ملخص:
تناولت هذه الدراسة (الرواية السياسية، أثرها النقدي وخصوصياتها الفنية) وهي في الأصل استقراء رواية ” للحب مجيء ثان” للكاتبة والرّوائيّة التونسية الدكتورة “بسمة بن سليمان”. وقد عملنا على استقراء المؤشرات السّياسية من خلال المرجع الروائي المُشتَغل عليه، واستجلينا بعض مظاهر الجمالية الفنّية والخصوصيّة النّسائية في الكتابة الرّوائية السياسيّة. كما تَبَيَّنا دورَ المثقف العربي في بناء مشروع التّغيير المجتمعي، وبذلك تجنح الدّراسة إلى التيمات الموضوعية والتقنيات الفنية.
الكلمات المفاتيح: الرواية – السياسة – الأداء الفني – بسمة بن سليمان – السرد المعاصر.
Abstract:
This study dealt with (the political novel, its critical impact and artistic specificities). It is originally an extrapolation of the novel “Love has a Second Coming” by the Tunisian novelist Dr. “Basma Ben Suleiman”. We have worked to extrapolate the political indicators through the novelist’s reference work on it, and we have explored some aspects of artistic aesthetics and women’s specificity in political novel writing. We also demonstrated the role of the Arab intellectual in building a project for societal change, and thus the study succeeds in focusing on thematic themes and artistic techniques.
Keywords: novel – politics – artistic performance – Basma bin Suleiman – contemporary narration.
1- مقدّمة:
شكّلت الوضعيّة الاجتماعية التّونسية الرّاهنة واقعا مأزوما، ارتبطت معالمه بقهر الإنسان، ونطقت بعجزه عن الفعل في خضمّ أوضاع اقتصاديّة متردّية، وشطط في استعمال السلطة، وتفكّك مؤسّسات الدّولية في ظلّ ظرفيّة محلّيّة وإقليميّة وعالميّة دقيقة… وتعلقت أسباب التّردّي بالممارسة السياسية وكواليسها. وتحت هذه الظِّلال انخرط الأدب في نقد الأوضاع، وراحت الرّواية تفكّك المداخل المشكّلة لواقع وجب الجهر بتناقضاته وفضح سوئه. وهذه مداخل متعلّقة بتعقيدات التّركيبة السّياسية والتّفاوت الطّبقي والجهوي، واختلال الهرم الاقتصادي المتباين المتناقض المعقّد.
وقد سعت الراوئية “بسمة بن سليمان” في عملها السّردي إلى الحفر في الذّاكرة الجماعية القريبة من مرحلة الرّبيع العربي وما بعدها من تحوّلات، خصوصا ما نتج عن فترة الجائحة/الكورونا من ركود إحساس بضبابيّة المصير. وهي في الاختيار السردي واعية بطبيعة الاختلالات التي هزّت المجتمع وبالقضايا السّياسية من حيث انحرافُها عن الاهتمام بالإنسان قيمة عليا. فجاءت الرواية إدانة جهرية للفشل السياسي، كما أنها تعبير فني/نقدي عن واقع المرأة والرّجل في مجتمع تحوّلت فيه النّخبة السّياسية إلى مقام تقسيم الكعكة والمهادنة والتّواطؤ بتعبير الكاتبة نفسها.
وقد حفّزنا على تناول هذا الموضوع ومقاربته الوقوفُ على خصوصية الكتابة الرّوائية السياسة النّسائية المعاصرة من خلال نموذج الرّوائية التونسية “بسمة بن سليمان”، ورصد الأداء الفني واستجلاء شعريّة القول الحكائي، ومحاولة الوقوف على المرامي الإيديولوجية التي تحرّك الكتابة في رواية “للحبّ مجيء ثان”.
إن قراءة المتن الروائي “للحب مجيء ثان” يطرح أسئلة جوهرية حول ماهية الرّواية السياسية، وتجليات التّيمة السّياسية في النص، وحول خصوصية الكتابة النّسائية في الجدل السّياسي. وهذه التّساؤلات هي التي تتوزع محاورَ الدّراسة قيد الانجاز.
ولمعالجة هذه المحاور نفترض أن:
- الكتابة الروائية عند الدكتورة “بسمة بن سليمان” كتابةٌ في النقد السياسي من زاوية دور المثقف في الحراك الاجتماعي والتّأسيس له.
- تسريد الواقع السّياسي والبحث في الأسباب والنتائج – حتما – يقدم الحلول الممكنة للأفق المنتظر تجاه مجتمع الدّراسة.
- رواية “للحب مجيء ثان” سرد وصفي تناصّي مع الواقع، وجدل حواري مع واقعه، لكنه بأبعاد تخييلية في بناء عوالم الحكي.
2- تجنيس المتن:
2- 1- تعريف الرّواية السّياسية:
شكّل الأدب بعد الربّيع العربي: ديوان العرب”، سجّل الأحداث وكثّفها، وسطّر المواقف، وواكب التّاريخ المعاصر بتقلّباته وتنام سيرورته المتسارعة، واستأثرت الرّواية بوافر المواكبة لما عرفه المجتمع العربي من تغيرات في ظرفيّة دقيقة. ونظرا لخصوصيّة المرحلة صُبغت الرّواية باللّبوس السّياسي، فماذا نقصد بالرّواية السياسية؟ وما خصوصيّتها؟
جاء في تعريف “طه وادي” أن الرّواية السّياسية هي «الرواية التي تمثّل القضايا والموضوعات السّياسية فيها الدّور الغالب بشكل صريح أو رمزي وكاتب الرّواية السّياسية ليس منتميا – بالضرورة – إلى حزب من الأحزاب السياسية، لكنه (صاحب إيديولوجية) يريد أن يقنع بها قارئه بشكل صريح أو ضمني»[1]. أما “حمدي حسين” فيرى في الرّواية السّياسية تلك «الرّواية التي يتمكن كاتبها من تقديم رؤيته السّياسية لقضية من قضايا الواقع السّياسي، من خلال معالجة فنّية جيدة هي رواية سياسية»[2].
