ليس لمصطلح الدين المدني شعبية في الأوساط الفكرية الإسلامية ويراه بعضهم ترفاً لا مبرر له فالإسلام لا يزال في الذهنية الشعبية يحتفظ بإطلاقياته الأولى باعتباره ديناً نزل بصيغة كاملة شاملة لا تحتاج إلى أي تنوير آخر، وأنه يحمل القيم المدنية والاجتماعية التي تؤسس لقسمة العالم إلى فسطاطين دار الإسلام ودار الحرب، وتقيم العلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية على أساس استعلاء الإسلام وهيمنته على الأديان والشعوب جميعاً، وهي المواقف المتصلبة التي وجدت صورتها الأشد قسوة وصلابة في تطبيقات حركة طالبان قبل عشرين عاماً، وهو ما نخشى أن يتكرر في التحولات الجديدة.
ونقدم في الدراسة التالية موقف الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في الدين المدني، على الرغم من طرافة الأفكار وغربتها عن الوعي الإسلامي التقليدي ولكن كاتب هذه السطور يرى أن ما يقدمه روسو لا يخرج عن مقاصد الإسلام العامة، ويستقيم تماماً مع نصين بالغي الأهمية في الرواية الإسلامية: أنتم أعلم بأمور دنياكم، والخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
طرح مصطلح الدين المدني في أعمال جان جاك روسو (1712-1778م)، ومع أنه لا يتحدث عن دين محدد وطقوس خاصة، إلاّ أنّه يتحدث عن قدر ضروري من اشتراطات المجتمع لتمدن الدين، بحيث يتوجب تقديم قدر من التسامح بين الأديان، والتوقف عن استهداف بعضها بعضاً إنذاراً أو تبشيراً.
ويتحدث جان جاك روسو عن المسيحية بوجه خاص التي نادى بإصلاحها جوهرياً لتتمكن من المشاركة في بناء الحياة المدنية، حيث يرى روسو أن المسيحية رسالة رحمة وغفران، وقد وجدت لتضطهد ولو أرسلت جنوداً مسيحيين مخلصين في مواجهة ما، فستكون رغبتهم الموت لا النصر.
وتتقاطع هذه الرؤية إلى حد ما مع موقف نيتشه الذي كان يزري على المسيحية غلوها في الحديث عن الحب والسلام، ويمكن القول: إن روسو ونيتشه يعتبران المسيحية الحالية ديناً للكهنة وليس للمدينة.
ويقسم روسو الدين إلى أربعة مستويات: دين المواطن، ودين الإنسان، ودين الكاهن، والدين المدني.
في دين المواطن تتطابق الديانة مع القانون، ويكون الإمبراطور إلهاً ونبياً ومشرعاً، ويعتبر نموذج ذلك الديانات الوثنية الرومانية الأولى، التي دمجت الإلهي بالقانوني بالحكومي، وحين عارض سقراط هذه الرؤية تم اعتباره هرطوقاً يستحق الإعدام، وصادق على ذلك الكاهن والملك. أما دين الكاهن فهو صورة تناقض لا يستقيم مع المجتمع المدني، مرجعيتها الغيب وينبغي أن تكون صلاحياتها في الغيب، ولا يجوز أن تخرج من الكنيسة بأي حال. أما دين الإنسان فهو يقتصر على الروحانيات والسمو الأخلاقي والزهد والعزلة، وإحياء ما في داخل الإنسان من فضيلة وقيم، ولكنه كذلك لن يشارك بفعالية في الحياة المدنية، ومن هنا يحدد روسو رؤيته عن الدين المدني.
وفي مقاربة مباشرة لوعي روسو بالدين المدني القائم على إخاء الأديان يقول روسو:
«إن هذه الرسالة المنزلة من الخالق المطبوعة بقداسة الرب.. لا بد أن تدعونا إلى شعائر وأخلاق…. أما إن كانت لا تعلمنا سوى أمور سخيفة غير معقولة، ولا تلقننا سوى كراهية إخواننا في الإنسانية والفزع من أنفسنا، ولا تصور لنا الخالق إلا غاضباً ناقماً متوعداً متحيزاً معادياً للإنسان داعياً إلى الاقتتال والتناحر مستعداً على الدوام للقهر والتدمير، مذكراً بلا ملل بالعذاب وآلامه، متباهياً بمعاقبة حتى الأبرياء فلن يميل قلبي إلى هذا الرب المخيف…. وسأقول لأنصار هذا الدين: إلهكم غير إلهنا، هذا الذي يبدأ باصطفاء شعب واحد مقصياً سائر البشر لا يمكن أن يكون أبا الإنسانية جمعاء، هذا الذي يعد لعباده عذاباً لا نهاية له ليس الإله الرحيم الذي دلني عقلي على وجوده»[1].
فالدين المدني عند روسو هو شروط اجتماعية وبيئية يتعين على القيادات الدينية إنجازها في وعي الرعية حتى يمكن لهذه الرعية أن تشارك بفعالية في الحياة المدنية، وهو الدين المنبثق من العقد الاجتماعي والمنسجم مع أطراف العقد الاجتماعي، ويجب أن يكون بسيطاً وسهلاً، ويجب أن يرتبط بالقيم الأساسية التي يتوافق عليها أطراف العقد الاجتماعي.
