ملخّص:
يحلّل هذا المقال الطّريقة التي يمكن أن يؤدّي بها تقاطع الاختصاصات إلى أساس منهجيّ للحوار بين ثقافتين تنتميان إلى ما بعد الحداثة (الثّقافة التّقنية-العلميّة والثّقافة الرّوحيّة) وبين العلوم الإنسانيّة والعلوم الدّقيقة.
الكلمات المفاتيح: تنوّع الاختصاصات- تقاطع الاختصاصات- العلوم الإنسانيّة-العلوم الدّقيقة.
Abstract:
The text analyzes the way in which transdisplarity can lead to a methodological foundation of dialogue between two post-modern cultures (techno-scientific culture and spiritual culture) as well as between the human sciences and the exact sciences.
Key words: Interdisciplinarity- transdisciplinarity- human sciences- exact sciences.
1- ثقافتان تنتميان إلى ما بعد الحداثة:
لم يكن العلم منفصلا عن الثّقافة في بداية التّاريخ الإنسانيّ. إذ حرّكتهما نفس الأسئلة حول الإحساس بالكون والإحساس بالحياة.
وفي زمن النّهضة، لم ينقطع الرّابط بينهما إذ كان يفترض بالجامعة الأولى، كما يشير إليها اسمها، أن تدرس الكونيّ. وكان الكونيّ متجسّدا في أولئك الذين تميّزوا بختم عملهم في تاريخ المعرفة. وكانت القطيعة بين العلم والإحساس، أو بين الموضوع والكائن، متمثّلة بالتّأكيد في جرثومة القرن السّابع عشر للميلاد حين صاغتها منهجيّة العلم الحديث، لكنّ هذه القطيعة لم تصبح مرئية إلّا في القرن التّاسع عشر حين بدأ الانفجار المعرفيّ الكبير.
وفي الوقت الحاضر، تمّ استهلاك هذه القطيعة، إذ لم يمتلك العلم والثّقافة شيئا مشتركا. ولهذا السّبب نتحدّث عن العلم والثّقافة (كلّا على حدة) وعن العلوم الدّقيقة أو الصّعبة (كما لو كانت العلوم الإنسانيّة غير صحيحة) والعلوم الإنسانيّة أو النّاعمة (كما لو كانت العلوم الدّقيقة لا إنسانيّة أو فوق إنسانيّة). ولا يستطيع العلم بلوغ نبل الثّقافة ولا تستطيع الثّقافة بلوغ هيبة العلم.
نحن نفهم التّحفّظات التي أثارها مفهوم الثّقافتين -الثّقافة العلميّة والثّقافة الإنسانيّة-الذي قدّمه “شارل بارسي سناو” الروائي ورجل العلم[1] قبل أربعة عقود. إنّ العلم هو بالفعل جزء من الثّقافة، لكنّ هذه الثّقافة العلميّة منفصلة تماما عن الثّقافة الإنسانية. وينظر إلى الثّقافتين باعتبارهما خصمين (متضادّين)، إذ ينغلق كلّ مجال (المجال العلميّ أو المجال الإنسانيّ) على نفسه بإحكام.
أمّا مؤخّرا فقد تضاعفت علامات التّقارب بين الثّقافتين (بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الدّقيقة) لاسيّما في مجال الحوار بين العلم والفنّ الذي مثّل المحور التّأسيسيّ للحوار بين الثّقافة العلميّة والثّقافة الإنسانيّة. لكن هل تكون هذه المصالحة ممكنة؟
كانت الوضعيّة اليوم معقّدة مرّة أخرى مقارنة بسنة 1959 عندما صاغ “سناو” مفهوم الثّقافتين، إذ أصبح التّزاوج بين العلم الأساسيّ والتّقنية مستهلكا عن طريق توليد الثّقافة العلميّة التي كانت مصدر القوّة غير العقلانيّة للعولمة دون الوجه الإنسانيّ والتي ارتكزت على الاقتصاد وكان بإمكانها محو كل اختلاف بين الثّقافات والأديان. وكانت الثّقافة الإنسانيّة قد تمّ استيعابها إلى حدّ كبير عبر الثّقافة العلميّة. وفي هذه الثّقافة المتجانسة تحرّكت ما أطلقت عليها الثّقافة الرّوحية التي كانت في الواقع كوكبة من مزيج كبير من الثّقافات والأديان والمجتمعات الرّوحيّة.
