ملخّص:
ارتبط “بناء الحياة” كبراديغم للمواكبة في مجال التّوجيه بسياق المجتمعات ما بعد الحداثيّة التي تتميّز بمجموعة من الخصائص الجديدة كالسّيولة والفردانيّة واللاّيقين، ممّا كان له وقع كبير على حياة الأفراد ومعيشتهم وتوجّهاتهم ونظرتهم إلى المستقبل بشكل خاصّ. ويهدف ” بناء الحياة ” إلى بناء تبصّري للذّات بالتّركيز على استكشاف الذّات والفكر الإبداعيّ وبناء الحياة ككلّ، من خلال مواكبة الفرد في تحقيق مشاريعه الشّخصيّة، بمنحها معنى، والتّعامل مع الأسباب والعوامل الدّاخليّة لنجاحها، إضافة إلى تحقيق الرّفاهيّة الدّراسيّة والمهنيّة.
ولمّا كان هذا البراديغم غائبا عن ممارسات التوجيه في المغرب التي ما فتئت تركز على المقاربة التربوية، فقد سعينا من خلال هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على سياقات ظهوره، ثمّ عرض أسسه العلمية والتطبيقية، والتّركيز بعد ذلك على ” مقابلة بناء المسار الوظيفيّ ” لـ Savickas، بوصفها أداة من أدوات المواكبة التّبصّرية المرتَكِزة على هذا البراديغم. تسمح هذه الأداة للمتعلمين، من خلال الحكي، بالتفكير في قصص حياتهم الخاصة، وفهم معنى تاريخهم وإعادة بنائه على ضوء الحاضر من أجل التخطيط للمستقبل. ونعرّج في الأخير على سبل إرسائه ضمن أنشطة وممارسات المواكبة التخصصية في مجال التوجيه بالمغرب في ظلّ الدّيناميات الحاليّة التي تعرفها منظومة التّربية والتّكوين بشكل عام ومنظومة التّوجيه المدرسيّ على وجه الخصوص.
الكلمات المفاتيح: بناء الحياة – المواكبة التّبصريّة- سيرة الحياة- التّوجيه المدرسيّ.
Abstract:
As an accompanying paradigm in the field of guidance, “life designing” was associated with the context of post-modern societies, which are characterized by a set of new characteristics such as fluidity, individualism, and uncertainty, which had a great impact on people’s lives, attitudes, orientations and vision of the future in particular.
Life designing aims at a reflexive construction of the self, emphasizing the powers of self-exploration, creative thinking, and the construction of life as a whole, accompanying the individual in the realisation of their personal projects, giving them meaning, and addressing the reasons and internal factors for their success, in addition to achieving academic and professional well-being.
Considering that this paradigm is still absent from guidance practices in Morocco, which have always focused on the educational approach, we have sought through this article to shed light first on the contexts of its emergence, in addition to presenting its scientific and applied foundations, focusing thereafter on Savickas’ the career construction interview, as a reflexive guidance tool based on this paradigm, which allows the learner, through narrative, to take ownership of the process of building their career. This is followed by a discussion on how to integrate it into the activities and practices of specialised guidance in Morocco in light of the current dynamics of the education and training system in general and the school guidance system in particular.
Key words: life designing – reflective accompanying- life story – school guidance.
1- تقديم:
تسعى نظريّات التّوجيه إلى بناء روابط بين الأهداف التي يسعى إليها كلّ من الأفراد والأنشطة الاقتصاديّة للبلد. فإذا ما تغيّرت الأنشطة الاقتصاديّة، تجد هذه النّظريّات نفسها مجبرة على مسايرتها. لذلك، لم يعد اهتمامها الأساسيّ هو الاختيار المهنيّ كما كان قبل قرن من الزّمان، أو تطوير المسار الوظيفيّ كما كان الحال قبل خمسين عاما، فخلال القرن الحادي والعشرين، أصبح هذا الاهتمام منصبّا على كيفيّة البناء المستمرّ للذّات والحياة والسّعي إلى تطوير نماذج أو براديغمات يمكن استخدامها كأساس لتدخّلات المواكبة على التّوجيه ملائمة لمجتمعات يطبعها التّغيير واللايقين (Guichard & Huteau, 2001).
تاريخيّا، يُعَدُّ براديغم التّطابق )أو التّوافق( أولى النّماذج التي وُظّفت في حقل التّوجيه المهنيّ منذ أواخر القرن التّاسع عشر الذي شهد فيه المجتمع انتقالا من اقتصاد فلاحيّ إلى آخر صناعيّ. وهنا يُبنى الاختيار المهنيّ على ثلاث قواعد؛ تتمثّل الأولى في أنّ لكل فرد سمات خاصّة تميّزه عن غيره، هذه السّمات يمكن قياسها عبر الرّوائز واختبارات علم النّفس القياسيّ. وتتعلّق الثّانية بتعريف كلّ مهنة وإبراز ميّزاتها الخاصّة وتحديد متطلّباتها على مستوى محدّد في الظّروف الصّحيّة والإداريّة والاجتماعيّة والاقتصادية التي تتّصل بها. وهناك مستوى أعمّ في توصيف هذه المهن يشمل تحديد المؤهّلات السّيكولوجيّة التي يتطلّبها العمل في وظيفة ما، وتتّصل القاعدة الثالثة بعملية ربط السّمات الشّخصية للفرد بمميّزات وخصائص المهنة بما يسمح بتوجيه يحدّد الاختيار المهنيّ الملائم للأفراد (Guichard & Huteau, 2005). عرف هذا النموذج انتقادات بخصوص الطّابع الستاتيكي/ السّكوني، الذي يضفيه على الفرد بالتحديد النهائي لنمط شخصيته ومحيطه المهني والتّطابق شبه الأبدي بينهما. فهذه القواعد وآليات التّطابق بين ذات الفرد وبيئة مهنية معينة لم تصمد طويلا أمام حقيقة التّحولات التي عاشها سوق الشغل والتّطور الذي عرفته المهن، فضلا عن إمكانيات التّطور الشّخصيّ للفرد والتي لا تتلاءم مع منطق الستاتيكا الذي حكم هذا النموذج.
نتيجة لذلك، برز براديغم التّربية على التّوجيه خلال عصر المجتمعات التّجاريّة والحداثة المتقدّمة، باعتباره مكمّلا للنّموذج السّابق، ومحاولة للتّدخّل في تشكيل تطلّعات الشّباب من خلال تزويدهم بمنهجيّة عامّة تمكّنهم من أفضل حلّ لمشاكلهم الحاليّة والمستقبليّة في التّوجيه (Huteau, 1997). والغرض منها تطوير المهارات الضّرورية لتنمية تطلّعات المستقبل: القدرة على استكشاف عمليات أخرى أوسع من مجرّد تحصيل المعلومات، عمليّات تشمل أيضا المواقف العقليّة، والقدرة على اتّخاذ القرارات ووضع الاستراتيجيّات والتّخطيط، وتسعى إلى تبرير الخيارات التي اُتّخذت للتّعرف على أسبابها. كما يفترض هذا البراديغم أن القدرة على الاختيار يمكن أن تتطوّر وبالتّالي يمكن للعقلانيّة الفرديّة أن تتحسّن.
