ملخّص:
إنّ السّيرة الذّاتيّة النّسائيّة الصّينيّة جزء من أدب السّيرة الذّاتيّة والأدب العالميّ. ومثلما توجد رائدات في هذا اللّون من أدب السّيرة الذّاتيّة أو أدب كتابة الذّات في العالم العربي، مثل هدى شعراوي وعائشة عبد الرحمن وفدوى طوقان ونوال السعداوي وزينب الغزالي وغيرهن- توجد أيضًا نماذج كثيرة في الأدب الصّيني من الأديبات الصّينيات اللاّتي كتبن سيرهن الذّاتيّة وسجّلن حياتهن في عصور متفردة من تاريخ الصّين، مثل الكاتبة الصّينيّة يانغ جيانغ 杨绛، التي تُعدّ سيرتها الذّاتيّة “ثلاثتنا” أو 我们仨 بالصّينيّة، كتابا فريدا من نوعه في هذا المجال، سجّلت فيه الكاتبة حياتها الأسرية مع زوجها تشيان جونغ شو 钱锺书 وابنتهما تشيان يوان 钱瑗 خلال مرحلة شديدة الأهمّيّة من تاريخ الصّين.
الكلمات المفاتيح: سيرة ذاتيّة نسائيّة، أدب صينيّ، يانغ جيانغ، ثلاثتنا.
Abstract:
Chinese women’s autobiography is part of the autobiography and world literature. Just as there are pioneers in this type of autobiographical literature or self-writing literature in the Arab world, such as Huda Shaarawi, Aisha Abdel Rahman, Fadwa Touqan, Nawal Al-Saadawi, Zainab Al-Ghazali, and others – there are also many examples in Chinese literature of Chinese women writers who wrote their autobiographies and recorded their lives. Their autobiography became unique in Chinese history, such as the Chinese writer Yang Jiang 杨绛, whose autobiography “The Three of Us” or 我们仨 in Chinese is considered a unique book in this field, in which the writer recorded her family life with her husband, Qian Jungshu 钱锺书, and their daughter, Qian Yuan 钱瑗. During a very important stage in Chinese history.
Keywords: women autobiography, Chinese literature, Yang Jiang, The Three of Us.
1- مدخل:
تُعدّ الكاتبة يانغ جيانغ 杨绛 (1911- 1916) أديبة ومترجمة وباحثة من أهم الأدباء والمترجمين والباحثين في الصّين في العصر الحديث والمعاصر. توفّيت عن عمر يناهز مئة وخمسة أعوام. ألّفت العديد من الكتب والمسرحيات منها “ثلاثتنا 我们仨”، و”الاستحمام 洗澡”، و”السّير إلى حافة الحياة: حديث النفس 走到人生边上:自问自答”، و”سوف نحتسي الشاي 将饮茶”، وغيرها من الكتب والمسرحيات التي نُشرت في الصّين وهونج كونج، ومُثّل بعضها على المسارح في شانغهاي. جدير بالذّكر أيضا أنّها من ترجمت إلى اللّغة الصّينيّة رواية الأديب الإسبانيّ سرفانتيس العالمية الشهيرة “دونكيشوت”، وقد تلقّت تكريمًا على إثرها. وكتابها “ثلاثتنا” الذي نشر لأول مرة في الصّين عام 2003، يُعدّ في الأوساط النقدية الصّينيّة سيرة ذاتية للكاتبة، كتبتها بعد فقدها ابنتها تشيان يوان 钱瑗 (1937-1997) عن عمر يناهز الستين وزوجها تشيان جونغ شو 钱锺书 (1910-1998) عن عمر يناهز الثامنة والثمانين