ملخّص:
لقد حاولنا في هذه الدّراسة النّظر في مسألة تعدّد الأصوات وتداخلها في الخطاب القصصيّ، وقد تطلّب منّا ذلك الوقوف على أهمّ المجالات السّرديّة الّتي يتجسّد فيها التّعدّد، فنظرنا في علاقة المُؤلّف بالرّاوي وعلاقة الرّاوي بالشّخصيّات المُتكلّمة، واهتممنا بالعلاقة الّتي تربط الشّخصيّات المُتكلّمة، ثمّ تطرّقنا إلى علاقة الشّخصيّة المُتكلّمة بذاتها فاستنتجنا أنّ كلّ كلام يتلفّظ به أيّ متكلّمٍ يتضمّنُ بين طيّاته أصواتًا متنوّعةً ووجهات نظر تتوافقُ أحيانا مع وجهة نظر النّاقل وتختلفُ معهُ أحيانا أخرى.
إنّ ما وقفنا عليه من تعدّد للأصوات ووجهات النّظر في قصص “متجر الأحلام”، جعلنا ننفتحُ في القسم الثّاني من هذه الدّراسة على مدى تأثير تعدّد الأصوات في دلالة الخطاب، فتوضّح أنّ الأقوال الّتي ينقلها الرّاوي لا يتغيّرُ شكلُها ومضمونها فحسب، وإنّما تتغيّرُ كذلك دلالتها ولا تخلو هذه الدّلالة الجديدة من ذاتيّة الرّاوي والمُؤلّف.
الكلمات المفاتيح: تعدّد الأصوات، المُتكلّم، المؤلّف، الشّخصيّات المُتكلّمة، الدّلالة.
Abstract:
The goal of this study is to discuss the issue of multiplicity of voices in narrative discourse and how they overlap. We thus had to determine which areas in the story best exemplified polyphony. We touched on the relationship between the author and the narrator, as well as the interaction between the narrator and the characters within the story. We also emphasized the connections between different characters and delved into the relationship between the speaking character and their inner self during moments of calm or confusion. We concluded that each speech made by a specific speaker comprises a variety of voices and opinions, which sometimes align with the message bearer’s point of view and sometimes do not. The multiplicity of voices and perspectives represented in the “Matjar Al Ahlam” stories prompted us, in the second part of our research, to be open about the extent to which polyphony can influence semantics of discourse. Ultimately, it became clear that the narrator’s speech varied not only in structure and content but also in meaning. Nonetheless, the subjectivity of the narrator and the author remains present in the new semantics of the discourse.
Keywords: polyphony, speaker, author, speaking characters, connotation.
1- مقدمة:
لقد عرف السّرد العربيّ في مُنتصف القرن العشرين تطوّرًا واضحًا، إذ بدأ يتخلّى شيئًا فشيئًا عن النّمط الكلاسيكيّ وينفتح في مُقابل ذلك على النّمط الحديث الّذي يُؤمنُ بالتّعدّد في مستوى الرُّواة والرُّؤى السّرديّة والإيديولوجيا، وقد لفتت ظاهرةُ تعدّد الأصوات (Polyphonie)في السّرد نظر العديد من الباحثين، ويُعتبرُ ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtine) أوّل من أشار إلى هذه الظّاهرة في مجال الأدب وأطلق عليها مصطلح “الحواريّة” (Dialogism) معتبرا أنّ أيّ قول يحملُ بين طيّاته أصواتا أخرى[1].
ويُمكنُ للحواريّة أن تتجسّد بطرق مُختلفة مثل: التّناصّ[2] (Intertextualité)والخطابات الّتي ينقلها الرّاوي والتّعدّد اللّغويّ (Plurilinguisme). ويُميّزُ باختين في هذا السّياق بين نوعين من الحواريّة: أولّهما، حواريّةٌ تقعُ بين الخطابات، أي أنّ كلام القائل يحملُ أصوات العديد من القائلين. وثانيهما، حواريّةٌ تقعُ بين المُتخاطبين أي أنّ القائل، وهو يتكلّمُ يستندُ إلى بعض الفرضيّات وبذلك يُمكنُ أن يُؤثّر في المُتلقّي[3].
وقد استعاض أزوالد ديكرو (Oswald Ducrot) عن استعمال مُصطلح “الحواريّة” بمُصطلح “تعدّد الأصوات”، واعتبر أنّ أيّ ملفوظ يحملُ بين طيّاته أكثر من صوت، فالخطابُ المنقول نقلاً مُباشرًا هو خطابٌ مُتعدّد الأصوات لأنّهُ يتضمّنُ حدثين خطابيّين: أوّلهما، خطاب المُتكلّم الأوّل. وثانيهما، خطاب المُتكلّم النّاقل، “فكلُّ خطاب منقول، ولو كان ذلك بطريقة الخطاب المباشر، يقتضي موقفا يتّخذهُ القائل النّاقل (الرّاوي) الّذي يكسبُ المقطع المنقول دلالة خاصّة وذلك بفعل النّقل نفسه، وبالسّياق المقاليّ والسّياق المقاميّ اللّذين يندرج فيهما هذا المقطع وذلك دون أن تمّحي آثار القائل النّاقل”[4].
ونرومُ في هذه الدّراسة الاهتمام بتعدّد الأصوات وتداخلها في الخطاب القصصيّ من خلال النّظر في مجموعة قصصيّة تنتمي إلى السّرد التّونسيّ، وهي “متجر الأحلام” للكاتبة التّونسيّة “دلندة الزّغيدي”، ويعودُ اختيارُنا إلى دراسة تعدّد الأصوات وتداخلها هذه المجموعة القصصيّة الّتي نحنُ منها بسبيل إلى أسباب عديدة، منها ما هو مُرتبطٌ بالموضوع المبحوث فيه فقد لقيت مسألة تعدّد الأصوات في الآونة الأخيرة اهتمامًا كبيرًا من لدُن الباحثين في مجال السّرديّات[5].