لكن، ومع بروز مجموعة من الأزمات في العالم المعاصر)سيّما الدّيمغرافيّة والإيكولوجية وأزمة الشّغل والعمل اللاّئق…(، تزايد الشّك حول استدامة الأشكال الحالية لتنظيمات العمل. وعلى مستوى المواكبة على التّوجيه، ترجمت هذه الشّكوك بعودة السؤال الوجودي للتّوجيه المتمثل في: “بأي حياة عمليّة )نشطة( يمكنني إعطاء معنى ومنظور لوجودي؟”، انطلاقا من هذا السّؤال برز براديغم جديد “بناء الحياة” يرمي إلى مساعدة أفراد المجتمع السّائل ) حسب تعبير (Baumanليعيشوا حياة يرونها جيدة وناجحة، من خلال دعمهم في بناء منظورات مستقبلية وتشكيل معايير حياة تمكنهم من إعطاء معنى واتجاه لوجودهم (Guichard J. , 2018).
2- تقديم عام لبراديغم بناء الحياة life design:
في سنة 2005، قام Savickas ومجموعة من الباحثين الدوليين ببلورة براديغم يقدم إجابات، من المفترض أن تكون أكثر إبداعا وفعالية، لمجتمع ما بعد الحداثة يعزز الفردانية على حساب مجتمع تقليدي كرد فعل على الأزمات السوسيو-اقتصادية المتوالية لسنوات 2000 (Savickas, 2010) .
وقد أفرز هذا التعاون مفهوما جديدا: ” بناء الحياة “، ردّا على الشّعور بالتّحكّم في الحاضر والمستقبل أقلّ من أيّ وقت مضى، حيث يتساءل الأفراد حول هويّتهم العميقة، بغية إيجاد معنى لوجودهم. ويعتمد براديغم “بناء الحياة” هذا على خمس منطلقات هي كالتّالي أوّلا إمكانات مرتبطة بالسياقات، ثانيا العمليات الديناميكية، ثالثا التّقدّم غير الخطيّ، رابعا منظورات متعددة و خامسا تشكيلات فردية. انطلاقًا من هذه الافتراضات، يُعرَّف “بناء حياة الفرد” على أنّه “نموذج في السّياق، يقرّ بأنّ معرفة الفرد وهويّته هما نتاج تفاعل اجتماعيّ، وأنّ المعنى يتمّ تكوينه على نحو مشترك من خلال وساطة الخطاب (Savickas, 2010).
ينتظم هذا النّموذج بطريقة تستجيب فيها المواكبة لأربع معايير أساسيّة، تتمثّل في الدّيمومة مدى الحياة حيث ينبغي مواكبة الفرد في حالة انتقال شخصيّ أو مهنيّ طيلة حياته. والشّموليّة، إذ تركّز المواكبة بالإضافة إلى المهن أو الدّراسات، على الجوانب الأخرى المهمّة لحياة الفرد (الأسرة، التزامه كمواطن، ميولاته، اهتماماته…) ثمّ السّياقية، إذ المفروض من التّدخّل أن يأخذ بعين الاعتبار البيئات الماضية والحاضرة للفرد. وأخيرا الوقائية، حيث ينبغي للمواكبة أن تهتمّ بمستقبل الفرد قبل اللّحظة التي يتعين فيها مواجهة صعوبات الانتقالات بطريقة تزيد من فرصه في الاختيار مع إيلاء اهتمام خاص بالمخاطر المحتملة (Dumouilla & Lamri, 2022).
فضلا عن ذلك، صُمّم نموذج بناء الحياة في ضوء ثلاثة أهداف مختلفة للتّدخل: مساعدة الفرد على زيادة قدرته على التّكيّف، والسّرديّة والنّشاط. فبينما ترتبط القدرة على التكيف بالتّغيير، تدور السّردية حول الاستمراريّة. توفر القدرة على التكيف والسّرديّة معا للأفراد المرونة والإخلاص الذّاتيّ اللّذان يسمحان لهم بالقيام بأنشطة لها معنى بالنسبة إليهم وتطوير أنفسهم في مجتمعات المعرفة ” (Savickas, 2009).
2- 1- نماذج التّدخّل في براديغم بناء المسار المهنيّ:
تختلف نماذج التّدخّل المستعملة في مجال الاستشارة والتّوجيه باختلاف المقاربات المعتمدة والمرتكزات النّظريّة التي تقوم عليها وتشكّل مرجعيّتها العلميّة والمهنيّة، وكذا باختلاف الإشكاليّات التي تبحثها تلك المقاربات وتحاول إيجاد عناصر للإجابة عنها.
بالنسبة إلى بناء الحياة، يدمج الإطار العام لهذا البراديغم، نظرية بناء المسار الوظيفي التي تصف سلوكات التكيُّف في التوجيه وتطورها من جهة (Savickas, 2005)، ونظرية بناء الذّات من جهة أخرى (Guichard & Huteau, 2005).
في النّموذج الأوّل يشير Savickas (2005) إلى مراحل “مقابلة بناء المسار الوظيفيّ”: البناء والتّفكيك وإعادة البناء والبناء المشترك والفعل، وترتكز هذه المقابلات البنائيّة بالأساس على مفهوم السّيرة بعلاقتها مع فكرة السّيرة السّرديّة. أما Guichard، فيؤكّد في نموذجه ” حوار الاستشارة في بناء الحياة ” أهمّيّة السّيرورة التّبصّريّة كمحرّك للتّغيير، ووسيلة لتعميق المعرفة والخلق )التّوليد( والبناء وتطوير الذّات (Guichard J. , 2013). هذه الحوارات هي أكثر توجيها من مقابلات بناء المسار الوظيفيّ وتنبني على مجموعة من البنود والأسس، من بناء الثّقة بين المستشير والمستشار، والوعي بمكوّنات الحياة الرّاهنة للشّخص تمهيدا للغوص فيها، ثمّ تحديد أشكال الهويّة الذّاتيّة المستبقة وما تستتبعه من إنجازات تستلزم انخراطا فعليّا للمستفيد فيها، والوقوف على الحصيلة ومدى استجابة الخطوات المتّبعة لتحقيق الانتظارات المعبّر عنها.
تسعى كلا المنهجيّتين إلى توفير فرصة للمستفيدين لاستفتاء أنفسهم. ويتم ذلك بفضل الدّعم الذي يوفّره الاستشاريّ من أجل إيجاد جواب عن السّؤال العامّ الذي يدور حوله التّوجيه ويتمثل في تحديد الأنشطة أو التّوجّهات أو الأفعال التي تعطي معنى لوجودهم (Cohen-scali & Pouyaud, 2019) .
