ملخّص:
تتناول هذه الورقة البحثيّة نقد التّيّار/التّوجّه الدّيكولونياليّ للسّوسيولوجيا الأورومركزيّة كما أرساها “والتر مينيولو”، وسنرصد الاستتباعات الإبستيمولوجيّة لهذا النّقد على منهجيّة العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، ويتبيّن أنّ هذا النّقد يفرض تصوّرا جديدا للعلاقة بين المجتمعات المحلّيّة ذات الطّابع الهويّاتيّ التّقليديّ وبين الهويّات الأخرى المختلفة عنه، بالشّكل الّذي يتعارض مع النّمط الأوروبيّ في التّعامل مع الثّقافة القديمة خاصّة الّتي تحمل طابعا دينيّا. وهي علاقة يتضمّنها موقف فلسفيّ طريف ونقديّ على نحو جذري، بلوره “والتر مينيولو” في الخمس وعشرين سنة الماضية. يقرّ هذا الموقف بالأهمّيّة القصوى لإعادة فهم الحداثة انطلاقا من أركيولوجيا خاصّة بالعالم غير الأوروبيّ ويقدّم رواية أخرى وسردا تاريخيّا آخر للعلاقة بين المستعمَر والمستعمِر في مرحلتي الاستعمار وما بعده. وتحاول هذه الورقة البحثيّة، أيضا، رصد بعض الصّعوبات المنهجيّة الهيكليّة الّتي تحول دون تدارك العلوم الاجتماعيّة الغربيّة للأزمة الثّقافيّة الّتي تواجهها، وهو الأمر الّذي يتجلّى في إخفاقها في التّعامل على نحو سديد مع الهويّات المحلّيّة التّقليديّة أي مع ثنائيّة التّقليديّ والحديث.
الكلمات المفاتيح: الخيار الدّيكولونياليّ، الهجنة الثّقافيّة، اللّغة السّوسيولوجيّة، السّياسة الهوويّة، التّسلسل الهرميّ الاجتماعيّ والتّسلسل الهرميّ السّياسيّ.
Abstract:
This paper addresses the decolonial current/orientation’s criticism of Eurocentric sociology established by Walter Mignolo and it draws out epistemological implications of this criticism for the methodology of social and human sciences. I argue that this criticism paves the way for a new conception of the relationship between communities of traditional identity and other identities that are different from it, in a way that runs counter to the European pattern of dealing with the ancient culture of religious character. It is a relationship in which a paradoxical philosophical attitude is radically critical, developed by Walter Mignolo in the past 20 years. This position recognizes the importance of re-understanding modernity from a non-European and specific archaeology that provides another narrative and another historical account of the ex-colonizer and ex- colonizer relationship in the colonial and post-colonial phases. This paper will deal with some structural methodological difficulties preventing Western social sciences from redressing the cultural crisis they face, which is reflected in their failure to appropriately deal with the traditional local identities, i.e., with traditional / the modern.
Keywords: decolonial option, cultural hybrid, sociological language, identity, politic, social hierarchy and political hierarch.
1- مقدّمة:
لقد ساهم النقد في الفلسفة القارّيّةcontinental في إثارة السّؤال المتعلّق بالمنهجيّة في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة في بلورة رؤى جديدة في النّظريّة الاجتماعيّة، إلّا أنّ مساهمة النّقد الفلسفيّ العالمثالثيّ تبقى صغيرة الحجم والتّأثير في إحراج النّظريّات السّوسيولوجيّة الغربيّة، إلى حدود ظهور الكتابات النّقديّة الدّيكولونياليّة الّتي أثارت أسئلة محرجة في علاقة بالسّلطة الكولونياليّة وامتداداتها داخل حقول العلوم الإنسانيّة. وقد ساهم هذا النّقد بدوره في تقديم طرح خاصّ لمشكل الهّويّة وقضيّتها وأيضا في بلورة الملامح الأولى للنّظريّة الاجتماعيّة العالمثالثيّة -إن صحّ القول-، فإذا كانت الدّراسات الدّيكولونياليّة تعتمد، منهجيّا، وعلى وجه العموم، نموذجا ذا منظور تحرّريّ من السّلطة الكولونياليّة الّتي ترتكز على الطّابع الأورومركزيّ للمعرفة كما دشّنه إدوارد سعيد ومن بعده في النّظريّة ما بعد الكولونياليّة. فكيف يمكن عندئذٍ أن نفرد موضعا للأرضيّة الإبستيمولوجيّة (ونقصد هنا إبستيمولوجيا العلوم الإنسانيّة) الّتي تقوم عليها النّظريّة السّوسيولوجيّة في الخيار الدّيكولونياليّ؟
نتناول في هذه الورقة البحثيّة النّقد الّذي وجّهته الكتابات النّازعة للاستعمار decolonial studies، وسنرصد الاستتباعات الإبستيمولوجيّة له على منهجيّة العلوم الإجتماعيّة، وسنبيّن أنّه هو الّذي يسمح بتعقّل مفاهيم، مثل: الهجنة الثّقافيّة والجرح الكولونياليّ .Colonial wound سنتعرّض في مرحلة أولى إلى مشكل الهويّة في سياق الكتابات ما بعد الكولونياليّة والدّيكولونياليّة من أجل توضيح الإضافة النّقديّة للكتابات الدّيكولونياليّة في هذا الحقل وتوضيح الأرضيّة الإبستيمولوجيّة للنّظريّة الاجتماعيّة في الخيار الدّيكولونياليّ على المستوى الميكروسوسيولوجيّ، ثمّ سنتنقّل في مرحلة ثانية إلى تناول النّظريّة الاجتماعيّة للخيار الدّيكولونياليّ Decolonial option المرتبطة ارتباطا منهجيّا بشكل هويّة الفرد داخل المجتمع والّتي يراها التّوّجه الدّيكولونياليّ صالحة للإنسان من خلال نقد النّظريّات السّوسيولوجيّة الأورومركزيّة، حيث يهيّئ هذا النّقد -على المستوى الماكروسوسيولوجيّ- الأرضيّة الإبستيمولوجيّة الّتي ستظهر من خلالها الملامح العامّة للمجتمع في العالم الثّالث.
وسنحاول في مرحلة أخيرة التّطرّق إلى الصّعوبات الّتي يمرّ بها علم الاجتماع على مستوى اللّغة والّتي تظهر بشكل جليّ في التّناول النّضاليّ لخطاب علم الاجتماع مع الهويّات الثّقافيّة المقصية الّتي لها علاقة بالثّقافة التّقليديّة ما قبل حديثة.
2- الإطار النّظريّ:
يعتبر الفيلسوف الألمانيّ إيمانيول كانط لحظة فارقة في فلسفة الأخلاق، فقد صارت العلاقة منذ ذلك الحين بين مفاهيم الخير والعدل والسّعادة مرتبكة وغير مستقرّة على قول واحد، خاصّة بعد أن دخلت المدارس الفلسفيّة المعاصرة في مغامرة البحث والمعالجة للمسائل الأخلاقيّة خارج المجال الميتافيزيقيّ وبعيدا عن سؤال الماهية (لم يعد البحث متعلّقا بماهية السّعادة أو ماهية الخير أو ماهية العدل…) بل معالجة هذه المسائل داخل حدود النّسق. وقد صارت فكرة النّسق هي مساحة الحقيقيّة التي يُدار حولها النّقاش الفلسفيّ للقضايا الأخلاقيّة.
يدور النّقاش في فلسفة الأخلاق المعاصرة في الغرب حول العلاقة بين العدل والخير (على اعتبار أنّ العدل هو الّذي يرتّب فهمنا لمسألة الأخلاق). و هو نقاش حول أفضليّة الخيِّر على العادل أم العادل على الخيِّر. هذا ما أفرز ظهور مدرستين في الفلسفة الأخلاقيّة؛ المدرسة الأولى هي مدرسة الكانطيّة الجديدة وهي المدرسة الّتي نشّطت الإرث الكانطيّ وردّت كلّ المشاكل الأخلاقيّة إلى محور واحد وهو نظريّة العدل. أمّا المدرسة الثّانية وفهي المدرسة الأرسطيّة الجديدةNeo-Aresthotism ، وأهمّ تيّار داخل هذه المدرسة هو تيّار الجماعويّة Communautarism وأشهر روّاده هو الفيلسوف الكنديّ تشارلز تايلور، وهذا التّيّار لا يهتمّ بوجود تصوّر مجرّد عن ما هو عادل لأنّه حسب رأيهم يتجذّر دائما داخل سياق ثقافيّ جاهز بالنّسبة إلى الفرد وتوفّره الجماعة الّتي ينتمي إليها، ففي الأخير تقدّم الهويّة على مفهوم ما هو عادل.