وفق النّصّين التّعريفيّين النّقديين، الرّوايةُ السّياسية نمطٌ سرديٌّ يجمع بين الموضوع السّياسي والطّريقة الفنّية للتّعبير عنه، وطرح الرّؤية الخاصّة بالكاتب بأسلوب روائيّ حيّ يحفّز القارئ على التّفاعل معه.
إنّ عمل الرّواية السّياسية على خلق الحافزيّة في المتلقّي يعمل على نشر الوعي ونقد الواقع، واستشراف المستقبل بما يمكّنه أن يستجلي الحقائق، ويدرأ المموّهات. فهي تعالج الأزمات والأنظمة الحاكمة، وقضايا التّطرف والإرهاب، والاعتقالات بسبب الرّأي، وتسعى إلى خلق نوع من التّوازن في المجتمع بالمطالبة بالحقوق والعيش الكريم، فهذه الكتابة الروائية «كانت أكثر أصناف الإبداع الحديث تعبيرا عن أوضاع حقوق الإنسان في الوطن العربي، لأنها تنهل من الواقع المعيش، وتستند في رسم عوالمها من الأحداث الواقية»[3].
من هنا، يتبين أننا إيزاء نوع أدبي يتميّز بالواقعية، والتّجاذب مع المتغيّرات التي تحيط بالإنسان، حملت همومه، وطرحت تساؤلاته، واستشرفت انتظاراته… فقد اقتحمت المسكوت عنه، وفكّت شفرات المجاز الاجتماعي، وراحت تقيس المسافة بين القاعدة والنّخبة السّياسية، وتحلّل الصّراعات الدينية والمذهبية، وشملت مختلف الأزمات التي أرّقت الإنسان من حيث هو مواطن.
2-2- المتنُ المرجعُ:
المتن الرّوائي المشتغَل عليه هو رواية “للحب مجيء ثان” للرّوائية والنّاقدة التّونسية الدّكتورة “بسمة بن سليمان”، والرّواية من نشر “خريف للنّشر” في طبعتها الأولى 2022م. جاء المتن الروائي في 144 صفحة، توزّعته ثلاثة فصول يتصدّرها:
إهداء: إلى هاني وهاشم ولجينا
قطع من الوجدان والبنيان
وتصدير نصّيّ قبل المتن الرّوائي مباشرة في ورقة مستقلة:
حافظ على الخبر السار حتّى وإن عبرت بحرا من الآلام…
فالأشياء الجميلة تأتي مثل فجر بعد الظلمة
فرغم أنّ الرّواية عمل يُشَرِّحُ مأساة الإنسان العربيّ المعاصر، وترسم واقعه السّياسي الحالك، إلاّ أن الكاتبة استهلتها برؤيا مشرقة، تبشّر بالحبّ وبالأشياء الجميلة، وببزوغ الفجر بعد الظّلمة، ولا شكّ أنّ العتبات «في العمل الرّوائيّ هي الباب الحقيقي نحو فِناء النّص، نحو الدّخول إلى منزل الفكر والجمال والسّرد، ولعل الباب يعكس – إذا أحسن المبدع – النصّ في خيمته الداخلية»[4].
إن الرّواية “للحبّ مجيء ثان”، ومن خلال بعض المؤشّرات الدّالة من النّصوص يبدو أنّها تفاعلت مع محيطها؛ “مهد الثورة”، وينبوع شرارة الرّبيع العربي، فجاءت زاخرة بالنّقد السياسي، تدعو إلى التّغيير، وثائرة على فساد النّخبة السّياسة، مقترحة رؤية جديدة نابعة من القناعة بقيمة الإنسان وضرورة إنصافه وتوفير مناخات الفعل حتّى يبدع ويساهم في صناعة مصير جماعيّ أفضل.
وقد استطاعت الرّواية مزج الواقعيّ بالتّخييل، فمن خلال الاسترسال في تحليل المتن ودراسته يتبين لنا أنّ الكاتبة استطاعت «بطريقتها الخاصة بناء عوالم تخييلية حتى وهي تسعى للتّعبير عما يزخر به الواقع من مشكلات وقضايا»[5]. فالمشروع الرّوائي في “للحب مجيء ثان” يمكن وصفه بأنه “تسريد” لواقع تونس الاجتماعي والاقتصادي، وثورة عميقة على الواقع السّياسي، من منظور إيديولوجي وفني وجمالي يطرح البدائل الممكنة عبر اصطناع عالم ممكن
3- القضايا السّياسية في الرواية:
3- 1- فلسفة تجاذب السلطة:
اهتمت الرّواية “للحب مجيء ثان” بالقضايا المجتمعيّة للإنسان التّونسي بأبعادها السّياسيّة والاقتصادية، ومنها قضية ” ترشيد الحكم والسّلطة السّياسيّى”، والكاتبة لم تتعامل مع هذا الموضوع بأسلوبيّة الإخبار والسّرد، وإنما بفلسفة تعدّد الرّؤى حول “مفهوم السلطة والممارسة السياسية” من حيث هي تدبير الشّأن اليومي. ولا تتوانى المؤلفة في إبداء الرأي-بشكل مضمر-وتقديم وجهة نظر في السّياق المرحلي للحكم القائم، وقد تميزت الرّواية بتعدد الأصوات المعبّرة عن فلسفتها تجاه السّلطة الحاكمة نجتزئ منها نظرة الجماعات الدّينية التي لا تعترف إلا بنظام قوامه “منهاج الخلافة” «… كاد ميلود حينها يصرخ في وجهه قائلا أنه أداة في يد الطّاغوت الحامي للعلوج وأن أفكاره متساهلة مع نشر الرذيلة والانحراف عن الحكم بمنهاج الخلافة والنبوة. ولكنه أمسك نفسه وكظم غيظه وصبر وصابر واعتبر الدولة قطافا لم يحن أوانه بعد رغم قربه.. »[6]. فإمكانات الكتابة الرّوائية عند “بسمة بن سليمان” تُخرج التصوّرات الذّهنية للجماعات الدّينية إلى عالم الحقيقة والواقع من خلال الشّخوص. وإذا كانت الخلافة هي النّظر في شؤون العامة وفي مصالحم الدّنيوية والأخروية فإن تولّيها يكون بالاختيار والانتخاب أو بولاية العهد، على عكس الحركات الّتي اتّخذت من فهمها الخاصّ للإسلام مرجعا للممارسة السياسية الّتي لا تتوانى في تبني الغلبة والقوّة. وفي الملفوظات من النّص الرّوائي (الطاغوت – العلوج – الدّولة قطاف لم يحن أوانه بعد…) ما يكشف المنهج المتبَنّى في التّعامل مع التّغيير السّياسيّ. وفي ربط المواقف بالشّخوص نجد الكاتبة مزجت التّوثيق الموضوعيّ للمرحلة مع البناء التّخيليّ وخلق عوالم افتراضية يمكن تنزيلها على أرضية الواقع في شكل تدافع وتصفيات واقتلاع، معتمدة فنّية “التّناص” مع مقولة “الحجاج بن يوسف الثقفي”: (إني أرى رؤوسا قد أينع وقد حان قطافها) .