وإذا كان هناك فرق جوهري بين المنهجيتين، فيتمثّل في التركيز، داخل مجريات حياة الأشخاص، على ما يعطي معنى لوجودهم فيما يتعلق بمساراتهم المهنية، أو في التّعامل مع هذا الجانب بوصفه أحد الصور التي يمكن من خلالها إضفاء معنى لوجود هؤلاء الأشخاص أنفسهم من جهة )يركز Savickas على هذا المنحى من خلال السّؤال التّالي : بأيّ نشاط مهنيّ يمكنني إضفاء معنى على وجودي؟ بينما يتجه Guichard نحو سؤال آخر: ما الذي يمكن أن يعطي معنى لحياتي؟ سواء أكان هذا النّشاط مهنيّا أو غير مهنيّ ( ، ويكمن الفرق في شكل المقابلة وبنودها وما تسعى لإنتاجه مع المستفيدين من جهة ثانية (Guichard, 2016).
وفي كلتا المنهجيتين، تتجلّى خصوصيّة الاستشارة مقارنة بالنّماذج الأخرى، هو أنّها ليست إملاء على الأشخاص لما ينبغي أن يقوموا به أو ما يمكن أن يُعتبر مناسبا لهم، بل هو وضعهم في سياق يجعلهم على وعي بذواتهم وبمآلات الاختيارات التي قد يُقْدِمُون عليها ضمن خيارات كثر يتمّ استجلاؤها من خلال سرد قصص حياتهم (Guichard, 2016).
3- منهجية مقابلة بناء المسار الوظيفيEntretien de construction de carrière (ECC) :
لقد تم تطبيق نظرية بناء المسار الوظيفي على حقل الممارسة في نموذج للاستشارة ضمن المسار الوظيفي يسمى بمقابلة بناء المسار الوظيفي (ECC)، وتفترض هذه النظرية أنّ الأفراد يبنون مساراتهم المهنيّة من خلال إضفاء معنى على سلوكيّات توجيههم المهنيّ وخبراتهم في العمل (…). بسردهم قصص مساراتهم المهنية حول تجاربهم العمليّة، يركّز هؤلاء الأفراد بشكل انتقائيّ على تجارب معيّنة من أجل إنتاج حقيقة سرديّة معيّنة تسمح لهم بالعيش (Savickas, 2015).
تقارب هذه النّظريّة بناء المسارات المهنيّة من منظور شموليّ. فهي تقترح دمج التّيّارات الثّلاث الرّئيسة التي ميزت علم نفس التّوجيه والمتمثلة في المقاربات الفارقيّة والنّمائيّة والدّيناميكيّة، ويُنْظَرُ إلى كل واحد منهم باعتباره يقدّم إجابة عن الأسئلة الثّلاث التي يطرحها الفرد بالضّرورة لبناء مساره التّكوينيّ والمهنيّ: أي مسار للبناء؟ كيف نبنيه؟ ولماذا نبنيه؟
ليس المقصود من المسار الوظيفيّ هنا ذلك الارتقاء على مستوى مراحل الحياة المهنيّة، إنّما يشير هذا المفهوم إلى البناء الذّاتيّ الذي يعطي الفرد من خلاله معنى شخصيّا لذكرياته السّابقة وتجاربه الحاليّة وتطلّعاته المستقبليّة، بربطها بتيمة للحياة تنظم حياته العمليّة. هذا المسار الوظيفيّ الذّاتيّ الذي يسمح للفرد بتوجيه سلوكيّاته المهنيّة، ناتج عن سيرورة نشطة لبناء المعنى. إنّه لا يشكّل اكتشافا لوقائع موجودة مسبقا. إنّه انعكاسية ) تبصّر( لسيرة ذاتيّة ينتجها الخطاب وتصبح فعّالة من خلال سلوك التّوجيه المهنيّ (Guichard, 2013).
تتجلّى أهداف هذه المقابلة في دفع المستفيد إلى سرد مجموعة من القصاصات المهنيّة أو الشّخصيّة (micro récit) حول حياته وفتراته الانتقاليّة ومشاكله الحاليّة، ثم إدماج هذه القصص في سيرة هويّاتيّة حول الذّات والعمل، ثمّ توظيفها لإضفاء معنى على هذا الانتقال وضبط الانفعالات، ومن ثمّة تشجيع اتّخاذ إجراءات لبناء حياة ملائمة ومُرضيّة. وتركّز مقابلة بناء المسار الوظيفيّ على الحكايات أيضا لأنّ اللّغة والصّور الموظّفة فيها هي أدوات يستعملها الأفراد لبناء الذّات وتشكيل الهويّة ونحت المسار الوظيفي(savickas,2013).
يتم تحقيق أهداف المقابلة في إطار ممارسة تتكوّن من خمس مراحل هي البناء والتفكيك وإعادة البناء والبناء المشترك والفعل.
3- 1- البناء construction :
تبدأ المقابلة بسؤال افتتاحي يوجّهه الاستشاري للعميل يدور حول أهداف هذا الأخير من الاستشارة: كيف يمكنني مساعدتك في مسارك التّوجيهيّ؟ ويهدف هذا السّؤال إلى تحديد مشاكل المستفيد وانتظاراته، وما يقوله حينها، والكلمات الأولى خصوصا، لها دلالات بالغة (Savickas, 2015). لتتواصل الجلسة الأولى باستقصاء خمس مجالات (خمسة أسئلة(، تَبُث أمبريقيا ملاءمتها في إظهار تيمات حياة العميل ) حيث تمكن من كشف واستشعار ما هو مخفي بين أقوال العميل).
يهدف المجال الأول للاستقصاء إلى مساعدة العميل والاستشاريّ في استحضار مفاهيم للذّات )الذّات المثاليّة( انطلاقا من تجسيدها في شخصيّات أخرى )سيرة مصغّرة أو قصاصة عن أبطال الطّفولة(، أمّا المجال التّالي، فيدور حول اهتمامات العميل )سيرة مصّغرة عن المجلاّت والبرامج التّلفزيّة ومواقع الأنترنت المفضّلة( في حين يتعلّق المجال الاستقصائي الثالث، بالمطابقة ” الذّات-المحيط “. من خلال استكشاف القصص التي يرويها الفرد عن نفسه في الأوساط المهمّة بالنّسبة إليه التي يشعر فيها بالرّاحة وتحقيق الذّات )سيرة مصغّرة عن الرّواية أو الفيلم المفضّل(، أما المجال الرابع للاستقصاء، فيرتبط بالمشورة )ات( التي يقدّمها العميل لنفسه )سيرة مصغّرة عن الأقوال المأثورة أو الشّعارات المفضّلة(،بينما يتعلّق المجال الخامس بالقناعات الأساسيّة التي تساعد العميل على تنظيم حياته )سيرة مصغّرة عن الذّكريات القديمة(، وتنتهي الجلسة الأولى بسؤال ختاميّ: هل تودّ إضافة شيء آخر؟ ليقوم الاستشاري بعد ذلك بتلخيص ما حدث خلال أطوار الجلسة، واقتراح بعض الأنشطة على العميل تُمكّنه من الاستعداد للجلسة الموالية بعد أسبوع على الأقل (Cohen-scalli, Guichard, & Pouyaud, 2020).