إنّ فرادة النّقاش الّذي دشّنه تيّار الجماعويّة وخاصّة كتابات تشارلز تليلور دفعت كثيرا من التّوجّهات الفكريّة العالمثالثيّة إلى امتلاك صلاحيّة النّطق Enonciation والتّعبير عن صورة العالم بالنّسبة إلى موقعهم داخله، والّتي حرمتهم إيّاها التّصوّرات الحداثيّة الّتي تقصي مفهوم الخير الجماعويّ من النّقاش وتسلبه الأحقّيّة والجدارة (مساحة الحقيقة لم تكن متاحة Accessible للآخرين الّذين يحملون تصوّرا مغايرا لما هو عادلٌ مُصاغٌ داخل سياق ثقافيّ غير أوروبيّ)، وهو ما يدفعنا إلى القول بأنّ نقاش النّزعات أو الكتابات ما بعد الكولونياليّة والدّيكولونياليّة[1] هي امتداد للإطار الأخلاقيّ الّذي بلورته الكتابات الجماعويّة في علاقة بمشكل الهويّة والحداثة، ولكن إذا كان النّقاش الدّيكولونياليّ والمابعد كولونياليّ يدفع نحو إزاحة التّصوّرات الأورومركزيّة في النّقاش حول مسألة الهويّة فمن أيّ زاوية يمكننا أن نقول بأنّ التّناول الدّيكولونياليّ لقضيّة الهويّة هو امتداد للإطار النّظريّ الّذي دشّنه الجماعويّون؟ وما هي الإضافة الّتي قدّمها هذا التّوجّه في قضيّة الهويّة؟
ترتكز الأرضيّة الإبستيمولوجيّة للفلسفة الأخلاقيّة العمليّة الّتي وضع أسسها تشارلز تايلور في كتابه “منابع الذّات”[2] وقبلها في كتاب “أوراق فلسفيّة”[3] بالأساس على مفهوميْ “قوّة التّقييمات Strong evaluations ” الّتي تفعلها الأنا (مثلا: تضع قيمة الصّدق فوق قيمة المعرفة أو المستوى الثّقافيّ أو العكس) ومفهوم الفاعليّةAgency ، وهما يخلقان معا الإطار الأخلاقيّ الّذي يستمدّ من خلاله الأنا هويّته ويحدّد ذاته وويعرّفها، فهذه الفلسفة تقطع مع التّصوّر الوضعيّ للعلوم و تبني تصوّرا عمليّا لمفهوم الهويّة يتمّ بناؤه داخل فاعليّة الأنا مع مقتضيات الحياة العاديّة.
أعاد هذا التّصوّر الجديد للفلسفة الأخلاقيّة العمليّة للأنا مشروعيّة بلورة القيم الأخلاقيّة على نحوٍ يفتح النّقاش الفلسفيّ إلى ما لا نهاية. وهو ما يتيح (من النّاحية المنهجيّة) للمجتمعات (أو الذّوات) غير الأوروبيّة والّتي تحمل دوافع أخرى لتقديم قيم على قيم (حسب سياقاتها التّاريخيّة والحضاريّة والثّقافيّة) الّتي تكوّن، من خلال هذا التّقديم/التّقييم، مشروعيّة النّطق للإفصاح عن رؤيتها الخاصّة للعالم (فهي ترى بأنّ العالم الحديث، مثلا، هو عالم مبنيّ على ميتروبول اقتصاديّ وحضاريّ يبني خططه الإستراتيجيّة على الطّراز الّذي تكون فيه باقي الشّعوب الّتي تقع خارج الميتروبول شعوبا تابعة) والدّفاع عنها حسب تقييماتها الخاصّة النّابعة من خصوصّية تجربة ثقافتها مع الحداثة.
تمكّن مشروعيّة النّطق (في ذات الوقت وخاصّة من النّاحية النّظريّة) هذه الرؤى من امتلاك -كما يقول “رامون غروسفوغل”- جينالوجيا خاصّة يُعاد من خلالها تعريف الحداثة من داخل رؤيتها الخاصّة للعالم، فهو يقول: “فمند البداية كان للحداثة أبعاد متعدّدة، وهنا بيت القصيد، أمّا متى بدأ مشروع الحداثة؟ فالجواب يكون مختلفا باختلاف تموقع السّؤال. ومن خلاله يتمّ رسم جينالوجيا متعدّدة لأصل الحداثة. فلو أنّك مثلا، بصدد الحديث مع فرنسيّ أو مع من مرجعيّته عن الحداثة فرنسيّة فأكيد أنّه سيُرجع أصلها إلى سنة 1789 أي إلى الثّورة الفرنسيّة على النّظام القديم. ولو تحدّثت مع بريطانيّ فسيُخبرك أنّها بدأت مع ثورة 1648 غداة صلح وستفالياPeace of Westphalia ، وجميع هذه السّرديّات تعتبر سرديّات لتجميل الحداثة “[4].