على التوالي- واحدًا من أكثر الكتب تأثيرا في الأدب الصّيني، لبساطة تعبيره اللغويّ وعمق معناه الشّعوري وقربه من القارئ الصّينيّ وواقعيته وأهمّية شخصيّاته المحورية التي هي شخصيّات حقيقية في الأصل غير متخيّلة. وقد جمعت أحداث الكتاب بين الحقيقة والخيال؛ إذ أوسعت يانغ جيانغ للمتخيّل الفصلين الأوّلين اللذين أدرجتهما تحت وصف “سور الحلم العظيم 万里长梦”، وللواقعيّ الفصل الثالث الأخير “وحدي أذكرنا ثلاثتنا 我一个人思念我们仨”، الذي اتّبعت في سرد حقائقه الواضحة أسلوب المذكرات الخالية من التخيّل، فتحدّثت عن شخصيّات حياتها الحقيقية: زوجها تشيان جونغ شو العلّامة الشّهير، وابنتهما تشيان يوان التي كانت كذلك أستاذةً جامعيّة، كما سردت أحداثا حقيقية كالسّفر للدراسة في إنجلترا وفرنسا، ثمّ العودة إلى الصّين، ثم الاعتداء الياباني على الصّين، ثم الثّورة الثقافيّة الصّينيّة، وفي أثناء ذلك كان حديثها عن الأماكن الحقيقية: إنجلترا وفرنسا والسويد وشانغهاي وسو جو.
وفي هذا البحث أحاول دراسة هذا الكتاب دراسة وصفية تحليلية، وبيان القضايا التي تناولها، وآلية السّرد، ولغة السّرد، ثمّ الأثر الوظيفيّ لهذا الكتاب من حيث هو سيرة ذاتيّة .
2- قضايا الكتاب:
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول مهمّة مفهرسة على النحو الآتي:
- الجزء الأول: هرمنا نحن الاثنين 我们俩老了
- الجزء الثاني: ثلاثتنا افترقنا 我们仨失散了، وقد انقسم على ثلاثة أقسام، على النحو الآتي:
- القسم الأول: السّير على طريق البريد القديم 走上古驿道
- القسم الثاني: اللّقيا على طريق البريد القديم古驿道上相聚
- القسم الثالث: الفراق على طريق البريد القديم 古驿道上相失
- الجزء الثالث: وحدي أذكرهم”我一个人思念我们仨[1]
تسبق هذه الأجزاء مخطوطات شعر زوج يانغ جيانغ العلامة الصّيني الشهير تشيان جون شو، التي خطّها بيده، وتعليق يانغ جيانغ عليها. وتتخلّل الكتاب صور لهم هم الثلاثة، ثم تختتم الكتاب ثلاثة ملحقات:
- الملحق الأوّل عبارة عن كتاب “ثلاثتنا ” نفسه لكن بخطّ يد ابنة يانغ جيانغ تشيان يوان قبل وفاتها. تحكي فيه يانغ جيانغ أنهم كانوا على وشك كتابة هذا الكتاب معا، لكن القدر لم ييسر لهما ذلك؛ فنشرت يانغ جيانغ مسودة الكتاب كما تصوّرته ابنتها قبل الممات، وأجزاء منه كتبتها تشيان يوان لكنها لم تكتمل.
- الملحق الثاني عبارة عن رسائل ابنتها تشيان يوان لأبيها تشيان جونغ شو ولأمها يانغ جيانغ، ورسائله لها بخطّ أيديهما، وتعليق يانغ جيانغ عليها.
- أما الملحق الثالث الأخير فهو عبارة عن رسومات ابنتها تشيان يوان المختلفة لأبيها تشيان جونغ شو في مختلف أحوال الحياة، ومنها رسومات له تُظهره يرتدي بنطاله الواسع وهو يقرأ في أغسطس 1988، وصورة له وهو في الحمام يُفرغ ما في بطنه في يناير ١٩٨١، وصورة له وهو يقرأ متمدّدًا على سريره عام 1956، ورسومات أخرى مثل قائمة طعام مرسومة لا مكتوبة، ثم صورة أخيرة تصف فيها يانغ جيانغ زوجها بأنّه علامة وراوٍ موهوب.