ومن الأسباب كذلك ما هو مُرتبطٌ بالمجموعة القصصيّة في حدّ ذاتها، فرغم أنّ “متجر الأحلام” تتّسم بتعدّد الأصوات وتداخلها، فإنّها لم تُدرس حسب اطّلاعنا من هذه النّاحية، لذلك اخترنا في هذه الدّراسة مُقاربة مجموعة “متجر الأحلام” مُقاربةً سرديّة تلفّظيّة، مُحاولين استصفاء ملامح تعدّد الأصوات وتداخلها وبيان أثرها في تشكيل الدّلالة.
2- تقديم المُدونة:
“متجر الأحلام” هي مجموعة قصصيّة للكاتبة التّونسيّة دلندة الزّغيدي تتضمّنُ نصوصًا مُختلفة، جاءت بعضُ عناوينها مُفردةً، مثل: “برشتان” و “هيلينا” و “المعطوب” و “أناركيا”، في حين وردت عناوين القصص الأخرى مُركبّةً، مثل: “عيشة كلبة” و “عملاق راكشاساس” و “خُيوط مُتناثرة” و “نبضُ حجارة” و”حجرة المرّ” و “ثلاثُ كلمات” و “ما يُنقب عين الغراب كان خُوه”.
وقد متحت الزّغيدي في مُختلف نُصوصها من معين المرجعيّ والتّخييليّ والموروث الشّعبيّ، فتحدّثت عن الحُبّ والكراهيّة والموت والعُنف المُسلّط ضدّ المرأة، وجعلت الشّخصيّات تتكلّم وتتألّمُ وتُفصح عن فرحها وحُزنها وحيرتها في لحظات فارقة باللّهجة العامّيّة التّونسيّة، وتحدّثت الزّغيدي في نُصوص أخرى عن عوالم الإنس والجنّ من نحو ما وقفنا عليه في نصّ “برشتان” من حُضور للعجيب والغريب، واستفادت الكاتبة من الموروث التّونسيّ، مثل: الأغاني القديمة والحكم الشّعبيّة والأمثال والعادات والتّقاليد، وأحسنت توظيفها في عوالمها القصصيّة فمنحت بذلك متجرها بُعدًا محليًّا، ولا تخلو جميع هذه الأصواتُ المُتداخلة من تدخّل الذّات المُتكلّمة (المُؤلّفة) وسعيها الحثيث إلى السّيطرة عليها من جهة، وتشكيل دلالات جديدة للأقوال تتماشى مع سياستها السّرديّة وآرائها الفكريّة من جهة أخرى.
3- مجالات تعدّد الأصوات في “متجر الأحلام”:
يميّزُ ديكرو بين الأصوات، ويقسّمها إلى صنفين: أوّلهما تاريخيّ، وهو الذّات المُتكلّمة (Sujet parlant) أي المُؤلّف الكائن في التّاريخ. وثانيهما خطابيٌّ، ويشملُ ثلاثة كائنات خطابيّة؛ أوّلها، المُتكلّم (Locuteur) الّذي يُمارسُ فعل القول. وثانيها، المُتلفّظ (L’énonciateur) وهو صاحب وجهة النّظر والقائم بأعمال لغويّة مُختلفة. وثالثها، كائن من كائنات العالم ويرمز إليه ديكرو بهذا الرّمز[6]. والمُتأمّل في قصص “متجر الأحلام” يقفُ على تعدّد وتداخل جليّين لهذه الأصوات يُمكنُ حصرها في المجالات السّرديّة الآتية:
3- 1- المجال السّرديّ الأوّل: علاقة الرّاوي بالمُؤلّف:
لقد ميّز العديد من الباحثين في مجال السّرديّات بين الرّاوي والمؤلّف، فعدُّوا الرّاوي كائنًا مُتخيّلاً ينقلُ تفاصيل الحكاية من خارج الحكاية، ينقلُ ما يُشاهدهُ دون تدخّل، ويُمكنُ أن يكون الرّاوي مُشاركًا في الأحداث وفي مُقابل ذلك عدُّوا المُؤلّف كائنًا تاريخيًّا[7]، ولكن رغم التّباينُ الواضح بينهما فإنّنا كثيرًا ما نقفُ في صوت الرّاوي على آثار المُؤلّف ومثالُ ذلك: ما نلمسهُ في المقطع الآتي: “رنّ صوتُ هاتفها أن مات، دون أن تُفكّر قفزت في سيارتها، واتّجهت إلى سيدي بوزيد تطوي الأرض طيًّا، امتزجت دمُوعها بشريط الذّكريات وحركة أشجار زيتون (هنشير الشّعّال) الممتدّ على طول الطّريق من (العامرة) إلى (المحرس)، قطعت كلّ هذه المسافة في زمن قياسيّ خالتهُ دهرًا. دخلت بهو الحوش الّذي كان يعجُّ بالنّسوة، واتّجهت إلى امرأة ستّينيّة كانت تنتحبُ بحرقة، وارتمت في أحضانها، وبادلتها المرأة حضنًا مُثقلاً أملاً”[8].
ينقلُ الرّاوي في هذا المقطع تفاصيل رحلة شخصيّة “إشراق” من منطقة العامرة إلى بيت حبيبها المُتوفّى “مهذّب” لتأدية واجب العزاء، بيد أنّ الحديث عن أمكنة مرجعيّة، مثل: “هنشير الشّعّال” و”العامرة” و”المحرس” يُمكنُ أن يُحيلنا إلى صوت الذّات المُتكلّمة أي الكاتبة دلندة الزّغيدي، وبذلك فإنّ الصّوت في هذا المقطع مُزدوجٌ يجمعُ بين كائنين اثنين: كائنٌ تاريخيّ (المُؤلّفة) وكائنٌ خطابيّ (الرّاوي).