3- 2- التّفكيك déconstruction:
إنّ انفتاح العميل على الخارج تحدّه حواجز داخليّة، فبينما تبني القصص الشّخصيّة والمهنيّة مسار الفرد، يستمع الاستشاري للقصاصات التي تتّطلب تفكيكا. فالقصاصات أو السّير المصغّرة التي تضعف العميل، سواء بسبب التّوقّعات المسيطرة أو الأفكار السّلبيّة وجب تفكيكها بعناية من أجل الكشف عن أصولها، ثمّ الحدّ من تأثيرها.
تحتاج القصاصات في كثير من الأحيان، أكثر للتفكيك خاصّة تلك التي تنطوي معظمها على تحيّزات أو أفكار مسبقة تتعلّق بالجنس أو العرق أو الطّبقيّة الاجتماعيّة. وقد يسفر عن تفكيك هذه الأفكار الخاطئة فتح مسارات لم يسبق سلكها أو غير معروفة، باعتبار أنّ العملاء لا يمكنهم اتّخاذ اختيارات إلاّ في ضوء العالم الذي يعرفونه.
في الوقت نفسه، من المفروض أن يدرك الاستشاريّون أنّ قصص الفرد لا تُحدد المستقبل، بدلا من ذلك، تعتبر القصة محاولة نشطة لإيجاد المعنى وتشكيل المستقبل. فمن خلال سرد قصصهم، يبني الأفراد مستقبلا محتملا. وعادة ما يخبرون أنفسهم بالقصص التي يحتاجون هم أنفسهم إلى سماعها. لأنّهم، من بين جميع قصصهم المتاحة، يرون تلك التي تدعم أهدافهم الحالية وتُلهم أفعالهم (Savickas, 2013).
بعد الاستماع عن كثب إلى قصص العميل الشّخصية أو المهنية، وتفكيك بعض الأفكار والأحداث المحبطة، يأتي دور إعادة بناء القصاصات في قصّة مسار مهنيّ كبيرة.
3- 3- إعادة البناء reconstruction :
تخلق عمليّة إعادة البناء مسارا ذاتيّا انطلاقا من بناء العميل لحياته العملية. يتمّ تحديد وتجميع الأحداث الهامّة في سيرة شاملة )أو قصّة كبرى( حول المسار الوظيفيّ أثناء عمليّة المعالجة السّرديّة للقصاصات (micro récit).تروي الهويّة السّردية حكاية شخص أصبح شخصيّة في عالم بناه صحبة أشخاص آخرين مهمّين. تضفي هذه الصّورة (portrait) معنى شخصيّا وأهميّة اجتماعيّة على الحياة، لكنّها لا تروي قصة الحياة بأكملها، وإنّما تؤطّر منظورا معيّنا وتضيء جوانب التّجارب الحيّة ذات الصّلة بالأسئلة التي يطرحها العميل.
للقيام بذلك، تُبرز الهويّة السّرديّة الحَبكةَ المهنيّة وتيمة المسار الوظيفيّ في تسلسل القصص المهنيّة. ويمثّل موضوع المسار الوظيفيّ الفكرة المركزيّة للحبكة، بينما يحمل التيمة قوس الشخصية، أي كيف يُتَصوّر الشّخص مع مرور الوقت قيما تتعلّق بمخاوفه ومشاكله وانشغالاته. وتساعد إعادة تنظيم الحبكة وإعادة بناء التيمة على تعميق الهويّة السّرديّة من خلال غرس المشاعر فيها وتوسيعها عبر دمج المزيد من القصاصات.
قد يتعرّض الاستشاريون للارتباك في محاولة تحديدهم تيمة المسار الوظيفيّ أثناء الاستماع إلى القصاصات، بسبب العديد من تفاصيل حياة العملاء. ولتجنّب تلك التّعقيدات وتناقضات هؤلاء، على الاستشاريّين عدم الاستماع إلى الحقائق وإنّما إلى ذلك الصّمغ )اللاّصق( الذي يربط تلك الحقائق فيما بينها، باعتباره التيمة أو السّر الذي يجعل الحياة ككلّ واحد.
يمكن التّعرّف على تيمة المسار في الأفعال والأحداث التي قد تبدو عشوائية ويتم شرحها من خلال الحبكة المهنيّة بعدّة طرق. في هذا الصّدد، تقترح نظريّة البناء الوظيفيّ أن يستمع الاستشاريّ إلى جوهر القصاصات المهنيّة والشّخصية للعميل، ويمكنهم القيام بهذه المهمة بافتراض أنّ التّيمة النّموذجيّة- المثاليّة لبناء المسار الوظيفي تتجلّى في تحويل الانشغالات الشّخصيّة إلى وظيفة أو عمل. وتتكوّن تيمة الحياة من المشكلة أو المشاكل التي يرغب العميل في حلّها قبل أيّ شيء إضافة إلى الوسائل التي يمكن أن تحقّق له الحلّ. وتشير المشكلة في مجال الشّغل إلى المخاوف والشّعور بالقلق والانشغالات بينما يتمثّل الحلّ في الحصول على الوظيفة.
في إطار مقابلة بناء المسار الوظيفيّ، يتمثّل النّشاط الأساسيّ في صياغة الانشغالات ومناقشة الحلول الممكنة على شكل وظائف قادرة على إطالة أمد الحبكة المهنية إلى المشهد التالي. وغالبا ما ينطوي هذا على مساعدة العميل في بناء اهتماماته، من خلال إظهار كيفيّة استجابة بعض المهن أو الحرف لانشغالاتهم، ومن خلال القيام بذلك يمكن أن تحل مشاكلهم (Savickas, 2013).
3- 4- البناء المشترك co-construction :
بعد إعادة بناء الهويّة السّرديّة حول المسار الوظيفيّ انطلاقا من القصاصات، يقدم الاستشاري للعميل مسوّدة صورة حياته، بما في ذلك الحبكة المهنية وتيمة المسار الوظيفي وقوس الشخصية. ومع الانخراط التّدريجي للعميل ودخوله العاطفيّ في سيرة الحياة، يشجع الاستشاري العميل على مراجعتها. وتستلزم هذه المراجعة إحداث تعديلات وتبديلات وتصحيحات. يحتاج العميل إلى تعديل صورة الحياة لجعلها أكثر ملاءمة للعيش ثمّ تمديدها في المستقبل. هذا العمل الذي سينجزه العميل يعد مهمّا باعتباره سبب طلبه للاستشارة. العمل الذي أنجزه العميل عوض الاستشاري يُمكّن من توقع النتائج الإيجابية (savickas,2015).
