ملخص:
يقف المتأمّل في المرويات الصوفيّة المسيحيّة والإسلاميّة عند ظاهرة الحضور المكثّف للحيوان، وهو حضور اقترن بمظاهر كثيرة لافتة من العجيب والغريب، فالحيوان يفقد هويّته المألوفة ليتّخذ هويّة جديدة يكتسب سماتها من خلال علاقته بالقدّيس أو الولي الصالح. وتتماثل المرويات وتتشابه حدّ التقاطع، وقد رأينا أنّ هذا الموضوع جدير بأن نخصّص له دراسة نحاول فيها تتبّع حضور الحيوان في المرويات الصوفيّة (المسيحيّة/ الإسلاميّة) مستأنسين بالمنهج المقارن.
الكلمات المفاتيح: الحيوان – الكرامة الصوفيّة – القديس – العجيب.
Abstract:
Meditating on Christian and Islamic mystical irrigations stands at the phenomenon of the intense presence of the animal, a presence that has been accompanied by many striking manifestations of wonder and strange. The animal loses its familiar identity to take on a new identity that acquires its characteristics through its relationship with Jerusalem or the good guardian. Irrigation is similar and similar to intersectionality, and we have seen that this topic deserves to be devoted to a study in which we try to track the animal’s presence in the mystical (Christian/Islamic) irrigators, who are endowed with a comparative approach.
Keywords: Animal – Woolly Dignity – Saint – Wonder.
1- مقدّمة:
تتشكّل العلاقة بين الإنسان والحيوان وفق نسق ثقافيّ خاصّ يستجيب فيها الحيوان إلى شروط اللحظة التاريخيّة والفكريّة، فيشهد عديد التحوّلات التي تفرضها طبيعة المقاربة التي يقدّمها الإنسان. تفقد بعض الحيوانات صورتها وخصائصها المألوفة في سياق ثقافيّ ما، فيحضر الأسطوري والمتخيّل والعجيب بدل الواقعيّ والمألوف، كما هو الشأن في سياق الحديث عن القدّيسين وأولياء الله في الفكر الصوفيّ المسيحيّ والإسلاميّ. فثمة روايات في الثقافتين حول علاقة خارقة بين رجل الكرامة والحيوان، تمّ الاحتفاء فيها بالعجيب والغريب. كما هو الشأن في الأثرين مدار هذه الدراسة (السنسكار / جامع كرامة الأولياء). فما مظاهر عجيب الحيوان في قصص القديسين وأولياء الله الصالحين؟ وهل ثمّة اختلاف بين التصوّر المسيحيّ والتصوّر الإسلامي؟
2- قراءة في مفهومي “العجيب” و”الكرامة”:
2- 1- العجيب (le merveilleux):
مثّل هذا المفهوم إشكالا لدى الباحثين، فاختلفت حوله المقاربات وأجمعت حول صعوبة حدّه[1]. ورد في شأنه أنّه من الفعل عجب ” والعُجْبُ والعَجَبُ: إنكار ما يرد عليك لقلّة اعتياده، وجمع العجب أعاجب.”[2]، وأصل العَجَب في اللغة أنّ الإنسان إذا ما رأى ما ينكره ويقلّ مثله قال: “قد عجبت من كذا”.. والعجبُ النظر إلى شيء غير مألوف ولا معتاد..”[3]. والعجب كما حدّه الراغب الأصفهاني ” العجب ما لم يعرف سببه .. وما لم يعهد مثله”[4]. تتقارب المعاجم الأخرى في تحديد هذا المفهوم بأنّه الأمر النّادر الحدوث الّذي يثير في نفس الإنسان الدهشة والاستغراب[5].
وقد اعتبر القزويني العجيب “حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو عن معرفة كيفية تأثيره فيه”[6].
2-2- الكرامة (Dignité):
ورد في أساس البلاغة للزمخشري حول مادة (ك،ر،م) ” كرم علينا فلان كرامة، وله علينا كرامة، وأكرمه الله، كرمه وأكرم نفسه بالتقوى وأكرمها عن المعاصي وهو يتكرّم عن الشوائن وإنّ أجلّ المكارم اجتناب المحارم هم الأطيبون الأكارم، يقال كارمت فلانا”[7].
وهي في مستوى الاصطلاح “ذات مفاهيم عديدة تتماثل وتتداخل وتلتقي كلّها في ذلك الفعل الخارق والسلوك المميّز الذي يعتقد بأنّ الله قد خصّ به صفوة من خلقه ألا وهم الأولياء الأتقياء”[8]. وتعرّف الكرامة من خلال المعجزة لإثبات الروابط المجودة بينهما ولتأكيد استمرار النبوّة في الولاية رغم الفوارق الكثيرة بينهما[9].
فالكرامة في المفهوم الصوفيّ أمر خارق يقوم به شخص صالح غير مدّع للنبوّة له قدرات عجيبة مصدرها الله تكريما له على إخلاصه في العبادة .
يبنى المفهومان ” العجيب” و” الكرامة” إذن على معنى الانزياح والخروج عن المألوف، وتتأسس العلاقة بينهما على معنى المفارق
3- السبع والتيس مطيّة:
جرت العادة أن تكون الخيل، والبغال، والحمير والإبل مطية الإنسان في حلّه وترحاله، ويخرج المشهد عن المألوف عند مشاهدته يركب غيرها، إمّا لطبيعة تركيبتها الجسميّة أو لطبيعتها العدوانيّة التي تحول دون ترويضها واستعمالها في هذا الغرض. غير أنّ بعض المرويات في القصص الصوفيّ تخرج بنا عن هذا العرف الاجتماعي، وتخبرنا بأنّ لأولياء الله القدرة على فعل ما نعتبره غريبا، فقد أصبح التيس والأسد والتمساح وغيرها من الحيوان مطيّة يستعملها وليّ الله في تنقله عندما تنعدم الوسيلة المألوفة.