وتشترك الثّقافة الرّوحية بقطع النّظر عن طبيعتها المتناقضة في الطّابع الثّنائيّ للكائن الإنسانيّ: طبيعته الفيزيائيّة والبيولوجيّة والنّفسيّة من جهة أولى وطبيعته المتعالية من جهة ثانية.
وبصفتنا علماء ومفكّرين ومشاركين نشطين في الثّقافة العلميّة التّقنيّة تقع على عاتقنا مسؤوليّة كبيرة: بناء الجسور على وجه السّرعة بين الثّقافة التّقنيّة العلميّة والثّقافة الرّوحيّة. ولكن هل يمكن تصوّر هذه الجسور أم إنّها مجرّد وهم طوباويّ؟
وفي هذا المقال سنشرح كيف يقودنا تقاطع الاختصاصات إلى أساس منهجيّ للحوار بين ثقافتين تنتميان إلى ما بعد الحداثة والحوار بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الصّحيحة؟
2- العائق الإبستيمولوجي في مسار الحوار: مستوى أو مستويات متنوّعة للواقع؟
في مواجهة النّجاح العلميّ الذي لا جدال فيه حاولت العلوم الإنسانيّة حتما محاكاة العلوم الدّقيقة. وهكذا أصبح الحياد والموضوعيّة معياري الطّابع العلميّ لما يسمّى العلوم الإنسانيّة. وكان الهدف غير المتكافئ المعلن عنه أو غير المعترف به هو إضفاء الطّابع الرّياضيّ. أمّا في الواقع فما تمّ تقليده هو الفيزياء الكلاسيكيّة التي عفّى عليها الزّمن اليوم في أفقها المعرفيّ لذلك يجب التّساؤل عن معنى “العلم الحديث”.
نشأ العلم الحديث عن قطيعة حادّة مع الرّؤية القديمة للعالم[2]. إنّه يقوم على فكرة مدهشة وثوريّة في ذلك الوقت للفصل التّام بين خبير الموضوع والواقع، ومن المفترض أن يكون خبير الموضوع مستقلّا تماما عن الموضوع الذي يعاينه. ولكن في الوقت نفسه قدّم العلم الحديث ثلاث مسلّمات أساسيّة ممتدّة إلى درجة عليا من حيث العقل إلى السّعي وراء القوانين والنّظم (التّالية):
- وجود قوانين كونيّة ذات طبيعة رياضيّة.
- اكتشاف هذه القوانين بالتّجربة العلميّة.
- استنساخ البيانات التّجريبيّة بشكل مثاليّ.
وهكذا ارتقى “غاليلي” بلغة صناعيّة مختلفة عن لغة القبيلة هي الرّياضيات إلى مرتبة لغة مشتركة بين الله والناس.
وأكّدت النّجاحات الاستثنائيّة للفيزياء الكلاسيكيّة، من غاليلي وكيبلير ونيوتن إلى إينشتاين، صحّة هذه الفرضيات الثّلاث. وفي الوقت نفسه ساهم هؤلاء في إنشاء أنموذج التّبسيط الذي ساد على أعتاب القرن التّاسع عشر. وهكذا تمكّنت الفيزياء الكلاسيكيّة على مدى قرنين من الزّمن من بناء رؤية هادئة ومتفائلة، على استعداد لقبولها من المستويين الفرديّ والجماعيّ، بظهور فكرة التّقدّم.
وتعتمد الفيزياء الكلاسيكيّة على فكرة الاستمراريّة بالاتّفاق مع الأدلّة المقدّمة من الأعضاء الحسّيّة: إذ لا يمكن للمرء أن ينتقل من نقطة إلى أخرى في المكان والزّمان دون المرور عبر كلّ النّقاط الوسيطة.
وترتبط فكرة الاستمرارية ارتباطا وثيقا بمفهوم رئيسيّ في الفيزياء الكلاسيكيّة هو مفهوم السّببيّة المحلّية. إذ يمكن فهم كل ظاهرة فيزيائيّة من خلال سلسلة مستمرّة من الأسباب والآثار: فكلّ سبب عند نقطة معيّنة يقابله تأثير بنقطة قريبة بلا حدود وكلّ تأثير في نقطة معيّنة يقابل السّبب في نقطة قريبة بلا حدود. فليس هناك حاجة لأيّ إجراء مباشر عن بعد.