يتعاون الاستشاري والعميل لصياغة أفعال لمواجهة الخيارات المتعلقة بالمهام والانتقالات والصدمات. يسعى البناء المشترك لصورة الحياة إلى تحديد موقع التّفكّك الحالي بطريقة توضّح الأولويات، وتعبئ الاتّجاهات المركزيّة، وتزيد من إمكانيّة التّطوّر والتّنمية. يحدث هذا عندما يصل العملاء إلى معاني ومعرفة مختلفة تفتح إمكانيّات جديدة وتعيد إطلاق المبادرات المتوقّفة. يعمل الاستشاري كشاهد يتحقّق من صحّة القصّة الجديدة ويصادق عليها. ومع نوايا أكثر وضوحا، يكون العملاء على استعداد لمواجهة التّحدّيات والاضطرابات في مخططاتهم المهنيّة، وتصوّر المشهد الموالي والبدء في الفعل.
3- 5– الفعل action :
رغم أنّ كتابة السّيناريو تحرز تقدما للعميل، فإن الإجراء الضّروريّ هو تحويل النّوايا إلى سلوك مشبع بالمعنى. لهذا، يقوم العميل والاستشاريّ معا بصياغة أجندة عمل من شأنها نقل العميل من الوضع الذي تم اختياره سابقا إلى الوضع المطلوب حاليا، فمن خلال العمل، وليس التعبيرات اللفظية عن الحسم، يتفاعل العملاء مع العالم. وهذا الفعل هو الذي يمكن من تطوير بناء الذات وتشكيل الهوية وبناء المسار المهني (Savickas, 2013).
خلاصة القول، تنطوي مقابلة بناء المسار الوظيفي على جعل العملاء يبنون حياتهم المهنية من خلال التعبير عن سيرهم الحياتية، وتفكيك القصص المحبطة عن طريق زعزعة استقرار معانيها، ثمّ إعادة بناء صورة الحياة من خلال تطوير سرد الهوية، وإعادة بناء الحلقة الموالية في الحبكة المهنية عن طريق تحويل التوتر إلى نوايا، وباتّخاذ إجراءات من أجل خلق حياة أكثر رضى. هكذا، فالتّسلسل كالتّالي: التّعبير-زعزعة الاستقرار- الإعداد- التّحول- الفعل.
4- مقابلة بناء المسار الوظيفي وعلاقتها بتعزيز التفكير (réflexion) والتبصر (réflexivité):
من منظور نظريّة بناء المسار الوظيفيّ، فإنّ التّفكير يعني التّداول في الخبرات السّابقة والظّروف الحاليّة. وفي إطار (ECC)، يُ حفّز المستشارون على هذا التفكير الجادّ من خلال إجراء هذه المقابلة المنظمة. تفكير العميل في ذاته، وقصصه وسيناريوهاته تنتج معارف عملية (concrètes) تحته على الفحص الذاتي بناء على الانتقال الذي يشهده مساره الوظيفيّ. ومن خلال الحصّة الثّانية للمقابلة، يشجّع المستشارون التّبصّر لدى العميل ويحثّونه على اتّخاذ مزيد من الإجراءات.
رغم ارتباطه بالتّفكير، يختلف التبصر عن هذا الأخير. فالعملاء يوظّفون التّفكير للتعرف على أنفسهم، لكنهم يستخدمون التّبصر لتغيير أنفسهم بشكل أو بآخر (Hibbert, coupland, & Macintosh, 2010).
بالنسبة إلى Rennie، ينطوي التّفكير على الوعي بالذّات، في حين ينطوي التّبصّر بالإضافة إلى الوعي بالذات على الفعل على هذا الوعي. فالتّبصّر يعزّز الوعي الذّاتيّ المُفضي إلى القصد. إنّه يؤدّي إلى اتّخاذ قرارات مستنيرة والتّصرّف بمعنى شخصيّ (Rennie, 2004).
يسمح نشاط صنع المعنى هذا، للأفراد بتغيير أنفسهم وسلوكهم. هكذا فبالنسبة إلى مقابلة بناء المسار الوظيفي، فإنّ التفكير ينطوي على المراقبة الذّاتية للعميل، في حين أن التبصُّر اللاحق يستلزم التغيير الذّاتي بناء على هذا التفكير (Savickas, 2016). باختصار، يهدف تَصَوُّر مقابلة بناء المسار الوظيفي للتبصر على أنها فحص دقيق للقضايا الحالية التي تُنتج منظورا جديدا إلى توجيه خيارات الحياة.
أما عن فعاليّة التّبصر، فيشير إلى شعور العميل بالقدرة على الفعل (pouvoir d’agir)، إذ يشجّع التّبصر على تنظيم وترتيب السّيرة من خلال إعادة تأطير الاضطرابات على أنّها انتقالات وتحوّلات، ومن خلال خلق ارتباط بالمستقبل باعتباره تجلي لاستمراريّات الماضي (Savickas, 2016)، ويمكن للعملاء اكتساب أفكار ومعلومات قائمة على معرفة موجودة بطريقة تمنحها معنى جديدا، كما يمكنهم إعادة ترتيب ما يعرفونه مسبقا. إسقاط هذا الابتكار السّرديّ في المستقبل يوضح القرارات كما يعزّز الانخراط في تخطيط المسار الوظيفي.
وإذا كانت النظرية والتطبيق هما الركيزتان الأوليان اللّتان ان يدعمان (ECC)، فإن الثّالثة تتمثّل في البحث الأكاديميّ حول الفعاليّة وسيرورة التّدخّل، وعلى هذا المستوى، تمّ بناء مجموعة من الدّراسات الأمبريقية حول ثلاث أسئلة أساسيّة تحاول أجوبتها الكشف وتحديد آليّات التّغيير لدى العميل وأيضا لتطوير الممارسات التي تجعل من هذه السّيرورات مستدامة وقابلة للاستمرار. وتتمثل الأسئلة في:
- ما الذي تغير خلال التّدخّلات؟
- ماهي العناصر التي تحدّد هذه التّغيّرات؟
- كيف يُشجّع التبصر ويُطوّر؟
على ضوء دراسات كل من (Gideon Maree, 2016) و (Vilhjalmsdottir & Tulinius, 2016) و(Hartung & Vess, 2016) و خلاصة أعمال Savickas (2009 ;2013 ;2015)يمكن استخلاص بعض الإجابات عن التساؤلات السالفة:
4- 1- ما الذي تغير خلال التدخّلات؟
يتجلى التغير الأساسي الذي يحدث خلال التدخّلات، في أن المستفيدين يبدؤون في التّعبير عن مختلف عناصر حياتهم ) التّجارب، الأحداث، الوضعيّات …(، وربطها فيما بينها بمنحها دلالة أكثر عمومية. هذه العناصر المترابطة تأتي غالبا من مختلف مجالات الحياة، كما عيشت في مختلف فترات حياة الفرد. هذه الروابط كانت تستند على إنتاج “خط زمني” يعطي معنى لمختلف عناصر الحياة المعلنة. وباستعمال الاستعارة التي استقاها Savickas من علم السّيرة (narratologie) يمكن القول أنّ كل العملاء قد خَلقوا خلال هذه التّدخّلات على الأقلّ بشكل جزئيّ “قوس الشّخصيّة” يستند إلى ى عناصر الحياة المنتقاة.
