مقدمة
شهد عصر النهضة ثورة فى الفن نتيجة اكتشاف ” جيوتو” للبعد الثالث أو ما يسمى بقانون المنظور الذي به تأخذ المرئيات بعدها الثالث ألا وهو ” العمق ” (أو الارتفاع).. فلا تبدو المرئيات مسطحة بالطول والعرض وحدهما. وأساس هذا القانون هو أن الأجسام تبدو أصغر وأصغر ببعدها أكثر وأكثر عن خط النظر، وأن الخطين المتوازيين يبدوان أضيق فأضيق ببعدهما عن خط النظر، حتى أنهما يلتقيان بالوهم عن عين الناظر إذا امتدا بالدرجة الكافية (1).
ونتيجة اكتشاف هذا القانون صار الأمر ممكناً لعلم الفن أن يقلد الطبيعة والحياة أو أن يبدع منهما الفنان إبداعاً خلاقا دون أن يتهم بالشرك أو الردة فى إقامة الأصنام. وقد أدت الرغبة فى تقليد الطبيعة والحياة إلى الاهتمام بدراسة العلوم البحتة والتطبيقية. وهنا أخذ الفن والعلم يتلاقيا شيئاً فشيئاً تلاقياً حميماًَ خلال عصر النهضة، لدرجة أنهما غالباً ما أصبحا قابلين للتبادل. وفى مرات عديدة لا يستطيع المشاهد الحديث القول بما إذا كان يجب النظر إلى رسم معين على أنه عمل فنى أم على أنه دراسة علمية. كذلك لسنا متأكدين دائماً مما إذا كان يجب ” تصنيف” عبقرية فردية معينة على أنها عالم أم فنان (2).
ومن ناحية أخرى كان على الفنانين أن يغرسوا لا التمثيل الواقعى للتفاصيل الطبيعية ودراسة المنظور فحسب، بل كذلك تمثيل التشريح والحركة. كيف كان الناس يتحركون في عالمهم، جاعلين أنفسهم فى دارهم، كان بالتأكيد جانباً بارزاً من التوكيد الجديد ثلاثي الأبعاد، وربما كان من أهم الجوانب من الناحية الذاتية، إذ كان يزود المشاهد بنوع ممتع من التماهي – الذاتي ؛ وكان على التشريح أن يتعامل مع ثلاثية أبعاد الجسم الإنساني. في مجالات مثل هذه عادة ما كان البحث العلمي في الطبيعة وبهجة الفنان ( المشاهد) الجمالية يقتربان من بعضهما إلى درجة التراكب فعلياً (3).
وقد أثمرت العلاقة الوثيقة بين الفن والعلم إلى بروز فكرة ” الإنسان الشامل” L`Uomo Universale. فقد كان تحول الفنان السهل من مقاربة جمالية إلى مقاربة علمية، والعكس جزءً من تعدد المواهب الظاهر الذي أطلقه عصر النهضة من خلال مناشدته للطاقة الإبداعية.. فما الذي كان يمكن في نهاية المطاف، أن يكون محفزا لتفتح مواهب المرء أكثر من مناخ ثقافي، ينادى بالكشف عن جمال هذه الطبيعة وأسرارها الخفية؟ ! وجدت كل طاقة المرء نفسها في صراع مع مغامرة العالم. واستنفذ هذا التحدي الشامل للشخصية المبدعة كل شئ للفعل – الفن، والعلم والمهارات التقنية، وإجادة مختلف الوسائط، ومجالاً عريضاً من القدرات الذهنية. وأصبح التراوح بين مختلف الوسائط شائعاً شيوع التراكب بين الفن والعلم. وطوال كل عصر النهضة، كان الموهوبون يثبتون لأنفسهم – وللآخرين – أنهم موهوبون أكثر مما يتخيل أى شخص، ليس فقط فى مجالاتهم المختارة، بل فى مهن أخرى كذلك (4).
وليوناردو دافنشى Leonardo Da Vinci (1452-1519) هو مجرد الحالة الأشد إثارة ضمن صف طويل من الفنانين – العلماء فى عصر النهضة. وقد أطلق عليه لقب ” العبقرية الشاملة لعصر النهضة المبكر” (5). لقد كان أعجوبة عصره، ومتقدماً فى فنه عن معاصريه بمراحل كبيرة، فكان مهندساً ومخترعاً للآلات الحربية، وبارعاً بعلوم التشريح والطبيعة، وموسيقياً. بالإضافة إلى أنه كان مثالاً ومصوراً ومهندساً (6).
وعلاوة على ذلك، فقد كان واحداً من أعظم فناني عصر النهضة الذين اهتموا بالمنهج العلمي قبل فرنسيس بيكون ” (1561-1626)، فقد أكد على أهمية الملاحظة والتجربة في كشف آيات الطبيـعة، والوقوف على أسرارها، كما دعا الباحثين في بحوثهم إلى تدوين ملاحظاتهم والقيام بتجاربهم، ونادى بأن التأمل النظري أمر عقيم لا يليق بالإنسان، وحث على التروي فى الملاحظة والتأني فى التجربة، وحذر من التسرع في التعميم واستنباط القوانين (7).
كما كان واحداً ممن أثروا العـلاقة الحميمة بين الفن والعلم، فالفن عنده علم واسع الحدود، والعلم عنده أمر لا ينفصل عن الفنون. ولذلك نجده لا تفارقه محاولاته وتجاربه العلمية، فهو يمارسها في الوقت الذي يمارس فيه الفنون، وهو يعالج موضوعاً علمياً كان قد بدأه ويريد متابعة تجاربه فيه أو موضوعاً جديداً يجرب نفسه في دراسته أو يحاول له العلاج ليصل إلى نتيجة أفضل (8).
ولم يكتف دافنشى بذلك؛ بل نراه يبحث عن أسرار كل شئ، ويعمد إلى الكشف عن الألغاز الغامضة، ويتحرى عن العمليات والنظريات وظواهر الطبيعة. وتنوعت ميوله وهوايته حتى دفعته إلى التعلق بكل ما يحيط به ويقع تحت عينيه، فلم عناصر الأعشاب الطبيعية ومظاهر حركات الأجرام السماوية ومدار القمر وطبيعة الشمس وعلم التشريح…الخ (9).
ولم يعكف إنسان بقدر ما عكف دافنشى على العمل مواصلاً البحث العلمي للقضاء على الأسرار الغامضة وتنوير العالم بالاكتشافات التي نشر فيها الملاحظة والتجربة (10).
وقد شهد له بذلك بعض أساتذتنا المعاصرين؛ فنجد الدكتور ” زكى نجيب محمود” يقول عنه: ” لا أحسب أحداً فى تاريخ الفكر كله يلخص عصره تلخيصاً جامعاً مانعاً بقدر ما لخص ليوناردو دافنشى عصره !. وأي عصر !. إنه عصر النهضة الأوربية التي انبعثت فبها الحياة انبعاثاً، أوشك ألا يترك نحواً من أنحاء الأرض ولا رجا من أرجاء السماء إلا أرتاده. ولعلك قد سمعت به مصوراً فناناً، فهو صاحب “العشاء الأخير” – صورة رائعة رسمها في أحد أديرة ميلان أثناء مقامه بتلك المدينة فناناً رسمياً لقصر الأمير لودوفيكو سفورتزا، وهو صاحب ” الجيوكندا ” الموجودة الآن في متحف اللوفر بباريس، رسمها وهو في فلورنسا إبان عهد قيصر بورجيا. ثم لعلك قد سمعت به مهندساً في قوى الماء، وفي ابتكار الآلات لشتى المناسبات. وقد تكون سمعت به أيضاً عالماً في الجيولوجيا والنبات. ولكن القصة التي تروي لك شيئاً من تفصيلات حياته تلك التي كانت كأنها مائة حياة لمائة عظيم اجتمعت كلها في رجل واحد. ستثير فيك العجب ما لا يثيره إلا قلة قليلة من أحداث التاريخ ورجاله (11).
كما وصفه الأستاذ ” يوسف كرم بأنه: ” ثمرة من خير ثمار عصر النهضة. اشتغل بالتصوير والنحت والموسيقى، فكان فناناً عظيماً، وتبحر في التشريح والمعمار والميكانيكا، فكان عـالماً مبرراً، واستخلص من أبحاثه أصول المنهج العلمي، ومن مشاهداته للناس عوامل سيرتهم، فكان فيلسوفاً مذكوراً. تناول علم الميكانيكا حيث تركه ” أرشميدس ” ونهج فيه نهجه، فوصل إلى نتائج تختلف عما كان وصل إليه الأسميون الباريسيون في القرن الربع عشر، وكان مقتنعاً بأن العلم ابن التجربة، وأن النظريات التي لا تلقي تأييداً من التجربة نظريات باطلة. فكان يرمي الكيميائيين والمنجمين بأنهم دجالون أو مجانين. وليست التجربة عنده مجرد الإدراك الحسي، بل البحث عن العلاقة الضرورية بين الأشياء، ووضع هذه العلاقات في صيغ رياضية تخلع على نتائج التجربة يقيناً كاملاً وتسمح باستنتاج الظواهر المستقبلية من الظواهر الراهنة (12).
لكل ما سبق قصدت إلى إنجاز بحث عن ” إشكالية المنهج العلمي عند ليوناردو دافنشى ” أتوخى من خلاله الكشف عن أصول المنهج العلمي ( وأقصد بالمنهج العلمي هنا المنهج التجريبي بمعناه الكلاسيكي) عند ليوناردو دافنشى ؛ وذلك من خلال نقد دافنشى لمفهوم العلم فى العصور الوسطي، وكيف حث على ضرورة الرجوع إلى الطبيعة، وطرح الأسئلة المباشرة عليها من خلال استخدام حواسنا وعقولنا فى ملاحظة وقائعها وتسجيلها بأمانة، بدلاً من التقوقع داخل عالم الألفاظ، كما حرصت على أن أقدم النصوص التي يحث من خلالها دافنشى على ضرورة الأخذ بالتجربة العلمية كوسيلة للوصول إلى البحث العلمي الصحيح، ثم إلى أي حد احتفى دافنشى بالتجربة العلمية وجعلها السبيل الوحيد لكشف أسرار الطبيعة، الأمر الذى مكنه من الوصول إلى نتائج هامة فى بحوثه العلمية حول مركز الثقل والروافع والحركة وبعض قوانين الجاذبية…الخ.
ومن ناحية أخرى، أود أن أكشف عن مكانة المنهج العلمي عند دافنشى في تاريخ العلم الحديث وفلسفته، وذلك بإثارة هذه السؤال ومحاولة الإجابة عليه: إذا كان دافنشى على وعى بحدود المنهج العلمي وبقيمة التجربة سبيلاً لا بديل عنه لإدراك حقائق العالم الطبيعي، الأمر الذي حدا به إلى التوصل لاكتشافات هائلة في علوم الفيزياء والتشريح والفلك…الخ، فلماذا أهمل المؤرخون والباحثون مكـانته فى تاريخ العـلم الحديث وفلسفته.
وقد اقتضت طبيعة البحث والموضوع أن يتضمن ثلاثة محاور؛ حيث يشتمل المحور الأول على تنظيرات المنهج العلمي عند دافنشى، بينما إشتمل المحور الثاني على تطبيقات المنهج العلمى عند دافنشى، في حين إشتمل المحور الثالث والأخير على تقييم المنهج العلمي عند دافنشى.
وأما بالنسبة للمنهج الذي استخدمناه فى هذا البحث، فهو المنهج التحليلي النقدي؛ وذلك لأنه في اعتقادي أنسب المناهج التي يمكن أن نعالج بها إشكالية المنهج العلمي عند دافنشى.
أولاً: تنظيرات المنهج العلمي:-
لقي عصر النهضة الأوربية تزمراً شديداً من طبيعة العلم فى العصور الوسطي؛ حيث إن العلم فى تلك العصور كما يقول الدكتور ” فؤاد زكريا” لم يحرز تقدماً حاسماً في أي مجال، ولم يحدث تغيير جديد في مفهوم العلم، بل احتفظت العصور الوسطي بأسوأ عناصر المفهوم اليوناني للعلم، وعملت على تجميدها وتحويلها إلى ما يشبه العقيدة التي لا تناقش. ففي مجال المنهج العلمي كان أسلوب الخضوع للسلطة هو الشائع في طريقة التفكير في هذه العصور. فقد ساد الاعتقاد بأن العلم بلغ قمته العليا على يد أرسطو، وبأن ما قاله هو الكلمة الأخيرة فى أى ميدان من ميادين العلم، وقد حدث تحالف بين معتقدات الكنيسة المسيحية وتعاليم أرسطو الفلسفية، بالرغم من هذه التعاليم الأخيرة قد ظهرت فى إطار ما يشبه القداسة الدينية، وأصبح الاعتراض عليها نوعاً التجديف والضلال، ولم يكن العلم فى صميمه إلا ترديداً لهذه الآراء. أما النقد والتجريح فكان يعرض صاحبه لأشد الأخطار (13).
أما أسلوب التفكير، فكان هو الجدال اللفظي العقيم، وكان ذلك أمراًَ طبيعياً فى عصر تستمد فيه عناصر المعرفة من الكتب القديمة، لا من الطبيعة ذاتها. فقد برع مفكرو ذلك العصر فى إقامة الحجج والبراهين اللفظية الخالصة، وتلاعبوا بالاستدلالات الشكلية والمغالطات التى تتخذ فى ظاهرها صبغة منطقية، ولكنهم لم يتوصلوا إلى منهج فى البحث يعين على معرفة مباشرة، فالألفاظ عندهم قياس الجديد على القديم، ومن هنا فإن كتبهم كانت كلها دعماً لمعارف قديمة. أما الكشف الجديد فلم يكن من المتوقع أن يسعى إليه عصر يؤمن بأن المعرفة كلها قد اكتملت في عصر من العصور القديمة (14).
ولقد هاجم معظم رجال عصر النهضة طبيعة العلم فى العصور الوسطى هجوماً عنيفاً، ومن بين هؤلاء ” ليوناردو دافنشى “، وذلك في كتاباته التي كانت على شكل مذكرات ؛ حيث لم يقبل عن رضي واقتناع السيطرة التقليدية العمياء لعلوم اليونان القديمة التى سادت الحياة الفكرية فى عصره ودمغتها بطابع الجمود سواء كانت هذه العلوم منسوبة إلى أرسطو أو إلى غيره من الفلاسفة اليونانيين.
ويعبر دافنشى عن هذا المعنى فيقول: ” سوف يعتقد الكثيرون وبحق أن فى مقدوري وأنا أتوسع في تجاربي البقاء بعيداً عن تأثير بعض الرجال العظماء.. ولسوف يقولون أنني لم أتلق حظاً وافراً من دراسة الأدب. ولذلك لن يكون في مقدوري التعبير عما أريد التحدث عنه، ولكن هؤلاء لا يعلمون أن الأشياء التي أتحدث عنها أكبر من تكون وليدة الخبرة التي يقول البعض أنها خير معلم لكل من أجاد الكتابة ” (15).
