ملخّص:
رأت جوليا كريسطيفا (1941ــــ ) أن البنية الأوربية انفلتت من هيمنة الرمز في القرون الوسطى، فغدا خطابها الأدبي في العصور الحديثة موصوفا بالسيميائي، لا يخضع للتاريخ وإنما هو خارج التاريخ أي في درجة الصفر وأن ذلك ما جعل هذا الخطاب محتملا. واتخذت من مؤلف فرنسي عاش في حدود القرن الخامس عشر هو أنطوان دولاسال(1344ـ 1460 أو 1462) مثالا على هذا الطرح، وحللت كتابه(جيهان دوسانتري) المنشور عام 1456 كما اهتمت كتاب (انطباعات جديدة عن أفريقيا) للشاعر السريالي رايمون روسيل(1877ــــــــ1933) ونفت عنه أن يكون عمله نسخا لكتابه( انطباعات عن أفريقيا)
الكلمات المفتاحية: الأصل، السيميائي، التناص، كريسطيفا، النص.
Abstract:
Julia Kristeva (1941-) believed that the European structure escaped from the dominance of the symbol in the Middle Ages, while its discourse in modern ages became semiotic, not subject to history, but outside history, which means in the zero degree. This was made european discourse possible. She took a French author who lived around the fifteenth century, Antoine de La Salle (1344-1460 or 1462) as an example of this proposition. She analyzed his book (Jihan Dusantry) published in 1456 and (New Impressions of Africa) by the surrealist poet Raymond Roussel (1877-1933). She refused that his work be copies of his book (Impressions of Africa).
Keywords: origin, semiotic, intertextuality, Kristeva, text.
1- مدخل:
أكّدت جوليا كريسطيفا أن الأدب الأوربي أدب سيميائي يقر بالدليل وليس بالرمز. وغايتها أن تنفي عن الكتاب أنه تقليد لأصل، بل هو عمل أصيل وضع السرد الفرنسي على أعتاب مرحلة جديدة كأول كتاب نثري قابل لان يحمل اسم رواية، وأنّه عبارة عن تجميع لحكايات ورسائل علميّة أو مراسلات سفر في شكل خطاب تاريخي أو فسيفساء لا متجانسة من النصوص، فيها يسرد دولاسال أحداث حياة طويلة أمضاها في الكتابة والقتال وجباية الضرائب، وكان غرضه تربويا أخلاقيا[1].
كي تثبت كريسطيفا صحة نفيها للتقليد والنسخ، اجترحت نظريتها في التناص transtextuallity أو التعالي النصي، وهدفها إثبات الأصالة لكتاب ينتمي إلى ثقافة غالبة/ فرنسية، ونفي تبعيته وتقليده لكتاب سابق ينتمي إلى ثقافة مغلوبة/ عربية. وترتكز نظريتها على فكرة أن الرمز منغلق ونهائي وأفلاطوني، بينما الدليل مفتوح ولا نهائي كفضاء كتابي متسع وله بؤرة، فيها تجتمع أشتات النصوص. ووصفت كريسطيفا هذه البؤرة بالمسرح لأنها متنقلة لا استقرار لحركتها، فلا تُعرف بداية النص من نهائيته، وكلّ نص يُحتمل فيه أن يكون له واقع ثابت أو يوهم به بما يساهم هو دائما فيه ويكون صفة له أيضا.
و تجعل هذه الحركية كلّ نصّ متغيرا في طبيعة نسقه السيميائي ضمن سيرورة اجتماعية ما، فينظم نفسه بنفسه ومن ثم (لا يمكن له التشكل في اللحظة الأولى ولا في اللحظة الثانية من لحظات تمفصله ولا في كليته)[2] وبهذا يصبح النص عبارة عن إنتاجية مفتوحة (إنه ترحال للنصوص وتداخل نصي ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى)[3].
من المهمّ التركيز على جوهر نظرية كريسطيفا وهو أن التناص اشتغال نصي وعبر لساني معه تزول أهمية الأجناس الأدبية بكلّ ما يتصل بها من مقايسات حديّة. فالرواية نص سردي ليست له حدود أو أطر ثابتة، بل (ممارسة سيميائية يمكن أن نقرأ فيها مسارات مركبة لعدة ملفوظات)[4] ومثل الرواية الشعر الغنائي والقصة والرحلة وغيرها من الأجناس والأنواع التي تراها كريسطيفا قابلة للتداخل والتعالق والتعدد والانفتاح ومن ثم لا حدية فيها بل لا قيمة لاجناسيتها.
وهذا أمر ليس خاصا بكريسطيفا، فعموم النقاد ما بعد البنيويين ميالون بشكل غير مباشر إلى إلغاء التجنيس من خلال قولهم بالانفتاح النصي. فتودوروف مثلا أكد أن النص الأدبي عمل مفتوح لا ينتمي ضرورة إلى جنس (لانّ كلّ حقبة يهيمن عليها نسق من الأجناس لا يغطي قسرا كل الأعمال، فان خرقا جزئيا للجنس يكاد يكون مطلوبا وإلا فان العمل سيفقد الحد الأدنى من أصالته الضرورية. ان خرق قواعد الجنس لا يمس النسق الأدبي في العمق)[5]. ولكن كريسطيفا تتفرد في أن قصدها من التركيز على النص والتناص ليس خلخلة مفهوم الجنس، إنما قبل ذلك إلغاء فكرة أن للنص أصلا سابقا، ذلك أن السبق يعني وجود لاحق لما هو أصل وهذا ما تراه غير ممكن، (فالنص الأدبي خطاب يخترق حاليا وجه العلم والايديولوجيا والسياسة ويتنطع لمواجهتها وفتحها وإعادة صهرها ومن حيث هو خطاب متعدد ومتعدد اللسان أحيانا ومتعدد الأصوات غالبا)[6].