من ناحية أخرى، تصف الدّراسات نفس السّيرورة: يتأسّس بناء المعنى على بناء نوع من السّيرة الذّاتيّة أو على الأقلّ جزء منها. يبني المستفيدون هذه السّيرة حول حياتهم الخاصّة على أساس ترابطات قاموا بها خلال التّدخّلات بين مختلف التّجارب أو الأحداث التي طبعت حياتهم، وغالبا بين أحداث ماضية أو تجارب سالفة وتجارب أخرى حالية أو أقل بُعدا حسب الزمن، كما لو أن الترابطات أو التّجمعات(regroupements) بين “أنا” الماضي )كنت أقوم ب…، كنت أشعر ب ..، كنت أعيش هذه الحالة….( أدّت إلى بناء منظور زمنيّ شخصيّ ذي دلالة، وبين “أنا” مستقبلي مُنْتظر يعطي معنى مشتركا لكل هذه “الأنا” الماضية.
أمّا النّتيجة الأساسيّة الثّانية التي سجّلتها الدّراسات السّابقة )سواء عندما ينتج العميل قوس شخصيّة جزئي أو عندما يرسم أنا مستقبلي في الإنجاز الذي ينخرط فيه( فتتمثل في كون العملاء يصبحون أكثر حركية وحماس خلال التّدخل، حيث يشعرون بضرورة اتخاذ قرارات جديدة بشأن حياتهم، ممّا يساهم في الرّفع من مستوى فعاليّتهم الذّاتية (autodétermination).
4- 2- ما هي العناصر التي تحدّد هذه التّغيّرات؟
تتجلّى أهمّ العناصر التي حدّدت هذه التّغيرات في التّحدّث إلى المستشار عن عناصر من الحياة يعتبرها المستفيدون مهمّة وذات دلالة. فأثناء السّرد يستعيد العملاء تلك المشاعر من خلال إعادة إحياء الحدث أو التّجربة.
فمن خلال سرد عناصر الحياة هذه، يشعر المستفيدون بالمشاعر التي دفعتهم إلى إعادة إحياء الحدث أو التّجربة التي يعيدون سردها، وتعود تلك المشاعر بينما يروي المستفيد تلك القصص. لذا، فإنّ الشّعور المعيش أثناء السرد هو ما يقود المستشار، أوّلاً، إلى اعتبار عنصر مّا من عناصر الحياة مهمًّا، وثانيًا، لوضعه في استمراريّة زمنيّة: ” لقد عشت ذلك في تلك اللّحظة وأشعر بها الآن عندما أقولها”. استمرارية الأحاسيس هي الأساس الذي يحدّد استمرارية الحياة، فالأحاسيس هي قطب الرّحى في تطوير الهويّة.
كما يبدو أنّ أقدم عناصر الحياة هي التي تحدّد المشاعر الأكثر حدّة: تلك التي تلعب دورا رئيسا في بناء الخط الزمني الذي يعطي الناس من خلاله معنى لحياتهم )أو على الأقلّ جزء من حياتهم(. في بعض الحالات تكون المشاعر القديمة مؤلمة وتشير إلى مشاعر العار أو الشّكّ في القدرات الخاصّة بالعميل. في هذه الحالات فإن بناء الشخص لخطه الزمني الدال يكون مدعوما بسؤال أساسي )حيث الفرد لم يكن دائما على دراية كاملة به(: كيف أُحوّل هذه الأحاسيس السلبية إلى أخرى إيجابية؟
4- 3- كيف يتمّ تشجيع التبصر وتطويره؟
يبدو أن التفاعلات الحوارية خلال التدخلات هي العامل الأساس الذي عزّز التبصّر وأدى إلى التغيّرات المشار إليها سابقا. يمكن وصف التفاعلات الحوارية من ناحية، من وجهة نظر المميزات الخاصة بوضعية الارشاد الحواري، ومن ناحية أخرى من وجهة نظر السيرورات المعرفية المعززة في مثل هذه الحالة. هذه الوضعية التفاعلية تحفز على خلق وإنتاج، في ذهن العميل، دلالات تعطي معنى للتجارب التي يتم استحضارها أثناء المقابلات. كما يلعب المستشارون دورا نشطا للغاية في تطوير تبصر العميل من خلال تطبيق مجموعة من تقنيات المقابلات غير الموجّهة أو شبه الموجّهة لتحفيز العملاء على التّعبير عن أقوالهم وتأويلها ومقارنة مختلف تفسيراتهم لهذه الأقوال. هذه الأساليب تتضمن أسئلة عامة، التأمل والتّفكير في كلام العملاء او صدى أصواتهم، طلب التوضيح وإعادة الصّياغة، أسئلة محددة….
5- ملاحظات عامة على هامش تجريب مقابلة المسار الوظيفي ضمن الممارسة التوجيهية بالمغرب:
تجلت المواكبة التخصصية للتوجيه في مقابلة لبناء المسار الوظيفي من حصتين مستقلتين، خصصتا لتلميذان يدرسان بالسنة ثانية بكالوريا شعبة اللوجيستيك )بكالوريا مهنية(، باعتبار حالة الازدواجية الهوياتية التي تطبع دراستهما بالبكالوريا المهنية )يعتبران تلميذان بالمؤسسة التعليمية ومتدربان بمؤسسة التكوين المهني(. وتمثل الهدف العام من التدخلين، بعد الاستماع لغرض العميلين من طلب المقابلة، في غموض التصور المستقبلي بالدراسة والاختيارات المستقبلية. نستعرض فيما يلي بعض الملاحظات الأولية لدراسة هاتين الحالتين والتي لها أثر على الأهداف المرجوة من هذا التدخل.
تمثّلت الملاحظة الأولى في غياب ذلك الانخراط في التّفكير للمتعلّمين (engagement dans la réflexion)، العميلين لم يكونا راضيين بداية عن المقابلة حيث كانا يبحثان عن استشارة لتوجيه أكاديمي معين بحكم أنهما يرغبان في التعرف على الآفاق ومناقشتها، إذ أبْدَيَا مقاومة ودفاعية لشعورهما بأنهما مضطرّان للإجابة عن أسئلة المقابلة، فزاد ذلك من المشاعر السّلبيّة التي يشعران بها حيال وضعهما. لتجنّب ذلك تعين على المستشار بناء علاقة تفاعلية مع كل عميل ليشرح من خلالها أنه يتعين على هذا الأخير القيام بمعظم أعمال التحليل والتفكير. فمناقشة أهداف مقابلة بناء الحياة وأدوارها مسبقا، تلعب دورا رئيسا في تطوير تحالف العمل (alliance de travail).