ورد في سيرة أولياء الله الصالحين إنّ بعضهم قد اتّخذ الأسد مطيّة، فمن كرامات الوليّ محمّد الصعيدي ” أنّ الأسد سُخّر له يركبه متى شاء”[10]. وذكر النبهاني في جامع كرامات الأولياء في السياق نفسه أنّ من كرامات شيبان الراعي قدرته على تسخير الأسد لخدمته “عن سفيان الثوري قال “خرجت حاجا أنا وشيبان الراعي فلمّا صرنا ببعض الطريق إذا نحن بأسد قد عرضنا، فقلت لشيبان” ما ترى هذا الأسد قد عرض لنا” فقال ” لا تخف يا سفيان” فما هو إلاّ أن سمع كلام شيبان فبصبص وحرّك ذنبه مثل الكلب، فالتفت إليه شيبان وعرك أذن . فقلت له ما هذه الشهرة؟ فقال “وأيّ شهرة هذه يا ثوريّ، لولا كراهيّة الشهرة ما حملت زادي إلى مكّة إلاّ على ظهره”[11]. تبدو لنا هذه الوضعيّة قائمة على إخضاع هذا السبع الضاري، فالولي الصالح يتمتّع بقدرة تجعله يستوي على ظهر هذا السبع ويتخذه مطيّة.
ولم يحد النصّ الثقافي الدينيّ في المسيحيّة عن هذا المسار، فقد ورد في المرويات الحديث عن سير القدّيسين[12] أنّ لبعضهم أثرا كبيرا في الحيوان، فيتحوّل هذا الكائن ببركتهم إلى خادم أمين، وإلى كائن ذلول مطواع. لأنّهم يحملون رائحة الفردوس، ومباركة الربّ يسوع. فقد رُوي في سيرة القدّيس أَبَّا أبيللين (Abba Apellen) أنّه “كان يفتقد الإخوة الذين كانوا يعيشون بالقرب منه في البرية من حين إلى آخر. في إحدى المرات كان مشتاقًا أن ينطلق إلى بريته، وأن يحمل بعض البركات الضرورية التي قدمها إليه الإخوة. وإذ كان سائرًا في الطريق وجد بعض التيوس تأكل فقال لهم: »بِاسْمِ يَسُوعَ المَسِيحْ لِيَأْتِ أَحَدُكُم وَيَحْمِلْ هَذَا الحِ « ، وللحال جاءه تيس منهم، فوضع يديه على ظهره وجلس عليه، وسار به إلى مغارته في يوم واحد.[13] نتوقف في هذه الرواية “المقدّسة” عند نقطتين، أولاهما التواصل اللغوي بين القدّيس والحيوان “التيوس” وهي من النقاط التي باتت مألوفة في سياق المتخيّل النصّي، وفي سياق المفاهيم الخاصّة بعالم القداسة. فالقديّس يمتلك قدرة ممنوحة من الرّبّ على إحداث الغريب والمفارق. أمّا النقطة الثانيّة، فتتمثّل في استعمال التيس مطيّة، وهو ما يعني درجة النقلة الثانيّة التي طرأت على الحيوان، فليس من وظائف التيس أن يكون مطيّة، بل هو مصدر للطعام والشَعر. فالقديّس وهو يركب التيس، يأخذنا إلى عالم من الرمز، يحدّد ملامحه السياق النصيّ أو ما يمكن تسميته بالنصّ الرحم (النصّ المقدّس) الّذي تحدّث في ثناياه عن تيس الخطيئة “تيس عزازيل” وهو تيس يقوم الكاهن بوضع يده على رأسه ويعترف بذنوب بني إسرائيل، ثمّ يتمّ إطلاقه في الصحراء[14]. وما ركوب القديّس التيس إلاّ سمو على الخطيئة ويعكس هذا التحوّل في المستويين (التواصل اللغوي+ الركوب) علامة خرق للمألوف.
وورد في سيرة القدّيس أبيللين أنّه “ذهب إلى جماعة رهبان في أول الأسبوع فوجدهم لا يتممون الأسرار المقدسة، فانتهرهم قائلًا: “لماذا لا تتممون الخدمة؟” أجابوا: “لأنه لم يأت إلينا كاهن من عبر النهر”، عندئذ قال لهم: “إني أذهب وأستدعيه” أجابوه: “يستحيل أن يعبر شخص النهر من أجل عمقه ومن أجل التماسيح التي تقتل البشر ” . فذهب إلى المكان الذي يتم منه العبور، وجلس على ظهر تمساح وعبر”[15]. وفي رواية أخرى أنّه “جاء إلى النهر ولم يجد قاربًا يعبر به، وإذ بأبيللين ينادي التمساح بصوته فأطاع وجاء إليه، وكان مستعدًا ليحمل على ظهره الرجل القديس. توسل الطوباوي لدى الكاهن أن يأتي ويجلس معه على ظهر التمساح لكنه خاف وتراجع. أما الإخوة الساكنون في الجانب الآخر فإنهم إذ رأوا الطوباوي يجلس على ظهر التمساح في الماء، وقد عبر به إلى البر وخرج خافوا. قال الطوباوي للتمساح: “إنك قتلت كثيرين لذلك فالموت هو أفضل شيء لك”، وللحال مات الحيوان (دون أن يمسه أحد)”[16]. تتفق الروايتان حول ركوب القديّس ظهر التمساح وعبور النهر، وهو ما يعني أنّ تحوّلا ما حدث في سلوك هذا الحيوان، فتحوّل من سبع معاد للإنسان إلى كائن مطيع. وتظهر التفاصيل عند قراءة السياق الروائي، ففي الرواية الأولى كان ركوب ظهر التمساح وليد تحدّ للجماعة الباحثة عن معجزة وعلامة، أمّا في الرواية الثانيّة فالأمر كان حلاّ لتعويض غياب مركب لعبور النهر. وقد لا تكون هذه المقامات الروائيّة ذات شأن مهمّ في مقابل التركيز على الحدث (ركوب القدّيس التمساح). وهذه سمة القصص الديني القائم في أغلبه على الوعظ، فالمتواري خلف الرواية طرفان هما الراوي والمرويّ له، فالراوي يجتهد ليوصل فكرة أنّ الرّب يمنح أولياءه كرامات، على المتقبّل أن يجتهد للالتحاق بدائرة المصطفين. ويكون هذا النوع من الخطاب منتشرا أثناء نشر تعاليم الديانة. فتشتغل عقليّة رجال الدين على تقديم خطاب مشحون بالعاطفة يسهّل فهم الدين ويرغّب فيه.