وبنفس القوّة، انتقدت الكاتبة الأحزاب السياسية التي تحالفت مع الجماعات المتطرفة، وكانت وراء اغتيالات وسفك الدماء، تقول الكاتبة في مقطع حواري:
«… نظر إليه ماهر وقد حركت فيه سخرية ماهر مكامن الأوجاع:
_ نحن شعوب الحديقة الخلفية من العالم لا نحمل البنادق إلا لحراسة الأفيون يا رفيقي…
لمعت عينا صابر وقد أعجبته الاستعارة:
_ قد تكون على حق يا صديقي… لا أنكر أن اليسار فقد ألقه الكونيّ منذ عقود مع نهاية النّضال المسلح لكن سفك الدماء ما عاد ملائما لروح العصر.
همّ ماهر بالكلام وقاطعه صابر مضيفا:
ولا تنس أن اليسار في بلادنا قد ضيع فرصة النّضال البرلماني»[7].
وافتضاح واقع الحال أوحى بخيبة أمل قد تكون أصابت الكاتبة وأنطقت بها إحدى شخصيّات الرّواية، وهي خيبة ناتجة عن فشل اليسار في تجديد آليات تعامله مع واقع سياسيّ معقّد، ممّا عسّر إمكانيّة إيجاد الحلّ لراهن تونس وجبر ضررها. والتّسريد في الرّواية حاول خلق توازن عبر الأطروحة النّقيض وهي أطروحة دافعة إلى ترك الشّعارات الحزبيّة الجوفاء، الّتي أثبتت فشلها عند احتكاكها بالواقع، وداعية إلى ضرورة التمسّك بإرادة الفعل مهما كان فقر الإمكانيّات وعسر الظّروف، ناهيك ما قام ب “نوح” في الغاب من توفير الحدّ الأدنى من العيش الكريم، رغم قسوة المناخ والعزلة وشحّ الموارد. والإيحاء بفشل اليسار يبدو من خلال استدعاء علم من أعلام الفكر الاشتراكي ورموزه يمسك مكنسة بدل بندقيّة، وكأنّنا بهذا التّيار عاجز عن تفعيل مقولاته خارج اعتماده للعنف الثّوري شأنه في ذلك شأن الجماعات المتطرّفة:
– ” لا تناسبك المكنسة يا تشي غيفارا زمانك!
– هل صارت محبتي لتشي محل سخرية يا شاهبندر السوق؟” [8].
3- 2- الفعل الاحتجاجي:
إن قراءة العمل الروائي “للحب مجيء ثان” للكاتبة “بسمة بن سليمان” يكشف مقولات نقدية تجاه الواقع السّياسي الراهن، فارتباط الكاتبة بالواقع، سرّب لديها قناعات صرّفتها في الكتابة الروائية، وضمنتها عملها الفني الحكائي، ومنها:
“إنها مدينة البنيان لا مدينة الإنسان..
لا يمكن إعمار المدن وإنسانها مهدوم محطم،
فالمدينة روح قبل أن تكون إطارا”[9]
هذه بعض مقدّمات مشروع النّقد السّياسي الذي طرحته الرّواية في ترفّعها عن الواقع بأسلوب فيه من مرارة الاحتجاج الشّيء الكثير، فقد جاء في المتن: «تدفّق على السّوق سيل من الشباب المعتصمين في ساحة الحكومة ليال طويلة يلتحفون العراء ويتدثّرون الصّقيع ويقتاتون الهمّ والجوع.
…ثم تسربت إلى أنفه رائحة القنابل المسيلة للدموع فاختنق الهواء وهيمن الدّخان الوقح على المكان ساخرا من البخور المسالم المعروض بعناية أمام الدكاكين»[10].
إن الرّواية بَنَت مشروعها السّردي على الواقع السياسيّ، والاحتجاج مكوّن من مكوّنات النّقد السّياسي يحلحل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقيّة، ويعكس علاقة الشّباب التّونسي بالسّلطة والنّظام المتمسّك بجبروته رغم تدثّره بغطاء الدّيمقراطيّة الشّكليّة، وقد عجزت “ثورة الرّبيع العربي” عن تفكيك نظمه وطبائعه التي تجمع بين الاستبداد والتّسلّط. والممارسة الضّاغطة على مالكي القرار السّياسي لاقتراح حلول مناسبة للإنسان التونسي هي جزء من الاحتجاج. وبينما طالبت الحركات الاحتجاجية بالحرّية والكرامة، وتجاوز الاختلالات داخل المجتمع، نجد الرّواية ترفع سقف الاحتجاج – بشكل مستتر أو مضمر – متطلّعة إلى نضال برلماني كان من المفروض أن تقوده الاحزاب اليسارية لولا أن هذه الأحزاب أضاعت الفرصة[11]، مما يكشف خصوصية الاحتجاج الثّوري في تونس، إنّه القطع مع المظلّة السّياسيّة «لأن حركات ثورات الشّباب في مصر وتونس لم تعتمد على لوجيستيك حزب من الأحزاب الموجودة، حتى ولو كانت تلوح بجذرية في أقوالها وأفعالها.. مما أعطى لتلك الحركات عنوانا جديدا كلّ الجدة لها في النضال، بأن تلك الحركات قطعت تنظيميا مع مختلف الأحزاب، وإن كانت رحّبت بمشاركتها في الميادين والساحات والطرقات»[12].