ويتوضّح صوتُ المُؤلّفة كذلك في الهامش، إذ كثيرًا ما تتدخّلُ الزّغيدي لتُعلّق على كلام الرّاوي في المتن فتتفاعلُ معهُ في الهامش تفسيرا وتوضيحا وتأويلاً، ويُمكنُ حصر هذه التّعليقات فيما يلي:
المثال | تعليق المؤلّفة في الهامش | عملُ المؤلّفة | الصّفحة والهامش |
أ | السّوسوهاني: “كلمة يابانيّة تعني لهيب الحبّ الأوّل” | تفسير كلمة من اللّغة اليابانيّة | ص38، هامش 2 |
ب | بزو ومعناه: “أتقن عملك إتقانًا تامًّا” | تفسير كلمة من اللّهجة العامّيّة التّونسيّة | ص138، هامش 3 |
ت | رجعت ساقيها أعلى من رأسها (تعبيرا عن السّرعة والفرح) | تفسير حالة وتأويلها | ص121، هامش 1 |
ث | “العبادلة السّبعة الّذين بعثهم هارون الرّشيد لفتح إفريقيّة فأتوا إلى سفيطلة (سبيطلة) أنهوا حكم البيزنطيّين الّذي دام خمسة قرون” | التّعريف بالعبادلة | ص107، هامش 1 |
ج | سيبيون الإيميلي: قائد رومانيّ (149- 146 ق م) دمّر قرطاج في الحرب الثّالثة | التّعريف بشخص تاريخيّ | ص98، هامش 2 |
ح | دسوكليسيان: حمّامات قديمة في سوريّة | التّعريف بمكان مرجعيّ | ص98، هامش 3 |
خ
| ويمشي بيْ ويجي بيْ وما تتبدّل كان الكسوة يا عذاب الحيّ. (مقطع من أغنية الزّين الصّافي) | التّعريف بالمقطع الغنائيّ | ص86، هامش 1 |
نُلاحظُ من خلال هذا الجدول أنّ تدخّل “الزّغيدي” في خطاب الرّاوي يختلفُ من سياق إلى آخر، فقد يكونُ تفسيرًا لدلالة بعض الكلمات الّتي تلفّظ بها الرّاوي أو الشّخصيّات المُتكلّمة باللّهجة العامّيّة التّونسيّة أو بلغات أجنبيّة، مثلما تجلّى في الأمثلة (أ) و(ب) و(ت)، وقد سعت المؤلّفة إلى تفسير عبارة “بزو ومعناه” الّتي تلفّظت بها شخصيّة الشّيخ في المتن، في الهامش، مثلما تجلّى ذلك في المثال (ب) كي تُزيل الغُموض واللّبس عن القارئ الّذي لا يفهمُ اللّهجة العامّيّة التّونسيّة، وقامت كذلك بتفسير العبارة اليابانيّة “السّوسوهاني” في الهامش مثلما تجلّى ذلك في المثال (أ)، ولا تخلُو هذه التّرجمة من ذاتيّة المُؤلّفة.
ولم تكتف الزّغيدي في مجموعتها القصصيّة بتفسير بعض الأقوال الّتي يتلفّظُ بها الرَّاوي أو الشّخصيّات فقط، وإنّما قامت بتفسير أحوال بعض الشّخصيّات في الهامش ومن ذلك: ما وقفنا عليه في المثال (ت)، ولا يخلو هذا التّفسير للعبارة المُتكلّسة من وجهة نظر المُؤلّفة.
وفضلا عن ذلك، فقد قامت المُؤلّفة بتعريف بعض الأمكنة التّاريخيّة والأعلام في الهامش، فحاولت في المثال (ث) التّعريف بالعبادلة السّبعة، واهتمّت في المثال (ح) بتعريف “الدّسوكليسيان”، فإذا كان الرّاوي في المتن القصصيّ يتوجّهُ بالحكاية إلى مرويّ لهُ يطلبُ المُتعة الفنّيّة واللّذّة القصصيّة، فإنّ المُؤلّفة في الهامش تتوجّهُ بخطابها إلى قارئ ينشدُ الإفادة والتّعلّم وتحثّهُ على ضرورة الانفتاح والاطّلاع على مُختلف الثّقافات الأخرى.
يُمكنُنا القول إنّ “الزّغيدي” قد استطاعت أن تتّخذ من الهامش مقامًا خاصًّا تفرضُ فيه سيطرتها المُطلقة على الرّاوي والقارئ، فتوجّه فهم الأقوال والأحوال والأفكار حسب رُؤيتها وغايتها. ولا يرتبطُ التّعدّدُ الصّوتيّ دائما بمجال سرديّ واحد طرفاهُ كائنان: كائنٌ تاريخيّ (المؤلّف) وكائنٌ خطابيُّ (الرّاوي)، وإنّما يُمكنُ أن يتجلّى في مجالات سرديّة تكونُ أطرافها كائنات خطابيّة.
3-2- المجال السّرديّ الثّاني: علاقة الرّاوي- المُتكلّم بالشّخصيّات المُتكلّمة:
إنّ النّاظر في جُلّ قصص “متجر الأحلام” يُلاحظُ أنّ الرّاوي ينقلُ أقوال المُتكلّمين بطُرق مُتباينة؛ فتارةً يكونُ نقلهُ لأقوال الشّخصيّات مُباشرًا فيفصلُ بين تلفّظه وتلفّظ الشّخصيّة المُتكلّمة، ومن ذلك ما نقفُ عليه من حوار بين “قمر” وابنتها “بهيّة” في نصّ “عيشة كلبة”، مثلما يلي:
“قالت بهيّة: كيفاش تسكتلو؟ أشبيك ما طلّقتوش؟”
ردّت قمر: “يا بنيّتي، الّلي ما يدريها ما يقول سبول، أمّيمتك محلّ الصّبر”[9].
وتارةً أخرى تنتفي القطيعة التّلفّظيّة بين تلفّظ الرّاوي وتلفّظ الشّخصيّة، ومن ذلك ما نلمسهُ في المثال الآتي: “أخبرته البنيّة أنّ زوجته تريده في أمر مهمّ”[10]. فهذا القول انتفت فيه القطيعة التّلفّظيّة بين صوت الرّاوي وصوت الشّخصيّة (البُنيّة)، ولم تعد هناك حدودٌ واضحة بين تلفّظ الشّخصيّة وتلفّظ الرّاوي لأنّ الرّاوي أعاد صياغة كلام الشّخصيّة حسب رؤيته وأسلوبه.