وهكذا يمكن أن يكون دخول مفهوم الحتميّة إلى تاريخ الأفكار دخولا ناجحا. فمعادلات الفيزياء الكلاسيكيّة هي: إذا عرفنا مواقع الأشياء المادّيّة وسرعتها في وقت معيّن يمكننا التّنبّؤ بمواضعها وسرعتها في أيّ وقت آخر. فقوانين الفيزياء الكلاسيكيّة هي قوانين حتميّة. والحالات الفيزيائيّة هي وظائف المواضع والسّرعات، وينجرّ عن ذلك إمكانية تنبّؤنا تماما بالحالة المادّيّة في أيّ وضع آخر في أيّ وقت معطى إذا حدّدنا الظّروف الأوّلية (الحالة المادّية في وقت معيّن).
ومن الواضح تماما أنّ بساطة مفاهيم الاستمرارية والسّببية المحلّية والحتميّة وجمالها الإستيتيقي – ناجع جدّا في الطبيعة، إذ سحرت أعظم العقول.
وكانت هناك خطوة أخرى يجب القيام بها لم تعد ذات طبيعة علميّة بل ذات طبيعة فلسفية وإيديولوجيّة وهي إعلان الفيزياء ملكة العلم. بتعبير أدقّ اختزال كلّ شيء في الفيزياء، إذ الظّهور البيولوجيّ والفيزيائيّ مراحل لأساس واحد. وتمّ تيسير هذه الخطوة من خلال التّقدّم الذي لا جدال فيه في الفيزياء. وهكذا نشأت الأيديولوجيا العلميّة التي ظهرت بوصفها أيديولوجيا طليعيّة شهدت تطوّرا استثنائيّا في القرن التّاسع عشر.
أمّا على المستوى الأكاديميّ، فقد كانت عواقب العلمويّة كبيرة أيضا. فالمعرفة الجديرة بالاسم يمكن أن تكون علميّة وموضوعيّة فقط. إذ يتمّ إرجاع كلّ المعرفة غير العلميّة إلى جحيم الذّاتية.
وكان للموضوعيّة، التي تمّ وضعها معيارا أعلى للحقيقة، نتيجة حتميّة هي تحويل الموضوع إلى كائن. فوفاة الرّجل الذي يعلن عن الكثير من الوفيات الأخرى هو الثّمن الذي يجب دفعه مقابل ما يسمّى ب “المعرفة الموضوعيّة”. وفي الأساس علّمتنا العلمويّة فكرة ثابتة ومستمرّة أكثر من الأمل الهائل الذي أثارته، وهي فكرة وجود مستوى واحد من الواقع.
وستقضي الرّؤية الكمّيّة بوصفها رؤية جديدة للعالم على أسس فكرة لا تنتهي أبدا.
وعلى عتبة القرن العشرين واجه ماكس بلانك مشكلة جسديّة تبدو عاديّة مثل جميع المشاكل الجسديّة. لكن في سبيل حلّها قاد إلى اكتشاف أثار فيه وفقا لشهادته الخاصّة دراما داخليّة حقيقيّة لأنه أصبح شاهدا على دخول الانقطاع إلى مجال الفيزياء. ووفقا لاكتشاف “بلانك”، الذي أطلق اسمه على ميكانيكا الكمّ، كانت ستحدث ثورة في الفيزياء برمّتها تغيّر رؤيتنا للعالم بشكل عميق.
كيف نفهم الانقطاع الحقيقيّ، أي تصوّر عدم وجود شيء بين نقطتين فلا أجسام ولا ذرّات ولا جزيئات فقط لا شيء؟ بل إنّ كلمة لا شيء أيضا أكثر من اللّازم.
وكان السّؤال عن الاستمراريّة هو السّؤال عن السّببيّة المحلّية وهكذا فتح الصندوق الهائل ل “باندور”.
ووفقًا لميكانيكا الكمّ، فإنّ الكمّيّة المادّية لها عدّة قيم محتملة تتأثّر باحتمالات محدّدة جيّدًا. ولكن من الواضح أنّ المرء يحصل على نتيجة واحدة فقط للكمّية المادّيّة المعنيّة في قياس تجريبيّ. وكان هذا الإلغاء المفاجئ لتنوّع القيم المحتملة لـ “الملاحظة” المادّية، بفعل القياس، ذا طبيعة غامضة، لكنّه أشار بوضوح إلى وجود نوع جديد من السّببيّة.
وبعد سبعة عقود من نشأة ميكانيكا الكمّ، تمّ توضيح طبيعة هذا النّوع الجديد من السّببية بفضل النّتيجة النّظريّة الدّقيقة -نظريّة بيل -والتّجارب ذات الدّقّة العالية. وهكذا دخل مفهوم جديد في الفيزياء: هو عدم قابليّة الفصل.