ويتمظهر الاحتجاج في الرواية في سياق نسقي متكامل، له امتداداته ونتائجه. فالحركة النّضالية/الاحتجاجية حتما تواجهها المؤسّسة الرّسمية. وفي توصيف شخصية صابر رصد لهذا الامتداد، تقول الكاتبة: «… ما عاد لديه الوقت للتّفكير في أخيه الغائب أو للخروج بحثا عنه، ورغم توقّعه أن يكون قد تلقّى نصيبا من الإذلال وهو محجوز في أحد مقرات البوليس»[13]. لينتهي المطاف بالشّابّ المناضل المحتجّ المطالب بالحق في العمل والكرامة ب “الموت”، «وقيل لصابر بعد أن دعي لأخذ أقواله أن أخاه انظمّ إلى عصابة لترويج المخدرات التقاها حين كان في السجن، وما زال البحث جاريا إلى حين صدور نتائج التّشريح لمعرفة إن كان الموت ناتجا عن جرعة زائدة أم انتحار أم قتل»[14].
هكذا، وظّفت الروائية فعل الاحتجاج في عمل نسقيّ تفاعليّ في صيغة خطّية، منطلقه الوضع، ثم أساليب الرّفض، ومنها إلى السّجن والموت بطريقة غامضة تفتح باب التّساؤل والشكّ.
3-3- الوباء، ذاك الوطن العليل:
يساهم فساد الدّولة في تنامي أحداث وكبح أخرى، فهو سلوك يهدّد الاستقرار والأمن والحرّيات العامة، ويحمي ناهبي الثّروات، كما يُنهك قوى الوطن، ويجعلها كالجسم العليل. والكاتبة في بناء مشروعها التّخييلي رمزت بأنين الذّات إلى وطن ينخره الفساد وينهش أحشاءه «… الجثة تتمزق وتتفتت وتسيل مع جدول مياه جار فيصير أحمر قان.. مشهد والدته وهي تنتفض وتتعرّق مقرّبة فمها من الكوب لتروي ضمأها، خيط رفيع من الدّم يسيل من بين شفتيها وينسكب في الكوب ويختلط بالماء. سيل من القرويين ينسابون في سباق محموم ويسرعون بمغادرة البلدة فارين من الوباء الذي نشر العويل والأنين في كل درب وبيت… »[15].
إن حركة الجسد وأنين الذّات وعويلها تقوم مقام اللّغة في تشخيص حالة الوطن، ولعلّه تشخيص أسبق من الكلمات المنطوقة في النّقد السياسي. والوباء في الرّواية يحمل دلالات متفاوتة؛ فهو إحالة على مرحلة الكورونا، لكن الدّلالة الأعمق، هي إشارته إلى الواقع المتعفّن سياسيّا وأثره على جميع المجالات، فأنبت هذا الوضع ربيعا عربيّا، وواقعا إنسانيا قسّم الإنسان بين اعتصامات ميادين التحرير، أو العزلة في حياة الغاب، يتحمّل الوحدة والغربة، ومعها يتحمّل « هبوب الرّيح طوال الليل أليفا موحشا، ينحصر بعد كل هبة عند أقدام الكوخ ويرتطم بجدرانه ارتطام الموج بأخشاب سفين عتيق عنيد. بدا الليل موطنا للغربة مكشوف الظّلمة كقبر مفتوح يصفر فيه الفراغ في حين كانت الغابة تنوح وتتلاطم كأنها تتأهب لتوديع عزيز»[16].
إن عزلة الإنسان التّونسي عن المشهد السّياسي والاجتماعي – مؤقتا- من وحي الطاّرئ كورونا، أو بصيغة أقوى من وحي مجتمعيّ هش، قتل الأمل في النّفوس، وحمل على الإحباط وزرع اليأس، فكان الهروب إلى الطبيعة من أجل العودة إلى الذّات، وافتراض البدايات والتّأسيس لها، وبناء علاقات متينة تتجاوز الهشاشة، واستلذاذ الحلم الذي جاءت به ثورة 2011م.
إن الكاتبة “بسمة بن سليمان” في نقدها السّياسي اعتبرت الأدب الرّوائي يعكس الحياة، ويعكس القيم الإنسانية الكامنة في أعماق النّفس البشرية… وتجاوزًا للواقع الموبوء اتخذت الطبيعة رمزا للهروب والعزلة من أجل صناعة الذّات، وصناعة المدنية؛ فالمدنية الحقة في فلسفة الرّواية لا يمكن أن تبدأ إلاّ من عالم الطبيعة، من نَبْت اليد وعصارة المخيلة، بالتأمّل التّجريديّ في رحابة الطبيعة، فالرّواية حافلة بالسّرد الجغرافي ذي الوجهين المتكاملين؛ واحد واسع رحب هو فضاء الغابة/الطبيعة، تؤثّثه الحيوانات والطّير بتيهها وسيرها الحر، رغم ما يفجعه من رتع الخنازير (رمزيا)، ومن المهرّبين والإرهابين الذين اتخذوه مخبأ ومعبرا لعملياتهم، بما في ذلك الإقدام على الحرق وتصاعد الدّخان كإجراء تمويهي للسّيطرة وتغيير المواقع. وثان فضاء إِسْمَنْتِي هشّ يحتوي القلق الجمعيّ بطعم الجائحة، «سنوات مرت بعد انقضاء الجائحة ولكن آثارها تجاوزت حدود الأجسام إلى كل مظاهر الحياة. ازداد الناس بؤسا وتعاظم القلق وحل اليأس وانعدمت الثقة في الآتي»[17]. وأظنّ أنّ سفينة “نوح” دلالة رمزيّة على تجسير التّواصل بين العالمين، وفي الآن نفسه سفين نجاة لما يحيط بها من نسيم الهواء، وحديقة خلفية من عمل اليد؛ لعلها تجسير بين الطبيعة وعالم الإسمنت الذي لا يمكن أن تقوم مدنيته إلا بسواعد كَادَّةٍ في الطّين والتّراب.