وفى فقرة أخرى أكد دافنشى نفس المعنى بقوله ” سيعتقد الكثيرون أن براهيني تخالف تعاليم بعض الرجال الذين يتمتعون بأعلى درجات التقدير. بيد أنهم لم يدخلوا فى اعتبارهم أن أعمالي تصدر عن مجرد التجربة البسيطة وهى صاحبة السلطة الحقيقية ” (16) ؛ وفى موضع آخر يقول دافنشى: ” إن من يعتمد على سلطة الآخرين، فإنه لا يستعمل عقله، وإنما يلجأ إلى ذاكرته (17).
ونلاحظ هنا أن دافنشى لديه جانب سلبي فى نزعته التجريبية على نحو يشبه إلى حد كبير الجانب السلبي في المنهج التجريبي عند فرنسيس بيكون، خاصة فيما يتعلق بأوهام المسرح Idols of Theatre، وهى تلك الأوهام التي تتمثل في ” سيطرة النظريات القديمة على العقول مما يجعلها لا تكتشف الحقيقة. والفلاسفة القدماء هم مصدر هذه النظريات، والناس تتلقاها منهم كما يتلقى المشاهدون في المسرح آراء الممثلين ” (18).
ثم يؤكد دافنشى خطأ الفلاسفة التأمليين الذين يتصورون حل مشكلات العالم الكبرى بالتأمل النظري القائم على العلوم العقلية، حيث يناقشهم فيقول: “… إذا قلت أن هناك شيئاً من الحقيقة في تلك العلوم التى تنتج من العقل وتنتهى فيه، لن يكون قولك مقبولاً، ولا يمكن لأي شئ يقع خارج نطاق التجربة أن يعطينا يقيناً بذاته” (19).
وفى فقرة أخرى يقول: ” ولكنني أعتقد أن هذه الأجناس من العلوم التى لا تنطلق من التجربة علوم عديمة الجدوى، بالإضافة إلى أن تلك العلوم حافلة بالعـديد مـن الأخطاء والمغالطات ” (20) ؛ ويقول أيضاً: ” لا العقل وحده ولا التجربة وحدهـا تكفى، فالذين يفتنون بالممارسة على حساب العلم كصاحب السفينة التي يقودها بدون شراع أو بوصلة ولا يعرف إلى أين يذهب. من هذه الناحية نجد أن التفكير المجرد لا جدوى منه “؛ ” ويقولون أن تلك المعـرفة التي تنبثق من الاختبار هـي معرفة آلية، وأن المعرفة التي تتولد في العقل وتنتهي إليه هي معرفة علمية. على أنه يبدو لي أن تلك العلوم التي لا تتولد من التجربة _ وهى أم كل يقين – والتي لا تنتهى فى الملاحظة – أي في تلك العلوم التي لا تمر في منبعها أو فى سياقها المتوسط أو نهايتها بإحدى الحواس الخمس هي علوم باطلة ومليئة بالأخطاء (21).
وهنا نلاحظ فى كلام دافنشى أنه يسخر من ادعاءات فلاسفة العصور القديمة والوسطي الذين كانوا يتصورون أن باستطاعتهم حل مشكلات العالم الكبرى بالتأمل النظري وحده، ويهاجم مفكري الأبراج العاجية، الذين يعتقدون أنهم قادرون على فهم الطبيعة وما وراء الطبيعة باستخدام مجموعة من الاستدلالات اللفظية التي يتلاعبون بها ببراعة، ويظنون أن ما تؤدى إليه هذه الألاعيب اللفظية لابد أن يكون حقيقة واقعة.
وفى مقابل ذلك يدعونا دافنشى إلى إجراء حوار مباشر مع الطبيعة، واستخدام حواسنا وعقولنا وتسجيلها بأمانة، وينادى بضرورة إزالة هذا الحاجز اللفظي الخداع الذي وضعه القدماء بيننا وبين حقائق العالم، ويؤكد أن المعرفة الصحيحة، إنما تكون فى طرح الأسئلة المباشرة على الطبيعية من خلال استخدام حواسنا وعقولنا فى ملاحظة وقائعها وتسجيلها بأمانة، بدلاً من التقوقع داخل عالم الألفاظ، وفى هذا يقول دافنشى: ” لما كانت الطبيعة مليئة بالمشاهدة والأجسام، فأحرى بالإنسان أن يلجأ إلى الطبيعة ذاتها بدلاً من الأخذ عنها ” (22) ؛ وحين يقوم الباحث بذلك فإنه سرعان ما يدرك أن ” الطبيعة مليئة بالعلل اللامتناهية التي لم توضع بعد موضع التجربة Nature is Full of Infinite Causes Which Were never Set Forth in Experience.(23)
ونظراً لأهمية التجربة العلمية في كشف أسرار الطبيعة، فنجد دافنشى يعول عليها فيقول: ” العلوم الحقيقية هي التي تعتمد على التجربة، وتخرس كل ألسنة المعارضين، ولا تغذى مكتشفيها بالأحلام ولكن تتحرك تعاقبياً من الحقائق الأولى إلى المبادئ الظاهرة، ثم إلى النهاية كما يحدث فى الرياضيات مثل العدد والقياس وهى العلوم التي تسمى بالحساب والهندسة، والتي تتعامل بكميات بالغة الدقة والصدق هي متميزة ومثمرة. هنا لا جدال في أن 2×3=6، أو أن مجموع زوايا المثلث أقل من 180 درجة ولا معارضة. وهذا ما لا تفعله العلوم الذهنية المضللة. لكن في البداية سوف أتجه إلى التجربة لأنه لن يتسنى أن أقتبس من التجارب، ثم أثبت الفكر والعقل لماذا حدثت التجربة كما هي عليه، وهذه هي القاعدة التي يجب أن يتبعها أولئك الذين يريدون بحث الآثار الطبيعية، ومع أن الطبيعة تبدأ من العقل وتنتهي إلى التجربة، فلا بد أن نسير فى الاتجاه المضاد، فنبدأ بالتجربة ثم ننتقل إلى العقل بناء على ما تتوصل إليه التجربة ” (24).
وفى فقرة أخرى يؤكد نفس المعنى فيقول: ” ولكنني سأقوم بتجربة قبل أن أتقدم فى البحث، لأن غايتي هي أن أقدم الحقائق أولاً، ثم أقيم البرهان بوساطة العقل، على أن التجريب مرغم أن يتبع هذه الطريقة المعينة. وهذه هى القاعدة الصحيحة التي يجب على الباحثين فى ظواهر الطبيعة إتباعها. وبينما نرى أن الطبيعة تبتدئ من العلل وتنتهي فى التجريب، علينا أن نتبع طريقاً معاكساً، فنبتدئ من التجريب ثم نكتشف بوساطته العلل (25).
وفى هذا البرنامج الذي رسمه دافنشى يظهر بكل وضوح مدى تغير المناخ العقلي عما كان عليه في العصور القديمة والوسطي. فها هنا نجد فلسفة دافنشى تتخذ مثلها الأعلى من تغيير الإنسان للطبيعة بواسطة التجارب العلمية، ومن اتخاذ المعرفة التجريبية سبيلاً إلى إحراز الإنسان لمزيد من القوة فى هذا العالم – وهو مثل أعلى كان يعد في العصور الوسطي داخلاً فى باب السحر والشعوذة، إذ أن السحرة وحدهم هم الذين يدعون القدرة على تغيير الطبيعة والتحكم فى قواها المختلفة.
ويؤكد دافنشى أن علم التصوير هو العلم الوحيد القادر على القيام بهذه المهمة، حيث يستطيع الفنان من خلاله كشف أسرار الطبيعة، فنجده يقول: ” إن التصوير هو العلم القادر على محاكاة كافة أعمال الطبيعة الظاهرة، فإنك بذلك ستزدرى دونما شك أحد الابتكارات المرهقة التى تصل عبر تأمل فلسفي وتفكير عميق إلى نباتات وطيور وزهور وحيوانات. هى فى مجموعها شرائط من الأضواء والظلال. حقا إنه لعلم شرعي من أبناء الطبيعة، لأنه ولد منها، أو إذا أردنا التعبير بكلمات أصوب فهو حفيد الطبيعة، لأن كافة الأشياء والأشكال الظاهرة لدينا ولدت من الطبيعة، ومن هذه الأشياء ولد التصوير” (26).
ثم يبين دافنشى كيف يحيط علم التصوير بأدق أسرار الطبيعة، فيقول: ” يتسع علم التصوير لتناول أسطح وأشكال وألوان كافة الأشياء التي تخلقها الطبيعة. كما يحيط التصوير وحده بأسطح الأجسام، ويتناول منظوره عمليات النمو والضمور التى تخضع لها الأجسام وألوانها، لأن الأشياء التي تبتعد عن العين تفقد كثيراً من حجمها وألوانها، يتساوى مع نفس القدر الذى تكبر به أحجامها وتتضح ألوانها عند اقترابها من العين. التصوير إذن فلسفة، لأن الفلسفة تتناول الحركة المتزايدة والمتناقضة، وهذه الحركة تخضع للمسألة التى يمكن تقديمها بشكل عكسي على النحو التالي: ” تكتسب الأشياء التى تشاهدها العين درجة من وضوح الألوان والتفاصيل والكبر في الحجم، بقدر ما تقل مسألة الفراغ الذى يفصل بين هذه الأشياء وبين العين الناظرة إليها ” (27).
وهنا يريد دافنشى أن يوضح لنا أن علم التصوير هو العلم القادر على أن يتخذ من الطبيعة أمتن الأسس لكل ما يعمل في البحث العلمي، وذلك لكونه يمثل الميدان الحقيقي لملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيـاً بـدلاً من الاكتفاء بالكلام عنها.
وعلاوة على ذلك ينصح دافنشى زملائه من المصورين الذين يبحثون في ميدان الطبيعة بألا يقفوا في عملية الملاحظة والتجربة عند إدراك العلاقات الثابتة بين الأشياء المتحولة، وذلك لأنه لا قيمة لكل من الملاحظة والتجربة من الناحية العلمية، إلا إذا وجد الفرض الذى يقوم بترتيب وتنظيم النتائج للحصول على تفسير مقبول لسلوك الظاهرة المدروسة، يقول دافنشى: ” عليك أن تتوجه بذهنك إلى تنوع الكائنات واختلافها، وأنظر مرة إلى هذا الشئ، ومرة إلى ذلك الآخر، وأصنع بعقلك من مشاهدتك للأشياء باقة تضم فيها أفضل ما شاهدت، وباقة لما هو أقل أهمية، ولا تفعل مثل بعض المصورين الذين إذا حل التعب بخيالهم فإنهم يهجرون أعمالهم ويكتفون بالتمرن خروجاً إلى الطرقات على غير هدى، فأولئك يحتفظون عند خروجهم بنفس الحالة من الإجهـاد ولا يوجهـون ذهنهم لتقصى الأشـياء ودراستها ” (28).
وهنا يريد دافنشى أن يبين لنا بأنه ليس للمصور له أن يجزع من وجود تلك الهوة التى تفصل بين الأمثلة الجزئية وبين القانون العام، إذ لا مفر له من اجتيازها دفعة واحدة إذا أراد أن يسهم في تقدم المعرفة، وكيف له أن يقنع بملاحظة بعض الظواهر المبعثرة، أو بإجراء بعض التجارب كيفما اتفق؟ . إن طبيعة المنهج العلمي، كما يود دافنشى هنا أن يصورها تستلزم اللجوء إلى التعميم، واستخدام الفروض. وليس هناك سبيل إلى سد النقص في عملية الملاحظة والتجربة إلا إذا تدخل الخيال في مرحلة الفروض.
فإذا ما لاحظ المصور عدداً من الحالات الخاصة أو أجرى تجربه بدقة انتهى بالضرورة نوع من الحدس العقلي. لكن خيال المصور يختلف عن خيال الشعراء، فخيال المصور في نظر دافنشى وليد الملاحظة والتجربة المرتجلة. وهو يبدأ من الظواهر ثم يرتد إليها ليلقى ضوءً يظهر ما عسى أن يكون قد خفي من تفاصيلها، وفى هذا يقول دافنشى: ” يرجع الفضل في تكوين عقلية المصور وبنائه الذهني إلى ولوجه المستمر في أبحاث عديد بقدر تنوع المواضيع متاملاً ومستخلصاً من مشاهدتها النتائج والقواعد التي توصل إليها بعقله ” (29).
ولما كان الفرض هو تفسيراً مؤقتاً لوقائع معينة لا تزال بمعزل عن اختبار الوقائع، وبالتالي أصبح إما فرضاً زائفاً يجب أن يعدل إلى غيره، وإما قانوناً يفسر مجرى الظواهر. ولذلك نرى دافنشى ينصح بتكرار التجارب باستمرار، حيث يقول: ” قبل أن تجعل من هذه القاعدة حالة عامة، اختبرها مرتين أو ثلاث، وأنظر إن كانت التجربة ستحدث نفس الأثر أم لا ” (30).
وفى فقرة أخرى يقول: ” لمـا كانت التـجربة هـي ترجمان الطـبيعة الوحيد، فيجب استثارتها وتنويعها على ألف صورة، إلى أن تستخلص القوانين العامة ” (31).
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، ألا وهى تأكيد دافنشى على ضرورة تطبيق الرياضيات فى البحوث العلمية، وذلك لكونها أداة منهجية قادرة على التعبير الكمى لنتائج التجارب وصياغة مبادئها العامة، وليس أدل على تحمس دافنشى لهذا النمط من التفكير من عبارة صريحة يقول فيها: ” من لم يكن مؤمناً بموجب مبادئي (أى المبادئ التي يأخذها هو نفسه في معالجته للمسائل الرياضية عموماً) يجب ألا يقرأ لى ” (32) ؛ ويقول أيضاً ” إننا لا نملك في علمنا حقيقة على الإطلاق تقع خارج نطاق الرياضيات. كذلك لا يمكن للمرء أن يحب سوى ما يعرفه، ولا يعرف الإنسان في الواقع إلا ما قام بقياسه ” (33).
كذلك أثر عنه قوله:” أيها المصورون ادرسوا الرياضيات ولا تبنوا شيئاً من غير أساس رياضي ” (34) ؛ ويقول أيضاً: ” لا يوثق في علوم لا تخضع لتطبيق أحد العلوم الرياضية عليها أو لا ترتبط بهذه الرياضيات ” (35).