ويستعرض روسو بشكل مباشر تهافت العقائد التي تحتكر الخلاص والجنة ويستسخف هذه الآراء القائمة على الجهل، ويشير أن أوربا فيها ثلاثة أديان: اليهودية والمسيحية والإسلام، وإنه لأمر مخزٍ أن تتصارع هذه الأديان فيما بينها وهي تدعو إلى حقيقة واحدة، إن اللغات وحدها سبب كاف لانعدام التفاهم والتكامل، ويشير أن كل أتباع ديانة لا يعرفون لغة الديانة الأخرى التي نزلت فيها كتبهم، ويشير إلى أن العرب لم يعودوا يتحدثون بلغة محمد أصلاً، فكيف يمكن أن نحاكم عقائد تنتمي إلى حضارات متناقضة لغوياً وتاريخياً واجتماعياً، ثم يتجه مباشرة إلى وعي فطري مدهش يكاد يتطابق مع عقيدة المسلمين في نجاة أهل الفترة فيقول:
«ثلثا سكان الأرض ليسوا يهوداً ولا مسلمين ولا نصارى، وكم من ملايين البشر لم يسمعوا باسم موسى ولا عيسى ولا محمد، (فكيف نحكم عليهم بالكفر والهلاك؟) في ربوع أمريكا الشاسعة تسكن أمم عظيمة لم تسمع بعد بعيسى ولا محمد، …. هم يسخرون منا ونحن نحتقرهم….. وكل واحد يرى الحق في شريعته ويرى في الباقي سخافات، إذاً شرائع الآخرين على الرغم من غرابتها ليست بالضرورة شاذة كما نعتقد، وما نراه معقولاً في شريعتنا لا يكون حجة على غيرنا»[2].
ثم خطا روسو في الصفحات التالية من كتابه (دين الفطرة) خطوة جريئة صادمة للكنيسة الغربية فتحدث عن ثلاثة أديان سائدة في أوربا، فاليهودية أقدمها وهي أشدها رسوخاً وثباتاً، ولكنها تؤمن برسالة واحدة، أما المسيحية فهي تؤمن برسالتين، ولكن الإسلام وحده يؤمن بالرسالات الثلاثة، وهو أكثر واقعية وحضوراً لتحقيق اتحاد بين الديانات يحقق أهدافها، ولكنه يأسف بعد ذلك، أن هذه الكتب مكتوبة بلغات قديمة وأن العرب، أنفسهم لم يعودوا يتحدثون بلغة محمد، ومن الطبيعي أن تنشأ الخلافات باستمرار، وإذا كان المقصود اللقاء على النص فلن نلتقي أبداً، ولكن إذا كان المقصود هو الدين المدني الذي يبني المجتمع فكلنا يستطيع أن ينتخب من قيم الدين ما يثري مجتمعاتنا، ويجعلها أكثر غنى واتساقاً وتطوراً.
ويقدم روسو دليلاً عقلياً غاية في البرهان والإقناع فيقول: لو ثبت بالفعل أن ديناً واحداً يوصل إلى الحقيقة ولا يقبل الرب سواه، فإن هذا يفرض على الإنسان دراسة كل الأديان في الأرض والسفر إلى منابعها واللقاء بكهنتها ودراسة كتبها وتفاسيرها وشروحها، حتى يتمكن من القول بأن هذا الاعتقاد هو الأصح، وإلا فكيف تقضي على غير معلوم؟ إن الجزم بأن هذا الدين هو الحق دون دراسة سائر الأديان هو لون من الكذب الواضح والغرور والتعمية والمحاكمة البليدة والباردة التي لا تستقيم معها عدالة، ثم يوجه خطابه إلى تلميذ له يخاطبه بقوله: «انظر يا ولدي إلى أي سخافة يقود الاستعلاء والتكبر والتعصب، عندما يعتقد كل أحد أنه على حق وأن الآخرين في ضلال، أشهد أنه إله الرحمة… لقد طويت الكتب جميعاً وعدت إلى أبسط التعاليم…. وفتحت كتاباً واحداً لا يغلق أبداً ويظل بين عيني أقرؤه في صفحات هذا الكون الناطق باستمرار، وهو عقلي الذي يقودني لمحبة الخلق وفعل الخير»[3].
لقد كانت كلمات روسو بالغة البساطة والتأثير، وغايتها تأكيد قيم الإيمان وقدرته على الانخراط في الحياة المدنية بإيجابية وفاعلية، وإعلاء مقام العقل والمجتمع الذي بات أوضح من الوحي في بناء المجتمع السليم والحياة المدنية.
وعلى الرغم من هذه الخيارات الجريئة فإنني لا اعتقد انهها تتجاوز ما دعا إليه الإسلام في نصوصه الأولى حين اعتبر اختلاف الألوان والشعوب والقبائل آية من آيات الله، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وكذلك في قوله: ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، فقد اعتبر الاختلاف بين الناس في الألوان والأديان والألسنة آية من آيات الله، وهي الحقيقة التي دعا إليها القرآن الكريم: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجلعناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، وكذلك دعوته المسلم أن يكتفي بإقامة شعائره وأن لا يمارس الإكراه على الناس: فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر، ونذكر أن هذه الآية قد وردت موجهة للنبي الكريم نفسه، وقد تكررت في آيات أخرى بصورة أشد وضوحا: وما أرسلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل.
وفي آية بالغة الوضوح أقر الإسلام الدعوة إلى دين مدني يؤدي فيه المسلم شعائره ولا يتدخل في شعائر الآخرين: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون.
وباختصار فإن مفهوم الدين المدني وإن بدا غريباً في المصطلح الإسلامي ولكنه متصل بشكل وثيق في البناء القيمي والأخلاقي في الإسلام، وهو في العمق شكل الدولة المدنية الأولى التي أسسها الرسول.
مراجع المقالة :
[1] روسو، جان جاك، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، ص101.
[2] روسو، جان جاك، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، ص109.
[3] روسو، جان جاك، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، ص118.