بيد أنّ القطيعة التّلفّظيَة بين الرّاوي والشّخصيّات المُتكلّمة قد تكونُ أكثر اتّساعًا حين يعدلُ الرّاوي عن أقوال الشّخصيّة ويختزلها في أفعال مرويّة[11]، ومثال ذلك: ” لقد حذّره عزازيل منذ اللّقاء الأوّل أنّهُ لن يقدر على العيش في برّشتان إن لم يكُن صُلبًا مُتجلّدًا، ولكن لم يتصوّر لحظة أنّ الفظاعة ستبلغ هذا الحدّ”[12]، فالرّاوي في هذا المقطع السّرديّ عدَل عن ذكر كلام شخصيّة “عزازيل” ذكرًا مُباشرًا واختزلها في فعل “حذّر”، فما كان كلامًا يُقالُ أضحى فعلاً مرويًّا، وبذلك يعلو صوتُ الرّاوي ويخفتُ صوتُ الشّخصيّة، وفضلاً عن ذلك، فإنّ الرّاوي يجعلُ الشّخصيّات تتكلّم حسب لهجتها العامّيّة وتكوينها الثّقافيّ والاجتماعيّ فكلامُ المُثقّفين يختلفُ عن كلام العوامّ، ويُمكنُ أن نُوضّح ذلك من خلال ما يلي:
– المثال الأوّل، (شخصيّة قمر):
“عشت عيشة كلاب، كلب هذاك حتّى نهار أخر ما نراهوش وما نمشيلوش، ناكل طريحتي ونبكي ونسكت صبرت على خاطر صغاري… صبرت وجا وجهي للضّوء”[13].
– المثال الثّاني، (شخصيّة أحمد المصريّ):
“سأل أحمد: يتفرهد؟ يعني أيه؟
قالت: تتسلّى وتغيّر جو”
قال: أبدًا والله أنا صحفيّ، وجيت في مهمّة”[14].
جعل الرّاوي في المثال الأوّل، شخصيّة قمر تتكلّم باللّهجة العامّيّة التّونسيّة، ويُمكنُ أن نستشفّ من خلال ما تلفّظت به من كلام حالتها الاجتماعيّة ومستواها الثّقافيّ، فهي امرأة أمّيّة عانت كثيرًا من ظلم زوجها وتسلّطه. وأمّا في المثال الثّاني، فقد جعل الرّاوي الصّحفيّ “أحمد” يتحدّث بالعامّيّة المصريّة، في حين جعل الفتاة تتحدّث بالعامّيّة التّونسيّة. ويدخلُ استعمال الرّاوي للعامّيّة التّونسيّة والمصريّة مكان اللّغة العربيّة في إطار إحكام سيطرته على الشّخصيّة وبروزه.
وتتفاوتُ درجة حُضور الرّاوي في أقوال الشّخصيّات: فتارةً يكونُ حُضورهُ قويًّا وفاعلاً، من نحو ما وقفنا عليه في الخطاب غير المُباشر والخطاب المرويّ، وتارةً أخرى يكونُ حُضوره خافتا، فيكتفي بنقل كلام الشّخصيّة نقلاً مُباشرًا. بيد أنّ الخطاب المُباشر يُمكنُ أن يُصبح موضع شكٍّ وريبةٍ خاصّة إذا ربطناه بالسّياق التّلفّظيّ وبأحوال المتلفّظين ممّا يُؤكّد تدخّل الرّاوي وتحكّمه في ما ينقل عن الشّخصيّات. فهذا الخطاب “منزوع من سياقاته الأصليّة الّتي قيل فيها وركّب في سياقات جديدة مفارقة زمن الحكاية متّصلة بزمن التّلفّظ. وهذا من شأنه أن يمنحها أبعادا جديدة تُؤثّرُ في درجة الأمانة في نقلها”[15].
يمكننا أن نبيّن من خلال ما تقدّم أنّ الرّاوي في “متجر الأحلام” لا يلتزم بنفس درجة الحضور في النّصّ الواحد فهو يتأرجح بين الحضور والإمّحاء، ومهما حاول التّخفّي وراء أقنعة مُختلفة فإنَّ غيابه يُؤكّدُ حُضورهُ وانخراطه في ما ينقلُ من أقوال.
3-3- المجال السّرديّ الثّالث: علاقة الشّخصيّة المُتكلّمة بالشّخصيّة المُخَاطبة:
إنّ المُمحّص في الحوارات الدّائرة بين الشّخصيّات المُتكلّمة في “متجر الأحلام”، يُلاحظُ أنّها تختلف من مقام إلى آخر، فمن الحوار ما نحا منحى تعليميًّا فاتّسم طرفاهُ بعدم وجود تكافؤ معرفيّ بين المُتكلّم والمُخاطَب، ومثال ذلك: ما نلمسهُ في الحوار الدّائر بين “هيلينا” وحبيبها، إذ تقول: “هاتفته يومها وسمعت صوت منبّهات السّيّارات وزغاريد النّسوة، فسألته: “ماذا هناك؟ أين أنت؟” أجابها بأنّه في حفل صديقه، وأشبعها كلاما حلوا، أسمعها أمنياته بأن يعقب زواجهما زواج صديقه. قال لها بكلّ برودة: “ليلتها لم تكن ليلة زفاف صديقي، لقد كانت ليلة زفافي”[16].
ومن الحوار ما كان جدليًّا اتّسم طرفاهُ بالتّكافؤ المعرفيّ، فيسعى كلّ طرف إلى تقديم حُجَج مُتنوّعة لإقناع الطّرف الآخر بوجاهة رأيه. وينتهي الحوارُ عادة باقتناع أحد الطّرفين ويتّسمُ المُتحاورون بالاتّزان والرّصانة والتّعقّل[17]، ولكنّ هذه المياسم سُرعان ما تنتفي خاصّة إذا اتّجه الحوار نحو السّجال فيحلُّ الانفعال والغضب مكانها ويتمسّك كلّ مُحاورٍ بموقفه ولا يرضى التّخلّي عنه[18]، بيد أنّ ما يُهمّنا في هذه الحوارات المُتباينة في نُصوص “متجر الأحلام” هو مسألة تداخل الأصوات وتعدّدها، ومثال ذلك: ما نلمسهُ في الحوار الآتي:
“قالت: “أش جابك لبرّ الأغوال والأهوال؟”
قال: “جيت أخلّد ذكراها”، وأردف : “طيّب ممكن صورة؟”
قالت: “اعمل حسابك ما عنديش فلوس”.
فردّ: يا ستّي هديّة عشان عيونك الحلوة”.