وقد حاول دافنشى أن يعبر عن نتائج أبحاثه الفنية بصيغ رياضية، فمثلاً نجده في كتابه: نظرية التصوير ” يبرهن على قاعدة من قواعد علم المنظور والتي تقول بأنه تزداد كثافة الظلال وقوتها كلما كان مصدر الضوء الساقط على الجسم أكثر سطوعاً، فيقول: ” إذا اقترضنا أن النقطة (أ) تستقبل ضوء الشمس (ش) وأن النقطة (ب) تستقبل ضوء الهواء (هـ) الذي يستمد بدوره النور من الشمس. فإن الفرق فى قوة إضاءة النقطة (أ) والنقطة (ب) يتساوى مع الفرق ما بين قوة مصدري الضوء ؛ أي ما بين ضوء الشمس وضوء الهواء ” (36).
كما يبرهن دافنشى على قاعدة تنوع الظلال واختلافها عندما تميل الأجسام أو ترتفع أو تنخفض دون تحريك الأقدام إذا ما ظل مصدر الضوء ثابتاً فى مكانه، فيقول: ” ويمكن أن نبرهن على ذلك فنقول بأنه إذا اقترضنا أن مصدر الضوء ثابت دائما عند النقطة (د)، وأن الرجل الذى سيظل محتفظاً بقدميه عند النقطة (ب)، وهو (أب)، وأنه سينحني بجسمه حتى يصل إلى النقطة (جـ) يمكننا أن نقول أن الظل سيتغير إلى مالا نهاية من التغييرات من (أ) إلى (جـ)، لأن الحركة تتم فى فراغ، والفراغ كمية متصلة، ولهذا يمكن أن تقسم إلى ما لا نهاية له من التقسيمات. وهذا يثبت أن الظلال يمكن أن تتنـوع بلا حـدود من الظـل الأول ( أ، ب) إلى الظل (ب جـ هـ) وهو المطلوب إثباته. ” (37).
خلاصة القول أن دافنشى لم يبخس الرياضيات أهميتها في البحث فى ظواهر الطبيعة، بل لقد جعل منها العمود الفقري لكل بحث علمي يتوخى الوصول للحقيقة، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن دافنشى كان واحدا من رواد عصر النهضة الذين سعوا إلى الانتقال من الفصل التام بين الرياضيات والطبيعة إلى التوحيد المثمر بينهم، بعد أن كان الباحثون ينظرون من قبل إلى العالم الذي نعيش فيه ” على أنه عالم متغير خداع لا يمكن أن ينطبق عليه علم ذو موضوعات أزلية ثابتة كالرياضة ؛ فلقد كان ينظر للعلم الرياضي على أن له مجاله الخاص المترفع على هذا العالم، وهو ينحط إذا ما طبق على عالم الواقع المتغير، حيث أن كل شئ فى الرياضة ثابت ودقيـق، على حين أن كل ما في هذا العالم الطبيعي تقريبي فحسب ” (38).
لذلك يمكننا القول بأن إدراك دافنشى لأهمية تطبيق الرياضيات على الأبحاث الطبيعية، كان سابقا لرائد العلم الحديث ” جاليليو” (1564-1642) الذى أثر عنه قوله: ” إن العلم مدون في هذا الكتاب الكبير (الكون المفتوح أمام ناظري، ولكننا لا نستطيع قراءته، إذا لم نحل طلاسم حروف اللغة التي دون بها، إن هذا العلم مكتوب بلغة رياضية وحروفها هي المثلثات والدوائر ومختلف الأشكال الهندسية. وبدون فهم هذه اللغة، فإننا سنظل تائهين في بحور الظلمات (39).
ثانياً: تطبيقات المنهج العلمي فى بحوث دافنشى الميكانيكية والتشريحية: –
1– الميكانيكا:
كان العلم الأوروبي عند مطلع العصر الحديث علماً ميكانيكياً فى المحل الأول. فالميكانيكا نفسها كانت أهم العلوم وأدقها وبفضلها تحققت مجموعة كبيرة من كشوف القرنين السادس والسابع عشر. والأهم من ذلك أن نموذج المعرفة ذاته كان هو النموذج الآلي ؛ أعنى أنك تستطيع أن تفهم الظواهر على أفضل نحو إذا ما استطعت أن تنظمها فى نسيج تكون فيه كل منها مؤدية إلى الأخرى بطريقة آلية خالصة. بل إن الكون كله كان آلة ضخمة تسير فى عملها بانتظام الساعة الدقيقة. وعلاقة الله بالعالم أشبه بعلاقة الصانع بصنعته؛ بمعنى أن العالم قد صنع متقنناً منذ البداية، ويظل يسير بعد ذلك بنفس الدقة والانتظام اللذين صنعا بهما (40).
ولقد كان دافنشى خير من يمثل هذا الاتجاه فى عصر النهضة؛ حيث رأى فى الميكانيكا أساساً للعلوم الطبيعية التى تقوم على مفاهيمنا للمادة ولحركتها فسجل العبارة التالية: ” الميكانيكا فردوس العلوم الرياضية، إذ أن فيها نصل إلى ثمار الرياضيات “
Mechanics is the paradise the mathematical science because by means of it comes to the fruits of mathematics (41).
وبلغ تقديره لأهمية العلوم الميكانيكية أقصاه؛ حيث يقول: ” يطلق توصيف الميكانيكي على تلك المعرفة، التى تولد من التجربة، بينما المعارف التى تتولد من العلوم، وتنتهى فى العمليات اليدوية، فإنها تسمى عندئذ بالعلوم نصف أو العلوم شبه الميكانيكا ” (42).
إن تقدير دافنشى لعلوم الميكانيكا كان له أثره فى أن يصبح واحداً من كبار المهندسين والمصممين للآلات في عصره ؛ حيث كان مهتما بشكل خاص بمشاكل الاحتكاك والمقاومة وتوصيف عناصر مثل أسنان اللولب والتروس والرافعات الهيدروليكية وأجهزة التدوير وتروس الثقل، وما شابه ذلك بصورة فردية أو فى مجموعات متنوعة، وبمرور الزمن اختلط اهتمامه بالميكانيكا التطبيقية. كما أدرك دافنشى أن القوى الميكانيكية العاملة في القوانين الأساسية للميكانيكا تعمل فى كل مكان سواء العالم العضوي أو غير العضوي. وهكذا فإن القوة أصبحت فى النهاية المفهوم الأساسي بالنسبة لدافنشى وكخاصية روحية فإنـها كانت تشكل وتحكم الكون (43).
وأينما فحص دافنشى ظواهر الطبيعة، كان يعترف بوجود قوى أولية تحكم شكل ووظيفة الكون. ففي دراساته عن طيران الطيور التي اتخذت فيها فكرته الشبابية عن إمكانية أو جدوى أداة الطيران شكلا قد أدت به إلى بحوث شاملة فى عنصر الهواء (44).
وفى دراساته للماء التي اهتم فيها بالخواص الطبيعية يقدر اهتمامه بقوانين الحركة والتيارات. وفى بحوثه عن قوانين نمو النباتات والأشجار.وكذلك التكوين أو التركيب الجيولوجي للأرض وتشكيل التلال (45).
وأخيراً فى ملاحظته لتيارات الهواء التي تستحضر لهب شمعة أو صورة خيط رفيع من سحاب ودخان. وفى رسوماته – خاصة في دراساته عن الدوامات بناء التجارب العديدة التي قام بها، وضع دافنشى مرة أخرى شكلاً للتمثيل ينطبق على أسلوب معين كان من تصميمه هو نفسه، وكان هذا يتضمن تقسيم الظاهرة إلى أجزائها المكونة لها – خطوط الماء والتيارات الدائرية للدوامات. ولكنه في الوقت نفسه يحتفظ بالصورة الكاملة والرؤية التحليلية والتجميعية. وهكذا فإنه بالنسبة لكل المجالات الفردية المنفصلة لمعرفة علم الطبيعة، قدم دافنشى صورة موحدة للعالم: نظرية لنشأة الضرورة وقانون الانسجام اللذين خلقهما الله” (46).
وانطلاقاً من هذا يرى بعض الباحثين أن دافنشى: ” كان عبقرية تكنولوجية لا مثيل لها، ففي أعماله تتحول التقنية إلى تكنولوجيا، تحولا تعبر عنه أقواله حول الأهمية المطلقة للتجربة، التي يدعى هو أنه تلميذها بالنسبة إلى التأمل الفلسفي وإلى المعرفة الكتبية، والتي ليست على الأقل إلا قاعدة لبناء النظرية التى تحل محلها وتخالفها، تحول نادى به تصريحه الشهير القائل بأن الميكانيكا هى فردوس الرياضيات، حيث تعطى الرياضيات كل ثمارها، الميكانيكا تتحول من فن تجريبي إلى علم تطبيقي، والتالي إلى علم مغلق أمام كل أولئك الذين ليسوا مهندسين، تحول حققته مشاريعه الآلية التي سبقت زمنه، والتي لا تقدم لنا صوراً كما تقدم المجموعات التقنية من القرن الخامس عشر والسادس عشر، بل مشاريعاً محسوبة ومنجزة بالمقاييس مثل الرسوم الجيومترية (47).
وتبين مذكرات دافنشى ذلك؛ حيث تحوى دراسات وبحوث تجريبية قيمة في مجال الهندسة الميكانيكية، ومن بين هذه الدراسات والأبحاث أنه وصف وبين بالرسم كثير من الاقتراحات للمخترعات الحربية التي تشمل الدبابات والمدافع والبنادق.
ومما يدل على ذلك تلك الرسالة التي أرسلها إلى الأمير ” لود فيكو سفورزا ” والتى بين مواهبه فى مجال الهندسة الحربية، حيث يقول فيها: ” سيدي الأجل الأفخم، لقد اطلعت الآن إطلاعاً كافياً على جميع البراهين التي يتقدم كل أولئك الذين يحسبون أنفسهم أساتذة فى أدوات الحرب، فتبين لي أن اختراع هذه الآلات السالفة الذكر، واستخدامها لا يختلفان فى شئ عن الآلات والطرق التى تستخدم الآن، وقد جرأني هذا على أن أتصل بعظمتكم دون أن أبغى فقط الإساءة إلى أحد غيري، لكي أكشف لكم عما عندي من الأسرار، ثم أعرض عليكم بعدئذ، إذا سركم هذا أن أشرح لكم شرحا وافيا في الوقت الذى يوائمكم جميع الأمور التى أوجزها فى هذه الرسالة، وهى على النحو التالي (48): –
1- إني أستطيع بناء جسور نقالة عظيمة الفائدة فى مطاردة العدو أثناء الحرب أو الفرار منه بنجاح. وهى جسور خفيفة وقوية فى آن واحد، كما يسهل فكها وتركيبها بسرعة فائقة.
2- فى حالات الحصار المضروب على قلعة للأعداء يمكنني بوسائلي الخاصة، تفريغ المياه التي تملأ الحفر والخنادق من حولها. وعندي لهذا الغرض آلات حديدية وسلالم تنفع فى تسلق الجدران العالية.
3- إذا كان هناك نهر يمنع الاشتباك بين جيشين، فأنا أستطيع تغيير مجرى النهر وتحويله ضد العدو. كما أحسن حفر الخنادق والأنفاق تحت الأرض بحيث يتمكن المهاجمون من بلوغ القلعة المحاصرة فى سرية تامة ومباغتة العدو من الداخل.
4- أستطيع بناء مركبات مصفحة بالحديد ومجهزة بالمدافع وقاذفات النيران. كما أن بمقدوري صناعة قنابل يدوية محرقة تلتهم جنود العدو عند الهجوم.
5- فى أيام السلم أستطيع أن أحوز رضاكم التام فيما يختص بتشييد العمارات والأبنية والجسور فوق الأنهار وإقامة السدود ومد الأقنية الصالحة للري. وبوسعكم أن تتأكدوا من ذلك.
وبناء على ذلك يذكر بعض الباحثين أن دافنشى قد رحل إلى مدينة ” ميلانو” بعد أن رد عليه الحاكم مشجعاً. وبدأ عمله هناك كمستشار فني لأعمال استكمال ” كاتدرائية ميلانو”، ثم قام بتصميم بعض الآلات التى كان قد وعد لود فيكو سفورزا بها (49).
ويذكر ” ول ديورانت ” أن دافنشى فكر فى وضع كتاب يبين كيف تصد الجيوش بقوة الفيضان الناشئ من إطلاق المياه، وكتاب يبين كيفية إغراق الجيوش بسد المياه التى تجرى فى الوديان، ووضع تصميماً لأدوات تقذف بطريقة آلية وابلاً من السهام من سطح دوار، ولرفع المدافع على عربات، وإسقاط سلم مزدحم بقوة محاصرة تسلق الجدران، وأغفل ” بورجيا ” معظم هذه الأدوات لأنه ظنها عملية، واكتفى منها بتجربتين أو ثلاث فى حصار ” تشيري” عام 1503 (50).
واعتمدت طريقة دافنشى على تحويل كل مشكلة تصادفه إلى فحص منطقي للمبادئ الأساسية الخاصة بها، سعياً وراء الحصول على الهيئة المثلي لطريقة الحل. ويتضح ذلك حين اشتدت رغبته فى استئناف طريقة عمل من المحامل والوصلات والتروس، وغير ذلك من آليات نقل الحركة الميكانيكية (51).
ولم تقتصر جهود دافنشى على ابتكار الآلات الحربية، بل كانت له إسهامات أخرى في العلوم الميكانيكية، منها كما يذكر بعض الباحثين أنه عمل فى ميلانو مهـندساً للهيـدورليكا، حيـث قام بتعديل بوابات الأهوسة المقامة على القنوات
( عن طريق إنشائها بزوايا محدودة للصمود فى مواجهه الماء)، وخاصة أهوسة قناة ” ماريتزانا “، وقد انبهر دائماً بالقدرات الهائلة للحياة الجارفة. كما صور في لاسكتشاته عشرات الآلات التى أدخل عليها تحسينات ” (52).
وامتد نشاطه إلى تخطيط بعض المدن، وقد كتب في ذلك يقول: “يجب أن تقام المدينة إلى جانب نهر لا تعكر مياهه الأمطار، يجب أن يكون ارتفاع أبنية هذه المدينة فى مستوى واحد، ويجب أن يدخلها النور والهواء وتسودها النظافة وتنشأ فيها ميادين فسيحة واسعة (53).
ثم يستطرد فيقول: ويجب أن تكون في هذه المدينة نوعان من الطرق: طرق مرتفعة أو معلقة تزدان بنوع من الأناقة، وطرق منخفضة أو سراديب تسير تحت الأرض ترتفع رويداً رويداً عن المياه الصافية، ويرتفع منها الطين المتراكم باستمرار بواسطة الكراكات والمجاريف (54).