ثم ينتهي الكتاب تاركًا أثرًا عميق الحزن والأسى على تشتّت هذه الأسرة بالفقد، وغِبطة أيضا وحُبَّا لبساطتها وعمق شعورها وقربها من القارئ، واحتفاءً أكبر بتميّزهم وبإنجازاتهم العلمية والأدبيّة.
ولعلّ من أهم مميزات هذا الكتاب أنّه يحكي عن أشخاص حقيقيين عاشوا في عصرنا الحديث والمعاصر؛ فالموضوع الرئيسيّ في هذا الكتاب هو الأسرة والعائلة والمشاعر الحميمة التي تربط ثلاثتهم بعضهم ببعض والحياة الأسرية بينهم. ثم يصف ألم الكاتبة يانغ جيانغ وحزنها على فقد ابنتها وزوجها ووحدتها من بعدهم. فشخصيّات هذا الكتاب المحوريّة شخصيّات حقيقية لا متخيلة، هي زوج الكاتبة تشيان جونغ شو وابنتهما تشيان يوان، تصف فيه الكاتبة ما قبل فقدانهما وما بعده، مركّزة على تفاصيل حياتهم الأسريّة كلّهم جميعا، ومتطرّقة لإنجازاتهم العلمية. لقد تحدّثت في كتابها هذا عن الزّوج والأب والباحث والأديب تشيان جونغ شو، وعن ابنتها البارة تشيان يوان الابنة والاستاذة الجامعية والمحبّة لوطنها في ظلّ ظروف ما قبل الثّورة الثقافية الصّينيّة وما بعدها.
الكتاب منقسم كما سبق، على ثلاثة فصول مهمّة:
يبدأ الفصل الأول منها (هرمنا نحن الاثنين 我们俩老了)، بحلم حلمت به يانغ جيانغ، رأت فيه نفسها في مكان غريب من البرية “荒郊野地”، وهي وحيدة تبحث عن زوجها تشيان جونغ شو، وتناديه كثيرا ألاّ يتركها وحيدة، فلا يجيبها، إلى أن تستيقظ فتجده إلى جوارها، فتلومه على اختفائه في حلمها، فيذكر لها دون دفاع عن اختفائه في الحلم، أنها حلمت “حلم المسنين 老人的梦”، وأنه يحدث له دائما [2]، فتستكين!
وأما الفصل الثاني من الكتاب (ثلاثتنا تشتّتنا 我们俩失散了)، فتصفه في بدايته بأنه “سور الحلم العظيم 万里长梦”[3]. وتذكر فيه فقدان زوجها وابنتها، وتقسمه إلى ثلاثة أقسام تصف بها الحياة بينهم فوق طريقٍ أسمَته “طريق البريد القديم 古驿道” [4]. وهذا الفصل منقسم على ثلاثة أقسام، محورها “طريق البريد القديم “، هي: “السير على طريق البريد القديم 走上古驿道”، و”اللّقيا على طريق البريد القديم 古驿道上相聚”، و”الفراق على طريق البريد القديم 古驿道上相失”، الذي تخيّلته بعد الممات طريقا موصلا للعالم الآخر الذي ربّما ذهب إلى آخره زوجها وابنتها. وقد ذكرت طريق البريد في كتابها 15 مرة، كلها في هذا الفصل، دلالة على إيمانها الظّاهر بأنّ الحياة لها وجه روحاني آخر، وصفته هي بوجود هذا الطّريق الذي ربّما يمثل حياة بعد الحياة، وهذا الطّريق هو مبدؤها الموصل لمنتهاها.