من خلال هذه الزّاوية التّحليليّة والنّقديّة يتّضح لنا الطّريق الّذي فتحه لنا هذان التّوجّهان -المابعد كولونياليّ والدّيكولونياليّ- لنقد الأطر الأخلاقيّة الحديثة الّتي طوّقت النّقاش حول قضايا الهويّة وتحديد الذّات في العالم غير الأوروبيّ، حيث يُعتبر هذا النّقد بالنّسبة إلى التّوجّه الدّيكولونياليّ أحد أهمّ وسائل تفكيك الهيمنة الكولونياليّة ومناهضتها في المرحلة ما بعد الاستعماريّة، و علينا أن نكتشف الإضافة الّتي قدّمها هذان التّيّاران وخاصّة تيّار الدّيكولونياليّة في اهتمامه بقضيّة الهويّة و ما سينجرّ عنه من إضافة معرفيّة على مستوى النّظريّة الاجتماعيّة؟ وسنحاول فهم ذلك بتوضيح الاستتباعات الإبستيمولوجيّة للنّقد الدّيكولونياليّ لمنهجيّة العلوم الاجتماعيّة على المستوى الميكروسوسيولوجيّ.
3- الهويّة في المنظور ما بعد الكولونياليّ:
قبل الشّروع في نقاش مشكل الهويّة من منظور ما بعد كولونياليّ، يجدر بنا أن نعرّف مفهوم الهويّة. الهويّة، أمرٌ في غاية من التّعقيد، لأنّ هويّة الشّيء هي ما يُقال له هو أو الموجود بما هو موجود وهو ما يعني بأنّ الهويّة )لغةً (هي “صفة مشبّهة تدلّ على الثّبوت”[5]، وهي تدلّ على “حقيقة الشّيء أو الشّخص المطلقةُ المشتملةُ على صفاته الجوهريّة”[6].
بدأت فلسفة الهويّة في الظّهور مع الفيلسوف الألمانيّ شيلينغ من خلال القول بالماهيّة الأصليّة للطّبيعة وللرّوح للمثاليّ الواقعيّ[7]، ومن هذا المنظور تجدر الإشارة إلى الانزياح الّذي أشار إليه أستاذ الفلسفة في الجامعة التّونسيّة فتحي المسكيني في كتابه “الهويّة والزّمان: نحو الإجابة عن سؤال من “نحن فينومولوجيّا”، بأنّ الهويّة Identité تشير إلى “النّظم الأنثربولوجيّة والثّقافيّة، فعلينا أن ننتبه إلى الفرق بين “هويّة” أنطولوجيّة في الفلسفة العربيّة الكلاسيكيّة وبين هويّة أنثربولوجيّة وثقافيّة في نظام الخطاب السّوسيولوجيّ”[8] فالهويّة الأنثربولوجيّة هي الّتي يقوم عليها مجال بحثنا. الهويّة الأنثربولوجيّة هي هويّة سرديّة وتستمدّ وجودها واستمرارها في الزّمان من خلال هذا السّرد. إنّ قصد الأستاذ فتحي المسكيني من كتابه هو رفع النّقاش الأنثربولوجيّ عن “هويّة” الإنسان إلى مستوى المساءلة الفينومولوجيّة لمعنى “الهويّة”، لكنّ هذا النّوع مهمّ لتمييز المفهوم القديم الّذي صاحب الفارابيّ وابن رشد والدّالّ على معنى الوجود وبين الهويّة بمعناها الأنثربولوجيّ الثّقافيّ أي الهويّة كإطار تستمدّ من خلالها الذّات مصادر النّفس الملائمة لتحديد نفسها وتشكيل سرديّة تاريخيّة معيّنة تحدّد بدورها شكل الانتماء إلى هذا الإطار. هذا الفرق أيضا نجده في كتاب “الذّات عينها كآخر” للفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور حيث ميّز بين الهويّة Ipséité، وهي ما صرنا نسميه بـ”الإنّيّة” في الفلسفة العربيّة المعاصرة، وبين الهويّة Identité[9] وهي الهويّة الّتي تتعلّق بالإطار الثّقافيّ الّذي يستمدّ منه الإنسان انتماءه للجماعة أو لمجتمع ما.