وكان دافنشى يتعمق في رسومه إلى أحط حاجيات المعيشة، وكان يصمم الغرف موزعة أحسن توزيع، بحيث يدخلها النور والهواء، ويضع لها مدخنة تبقى الأخشاب مستعرة على الدوام (55).
وبجانب اهتمام دافنشى بإصلاح البيئة، كانت له اسهامات علمية فى الكشف عن آلات أخرى منها كما يذكر كراوذر أنه صنع آلات لخيوط بأشكال لولبية، وسار من خلال التجربة إلى الطريق الصحيح الموصل لاختراع الساقية، وأبتكر كماحات (فرامل ) ذوات سيور، وترساً لمضاعفة سرعة الحركة ثلاثة أضعاف، ومفتاحا مضبباً قابلاً للضغط، وترس آلة للف المعادن وتدويرها، وقاعدة متحركة لآلة طباعة، وترساً ينغلق من تلقاء نفسه لرفع سلم. وأحياناً فكر دافنشى فى تعديل الآلة البخارية التى قال بها ” هيرو الاسكندرى “. كما اثبت بالتجربة كيف يستطيع الإنسان بالضغط فى مدفع أن يرمى قذيفة من الحديد على مدى ياردة. وأبتكر وسيلة للف الخيط وتوزيعه بالتساوي على مغزل دوارا ومقص ينفتح بحركة واحدة من حركات اليد (56).
هذا بالإضافة إلى أنه وضع تصميماً لمرابط الخيول التى يمكن حفظها نظيفة وللمداخن التي تدور مع الهواء كى لا يدخل الدخان الحجرات، كما وضع تعديلات متقنة لآلات النسيج، وكانت مقترحاته ورسوما ته تشمل ألآت لصنع الحبال وآلات خيوط الحرير، وقطع الأقمشة، وآلة لإزالة الوبر، ومقص الحرير والأقمشة، وقبعات الصوف (57).
ومن ناحية أخرى، فقد كان لتقدير دافنشى للميكانيكا أثره الفعال فى أن يقوم بدراسات تجريبية فى أصول هذا العلم من استاتيكا وديناميكا. ففي مجال الاستاتيكا بحث دافنشى فى مركز الثقل، وفى مبدأ الرافعة وجمع للقوى وتحليلها، وقد كان دافنشى على علم بما توصل إليه أرسطو وأرشميدس فى هذا المجال (58).
فمثلاً حول مركز الثقل قام دافنشى بدراسات تجريبية توصل من خلالها إلى أن مركز الطبيعي يقسم الجسم إلى جزأين متساويين، فهو يوضح ذلك فيقول: ” يستقر مركز الثقل لكل جسم معلق تحت نقطة ارتكازه، وبذلك يطلق اسم الخط المركزي على الخط المستقيم الذى يتصوره المرء ممتدا من الجسم (59).
كما كان دافنشى على بينة من أن مركز الثقل يمكن أن يقع خارج الجسم نفسه، حيث يقول: ” يحدث أحياناً أن يوجد مركز الثقل خارج الثقل، أو بعبارة أخرى في غير نطاق المادة أى الهواء (60).
كما توصل دافنشى أيضاً إلى الحقيقة القائلة بوجوب وقوع مركز ثقل داخل نطاق قاعدته كشرط أساسي لتوافر حالة الاتزان له، وفى هذا يقول: ” تتناسب الأوزان أو القوى تناسباً عكسياً مع أطوال أذرعتها مقاسه من نقطة الارتكاز الرافعة عندما تكون المجموعة فى حالة الاتزان (61).
كما عرف دافنشى مبدأ الرافعة الذى نادى به أرشميدس، وحاول أن يصوغ قانونه، فأكد بأنه بقوم على بديهيتين (62):-
الأولى: أن الجسمين المتساويين يكونان متساويين وزنا إذا علقا على بعدين متساويين من نقطة الارتكاز.
الثانية: أنهما إذا لم يكونا على بعدين متساويين من نقطة الارتكاز، فإن أبعدهما يهوى إلى أسفل.
وبعد أن صاغ دافنشى مبدأ الرافعة الذى قال به أرشميدس، عرج إلى تطبيقاته، ومنها مثلاً الموازيين ودارة اللف، أو المرفاع الصغير، وفيها يحصل على ما يعرف بالفائدة الميكانيكية، حيث نسلط قوة صغيرة نسبياً لنتغلب على قوة أكبر، وقد أولى دافنشى عناية خاصة للموازين ذات التدريجات التى يمكن قراءتها معرفة الوزن المطلوب مباشرة، وطبق هذه الفكرة فى قياس درجة رطوبة الهواء، حيث يزيد الوزن على الكفة التى تحمل المادة الممتصة للرطوبة، وبذلك يمكن تحديد كميتها (63).
ومن ناحية أخرى تناول دافنشى فى مذكراته دراسة مسألة جمع قوتين أو سرعتين في اتجاهين، كما تعرض أيضا للمسألة العكسية، وهى تحليل قوة ما إلى قوتين في اتجاهين معينين (64).
ويؤكد الدكتور “جلال شوقي “، أن أرسطو قد توصل إلى إيجاد محصلة قوتين متعامدتين على بعضهما البعض منذ زمن بعيد، ولكن دافنشى لم يقصر دراسته على هذه الحالة الخاصة، وإنما تعداها إلى الحالة العامة التي تتخذ فيها إحدى القوتين – أي وضع مائل مع القوة الأخرى. وقد وقف دافنشى على فكرة وجود قوة محصلة تحدث نفس تأثير القوتين مجتمعتين، واستعان فى حل مسألة تحليل القوة برافعة افتراضية في وضع متعامد مع خط عمل القوة المراد تحليلها، وبذلك يكون دافنشى أول من أدخل فكرة العزم في الاستاتيكا، كما أنه أول من توصل إلى مركبات القوة عن الشد في الحبال الحاملة للثقل” (65).
وفى مجال الديناميكا، يعتبر دافنشى بحق من رواد علم الديناميكا، إذ كانت الدراسات السابقة لعصره تتناول أساساً علم الاستاتيكا، ومن ثم فقد عمل دافنشى فى حقل بكر كان له فيه فضل واضح، وقد تعرض دافنشى للقوانين التي تنظم حركة الأجسام، واكتشف بالفعل قانونين من قوانين الحركة الثلاث التي نعرفها اليوم، وذلك قبل أن ينشرها اسحق نيوتن فى كتابه بحوالى مائتي عام. كما تناول دافنشى بالدراسة أيضاً حالة خاصة من القوة هى قوة الجاذبية (66).
حقاً لقد تعرض دافنشى للقوانين التي تنظم حركة الأجسام، فاستنتج بالتجربة أن الجسم لا يتحرك من تلقاء نفسه، وإنما يحركه غيره، وجميع أنواع الحركة تميل إلى الاستمرار، أو أن الجسم المتحرك يستمر فى حركته ما دام واقعاً تحت تأثير المتحرك. كما توصل دافنشى بالتجربة أيضا إلى أنه إذا تحرك جسم تحت تأثير قوة مسافة معينة فى زمن محدد، فإن نفس القوة ستجعل جسما له نصف الكتلة بتحرك ضعف المسافة البادئة فى نفس الزمن (67).
كما توصل دافنشى بالتجربة إلى أن لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له فى الاتجاه، وقد أوضح ذلك عند تحليله لعمل الباراشوت، حيث قال: ” أن مقاومة الجسم للهواء تعادل مقاومة الهواء للجسم. أنظر كيف يستطيع النسر أن يحلق في أجواء شديد الخلخلة بضرب أجنحته فيه. شاهد أيضاً كيف يملئ الهواء المتحرك فوق البحر الشرع المنتفخة، وكيف تسير السفن ذات الحمولات الكبيرة، من هذه الأمثلة وللأسباب المبينة قد يستطيع كيف يتغلب على مقاومة الهواء، وينجح فى غزوه ورفع نفسه فوقه ” (68).
كما تحدث دافنشى عن حالة خاصة من القوة هى قوة الجاذبية، تلك القوة التي تؤدى إلى سقوط الأجسام على مركز الأرض متبعة فى ذلك أقصر الطرق وهو الخط المستقيم، فكتب عن سقوط الأجسام قائلاً: ” إن الجسم الذى لا يعوقه عائق يتخذ أقصر طريق فى سقوطه على الأرض، وفى الهواء منتظم الكثافة تزاد سرعة حركة الجسم فى سقوطه من لحظة إلى أخرى ” (69).
ويذكر الدكتور ” جلال شوقي” بأن دافنشى قد أجرى تجربة بإلقاء كتلة ثقيلة من أحد الأبراج، فلاحظ أن الأجسام الساقطة تحيد بعض الشئ عن موضع تلاقى الخط الرأسي المسقط من البداية إلى الأرض، وقد وجد أن هذا الانحراف يأخذ اتجاهاً شرقياً، وقد عزا دافنشى وصف مسار الجسم الساقط بأنه يجمع بين حركة خطية مستقيمة، وأخرى منحنية، وسبب الحركة الخطية المستقيمة إلى مركز الأرض، وأنها حركة خطية فى ذاتها، وفى كل نقطة من المسار (70).
كما بحث دافنشى فى القوى التى تؤثر على جسم موضوع على سطح مائل، وبين أن الجاذبية تؤثر على الجسم فى اتجاهين، احدهما عمودي على المستوى المائل، والآخر فى اتجاه المستوى المائل. كما بين أيضاً أن نسبة سرعة كرة منزلقة على مستوى مائل إلى سرعة جسم ساقط لا يعوقه عائق، كنسبة ارتفاع الجسم الساقط إلى طول المستوى المائل.
مما سبق يتضح لنا أن دعوة دافنشى إلى تطبيق العلم على مجال الصناعات تمثل أول مظهر من مظاهر التحول الفلسفي فى عصر النهضة الذى هيأ الأذهان قبل فرنسيس بيكون لقبول فكرة الآلية ووضع الأساس الفكرى للعصر الصناعي الحديث.
2- التشريح
كانت دعوة دافنشى فى الرجوع لكشف أسرار الطبيعة ذات أثر فعال فى أن يتناول أموراً مختلفة المدى من مسائل تتعلق بتشريح ووظائف الأعضاء، حيث درس تحركات الناس والحيوانات، مما جعله ينصح المصورون بضرورة دراسة علم التشريح، حيث يقول: ” على المصور أن يلم بالضرورة المعارف التشريحية المتعلقة بأشكال العضلات والأوتار والعظام والأربطة، وذلك لكى يصبح قادراً على عمل صياغات جيدة لأعضاء الجسم العادى، وأن يختار أوضاعاً لحركات مناسبة لشخوصه، لأن بإلمامه لهذه العلوم سيدرك أين يكون موضع هذا الوتر أو العضلة عند أداء هذه أو تلك الحركة وما هى العضلة التى تسبب الحركة (71).
ثم يذكر دافنشى فى أكثر من موضع من مذكراته على أنه أنجز بحثاً مفصلاً فى تشريح جسم الإنسان. وقد تمكن بعض الباحثين من العثور على قطع متناثرة من هذا الكتاب. ومن أقواله الشهيرة التى وردت عنه فى تلك لقطع قولة: ” سأوضح لك تصويري الإنسان تماماً كما لو كان أى إنسان حقيقي أمامك. والسبب هو أنك لو رغبت فى معرفة أجزاء الإنسان مشرح معرفة وافية، فيجب أن تدير عينيك لتفحصه من جميع الجوانب – من أسفل ومن أعلى، ومن الجانبين، مقلباً الفحوص وباحثاً عن أصل كل عضو. وبهذه الطريقة ترضى نفسك بشأن معرفتك بالتشريح الفعلى (72).
ويصف دافنشى كمثال للطريقة التى يأمل أن يوضح أجزاء معينة من الجسم مثل اليد من الداخل، فيقول: ” عندما تبدأ يدك من الداخل، قم أولاً بفصل كل العظام قليلا عن بعضها البعض حتى يمكن التعرف على الشكل الصحيح أو التعرف على كل عظمة على الجانب الداخلي لليد، وكلما كانت المسافة بينهما أكبر كلما حصلت على العدد والموضع الصحيح لكل منهما، ثم قم بإعداد بعصهما منشورة من منتصف سمكها، أى طولياً، حتى يمكنك أن تبين أيهما خاوى، وأيهما ملئ. وبعد ذلك ضع العظام معاً مفصلة بشكل مناسب، واسحب ثم سجل مفاصل أشكال العظم الأولى. والتوضيح التالي سيكون توضيح العضلات التى تربط عظام الرسغ وشط اليد وسلاميات أو عظام الأصابع معا، والخامس سيوضح الأحبال التى تحرك المفاصل الثانية للأصابع، والسادس سيوضح الأحبال التى تحرك المفاصل الثانية للأصابع، والسابع سيوضح الأعصاب التى تمنح الحساسية، والتاسع سيوضح الأوردة والشرايين. والعاشر سيوضح اليد السليمة كاملة بجلدها وقياساتها، وأي القياسات ينبغي أخذهما للعظام. وآياً كان ما تفعله لهذا الجانب من اليد ستفعله أيضاً للجوانب الثلاثة الأخرى ؛ أى من الجانب الداخلي، ومن الجانب الظهري ومن الجانب الخارجي (73).
ولم يكتف دافنشى بوصف تشريح الإنسان بالقول، بل أضاف إلى أقواله الرسوم التى فاقت كل ما رسم قبلها فى هذا الميدان، والتى لا يخطئها الحصر للجنين والقلب والرئتين والهيكل العظمى والجهاز العضلى والأمعاء والعين والجمجمة والمخ …الخ.
وإذا تتبعنا جهود دافنشى فى التشريح، فإن معظم الباحثين يؤكدون أنه مارس التشريح بعناية أثناء ثلاثة مراحل فى حياته: فى ميلانو حوالى 1490، وفى فلورنسا ما بين 1503-1506، ثم فى ميلان مرة أخرى بين 1510-1511 وكانت هذه المرة الأخيرة بالتعاون مع الطبيب ” مارك ديلاتور” (74).
ومن الدراسات التشريحية التي قام بها دافنشى خلال تلك المراحل – منها أنه على حد قوله قيامه بتشريح ثلاثين جثة آدمية، ابتداء من الجنين إلى العجوز المئوى، وقد كتب فى ذلك ما نصه: ” شرحت أكثر من ثلاثين جثة بشرية، وكنت أشرح كل عضو من أعضائها، واستهلك كل جزء من لحومها، لكى استخرج العروق التى من حولها دون أن نخرج الدماء منها، إلا فيما يتعلق بالشرايين التى كانت تصيبها بعض الجروح الخفية، ولم يكن يكفيني العمل فى جثة واحدة، بل كنت أنتقل من جثة إلى جثة لأحصل على معلومات كافية، وأكرر العملية لكى يتضح الفرق بين النتيجتين، وما أكثر هذه الجثث، حيث كانت تصلني هذه الجثث بمجرد أن تخرج من أيدي من كان موكلاً إليه أمر الكشف عليها، فتصبح هذه الجثث مشوهة بحيث لا يجرؤ أى إنسان على الاقتراب منها (75).