أما في القسم الأول “السّير على طريق البريد القديم”، فترسم الحياة، وتكتب فيه تفاصيلها اليومية العادية بين ثلاثتهم زوجها وابنتها، وتزيح الستار عنها بموقف لعبٍ طريف بين الأب تشيان جونغ شو وابنته تشيان يوان التي في أثناء لعبها معه يسارع بالاختباء منها قُرب زوجته، ثم كيف انتقل المشهد من حكايا تفاصيل الحياة وحوارات ما بين الابنة وأبيها، إلى تفاصيل هذا الطّريق العجيب الذي مشوا إليه وفيه، وبطريقة خيالية تجمع الكاتبة بين حقيقة تفاصيل معيشية وخيال هذا الطّريق العجيب الذي للمشي فيه والخروج منه قوانين ثلاثة، يحدد الكتاب نصّها وكأنها حكم مُسلّمة[5]:
- امش في مسار طريق البريد، لا تمش في مكان لا ممر فيه.
- لا تذهب لمكان لا تراه.
- لا تسأل عمّا لا تعرف.
ولا يخفى ما في هذه التعبيرات من دلالة على روحانيّة الكاتبة يانغ جيانغ واتّساع خيالها لأبعاد الحياة والموت المختلفة، التي تظهرها كالحلم، وهي أقرب في ثقافتنا العربية الإسلامية إلى أسلوب التّذكرة بـ”الحياة الآخرة”، أو إلى صورة “جسر بين الحياة والموت”، فيما وصفته الكاتبة العربية المصرية عائشة عبد الرحمن في سيرتها الذّاتيّة[6] .
وأما في القسم الثاني واسمه “اللقيا على طريق البريد القديم 古驿道上相聚”، فتبدأ بوصف مفصّل لطريق البريد الذي جعل روحها تنقبض حين وصفته بقولها: “وكأن السماء ستنطبق على الأرض”[7]؛ فنتذكر هنا قول الله -سبحانه، وتعالى! – في سورة الحج من القرآن الكريم: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[8]؛ فهذان التشبيهان متقاربان كثيرًا، وإن اختلف سبب نزول الآية الكريمة! ولا يخلو وصف الكاتبة لطريق البريد المُتخيّل الذي يندرج تحت وصف ما بعد الموت، بأنّه “سور الحلم العظيم”- من دلالة على أنه مجرّد خيال في ذهن الكاتبة، ونتذكّر من فورنا أيضا وصف عائشة عبد الرحمن للجسر الفاصل بين الحياة والموت، بأنه “تتطاول أبعاده فتذوب الآفاق من بر وبحر وهواء وفضاء.. وإن بدا للغافلين من تهاويل الأحلام، وأغانيه الوهم والخيال..”[9]. ثم تكمل يانغ جيانغ وصف طريق البريد القديم وكيف تتنقل هي وابنتها فوقه مارّتَيْنِ بالأماكن الغريبة التي فيه، إلى أن تصلا إلى مكان اللّقيا بزوج يانغ جيانغ ووالد تشيان يوان تشان جونغ شو، فإذا هو مريض ملقًى على سريره ينطق اسميْ زوجته يانغ جيانغ وابنته تشيان يوان ثم يغلق عينيه ثانية. فتصف يانغ جيانغ حالهم جميعا في هذه اللّحظة بهذه العبارة: “التقينا واجتمعنا مرة أخرى”[10]، وتقول أيضا “بالرغم من أننا على طريق البريد القديم، تُعدّ هذه المرة التئام شمل أسرتنا”[11]، تعبر عن مأساة مرض زوجها وابنتها، وكيف أنّ لحظات السّعادة الأسريّة هي لحظة التئام الشمل رغم المرض والتعب والأسى، وتؤكّد أهمّيّة الأسرة والعائلة في حياة الإنسان، ومدى حُبّها وحرصها على زوجها وابنتها، ومدى حبّهم ومشاركتهم أمواج الحياة المتضاربة والاستمتاع باللّقيا والصّحبة، وإن لم يكونوا في أفضل حال. ثمّ تواصل في هذا الفصل حديثُها مع ابنتها عن العمل ومناحي الحياة، كأنّها بهذا الحلم تسجّل اشتياقها وشغفها لأن تعود الحياة طبيعيّة كما كانت وكما تريد.