يعتبر المفكّر الهندي “هومي بهابها” من أكثر الكُتّاب ما بعد الكولونياليّين اشتغالا على موضوع الهويّة كمشكل ثقافيّ وسياسيّ وذلك في كتابه “موقع الثّقافة”، حيث اهتمّ في هذا الكتاب بالنّقاش حول مشكل بناء الهويّة في المرحلة ما بعد الاستعماريّة، فهو لم يتعرّض لهذا المشكل من فراغ بل كان شاهد عيان على تحوّلات الهويّة و أساليب بناء الهويّات المتعلّقة وعلاقتها بالإثنيات وأشكالها في الهند خاصّة في ارتباطها بمستويات تأثير الثّقافة البريطانيّة الّتي اقتحمت المجتمع الهنديّ في المرحلة الاستعماريّة، فمن خلال طرحه لمشكل الهويّة الثّقافيّة ما بعد الكولونياليّة يُموقع/يُموضع “هومي بهابها” سؤال الثّقافة في عالم ما بعد استعماريّ.
هناك إقرار معلن من “بهابها” بأنّ الإطار النّظريّ الّذي تقدّمه الكتابات ما بعد الحداثيّة (بالرّغم من تأثّر مدرسة ما بعد الكولونياليّة بالدّراسات ما بعد البنيويّة و مدرسة الحوليّات L’école des annales في علم التّاريخ) هو إطار ذو أفقِ ضيّق لأنّ النّقاش الفلسفيّ حول مصير الإنسانيّة في المرحلة ما بعد الاستعماريّة -والّذي يصاحب الكتابات ما بعد الحداثيّة- لم يخرج من الأرضيّة الأوروبيّة، ولعلّ هذا الإقرار والتّأكيد يمثّل أحد الدّوافع الّتي جعلت مدرسة ما بعد الكولونياليّة تهيّئ الأرضيّة لعصيان إبستيمولوجيّ قامت به مدرسة الخيار الدّيكولونياليّ فيما بعد.
لا يلتزم التّفلسف في منظور تيّار ما بعد الحداثة -من موقع ما بعد كولونياليّ- بالحدود الإبستيمولوجيّة للحداثة بقدر ما يلتزم بـ”نظام النّطق/التلفّظ Enonciation” الخاصّة بالغرب كنمط للكينونة. إنّ قصور تيّار ما بعد الحداثة مرتبط أساسا بعدم قدرته على تمثيل المنطوقات الخارجة والمتمرّدة عن الكوسموس[10] الحاليّ للعالم.
ينطلق فهم مشكل الهويّة في السّياق ما بعد استعماريّ من خلال فهمنا للعنصريّة الكولونياليّة تجاه أنواع مختلفة من الجنس البشريّ، وهذه العنصريّة قائمة على أساس عرقيّ “فالعرق يرتبط ارتباطا وثيق الصّلة بشكل خاصّ بصعود الكولونياليّة نظرا لأنّ تقسيم المجتمع البشريّ بهذا الشّكل لا ينفصم عن حاجة القوى الكولونياليّة لفرض هيمنتها على المستعمَرين، ومن ثمّ تبرير المشروع الإمبرياليّ”[11]، فهذا السّياق من النّقاش لا يتعرّض لمشكل الهويّة من خلال عدم تأقلمها مع مناويل عيش جديدة ومتطلّبات الحياة الحديثة بقدر ما يتعرّض إليها من خلال مشكل الهيمنة الاستعماريّة للأعراق الأوروبيّة/ الكولونياليّة على الأعراق غير الأوروبيّة بادّعاءها التّفوّق الطّبيعيّ الحضاريّ على باقي الأعراق، وهذا ما يفسّر لنا حاجة القّوّة الكولونياليّة الملحّة إلى ترتيب الأنواع البشريّة في شكل هرميّ[12] ، ومن ثمّ اقتران “العرق[13] “بالأمّة “ولأشكال مختلفة من التّشكيلات الاجتماعيّة مثل “الأقارب”، “السّلالة”، “الوطن” “والأسرة””[14].