ولا مراء في أن مراد كريسطيفا من نفي الأصل وتأكيد لا تاريخية النص، هو مراد أيديولوجي، يخدم وجهة النظر الثقافية التي فيها يُنتفى الفارق التاريخي الكبير بين الأدب الأوربي الذي عمره بضعة مئات من السنين وبين آداب الحضارات العريقة التي يمتد عمرها إلى آلاف السنين، فضلا عن تجسيد النظرة الفلسفية التي ترى أن لا وجود لرمز لاهوتي عمودي أفلاطوني قروسطي.
من أجل تحقيق الهدف أعلاه، اجترحت كريسطيفا عدة مفاهيم (مفاهيم نافية للأصل) تدعم فكرة كون النص خطابا وفي الآن نفسه يخترق خطابا آخر فيكون متعددا، وهذه المفاهيم هي:
2- الايديولوجيم:
الذي هو وظيفة نصية داخلية يؤديها النص وبها تعاد كتابته، فنص أنطوان دولاسال هو حكاية كتابته نفسها فهو يتكلم لكنه أيضا يكلم نفسه وبهذا تعيد الرواية الأوربية كتابة نفسها أو تصنع نفسها كإنتاجية كتابية تحاذي السرد دون أن تنغلق عليه إذ لا قابلية فيها لاختزال المرجع في الدال والمدلول[7]. فتكون قراءته ممكنة على مختلف المستويات التي (تمتد على طول مساره مانحة إياه معطياته التاريخية والاجتماعية فالأمر لا يتعلق هنا بخطوة منهجية تأويلية لاحقة على التحليل..)[8].
ولأنّ النص حسب كريسطيفا لا يُسمي ولا يحدد خارجا معينا، متحديا الفرضيات الأفلاطونية المتعلقة بجوهر الأشياء وصورها، لذا يصبح خاضعا لتوجه مزدوج[9] ومن ثم لا نص سبقه يمكن الحديث عنه هو على الأرجح مخطوط عربي لمؤلف مجهول، وإنما هي حركية نصوص اجتمعت داخل كتاب (جيهان دوسانتري) فكان هو (الرواية الوحيدة من بين كتابات دولاسال..إذا نحن اعتبرنا رواية كل ما ينتمي إلى الايديولوجيم الملتبس للدليل)[10].
لا علاقة “لإيديولوجيم” النص بالجنس الملحمي، أولا لأنّ “الايديولوجيم” ملفوظ حركي وخطاب ليس له راو أحادي ومرجع واحد، وثانيا أنّ” الايديولوجيم” موضوع سيميائي كوني لا سيطرة فيه للرمز الذي هو موضوع متعال وتاريخي عرفه الأدب القروسطي.
وإذا تؤكد كريسطيفا سيميائية النص، فلأجل أن تجعل الوحدات اللسانية وبخاصة الدلالية هي الواسطة في إدراك أنماط الملفوظات كوظائف، ومن ثم لا يعود لوضع مقطع ما بين قوسين دلالة على أنّه مستخرج من خطاطة ومنقول إلى أخرى، بل هو تنظيم على مستوى كلي متجاوز للمقاطع. وبذلك لا تنفي كريسطيفا السبق حسب، بل تنفي أيضا اجناسية الرواية وتفند نظاميتها، فهي برأيها كلية ملفوظات تداخلت فيها الكتابة بالكلام داخل فضاء نصي Topology وأن بالانزياحات وتسلسلاتها تصبح البرهنة على هذا الفضاء النصي كنظام غير صحيحة، لأنه لم يعد كلاما صوتيا كما كان في القرون الوسطى. أما كيف حصل هذا التحول من النظام الصوتي إلى النظام النصي؟ فتجيب كرستيفيا بأن ذلك حصل بالانتقال (من الترميز إلى التدليل) كممارسة سيميائية كونية، وأن القرون: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر هي مرحلة انتقالية للثقافة الأوربية عوّض فيها الدليل فكرة الرمز[11]. وإذا كانت الملاحم والحكايات الشعبية والأناشيد منتمية إلى الرمز، فان الأدب الأوربي ومنه الرواية عارض الرمز وأضعف قوته من دون ان يستطيع إبادته نهائيا.
ولا يخفى ما في هذا التعليل من مصادرة لحقيقة أن السرد نظام مؤسس له تقاليده التي تشكلت عبر مراحل تاريخية بعيدة، وأنه استمر راسخا في العصور الوسطى وعصر النهضة. وسيتضح التعارض بين طرح كريسطيفا لفكرة الانتقال مع تمثيلها السردي عليها حين تحلل أول قصة في كتاب (جيهان دوسانتري) وعنوانها “سيدة بنات العم الجميلات دوسانتري” حددت لها نظاما، له بداية ونهاية وان النهاية أعلنت قبل ان تبدأ الحكاية أي ان الزمن وقع بين ما قبل الماضي إلى الحاضر[12]، وأن الأحداث متسلسلة فيها مفاجآت بالخداع والخيانة وحيل الغرباء والمخنثين، وهو ما عرفته قصص الشطار والرعاة، ولا يخفى ما لمفردة السيدة عند أدباء عصر النهضة من معنى غزلي استعمله وأشاعه شعراء التربادور في أواخر العصور الوسطى. تناقض كريسطيفا بهذا التحليل نفسها، فالنظام السردي حاصل وله عناصر وتقاليد محددة وليس السرد مجرد انزياحات حسب. مما يعني أنّ السرد الأوربي في عصر النهضة امتداد لنظام ليس فيه قطع أو انتقال بل هو إتباع ومسايرة لتقاليد كانت سائدة؛ فأين إذن الانفصال في (جيهان دوسانتري) الذي أرادت كريسطيفا إثباته ؟!