ويذكر ” ادموندوا سولمى ” أن دافنشى كان يتعلم تشريح تلك الجثث فى مستشفى ” سانت ماريا نودفا ” بمدينة فلورنسا، ولقد كانت ممارسته لأعمال التشريح فى تلك المستشفى، أن اكتشف كثيراً من الأخطاء التى وقع فيها السابقون عليه (76).
فمثلا أثبت دافنشى خطأ قول جالينوس ” من الوريد الرئوي يحمل الهواء مباشرة إلى القلب، وأن للقلب تجويفين فقط، وأثبت أن للقلب أربعة تجاويف. وبحث فى حركة فيها بواسطة النماذج التى عملها. وعمل قالباً للشمع على بطينات القلب وأوعيتها الدموية، ومنه أنه عمل قالباً من الجبس وطبقه على زجاج، وبواسطة هذا النموذج الزجاجي وفحص الدورات التى يقوم بها الدم بالسير فى اتجاه واحد فقط (77).
وأثبت فى أكثر من موضع من دراساته التشريحية، أنه يستطيع أن يعطى أفكارا صحيحة عن جسم الإنسان، وقد كتب فى ذلك يقول: ” وهكذا نستطيع إعطاء أخبار صحيحة عن جسم الإنسان الذى لم يستطع الكتاب القدامى والعصريون إعطاء أخبار صحيحة عنه بدون ذكر أوصاف مضطربة وغامضة ومستفيضة عنه. ولكن هذه طريقة مختصرة لتصويره من مختلف مظاهره تجعل من السهل إعطاء أخبار حقيقية وكاملة عنه، ولذلك فلن تضيع ارشاداتى للناس فى هذا السبيل سدى، إذ أنى أعلمهم طريقة إظهاره فى نظام وترتيب (78).
ومما يؤكد تفوق دافنشى فى التشريح على من سبقه أنه توصل بالتجربة عن تركيب تجاويف المخ ؛ بأن أدخل شمعاً مذاباً فى مخ انتزعه من الجمجمة، وطريقته فى ذلك: ” اعمل ثقبين للهواء فى قرن التجويف الأكبر، وأدخل الشمع المذاب فيه، وفى نفس الوقت ‘مل ثقباً فى المخ الحقيقي فى التجاويف الثلاثة، ولكن أدخل أولاً الأنابيب الدقيقة فى ثقوب الهواء ينزح الهواء ليحل محله الشمع (79).
واكتشف دافنشى من تجاربه على الضفادع أن النخاع الشوكى أسبق بيولوجياً من المخ، وقال: ” تستمر الحياة فى الضفدعة لبضع ساعات بعد انتزاع قلبها ورأسها وقلبها وأمعائها، ولكنها تفقد الحياة إذا ما خرق النخاع الشوكى، ومن ذلك يظهر أنه أصل الحياة والحركة ” (80).
ولاحظ دافنشى من بحوثه فى الرئة أن التراب ضار، ويبدو أنه كان يدرك سبب أمراض الرئة (81).
كما اكتشف من تجاربه أن تشكيل الطفل فى رحم الأم يخضع لعامل الوراثة، وفى هذا يقول: ” أن الناس السود في إثيوبيا ليس سببهم الشمس، لأنه إذا قام رجل أسود بتخصيب إمراه سوداء فى سيكيثا (أوربا الشرقية) فإنها تلد طفلاً أشيب اللون، وهذا يدل على أن منى الأم له قوة مساوية فى الجنين لمنى الأب (82).
وفى دراساته لعمل العظام كروافع وخاصة فى ميكانيزم كمب، أي إدارة اليد، بحيث تصبح راحتها متجهة إلى أدنى عند الذراع إلى الأرقام على أفقى أو استلقاء الساعد، حول دافنشى موقفه العظيم بالتشريح إلى وصف ممتاز يفوق الخيال (83).
ويطول بنا السرد لو تتبعنا مظاهر المنهج التجريبي وتطبيقاته فى التشريح عند دافنشى، خاصة، وأن رساماته التشريحية لا حصر لها سواء فى علم العظام وعلم الأجنة وعلم التشريح المقارن. هذا بالإضافة إلى الآراء التشريحية القيمة حول الجهاز العصبي والجهاز التناسلي والجهاز البولي. وهذا إن دل على شئ، فإنما يدل على أن دافنشى يعد بحق من أعظم فنانى عصر النهضة الذين اهتموا بعلم التشريح ووضع أصوله قبل ” أندرياس فيساليوس” Vesalius Andereas.
ثالثاً: تقييم المنهج العلمى عند دافنشى
هناك سؤالاً كثيراً ما راودني ودعمته مسيرتي خلال هذا البحث، وأجد لزاماً على بأن أجيب عليه، وهذا السؤال يتمثل فيما يلي:
إذا كان دافنشى على وعى بحدود المنهج التجريبي، وبقيمة التجربة باعتبارها سبيلاً لا بديل عنه لإدراك حقائق العالم الطبيعي، ومراعاته لضرورة استعمال الرياضيات في البحث في الطبيعة، الشئ الذي أغفله فرنسيس بيكون، ثم محاولته الوصول إلى نتائج هامة حول مركز الثقل والروافع والقوة والحركة وبعض قوانين الجاذبية، ثم تشريحاته القيمة حول جسم الإنسان، فلماذا أغفل الباحثون والمؤرخون مكانته في تاريخ العلم الحديث؟ .
أتصور أن بداية الإجابة ترتبط بمدى التغير الجذري الذي يمارس به العالم دوره في الحياة العلمية في عصره، ومدى الأثر العميق الذي يحدثه فى مجرى الحياة العلمية التي ينتسب إليها، من حيث قدرته على خلخلة الثوابت الجامدة وزعزعت الأفكار السائدة، وتأسيس نوع من الانقطاع الابستمولوجى بين المعارف القديمة من جانب، والمعارف الجديدة من جانب آخر، مستهلاًُ الجديد الجذري الذي يطرح سؤال المستقبل بقوة على العلم، نفياً لتقاليد الأتباع وتأسيساً لقيم الابتداع.
وتتجسد فى حضور هذا النوع من العلماء نقاط التحول الحاسمة في تاريخ العلم، حيث لا توجد استمرارية فى المناهج المستخدمة في العلم، بقدر ما توجد قطائع واستحداثات لا تنتهى.
هذا النوع من العلماء يهب على مجتمعه بما يشبه العاصفة الجائحة التى تتغلل فى كل الأركان، فلا تبقى شيئاً على حاله الذى كان عليه، حتى فى دائرة القوى والتيارات المناقضة والمناوئة للتحول والتغير. فحدة العاصفة التجديدية التى تندفع بها رؤية هذا العالم لا تقل عن الاتساع الممتد لتجلياتها والأثر العميق لمتولياتها والتغلغل الناتج لنوافذها، خصوصاً إذا كانت اللحظة التاريخية مهيأة للتغير الجذري، دافعة إليه ومتجسدة فى الرؤية الشاملة للعالم ومـتحققة بها فى الوقت نفسه (84).
عندئذ يكون الأثر التجديدى لإنجاز هذا العالم شبيها بالزلزال، الذي يحدث تأثيراً جذرياًَ فى صميم بنية العلم السائدة، وتكون حدة الاستجابات المتعارضة لهذا الإنجاز التجديدى في تتابعه المتصل أو تصاعده المستمر متوازية مع عمق الأثر الذى يتركه في مجالات كثيرة، تصل بين دوائر عديدة تشمل المجتمع بأسره (85).
وبقدر عمق الأثر الذي يحدثه هذا الإنجاز من حيث جذر يته ونفاذ تأثيره إلى صميم الأنساق والأنظمة والعلاقات في بنية العلم السائدة، يظل هذا العالم حياً في الذاكرة العامة، باقياً كالعنصر المستفز للوعي، مثيراً للأسئلة التي لا يتوقف ما يتولد عنها من أسئلة على امتداد العقود، والتي لا تكف عن وضع هذا العالم موضع المسألة بالقدر الذي لا تكف به عن إعادة قراءة إنجازاته وتأويلها، أو تفسيرها بما يتيح نوعاً جديداً من الأجوبة التي لم تخطر ببال أحد (86).
وقد كان ” جاليليو” على سبيل المثال واحدا ً من هؤلاء العلماء ذوى الحضور العاصف الذي أقام الدنيا ولم يقعدها مرات ومرات، وذلك حين أكد مادية الأجرام السماوية، وقضى على تصور تقسيم الكون إلى العالم الروحاني العلوي والعالم السفلى المادي الفاسد. بل وخرج بنظرية كوبرنيقوس من حيز الرياضيات إلى حيز الوجود الطبيعي، ثبتها تجريبياً من خلال تلسكوبه الفلكي الذي اكتشف به عدداً من النجوم وهضاب القمر ووديانه. ولقد أهتم جاليليو بالبحث عن العلاقات التى تربط بين الظواهر وترك جانباً البحث عن المبادئ والأسباب الميتافيزيقية التى استحوذت على الفكر القديم، وبذلك أحدث قطيعة معرفية بين الفكر القديم والفكر الجديد، قطيعة لم يعد من الممكن بعدها العودة إلى أساليب التفكير القديمة والتصورات الأرسطية والوسطوية التي كانت تشكل أساس العلم والمعرفة (87) ؛ لذلك ظلت اطروحات جاليليو أكثر جذرية وحدية من اطروحات غيره، كما ظلت أعمق تأثيراً وأكثر قدرة على الإثارة.
ولأن هذه الأطروحات شغلت بأسئلة المستقبل، وطرحت على نفسها أسئلة العهد الجديد التى استبدلتها بأسئلة العهد القديم، فإنها ظلت عنصراً تأسيسياً من عناصر العهد الآتي والمقبل الذى هو صيرورة دائمة من التحول، كما ظل محل رعاية من الأزمنة اللاحقة التى تطلعت إليها هذه الأطروحات، تطلع الاستشراف والترقب والإرهاص والبشارة والتحذير فى آن واحد، وذلك هو السر فى تعدد الاستجابات اللاحقة إلى إنجازات ” جاليليو ” سواء فى تباينها أو تعارضها أو تصارعها الذي يكشف عن عمق الإشكاليات التي تنطوي عليها الاطروحات أو تثيرها.
وهذا هو السبب الذي جعل معظم مؤرخى العلم يربطون اسم جاليليو بأحداث هامة فى تاريخ العلم الحديث، فنرى اسمه، يرتبط بولادة العلم الحديث، والثورة الكوبرنيقية، والإطاحة ببعض النظريات الأرسطية التى طغت على العلم قروناً طويلة، ونرى جاليليو يرتبط اسمه كذلك بمبدأ الكفاح ضد أى سلطة تقف فى وجه العلم ومسيرته (86).
وقد كان ليوناردو دافنشى مثل جاليليو، متمرداً على القديم الجامد الذي يفرض منطق الأتباع، بدليل أن بحوثه العلمية تؤكد أنه كان يبحث فى مشكلات وقضايا علمية أظهرت نتائج خاطئة فى الوقت الذي تكشف فيه تلك البحوث أنه بحث منذ سنوات خلت فى المسائل ذاتها ووصل إلى نتائج صائبة بشأنها، بدليل أن دافنشى شمل بفكره الخصب معظم الفنون الهندسية المعروفة في عصره، وتعرض بالدراسة والتطبيق والابتكارات لمعدات شتى لم نحاول أن نحصيها عداً، أو أن نقدم لها حصراً ولا يكاد يخلو جانب من جوانب الهندسية والميكانيكا والفيزياء وعلوم التشريح…الخ من آثار فكره وعلمه.
وأكثر من ذلك أكد دافنشى على أهمية الملاحظة والتجربة في كشف آيات الطبيـعة والوقوف على أسرارها قبل فرنسيس بيكون، كما نصح العلماء في بحوثهم إلى ضرورة تدوين ملاحظاتهم والقيام بتجاربهم، ونادى بأن التأمل النظري أمر عقيم لا يليق بالإنسان، وحث على التروي في الملاحظة والتأني في التجربة، وحذر من التسرع في التعميم واستنباط القوانين.
كما أكد على أهمية استعمال الرياضيات فى البحث فى الطبيعة، الشئ الذي أغفله ” فرنسيس بيكون”، فهو يرى أن طريق المعرفة الصحيحة يجب أن يكون طريقاً رياضياً.
وقد حاول دافنشى أن يطبق أسلوبه التجريبي فى الوصول إلى نتائج هامة حول مركز الثقل والروافع والقوة والمقاومة والقصور الذاتي فى السكون والحركة وبعض قوانين الجاذبية، وبعض قوانين الاحتكاك وبعض قوانين الصلابة…الخ.
كما استطاع أن يتنبأ بإمكان الوصول إلى اختراع سفن وغواصات تسير بآلات دون حاجة إلى مجداف أو شراع، وطائرات يحرك الإنسان أجنحتها كما يفعل الطير، ومفرقعات ملتهبة تبيد الجيوش، وروافع ضخمة لرفع الأثقال، وعقاقير سامة تبيد الحشرات والهوام …إلى غير ذلك من الاختراعات التي توصل إليها الإنسان فعلاً فيما بعد، والتي تثبت أن دافنشى رسم للعالم الحديث الطريق الذي سار فيه.
وليس من الضروري أن أقوم بتعديد بقية إنجازات دافنشى فى علم الطبيعة، كما أنني لست فى حاجة أيضاً إلى تأكيد تعدد أدواره فى بحوثه العلمية فى العلوم الأخرى، فكل ذلك تأكيداً للأثر الجذري الذي يصله بأبناء جيله.
ومع ذلك فإن تقييم عبقرية دافنشى أصعب بكثير من تقييم عبقرية جاليليو، ولعل مرد ذلك يرجع إلى عدة أسباب من أهمها على سبيل المثال لا الحصر:
السبب الأول: ليس فى مذكرات دافنشى علماً جديداً، بل كانت تلك المذكرات تعكس أفكاراً علمية كانت شائعة فى المدارس العلمية المنظمة فى إيطاليا فى عصره. فحال الرجل هنا ليس حال عالم يبتكر جديداً، بل على حد تعبير راندال تعكس ما كان قائماً بالفعل، وما تواتر على ألسنة العلماء فى عصره أو دار فى أذهانهم. وما مرد الدهشة العظيمة التى حيرت الباحثين حين طبعت مذكرات دافنشى لأول مرة سنة 1881م تحت عنوان ” قوانين باريس”، إلا جهلهم بما كان عليه العصر الذى عاش فيه العالم الفنان (87).