نلاحظ أنّ للصوفيّ في النصّين المسيحيّ والإسلاميّ قدرة على ترويض السباع وتطويعها ليعتليها ويتخذها مطيّة، فتتشابه القصص والأحداث وأسماء السباع، ولا يختلف إلاّ اسم الصوفيّ.
4- السبع يخاف الصوفيّ:
يمثّل خوف الإنسان من بعض الحيوانات شعورا طبيعيّا، فلا يمكن له أن يتصدّى لها إلاّ في مجموعة من بني جنسه، أو مسلّحا. لذلك يعتبر كلّ شخص يحقق تواصلا مع هذا النوع من الحيوانات أو نصرا عليها بمفرده قد قام بخرق المألوف. وعادة ما نجد هذه الظاهرة منتشرة في مستوى الأساطير والخرافات الشعبيّة، نظرا إلى طابعها الخياليّ، فيمنح البطل فرصة التميّز على غيره من أفراد المجموعة عبر انتصاره على الوحش. أمّا في مستوى التراث الدينيّ فإنّ وجود هذه الظاهرة يدرج ضمن تقنيّة الكرامة الإلهيّة وهي سرّ من أسرار القداسة. وهي ظاهرة مشتركة بين المخيالين المسيحيّ والإسلاميّ.
ورد في سيرة أولياء الصالحين أنّ الأسد خضع لبعضهم، وتحوّل من حالته الطبيعيّة إلى حالة مغايرة. فمن كرامات الوليّ الصالح عبد الله بن عمر ” كما قال السبكي في الطبقات أنّه قال للأسد الّذي منع الناس الطريق “تنح” فبصبص بذنبه وذهب”[17]. و “من كراماته رضي الله عنه أنه خرج في سفر، فبينما هو يسير إذا أسد على الطريق قد حبس الناس فاستخف راحلته ونزل إليه فعرك بأذنه ونحاه عن الطريق”[18]. وتتكرّر القصّة نفسها مع الوليّ الصالح شيبان الراعي[19] ومع ابي يعزى الهسكوريّ الذي نقل السراج عن كراماته ” روينا أنّ الشيخ أبا يعزى المغربي قدّس الله روحه كانت الأسد تاوي إليه والطير تعكف عليه فشكى إليه الحطابون كثرة الأسد في الغابة . فأمر خادمه بأن ينادي بأعلى صوته في طريق الغابة ” معاشر الأسد إنّ أبا يعزى يأمركم أن ترحلوا من هذه الغابة” ، فكانت الأسد تُرى خارجة تحمل أشبالها حتى نفدت ولم يبق فيها أسد بعد ذلك”[20]. وفي السياق نفسه تكثر القصص التي تروي علاقة الولي الصالح بالسباع، فقد ذكر النبهاني أن “كثيرا من السباع كانت تأتي إلى أبي سهيل التستري، فكان يطعمها حتى سمي بيته بدار السباع”[21] وذكر أيضا أن السباع كانت تسمع كلام الوليّ إبراهيم بن الأدهم وتطيع أوامره”[22].
تتشابه قصص الكرامات في هذا السياق وكأنّنا بالواحدة منها تستنسخ الأخرى ولا اختلاف إلاّ في اسم الوليّ صاحب الكرامة، وقد علّق الباحث المغربي رضوان باتو على هذه الظاهرة بقوله : “هل نحن أمام روايات متشابهة أو كرامات متناظرة ، وهل الكرامات نفسها تنتقل من جغرافية إلى أخرى؟ أم أنّ الأفكار تنتشر بفعل عوامل عدّة، منها الهجرة، والحروب، والمجاعات والأمراض؟” [23] لقد استنسخت كلّ جماعة الأحداث الكبرى وأسندتها إلى وليّها الصالح.
ولم تخرج المنظومة الثقافيّة الدينيّة المسيحيّة عن هذا النسق الفكريّ والمتصوّر العقدي، فقد ورد في سيرة القدّيس سابا أنّه :” ذهب فتوغّل في صحراء قاحلة حيث وجد مغارة على سفح جبل، فدخلها وأقام فيها. فما إن سجد ليشكر الله على ما أنعم به عليه من تلك الخلوة والسكينة، حتّى رأى أسدا هائلا يدخل عليه، وكانت تلك المغارة عرينا له: فلم يضطرب سابا لرؤيته ولم ترتعد فرائصه، لأنّ رجال الله يضعون ثقتهم كلّها في الله. فبادر الأسد بالكلام وقال له: لا تغضب، فالمحل يتسع لي ولك. فحدّق فيه الأسد بعينيه الكبيرتين، ولوّح بذنبه، ثمّ أدار رأسه وترك القديس في عرينه ومضى”[24]. وكذا الشأن مع القديّس دنيال الّذي ورد في سيرته ” فطرحوا دنيال في جب الأسود، فلمّا كان الغد، قام الملك عند الفجر وذهب إلى جب الأسود، ليرى ما حلّ بدنيال […] فناداه باسمه. فأجابه دنيال وقال:” أيّها الملك، حييت إلى الأبد. إنّ إلهي أرسل ملاكه فسّد أفواه الأسود، فلم تؤذني”[25].