يفسّر لنا “آنيا لومبا” كيفيّة تشكّل البناءات العرقيّة داخل سياقات تاريخيّة معيّنة جنبا إلى جنب مع هيئات اجتماعيّة، ويؤكّد على أنّ العرق يتمّ تصوّره اجتماعيّا وليس حقائق بيولوجيّة. كما يوضّح “آنيا” شكلا آخر من تمثيل الصّراع العرقيّ يتجلّى في ترجمة إيديولوجيا التّفوّق العرقيّ إلى مفاهيم طبقيّة من أجل ضمان الهدف المادّيّ للإنتاج بالنّسبة إلى بعض المستعمرِين، وهذا الشّكل من التّمثيل يتقاطع مع وجهة النّظر الماركسيّة الكلاسيكيّة “القائلة إنّ الرّأسماليّة سوف تقضي في النّهاية على النّظم الاقتصاديّة السّابقة لها”[15]، كما أنّ هذا التّواشج أو الاشتباك بين مفهوم العرق والطّبقة وعلاقتهما بفكرة الصّراع كشف عنه ميشل فوكو في سلسلة محاضراته “يجب الدّفاع عن المجتمع Il Faut Défendre La Société” حيث أزال الغموض عن جذور الصّراع الطّبقيّ في خطابات أنجلز و كارل ماركس الّتي ترجع إلى الصّراع بين الأعراق، فالطّبقة الاجتماعيّة لها ارتباط تاريخيّ بمجموعة من الأعراق المُقصاة: الّتي تمّ إقصاؤها من السّلطة وهذا البعد التّاريخيّ هو الّذي تستمدّ من خلاله الطّبقة إيديولجيّة الصّراع من أجل الاعتراف.
ركّزت الأركيولوجيّة المابعد كولونياليّة أكثر على قوّة الأعراق في الدّفاع عن نفسها أمام اِدّعاء الأعراق المستعمِرة التّفوّق الطّبيعيّ بالاعتماد على نظريّات متعدّدة كنظريّة النّقاء الاجتماعيّ وعلم نفس الإثنيّات[16]، وقدرة هذه الأعراق المهيمن عليها على تشكيل إمكانات أخرى للنّطق والّتي قد تعتبرها نظريّات علم الاجتماع الحديث و ما بعد الحديث مجرّد خطابات خارجة عن التّاريخ (وطبعا التّاريخ الكبير وهو التّاريخ كما نظّر له العقل الأوروبيّ)، والحكم على شخصيّة الإنسان المستعمَر بالجنون (بالمعنى الاجتماعيّ والسّياسيّ الّذي أشار إليه فوكو في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ”[17]) بعد التّفكّك الثّقافيّ الّذي حصل في الفترة الاستعماريّة والّذي كان سببه انهيار جزء كبير من البنى التّقليديّة، كما يقول آنيا لومبا[18]: “وخلخلة نفس المستعمَر وتشوهّها. لم يقدر المستعمَر على مجاراة ما يحصل، ذلك لأنّ الاستعمار نَخَرَ جوهر وجوده وجوهر ذاتيّته”[19].
تصبّ جلّ كتابات فرانز فانون نحو جملة التّصدّعات النّفسيّة الّتي يشعر بها الصّفوة من السّكّان المحلّيّين أو الأشخاص المستعمَرين الّذين فُرض عليهم النّشاط داخل النّظام الاستعماريّ، وهذه الكتابات كان لها طابع مستفزّ في تفكير “هومي بهابها” في ما يتعلّق بالنّقاش حول الفضاء البينيّ الّذي يُحدث هذه الفرجات والتّصدّعات الّتي يرى فيها “هومي بهابها” مساحة ممكنة لإدخال “الابتكار المبدع إلى الوجود”[20] . هذا الفضاء البينيّ يسمّيه “هومي بهابها” بالفضاء الثّالث وهو “فضاء ثالث للنّطق”، ووجود هذا الفضاء هو الشّرط المسبق للإفصاح عن الاختلافات الثّقافيّة وتمكين الثّقافات من التّعبير عن نفسها بنفسها خارج نطاق الهيمنة ما بعد الاستعماريّة (وقد كان هذا هو الهدف الرّئيسيّ من المنهج الفوكويّ المتمثّل في التّناوب بين الأركيولوجيا والجيولوجيا)، ويجب أن يكون هذا الفضاء غير قابل للتّمثيل النّهائيّ، ويراكم استيعاب المتناقضات ويخلق تلك الحالة من عدم الاستقرار الخفيّ الّتي تنذر بالتّغيّرات.