3- الكرنفال:
لان الايديولوجيم لوحده لا يحقق مسعى كريسطيفا في إثبات الوضع المزدوج للرواية كخطاب سيميائي متداخل نصيا، ولأنها لم تستطع ان تنكر دور شعراء التربادور في نقل تقاليد الشعر والسرد إلى أوربا، استعانت بمفهوم( الكرنفال) وأخذته من ميخائيل باختين وحددته بأنه( الجسر الذي يربط بين محفلين في انفصامهما ذاك ويجد كل طرف منهما فيه نفسه المؤلف( الممثل + المتفرج) .. وبما ان نمط الملفوظ الروائي غير قابل للاختزال إلى أي من المقدمات التي يتكون منها الاستدلال، فانه يغدو البؤرة التي يتقاطع داخلها الصوتي والمكتوب. انه الفضاء المقعر غير القابل للتصوير الأدبي الذي يعلن عن نفسه من خلال تعابير من قبيل (مثل /يبدو لي / يقول عن هذا.. ان أحداث الرواية ستُشكل في هذا المجال الفارغ وحول هذا المسار الممتنع الذي يتصل بنمطين من الملفوظات يمتلكان ذاتين مختلفتين وغير قابلتين للاختزال)[13] فكيف تكون الملفوظات غير قابلة للاختزال وفي الآن نفسه تكون ثابتة بها يعلن النص عن نفسه رواية ؟!
وتجمع كريسطيفا أمرين متناقضين هما الازدواج والأحادية داخل مفهوم الكرنفال؛ فأما الازدواج فخدعة/ قناع وأما الأحادية فصورة رئيسة في السرد حيث (تمتص الرواية ازدواجية حوارية المشهد الكرنفالي إلا إنها تخضعه للواحدية أي لأحادية الصوت)[14]. ونرى في هذا الجمع بين أمر لا نهائي يمثله عدم الاختزال وأمر نهائي يمثله التقاطع بين الصوت والكتابة، مغالطة نظرية إذ كيف يكون السرد بلا نظام والأطراف أو العناصر تتضاد وتتقاطع وأحيانا تتضامن وتتصالح؟ فهذا مبدأ وظيفي لا هوتي نجده في الملحمة مثلما نجده في القصة حيث يكون السرد متأرجحا ما بين موت/ حياة أو فضيلة/ رذيلة أو حب/ كراهية. وهذه المسالة متجذرة في العالم القديم وليست ثقافة غابرة، عليها تتعالى “الثقافة الأوربية” كما تحاول كريسطيفا تأكيده وكأن للعالم بؤرة مركزية هي اما شرقية أو غربية.
أما وقوفها عند السخرية كشكل كرنفالي فيه أبطال جبناء، فلأجل أن تزعم أنها شاعت في القرن السابع عشر والثامن عشر من دون أن تتطرق إلى ما للسخرية من تاريخ بعيد يضرب في القدم وفيه عرفت أساليبها وترسخت كشكل لم تتوفر له الإمكانيات لأن يصير نوعا، فبقي تقانة من تقانات تحبيك المشهد السردي.
معلوم أنّ الكرنفال ممارسة عرفتها الشعوب القديمة كطقس ديني فيه الرمز هو الحاكم، أي أنّ الايديولوجيم في التصور البدائي هو عبارة عن قوى غيبية تتحكم بالعالم. وبالطبع لا تنظر كريسطيفا إلى الكرنفال من هذه الزاوية الميتافيزيقية لأنها ترفض أي أصل هو رمز كطريق يوصلها إلى فكرتها المركزية وهي أن السرد بلا أصول أو تقاليد.
ولا يخفى ما يعنيه تكرار كريسطيفا عبارة (ثقافتنا) عشرات مرات في كتابها موضع الرصد (علم النص) وكانت انعكاساته واضحة على تعليلاتها التي بها تنتصر للثقافة الأوربية عامة والفرنسية خاصة وكأنّ هذه الثقافة نشأت وهي تؤسس نظامها دون أية قواعد أو أصول سابقة اغتنى بها هذا النظام فكان لها الفضل في أن يشيد عليها ثقافته.
4- الدليل :
ممارسة سيميائية مزدوجة فيها تتماثل الأضداد، وأن الأدب الأوربي ـ كما تذهب كريسطيفا ـ اختصّ بالدليل، وعرفه الأدب الغزلي جنوب فرنسا وفيه يكون التماثل بين تقديس السيدة في الأدب الجنوبي والشعر الصيني القديم، وأضافت:( أنّ في حضارتنا التي كانت في حالة انتقال من الرمز إلى الدليل تحوّل الاعتداد بالانفصال الاتصالي إلى مديح لطرف واحد من أطراف التعارض الآخر/ المرأة الذي فيه تنعكس وتنصهر فيما بعد ذات المؤلف/ الرجل. هكذا يتم تقويض النظام الإيقاعي للنصوص الشرقية.. مركز مزيف ومخادع وأعمى يمنح قيمته للذات التي تمتلك الآخر المركز حركة سلبية عبر تعالق الأضداد)[15]. وتنسى أنّ الثقافة العربية كانت هي المتاخمة والسائدة في الجنوب الأوربي وأنّ الشعر العربي فرض تقاليده على شعراء اسبانيا عبر القرون الثمانية التي حكم فيها العرب الأندلس. ولو لم يكن الشعر الغزلي يمارس على وفق تقاليد القصيدة العربية لما تعرض قائلوه إلى اضطهاد محاكم التفتيش.