كما ورد في سيرة القديسين أنّ أوّل شخص جذبه القديس مارمرقس إلى الإيمان هو أبوه أرسطو بولس، “بينما كانا سائرين في طريقهما إلى الأردن لاقاهما أسد ولبؤة في الطريق. فعرف أرسطو بولس أن نهايته نهاية مرقس قد اقتربت، فقال له: [اهرب يا ابني لتنجو بنفسك، واتركني أنا لينشغل هذان الوحشان بافتراسي]. فقال مرقس لأبيه: [إن المسيح الذي بيده نسمة كلّ منا، لا يدعهما يقعان بنا]. ثم صلى قائلا: [أيها المسيح ابن الله أكفف عنا شر هذين الوحشين، واقطع نسلهما من هذه البرية]. واستجاب الله صلاته في الحال. فانشق الوحشان، وانقطع نسلهما من تلك البرية “[26].
وورد في قصص انتصار القديسين على سباع الحيوان أنّ القدّيس ثاوذورس “ذُكر أمامه يوما أنّ تنينا هائلا يخرج كلّ يوم في بعض المواضع وينقضّ على الناس والبهائم فيفترسهم. فحملته شجاعته على مهاجمته وإراحة الناس من شره. فصام وصلّى وتوكّل على الرب، وركب حصانه وراح يطلب ذلك التنين الضاري. فخرج إليه ذلك الوحش الهائل كعادته. فلما رآه ثاوذورس صرخ قائلا: باسم يسوع الناصري أنا أهاجمك. وصال حوله، ثمّ انقضّ عليه بسيفه فطرحه وقتله”[27]. وتتكرّر التفاصيل نفسها تقريبا في قصّة القديس فرانسيس مع الذئب. ورد في سيرة هذا القديس إنّه “عندما عاش في بلدة جوبيو، كان الذئب يرهب المنطقة من خلال مهاجمة الناس والحيوانات الأخرى وقتلهم. قرر فرانسيس لقاء الذئب في محاولة لترويضه. غادر غوبيو واتجه نحو الريف المحيط، مع العديد من الناس يراقبون. الذئب اتهم لفرنسيس مع الفك مفتوحة في اللحظة التي التقيا فيها. لكن فرانسيس صلى وجعل علامة الصليب، ثم تقدم أقرب إلى الذئب ونادى بها: “تعال هنا الذئب الأخ. أنا أوصيكم في اسم المسيح أنك لا ضرر لي أو لغيرها. “وأفاد الناس أن الذئب يسمع على الفور عن طريق إغلاق فمه، وخفض رأسه، والتقدم ببطء نحو فرانسيس، ثم الاستلقاء بهدوء على الأرض بجوار قدم فرانسيس. ثم استمر فرانسيس في التحدث إلى الذئب بقوله: “الذئب الأخ، ستلحق الكثير من الضرر في هذه الأجزاء، وقد ارتكبت جرائم كبيرة ، ودمرت ذبح مخلوقات الله دون إذنه … لكنني أرغب، يا أخي الذئب، لجعل السلام بينك وبينهم حتى لا تسيء إليهم ، وأنهم قد يغفرون لك جميع جرائمك السابقة ، ولا يلاحقك أي من الرجال أو الكلاب بعد الآن. “بعد أن استجاب الذئب من خلال رضوخ رأسه، وتحريك عينيه، وتهويل ذيله للإشارة إلى أنه قبل كلمات فرانسيس… وبعد ذلك، عاش الذئب لمدة عامين في غوبيو قبل أن يموت في سن الشيخوخة[28].
يمثّل خروج الحيوان عن حالته الطبيعيّة، وارتداده نحو فقدان القوّة المألوفة بفعل حضور قوّة مضادّة (تفوق قوّته)، مستمدّة من البركة الإلهيّة. فالإله المنتصر على اللوثيان (التنين)[29] في الكتاب المقدّس تستمرّ قوّته سندا للمختارين من عباده. “ويُعدّ تدخّل الرب في التاريخ من أجل إنقاذ أنبيائه ورسله وعباده الصالحين قاعدة عملت الأديان على تأكيدها وترسيخها في الفضاء الإيماني”[30].
وتعود هذه القاعدة النظريّة التي يعمل الخطاب الصوفيّ على تقديمها إلى طبيعة الخطاب الدعوي/ التبشيري القائم على ترغيب الناس في الانخراط في دائرة الإيمان بالربّ وتعاليمه من أجل ضمان مساعدته ومحبّته. وهذه الآليّة لم تبق مسيّجة بالنصّوص المقدّسة بل امتدت لتكون الآليّة نفسها المنتجة للخطاب الوعظي والمتحكّمة فيه. كما أنّ لهذه الظاهرة (صراع الصوفيّ مع الوحش) جذورا تاريخيّة فأسطورة التنين موجودة في كلّ أساطير العالم القديم،وقد شهدت تطوّرا، فبعد أن كانت محصورة في عالم الآلهة وقصص الخلق أصبحت جزءا من تاريخ البشر، حيث تبرز أساطير صراع “الأبطال” -من أنصاف الآلهة والبشر –ضدّ التنين الذي اتخذ هو الآخر أشكالا أخرى يمكن أن نطلق عليها اسم “الوحش”. “وهذا يفضي إلى القول إنّه، في سياق تطور الفكر الأسطوري، تمت عملية “إبدال” التنين (الرب) بالتنين (الوحش) وإبدال الإله (مصارع التنين) بالبطل (الأسطوريّ والملحمي)”[31]. فينفتح الدينيّ على الكونيّ عبر إخراج الهيكلة القصصية من سياقها التاريخيّ الأسطوريّ وشحنها بمادة دينيّة جديدة، فيصير البطل ذا ملامح مسيحيّة ويخرج فعل الخرق ليصبح علامة دالة على تدخّل الربّ. وتخرج صورة الرسول من دائرة النصّ المقدّس لتصبح قناعا لكلّ صوفيّ. فيشتغل القاص لسير القدّيسين والأولياء الصالحين على آليّة الشبَه المتكرّر، فيتخذ الرسول أو النبي موقع الأنموذج الأصلي والقديسون أو الأولياء الصالحون موقع الشبه. فتختلف الأسماء والأمكنة والأزمنة وتحافظ الصورة على وحدتها.