وتستمرّ الكيانات الكمّيّة في التّفاعل بغضّ النّظر عن بعدها. وهكذا يظهر نوع جديد من السّببيّة في تاريخ المعرفة، وهو السّببيّة العالميّة التي تتعلّق بنظام جميع الكيانات المادّيّة في كلّيتها.
وهكذا كان أساس آخر من أسس الفكر الكلاسيكيّ -وهو الحتميّة -بدوره ينهار.
إنّ الكيانات الكمّيّة -الكمّيات-هي جسيمات وموجات، أو بتعبير أدقّ، فهي ليست جسيمات ولا موجات. وتبيّن علاقات هايزنبرغ الشّهيرة، دون أيّ غموض، استحالة تحديد موقع كمّيّة في نقطة دقيقة من الفضاء وفي نقطة زمنيّة محدّدة.
فبعبارة أخرى، من المستحيل تعيين مسار محدّد جيّدًا لجسيم كمّيّ. إنّ اللّاحتميّة السّائدة على المقياس الكمّيّ هي حتميّة تأسيسيّة وأساسيّة وغير قابلة للاختزال، إذ لا تعني بأيّ حال من الأحوال الصّدفة أو عدم الدّقّة. فالتّأثير الثّقافيّ الرّئيسيّ للثّورة الكمّيّة هو بالتّأكيد التّشكيك في الاعتقاد الفلسفيّ المعاصر لوجود مستوى واحد من الواقع[3].
دعونا نعط كلمة “واقع” معناها العمليّ والوجوديّ. نحن نعني بالواقعيّة، أوّلاً وقبل كلّ شيء، ما يقاوم تجاربنا، أو تمثيلاتنا، أو أوصافنا، أو صورنا، أو إضفاء الطّابع الرّياضيّ. لقد جعلتنا الفيزياء الكمّيّة نكتشف أنّ التّجريد ليس وسيطًا بسيطًا بيننا وبين الطّبيعة وليس أداة لوصف الواقع، ولكنّه أحد الأجزاء المكوّنة للطّبيعة.
ومن الضّروريّ إعطاء بُعد وجوديّ لمفهوم الواقع بقدر ما تشارك الطّبيعة في وجود العالم.
فالواقع ليس مجرّد بناء اجتماعيّ أو إجماع جماعة أو اتّفاق بينذاتي. بل له بُعد متداخل الذّوات في السّياق الذي يمكن لحقيقة تجريبيّة بسيطة فيه أن تفنّد أفضل نظريّة علميّة.
ويجب أن يُفهم مستوى الواقع بوصفه مجموعة من الأنظمة الثّابتة لعمل عدد من القوانين العامّة: فعلى سبيل المثال، الكيانات الخاضعة لقوانين الكمّ، التي تتعارض بشكل جذريّ مع قوانين العالم الماكروفيزيائيّ.
وهذا يعني أنّ مستويين من الواقع مختلفان، فإذا حدث انتقال من مستوى إلى آخر هناك انقطاع في القوانين وانقطاع في المفاهيم الأساسيّة (مثل السّببيّة على سبيل المثال). فلم ينجح أحد في استنباط أشكال رياضيّة تسمح بمرور صارم من عالم إلى آخر.
وفي الواقع، اقترب ويرنر هايزنبرغ، في هذه الكتابات الفلسفيّة، من مفهوم “مستوى الواقع”. ففي مخطوطه الشّهير لعام 1942 (نُشر باللغة الألمانيّة فقط في عام 1984 وترجم إلى الفرنسيّة في عام 1998)، قدّم هايزنبرغ، الذي كان يعرف هوسّرل جيّدًا، فكرة ثلاث مناطق للواقع قادرة على تزويدنا بإمكانيّة الوصول إلى مفهوم “الواقع” نفسه: المنطقة الأولى هي الفيزياء الكلاسيكيّة، والثّانية، فيزياء الكمّ والظّواهر البيولوجيّة والنّفسيّة، والثّالثة، تلك المتعلّقة بالتّجارب الدّينيّة والفلسفيّة والفنّيّة[4]. ولهذا التّصنيف أساس خفيّ: التّقارب المتزايد بين الموضوع والشّيء.