ما تريده كريسطيفا من وراء تأكيد أنّ الدليل اشتغال سيميائي عرفه الأدب الأوربي هو انّه ليس امتدادا للأدب الشرقي الذي فيه الرمز اشتغال ميتافيزيقي. وفسرت في الهامش على عجالة سبب تحديدها الشعر الصيني وليس العربي، وهو تفسير يعوزه كثير من الدقة، قائلة:( إنّ الشعر العربي وإن لم يؤثر بشكل آلي في شعر جنوب فرنسا فإنّه قد ساهم مع الخطاب الجنوبي في تكون وتطور الغنائية الغزلية.. ان العالم العربي .. كان قد دخل من خلال طرفه الشرقي في علاقة مع الشرق والصين ففي سنة 751 تلاقت جيوش خليفة بغداد مع جيوش إمبراطورية تان tan على ضفة نهر تالاس .. ان اللقاء والتداخل شيء حاصل بين الثقافتين العربية والصينية)[16] بمعنى أن لا فضل للثقافة العربية في نهضة أوربا وأن الثقافة العربية تأثرت فقط بالصينية خلال الفتوحات الإسلامية وتنسى أن للعرب قبل الإسلام إرثا ثقافيا من أمم وحضارات قديمة كالبابلية والفرعونية والإغريقية وغيرها.
وأمر تجاهل هذه الحقائق التاريخية طبيعي يشترك فيه غالبية النقاد والمفكرين الغربيين الذين يحملون فكرا استشراقيا فيه عقدة التفوق الحضاري موجهة صوب الآداب القديمة عامة والأدب العربي خاصة، فصوروا البلاغة العربية والفلسفة الإسلامية متأثرة وليست مؤثرة وأن علماء المسلمين وفلاسفتهم وسيط لنقل الفكر والأدب القديم الإغريقي والروماني، وتضيف كريسطيفا هنا ثالثا هو الأدب الصيني.
وأهم دليل على إتباع دولاسال تقاليد السرد القديم هو سيميائية المرأة فهي (خائنة وجاحدة ودنيئة بوجود شاهد هو راو يتكلم إلى جمهور) وهذه نفسها نجدها في( حكايات ألف ليلة وليلة) كتقاليد راسخة شاعت في العصور الوسطى.
وترى كريسطيفا أنّ ما جعل الدليل خاصا بالأدب الأوربي هو انتهاء زمن الشفوية كثقافة صوتية وخطاب تواصل إخباري مباشر للجمهور بعد أن أصابه الالتباس في القرن الخامس عشر. وبتناغم الانزياحات إلى ما لا نهاية فرض “الانفصال” تحول السرد من كونه ثقافة شفوية إلى ثقافة تبادل[17]. ولكن كريسطيفا لم تثبت صحة فرضيتها في أن الشفوية انتهت ولم تترك أثرا ثقافيا في الأدب، وكيف تثبت وهي تريد بنفي أثر الشفوية تأكيد مقصدها في نفي أي سابق أو أصل.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الشفوية ـ زمن دولاسال ـ بقيت متلبسة بالكتابة أو متخللة فيها سواء في تكرار الانزياح أو في ازدواج الصوت، وهو أمر لم تستطع كريسطيفا تجنبه فقالت:( إنّ كل كتاب في حضارتنا نسخ للكلام الشفوي فان الشاهد والسرقة الأدبية لهما أيضا نفس الشفوية على الرغم من ان أصلهما الخارجي (الشفوي) يحيل على بعض الكتب السابقة على كتاب أنطوان دولاسال لكن هذا لا يمنع كون الإحالة على نص مكتوب تشوش على القوانين التي تفرضها الكتابة الشفوية على النص كقانونين هما التفصيل والتكرار اللذان يفضيان إلى زمنية معينة)[18] وإذا كانت كريسطيفا تحط من قيمة الشفوي/ الرمزي مقابل إعلاء قيمة الكتابي/ السيميائي، فإنها بذلك تحط من قيمة التاريخ الأدبي حين تفترض أن ليس له قوانين، أساسها شفاهي. فالمهم بالنسبة إلى كريسطيفا هو أنّ إحالات دولاسال لم تكن على كتب لها انساق كتابية وأصول شفاهية.
لا يخفى أن التكرار والفصل سمتان، أسست لهما الحكاية الخرافية ووطدتها كتابة الملاحم ومنذ ذلك التاريخ وهما تقليدان شفويان يفرضان نفسيهما على السرد الشرقي والعربي سواء الرسمي منه أو الشعبي. وإذ لا نستغرب من إعلاء كريسطيفا شأن الكتابة لان برأيها الثقافة الأوربية ثقافة كتابية فوقية، لكننا نسألها: كيف تكون الثقافة الشرقية ثقافة شفاهية وهي التي أنتجت آلاف المخطوطات التي من كثرتها ابتدع العرب نظام تصنيف وفهرسة وكان ابن النديم ت 384 هـ أول المصنفين للكتب في العالم بكتابه (الفهرست)؟!