لذلك يؤكد بعض المؤرخين بأن مذكرات دافنشى لم تكن مبتكرة، إذ كان واسع الإطلاع، فقد قرأ ما قاله ” ألبرت السكسوني” فى الجاذبية و ” جوردانس” فى الروافع و” روجرز بيكون ” فى الهندسة الحربية، كما قرأ ” فتروفيس” وسعى للحصول على ترجمة ” أجير وبولس” العالم الإغريقي، وبكتب ” ” ألبرت ” المهندس المعماري العظيم الذي أدخل تحسينات على الغرفة المظلمة فى التصوير، وقاس عمق البحار واخترع لقياس الرطوبة، وحسن طريقة إنقاذ السفن من الغرق، وزامل “برامانت” المهندس المعماري، وكان صديق ” ديلاتور” أستاذ التشريح فى “بافيا”، وقرأ مؤلفات “ابن سينا” و” ابن الهيثم “، وكان على علم بالبحوث التى أجريت فى العصور الوسطي والعصر الأغريقى (88).
ونفس الشئ يقال على بحوثه التشريحية، فقد ذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن تطور علم التشريح لم يكن ليتوقف أو تتأخر مسيرته لو أن دافنشى لم يكن حياً أو لم تكن له إسهامات فى مجال التشريح.؟ (89) ؛ وذهب مؤرخون آخرون إلى القول بأن تأثير دافنشى فى التشريح يكاد لا يذكر(90).
السبب الثانى: إن دافنشى كان مهتماً على الدوام بكافة القضايا العلمية وشغفه بها يزداد على مر الزمن، ولقد أدى ولعه بقضايا العلم على هذا النحو إلى الانشغال عن بعض أعماله الهامة، فكان أن خلف وراءه تحفاً لم تكتمل. لقد كان عقله كما يذكر راندال خصباً، انشغل بما يزيد عما يلزمه، وقاده عقله الذي يشبه عقل ” ليبنتز ” إلى أن يتحرك في اتجاه جديد قبل أن ينتهي من مشروع أو فكرة، بل قبل أن يتم بداية المشروع أو الفكرة، ولقد كان لهذا أثره فى أن يصبح أستاذ الأفكار الناقصة والمشروعات غير المكتملة (91).
لاشك فى أن حب دافنشى للعلم التجريبي وحماسته له لا يحتاجان إلى جدل، فمن المؤكد أن أنشطته تدل على أنه رجل علم، وكذلك فنان. ولكن هل من الممكن كما يقول ” جورج سارتون “: ” أن ننسب إليه اكتشافاً علمياً واحداً، باستثناء تلك التى تحتوى عليه رسوماته ضمناً. فلكي ينسب للمرء اكتشاف علمي لا يكفى أن يقوم به، بل يجب عليه أن يفسره، وأن يثبت بوضوح شديد أنه على استعداد لذلك، ويجب أن يكون مستعدا للدفاع عنه ؛ بل إن الاكتشاف لا يتم ولا يكتمل إلا إذا تم تنفيذه وأصبح واقعة حقيقية. أما أن فكرة تراود عقل الإنسان، فهي كبذرة النبات لا تكون كافية، إلا إذا أخرجت لنا ثماراً، ولقد كانت أفكار دافنشى العلمية مثل البذور التى عجزت عن النضج وظلت مدفونة فى ملحوظاته ورسوماته. وربما كان عدم النضج راجعاً جزئياً إلى نقص تعليمه الأدبي، والذي لم تكن عبقريته العلمية قادرة على تعويضه أبداً (92).
السبب الثالث: حتى لو كان دافنشى يملك بالفعل أفكاراً علمية مبتكرة ونظريات أصيلة، فإنه يظل فى ذلك بعيداً عن احتلال مرتبة هامة جداً فى تاريخ العلم الحديث. ولعل السبب فى ذلك كما يذكر معظم المؤرخين هو أن مذكراته لم تنشر بعد وفاته إلا فى أواخر من القرن التاسع عشر، وبالأخص فى سنة 1881، ثم فى سنة 1894م تحت عنوان ” الكوديك أتلانتيكو”، وبالتالي فقد ظلت أفكاره غير معروف. وظل هو نفسه مجهولاً بخطئه، لأنه لم يفعل أى شئ لنشر اكتشافاته (93).الأمر الذى أدى بكثير من الناس إلى أن يسرقوا مذكراته وينسبوا ما فيها لا نفسهم دون أن يشيروا إليه، حيث يقول ” كرواذر”: ” إن البحث التاريخي أثبت حديثاً أن مذكرات دافنشى قرأها بعض الناس ونسبوا ما فيها لأنفسهم دون أن يشيروا إليه، ومن أشهرهم ” جيروم كاردان”، ويرجع الفضل فى رسالة كاستلى فى علم السوائل المتحركة، والتى نشرت فى عام 1621 إلى بحوث دافنشى، وأخذ ” فيلابوند بحثه فى مركز الجاذبية، و “بالدى ” بحثه فى مركز الضغط من مذكرات دافنشى. ولقد أدت هذه البحوث إلى نظرية مراكز التذبذب لـ” هوجينز”، ودخل كثير من مكتشفاته واخترعاته فى الميكانيكا فى بداية القرن السابع عشر دون أن يذكر له اسم (94).
السبب الرابع: إن العلم ليس مجرد الميل إلى إجراء التجارب، كما ذهب دافنشى فى رده على منتقديه الذين لا موه على إفراطه فى تجريبيته. لقد كان دافنشى ينعى عليهم أنهم لا يعولون عليها فى كتاباتهم، مع العلم بأنها أولى بالذكر من أي شئ آخر. فذكر تجربة مثلاً أولى وأهم من ذكر كتاب شهير، والاستشهاد بنتائج التجربة أهم من الاستشهاد بالكتب وما ورد فيها. إن العلم لا يتحقق من مجرد رفض أقوال السابقين وطرح أفكارهم جانباً على نحو ما يؤكد دافنشى، الذي لم يكن فى ذلك يمثل أى عبقرية أو ابتكار، بقدر ما كان فى ذلك مقلداً لأفكار السابقين. لقد كان دافنشى بالفعل متأثراً فى كل ذلك بكتابات بعض المفكرين الذين ظهروا فى أواخر العصر الوسيط فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهم كما يقول راندال جماعة المفكرين الذين أولوا العمل الذهني ورفعوا مكانته فوق مكانة التقليد والحفظ عن الأولين. ولكن مجرد التأثر بكتابات تلك الجماعة طارحين جانباً أن هذه في ذاتها حجة يمكن أن تساق ضد دافنشى نفسه، فلا تجعل منه عالماً ولا تشكل كتاباته فى إطار المنهج العلمي علما بالضرورة. ومن هنا فإن احتجاجات دافنشى ورفضه لفكر السلف ونظرياتهم كانت عظيمة، ولكنها فى حد ذاتها لا تشكل علماً، ولا يمكن تأسيس علم من خلال ملاحظات متناقضة مهما بلغ وصفها وذكر تفاصيلها. فالعلم فوق كل الاعتبارات السالفة، ليس ضرباً من الحدس ينتاب فرداً عبقرياً بين حين وآخر إبان خلوه إلى نفسه، على الرغم من أن الحدس يشكل أحياناً عاملاً مهماً وخطوة واحدة نحو تأسيس نظرية علمية صحيحة. العلم فوق كل شئ جهد مشترك وحصيلة أبحاث عديدة لجماعة تسعى إلى تحقيق هدف واحد على نحو الجهود المشتركة التى استمرت حتى العصر الذى ظهر فيه جاليليو، وهذه الجهود كان لها دور عظيم فى ظهور العلم الحديث (95).
السبب الخامس: كثيراً من مقولات دافنشى تتناول المنهج العلمي المناسب الصحيح، ولديه الكثير مما يقال عن العلاقة بين العقل والتجربة، وما قاله جعلنا نراه سابقاً لفرنسيس بيكون في المنهج الاستقرائي. وكأن هذه الطريقة تقترب إلى حد ما من الطريقة التي استخدمها علماء القرن السابع. من هذه المقولات والتى أوردناها سالفاً: ” لا العقل وحده ولا التجربة وحدها تكفى، فالذين يفتنون بالممارسة على حساب العلم كصاحب السفينة التي يقودها بدون شراع أو بوصلة ولا يعرف من أين يذهب. من هذه الناحية نجد أن التفكير المجرد لا جدوى منه ” ؛ ” ويقولون أن تلك المعرفة التي تنبثق من الاختبار هي معرفة آلية، وأن المعرفة التي تتولد في العقل وتنتهي إليه هي معرفة علمية. على أنه يبدو لي أن تلك العلوم التي لا تتولد من التجربة _ وهى أم كل يقين – والتي لا تنتهى فى الملاحظة – أي فى تلك العلوم التي لا تمر في منبعها أو فى سياقها المتوسط أو نهايتها بإحدى الحواس الخمس هى علوم باطلة ومليئة بالأخطاء (96).
غير أن دافنشى لم يشغل نفسه بتعريف المصطلحات الأساسية مثل ” اليقين” و”التجربة” و” الحقيقة ” و”العقل”. وبالتالي أطلق الأحكام على عواهنها. من تلك الأحكام ” اليقين يعتمد على التجربة ” مع أن العلم كما يقول ” راندال ” ليس هناك يقين في عدم وجود مبادئ العلوم الرياضية، ولا عندما ينفصل الموضوع عن الرياضيات (97).
السبب السادس: إن إجادة دافنشى الثنائية للعلم والفن لم تكن فريدة من نوعها، فقد كانت تلك الثنائية عميقة الانتشار فى عصر النهضة باعتبارها تبدياً مزدوجاً لاهتمامها التوكيدى للعالم، رداً على الأخروية التقليدية لثقافة العصر الوسيط. ولم يكن مشهد عصر النهضة الأسبق زاخراً فقط بأمثلة على الفنانين – العلماء على نطاق محدود ؛ بل إن التجوال المرن المتواتر بين الوسائط المختلفة كان هو ذاته جزءً لا يتجزأ من المثل الأعلى الشخصي لثقافة عصر النهضة ألا وهو الإنسان الشامل. وقد اقتسم دافنشى فخره البارز بمواهبه المتعددة مع كل شخصية مبدعة تقريباً فى عصر النهضة (98).
والأهم فى تقديري هو مواجهة السؤال الذي فرض نفسه فى البداية، ولا بد أن يفرض نفسه في النهاية ؛ أعنى السؤال الذي يرتبط بأسباب تراكم النسيان على بحوث ليوناردو دافنشى العلمية بالقياس إلى بحوث جاليليو على سبيل المثال؟
أحسب أن الإجابة أصبحت الآن واضحة من حيث ارتباطها بدرجة الثورة الجذرية التي لم تصل إليها أعمال دافنشى بالقياس إلى جاليليو، حين اكتشف جاليليو قانون تذبذب قانون الأجسام وقانون الأجسام الساقطة ووضع أسس قانون القصور الذاتي، واكتشف البقع الشمسية وقوانين المد والجذر، واكتشف بعض التوابع غير المعروفة للقدماء، واخترع التلسكوب، وقضى حياته يدافع عن نظرية ” كوبرنيقوس” فى دوران الأرض حول الشمس، ولقي في ذلك عنتاً شديداً أمام محاكم التفتيش.
وعلى أية حال نحن لا ننكر أن بحوث دافنشى التجريبية فيها من الايجابيات ما يذكر لها بالقطع، ولكننا إذا وضعناها تحت مجهر الابستمولوجيا المعاصرة، وخاصة ابستمولوجيا ” جاستون باشلار” القائمة على فكرة القطيعة الابستمولوجية، نجد أنها لا تستطيع أن تخلف لنا الأثر الجذري الذي تركته أعمال جاليليو، ولذلك ظلت بحوثه التجريبية بعيدة عن خلق قطيعة ابستمولوجية كتلك التي أحدثها كتاب ” محاورات حول النظامين الرئيسيين: البطليموسى والكوبرنيقوس، أو كتاب أبحاث وإيضاحات رياضية فيما يتعلق بعلمين جديدين ينتميان إلى الميكانيكا لجاليليو.
وخلاصة القول أن دافنشى قد أخذ من كل ملاحظات وتجارب السابقين عليه بطرف، واهتم بالرجوع إلى الطبيعة اهتماماً خاصاً، ولكنه ظل في المنطقة الهادئة من الفكر والإبداع، تلك المنطقة التي لا تعرف الحدية في رفض القديم، أو الجذرية في التجديد، فكان نموذجا للوسطية التي لا تثير العواصف ولا تهيج البراكين ولا تتحول إلى زلزال، وإنما تمضى في يسر إلى هدفها الذي يكمل مهمة غيرها.
لقد كانت اكتشافات أو تجليات دافنشى العلمية كنجمة فى تاريخ العلم الحديث لمعت فجأة واختفت ؛ وذلك لأنها لم تحول مجرى التفكير العلمى فى العصور الوسطى، ولم تحدث تلك النقلة الكيفية فى أدوات البحث عبر تاريخ العلم الحديث، وإن استخدم وسائل وفرضيات علمية تناسب حركة الحياة فى عصره.
ولقد أدرك ” راندال” ذلك حين أراد أن يكشف عن مكانة دافنشى فى ظهور العلم الحديث، وقد خلص راندال بعد اطلاعاته واستقصاءاته فى بحوث دافنشى التجريبية، إلى أنه ما من فكرة طرحها دافنشى وتوهم بعض المفكرين والمؤرخين أنه مبتكرها، إلا وكانت معـروفة لـدى الجامعات الإيطـالية فى القرن الخامس عشر (99).
والأكثر من ذلك كما ذهب راندال، هو أن جماعة من الباحثين قد بينوا أن هناك فرقاً كبيراً بين نظرية الحركة التى أبرزها دافنشى فى بحوثه، وبين علم الديناميكا الذى تمكن جاليليو من ترسيخه عام 1632. نعم قد تكون هناك صلة بين فكرة أو نظرية طرحها دافنشى، ونعلم الآن أنه لم يكن هو مبتكرها، وبين علم راسخ تم تأسيسه بعد قرنين من الزمان مثلاً. ولكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن جملة التحليلات التي طرأت على الفكرة أو النظرية فى بداية أمرها وعبر مسيرتها الطويلة، قد باعدت بين الفكرة فى سابق أمرها ولاحقه، حتى ليصعب تصور علاقة بينهما (100).