وأما في القسم الثالث “الفراق على طريق البريد القديم 古驿道上相失”، فتبدأ بالحديث عن مرض ابنتها تشيان يوان الذي أصاب عظامها. وهنا لا تقرّ يانغ جيانغ مباشرة بوفاة ابنتها، بل تصف حوارات دارت بينهما قبل دخولها للمستشفى، وكيف أنّ ابنتها ودّت رؤية والدها تشيان جونغ شو، ثم تصفها وهي فوق سرير المرض لا تتحرّك، ثم تذهب مع زوجها لمكان آخر، ثم لا تلبث أن تتحدّث بصوت الأم بداخلها:
“تشيان يوان، يا ابنتي الوحيدة، تجعلينني أتعلّق بك دائما، حتى في أحلامي لا تذهبين عني؛ لذلك اختلقت حلمًا أراكِ فيه. أهو حلم حقا! لا أعلم أحلمي هذا حقيقة أم خيال”[12]! .
هنا يظهر صوت الكاتبة الحزين، وتخرج من شخصية المفعول به في حلمها إلى قاصّة للحلم، فقد قالت في بدايات الأقسام هذه إنّه “سور الحلم العظيم”، وهي الآن تتردّد وتتساءل: أهو حلم أم حقيقة؟ هل اختلقته حقّا لترى فيه أحبتها؟ فتضفي على هذا الحلم صفة الواقعيّة، ليخرج من الخيال إلى الحقيقة. لكنّها في الوقت نفسه تتذكّر قوانين طريق البريد الثّلاثة: “لا تسأل عما لا تعرف”، فتخفي حيرتها، وتكتفي بحكاية ما رأت في حلمها عن ابنتها لزوجها الذي يستمع بشغف رغم مرضه كلّ ما يخص ابنتهما تشيان يوان. وتقول يانغ جيانغ عن الحلم: “أعلم أن الحلم به الكثير من الخيال”، “إذا اشتقت لشخص كثيرا فستحلم بكوابيس”[13]. وتسترسل في وصف فقدان ابنتها وزوجها على طريق البريد، تقول: “الطّريق كله عبارة عن فقدان”[14]. ثم في النّهاية تستيقظ لتجد نفسها على سريرها وينتهي “سور الحلم العظيم” و”طريق البريد القديم”، الذي كانت تعود منه “للفندق القديم”، وتشبهه بـ”التنين”[15]، الذي يُرمَز به إلى الصّين وثقافتها وتاريخها، تلك القيم التي أحبّتها هي وزوجها وابنتها، وكانوا من أعلامها.
أمّا في الفصل الثالث “وحدي أتذكّرنا ثلاثتنا 我一个人思念我们仨”، فقد اتبعت يانغ جيانغ في سرد السّيرة الذّاتيّة أسلوب كتابة المذكّرات، فكتبت “وحدي أتذكّرنا ثلاثتنا”[16]، وبدأت بصور جمعتهم معا، وستّة عشر قسمًا صغيرًا. في هذا الفصل تسرد يانغ جيانغ أحداث حياتها هي وزوجها وابنتها بطريقة واقعيّة لا خيال فيها ولا حلم كالفصلين السّابقين، بالرغم من اعترافها في بداية الفصل بأنّ “الحياة كالحلم”[17]! تبدأ هذا الفصل بعام 1935 حين لم يكن زوجها تشيان جونغ شو قد أكمل الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في الرّابعة والعشرين من عمرها، فعندئذ تزوجّا، وذهبا لإنجلترا للدّراسة- مرورا بتفاصيل الدراسة والغربة والحمل والولادة والسّفر لفرنسا والعودة للصين واعتداء اليابان على الصّين والثّورة الثقافية الصّينيّة وتأسيس الصّين الجديدة وغيرها. ثم تختم أحداث هذا الفصل بصباح عام 1997 الذي توفيت فيه ابنتهما تشيان يوان، ونهاية عام 1998 الذي توفّي فيه زوجها تشيان جونغ شو، ثم تنزل الستّار على هذا الكتاب بجملة: “لا أعرف أين بيتي، ما زلت أبحث عن طريق عودتي إليه”[18]!.