5- المحتمل الدلالي:
مفهوم يصنعه التداخل والتناص فـ( كل خطاب يكون في علاقة تماثل وتطابق أو انعكاس مع خطاب آخر ..المحتمل هو إذن الجمع بين خطابين مختلفين ينعكس احدهما على الآخر الذي يكون له بمثابة المرآة ويتطابق معه خارج كل اختلاف)[19] وبهذا المفهوم تفند كريسطيفا وجود أي نهائية أو قطعية أو حدية تماما كتودوروف الذي قال بالخرق والجزئية وان الجنس عبارة عن نسق، والأنساق تتغير وليس من استقرار لها، وأطلق على ذلك اسم( الجنس المزجي والمختلط) كنتيجة مواجهة نسقين من الأجناس. ومقصده يتلاقى مع مقصد كريسطيفا وهو أنّ لا سابق له فضل على اللاحق وان أي تطور جاء من الماضي هو تراجع، ومن ثم يكون الخليط معيارا أدبيا كنسق جديد لا من حيث كونه خالدا ومعطى بصفة نهائية، وإنما كمتغير غير نهائي (كون مجموع الممكنات الأدبية ذاتها متحولة فان الخرق النموذجي يكون ممكنا بالقدر نفسه.. سيكون ممكنا خلق مقولة جديدة لا كوميدية ولا تراجيدية .. بعبارة أخرى ان تخرق قاعدة جنسا ما يعني أن تتبنى طريقا موجودة بالقوة قبلا في النسق التزامني ..أنّ رواية مثل أوليس لا تخرق قواعد الرواية التي كانت موجودة من قبل فحسب ولكنها تكشف إمكانيات جديدة للكتابة الروائية)[20] وهذا صحيح لكن الخرق لا يلغي الأصل، بل بالعكس هو يؤكد وجوده، أي لا يكون هناك خرق من دون وجود أصل يتم خرقه. وما قام به جويس لم يكن من فراغ، بل بناء على وجود قواعد مألوفة في الكتابة الروائية، قام هو بخرقها.
ومن تبعات المحتمل الدلالي أنّ الأدب نفسه يصبح محتملا كقانون، بموجبه يتشابه أو يتحايث مجتمع معين في لحظة معينة مع مجتمع آخر في العناصر الدلالية الأساسية للطبيعة والحياة والتطور والمحايثة بما قبل وما بعد الإنتاج وعبر اللساني (فليس من ماض ولا حاضر إنما هناك كونية يقوم الفن نفسه خارج الزمن كفعالية متلائمة مع نظام فيكون الخطاب محتملا)[21] وعلى وفق هذا التصور الامتدادي لا يكون هناك خطاب أدبي استهلاكي بل هو إنتاجي وتتموضع إنتاجيته في الأدب المحتمل. ومثال كريسطيفا نصوص لوتريامون وكتاب رايمون روسيل (انطباعات جديدة عن إفريقيا)[22] وفيها ترى أنّ الأحداث والأثر والفضلة ككتابة وكلام هي متاهة عبر لسانية أي خطاب منطوق قابل لان يكون مشتقا باستمرار. ولم تشر إلى كتاب في أدب الرحلات كان مترجما زمن روسيل هو (وصف أفريقيا) لمؤلف عربي اسمه جان ليون الأفريقي أو ابن الوزان الزياتي الذي عاش في أواسط القرن السادس عشر وترجمت رحلته إلى اللغة الايطالية ونشره راموزيو بعنوان وصف أفريقيا سنة 1550م ثم ترجم إلى الألمانية والانجليزية وكرس له المستشرق الفرنسي ماسينيون دراسة مستفيضة، ولا نملك الدليل على نفي تأثر روسيل في انطباعاته عن أفريقيا بكتاب ليون الافريقي.
وهذه القابلية الاشتقاقية والاستمرارية الإنتاجية هي التي تعطي النص/الخطاب دلالته اللانهائية.[23] فما سبب هذا التحول الفجائي من النص إلى الخطاب؟ ثم أليس في اعتراف روسيل نفسه في (كيف كتبت بعض كتبي) أن كتابه(انطباعات جديدة عن أفريقيا ) هو نسخ لـ( انطباعات عن أفريقيا) وبما يؤكد أن الخطاب مغلق واحتماليته مقطوعة ؟
تبرر كريسطيفا مسالة النسخ بالمحتمل الدلالي فيكون الاستمرار حاصلا بما سمته “الامتصاص” ففعل الكتابة يمتص (احتمالية) اللغة وهذه برأيها هي مأساة روسيل ومأساة كل من يشتغل بالأدب.
وترى أن بلاغة العمل الأدبي تجعله ذا ( بنية مغلقة) لكن بإضفاء المحتمل على الإنتاج يغدو الخطاب مفتوحا بنيويا[24] أي يبنى على شكل أدب محتمل. وليس المحتمل الدلالي سوى الاستعارة التي فسرها البلاغيون العرب بالمعنى، ومعنى المعنى حيث المدلول الأول يوصل إلى مدلول ثان فيزول الإبهام ويصبح الخطاب مفهوما ليس فيه خرق أو شذوذ. فالتعدد الدلالي هو نتاج انزياح الوحدات السردية من اللاممكن إلى الممكن. وبالتأويل يصبح الخطاب صالحا لكل زمان محتملا إلى ما لا نهاية، وهو ما استعمله روسيل في كتاب (انطباعات جديدة عن أفريقيا) فكانت الأحداث غير طبيعية كفاقد ذاكرة يستعيد ذاكرته أو فتاة عمياء تستعيد بصرها.
لا تذكر كريسطيفا الاستعارة لكنها تشير إليها بشكل غير مباشر من خلال قولها بالانعكاس المراوي الذي يحيل الواحد على الآخر في الحضور اللامتجاوز لكلام المتكلم وهو يستمع لنفسه في المتكلم معه فيكون المختلف مؤتلفا. ولان الانزياح أمر عرفه أدب العصور الوسطى، لذا تجد صعوبة في الاعتراف بقدمه، ( من الصعب ألا نقارب بين هذا الحضور الملح للتكرار في كتب روسيل والهوس التكراري في الأدب الأوربي القروسطي والنهضوي: المذكرات والروايات الأولى المكتوبة نثرا، حيوات الأولياء)[25] مع أنّ لا صعوبة في الأمر، فالأدب منذ العصور القديمة يخضع للانزياح مستعيرا المجرد للحسي وبالعكس.