ضحكت وقالت: “عيوني الحلوة؟ هو خلاّ فيها حلاوة؟”[19]
ينقلُ الرّاوي في هذا المثال حوار “أنس وأحمد المصريّ”، ويبدو الحوار بينهما تعليميًّا إذ استهلّت “أنس” الكلام وسألت “أحمد المصريّ” عن سبب وجوده في سفيطلة، لكنّ الحوار سُرعان ما تحوّل إلى مُلاطفة وغزل (ياستّي هديّة عشان عيونك الحلوة)، وإذا جوّدنا النّظر في كلام “أنس” وجدنا أنّ كلامها يحملُ صوتها وصوت “أحمد المصري”، فعندما ضحكت “أنس” وقالت: “عيُوني حلوة؟ هو خلاّ فيها حلاوة؟”[20] فإنّ هذا القول يحملُ صوت القائلة (أنس) ووجهة نظر المُخاطَب (أحمد) الّذي يرى بأنّ عينيها جميلتان.
3- 4- عندما تُخاطبُ الذّات نفسها:
لا تتواصلُ الشّخصيّة المُتكلّمة مع الشّخصيّات الّتي تعيشُ معها في العالم القصصيّ فحسب وإنّما قد تتكلّمُ الشّخصيّة مع ذاتها في لحظة تفكير أو انكسار أو حُزن، فتُكلّمُ نفسها وتُخاطبها حينا وتُعاتبها أحيانًا وتلومها أحايين أخرى.
وإذا جوّدنا النّظر في نُصوص “متجر الأحلام”، وجدنا العديد من الشّخصيّات تُخاطبُ ذاتها في زمنين مُختلفين غير أنّ طريقة نقل الرّاوي لخطاب الذّات مع ذاتها قد يختلفُ من مقام إلى آخر؛ فتارة ينقل كلامها نقلاً مُباشرًا، ومن ذلك نقله كلام مؤمن مع ذاته في نصّ برّشتان[21]، وتارةً أخرى ينقلُ كلام مؤمن بلغته، مثل قوله: “استقرّ مؤمن في القبر فخالجه إحساس بالوحشة والرّهبة، ظلمة القبر ترتعد لها فرائص أعتى الفرسان. خامرته لحظة فكرة العودة ولكن كيف السّبيل إلى ذلك؟”[22] فالرّاوي في هذا المثال نقل كلام مؤمن مع ذاته لكنّهُ لم يلتزم بما تلفّظت به الشّخصيّة بل أعاد صياغة كلامها حسب رؤيته، ويُسمّى ذلك في مجال السّرديّات بالمونولوغ المُسرّد (Monologue narrativisé)، لكن هل نقل الرّاوي فعلاً ما قالته الشّخصيّة؟
جليٌّ من خلال ما تقدّم أنّ مسألة تعدّد الأصوات في نُصوص “متجر الأحلام” تفعلُ فعلها في عمليّة تشكيل المعنى، فكلامُ الشّخصيّة سواء كان مُباشرًا أو غير مُباشر فإنّهُ يخضعُ في نهاية المطاف لسيطرة الرّاوي، فشخصيّة مُؤمن تتكلّمُ في كثير من الأحيان بوجهة نظر الرّاوي ويُمكنُ أن تتكلّم بصوتين لها مُختلفين من قبيل ما وقفنا عليه في شخصيّة “قمر” الّتي تسرُدُ لنفسها أحيانًا في زمن الحاضر تفاصيل مُعاملة زوجها لها في زمن الماضي.
4- تعدّد الأصوات وأثره في تحوّر الدّلالة:
لقد نظرنا في مظاهر تعدّد الأصوات في نماذج من قصص “متجر الأحلام”، وقد حصرناهُ في أربعة مجالات سرديّة، ومن أهمّ الأشياء الّتي شدّت انتباهنا أنّ تعدّد الأصوات يُسهمُ إسهاما كبيرا في تغيّر هيأة الأقوال المنقولة بيد أنّ المُتمعّن في ظاهر التّعدّد الصّوتيّ يُلاحظُ أنّ تأثيرها لا يقتصرُ على هيأة الكلام المنقول، وإنّما يشملُ كذلك مسألة الدّلالة، فعندما ينقلُ الرّاوي على سبيل المثال أقوال الشّخصيّات المُتكلّمة نقلاً مُباشرًا، فهو، وإنّ أوهم بنقلها مثلما تلفّظت بها، فإنّه في الحقيقة يطمسُ حقيقة هذه الأقوال وهويّتها ودلالتها خاصّةً إذا نقل الرّاوي كلام الشّخصيّة بلُغتين (اللّغة العربيّة ولغة أجنبيّة) أو لهجتين (العامّيّة التّونسيّة والعامّيّة المصريّة)، أو جاوز بين اللّهجة العامّيّة واللّغة العربيّة الفُصحى، ويُمكنُ أن نُوضّح ذلك من خلال المثال الآتي:
“حالما استيقظ الأب سأل عن أبنائه، فتظاهرت الزّوجة الخبيثة بالحيرة، وقالت: “لقد أخذت ابنتك أخاها ورحلت مع الرّاحلين” وزادت فلفلتها وقالتلو “بنتك ميّة في الميّة راهي عاملة عملة من غير والدين، وراهي باش تجيبلك العار”[23].