ومثّل ظهور مستويات مختلفة من الواقع في دراسة النّظم الطّبيعية حدثا هامّا في تاريخ المعرفة يمكن أن يقودنا إلى إعادة التّفكير في الحوار بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الدّقيقة. ويبدو لي أنّ تقاطع الاختصاصات هو الوسيط الذي لا مفّر منه لهذا الحوار.
3- كثرة الاختصاصات وتنوّعها وتداخلها:
إنّ التّماسك غير المسبوق للمعرفة في عصرنا يضفي الشّرعية على مسألة تكيّف الذّهنيات مع هذه المعرفة. فعلى وجه الخصوص، العولمة هي مصدر محتمل للانحلال الجديد. فالخطران المتطرّفان للعولمة هما التّجانس الثّقافيّ والدّينيّ والرّوحيّ ونوبة الصّراعات العرقيّة والدّينيّة ردّ فعل للدّفاع عن النّفس للثّقافات والحضارات.
ويفترض الانسجام بين الذّهنيات والمعرفة أنّ هذه المعرفة واضحة ومفهومة. ولكن هل يمكن أن يظلّ الفهم قائماً في عصر الانضباط الكبير والاختصاص المفرط؟
انعكست الحاجة الأساسية للرّوابط بين مختلف الاختصاصات في ظهور كثرة الاختصاصات وتنوّعها في منتصف القرن العشرين.
ويتعلّق تنوّع الاختصاصات بدراسة كائن من نظام واحد من قبل الكثير من الاختصاصات في نفس الوقت. ويجلب البحث متنوّع الاختصاصات إضافة إلى الاختصاص المعنيّ، ولكن هذه “الإضافة” في الخدمة الحصريّة لهذا الاختصاص نفسه.
ويتعلّق تنوّع الاختصاصات بنقل الأساليب من اختصاص إلى آخر. فعلى سبيل المثال، أدّى نقل الأساليب من الرّياضيات إلى ظواهر الأرصاد الجويّة أو تلك الموجودة في سوق الأوراق الماليّة إلى توليد نظريّة الفوضى. ويتجاوز تنوّع المعارف الاختصاصات، ولكن يظلّ غرضها أيضًا جزءًا من البحث المختصّ.
أمّا مخاوف تداخل الاختصاصات، كما تشير إليها السّابقة اللّاتينية، فما هو في نفس الوقت داخل الاختصاصات، متجاوزا الاختصاصات المختلفة وخارج أيّ اختصاص. أمّا الغرض منه فهو فهم العالم الحاضر، وأحد ضروراته هو وحدة المعرفة. وتمّ تقديم كلمة “تداخل الاختصاصات” في عام 1970 من قبل جون بياجاي[5].
ويختلف البحث متداخل الاختصاصات بشكل جذريّ عن البحث المختصّ، ولكنّه مكمّل له. ويهتمّ البحث المختصّ، على الأكثر، بنفس المستوى من الواقع؛ وفي معظم الحالات أيضا، يتعلّق الأمر فقط بأجزاء من نفس المستوى من الواقع.
ومن ناحية أخرى، يهتمّ تداخل الاختصاصات بالدّيناميكيات النّاتجة عن عمل عدّة مستويات من الواقع في نفس الوقت.
وينطوي اكتشاف هذه الدّيناميكيّة بالضّرورة على المعرفة المختصّة.
ويمثّل الاختصاص وكثرة الاختصاصات وتنوّعها وتداخلها السّهام الأربعة لقوس واحد: تلك المعرفة.
أمّا المعرفة العامّة فهي نوع جديد من المعرفة.
المعرفة متداخلة الاختصاصات (CT)، التي تتوافق مع المعرفة في الجسم الحيّ: تهتمّ هذه المعرفة الجديدة بالمراسلات بين العالم الخارجيّ للكائن والعالم الدّاخليّ للموضوع. والمعرفة المقطعيّة هي حقّا معرفة طرف ثالث. وبحكم التّعريف، تشمل المعرفة المقطعيّة نظام القيم (انظر الجدول 1).
ومن الضروريّ أن ندرك أنّ المعرفة المختصّة والمعرفة متداخلة الاختصاصات غير متناقضتين ولكنّهما متكاملتان. فمنهجهما مبنيّ على الرّوح العلميّة.
ويعدّ تداخل الاختصاصات طريقة لمشاهدة وجودنا في العالم وعيش تجربتنا من خلال المعرفة الرّائعة لعصرنا. إذ تؤدّي الرّؤية متداخلة الاختصاصات، وهي رؤية عبر الثّقافات وعبر الأديان، على المستوى الاجتماعيّ، إلى تغيير جذريّ في المنظور والموقف.