وفي كل هذا، اعتمدت الكاتبة على العدول التّعبيري لبناء الواقع والمتخيّل، وجعلته أداة للتّسامي على الواقع. والمبدعة الروائية استهلّت روايتها بهذا الرّمز، لأن المقدّمة خطاب إقناعي، والغاب علامة سيميائية لعالم افتراضيّ متخيل. فجاءت المقدمة صورة رمزية تُرافع عن الواقع وتسعى إلى تجاوزه، وبذلك تكون المقدّمة اجتهادا فنيا تدافع عن التّصورات[18]. فالكاتبة اختارت تقديما روائيا متفاعلا مع جراح الوطن ومضمّدا النّدوب التي تعتلي كيان شعب ومن خلاله أمّة. ولعل الرّكون إلى الطبيعة دواء للجسد العليل، وفسحة تأمل في الذّات لانطلاق جديد وإيذان بفجر يحمل نسائم الأمل.
3- 4- الإنسان في الرّواية السّياسية:
الكتابة الروائية ل “بسمة بن سليمان” تجسّد تطلع الإنسان التّونسي المعاصر، وتشرح واقعه الاجتماعي، والاقتصادي، والسّياسي… فالكتابة الإبداعية تراوحت بين الواقعيّة والمتخيّل الممكن.
ومادام أن هذا المُنجز الرّوائي جاء من وحي فترة الكورونا ومرحلة ما بعد الربيع العربي في تونس، فإن الصورة التي قدمتها الرّواية للإنسان هي صورة بئيسة تعكس المرحلة، «في الصباح خرج إلى الشّرفة الصغيرة وركز يديه على حاجزها الحديدي العتيق فتملّكه شعور غامر بأنه سيّد الشّارع العريض وهو يشرف عليه من عل غير آبه بالبرد مشفقا على العابرين من قسوته. وقف ينظر إلى القلائل من المارة في مثل تلك الساعة يسارعون الخطى نحو العمل فرثي لحالهم وتخيل المدينة سجنا كبيرا يتكاثر فيه السّجناء ويعربدون ويرتكبون المخالفات تشفيا وانتقاما، محبوسون ومعاقبون سلفا»[19].
هذا النّص لخص صورة الإنسان وما يعيشه من وباء معنوي، وقد فصلت الكاتبة جزيئات في مقاطع من متنها السّردي، فقدمت الذّات منهكة “الغلاء والوباء” «سنوات مرت بعد انقضاء الجائحة ولكن آثارها تجاوزت حدود الأجسام إلى كل مظاهر الحياة. ازداد الناس بؤسا وتعاظم القلق وحلّ اليأس وانعدمت الثقة في الآتي»[20]. هذا الوضع ترتّب عنه الحركات الاحتجاجية أو القناعة بالبسيط لسدّ الرّمق أو تحقيق بلغة العيش. تحكي الكاتبة عن صابر مصوّرا تجلّيات الشابّ التّونسي ومن خلاله الوطن العربي:
«وها أنه يدرك في تلك اللحظة أن الاعتصام بسبب البطالة أقسى من العمل الشاق ذي الدّخل البسيط لأنّه يعطّل الفعل وبنقله إلى عوالم الانتظار ثم يحوله إلى صدام تعقبه خيبة»[21].
رصدت الرّواية الإنسان التونسي المثقل بالعطالة، والخيبة من الحاضر، وعدم الثّقة من القادم. فإذا كان صابر وأخوه اختارا العيش بين القناعة والعمل الشاق ذي الدّخل المحدود، فإن آخرين اختاروا مواجهة الوضع بالارتماء في التّهريب والانخراط في الجماعات المتطرّفة، ولعلّ شخصية ميلود تمثّل هذه العينة من المجتمع التونسي.
ومن الصّور التي لا يمكن إغفالها أو تجاوزها صورةُ المرأة في الرّواية؛ فهذه رحاب من بنات الليل يتجاذبها طلاّب الشّهوة والنّزوة، وتستغلّها المخابرات لاختراق عتمة بعض حديثيّ الثّراء لاستجلاء نشاطاتهم ومصادر ثروتهم. تقول الكاتبة في صورة سرديّة تكثيفيّة: «بدت رحاب بكامل زينتها ترتدي فستانا يكشف كتفيها ويتدلّى شعرها الجميل ليغطي ظهرها، كانت تجلس إلى طاولة فيها رجال ثلاثة وامرأة أخرى فظلّ جابر يراقبها ولاحظ أنها تصغي بانتباه وتتفاعل بفتور. حين تعرّف عليها لم يكن همه إلاّ أن يستفيد من وجودها في تلك الأوساط التي يغرف أصحابها الأموال نهارا ويسكبونها ليلا دون مبالاة، ينفقون على الأحزاب وعلى الغواني بنفس السخاء، عهدهم بالثّراء حديث ولكنه كفيل بتحويل المتع إلي هم وإلى روتين يقتل كلّ شغف ويفتح على دهاليز خلفيّة لعلاقات قادرة على إعدام كل شعور»[22]. فالمرأة في هذا المشهد تبدو بضاعة تم تشييء أنوثتها قصد المتعة وقضاء المآرب الاستخباراتية لاختراق التّنظيمات.
كما قدّمت الرواية صورة أخرى للمرأة المقيّدة بأغلال وصاية الرّجل وسلطة الذّكورة تحت الاحتجاز، أشبه ما يكون في مقرات التعذيب: « لقد هربت من زوجي..
سادت فترة صمت ثم واصلت كلامها قائلة:
_ قال لي إنه سيصحبني لزيارة أهلي ولكنه سجنني في بناية قديمة على مشارف غابة الفرنان، وتركني في حراسة رجل عجوز فك رباطي حين ألححت عليه في قضاء حاجتي..
_ أي زواج هذا الذي ينتهي بك إلى الأسر؟ وما الذي أثار غضبه إلى هذا الحد؟
_ لا مطلقا لم يكن غاضبا، لقد كان يخطط لأمر أجهله، سمعته ليلة هروبي يتحدث في هاتفه مع شخص ما عن اجتياز الحدود»[23].