وبذلك لم يكن راندال جائراً على دافنشى حين قال عنه أنه لم يكن عبقرياً أو عالماً، بمعنى أنه أتى بنظرية علمية أو أبتكر شيئاً لم يكن قائماً فى عصره، والسبب فى ذلك يرجع إلى أنه كان يهتم بقضية أو مسألة ما من غير أن يظهر ميلاً إلى تأسيس بناء منظم لمعرفة دقيقة. ولعل موهبته الفنية التى ترتكز على التفاصيل والمفردات، وكل مال هو عيني وحقيقي، وهى موهبة تتجلى من خلال دقة ملاحظاته، هى التى دفعت به إلى تحليلات ودراسات تفصيلية لجوانب فرعية. وغنى عن الذكر أن الإسهاب فى تحليل جانب أو فى تفصيل الحديث فى ناحية فرعية لا يعنى الإجابة عن المشكلة التى سعينا إلى دراستها ابتداء. فالمشكلة أو الظاهرة العلمية كل معقد، ولا يتم تفسير الكل من خلال جزء أو بضعة أجزاء منه. صحيح أننا كثيراً ما نتناول الأجزاء المفردة بالدراسة والتحليل لأجل أن نصل إلى نظرية عامة. ولا ضير فى ذلك كله متى كان سعينا يؤدى بنا فى نهاية المطاف إلى تحقيق ما كنا سعينا إليه منذ البداية. ولكن لم يكن ذلك حال دافنشى على وجه الخصوص. نعم أننا نلحظ تدرج الفكر عنده من الجزئيات والخصوصيات إلى الكليات والعموميات. ولكنه لم يبلغ مراده قط، أو على الأقل لم يكن ذلك سيره في ذلك الطريق ليوصله إلى نتائج يمكننا اعتبارها علماً بالمـعنى الصحيح لكلـمة علـم (101).
وينتهى ” راندال ” إلى هذه النتيجة فيقول: ” ولكن إذا لم تكن لدافنشى مكانة أو إسهام فى ظهور العلم الحديث، باعتبار أنه لم يؤسس نظرية علمية هامة كتلك التى جاء بها جاليليو، فإن الإنصاف يقتضى على الأقل أن نفرد له مكانة هامة في ظهور معرفتنا لتاريخ العالم الحديث، وذلك لكونه يمثل العدسة المجمعة التي عملت على استقطاب تيارات فكرية عديدة كانت متأججة فى بداية عصر النهضة، وكان من فرط تأثره بما يدور حوله أن تمكن من تقديم كتاباته مصورة على أوضح ما تكون عليه صوره لجملة المذاهب والنشاطات الفكرية التي برز العلم الحديث من بين ثناياها ” (102).
هذا هو التفسير الابستمولوجى لأسباب تراكم النسيان على بحوث دافنشى العلمية، وهو أنه لم يتخلص كلية من فكر السابقين عليه في منهجه التجريبي، وبالتالي لم يحقق التغير الجذري كما حققه العلماء اللاحقون عليه، وبالأخص جاليليو. وبالتالي لم تبرح بحوثه العلمية أرض تاريخ العلم الحديث، لتحدث قطيعة أو ثورة على القديم كله، كما فعل اكتشاف قوة البخار أو المحرك الآلي فى العصر الحديث.
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، وهى أننا إذا كنا قد عرضنا لأسباب هذا التراكم على بحوث دافنشى العلمية، من خلال النظرة الداخلية للعلم، فلابد لنا من أن نعرض لأسباب هذا التراكم من خلال النظرة الخارجية للعلم – أعنى العوامل الاجتماعية، خاصة وأن العلم كما يذكر الدكتور ” فؤاد زكريا”: ” ليس ظاهرة منفردة تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة، وتخضع لمنطقها الداخلى البحت، بل إن تفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا ينكرها أحد، فحتى أشد مؤرخي العلم ميلا إلى التفسير الفردي أو الداخلي لتطور لا يستطيعون أن ينكروا وجود تأثير متبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذى ظهر فيه، حتى ليكاد يصبح القول بأن كل مجتمع ينال من العلم بقدر ما يريد (103).
وتاريخ العلم يقدم أمثلة كثيرة تثبت أن المجتمع حدد بقدر معقول من الدقة نوع العلم الذى يحتاج إليه، وهذا لا يتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالم ودوره الأساسي فى الكشف العلمى، فلا أحد يزعم أن العالم مجرد أداة يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته، وأن الكشوف العلمية يمكن أن تتم على أيدي أناس ممن تتوافر لديهم عبقرية كبيرة، ما دامت تظهر فى المجتمع المناسب، بل إن هذه أحكام باطلة تبخس العالم حقه، وتصوره كما لو كان وسيلة في أيدى قوة غيبية تتحكم فيه تحكماً تاماً، حتى لو كان المرء يطلق على هذه القوة الغيبية اسما يبدو في ظاهره علمياً وهو حاجة المجتمع (104).
وحقيقة الأمر، هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافر العاملين معا – حاجة اجتماعية وعبقرية ذهنية، وكل ما في الأمر أنه عندما تتوافر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية. ذلك لأن أفراد البشرية الذين يعدون بالملايين لا يخلون في كل عصر من عباقرة. ولكن من المهم أن يأتي العبقري فى وقته وفى أوانه، وأن يلبى حاجات عصره (105).
ومن المؤكد أن دافنشى كان عبقرية ظهرت فى غير أوانها ؛ أعنى في وقت لم يكن المجتمع الإيطالي في عصره مهيأ لقبول كشوفه، وبالذات التي فيها نظرة مستقبلية، فكانت النتيجة أن لمعت عبقريته فجأة، ثم انطفأت كالشهاب البارق دون أن يترك وراءه تأثيراً باقياً فيها. فها هو ذا مؤرخ الفن الإيطالي ” إدموندو سلمى” يقول: ” لقد بدت بحوث دافنشى العلمية غربية في نظر مجتمعه، مما جعل يدا مجهولة لرجل من رجال القرن السادس عشر تكتب على هامش موسوعة ليوناردو دافنشى أعمال مجانين، ولم يكن ” فازارى” ( أحد مؤرخي الفن فى القرن السادس عشر) بعد مرور نصف قرن من الكتابة عن ليوناردو دافنشى يجد كلمة مناسبة يصف بها أعماله العلمية سوى كلمة أعمال مجانين وأمزجة وأهواء (106).
ويمكن أن نفسر سوء فهم الناس لبحوث دافنشى العلمية فى عصره على حد تعبير ” كروا ذر” إلى أنه كان يكتب هذه البحوث بطريقة عكسية، كما تبدو الكتابة فى المرآة، لأنه كان أعسر يكتب من اليمين إلى الشمال، ويحتاج من يقرأ بحوثه إلى تمرين، بل قد يكون من الصعب أحيانا حل شفرتها وفك رموزها حتى بمساعدة مرآه (107)([1]).
ولم يكن السبب في ذلك إلى أنه كان عليه أن يخفى أفكاره عن أي شرطة دنيوية أو عن أي رقابة كنسية. فلم تكن سلطة البابوية تمتد إلى الدول – المدن الإيطالية الفخورة مثل فلورنسا أو ميلانو، حيث عاش وعمل. كذلك لم تكن الكنيسة المعاصرة ولا الحكام الإقليميون مثل لودفيكو سفورزا – دوق ميلان غير متعاطفين مع بحثه على الإطلاق. كان تكتم دافنشى خاصاً بطريقة عمل ذهنه: ففي تدوينه لملاحظاته كان يتواصل مع نفسه، ولم يرد لأي شخص أن ينظر من فوق كتفه. كانت ملاحظاته انعكاسات ذهنية مكثفة بصورة غير عادية، وكان لابد أن تنأى عن الضوء العام (108).
وعلاوة على ذلك كانت بحوثه غير مسلسلة، ولم تكن معدة للنشر، وكثيراً ما كان يدون آراءه فى موضوعات غير الموضوع الذى يكتب فيه، وفى نفس الصحيفة مما يربك القارئ، وهو يعتذر عن ذلك حيث ينقل عنه ” كرواذر” قوله: ” ستكون هذه مجموعة غير مرتبة، مكونة من صفحات كثيرة، وإني آمل أن أعيد كتابتها مرتبة حسب الموضوعات التى تعالجها، وإني اعتقد قبل أن أنتهي من كتابة هذه المذكرات، أنى سأكرر الشئ الواحد عدة مرات، ولذلك أرجو ألا يلومني القارئ، لأن الموضوعات كثيرة والأفكار تأتيني، فأضطر لكتابتها والذاكرة لا تستطيع أن تعيها.
ويعلق ” كرواذر” على ذلك فيقول ” يدل هذا القول على أنه كان يود أن لا يجعلها صعبة وغامضة. وكثيراً ما كان شرحه غير واضح، وكانت النتائج التي يصل إليها تأتى بمعلومات جديدة لا يجد لها اسماً ” (109).
ومن ناحية أخرى، فقد كانت صعوبة إتمام أي بحث علمي فى عصر دافنشى أشد مما في العصور التي تلت، لأن تطور الأسلوب العلمي كان لا يزال ناقصاً، كما كانت لا توجد فى عصره جمعيات أو معامل علمية. يمكن أن تطبق أو تجرى فيها التجارب، ولم تنشأ تلك المعامل للبحوث إلا بعد إنشاء المصانع، ولو كان هناك علماء للبحوث العلمية المنتظمة الذين تعلموا النظام من المصانع لعاونوه على إتمام بحوثه، وكان في وسعه أن يعبر عن قوانين الميكانيكا بأسلوب عصري تام، لكنه لم يستطع ذلك لأن تنظيم العمل، ومن ثم الفكر لم يتقدم كثيراً فى معمل الفنان والصانع الماهر في عصره (110).
وفى دعوة دافنشى إلى تطبيق العلم الرياضي على الأبحاث الطبيعية، كان هناك عاملاً اجتماعياً واقتصادياً وراء ذلك ؛ فقد كان ظهور طبقة التجار فى عصر النهضة الأوربية، وازدهار هذه الطبقة فى المدن الأوربية على حساب طبقة النبلاء الإقطاعيين، باعثاً للحاجة إلى تطبيق الحسابات الرياضية على المعاملات النقدية التي كان يقوم بها هؤلاء التجار. ذلك لأن إدارة الأعمال التجارية تقتضى معرفة واسعة بالعد والحساب، وتحتاج من رجل الأعمال إلى نظرة تجريدية صارمة، بدونها لا يكون ناجحاً فى أعماله. وحين يشيع التعامل بالنقود ويتغلغل فى حياة الناس اليومية، ويحل محل المقايضة بالسلع، يكون معنى ذلك مزيدا من التجريد، إذ أن النقود أشبه بالرموز الرياضية، من حيث أنها لا تعنى في ذاتها شيئاً. بل إنها تكتسب معناها كله مما يستعاض به عنها في التعامل النقدي. وهكذا اكتسبت الأعمال التجارية صبغة مجردة بفضل انتشار المعاملات المالية، واستخدام الكميات والمقادير النظرية الخالصة في حسابات التجار (111).
ومن خلال ذلك كان العلم في عصر دافنشى يسير فى اتجاه مماثل، حيث يرمى إلى الاهتمام بالعلاقات الرياضية بين الأشياء، لا الصفات النوعية أو الكيفية الكامنة فيها. لذلك لا نتعجب حين نجد دافنشى يدعو إلى اتخاذ الدقة الرياضية والتجريد الكامل مثلا أعلى يهدف إلى تحقيقه فى كل بحث فى الطبيعة.
النتائج:
بعد هذه الجولة من دراستنا لإشكالية المنهج العلمي عند ليوناردو دافنشى، نود أن نشير إلى أهم النتائج التي توصلنا إليها، وذلك على النحو التالي:-
1- إذا كان دافنشى قد تمتع بموهبة عظيمة دفعته إلى استشفاف الدعامتين الأساسيتين للبحث العلمي الحديث: التجربة والرياضيات، إلا أن منهجه التجريبي كان قائماً على التأمل والتفكير فقط، لا على الممارسة العملية للبحث العلمي، فلم يكن دافنشى مجرباً ولا باحثاً بالمعنى الدقيق للكلمة، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أنه عاش فى أوائل عصر النهضة، ذلك العصر الذي لم يتم فيه الانتقال بعد من القديم إلى الجديد. فكان طبيعياً أن يحمل تفكيره العلمي بعض معطيات القديم إلى جانب الجديد الذي جند نفسه للدعاية له والتبشير به. لقد هاجم طرق التفكير القديمة، ولكنه لم يتحرر من إرث القرون الوسطي بكامله، على الرغم من انتقاده للفلاسفة القدماء – أرسطو وعلماء القرون الوسطي. فلقد بقى عقله أرسطوطاليسياً بعيداً جداً عن عقل جاليليو وديكارت، مما جعله يحمل بين طيات تفكيره وجهين متناقضين: وجه الداعية لمنهج جديد والمخطط له، ووجه المفكر الذي بقى يتحرك في إطار الآراء والمعلومات القديمة.
2- إن الروح العلمية التي أنطقت دافنشى، لم تكن نتيجة موهبته الفنية، بقدر ما كانت من إيحاء نسيم العلم الغربي فى العصور الوسطى الذي كان يهب عليه من خلال الكتب التي كان يقرأها لأساتذة جامعة باريس ومدارس إيطاليا. هنا في هذه الكتب والمدارس يتجسد كلام دافنشى في المنهج العلمي.
3-إن تعطش دافنشى الشديد لمعرفة العالم المحيط به ولبلوغ سر الكمال بالبحث، كان من شأنه القضاء على أعماله كلها تقريباً بأن تبقى ناقصة دون أن تتم، لأنه كان يرى أن النقل دون بحث أو دراسة، والعمل دون معرفة، إنما هي عملية أشبه ما تكون بعمل صاري السفينة غير جديرة بالفن، لأن كل شئ يجب أن يكون قد قيس بقياس العبقرية ودرس دراسة مستفيضة. ولا يجب البدء في عمل أى شئ لم يبحثه العقل والتأثيرات الطبيعية. وأن انتزاع كل قيمة من القيم من الإلهام الواعي يجب أن يكون هدف الفنان، وبهذا الشرط تمتزج الدقة بالحرية والحقيقة مع الجمال.
4- إن دافنشى تتمثل فيه روح النهضة الإيطالية أصدق تمثيل، تلك الروح التى تدفع كل إنسان إلى ضرورة التفكير فى مصيره، ويجب عليه أن يعمل بصرف النظر عن أي اعتبار أخر من الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية. ولما كان دافنشى قد ولد للبحث العلمي ومنحه الله كل المواهب اللازمة للباحثين، فإنه اتجه إلى طريق التطبيق العلمي المثمر. ولكنه وهو فى عزلته كان يغوص فى ميادين العلم ويضرب فيها أشواطا بعيدة. غير أن ضرورات الحياة وطبائع العهد الذى عاش فيه جعلته يعود للتمسك بأهداف الفن ويمارسه مدة وجيزة، مع أن نفسه تستخفه من جديد للعودة إلى البحث النظري والفكري، وكان تردده الدائب بين العمل الفني والبحث العلمي سبباً فى تحطيم عمله وألفت فى عضده.