الجدول 1:
المعرفة المختصّة (CD) | المعرفة متداخلة الاختصاصات (CT) |
في المختبر | في الحياة |
العالم الخارجيّ – الكائن | التّماثل بين العالم الخارجيّ (الكائن) والعالم الدّاخليّ (الموضوع) |
المعرفة | الفهم |
الذّكاء التّحليليّ | نوع جديد من الذّكاء-التّوازن بين الذّهنيّة والأحاسيس والجسد |
موجّهة إلى القوّة والملكيّة | موجّهة إلى الدّهشة والمشاركة |
منطق ثنائيّ | تضمين منطق الطّرف الثّالث |
استبعاد القيم (الحياد) | استبعاد القيم (خيار إنسانيّ) |
4- منهجيّة تداخل الاختصاصات:
تعتمد منهجيّة تداخل الاختصاصات[6] على ثلاث بديهيات:
-البديهيّة الأنطولوجيّة: وجود ثلاثة مستويات مختلفة لواقع الكائن وثلاثة مستويات مختلفة لواقع الموضوع.
-البديهيّة المنطقيّة: الانتقال من مستوى واقعيّ إلى مستوى واقعيّ آخر يتمّ عبر منطق الطّرف الثّالث.
-المنطق الإبستيمولوجيّ: بنية مجموع مستويات الواقع تصدر، في معرفتنا الطّبيعيّة، عن المجتمع وعن أنفسنا، بوصفها بنية مركّبة: كل مستوى هو ما هو عليه لأنّ كلّ المستويات الأخرى موجودة في آن واحد.
لقد حلّلت بالتّفصيل الأساس المنطقيّ لهذه البديهيات في كتاب “ما هو الواقع؟”. يجب أن نقول بضع كلمات هنا حول معنى البديهيّة الثّانية.
يتمّ ربط مستويين مختلفين من الواقع بمنطق الثّالث المرفوع، منطق جديد مقارنة بالمنطق الكلاسيكيّ.
يعتمد المنطق الكلاسيكيّ على ثلاث بديهيات:
1-بديهية الهويّة: أ هي أ
2-بديهية عدم التّناقض: أ ليست -أ
3-بديهية الثّالث المرفوع: لا يوجد مصطلح ثالث T( Tمن “الثلث المشمول”) وهو A وليس A-.
ومع ذلك، إذا قبلنا هذا المنطق الذي ساد، بعد كلّ شيء، لآلاف السّنين وما زال يسيطر على الفكر اليوم، نصل على الفور إلى استنتاج مفاده أنّ الثّنائيات المتناقضة التي أبرزتها الموجة الفيزيائيّة: ثنائيّة الموجة والجسيم وثنائيّة الاستمرارية والانقطاع، والانفصال وعدم الانفصال، والسّببيّة المحلّية والسّببية العالميّة، والتّناظر وكسر التّماثل، والانعكاس وعدم رجوع الوقت، إلخ. – متنافية، لأن المرء لا يستطيع أن يؤكّد في الوقت نفسه صحّة الشيء وعكسه: أ وليس-أ.
وقامت معظم المنطقيات الكمّيّة بتعديل البديهيّة الثّانية للمنطق الكلاسيكيّ -بديهية عدم التّناقض -من خلال إدخال عدم التّناقض في الكثير من قيم الحقيقة بدلاً من تلك الثّنائية (أ، غير أ). فقد أظهرت الجدارة التّاريخيّة لستيفان لوباسكو (1900-1988) أنّ منطق الثّالث المرفوع هو منطق حقيقيّ، يمكن إضفاء الطّابع الرّسميّ عليه، ومتعدّد (مع ثلاث قيم: أ، غير أ وت) وغير متناقض[7].
ويتّضح فهم البديهيّة للثّالث المرفوع -هناك مصطلح ثالث T وهو A وA -A على حدّ سواء -عند إدخال مفهوم “مستويات الواقع”.
وللحصول على صورة واضحة لمعنى الثّالث المرفوع، تخيّل المصطلحات الثّلاثة للمنطق الجديد -A، وليس -A وT-والدّيناميكيات المرتبطة بها باعتبارها ممثّلة بمثلّث بأحد القمم على مستوى آخر من الواقع. فإذا بقي المرء على مستوى واحد من الواقع، فإنّ أيّ مظهر يتجلّى بوصفه صراعا بين عنصرين متناقضين. أمّا الدّيناميكيّة الثّالثة، ديناميّة الدّولة T، فتمارس على مستوى آخر من الواقع، حيث ما يبدو وكأنه مفصول هو في الواقع موحّد، وما يبدو أنّه متناقض يُنظر إليه غير متناقض. إنّه إسقاط T على مستوى واحد من الواقع الذي ينتج مظهر الثّنائيات المتنافسة المتبادلة.