نقل الرّاوي في هذا المثال الحوار الدّائر بين الرّجل وزوجته في نصّ “حجرة المَرّ” وتباينت طرق نقله للكلام فجاء كلام الأب مُسرّدًا ووجيزًا وقد تجسّد في فعل “سأل”، في حين نقل كلام الزّوجة نقلاً مباشرًا فجاء مُفصّلاً ومُتباينا من حيث الشّكل فورد خطابها في المرّة الأولى باللّغة العربيّة الفصحى وأمّا في المرّة الثّانية فقد أورد كلامها باللّهجة العامّيّة التّونسيّة، ويُسمّى ذلك في السّرديّــــــات بالخـــــــطاب المُؤســــــلب (Individuation)أي أن يتكلّم المُؤلّف أو الرّاوي أو الشّخصيّات بكلام يُحيلنا إلى بيئة مُعيّنة، “وكثيرا ما يُفهمُ من بعض الكلمات أو التّراكيب إحالتها على البيئة الّتي منها جاءت والّتي يكثر استخدامها فيها. وهذا ما يسمّيه بايّي (Bailly) الأثر الحاصل من استدعاء بيئة ما. ويتجسّمُ الخطابُ المُؤسلب في بعض الاستعمالات العامّيّة أو الشّعريّة، وورود هذه الاستعمالات على لسان أحدهم يعني وجوبا تعدّدا صوتيًّا”[24] فالكلمة العامّيّة (زادت فلفلتها) الّتي تلفّظ بها الرّاوي يحضرُ فيها صوتُه وأصوات أخرى مُتنوّعة كامنة وراء هذه العبارة الّتي تحملُ معان عديدة في المجتمع التّونسيّ، منها: الدّلالة المُباشرة، وهي إضافة مسحوق الفلفل إلى الطّعام أكثر من المقدار المعلوم. وتُستعملُ كذلك عبارة (زاد فلفلها) في المجتمع التّونسيّ للدّلالة على معان أخرى تُفهمُ حسب السّياق الّتي قيلت فيه، منها: تهويل المرء لوضع مُعيّن، وتضخيمه والمُكايدة.
ويأخذنا التّبايُن في عمليّة نقل الرّاوي لكلام الزّوجة إلى استنتاج مفادُهُ أنّ الرّاوي رغم تمييز تلفّظه من تلفّظ الشّخصيّة فإنّهُ يتدخّلُ في صياغة أقوالها، فما قالتهُ الشّخصيّة بلسان فصيح في المرّة الأولى حوّلهُ الرّاوي في المرّة الثّانية إلى العامّيّة فجاء كلام الزّوجة مشوبًا بصوت الرّاوي ورؤيته، ومن شأن ذلك أن يُؤثّرُ في الدّلالة الأصليّة لخطاب الشّخصيّة (الزّوجة)، ولعلّ انتقال الرّاوي من استعمال اللّغة العربيّة في المرّة الأولى إلى استعمال العامّيّة لنقل خطاب الزّوجة في المرّة الثّانية دليلٌ أنّ مُحاولته في نقل خطابها باللّغة العربيّة الفصيحة لم يكن دقيقا فأعاد نقل كلامها بالعامّيّة، وأضاف خطابًا إسناديًّا باللّهجة العامّيّة “وزادت فلفلتها وقالتلو”[25]، فوجّهَ كلام الزّوجة ومنحهُ دلالةً مُتساوقةً مع الخطاب الإسناديّ فاكتسب بذلك كلام الزّوجة دلالة التّهويل والتّضخيم وحثّ الأب على معاقبة ابنته، في حين اكتسب كلامُ الزّوجة في المرّة الأولى معنى الحيرة “فتظاهرت الزّوجة الخبيثة بالحيرة”[26].
وبذلك يُمكنُ القول إنّ دلالة أقوال الشّخصيّات المُتكلّمة تتأثّرُ بالخطاب الإسناديّ الّذي إذا كان مُوجزًا، مثل: “قال” و”سأل” و”أجاب”، حافظ قول الشّخصيّة على نسبة كبيرة من دلالته الأصليّة، وأمّا إذا مطّط الرّاوي فيه فإنّ قول الشّخصيّة سيتأثّرُ بمضمون الخطاب الإسناديّ، فمع الدّهشة تصطبغ دلالة خطاب الشّخصيّة بالدّهشة ومع التّهويل تتزيّن دلالة خطاب الشّخصيّة بالتّهويل، وسيفهمُ المرويّ لهُ -ومن ورائه القارئ- تلفّظ المُتكلّمين انطلاقا من الخطاب الإسناديّ الّذي يُمكنُ أن “يتضمّن، أحيانًا، وجهة نظر إحدى الشّخصيّات. فيكون بذلك ملتقى وجهات نظر وموطنا من مواطن تعدد الأصوات”[27]، ويتعمّقُ هذا التّأثير الّذي يُمارسهُ الرّاوي في الخطاب غير المباشر فيُعيدُ إنتاج كلام الشّخصيّات بلغته الخاصّة، ومثال ذلك: ما نقفُ عليه في نصّ “المعطوب” عندما نقل الرّاوي كلام شخصيّة مهذّب بطريقة غير مُباشرة: “خرج من مركز تصفية الدّم بين حياة وموت. أمر أخاهُ بألاّ يرجع إلى البيت لأنّهُ يريدُ أن يستنشق عبق الحياة كما لو أنّه يستنشقهُ لآخر مرّة”[28].
لقد أعاد الرّاوي في هذا المثال صياغة كلام “مهذّب” مع أخيه بلغته الخاصّة، ولا تخلُو هذه الصّياغة من عُدول الرّاوي عن أصل الكلام ودلالته الأصليّة والعروج بها إلى دلالة جديدة تتماشى مع مواقفه وسياسته السّرديّة، ولا يتوضّحُ تأثير الرّاوي في مضمون كلام الشّخصّيات ودلالته مثلما ذكرنا فحسب وإنّما يتوضّحُ كذلك حين يعمدُ إلى التّسريد (Narrativization) [29]، فيُحوّل خطاب الشّخصيّة إلى أفعال مرويّة، فما كان في الأصل كلامًا يُمسي حدثًا مرويًّا ووكّدنا ما نقفُ عليه في هذا المثال من نصّ “المعطوب”، يقول: “عرض عليها أن تُرافقهُ في جولة قصيرة في الأرجاء، كان الجوّ حلوًا ومُناسبًا للتّنزّه وخاصّة للرّفقة، توغّل الرّفيقان في بستان مكسوًّ [كذا…] زهرا غطّت أرضيّتهُ زهرات الأقحوان وشقائق النّعمان، وكادت سنابل القمح أن تحجب الرّفيقين، مرّت ساعة كأنّها ثوان، تجاذبا فيها أطراف الحديث كان حديثا تلقائيّا سلسًا خاليا من كلّ تكلّفٍ”[30]، إذ ينقلُ الرّاوي في هذا المثال حدث عرض “مهذّب” على “إشراق” مُرافقتهُ في جولة، وقد عدل عن نقل أقوال الشّخصيّات نقلاً مُباشرًا واختزلها في فعلي “عرض” و”تجاذبا”، فأصلُ الكلام أن يعرض الرّاوي قول “مهذّب” وهو يعرضُ على “إشراق” مُرافقته في نُزهة، كأن يقول لها على سبيل المثال: (هل تقبلين مُرافقتي في نُزهة؟) فتُجيبُ “إشراق”، مثلاً: (نعم يُشرّفني ذلك)، ويُمكنُ لهذا الاختزال أن يُغيّر من دلالة أقوال الشّخصيّة، ولعلّ حرص الرّاوي على طمس معالم عمليّة تلفّظ “مهذّب وإشراق” دليلٌ على أنّ هدفهُ هو السّيطرة على الشّخصيّات وإنتاج دلالة جديدةً لكلامها وما يتضمّنه من أعمال وإحالات على المرجع.