تلعب صورة نعمة ورحاب تشفير العلامة السّيميائية الرمزية على مستوى الغلاف، حيث اختارت الكاتبة لمتنها لوحة تجسد امرأة على مشارف غابة كثيفة بإضاءة معتّمة، إن صورة رحاب ونعمة «صورتان متناغمتان تجعلان أفق انتظار متلقّي الخطاب ينتج مجموعة من الاستجابات النّصية التي يجب أن تتساوق والمعطى الصّوري الموصوف على الغلاف»[24]، فتحوّل مقام الكتابة إلى ملء فراغات العلامات السّميائية، وبناء مشاهد الإنسان العربي التّائه، وفي عتمة الواقع أوقدت الكاتبة “بسمة بن سليمان” روايتها بشمعة أمل، إنه شخص جابر الذي كرّمت من خلاله مؤسسة الجيش، واحتفت بدورها في مرحلة ما بعد 25 جويليه في حماية الوطن.
4- الأداء الفني:
4- 1- تعدّد الرّؤية السردية:
لا نريد في هذا المستوى الاهتمام بالصّيغة التّلفّظية، أو كشف الضّمير المهيمن في الخطاطة السّردية، كأن نجيب – مثلا – على السؤال “من يسرد الرّواية”؟ لكن نبتغي الوقوف على جمالية السّرد من خلال تداخل الرّؤى السردية، وتشكيل بنائيّة الحكي، وتعدد الأصوات داخل المتن الواحد، ومدى قدرة الكاتبة على التّحكم في الأدوات السّردية داخل متنها الرّوائي.
والقراءة النّقدية الفاحصة للرّؤية السّردية عند الكاتبة “بسمة بن سليمان” تُلمس القارئَ التّعدد السّردي، وذلك بحضور ساردة عليمة بكل شيء عن شخصيات الرّواية، ولم يجد هؤلاء أسرارا يخفونها عن الرّاوية المتحكّمة في زمام بناء الحكي، فالكاتبة عليمة بالنّفسية والتّطلع والأفكار التي تراود الذهن.
«… بصراخها أطلقت مشاعر الخوف والقهر واليأس من عُقالها بعد أن كبتتها في دهاليز الباطن طويلا. وتوهمت أن سياط قاسية تنهال عليها وتجلدها جلدا»[25].
فالكاتبة تقدم نفسها في صورة المتحكّمة في الشخصية، عارفة أحاسيسها ومُتخيّلها، ومتمثّلة حجم معاناتها. لكنّه ليس النمط السائد في كل الرّواية، فمن جماليات التّعدد في في الرّؤية السّردية أنّ المؤلفة تفسح المجال لشخصيّاتها في مشاهد سرديّة لتبوح بمكنونها، ومن نماذجه هذا المقطع الحواري:
«…فأصغى إليه المسئول بانتباه شديد عندما أنهى كلامه قال له:
_ رجالنا جاهزون ويمكنكم أن تعتمدوا على كفاءتهم، سيمنعونهم من التّوغل في المناطق الآهلة بالسكان للاحتماء بها.
_ تماما.. يجب أن يضطروا للّجوء إلى الصحراء محاولين الفرار عبر الحدود وعندها سيجدوننا بالمرصاد لهم…»[26].
يبدو أن الأنسب للسّرد في رواية “للحب مجيء ثان” هو المنظور السّردي المتعدّد فنّيا ودلاليّا، فالتّلوين السّردي خلق تنوّعا صوتيّا، ومنح الشّخصيات حرّية التّعبير، فانسجم الآداء الفنّي مع حاجة الإنسان المعاصر إلى البوح والإفصاح، وقد ينسجم كذلك مع دعوة الكاتبة – ضمنيا – إلى الحرّيات، لذلك لم تستبدّ بالحكي، إنما شكّلت مجال التّعدّد السّردي، وقد ربط النّقد النّسائي هذه الفنيّة الإبداعيّة بحاجة الإنسان إلى الانفلات من الوصاية التّعبيرية، «لأن الحقيقة لم تعد في صوت الرّاوي وحده، بل هي في هذه الأصوات وقد تعددت، وعدا لها نطقها ورؤاها»[27].
4- 2- المستوى اللغوي:
إذا كانت رواية “للحب مجيء ثان” تبنّت الرؤية السّردية المتعددة، فإن نظرة التّعددية احتفت – كذلك – بالمستوى اللّغوي، فالرّواية كتبت بلغة فصيحة من المدوّنة المعجمية العربية، إلا أنّ الكاتبة لجأت إلى لغة اليومي المتداول، سيما ما يتعلق ببلاغة الاحتجاج وصناعة الشعارات الرّافضة لسياسة القهر، ومنه هذا النموذج:
«لم يسمع نوح ما قاله صابر جيدا فقد علت أصوات المجموعات فغطّت على صوته وامتزجت بأصوات الجماهير القادمة من الملعب:
يا حياتنا
عيشتنا إلّي اخترناها
هاذي حياتنا
هاذي دنيتنا إلي فيها حكايتنا
هوني القرحة هوني نحاربو على أخواتنا
وإلي ماتو ديما عايشين بيناتنا
غناياتنا
عالحرّية والبلاد إلي نساتنا
عالمظلومين والدّولة إلي خلاتنا..
عالحقّ إلي يبقى القضاء بيناتنا»[28].
الملاحظ من هذا النّص أن الكاتبة في بنائها الحكائيّ استعانت بالعاميّة التونسية لتصوير خواطر الشّعب من ألم واحتجاج وحبّ للحياة… وقد وظّفت العامية لأنها الأقرب إلى الفئات الشّعبية الثّائرة على صنّاع البؤس الاجتماعي. وقد ساهمت الكاتبة باعتمادها التّعدد اللّغوي في «تطويع العربيّة وتوسيع إمكاناتها التّعبيرية. ولقد عمد كثير من الرّوائيين إلى إعطاء الأسبقية للتّعبير ودقته وحيويته مستعملين الكلمات الوافدة أو المنبثقة من سياق الحياة اليومية وابتداعاتها، بدلا من الاقتصار على المعجم الموروث الحريص على “نقاء اللغة” أكثر من حرصه على تجديدها وتوسيعها»[29]. والسّاردة في النّص الروائي لا تخرج عن الفصيح إلى العامي إلا في سياق بلاغة الاحتجاج في شكل لغة شعرية تختزل حجم التوتّر بين الشعب والسّلطة الحاكمة.