صعوبة إيجاد الترابطات بين مختلف القصاصات التي سردها العميلين، يحتاج قوة في التّحليل ومعرفة متمكّنة من حقول معرفية متعددة تمكنه من الحصول على نظرة شموليّة حول مسار الحالة. لكنّ التّجربة المهنيّة المتراكمة قد تساعده على تأويل المسار الحياتيّ للعميل. من جهة أخرى قد تكون القصاصات ذات دلالة وقد تكون بعيدة عن ذلك، وبالتّالي قد يتم السّقوط في ما يسميه Bourdieu بالوهم البيوغرافي (Bourdieu, 1986).
جانب آخر ينبغي الانتباه إليه أثناء مقابلة بناء المسار الوظيفي هو ضرورة إدارتها بعناية خلال الجلسة الثانية، لتجنب إيقاظ أحداث غابرة قد لا يرغب العميل في استحضارها، فانحدار أحد العميلين من وسط هشّ ومعاناته من التّفكّك الأسريّ وما ترتّب عنه من مشكلات نفسيّة واجتماعيّة، كان عائقا في الانفتاح على تاريخه الشّخصيّ الذي يتحكّم في تمثّلاته وسلوكاته الحاضرة.
كما من أوجه قصور هذا النّمط من التّدخلات محدوديّة اللّقاءات التي لا تتعدّى ثلاث جلسات على الأكثر، والتي تظل غير كافية نسبيا لتحقيق الأهداف العامة للمواكبة.
6- ماذا عن سبل إرسائه ضمن أنشطة وممارسات المواكبة التخصصية في مجال التوجيه بالمغرب؟
يميزGuichard (2013)، انطلاقا من تصنيف قام بإعداده، بين ثلاث مستويات من التّدخّل في مجال التّوجيه التّربويّ. في المستوى الأوّل، نجد التدخل الإعلامي يليه تدخّل التّوجيه، ثمّ المستوى الثّالث والأخير التّدخّل الحواريّ.
يهدف التّدخّل المعلوماتيّ إلى جعل الفرد قادرا على تجميع معلومات ذات دلالة ومصداقيّة حول سوق التّكوينات وسوق الشّغل. أما تدخّل التّوجيه فيركّز على الرّفع من قابلية تشغيل العميل، بتيسير تكوين مفهوم الذّات المهنيّة المُكَيفة (adaptable)، أما التّدخّل الحواريّ، فتهدف بالإضافة إلى تعزيز القابلية للتّشغيل، إلى مساعدة الأفراد على بناء معانيهم الشّخصيّة الأصيلة بتيسيرها في بناء حياتهم وهويّاتهم المهنيّة الشخصيّة (Guichard J. , 2013).
في المغرب، يرتكز مجال التّوجيه المدرسيّ حاليا على المقاربة التّربويّة وعلى المشروع الشّخصيّ للمتعلّم كوسيلة تجعله فاعلا محوريّا في بناء توجيهه وفق خطّة ممتدّة في الزّمن تبدأ عبر مرحلة الاستئناس بالمستوى الابتدائيّ، ثم مرحلة الاستكشاف بالمستوى الإعداديّ، ثم مرحلة البلورة بالمستوى الثّانويّ ليتمّ تنفيذه بالتّعليم العاليّ، ليستفيد من مواكبة متعدّدة المداخل والمتدخّلين، إدارية موكلة للإدارة التربوية، وتربوية مسندة للأستاذ الرئيس ثم تخصُّصيّة من اختصاص الإطار في التّوجيه المدرسين. من الناحية العملية، فإن إطار التوجيه العامل بالقطاع المدرسي يوفر للتلاميذ في إطار المواكبة التخصُّصية، خدمات إعلامية وإخبارية تتعلق بطبيعة الشّعب والمسالك الدراسية بالمرحلة الثّانوية والجامعية. كما يجري مقابلات فردية مع المتعلمين تفعيلا لخدمتي الاستشارة والمواكبة، وهي المقابلات التي تتمّ بطلب من المستفيدين وبالتالي تبقى رهينة وعيهم ونضجهم واهتمامهم.
لكن واقعيا، واستنادا على تقارير هيئات رسمية (CSEFRS, 2014 ;cour des comptes,2021….)، ما زالت المنظومة لم تتجاوز بعد المستوى الأول للتّصنيف ، بحيث أن أغلب التدخلات هي بالأساس إعلامية مرحلية، مع حضور نسبي للمستوى الثاني، أي على مستوى المواكبة على التوجيه. أما التدخل الحواري فيظل غائبا على الأقل على مستوى التوجيه المدرسي.
وأمام مظاهر الهشاشة التي أضحت تميز المدرسة المغربية )هشاشة اجتماعية، فشل دراسي، عنف، ضعف الانخراط في العمليات التعليمية، مشاعر التيه والإحباط والاغتراب ….( غدت مسألة التجديد على مستوى نماذج ومقاربات التوجيه أمرا مطروحا، وذلك من أجل تمكين المتعلمين من مجابهة تلك الإكراهات ومسايرة التغيرات التي يعرفها المجتمع، فأضحت على أدوار المواكبة التخصصية إعادة الاعتبار لذات المتعلم والاعتراف بها وتغيير تمثلاتها حول نفسها وتاريخها، فإذا كانت الذات عاجزة على تغيير ماضيها، فإن هذا لا يمنع من تعديل وتوجيه مستقبلها (De gaulejac, 2008)، وهذا ما يعمل عليه نموذج بناء الحياة كآخر مُنتج في التّوجيه مبني على أسس علمية واضحة المعالم (بوديس، 2021).
من جهة أخرى يواجه تصميم الحياة، مثله مثل أي نوع من البراديغمات الحديثة النشأة، العديد من التحديات الناتجة في الغالب عن الإطار النظري المعقد، التي تتطلب من الممارسين مزيدا من التعلم والتدريب عليها، خصوصا أنها تستوجب الإلمام بمفاهيم ترتبط بحقل علم الاجتماع، وامتلاك خبرة وحنكة سوسيولوجية )دقة الملاحظة السوسيولوجية وخيال سوسيولوجي واسع( تمكن من تأويل الأمور والأشياء التي لا يريد العميل الإفصاح عليها سواء بقصد أو بغير قصد، إضافة إلى معرفة مرتبطة بحقلي السيكولوجيا والسيميولوجيا.
ومن ثم فإرساؤها ضمن المنظومة التّوجيهية المغربية تقتضي العمل على إيجاد بيئة تمكينية حاضنة لنموذج بناء الحياة ويعد ذلك شرطا ضروريا لتحويله من مجرد مستوى منطوق ومدلول خطاب إلى مستوى الواقع الموضوعي. ولعل مما قد يساعد على توفير تلك البنى والمناخات التّمكينية ولو ضمن حدود الضروري والممكن والمتاح ما يمكن أن نجمله هنا وبشكل مختصر، فيما يلي:
- تجديد التكوين الأساس والمستمر للأطر المختصة بالمواكبة التخصصية، بما يضمن إدماج وتطوير الممارسات الميدانية الحديثة )الممارسات التبصرية( في حقل التوجيه باعتباره خدمة اجتماعية ونفسية وتربوية متكاملة، وتجاوز تلك التي تتميز بالظرفية والانتقائية التي ترتكز على المعلومة لا غير.