5-إن تقييم عبقرية دافنشى العلمية أصعب بكثير من تقييم العبقرية العلمية لرجال العلم الآخرين، ولعل ذلك يرجع إلى أن بحوثه العلمية لم تكن معدة للنشر، وبالتالي كانت ملحوظاته صعبة وغير مسلسلة ومكررة. كما كانت معظم أفكاره هى بسط لبحوث من سبقوه من علماء العصور الوسطى. وعلاوة على ذلك فإن التقليد الذى جمعه دافنشى لم يكن تقليداً أدبياً، ولكن بالأحرى تقليداً شفهياً ويدوياً.
6- على الرغم من أن تأثير دافنشى فى التشريح لا يكاد يذكر، إلا أن أعماله التشريحية كانت مذهلة، وإذا كان ” فيساليوس ” ( مؤسس علم التشريح الحديث) بحكم كونه طبيبا وأستاذ للتشريح كان يجرى كثيرا من العمليات التشريحية، فإن دافنشى كان مثله، حيث أجرى كثيرا من التشريحات، وأجراها بنفس الجودة التي أجرى بها فيساليوس تشريحاته، وإن لم يكن ذلك بصورة منهجية.
7- إن الجهود التي بذلها دافنشى في مجال علم الميكانيكا، تبين أنه كان فيلسوفاً أكثر منه مهندساً، فلقد كان مهتماً بالمبادئ النظرية أكثر من اهتمامه بتطبيقها. ولكن لسوء الحظ، فإن مبادئ الميكانيكا في عصره لم تكن واضحة بعد، الأمر الذى حدا به إلى مواصلة التقاليد القديمة التي يمكن إرجاع تاريخها إلى أرسطو وأرشميدس وألبرت السكسوني.
8- لقد كان دافنشى من أكثر فناني عصر النهضة نزوعاً نحو الاتجاه العلمي فمذكراته تكشف عن عقل فائق الأصالة، متقدم عن عصره بصورة لا تصدق فى أمور كثيرة موحية، خصب بأشد الاستبصارات إدهاشاً، ويرشده شعور منهجي صلب، على رغم أن المرء مرة لا يمكنه أن يقول بالضبط ماذا كان ذلك المنهج.
9- لقد ظلت أفكار دافنشى العلمية خارج التيار الرئيسي للفكر العلمي، وتلك هي سمة دائمة الإدهاش فى مثل هذا العقل الهائل. ولم يفتقر فحسب إلى التدريب الأكاديمي – الذى كان يمكن أن يضعه على قدم المساواة مع غيره من المفكرين العلميين لعصره – بحيث إنه على رغم القراءة النهمة التي حاول بها التغلب على ذلك النقص، غالـباً ما تغيب عنه الصـياغة النظرية التي تحققت فعلاً لمشكلة ما ( وأحياناً الحل). وما يعزله بشكل أقسى وأصعب هو أنه لم يقدم أبداً إسهاماً مباشراً واحداً إلى التطور المنهجي للمعرفة العلمية.
10- إن دافنشى يبدو للوهلة الأولى في منهجه العلمي وسيطاً أكثر بكثير من كونه حديثاً. والرؤية التنبؤية بالمبتكرات التكنولوجية التي تفصلها عنه قرون كثيرة – والتي جسدتها رسوماته في الوصول إلى اختراع سفن وغواصات تسير بآلات دون حاجة إلى مجداف أو شراع، وطائرات يحرك الإنسان أجنحتها كما يفعل الطير، ومفرقعات ملتهبة تبيد الجيوش، وروافع ضخمة لرفع الأثقال، وعقاقير سامة تبيد الحشرات والهوام …إلى غير ذلك من الاختراعات التي توصل إليها الإنسان فعلاً فيما بعد – كان يشترك فيها مع عقول وسيطة معينة، وخصوصاً ” روجرز بيكون “، الذى سبق دافنشى بأكثر من مائتى عام وطرح تطور التكنولوجيا الحديثة بسمات عديدة مماثلة، لكن ليس بالتفصيل نفسه.
الهوامش
أولاُ: قائمة المصادر والمراجع العربية(1) د. لويس عوض: ثورة الفكر فى عصر النهضة الأوربية , مركز الأهرام للترجمة والنشر , الطبعة الأولى , 1987, القاهرة , ص 184.
(2) توماس جو لد شتاين: المقدمات التاريخية للعلم الحديث ” من الإغريق إلى عصر النهضة” , ترجمة أحمد حسان عبد الواحد ,عالم المعرفة , عدد296 , رجب 1424- سبتمبر 2003 , ص 202.
(3) المرجع نفسه , ص 222.
(4) المرجع نفسه, ص 227.
(5) نفس المرجع , ص231.
(6) نعمت إسماعيل علام: فنون الغرب فى العصور الوسطى والنهضة والباروك , دار المعارف , الطبعة الثالثة , 1991 , القاهرة , ص 86.
(7) Ralph M. Blake , Curt J. Ducasse: Theories of Scientific Method: The Renaissance Through The Nineteenth century ,University of Washington Press , U.S.A ,1960 ,P.10 – 11.
(8) أحمد أحمد يوسف: ليوناردو دافنيشى , دار المعارف , القاهرة , بدون تاريخ , ص 56.
(9) نفس المرجع , ص ص 56.
(10) L. H. Heydenreich: Leonardo Da Vinci The Scientist , Los Anglos , U.S.A , 1951 , p. 14.
(11) أنظر مقدمة الدكتور زكى نجيب محمود لكتاب أميلى هاهن: ليوناردو دافنشى , ترجمة سامى ناشد , دار الأنجلو , القاهرة , 1962, ص ص 1-3.
(12) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة , دار المعارف , القاهرة , 1949 , ص 17.
(13) د. فؤاد زكريا: التفكير العلمى , مكتبة مصر , القاهرة ,بدون تاريخ. ص 144.
(14) المرجع نفسه, ص 145.
(15) Leonardo Da Vinci: The Notebooks of Leonardo Da Vinci , Arranged , Rendered Into English and Introduced by Edward MacCurdy , Volume 1 , George Braziller , New York ,1958, C.A 154 r.b ,P64.
(16) Ibid , C.A 155 r. b P.64.
(17) Ibid , c A. 154 r. c,P.65.
(18) د. ماهر عبد القادر ك المنطق ومناهج البحث – النظرية والتطبيق , دار المعرفة الجامعية , الإسكندرية , 1987, ص 221.
(19) Leonardo Da Vinci: The Notebooks. . ,C.A1,7v.a P.46.
(20) ليوناردو دافنشى: نظرية التصوير , ترجمة عادل السيوى , الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة , 1995, ص 95.
Leonardo Da Vinci: The Notebooks. C.A. 289 v.b, P.65. (21)
Ibid ,C.A. 29 v.a, P.61. (22)
)23) ibid ,C.A 12 v.a , P.61.
24) ibid ,F 72 r. ,P. 69.)
25) ibid , c.A. 398 v. d ,P. 66.)
(26) ليوناردو دافنشى: نظرية التصوير , ص 50.
(27) المصدر نفسه, ص 51.
(28) Leonardo Da Vinci: The Notebooks ,L 27 v. ,P189.
29)) نفس المصدر , ص 100.
30) The Notebooks ,c.A 320 v. b , P 66.)
31) ibid , C.A. 86 r. a , P.63.)
32) ibid , C.A. 45 v.a ,P. 612.)
33) ibid , C.A. 51 v.a ,P. 612.)
34) ibid , C.A 91 v. a ,P. 612.)
ibid ,C.A 131 r.b , P. 612. (35)
(36) دافنشى: نظرية التصوير ,ص ص 336- 337.
(37) المصدر نفسه , 384-385.
(38) د. فؤاد زكريا: فكرة الآلية فى الفلسفة الحديثة , ضمن كتابه آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة ,الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة , 1975, ص 304.
(39) أنظر د. حسن عبد الحميد: التفسير الابيسمولوجى لنشأة العلم, ضمن كتابه دراسات في الابيستمولوجيا , دار المطبعة الفنية الحديثة , القاهرة , 1992, ص 219.
(40) د. فؤاد زكريا: التفكير العلمي, ص 183.
(41) Leonardo da Vinci: ibid ,E 8 v ,P. 613.
(42) ليوناردو دا فينشى: نظرية التصوير , ص 75.
(43) رينيه تاتون: تاريخ العلوم العام ,المجلد الثاني ,” العلم الحديث من سنة 1450 إلى سنة 1800م” , ترجمة د. على مقلد, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ,بيروت 1990,ص 97.
(44) L.H. Heydenreich: Leonardo Da Vinci The Scientist, p.18.
(45) Ivon B.Hart: Mechanical Investigation of Leonardo Da Vinci ,London,1925,P.55.
(46) رينيه تاتون: تاريخ العلوم العام , ص98.
(47) المرجع نفسه، ص 97.
(48) Leonardo Da Vinci , B.M 160 r. , P. 631-633.
(49) أميلى هاهن: ليوناردو دا فينشى , ص 46-47.
(50) ول ديورانت: قصة الحضارة , الجزء الثاني من المجلد الخامس ( عصر النهضة) , ترجمة د. محمد بدران , دار الجيل , بيروت , 1992, ص 70.
(51) Ivon B.Hart: Mechanical Investigation of Leonardo Da Vinci , P.56.
(52) Ibid , P.30.
(53)Leonardo Da Vinci , The Notebooks…,Leic.27 v.,P.783.
(54) Ibid , Leic , 27 v. ,P. 783.
(55) إدموندو سلمى: ليوناردو , ص ص 90- 91.
(56) ج.ج. كروازر: صلة العلم بالمجتمع ,الجزء الأول , ترجمة حسن خطاب , مكتبة الأنجلو المصرية , القاهرة , بدون تاريخ , ص 271.
(57) المرجع نفسه، ص 273.
(58) د.جلال شوقي: ليوناردو دا فينشى وبحوثه العلمية , الهيئة العامة للكتاب ( سلسلة العلم للجميع) , القاهرة , 1974,ص47.
(59) المرجع نفسه، ص 47.
(60) المرجع نفسه، ص48.
(61) المرجع نفسه، ص 48.
(62) المرجع نفسه، ص 49.
(63) المرجع نفسه، ص 49.
(64) المرجع نفسه، ص 49.
(65) المرجع نفسه، ص 49.
(66) د. جلال شوقى: عبقرية ليوناردو دافنشى فى الهندسة , مكتبة الأنجلو المصرية ,الطبعة الأولى , القاهرة ,1964,ص 79.
(67) أنظر نفس المرجع , ص ص 80- 81.
68) Leonardo Da Vinci ,A notebooks…., 381 v.a ,P543.)
(69) د.جلال شوقى: عبقرية ليوناردو دافنشى فى الهندسة , ص 84.
(70) المرجع نفسه، ص 85.
(71) ليوناردو دا فينشى: نظرية التصوير , ص 219.
(72) Leonardo Da Vinci: Leonardo Da vinci onHuman Bady ,Translated Charles D. O` Malley and J. B. de C.M. Sanders ,New York,1952,P.36-37.
(73) Ibid , P.35.
(74) William Wright: Leonardo Da Vinci an Anatomy , in Burlington Magazine , XXXIV , 1919 , P. 159.
(75)Leonardo Da Vinci: op. cit , P. 22.
(76) إدموندوا سلمى: ليوناردو , ص 351.
(77) د.م. تيرنز: الكشف العلمى , ترجمة أحمد محمود سليمان ,دار الكتاب العربى للطباعة والنشر , القاهرة , بدون تاريخ , ص ص 26- 27.
)78) Leonardo Da Vinci: Leonardo Da Vinci on Human Bady , P. 29.
)79) William Wright: op.cit. , P.180- 182.
)80) ibid, P.88.
)81) ibid ,P. 91.
)82) Leonardo Da Vinci: op.cit. , P.39.
)83) William Wright: op.cit. ,P.77-78.
(84) أنظر د. جابر عصفور: محمد فريد أبو حديد وذكرى رائد منسي , مقال منشور بمجلة العربي ,ربيع الآخر 1418هـ – سبتمبر ( أيلول) , الكويت , 1997, ص 86.
(85) المرجع نفسه، ص86.
(84) المرجع نفسه، ص86-89.
(85) د. محمد عابد الجابرى: مدخل إلى فلسفة العلوم ( العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمى ) , مركز دراسات الوحدة العربية , بيروت , الطبعة الثالثة , 1994 , ص 246.
(86) د. عبد الله العمر: ظاهرة العلم الحديث ” دراسة تحليلية تاريخية ” , سلسلة عالم المعرفة , عدد 69 ذو القعدة – ذو الحجة – 1403هـ / سيبتمبر ( أيلول) 1983م , ص ص 56- 58.
(87) Jhon Herman Randall: The Place of Leonardo Da Vinci in The Emergence of The Modern Science , Journal of The History Of Idea ,vol. XIV , 1953, P. 190.
(88) ج.ج. كرواذر: صلة العلم بالمجتمع , ج1, ص ص 286 – 287.
89) Randall: ibid ,P. 192.)
(90) George Sarton: Six Wings: Men of Science in The Renaissance ,The Bodley Heard , London ,P.190.
91) Randall: ibid , P. 192.)
(92) Sarton ibid , P.229.
(93) Randall: ibid , PP.200 – 201.
(94) ج.ج. كرواذر: صلة العلم بالمجتمع، ص285.
(95) Randall: ibid , PP.200 – 202.
(96) Leonardo Da Vinci: The Notebooks…,c.A.154 r.b, P.64
)97) Randall: ibid , P. 203.
(98) توماس جولد شتاين: المقدمات التاريخية للعلم الحديث , ص 241.
99) Randall: ibid ,P.194. )
(100) ibid ,P. 194.
(101) ibid ,P. 195.
(102) ibid ,P. 198.
(103) د. فؤاد زكريا: التفكير العلمى , ص201.
(104) المرجع نفسه، ص ص 205- 206.
(105) المرجع نفسه، ص ص 206- 207.
(106) إدموندوا سلمى: ليوناردو , ترجمة طه فوزي , مراجعة. حسن محمود, مؤسسة روزر يوسف , القاهرة , 1994 , ص 345.
(107) ج. ج.. كروا ذر: صلة العلم بالمجتمع , ص 268.
(108) توماس جولد شتاين: المقدمات التاريخية للعلم الحديث , ص 238.
(109) كرواذر: المرجع السابق , ص ص286- 269.
(110) نفس المرجع، ص269.
(111) د. فؤاد زكريا: فكرة الآلية فى الفلسفة الحديثة ,ص ص 205- 206.
1 تعليق
بالتوفيق ان شاء الله دكتور محمود