5- الحيوان ينتصر للصوفيّ:
نقف أثناء قراءة وظائف الحيوان في الكتب المقدّسة عند ظاهرة خدمته للأنبياء، وكيف أنّ بعض الحيوانات عُرفت بطبيعة علاقتها بالأنبياء. ويبدو أن هذه القاعدة انسحبت أيضا في مستوى النصوص الحواف، فنجد أنّ بعض قصص القدّيسين والأولياء الصالحين عملت على جعل الحيوان يتدخّل في أحداث القصّة ليأخذ موقع المنقذ، فاختلفت السياقات ولم تتغيّر ملامح الفعل المقدّس.
ورد في سير أولياء الله الصالحين أنّ من كرامة بعضهم تدخّل الحيوان لإنقاذهم، يروي الصوفيّ أبو الحسن علي بن محمّد المزين الصغير ” أنّ أفعى سُخّرت له لتخلّصه، يقول ” كنت في بادية تبوك فتقرّبت إلى بئر لأستقي منها فانزلقت رجلي فوقعت في جوف البئر، فرأت في البئر زاوية واسعة فأصلحت موضعا وجلست عليه وقلت “إن كان منّي شيء لا أفسد الماء على الناسن وطابت نفسي سكن قلبي. فبينما أنا قاعد إذا بخشخشة، فتأملت فإذا بأفعى تنزل على البئر فراجعت نفسي فإذا هي ساكنة، فنزلت ودارت بي وأنا هادئ السير لا يضرب عليّ. ثمّ لفت بي ذنبها وأخرجتني من البئر وحللت عنّي ذنبها، فلا أدري أرض ابتلعتها أو سماء رفعتها؟ وقمت فمشيت”[32].
وورد في سيرة الوليّ الصالح محمد بهاء الدين شاه تشقبند أنّ كلّ من يمدّ رجليه في الاتجاه الّذي يكون فيه الشيخ يُعاقبه الثعبان ” نُقل عن بعض أصحابه أنّه قال ” لمّا تشرفت بصحبته قدّس الله سرّه كان الشيخ شادي أحد أجلاء أصحابه كثيرا ما يعظني وينصحني ويؤدبني، فممّا أمرني به أن لا يمدّ أحد منّا رجله إلى جهة يكون فيها الشيخ, فأتيت يوما من غزيوت إلى قصر العرفان في وقت شديد الحرّ لزيارته، فآويت إلى ظلّ شجرة في الطريق واضطجعت، فجاء حيوان فلدغني في رجلي مرتين فقمت وقد تألمت ألما شديدا ثمّ اضطجعت فعاد مرّة ثالثة كذلك, فجلست أتفكّر في سبب ذلك مدّة حتّى تذكرت نصيحة الشيخ شادي ووجدت أنّي قدد مددت رجلي إلى ناحيّة قصر العرفان”[33].
وورد في سيرة الوليّ أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي أنّه منع أصحابه من قتل صغير الفيل ” فتعدوا أقوال الشيخ وقبضوا على فيل صغير منها وذكوه وأكلوا لحمه وامتنع الشيخ من أكله، فلمّا ناموا تلك الليلة اجتمعت الفيلة من كلّ ناحية وأتت إليهم فكانت تشمّ الرجل منهم وتقتله، حتّى أتت على جميعهم وشمت الشيخ فلم تعرض له، وأخذه فيل منها ولف عليه خرطومه ورمى به على ظهره، وأتى به الموقع الّذي فيه العمارة، فلمّا رآه أهل تلك الناحيّة عجبوا منه واستقبلوه ليعرفوا أمره، فلمّا قرب منهم أمسكه الفيل بخرطومه ووضعه عن ظهره إلى الأرض”[34].
وفي المرويات أيضا أنّ الوليّ الصالح محمد بن عثمان “كان كلّ من تشوش منه يقول للقمل “يا قمل اذهب إلى فلان فتمتلئ ثياب ذلك الشخص قملا حتى يكاد يهلك”[35].
كما نقل لنا النبهاني في سيرة الوليّ الصالح محمد بن عبد الله بن العلوي كيف دافعت الحيّة عن النذر الخاص به “ومنها أنّ بعض الناّس نزل على بدو فأضافوه بعيش بغير صبغ قالوا ” ليس عندنا إلاّ السمن الذي نذرناه للسيّد محمد بن عبد الله.” فقال ” آخذ بيدي” فلمّا مدّ يده إليه فإذا بحيّة تسعى إليه، فاستغفر عمّا جرى، فرجعت الحيّة عنه”[36].
يتحوّل الحيوان في القصص الصوفي الإسلامي إلى خادم أمين للوليّ الصالح، يدافع عنه ويحرسه وسلاحا في وجه خصومه، وفي ذلك صدى النصوص المقدّسة التأسيسيّة التي أسست لخطاب نصرة الله لأوليائه الصالحين.
ولم يختلف الأمر في المرويات الصوفيّة المسيحيّة، فقد ورد في سيرة القدّيسة إيريني (Irène) ” وكانت إحدى جواري الفتاة إيريني مسيحيّة، فعلّمتها ديانة المسيح، فآمنت به وشغفت بحبّه، ونذرت إليه بتوليتها، واصطفته عريسا لها. […] فعلم أبوها بذلك فجُنّ جنونه، […] فأمرها أن تكفر بديانتها الجديدة، فاعترفت بالمسيح بلا خوف ولا وجل. […] فامر بها، فرُبطت إلى ذنب حصان جموح، وأُطلق الحصان لكي يجرّها وراءه ويهشّم جسدها. إلاّ أنّ ذلك الحيوان ارتدّ على أبيها ليكينيوس القاسي، وعظّه في يده فقطعها، فوقع مغشيّا عليه وما لبث أن فاضت روحه”[37].