- الانكباب على الأبحاث التدخلية في مجال التوجيه وخصوصا منها ذات الطابع البنائي، تعنى بإرساء هذا النوع من النماذج المقتبسة والمنقولة في البيئة المغربية، بل وحتى محاولة تكييفها مع خصوصيات منظومة التّوجيه المدرسي والإكراهات التي تعاني منها، باعتبارها مدخلا هاما لفهم وتفسير علاقة المتعلم بالمؤسسة المدرسية والمجتمع على وجه العموم.
- السعي إلى إرساء الثقافة المهنية لدى المتعلمين عبر مختلف الآليات التربوية )مناهج، أنشطة الحياة المدرسية، المواكبة التربوية…(، تمكّنهم من الوعي بالذّات وإمكاناتها ضمن الإكراهات الاجتماعية والاقتصاديّة المتواجدة، وتتيح لهم بالتّالي بناء مشاريع دراسيّة ومهنيّة وحياتيّة ذات معنى بالنسبة إليهم.
- تعزيز تنمية ثقافة الحوار والاستشارة النّفسية والاجتماعيّة داخل المؤسسات التّعليميّة بما من شأنها جعل المتعلمين يطلبون المشورة عند الحاجة والحصول على الدعم النفسي المناسب.
7- على سبيل الختم:
أمام التطور الذي تعرفه المجتمعات المعاصرة، أضحت المقاربات البنائية مفضلة على المقاربات التربوية السائدة حاليا أو المقاربات التشخيصية- الإلزامية التي انتشرت خلال النصف الأول من القرن 20، باعتبارها تعيد للفرد مكانته في المجتمع كفاعل اجتماعي (Touraine, 1992)، وكمخطط استراتيجي (Crozier & Friedberg, 1977) بعد أن كان مجرد وحدة ستاتيكية وبنية ثابتة.
لقد حاولنا من خلال هذا المقال تقريب هذا النموذج من مجال المواكبة التخصُّصية للتوجيه الذي قد يتيح مفاتيح جديدة لمواجهة التحديات المطروحة أمام المشهد التّربوي والاقتصادي المغربي في علاقة بمسألة التّوجيه المدرسي. كما شكّلت محاولة لإعطائه هوية لسانيّة عربية لاسيما أن الكتابات بهذه اللغة لا زالت قليلة على هذا المستوى.
بيبليوغرافيا:
- Bourdieu, P. (1986). L’illusion biographique. Actes de recherche en sciences sociales. Actes de la recherche en sciences sociales. 62-72.
- Cohen-scali, V., & Pouyaud, J. (2019). A career education approch based on groupe dialogues to help adolescents and emerging adult in their self-construction. (Elsevier, Éd.) Handbook of innovative career counseling.
- Cohen-scalli, V., Guichard, J., & Pouyaud, J. (2020). Les méthodes de Life Design pour la construction de soi et l’orientation professionnelle des adultes émergeants. (Antipodes, Éd.) Repères sur l’orientation, 19-48.
- Comptes, c. d. (2021). le rapport annuel de la cour des comptes au titre des années 2019 et 2020.
- Crozier, M., & Friedberg, E. (1977). L’acteur et le système. Seuil.
- (2014). Mise en œuvre de la charte d’éducation et de la formation 2000-2013: acquis, déficits et défis .
- De Coppet, c. (2019, Mars). Comment mieux orienter les élèves? sciences hi=umaines(312), pp. 24-29.
- De Gaulejac, V. (2008). Pour une clinique de l’historicité. Intervenir par le récit de vie, 313-319.
- Dumouilla, A., & Lamri, J. (2022). Digitaliser l’orientation professionnelle: les défis de l’accompagnement au 210siècle. Dunod.
- Gideon Maree, J. (2016). How career construction counseling promotes refléxion and refléxivity: Two case studies. journal of vocational behavior, 22-30.
- Guichard, J. (2013). Une comparaison des apports des modèles de la construction de la carrière et de la construction de soi au life designing couseling. Psychologie française, 15-29.
- Guichard, J. (2016). Une comparaison des apports des modèles de la construction de la carrière et la construction de soi au life designing counseling. (Elsevier, Éd.) psychologie française, 15-29.
- Guichard, J. (2018). Life design interventions and the issue of work. interventions in career design and education: Transformation for sustainable development and decent work, 15-28.
- Guichard, J., & Huteau, M. (2001). Psychologie de l’orientation. Paris: Dunod.
- Guichard, J., & Huteau, M. (2005). L’orientation scolaire et professionnelle. Paris: Dunod.
- Guichard, j., Bangali, M., Cohen-scali, V., Pouyaud, J., & Robinet, M. (2017). Concevoir et orienter sa vie: les dialogues de conseil en life design. Paris: Qui plus Est.
- Hartung, P., & Vess, L. (2016). Critical moments in career construction counseling. Journal of vocational behavior, 31-39.
- Hibbert, P., coupland, C., & Macintosh, R. (2010). Reflexibility: recursion and relationality in organizational research processes. Qalitative research in organizations and management: An international journal, 47-62.
- Huteau, M. (1997). Système représentationnel des jeunes et information sur les métiers. Comment parler aujourd’hui des métiers aux jeunes.
- Huteau, M. (1999). L’évolution du role et des méthodes des conseillers d’orientation des année 1920 à aujourd’hui. Revue questions d’orientation, 13-24.
- Rennie, D. (2004). Reflexivity and person-centered counseling. Journal of Humanistic counseling, 4, 182-203.
- Savickas, M. (2005). The theory and practice of career construction. career development and counseling: putting theory and research to work, 42-70.
- Savickas, M. (2009). Life designingM a paradigm for career construction in the 21 st century. journal of vocational behavior, 239-250.
- Savickas, M. (2010). Construire sa vie (life design): un paradigme pour l’orientation au 21 siècle. L’orientation scolaire et professionnelle, 5-39.
- Savickas, M. (2013). Career construction theory and practice. Career development and couseling: putting theory and research to work, 147-183.
- Savickas, M. (2015). Career counseling paradigms: guiding, developing, and designing. APA handbook of career interventio, 129-143.
- Savickas, M. (2016). Reflexion and reflexivity during life-design intervention: comments on career construction counseling. Journal of vocational behavior, 84-89.
- Touraine, A. (1992). Critique de la modernité. Paris: Livre de poche.
- Vilhjalmsdottir, G., & Tulinius, T. (2016). The career construction interview and literary analysis. Journal of vocational behavior, 40-50.
- بوديس, م. (2021). الاستشارة في التوجيه بين الحاجة الاجتماعية والإطار المؤسسي. خلاصة تجربة وتلمس آفاق. مكناس: رحيق برينت.