4- 3- الخفاء والتّجلي:
تميزت الرّواية السّياسة “للحب مجيء ثان” باتّخاذها من الإنسان “قضية”، لذلك نجد «الإنسان في هذه الرّواية يقرأ واقعه بنفسه، فلا غرابة إذا كانت الرّواية تسخر وتبكي وتنصح وتثور وتقلق وتعاقب ومن هنا تكتسب تميزها وتفردها»[30].وقد تميّزت الرّواية – المدروسة –بسيميائيّاتها وعلاماتها اللّفظية والأيقونية، فالكتابة الروائية عند الكاتبة لغةٌ رامزةٌ تدفع المتلقّي إلى تحريك آلياته التّأويلية للوصول إلى البنية العميقة المقصودة من النص.
«- كل ما يجري في الميدان هو صورة لما يجري في الواقع، فغياب العدالة هناك هو صدى لغيابها هنا.
انخرط نوح في الحديث وقد لمعت عيناه بعد خمول:
- كلامك صحيح تماما ما رأيناه من محاباة وتحامل يؤكّد غياب العدالة، وضع الملعب هو انعكاس لصور المدينة»[31].
إذا كان النقد السّياسي مصرّحا به على وجه المماثلة بين صورة المدينة وصورة الملعب الرياضي، فإن الصورة تتميز بالخفاء في التّعبير عن الواقع من خلال رمزية المرأة (نعمة ورحاب) اللّتين أنهكتهما الجراح، وحبّ التّملّك تحت الوصاية الذّكورية، واستنزاف أنوثتيهما، بل وتسخيرهما نزوة أو قضاء مصالح… تلك حال البلاد الذي ترزأ تحت الفساد.
ومن دلالات الخفاء والتّجلي في النّص الرّوائي العلاقةُ بين الشّخصيات وأسمائها والتي لا تعتمد على الاعتباطية أو الصّدفة، فسلوك الشّخصيات وسماتها إشارات رامزة لقضايا الوطن؛ فشخصية “نعمة” هي نعمة الوطن الذي نخره الفساد مثل ما أنهك القهر جوهر أنوثة “نعمة”. و”ماهر” «كان ماهرا في تحفيز أفكار صابر»[32]، فقد قدّمته الرّواية على أنه الرّجل الذي تتداعى إليه الخواطر، ويلمس شغاف شعرية تسكب ديم الكلام وتسكر الجلساء والندماء. أما “صابر” فقد وصفته الرّواية بما يدل على اسمه:
«إنه صوت صابر الهادئ الخلوق، صوت الجَلد الدؤوب العمول المثابر الكتوم. تلك الصرخة قادرة على اختزال كل الأوجاع والمآسي التي ناءت تحتها المدن والأحياء والقرى بسبب المظالم المتعاظمة في عقود متعاقبة، مظالم لو وزّعت على أزمنة دهرية لما استزادت»[33].ويمكن هنا الاستشهاد بشخصيّة “رحاب” التي اتّسمت في الرواية برحابة الصّدر في تقبل الآخر ومساعدته وفتحت بيتها للمحتاج (نوح ونعمة وجابر…).وأمام استشراء الفساد؛ جماعات متطرّفة وعصابات تهريب تنبثق شخصية “جابر” الوفي لقسَمه، نموذج المؤسسة العسكريةّ العاملة على “جبر” جراح الوطن.
يتبن أنّ الروائية “بسمة بن سليمان” كابدت من أجل سبك هذه التّقنية، وتجسير العلاقة بين الدّال والمدلول والمرجع، فقد استطاعت تحويل “الأعلام” إلى معان وقضايا، فالكاتبة لم تسق القضايا السياسة «منفصلة عن محيطها الحيوي، بل ممثلة في الأشخاص الذين يعيشون في مجتمع ما. وإلا كانت مجرد دعاية وفقدت بذلك أثرها الاجتماعي وقيمتها الفنية معا»[34].
4-4- بلاغة الصمت:
تنوع الأداء الفني عند الرّوائية “بسمة بن سليمان” في روايتها “للحب مجيء ثان” بين ما هو دلاليّ، ولغوي، والرّؤية البصرية لصفحات الرّواية تلوّح بتقنية شكليّة تواترت على امتداد الكتابة الحكائيّة في المؤلَّف، والتّقنية تتعلّق بنقط الحذف (…)، هذه التّقنية تتكرّر في جلّ صفحات الكتاب، حتى راحت أسلوبيّة الكتابة هي العدول عن توظيفها، فقد تكرّرت الظّاهرة في الصّفحة 25 ثلاث مرات، وفي الصفحة 53 ثلاث مرات، وخمس مرّات في الصفحة 123 (على سبيل النموذج). فكثافة حضورها في النّص الرّوائي يُكسبها مقام النّص الموازي المحايث للنصّ الرّوائي والمصاحب له. فهذه المؤشّرات وغيرها من دوال الكتابة من ميكانيزمات فهم النّص بدلالته المستفيضة المسكوت عنها والمقدّرة في ذهن القارئ، ف «لا شيء في الكتابة موجود بالصّدفة، أو زائد لا دور له في قراءة النص وفهمه، إذا ما كنّا نتوخّى الفهم. ما لا ضرورة له في الكتابة لا يدخل الكتابةَ، الكتابةُ لا تستدعيه، لأنها مشغولة بالضروري بما يجر دوالّ الكتابة إلى المعنى»[35]. فلفهم الأبعاد السّياسة في الرّواية، ونظرتها الإصلاحيّة، فلا يمكن تجاهل البياض والفراغ والصّمت، لأنه بذلك يتجاهل النّقدُ معنى ودلالات ومفهوم العمل الرّوائي. إن “البياض” أينع شعريّة الكتابة الروائية السّياسية عند “بسمة بن سليمان”، وكثف عتمة القهر والطبقيّة والفساد السّياسي، وصور وضع “الإنسان” المهمش المفقّر المستعبد في مجتمع يتلاعب به من لا تهمّهم قضية الوطن.
5- خلاصة واستنتاج:
يبقى في آخر هذه الدراسة أن نشير إلى السّمة التّوثيقية لأحداث ما بعد الربيع العربي في تونس، وحفريات البحث في الأسباب التي أنبتت شتائل الرّبيع الثوري. والرّواية نظرات جادّة في الممارسة السّياسية، وفي خضم الوضع السياسي المأزوم لا تتردد الكاتبة في طرح قناعاتها – ضمنيا – بضرورة المشاركة والمساهمة في بناء الصرح الدّيمقراطي، والعمل على قطع جذور الطّائفية وسياسة العصابات اللّتين تنخران الوطن.