قبل أن نناقش بأكثر عمق مشكل الهويّة في سياق النّظريّة ما بعد الكولونياليّة، يجدر بنا أن نقدّم للقارئ لمحة عن إنتاجيّة القوّة الكولونياليّة الّتي تخلق بدورها نوعا من التّشظّي في الذّات المستعمَرة، وهذا لا يتمّ إلّا من خلال فهم سياسة الحقيقة الكولونياليّة عبر إعادة بناء نظامها وعلى “المشروع النّظريّ، إذْ يتكلّم باِسم سلطة مضادّةٍ ما أو باِسم أفق ما لـ”الحقيقة” (بالمعنى الّذي يسبغه فوكو على المفاعيل الإستراتيجيّة لأيّ جهاز أو Dispositif)، عليه أن يمثّل السّلطة المقابلة أو الخصم (سلطة القوّة و/أو المعرفة) الّذي يسعى -في حركة منقوشةٍ على نحوٍ مزدوج- إلى هدمها واستبدالها في آنٍ معا”[21]، فالذّات الكولونياليّة موجودة في الفضاء الاستعماريّ من خلال ازدواجيّة دائمة الحضور تعمل كإستراتيجيّة مزدوجة: وهي الحضور تارة على أساس سلطويّ ويفرض تكرار ذاته في الآخر المستعمَر وتارةً بشكل ناعم من خلال ترويجه لفكرة القبول بـ”الفرق الكولونياليّ”[22]، فالأوّل يكون واضحاً ولا يستحقّ كثير التّفسير والثّاني يمثّل الجانب الخفيّ للإستراتيجيّة الكولونياليّة من خلال صناعة الهويّات أي صناعة الآخر الّذي يتمّ تخيّله داخل حدود المعرفة الكولونياليّة. تقدّم الذّات الكولونياليّة نفسها دائما على أنّها الآخر الأكبر L’autre grand وهو مصطلح للفيلسوف الفرنسيّ “جاك لاكان”، وهو ما يعني أنّ هذه الذّات تسعى للعب دور شخصيّة الأب الّتي تكسبها هويّتها من خلال نظرته إليها، ولـ”أنّه يوفّر الشّروط الّتي تكتسب من خلالها الذّات المستعمَرة إحساسا بهويّتها كآخر تابع وثانيّ”[23].
تضرب غاياتري سبيفيك ثلاثة أمثلة على صناعة الذّات[24] تبيّن فيها كيفيّة تشكّل عمليّة صناعة الآخر بصورة علائقيّة، والسّبل الّتي يشكّل من خلالها الخطاب الإمبرياليّ الآخرين لكي يؤكّد واقعيّة سيطرته في مخيّلة المستعمَرين بالاِعتماد على العلم الّذي يحطّ من قيمة ذلك الآخر (والأنثربولوجيا الحديثة وعلم النّفس التّحليليّ وعلم النّفس الإثنيّ كما أشرنا سابقا) وخلق هويّة ثابتة ثقافيّا وبيولوجيّا، فهذا النّوع من الاختزاليّة الّذي يتّكئ على النّزعة العنصريّة للعلم هو ما تستمدّ من خلاله الذّات الكولونياليّة مشروعيّة منح هويّة ثابتة جوهرانيّة عن الآخر المستعمَر من أجل غرض أساسيّ قامت عليه إستراتيجيّة صناعة الآخر، وهو تشكيل لجملة من الخطابات الإمبرياليّة لتأكيد واقعيّة سيطرة الذّات الكولونياليّة في مخيّلة المستعمَرين.