إنّ منطق الطّرف الثّالث المرفوع قادر على وصف الاتّساق بين جميع مستويات الواقع من خلال عمليّة تكراريّة. وستستمرّ هذه العمليّة إلى ما لا نهاية، حتّى استنفاد جميع مستويات الواقع، المعروفة أو التي يمكن تصوّرها، دون أن تتمكّن من أن تؤدّي إلى نظريّة موحّدة تمامًا. وبهذا المعنى يمكننا أن نتحدّث عن تطوّر للمعرفة، دون أن نكون قادرين على الإطلاق على عدم تناقض مطلق، يشمل جميع مستويات الواقع: إذ المعرفة مفتوحة إلى الأبد.
وهناك بالتّأكيد تناسق بين المستويات المختلفة للواقع، في العالم الطّبيعيّ على الأقلّ. ففي الواقع، يبدو أنّ الاتّساق الذّاتيّ الواسع -الحذاء الكونيّ -يحكم تطوّر الكون، من القصر اللّامتناهي إلى الطّول اللّامتناهي. إذ يتمّ نقل تدفّق المعلومات بطريقة متماسكة من مستوى واحد من الواقع إلى مستوى آخر من الواقع في عالمنا المادّيّ. وهذا الاتّساق موجّه: فهناك سهم مرتبط بنقل المعلومات من مستوى إلى آخر. وهكذا، فإنّ التّماسك، إذا كان يقتصر على مستويات الواقع فقط، يتوقّف عند “المستوى” الأعلى وعند “المستوى” الأدنى. ولكي يستمر التّماسك إلى ما وراء هذين المستويين الحدّين، لكي تكون هناك وحدة مفتوحة، يجب أن نعتبر أنّ مجموعة مستويات الواقع تمتدّ من خلال منطقة عدم مقاومة تجاربنا وتمثيلاتنا وأوصافنا أو صور أو إضفاء الطّابع الرّياضيّ. ولا يوجد مستوى من الواقع في هذا المجال.
إنّ عدم مقاومة هذه المنطقة من الشّفافية المطلقة يرجع ببساطة إلى قيود أجسامنا وأعضائنا الحسّيّة، بغضّ النّظر عن أدوات القياس التي تمدّ هذه الأعضاء الحسّيّة. وتقابل منطقة عدم المقاومة تلك التي لا تخضع لأيّ ترشيد. ويجدر بنا أن نتذكّر التّمييز الهامّ الذي قام به إدغار موران بين العقلانيّة والترشيد[8]. فمجال عدم المقاومة منطقي، ولكن لا يمكن ترشيده. وهو يترجم وجود تفاعل بين الموضوع والكائن، لا يمكن اختزاله إلى الموضوع أو الكائن. هذا التّفاعل هو أوّلاً تجربة، ينتج عنها شعور بما يربط بين الكائنات والأشياء، وهو ما يدفع في أعماق الإنسان إلى الاحترام المطلق للآخر الذي توحّده الحياة المشتركة على نفس الأرض.
ويتّفق الهيكل المفتوح لجميع مستويات الواقع مع نتيجة من أهمّ النّتائج العلميّة للقرن العشرين: نظريّة جودل، في ما يتعلّق بالحساب. تخبرنا نظريّة جودل أنّ نظامًا غنيًّا بما فيه الكفاية من البديهيات يؤدّي حتمًا إلى نتائج غير قابلة للتّقادم أو متناقضة. إنّ نطاق نظريّة جودل له أهمّية كبيرة لأيّ نظريّة حديثة للمعرفة لأنّها لا تتعلّق فقط بالمجال الوحيد للحساب، ولكن أيضًا بأية رياضيات تتضمّن الحساب. وتشير بنية جودل لمجموعة من مستويات الواقع، المرتبطة بمنطق الثّلث المتضمّن، إلى استحالة مناقشة نظريّة كاملة لوصف المرور من مستوى إلى آخر و، من باب أولى، لوصف مجموعة مستويات الواقع، إذا كانت موجودة، يجب أن تكون بالضّرورة وحدة مفتوحة.