3- آلية السّرد في الكتاب:
نلاحظ آلية السّرد التي اتّبعتها يانغ جيانغ في هذا الكتاب هي الغموض في الفصلين الأوّلين، ثمّ التكشّف والوضوح في الفصل الأخير. والغموض في السّرد هنا يعني غموض الزّمان والمكان، وربما ظهور بعض الأشخاص الغامضة والتي ليس لها وصف مفصّل لحكمة قصدتها الكاتبة. فأمّا عن غموض الزّمان فوصفته بحلم كما قالت في أوّل جملة في الفصل الأوّل من الكتاب ” في إحدى الليالي، حلمت حلمًا”[19] وأمّا عن غموض المكان فوصفته بـ “البرية” أو “الأرض القفراء 荒郊野地، وأمّا عن غموض الأشخاص فذكرت في نفس الصّفحة في وصف الأرض القفراء في حلمها بأنّها رأت فيها فجأة “رجلا مسنًا” “老人” يجرّ عربة فارغة، حاولت مناداته فتوقّف، لكنها لم تعلم أين تذهب، ولم تفصّل في أمره غير ذلك.
وعل سبيل الغموض نلاحظ أيضا كثرة الرّمزية في الفصلين الأولين من خلال “万里长梦 سور الحلم العظيم”، و “古驿道 طريق البريد القديم”، و “الفندق القديم 客栈” و “التنّين 一条龙”، التي من الواضح أنّ الكاتبة ترمز بها إلى الصّين؛ فسور الحلم العظيم يشابه لغويّا سور الصّين العظيم، وطريق البريد القديم يرمز لطريق بريد قديم في الصّين، والتنّين رمز آخر للصّين، والفندق القديم اسمه يرمز لنُزُلٍ قديم في الصّين القديمة. ثم بعد ذلك تقنية الاستذكار المستخدمة في السير الذّاتيّة والمذكّرات في الفصل الأخير الذي تتوالى فيه الأحداث من الماضي (عام 1935)، إلى المستقبل (عام 1998). ثم طريقة سرد الحقائق التي سردت بها يانغ جيانغ حياتها منذ التقت بزوجها، إلى سفرهما، ثم حملها وولادتها لابنتها، حتّى وفاتهما وافتراقهما، ويكاد هذا الفصل الأخير يخلو من أيّ رمز اللهمّ إلاّ تشبيه شخصيّتها بإحدى شخصيّات الرّواية الصّينيّة العالمية “حلم المقصورة الحمراء” “红楼梦”[20] لين داي يو 林黛玉 والتي أصبحت شخصيّتها تلك رمزا من رموز الشخصيّة الآنفة التي تسأل عندما يهدى لها الشّيء هل أهدي لغيرها أيضا أم أهدي لها هي فقط، وتفضل إن كانت الهديّة تهدى لها هي فقط، فتقول: “لكنني مثل لين داي يو، كثيرة السؤال إذا كانت هذه الهدية خاصة لي فقط أم الكل لديه مثلها”[21]، ولا يخفى ما في ذلك من دلالة عميقة قويّة على شدّة حبّها لموطنها الأصليّ الصّين وإلمامها بتاريخها وحضارتها واستذكارها فنّها وأدبها.
