاستسهال.
[90]– Smith. N. Nemp: New studies in the Philosophy of Desecrates. ED: Macmillan. London 1966. P24.
[91] – Lévinas, Emmanuel humanisme de l’autre homme. Livre de Poche. Paris. P42.
[92] – Lévinas, Emmanuel: Totalité et infini, Essai sur l’extériorité. ED: Maritinus Nijhoff. Paris 1971. P31.
[93] – ibid. P57.
[94]– فوكو، مشيل: تأوّل الذّات، دروس ألقيت في الكوليج دوفرانس لسنة 1981-1982. ترجمة وتقديم: الزّواوي بغوره. دار الطّليعة للطّباعة والنّشر. ط1. بيروت 2011. يقول فوكو في درس 20 كانون الثاني/ جانفي 1982: «وعليه، فإنّه إذا كانت الشّيخوخة، وهي كذلك، الهدف المطلوب، فإنّه علينا أن نفهم أنّ الشّيخوخة لا يجب اعتبارها ببساطة وكأنّها نهاية الحياة، ولا يجب النّظر إليها بوصفها تلك المرحلة حيث تصبح الحياة ضعيفة. يجب اعتبار الشّيخوخة، بالعكس، هدفا وبأنّها هدف إيجابيّ في الحياة. يجب الذّهاب نحو الشّيخوخة، ولا يجب أن نستسلم لواجب مواجهتها يوما ما. إنّها، وبأشكالها الخاصّة وقيمتها الخاصّة، تستقطب مسيرة الحياة كلّها» ص108. الشّيخوخة ليست مرحلة عمريّة فقط ينهيها المرض والضعف، إنّها مرحلة الاكتفاء والرّضى والامتلاء، مرحلة التّأمّل في الذّات وحقيقة الموت. مرحلة الاهتمام بالذّات لذاتها.
[95]– على سبيل الذّكر لا الحصر. نجد أنّ إميل برهييه يؤكّد استمرار الأفلاطونيّة في عصر ديكارت وتأثّره غير المباشر بهذه النزعة، رغم أنّه لم يكلّف نفسه أمر إثبات صحّة فرضيّته. والأغرب أن ينسب لديكارت قول بأنّ الإله خلق الموجودات ولم يخلق الماهيّات. وكأنّ ديكارت ميّز بينهما مثل تمييزه بين الجسم والنّفس. راجع كتابه: تاريخ الفلسفة، القرن السّابع عشر. الجزء 4. دار الطّليعة للطّباعة والنّشر. ط1. بيروت. 1993. ص86.