ورغم أنّ كريسطيفا تحدد المحتمل الدلالي بأنه خطاب سيميائي لكن الخطاب الرمزي يشتمل المحتمل الدلالي أيضا لأنه قابل للامتصاص والاحتمال ما عدا النصوص المقدسة السماوية. ومن ثم يمكن أن نملأ فراغات كتاب (انطباعات جديدة عن أفريقيا) ونردم فجواته بقراءته رمزيا أو بقراءته سيميائيا. وكيفما تكن عملية ردم الفجوات، تكن عملية إعادة بناء الكتاب. فالنص قبل القراءة هو أصل (انطباعات عن إفريقيا) ولكنه بعد القراءة يصبح صورة محتملة (انطباعات جديدة عن أفريقيا) ولا تقول مستنسخة. ومن غير المنطقي طبعا أن ننفي الأصل ونثبت المستنسخ/ المحتمل. ولكن هذا ما تعمدت كريسطيفا تأكيده فوقعت في التناقض، فهي من جانب ترى أن (صورة النص حاضرة بالضرورة في هذه الكتابة التي تستعرض نفسها فهي تركز على خصائص العمل النصي) ومن جانب آخر تنفي ان يكون للنص أصل، فيكون (النص قبل كل شيء غريباً ومخالفاً للسان الخاص وللمبدأ الطبيعي وغير قابل للقراءة ومتميزا ولا علاقة له بالمحتمل. وإنما الأصل مفقود سواء أكان النص هيروغليفيا أم على صحيفة أو بونيكليا (كتابة غير مقروءة) وسواء كان صينيا أو موسيقيا “هاندل” فانه يكون دائما مختلفا عن كلامنا الصوتي لا تصل إليه مسامعنا الأوربية ويتم عبر مقاطع صوتية مهمة انه عبارة عن أرقام أكثر مما هو كتابة والنصوص الفرنسية المحتملة أي غير الغربية هي رسائل نستهدف فهمها مباشرا أو صفقة كرسائل الأسرى الذين يطالبون فيها أبناءهم باقتدائهم. خارج الصفقة تقدم الكتابة الفرنسية نفسها كرقم .. وكشيء يصلح لفك رموز كتابة غير مقروءة. النص حركة إعادة تنظيم انه مرور محموم ينتج عبر الهدم)[26]
6- الإنتاجية عبر النصية:
وتتحقق نتيجة هجرة النصوص فتعاد كتابتها، أمّا النص الأدبي فليست فيه إنتاجية لأنّه عبارة عن عملية هدم وبناء ومحو، مكتف بذاته إلا إذا ارتبط بشكل محايث مع نصوص أخرى. وتشرح كريسطيفا سيناريو هذه الإنتاجية كالآتي:( بدا القلم بالجري صعودا وهبوطا على الورقة البيضاء متبعا نفس المقاطع العمودية التي خطتها الريشة سابقا.. في هذه المرة لا يؤخر الشغل .. القلم يتقدم سريعا. في الخلفية يظهر نفس إلا ان أهميته أصبحت الآن ثانوية لأنه ألغي من طرف شخصيات الواجهة)[27].
فمسار النص كتابي عبر لساني كبنية لغوية ليست لها إنتاجية نصية ولا هوية ولا قاعدة للترابط الجملي وللعلاقات البنيوية لكن ما يحقق لها إنتاجية عبر نصية هو(التسلسل الإرجاعي الذي به تتفجر بنية الحكاية وكل بنية ممكنة عبر استبدالها بترابطات دالة ولو كانت غير بنيوية .. تهشم سطح البنية حيث كل مقطع قابل للاشتقاق من الكل أو من مقطع آخر.. فضاء وحجم وحركة لا متناهية)[28].
وإذا كانت الإنتاجية عبر النصية سمة الخطاب المحتمل غير النهائي، فإنّ مشكلة الإنتاجية النصية كما تراها كريسطيفا هي في الخطاب المتناهي والأحادي لأنه يقوم باحتواء الإنتاجية النصية ولا يمكن وضع سيرورة نسقية وبنائية من أجل تحديد هل تكون صيغة معينة مقطعا ما مأخوذا من محتمل أم لا ؟[29] أي هل تكون ممتلكة الخاصية التركيبية للإمكانية الاشتقاقية؟ نافية بذلك أي أصل نهائي يمكن لنا ان نبحث عنه، بل ان أي بحث عن الأصل هو من قبيل العبث واللاجدوى.
ولكن إذا كان الخطاب بلا إنتاجية نصية فكيف تكون له أجناسية ما، بها يتميز واليها ينتسب ووفقها يصنف؟ وكيف بعد ذلك يكون اللاتحديد هو المؤشر على وجود إنتاجية عبر النصية، والنص نفسه بلا بنية أو طبقات أو نسق أحادي الشكل ؟!
مثلت كريسطيفا عموما على الإنتاجية عبر اللسانية بـ( أغاني مالدورو) للشاعر لوتريامون(1846ـ1870 ) وأنها تنفلت من قبضة اللسان والخطاب والملفوظ والمعنى ولا تخضع إلا للقاعدة النحوية والمنطقية والتركيبية. ووجدت في كتاب( locus solus ) لروسيل مرحلة جديدة من الإنتاجية عبر اللسانية. أي إذا كانت أشعار لوتريامون تجاوزت الرمز الذي كان أدب العصور الوسطى يخضع له، فان أشعار روسيل تجاوزت الدليل. وهو أمر نراه عاما في الخطاب الأدبي الشعري والسردي منذ ان عرف الإنسان الأدب وبه عبّر عن مواجده ورغباته.