4- لغة السّرد في الكتاب:
إن لغة السّرد الوصفيّة التي استخدمتها يانغ جيانغ في كتابها “ثلاثتنا”، لغة نثريّة رشيقة، تتّسم بالتّشويق والإثارة في بداية الكتاب، ولاسيّما في فصليه الأوّلين؛ إذ اصطنعت يانغ جيانغ زمانا ومكانا غير حقيقيّين، رسمت بهما أحداث الفصلين، فبدأت بحلم رأته ترى فيه نفسها في أرض غريبة تبحث عن زوجها.. تراه، ثم لا تلبث أن تستيقظ فتراه نائمًا بجوارها. ثم تبدأ في سرد أحداث تبدو حقيقيّة لكنّها تجمع فيها بين الحقيقة والخيال، فيما أسمته “سور الحلم العظيم”. ثم تكتب فصلها الأخير بلغة بسيطة بتسلسل تقليديّ، تسرد فيه أحداثًا متوالية متتابعة مرتّبة ترتيبا تاريخيا منذ عام 1935 إلى عام 1998، تتخلّلها قفزات زمنيّة لكنّها متسلسلة تسلسلًا تاريخيّا. وتتحدّث عن أشخاص حقيقيّين كزوجها تشيان جونغ شو وزملائهما وأصدقائهما، وأماكن حقيقيّة كأكسفورد ولندن في إنجلترا وباريس في فرنسا والسويد وهونج كونج وشانغهاي و سو جو، وأحداث حقيقيّة كالحمل والولادة والدراسة واحتلال اليابان لبعض مناطق في الصّين ومظاهرات النّاس والحياة الصعبة في ظلّ الاحتلال، ثمّ الثّورة الثقافيّة الصّينيّة، إلى أن ينتهي الكتاب بوفاة زوجها وابنتها وتفرّق ثلاثتهم. واللّغة سهلة بسيطة، استخدمت فيها يانغ جيانغ ألفاظًا أقرب للعامّيّة، ممّا زاد سهولة قراءة الكتاب وتتبّع أحداثه، وحافظ في الوقت نفسه على التّشويق والمتعة والإثارة .
5- أثر الكتاب الوظيفيّ:
ذكر عبد العزيز شرف أنّ وظيفة السّيرة الذّاتيّة أن نعرف الآخر من خلال التّرفيه والتّسلية والإمتاع والمؤانسة، ونقل عن لازويل أنّ لها ثلاث وظائف، هي: مراقبة البيئة، والتّعليق على الأخبار والظّروف المحيطة، ونقل التّراث الاجتماعيّ من جيل لآخر[22].
وكتاب “ثلاثتنا” معدود عند النقّاد الصّينين سيرةً ذاتيّة للكاتبة الأدبيّة يانغ جيانغ؛ وأهم سؤال في السّيرة الذّاتيّة هو من أنا[23]، وقد عرّفتنا الكاتبة فيه بنفسها أمًّا وزوجة محبّة لزوجها وابنتهما. ولا يخفى أنّ ممّا نستفيده من قراءة سيرة ليانغ جيانغ الذّاتيّة، هو تعرّف وجه آخر من أوجه حياة أديبة وكاتبة صينيّة هي وزوجها وابنتها، وما تنقله إلينا، في الوقت نفسه، من تراث اجتماعيّ صينيّ، من خلال مراقبة البيئة الصّينيّة التي وصفتها الكاتبة، فضلا عن الكشف عن ثقافة المجتمع الصّيني وعاداته المميزة من طعام وشراب وفرح وحزن وفقد وغُربة وسفر لإنجلترا وفرنسا والسويد ثم عودة إلى الصّين. وجدير بالذّكر أيضًا أنّ خلفية الأحداث في حياة الكاتبة وعائلتها حقبة زمنية مميّزة في تاريخ الصّين؛ فقد عاصرت الاعتداء اليابانيّ على الصّين والثّورة الثقافية الصّينيّة، وتأسيس “الصّين الجديدة”؛ فهذا الكتاب يرفع لنا السّتار عن الحياة اليوميّة للكاتبة وأسرتها ومعاناتها في ظلّ حقبة زمنية مميزة في تاريخ الصّين. ولا ننسى عامل التّرفيه والتسلية، ففي كتاب “ثلاثتنا” ظهر صوت الكاتبة الزّوجة والأمّ الحنون مؤنسة لكلّ زوجة وكلّ أم تقرأ الكتاب، فتطّلع على غيرها من الأمّهات الصّينيّات فتجد أنه، برغم بعد المسافات واختلاف اللّغات، يجمعها بها توافق مشاعر النّساء والأمّهات والكاتبات، وتتأكّد آية الله -عز، وجل!- في كتاب الكريم، المتحدّثة عن حكمة التّعارف الكامنة في باطن اختلافنا شعوبا وقبائل، ﴿يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[24] .