تبدو لنا هذه القصّة في ظاهرها منخرطة في السياق الوعظيّ نفسه، فقد حوت حدث تدخّل العجيب، فــ “الحصان الجموح” يعود إلى وضعه الطبيعيّ[38]، ويقع التحوّل في مستوى تدخّله من أجل إنقاذ القديسة. لكن إذا ما حاولنا مقارنتها ببقيّة القصص الأخرى الحاملة للموضوع نفسه -المتمثّل في حضور الحيوان في قصص القدّيسين- سنلاحظ الحضور السافر لثنائيّة الأنوثة والذكورة. ففي القصص الأخرى يتغلّب القديس (الذكر) على الوحش (الحيوان)، أمّا في هذه القصّة فإنّ الحيوان يتدخّل لينقذ الأنثى. فالأنثى لم تبد أيّة حركة في مواجهة وضعها أمام الحصان بل بدت مستسلمة خاضعة. وهو ما يعني أن هذه القصص ذات هويّة ثقافيّة ذكوريّة. ويمكننا إثبات ذلك بما ورد في سيرة القديسة العذراء طاتباني، فقد وورد في سياق الحديث عن كراماتها” أن الوالي أراد أن يجعلها عبرة لكلّ من يؤمن بالمسيح، ويرفض عبادة الأوثان، فطلب أن يحضروا أسدا ضاريا، ويُترك بلا طعام لمدة ُ ثلاثة أيّام ، ثمّ يُطلق على هذه العذراء في ساحة الاستشهاد أمام الجماهير ورجال الدولة. جاء الموعد المحدّد، وكان الكلّ يترقب لحظة انطلاق الأسد الجائع ليلتهم العذراء. بينما كان الكل يترقب هذه اللحظة وقفت القديسة تصلي في وسط الساحة وقد وهبها الله نعمة الثبات. وظهر على ملامحها السلام الحقيقي.انطلق الأسد الجائع وقد هزّ الساحة بزئيره وسرعة انطلاقه ليفترس أحدًا. لكن صُعق الكل حينما رأوه قد انطلق نحو هذه العابدة لينحني برأسه في خشوع ويُعلق بلسانه قدميها كقطٍّ أليف يود مداعبتها له”[39].
6- الصوفيّ وفقه كلام الحيوان وتسبيحه:
تذهب الكتب المقدّسة إلى كون كلّ ما في الكون خاضعا لقدرة الربّ، ومنخرطا في التسبيح باسمه. لذا فلا غرابة أن ترحل هذه الصورة من النصّ المركز إلى النصّ الحاف، ففي النصوص الصوفيّة ينفتح الصوفيّ على أسرار هذه التجربة ويُرفع بينه وبين الكائنات المسبّحة الحجاب، فصار يفهم كلامها.
روي عن الصوفيّ ابي سليمان الخواص أنّه قال ” كنت راكبا حمارا لي يوما وكان يؤذيه الذباب فيطأطىء رأسه، فكنت اضرب رأسه بخشبة كانت في يدي، فرفع الحمار رأسه وقال لي “اضرب فإنّك على رأسك تُضرب.” قيل له “يا أبا سليمان وقع لك ذلك ام سمعته؟” فقال “سمعته كما تسمعني”[40].
وورد في سيرة القديّس أنطونيوس البادوي (Antoine de Padoue) “أنّه لمّا رأى إصرار الكثيرين على تصلّبهم وعناد قلوبهم، هتف بالجموع الملتفة حول منبره وقال: من أراد أن يرى عظائم الله فليتبعني إلى مصبّ النهر.[…] حدّق بناظريه إلى الماء وقال: أيّتها الأسماك النهريّة والبحريّة اسمعي. […] حتّى أقبلت جموع الأسماك […] “أيّتها الأسماك بأيّ آيات من الشكر والامتنان يجب عليك ان تسبّحي وتمجّدي الله، الّذي جعل لك هذه الأنهار العظيمة مسكنا تأوي إليه، أنت خلّصت النبي يونان من الغرق، أنت قدّمت الدرهم لبطرس هامة الرسل وبه أدّى الرسوم عنه وعن معلّمه الإلهي، أنت صرت غذاء لملك الملوك. فسبّحي الربّ وباركيه، لأنّه أسبغ عليك نعمة أكثر من غيرك…” فاهتزت الأسماك، وحرّكت رؤوسها وأذنابها، وضربت الماء بأفواهها ، وهكذا جعلت تمجّد الربّ بطريقتها”[41].
تدور تفاصيل هذه الرواية حول استعمال القدّيس للأسماك حجّة على عظمة الربّ، فنلاحظ افتتاحه الخطاب بالتذكير بالمكانة المقدّسة للسمك في الكتاب المقدّس، أي ذكر وضعها في النصّ المركز، ثمّ يطلب منها أن تعبّر عن شكرها للرّب، وكانت النتيجة أنّ استجابت الأسماك إلى طلبه، فشرعت في تمجيده على طريقتها. وقد ذكرت هذه القصّة في سياق الشاهد على اعتراف الحيوان بجميل الربّ ونعمه عليه، في مقابل جحود الجماعة العاصية. تدور أحداث الرواية في فلك قراءة إيمانيّة الغاية منها خلق فضاء من الدعوة إلى الله عبر تقنيّة المتخيّل القصصي. وتظهر مع ذلك ملامح ترتيب جديد للكون:
ورد في سيرة القديس فرانسيس تواصله مع الطيور أثناء الكرازة :” تجمع أسراب الطيور أحيانًا بينما كان فرنسيس يتحدث ، و “زهور القديس فرانسيس الأسيزي الصغير” تسجل أن الطيور استمعت باهتمام إلى خطب فرانسيس . “سانت رفع فرانسيس عينيه، ورأى على بعض الأشجار على جانب الطريق مجموعة كبيرة من الطيور. وكونه مندهشاً للغاية، قال لأصحابه: “انتظروني هنا في الطريق، بينما أذهب وأكرز لأخواتي الصغيرة”. ودخل إلى الحقل، وبدأ في الوعظ للطيور التي كانت على الأرض، وفجأة جاء جميع هؤلاء على الأشجار، واستمع الجميع حين كان القديس فرانسيس يبشر لهم ، ولم يطير بعيدا حتى أعطى عندما كان يكرز للطيور ، كان فرنسيس يذكّرهم بالطرق العديدة التي باركها الله بها ، ويختتم خطبته بقوله: “احذري يا أختي الصغيرة من خطيئة الجحود ، ودرسوا دائمًا إعطاء الثناء على الله”[42].