7- السلبية:
هي الإنتاجية النصية التي بها تدمر نفسها ومن خلالها تتحقق الإنتاجية عبر اللسانية فلا تكون محددة بل قابلة للبرهنة أو التحقق فـ( حقيقة الممارسة الكتابية هي من طبيعة مغايرة أنها لا محددة وغير قابلة للبرهنة وتتمثل في انجاز الحركة المنتجة أي انجاز مطاف كتابي يصنع ويدمر نفسه في سيرورة تعالق أطراف متعارضة أو متناقضة .. كل نظرية وصفية للمنتوج الأدبي متشعبة به)[30].
يتسم الخطاب بهذا الشكل السلبي للاشتغال عبر اللساني بسمة كونية جدلية كـ(إنتاجية تنتمي إلى منطق جدلي، سيرورة لا تطابق ذاتها إلا من حيث هي سلبية مطلقة جدلية عملية احتمالية تحاكي إنتاجها)[31] وتفترض كريسطيفا أنّ سلبية ثقافة ( رمزية) هي التي تجعل الثقافة( السيميائية) تبشر بمعاداتها اللاهوت لأنّها تدمر الخصائص الأساسية للدليل( الثنائية ، البنية، البناء ، البلاغة) وتستبدلها بمقاطع لسانية هي دوال مدلولات غير قابلة للاشتقاق والمطابقة أي لا متناهية ما دامت مشتقة من شيء معطى سابق على الإنتاجية نفسها.
وتلزم ثقافة الدليل (الانطلاق من السيميائيات لكن ليس منها وحدها إذا نحن أردنا تلافي النمنمات التزينية في القرون الوسطى وإنما عبرها باعتبارها جهازا لا باعتبارها نسقا قارا. على كل حال فانه لا مجال للمحتمل داخل عالم الإنتاجية عبر اللسانية انه يظل خارجها كاحتكار جهوي لمجتمع الإعلام والاستهلاك)[32] ولسنا بحاجة إلى تكرار ما قلناه سابقا، فنظرة كريسطيفا الانتقاصية لأدب العصور الوسطى واضحة، علما أنها بربطها مفهوم السلبية بالشعر خالفت نهجها الذي سارت عليه في المفاهيم سالفة الذكر.
وكي تؤكد أن ّمفهوم السلبية اشتغال سيميائي ليس فيه أصل أو سبق، فإنها استرجعت مقولات ياكوبسون وفرويد حول السلبية ووجدت في ما قاله هيجل عن الخلاف والاختلاف وأنهما عصب النشاط الرمزي، نمطا بنائيا أرجعته إلى الإغريق بنظرية (النفي) ومثلت عليه بأبولو وديونيزوس حيث الشيء اما يكون سالبا أو موجبا أو صحا أو خطا و (لن يكون أبدا الاثنين معا) وهذه هي منطقية اللوجوس التي تنتج عنها كتابة تصحيفية تنمحي فيها الذات بالتفاعل النصي. وبهذا يكون النص الأدبي مجرد فضاء وما من أصل له أو مرجع فهو مزدوج القيمة بطرفين متعارضين لأي كلام واستشهدت بمقولة أفلاطون:( أننا لا نتكلم أبدا على الأقل إلا حين نبدأ في تلفظ بصدد اللاموجود)[33] مدللة بذلك على سلبية النص وضرورة وجود تداخل / نصي يكسبه ايجابية وتكون له إنتاجية. ولكن ماذا عن الإحالة ومراجعها؟
بحسب كريسطيفا فإنّ الإحالات والمرجعيات مدمجة في داخل النص لا كأطراف بل كمتواليات ووحدات دلالية متباينة تماما كالنعوت الحية التي تطلق على الأشياء غير الحية أو مثل تسمية المزهريات بالتوابيت[34]. ونتفق معها في أنّ كل شيء ممكن في اللغة الشعرية بوصفها لغة استعارية لا نهائية، لكن النص ليس لغة حسب بل هو بنية كتابية مؤلفة من وحدات/طبقات ولها مرجع ومحددة بإطار نوعي أو اجناسي، فكيف يمكن تناسي هذه الاختزالية والنظر إلى النص كسيرورة بلا طبقات ولا بؤرة/ بنية مركزية ؟!
إن الخطاب بالنسبة إلى كريسطيفا نص غريب في فضاء اللغة الشعرية وان بالتداخل النصي يصبح المدلول الشعري محيلا إلى مدلولات تخلق فضاء نصيا متعددا (تكون عناصره قابلة للتطبيق في النص الشعري الملموس.. إذا ما اخذ القول التداخل النصي فانه سيكون مجموعة فرعية من مجموعة اكبر من فضاء النصوص المطبقة في محيطنا الثقافي الغربي)[35] ومثالها شعر لوتريامون كمثال على التداخل النصي الذي يولد تصحيفا وميزت فيه ثلاثة أنماط من سلبية النفي: 1/ نفي كلي 2/ نفي متواز 3/ نفي جزئي.