وينبثق مبدأ جديد للنّسبية من التّعايش بين التّعدّدية المعقّدة والوحدة المفتوحة: فلا يشكّل أيّ مستوى من الواقع رابطًا مميّزًا يمكن للمرء من خلاله فهم جميع مستويات الواقع الأخرى. فمستوى الواقع هو ما هو عليه لأنّ كلّ المستويات الأخرى موجودة في نفس الوقت. و(يعدّ) مبدأ النّسبيّة أساس نظرة جديدة للثّقافة والدّين والسّياسة والفنّ والتّعليم والحياة الاجتماعيّة.
وعندما تتغيّر نظرتنا للعالم، يتغيّر العالم.
كتب التّربويّ البرازيليّ العظيم باولو فرّيري في علم أصول المظلومين قائلا “قول كلمة حقّ يعادل تغيير العالم”.
ووفقًا للرّؤية متداخلة الاختصاصات، المعرفة ليست خارجيّة ولا داخليّة: إنّها خارجيّة وداخليّة (في ان).
ويدعم دراسة الكون ودراسة الإنسان بعضهما البعض. فالعلوم الدّقيقة والعلوم الإنسانيّة متكاملة. إنّ تداخل الاختصاصات هو الأمر الثّالث الذي يسمح بتفاعلهما.
ويمكننا أن نستنتج أنّ العلوم الدّقيقة والعلوم الإنسانيّة وتداخل الاختصاصات تشكّل مثلّث المعرفة، ممّا يسمح بظهور شكل جديد من الإنسانيّة يوفّر لكلّ إنسان القدرة القصوى على التّطوّر الثّقافيّ والرّوحيّ. إنّها مسألة البحث عمّا يوجد بين البشر وعبرهم وما وراءهم -أي ما يمكن للمرء أن يطلق عليه كائن الكائنات.
قائمة المصادر والمراجع:
- Heisenberg, Werner, Philosophie – Le manuscrit de 1942, trad. de l’allemand et introduction par Catherine Chevalley, Paris, Seuil, 1998 [éd. allemande:1984].
- Lupasco, Stéphane, Le principe d’antagonisme et la logique de l’énergie – Prolégomènes à une science de la contradiction, Monaco, Le Rocher, coll. «L’esprit et la matière», [1951] 1987.
- Morin, Edgar, «Anthropologie de la connaissance», dans La méthode, tome III, La connaissance de la connaissance, Seuil, Paris, 1986.
- Nicolescu, Basarab, La transdisciplinarité, manifeste, Rocher, Monaco, 1996.
- Nicolescu, Basarab, Nous, la particule et le monde, Rocher, Monaco, 2002.
- Nicolescu, Basarab, Qu’est-ce que la Réalité?, Liber, Montréal, 2009.
- Piaget, Jean, « L’épistémologie des relations interdisciplinaires » dans L’interdisciplinarité; Problèmes d’enseignement et de recherche dans les universités, OCDE, Paris, 1972, p. 131-144.
- Snow, Charles Percy, The Two Cultures, Cambridge University Press, Cambridge, 1993.
[1]– شارل بارسي سناو٬ الثّقافتان٬ مطبعة جامعة كامبريدج٬ كامبريدج٬ 1993. كان هذا الكتاب في الأصل محاضرة قدّمها سناو عام 1959.
[2]– باساراب نيكولسكو، نحن، الجسيم والكون، روشاي، موناكو، 2002.
[3]– باساراب نيكولسكو، ما الحقيقة؟، ليبار، مونريال، 2009.
[4]– وارنر هيسنبارغ، الفلسفة: مخطوط 1942، ترجمته من الألمانية وقدمته كاترين شفالاي، باريس، سويل، 1998، (الطبعة الألمانية: 1984)، ص218-306.
[5]– جون بياجاي، إبستيمولوجيا تنوع الاختصاصات، ضمن: تنوع الاختصاصات: قضايا التعليم والبحث في الجامعات، باريس، 1972، ص131-144.
[6]– باساراب نيكولسكو، تداخل الاختصاصات، روشاي، موناكو، 1996.
[7]– ستيفان لوباسكو، مبدا التضاد ومنطق الطاقة الأولية في علم التناقض، موناكو، روشاي، م. العقل والمادة، (1951) 1987.
[8]– إدغار موران، “أنثروبولوجيا المعرفة”، في المنهج، ج3، معرفة المعرفة، سويل، باريس، 1986.