تبدو لنا علاقة القديس بالحيوان في المتخيّل الديني المسيحيّ قائمة على قاعدة التجاوز والعجيب، فالسباع تخرج عن حالتها الطبيعيّة لتنخرط في دائرة خدمة الإنسان المبارك، من أجل إظهار قدرة الرب على حماية المؤمن به. ولكن ما يجب أن نشير إليه هو انفتاح هذه النصوص على النصوص الأسطوريّة القديمة، فقد ذكرت الباحثة رويدة فيصل موسى النوّاب أنّه: “ظهرت أشكال للأسود بهيئات مختلفة في بعض الأختام لاسطوانيّة ولاسيما التي تعود إلى عصر سلالة أور الأولى […] وهي جزء من حكايات أسطوريّة ترتبط بملحمة كلكامش والصراع بين الخير والشر […] وقد برزت مشاهد الصراع بين القوّة والضعف بشكل كبير في العديد من الأختام الاسطوانيّة في هذه الحقبة التاريخيّة المهمّة، وقد صوّرت البطل الأسطوريّ وهو يمسك بالأسود. ويعود هذا الختم إلى حوالي 2700 قبل الميلاد”[43]. وذكرت أيضا انخراط الأسد في مشروع التعبّد ومشاركة الإنسان طقوس العبادة: “فضلا عن الأسد حاملا بيده آنية كأنّه في دور طقوسيّ دينيّ يختلف عن أدواره الطبيعيّة السابقة في البطش والقتل ويحمل بيده الأخرى آنية ليشارك الآخرين في مراسم التعبّد”[44].
نلمس كذلك الانفتاح على الأسطوريّ من خلال الدور البطوليّ الّذي يقوم به القديّس فيتحد في صفاته مع البطل الملحميّ ” فالبطوليّ عظيم المكانة قويّ البنيّة، عزيز النفس، كامل الخلق والخلقة، على الرغم من اشتراكه في الصفات الإنسانيّة مع باقي الناس، إلاّ أنّه يتميّز منهم بصفات أخرى لا يملكونها وهي خاصّة به، فالقدرة على لتضحيّة بالذات وحمل آمال لآخرين مكابدة المشاق، والدخول في المغامرات، ومخاطرات من أجل الآخرين، هي أشياء لا يمكن لأيّ إنسان القيام أن يقوم بها، أو أن يتصف بها[…] مستفيدا من اتحاد الجوهرين الأصليين المكونين له، ألا وهما الإلهي والإنسانيّ مع ميل واضح إلى الجوهر الإلهيّ”[45]. وفي الأسطورة أو الملحمة يتمّ الانطلاق من ” تصوير ميلاد البطل المعجز والقوّة الهائلة التي ترعاه، كما أنّ النبوّة أو المعجزة تكشف عن مستقبله والدور الخطير الّذي سيقوم به، من أجل تحقيق مكسب جماعيّ، إنّه نموذج إنسانيّ يحمّل نفسه قوّة عظيمة تنمو معه وتدفعه إلى أن يحقّق الكثير المعجز، ولا غرو أن ترقب الآلهة في عليائها سلوك البطل وأعماله، فتتدخل في اللحظة التي يحتاجها فيها”[46]. وهكذا تهاجر النصوص الأسطوريّة لتتخذ لبوسا دينيا.
7- خاتمة:
احتفى الخطاب الصوفيّ المسيحيّ والإسلاميّ بحضور واضح للحيوان، وقد كان هذا الخاطب مجالا تجري فيه الكرامة، فحضر الطير، والسبع، والحمار، والكلب، والحيّة، والتيس، والفيل، والقمل، والتمساح، والفرس… وما شدّ انتباهنا هو ذلك التشابه بين القصص في المرويات المسيحيّة والإسلاميّة، حتّى بدا لنا بعضها يكرر الأخر، ويمكننا القول إنّ ذلك يعود أصلا إلى التجاور الثقافيّ الحضاريّ للديانتين، وإلى التداول الشفويّ. كما لا حظنا أنّ الحيوانات في المرجعيتين المسيحيّ والإسلاميّ قد فقدت هويّتها المألوفة واكتسبت هويّة جديدة بفضل حضور القديس أو وليّ الله. وتبقى هذه التحوّلات التي شهدها الحيوان في الخطابين خاضعة إلى منطق واحد هو تدخل الله في التاريخ من أجل مساندة أوليائه الذين اختاروا منهج الرسل والأنبياء.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
- عساف ميخائيل، كتاب السنكسار، منشورات المكتبة البولسيّة، 2003
- النبهاني (يوسف بن إسماعيل)، جامع كرامات الأولياء، تحقيق عبد المطلب الأمين الزائدي، دار صادر، بيروت، (د-ت).
المراجع:
- حمود عزيز (كارم): أساطير اليهود، مكتبة النافذة، مصر، ط1، 2011.
- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق بيروت، ط1، 1416هـ .
- رضوان باتو، سيرة صوفي أمي (أبي يعزى الهسكبوري) وردود أفعال المجتمع تجاه طقوس الاحتفال بموسمه الديني، مجلة أنثربولوجيا، مج6 عدد 1 سنة 2020.
- زيعور (علي)، الكرامة الصوفيّة والأسطورة والحلم، ط2، دار الأندلس بيروت 1984.
- الزمخشري ( محمود بن عمر)، أساس البلاغة، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1، ،1998 .
- سالم نبيل إبراهيم، البطولة في القصص الشعبي، دار المعارف مصر، 1977.
- السعفي (وحيد)، العجيب والغريب في كتب تفسير القرآن، تونس، تبر الزمان، 2001.
- سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسية st-takla.org
- القزويني (زكرياء)، عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات، بيروت 1973.
- ملطي (تادرس يعقوب):”قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض الشخصيات الكنسيّة” نشر كنيسة مارجرجس بإسبورتنج، 2001.
- المسعودي (حمادي)، الحكايات العجيبة في رحلة ابن بطوطة، المطبعة الرسميّة للجمهورية التونسيّة، سلسلة أطروحات منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، فيفري 2001.
- ميلود (حكيم)، الكرامة الصوفيّة في منطقة تلمسان دراسة انتروبولوجيّة سميائيّة ، جامعة أبي بكر القائد 1998، الجزائر
- ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص69- 70، الدار المصريّة،
- النفاتي (نجم الدين)، الحيوان في الكتب المقدّسة، دار المنتدى للنشر، 2021.
- النواب (رويدة فيصل موسى )، الأسد في الفكر العراقي القديم: دراسة تاريخية تحليليّة، مجلة آداب العدد 98.
[1]– أقرّ الباحثان التونسيّان حمّادي المسعودي ووحيد السعفي في بحثيهما (الحكايات العجيبة في رحلة ابن بطوطة / العجيب والغريب في كتب التفسير) أثناء الوقوف عند مفهوم العجيب بأنّ هذا المفهوم مثّل إشكالا في مستوى حدّه، ذلك أنّ دلالة هذه الكلمة قد تختلف من عصر إلى عصر، من بيئة إلى أخرى، كما يمكن أن تختلف من شخص إلى آخر .. وقد استدلا على ذلك بما ورد في كتاب “الغريب والعجيب في الإسلام في القرون الوسطى.” الكتاب الّذي جاء حصيلة ملتقى حول العجيب في القرون الوسطى. والّذي خلص فيه الباحثون إلى اتساع المفهوم واختلاف مقارباته.
[2]– ابن منظور، لسان العرب، ج1، مادة (ع،ج،ب)
[3]– ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص69- 70، الدار المصريّة،
[4]– الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق بيروت، ط1، 1416هـ .، ص418.
[5]– سوف نكتفي بهذا التحديد لما لمسناه فيه من دلالة تفي بالغرض.
[6]– القزويني (زكريا)، عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات، بيروت 1973.
[7]– الزمخشري (محمود بن عمر)، أساس البلاغة، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1، ،1998 ص54.
[8]– عبد النبي (صالح علي)، مفهوم الكرامة الصوفيّة.
[9]– ميلود (حكيم)، الكرامة الصوفيّة في منطقة تلمسان دراسة انتروبولوجيّة سميائيّة ، جامعة أبي بكر القائد 1998، الجزائر، ص44.
[10]– النبهاني (يوسف بن إسماعيل)، جامع كرامات الأولياء، تحقيق عبد المطلب الأمين الزائدي، دار صادر ،بيروت، (د-ت)، ص194.
[11]– التبهاني، مرجع سابق ص99.
[12]– يندر استعمال لفظ “قدّيس” بمعناه المطلق في العهد القديم، وكان مقصورا على مُختاري الأزمنة الأخيرة. (معجم اللّاهوت الكتابي، (مادة :قدّيس) .
[13]– ملطي (تادرس يعقوب):”قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض الشخصيات الكنسيّة” نشر كنيسة مارجرجس بإسبورتنج، 2001، ص353.
[14]– انظر (لاوي 16: 20-24)
[15]– ملطي (تادرس يعقوب) مرجع سابق، ص354.
[16]– ملطي (تادرس يعقوب): مرجع سابق، ص354.
[17]– النبهاني، مرجع سابق، ص88.
[18]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[19]– المرجع نفسه، ص99.
[20]– النبهاني، مرجع سابق، ص524.
[21]– المرجع نفسه، ص110.
[22]– المرجع نفسه، ص388.
[23]– رضوان باتو، سيرة صوفي أمي (أبي يعزى الهسكبوري) وردود أفعال المجتمع تجاه طقوس الاحتفال بموسمه الديني، مجلة أنثربولوجيا، مج6 عدد 1 سنة 2020.
[24]– عساف ميخائيل، كتاب السنكسار، منشورات المكتبة البولسيّة، 2003، ج1، ص341.
[25]– المرجع نفسه، ص385.
[26]– سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسية st-takla.org
[27]– المرجع نفسه، ص615.
[28]– عساف ميخائيل، كتاب السنكسار، منشورات المكتبة البولسيّة، 2003، ج2،ص112).
[29]– انظر مزمور ( 74: 13)
[30]– النفاتي (نجم الدين)، الحيوان في الكتب المقدّسة، دار المنتدى للنشر، 2021، ص96.
[31]– محمود عزيز (كارم): أساطير اليهود، مكتبة النافذة، مصر، ط1، 2011، ص12.
[32]– النبهاني، مرجع سابق، ص349.
[33]– المرجع نفسه، ص150.
[34]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[35]– المرجع نفسه، ص174.
[36]– المرجع نفسه، ص141.
[37]– عساف ميخائيل، كتاب السنكسار، ج2، ص128-129.
[38]– نجد في المرويات الصوفيّة الإسلاميّة ذكرا لقصّة شبيهة تتمثّل في أنّ الوليّ الصالح محمد معصوم أوقف الفرس الّذي شرد بصاحبه، (انظر النبهاني، م ن، ص 199).
[39]– سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسية st-takla.org.
[40]– النبهاني، مرجع سابق، ص356.
[41]– عساف ميخائيل، مرجع سابق، ج2، ص385.
[42]– عساف )ميخائيل(، مرجع سابق، ج2، ص113.
[43]– النواب (رويدة فيصل موسى )، الأسد في الفكر العراقي القديم: دراسة تاريخية تحليليّة، مجلة آداب العدد 98.
[44]– المرجع نفسه.
[45]– سالم نبيل إبراهيم، البطولة في القصص الشعبي، دار المعارف مصر، 1977، ص21.
[46]– المرجع نفسه، ص22.