8- التصحيفية:
اشتغال امتصاصي في النص الأدبي يجعل المدلول بلا سنن محددة بل هو مجال لتقاطع عدة شفرات ككتابة تصحيفية مشكلة من( تقاطع وتفسخ عدة خطابات دخيلة في اللغة الشعرية. وقد استطعنا من مصطلح التصحيف الذي استعمله سوسير بناء خاصية جوهرية لاشتغال اللغة الشعرية عيناها باسم التصحيفية أي امتصاص نصوص( معاني ) متعددة داخل الرسالة الشعرية التي تقدم نفسها من جهة أخرى باعتبارها موجهة من طرف معنى معين)[36] وبالتصحيفية تصبح الدلالة الشعرية ذات طابع متموج، وهو ما وجدته كريسطيفا عند ادجار الن بو وبودلير ومالارميه، فالامتصاص فعل تصحيفي وأسلوب حوار بين النصوص أو اندماج تتولد عنه نصوص متضادة على طول التاريخ الأدبي وهو قانون جوهري في( نصوص تتم صناعتها عبر الامتصاص وفي الآن نفسه هدم النصوص الأخرى للفضاء المتداخل نصيا ويمكن التعبير عن ذلك بأنها ترابطات متناظرة ذات طابع خطابي.. ويمكن مضاعفة الشبكة إلى ما لا نهاية فهي تعبر عن نفس القانون علما ان النص الشعري ينتج داخل الحركة المعقدة لإثبات ونفي متزامنين لنص آخر)[37]
أما منطقية أو لا منطقية علاقة الامتصاص كقانون بغيرها من قوانين النص الشعري كالتعديل والثالث المرفوع والتوزيعية فلم تجب كريسطيفا عنه، وبررت الأمر بالقول:( لا علم لنا لحد الآن بوجود أنماط منطقية فإننا نميل هنا إلى الحل الثاني خاصة بشكلنة اللغة الشعرية بدون العودة إلى منطق الكلام)[38] فاهتمام كريسطيفا موجه نحو نفي الأصالة عبر القول بالخرق والانحراف والانتهاك كعمليات معتادة في إنتاج المعنى الشعري بينما نظرت الى مسائل منطقية، ومنها أن لكل معنى نسقا كلاميا اجتماعيا، على أنها إشكالية.!!
9- خاتمة:
حاولت كريسطيفا إثبات تصوراتها في أن لا استدلالية اجتماعية أو تاريخية في أي نص أدبي، وأن لا تاريخ ينتسب إليه النص ولا مجتمع يصنعه، ومن ثم لا وجود لجذر هو أصل إليه تنتسب الآداب الأوربية. وبذلك يصبح مقصد كريسطيفا من التناص واضحاً. ورغم أنها نظر ت إلى النصّ بوصفه عملا أدبيا عصريا ابستمولوجيا، فإن تغلغل البنيوية في فكرها كان عميقا مما أثر في بعض تحليلاتها وتوجهاتها، ومن ذلك مثلا أنها رأت في الرمزية إجراء سلبياً يفضي إلى النهائية، ومنها أيضا إهمالها مسألة الإحالة والمرجع اللذين بهما يمكننا أن نميز اجتماعية الذات المتكلمة وتاريخيتها.
[1]– ينظر: علم النص، جوليا كريسطيفا، ترجمة فريد الزاهي (المغرب: دار توبقال للنشر، ط1 ، 1991) ص26. والكتاب منشور عام 1969. ألف دو لاسال كتابات كثيرة واليه ينسب تطوير السرد الفرنسي وعاش جزءا من حياته جنديا وشارك في حملة لويس الثاني عشر على ايطاليا وترى كريسطيفا ان في كل كتابة واقعية معاصرة ما يماثل الازدواج البنائي لكتاب جيهان دوسانتري وتصفه بأنه أغنية شكوى من الهجر.
[2]– المصدر نفسه، ص9.
[3]– المصدر نفسه، ص21.
[4]– المصدر نفسه، ص22.
[5]– نظرية الأجناس الأدبية، تزفيطان تودورف، ترجمة عبد الرحمن بو علي (سورية: دار نينوى للدراسات، ط1، 2016) ص14
[6]– المصدر نفسه، ص13.
[7]– ينظر: علم النص، ص25-26.
[8]– المصدر نفسه، ص22.
[9]– ينظر: المصدر السابق،ص9.
[10]– المصدر نفسه، ص26.
[11]– ينظر: علم النص، مصدر سابق، ص23.
[12]– ينظر: المصدر نفسه، ص27.
[13]– علم النص، مصدر سابق، ص30-31.
[14]– المصدر نفسه، ص28.
[15]– علم النص، مصدر سابق، ص33
[16]– المصدر نفسه، ص33، والصحيح أن العرب فتحوا الصين عام 651م 29هـ بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي. علما أن كريسطيفا أحالت هذا الرأي على كتاب (مشكلات الأدب المقارن) 1959 لباحث روسي اسمه كونرد منشور عام وفيه طرح فرضية ان إسلام الصينيين هو الذي سرب البنية الدالة لأدبهم وفنهم إلى البلاغة العربية ومن ثم إلى الثقافة القروسطية.
[17]– ينظر: علم النص، مصدر سابق،ص35-36.
[18]– المصدر نفسه، ص37-38.
[19]– علم النص، مصدر سابق، ص46.
[20]– نظرية الأجناس الأدبية، ص14-15.
[21]– علم النص، مصدر سابق،ص47.
[22]– روسيل كاتب فرنسي مسرحي وقصصي وله مقالات فرنسي وكتب عنه فوكو في (الأشياء والكلمات)1963.
[23]– ينظر: علم النص، مصدر سابق،ص48.
[24]– ينظر: المصدر نفسه، ص49-50.
[25]– المصدر نفسه، ص61.
[26]– علم النص، مصدر سابق،ص64-65.
[27]– المصدر نفسه، ص65.
[28]– المصدر نفسه، ص67.
[29]– ينظر: المصدر نفسه، ص67،68.
[30]– علم النص، مصدر سابق،ص68.
[31]– المصدر نفسه، ص68-69.
[32]– المصدر نفسه، ص70.
[33]– علم النص، مصدر سابق،ص74.
[34]– ينظر: المصدر نفسه، ص76-77.
[35]– المصدر نفسه، ص78.
[36]– المصدر نفسه، ص79.
[37]– المصدر نفسه، ص79-80.
[38]– علم النص، مصدر سابق،ص85.