وإذا جوّدنا النّظر في مسألة التّعدّد الصّوتيّ، وجدنا أنّها لا تنفصل عن مسألة التّعدّد المرجعيّ “لأنّ المُحيل المُتكلّم لا يُحيلُ إلّا وهو مُستحضرٌ صورة الآخر الّذي يخاطبه، كما يستحضر أيضا ما يحمله على المرجع المتحدّث عنه، وهذا يعني أنّ أي إحالة لا تكون إلّا إحالةً مُشتركة، كما نستخلص أيضا أنّ الكلام أيّ كلام لا يجري إلّا في مقام تخاطبيّ قد يكون مباشرا يشتركُ فيه المُتخاطبان بالحضور الفعليّ في المشافهة، وقد لا يكونُ مباشرا عندما ينوبُ عن المؤلّف في نصّ قصصيّ راو يروي حكاية يستحضرُ لهُ فيها مرويًّا لهُ […] ولابدّ من القول إنّ المقام المذكور سيخضعُ للتّطوّر بتطوّر الخطاب، ولذلك فإنّ هذا المقام التّخاطبيّ مقام يُبنى شيئًا فشيئًا”[31]، ويرتبطُ التّعدّد الصّوتيّ بالتّعدّد المرجعيّ، فعندما تُحيلُ الأصواتُ (المؤلّف والرّاوي والشّخصيّة) على مرجع معيّن فإنّ إحالتها ستكون مُختلفة وسنكُون إزاء صور مُتعدّدة من المرجع، فعندما يُحيلُ الرّاوي والشّخصيّات على مدينة “جبنيانة” فإنّنا نقفُ على صُور مُتعدّدة لهذه المدينة وهي صُورٌ مُلتبسة بوجهات نظر المُتكلّمين.
5- الخاتمة:
نخلص بالقول إلى أنّ النّظر في مسألة تعدّد الأصوات وتداخلها في النّصّ القصصيّ قد تطلّب منّا الوقوف في مرحلة أولى على المجالات السّرديّة الّتي يتجسّدُ فيها التّعدّد الصّوتيّ، فانطلقنا بدراسة المجال السّرديّ الأوّل فوجدنا المُؤلّفة تفرضُ سيطرتها على الرّاوي وقد تجسّد ذلك خاصّةً في استعمالها لخطاب الهامش آليّة لتفسير ما أوردهُ الرّاوي مُبهما أو مُلغزًا في المتن. وانتقلنا بعد ذلك إلى النّظر في المجال السّرديّ الثّاني، فألفينا الرّاوي يفرض هيمنته على أقوال المُتكلّمين ويُوجّهُ أقوالها المنقولة توجيهًا مخصوصًا يتساوقُ مع آرائه وإستراتيجيّته السّرديّة.
ثمّ بحثنا في المجال السّرديّ الثّالث عن العلاقة بين الشّخصيّات المُتحاورة فوجدناها تتراوحُ بين التّعليم والجدل والسّجال، وكثيرًا ما يتضمّن صوتُ الشّخصيّة المُتكلّمة وجهة نظر الشّخصيّة المُخاطَبة. واهتممنا في المجال السّرديّ الرّابع بالشّخصيّة وهي تُكلّم ذاتها في لحظة حيرة أو خوف أو فرح، فألفيناها تتكلّمُ في كثير من الأحيان بوجهة نظر الرّاوي أو الشّخصيّات الأخرى فيجمعُ كلامها أصوات عديدة.
إنّ ما وجدناهُ من تعدّد وتداخل في الأصوات جعلنا نُيمّمُ وجوهنا في القسم الثّاني شطر الدّلالة، وقد خلصنا إلى نتيجة مفادها: أنّ تعدّد الأصوات يؤثّرُ في تشكيل دلالة الأقوال الّتي ينقلها الرّاوي فتكتسب دلالات جديدة تختلفُ مع دلالتها الأصليّة، ويأخذنا هذا التّباين الدّلاليّ إلى مسألة أخرى عميقة الصّلة بالتّعدّد الصّوتيّ وهي التّعدّد المرجعيّ.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
- الزّغيدي (دلندة): “متجر الأحلام“، الآن ناشرون وموزّعون، عمان الأردن، ط1، 2019.
المراجع:
- باختين (ميخائيل): “الخطاب الروائيّ”، ترجمة محمّد برادة، دار الفكر للدّراسات والنّشر، ط1، القاهرة، 1987.
- بدري )أحمد النّاوي(: “الحياد في الرواية العربيّة: هل هو محض تصوّر؟ الكرنفال لمحمد الباردي أنموذجا“، ضمن: محمّد الباردي روائيّا مُبدعًا، دراسات بأقلام نقّاد وحوار مع محمّد الباردي، تونس،
- حمدان (عبد الرّحيم): “تعدّد الأصوات في رواية “وجع لابدّ منه” لعبد الله تايه“، دار الكلمة للنّشر، ط1، فلسطين-غزّة، 2022.
- شارودو )باتريك( ومنغينو (دومنيك): “معجم تحليل الخطاب“، ترجمة. عبد القادر المهيري وحمّادي صمّود، المركز الوطنيّ للتّرجمة، ط1، دار سيناترا، تونس،
- القاضي (محمّد) وآخرون: “معجم السّرديّات“، الرّابطة الدّوليّة للنّاشرين المستقلّين، دار محمّد عليّ للنّشر والتّوزيع، ط1، تونس، 2010.
- كريستيفا (جوليا): “علم النّصّ”، ترجمة. فريد الزّاهي، دار توبقال للنّشر، ط1، الدّار البيضاء- المغرب، 1991.