6- خاتمة:
إنّ كتاب “ثلاثتنا” للكاتبة الصّينيّة يانغ جيانغ، معدود ضمن أهمّ إنجازاتها الأدبيّة، حقّقت به طفرة وإضافة عالية في مجال السّيرة الذّاتيّة النّسائيّة الصّينيّة خصوصا، والشّرقية والعالميّة عموما؛ فمن خلال كتابها يستطيع القارئ الاطّلاع على الحياة البسيطة المفصّلة لأسرة صينيّة محبّة للعلم، والتعرّفَ إلى تنقّلاتها بين البلاد في ظلّ الثورة الثقافية الصّينيّة والاعتداء اليابانيّ على الصّين والحركات الثوريّة الصّغيرة في الصّين، فالكتاب ليس سيرة ذاتيّة فقط، بل يمكن أن يُعدّ أيضا لونا من ألوان كتب التاريخ الجديرة بالقراءة والدّراسة.
مراجع المقال:
- القرآن الكريم.
- عبد العزيز شرف، أدب السّيرة الذّاتيّة، القاهرة: الشركة المصرية العالمية للنشر، 1992.
- عائشة عبد الرحمن، على الجسر بين الحياة والموت، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010.
- 曹雪芹:《红楼梦:,北京:中华书局,2019年。
- 杨绛:《我们仨》,北京:生活读书· 新知三联书店,2018年。
- 赵白生,《传记文学理论》,北京:北京大学出版社,2003年。
[1]– 杨绛:《我们仨》,北京:生活 ·读书· 新知三联书店,2018年,第10页。
[2]– 杨绛,《我们仨》,北京:生活 读书 新知三联书店,2018年,第13页。
[3]– 同上,第17页。
[4]– 同上,第17页。
[5]– 同上,第27页。
[6]– عائشة عبد الرحمن، على الجسر بين الحياة والموت، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010.
[7]– 杨绛,《我们仨》北京:生活· 读书 ·新知三联书店,2018年,第28页。
[8]– القرآن الكريم، سورة الحج، آية 65.
[9]– عائشة عبد الرحمن، على الحسر بين الحياة والموت، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص12.
[10]– 杨绛:《我们仨》,北京:生活 读书 新知三联书店,2018年,第30页。
[11]– 同上。
[12]– 同上,第41页。
[13]– 同上,第46页。
[14]– 同上,第53页。
[15]– 杨绛:《我们仨》,北京:生活 ·读书 ·新知三联书店,2018年, 第35页。
[16]– 同上,第54页。
[17]– 同上,第67页。
[18]– 同上,第165页。
[19]– 同上,第13页。
[20]– 曹雪芹:《红楼梦:,北京:中华书局,2019年。
[21]– 杨绛:《我们仨》,北京:生活 ·读书 ·新知三联书店,2018年,第134页。
[22]– عبد العزيز شرف، أدب السيرة الذاتية، القاهرة: الشركة المصرية العالمية للنشر، 1992، ص92- 93.
[23]– 赵白生,《传记文学理论》,北京:北京大学出版社,2003年,第19页。
[24]– القرأن الكريم، سورة الحجرات، ص517