إن لرواية “للحبّ مجيء ثان” للرّوائية الدكتورة “بسمة بن سليمان” خلفيّة إيديولوجية ترمي إلى “الإصلاح”، وقطع دابر الخيانات بكل تجلّياتها، وبناء الإنسان المواطن تاجرا كان أو سياسيا أو موظفا حكوميا، كما نجد الرّواية تحتفي بدور المؤسّسات الوطنية وقدرتها على حماية تونس وتدبير شؤون مواطنيها، وتحفّز العقل التونسي المثقف على الانخراط الايجابي ووضع بصمته في مشروع التّغيير.
المراجع:
- برادة محمد، فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، المملكة المغربية.
- بو سريف صلاح، شعرية الصمت الأفق الشعري للكتابة، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2021م.
- بو طيب جمال، أعراف الكتابة والتأليف بحث في استراتيجيات النص العربي، خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، الطبعة الأولى، 2021م.
- حسين حمدي، الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر، 1965م – 1975م، مكتبة الآداب، القاهرة، 1994.
- ابن سليمان بسمة، للحب مجيء ثان، خريف للنشر، الطبعة الأولى، 2022م.
- شراك أحمد شراك، الرواية السوسيولوجيا في السياسة والأحواز والهوامش، سلسلة القراءة المواطنة، حلقة الفكر المغربي، الطبعة الأولى، 2019م.
- طه وادي، الرواية السياسية، دار النشر للجامعات المصرية، 1996م.
- العبدلاوي أحمد العلوي، جمالية بناء المقدمة في النقد العربي القديم المثل السائر أنموذجا، مجلة آفاق أدبية، عدد 10، 2018م.
- عبد الله فتيحة، شعرية الرواية السياسية العربية، خماسية مدن الملح لعبد الرحمان منيف نموذجا، ج 1، ، مطبعة آنفو-برانت، فاس- المغرب، 2016م.
- العيد يمنى، القصة القصيرة والأسئلة الأولى، مجلة الكرم، عدد 8، سنة 1983م.
- محمد السيد الحديدي عبد اللطيف ، الفن القصصي في ضوء النظرية والتطبيق، الطبعة 1، القاهرة، 1996م.
- المعادي محمد، حدود القراءة حدود التأويل، منشورات مرايا، الرباط، المغرب، الطبعة 1، 2005م.
- النساج سيد حامد، في الرومانسية والواقعية، دار غريب للطاعة، القاهرة، (د ت).
- يقطين سعيد، قضايا الرواية العربية الجديدة، الوجود والحدود، الدار العربية للعلوم ناشرون، دار الأمان، منشورات الاختلاف، (د ت).
[1]– طه وادي، الرواية السياسية، دار النشر للجامعات المصرية، 1996م، ص10.
[2]– حمدي حسين، الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر، 1965م – 1975م، مكتبة الآداب، القاهرة، 1994، ص18.
[3]– فتيحة عبد الله، شعرية الرواية السياسية العربية، خماسية مدن الملح لعبد الرحمان منيف نموذجا، ج 1، مطبعة آنفو-برانت، فاس- المغرب، 2016م. ص5.
[4]– أحمد شراك، الرواية السوسيولوجيا في السياسة والأحواز والهوامش، سلسلة القراءة المواطنة، حلقة الفكر المغربي، الطبعة الأولى، 2019م، ص16.
[5]– سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة، الوجود والحدود، الدار العربية للعلوم ناشرون، دار الأمان، منشورات الاختلاف، (د ت)، ص38.
[6]– للحب مجيء ثان، بسمة بن سليمان، خريف للنشر، الطبعة الأولى، 2022م، ص33.
[7]– المصدر نفسه، ص63.
[8]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[9]– المصدر نفسه، ص142.
[10]– المصدر نفسه، ص35.
[11]– ينظر: المصدر نفسه، ص63-64.
[12]– أحمد شراك، الرواية السوسيولوجيا في السياسة والأحواز والهوامش، ص20.
[13]– للحب مجيء ثان، مصدر سابق، ص38-39.
[14]– المصدر نفسه، ص132.
[15]– للحب مجيء ثان، مصدر سابق، ص11.
[16]– المصدر نفسه، ص9.
[17]– المصدر نفسه، ص81-82.
[18]– ينظر: أحمد العلوي العبدلاوي، جمالية بناء المقدمة في النقد العربي القديم المثل السائر أنموذجا، مجلة آفاق أدبية، عدد 10، 2018م ص73.
[19]– للحب مجيء ثان، مصدر سابق، ص53.
[20]– المصدر نفسه، ص81-82
[21]– المصدر نفسه، ص35.
[22]– للحب مجيء ثان، مصدر سابق، ص118-119.
[23]– المصدر نفسه، ص27.
[24]– محمد المعادي، حدود القراءة حدود التأويل، منشورات مرايا، الرباط، المغرب، الطبعة 1، 2005م، ص69.
[25]– للحب مجيء ثان، مصدر سابق، ص73.
[26]– المصدر نفسه، ص115.
[27]– يمنى العيد، القصة القصيرة والأسئلة الأولى، مجلة الكرم، عدد 8، سنة 1983م، ص245.
[28]– للحب مجيء ثان، مصدر سابق، ص88-89.
[29]– محمد برادة، فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، المملكة المغربية، ص68.
[30]– جمال بوطيب، أعراف الكتابة والتأليف بحث في استراتيجيات النص العربي، خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، الطبعة الأولى، 2021م، ص159.
[31]– للحب مجيء ثان، مصدر سابق، ص91.
[32]– المصدر نفسه،ص65.
[33]– المصدر نفسه، ص131.
[34]– عبد اللطيف محمد السيد الحديدي، الفن القصصي في ضوء النظرية والتطبيق، الطبعة 1، القاهرة، 1996، ص138-139
[35]– صلاح بوسريف، شعرية الصمت الأفق الشعري للكتابة، فضاءات للنشر والتوزيع،عمان، الطبعة الأولى، 2021م، ص58.