- لشيهب )مسعود): “تعدّد الأصوات في الرّواية العربيّة“، دار الوطن العربيّ، ط1، 2020.
- بن محمّد الخبوّ (محمّد): “مداخلٌ إلى قصصيّة المعنى“، وحدة الدّراسات السّرديّة بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنّوبة، مكتبة علاء الدّين، صفاقس- تونس، 2016.
باللّغة الأجنبيّة:
- Durrer (Sylvie): “Le dialogue dans le Roman“, Nathan Université, 1999.
- Ducrot (Oswald): “Le dire et le dit“, Minuit, Paris, 1984.
- Genette (Gerard): “Figures III“, Seuil, Paris, 1972.
- Sengupta (Jayita): “Time, History and Cultural Spaces, Capter: Narrative, Narrativity and Narrativization of Time, History and Culture spaces“, Routledge India, 1st Edition, London, 2022.
[1]– انظر، ميخائيل باختين: الخطاب الرّوائيّ، ترجمة محمّد برادة، دار الفكر للدّراسات والنّشر، ط1، القاهرة، 1987، ص38-40.
[2]– ترى جوليا كريستيفا أنّ التّناصّ هو عبارة عن “ترحال للنُّصوص وتداخل نصّيّ في فضاء، تتقاطع ملفوظات عديدة مقتطّعة من نصوص أخرى”. جوليا كريستيفا، علم النّصّ، ترجمة فريد الزّاهي، دار توبقال للنّشر، ط1، الدّار البيضاء، المغرب، 1991، ص21.
[3]– انظر، محمّد بن محمّد الخبو: ضمن: معجم السّرديّات، دار محمّد عليّ الحامّيّ، ط1، تونس- صفاقس، 2010، باب التّاء، مادّة: تعدّد صوتيّ، ص101-102.
[4]– المصدر نفسه، باب التّاء، مادّة: تعدّد صوتيّ، ص102.
[5]– انظر على سبيل المثال:
ـــ مسعود لشيهب: تعدّد الأصوات في الرّواية العربيّة، دار الوطن العربيّ للنّشر والتّوزيع، تونس، 2020.
ـــ عبد الرحيم حمدان: تعدّد الأصوات في رواية “وجع لابدّ منه” لعبد الله تايه، دار الكلمة للنّشر، فلسطين، غزّة، ط1، 2022.
[6]– لمزيد التّوسّع، انظر:
Oswald Ducrot: Le dire et le dit, Minuit, Paris, 1984, Pp198-203.
[7]– انظر على سبيل المثال: رينيه ريفار: لغة القصّة. مدخل إلى السّرديّات التّلفّظيّة، ترجمة محمّد نجيب العمامي، النّشر العلميّ والتّرجمة، جامعة القصيم، 2015، ص6.
[8]– دلندة الزّغيدي: متجر الأحلام، مصدر سابق، ص46.
[9]– دلندة الزّغيدي: متجر الأحلام، مصدر سابق، ص62.
[10]– المصدر نفسه، ص129.
[11]– انظر:
Gérard Genette: Figures III, Seuil, Paris, 1972 , p289
[12]– دلندة الزّغيدي : متجر الأحلام، مصدر سابق، ص33.
[13]– المصدر نفسه، ص60.
[14]– المصدر نفسه، ص110.
[15]– أحمد الناوي بدري: الحياد في الرّواية العربيّة: هل هو محض تصوّر؟ الكرنفال لمحمّد الباردي أنموذجا، ضمن: محمّد الباردي روائيّا مُبدعًا، دراسات بأقلام نقّاد وحوار مع محمّد الباردي، تونس، 2015، ص100.
[16]– دلندة الزّغيدي: متجر الأحلام، ص38.
[17]– لمزيد التّوسّع، انظر:
Sylvie Durrer : Le dialogue dans le Roman, Nathan Université, 1999, Pp91-92.
[18]– لمزيد التّوسّع، انظر: باتريك شارودو ودومنيك منغينو: معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري وحمّادي صمّود، المركز الوطنيّ للتّرجمة، دار سيناترا، ط1، تونس، 2008، مادّة سجال، ص425-427.
[19]– دلندة الزّغيدي: متجر الأحلام، ص111-112.
[20]– المصدر نفسه، ص112.
[21]– فكّر مُؤمن مليًّا ثمّ قال: “إذا بقيتُ هكذا فإنّني سأهلك في غُضون سويعات”. بدأ مُؤمن يشعر بالاختناق، تلمّس بيده جدار القبر ثمّ مدّ يدهُ إلى الأمام فلم يجد جدارًا، ولا حاجزًا فأخذ يزحف على بطنه، وكلّما توغّل، أحسّ أنّ السّرداب يتّسع، تسرّب الأملُ في نفس مؤمن وتحفّز ليزحف أسرع وأسرع وقال: “نعم لا يُمكنُ أن تخذُلني”. دلندة الزّغيدي: متجر الأحلام، مصدر سابق، ص10-11.
[22]– المصدر نفسه، ص10.
[23]– دلندة الزّغيدي : متجر الأحلام، مصدر سابق، ص121.
[24]– أحمد السّماوي: ضمن معجم السّرديّات، مرجع سابق ، باب الخاء، مادّة خطاب مُؤسلب، ص185.
[25]– دلندة الزّغيدي: متجر الأحلام، مصدر سابق، ص121.
[26]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[27]– محمد نجيب العمامي: ضمن معجم السّرديّات، مرجع سابق، باب الخاء، مادّة خطاب إسنادي، ص174.
[28]– – دلندة الزغيدي، متجر الأحلام، مصدر سابق، ص47.
[29]– انظر:
Jayita Sengupta: Time, History and Cultural Spaces, Capter: Narrative, Narrativity and Narrativization of Time, History and Culture scapes, Routledge India,1st Edition, London, 2022, Pp 2-23.
[30]– دلندة الزّغيدي: متجر الأحلام، مصدر سابق، ص42-43.
[31]– محمد بن محمّد الخبوّ : مداخلٌ إلى قصصيّة المعنى، وحدة الدّراسات السّرديّة بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنّوبة، مكتبة علاء الدّين، صفاقس، تونس، 2016، ص217.