وعلى هذا الأساس قامت الدّراسات ما بعد الكولونياليّة لمناهضة إستراتيجيّة صناعة الآخر ودحض مسلّماتها الّتي تتخفّى وراء الخطاب الإمبرياليّ. لنعد الآن إلى طرافة النّقاش حول “الفضاء الثّالث” الخاصّ بالنّطق متعدّد الثّقافات لـ”هومي بهابها” وحدوده، حيث يرى أنّ “الفضاء الثّالث للنّطق” هو “الشّرط المسبق للإفصاح عن الاختلاف الثّقافيّ من أجل أن يفتح الطّريق أمام إقامة المفاهيم الخاصّة بثقافة عالميّة International (وتشديد هومي بهابها على inter لإبراز الخلاليّة البينيّة )، ويتمّ خلق هذا الفضاء أو بناءه عبر التّرجمة، والّتي هي نوع من تحويل المعاني إلى الثّقافات الأخرى عن طريق أساليب متعدّدة من النّطق حتّى تصبح مقروءة من الجميع، هذه التّرجمة تخضع إلى نوع من التّفاوض الّذي يتناقض مع فكرة النّفي[25]. وهذا التّفاوض غير مبنيّ على نوع من الدّيالكتيكا أو التّناقض الأعراضيّ لكنّه فضاء غير متعيّن، ويرى “هومي بهابها” أنّ عدم التّعيّن هذا هو الّذي يضمن وجود الثّقافات واختلافاتها، فالاختلاف الثّقافيّ “هو ذلك الأساس المشترك والمنطقة الضّائعة في الجدالات النّقديّة المعاصرة فهي تدرك جميعا أنّ مشكلة التّفاعل الثّقافيّ لا تظهر إلّا عند الحدود الدّالّة للثّقافات، حيث (تُساء) قراءة المعاني والقيم وتُستعمل الدّواليل لغير الغرض المخصّصة لها.”[26]
هذا الوعي بالحدود هو الّذي يجرّد كلّ ثقافة من أيّ سلطة تحاول السّيطرة بها على ثقافة أخرى -باِسم أيّ تفوّق ثقافيّ قد تدّعيه- في لحظة التّباين من المحادثة، ويجرّد أيضا كلّ إمكانيّة لأيّ ثقافة ما من أن تمارس سلطة التّمثيل على الثّقافات الأخرى. فبنيتا المعنى والمرجع (لأيّ ثقافة) هما سيرورتان متجاذبتان تجعلان من سيرورة هذا التّدخّل التّفاوضيّ يتحدّى كلّ إحساس مريح بالهويّة التّاريخيّة بوصفها قوّة تُدخل التّجانس والوحدة (تقويض لفكرة الزّمن المتسلسل المتجانس الّذي يمثّل الزّمن السّرديّ للأمّة والّذي تحدّث عنه بندركت أندرسون في كتابه “الجماعات المتخيّلة”)، فالنّطق أو فعل النّطق -مكان التّلفّظ- يخترقه الاختلاف في الكتابة وبالتّالي كلّ ثقافة ليست موحّدة أو أحاديّة في حدّ ذاتها لأنّ سيرورة النّطق فيها تستوعب تدخّل اللّغات وأنظمة النّطق الأخرى ممّا يجعل كلّ ثقافة قابلة لفكرة الاختلاف في جوهرها.
هذا الفضاء الثّالث الخاصّ بالنّطق هو الّذي يمثّل الأرضيّة الملائمة الّتي تستقرّ فيها الهجنة Hybridity كمكان أو جدار مريح، ويرى “بهابها” أنّ هذا الجدار يمثّل مساحةً إيتيقيّة سليمة لتجريد كلّ الثّقافات من السّلطة، وهذه الهجنة نراها جيّدا في سيرورة التّعيين النّفسيّ للهويّة والّتي هي سيرورة متجاذبة. يرى “بهابها” أنّ “إستراتيجيّة التّجاذب في بنية تعيين الهويّة الّذي يحدُث على وجه التّحديد في الما بين المحذوف، حيث يقع ظلّ الآخر على الذّات”[27]. إنّ إستراتيجيّة التّجاذب هي المساحة التي يمكن من خلالها تحرير هيمنة السّلطة الثّقافيّة الكولوناليّة، “فباِتّباع مسار الرّغبة الكولونياليّة، برفقة الصّورة الكولونياليّة الغربيّة، أو الظلّ المشدود، يمكن أن نَعبُرَ الحدود المانويّة، بل أن نغيّرها ونزيحها “[28].
يناقش “آنيا لومبا” حدود تصوّر “بهابها” للمستعمَر كشخصيّة متجانسة، فهو لا يرى شخصيّة المستعمَر متجانسة خارجيّا بحكم أنّ الفضاء كما يقول: “كان لا يزال مقسّما إلى “مجالهم” و”مجالنا” واستعان بالتّفريق الّذي قدّمته “إيلا شوهات” بين أشكال التّهجين المتنوّعة “مثل الذّوبان الإجباريّ، ورفض الذّات الجواني، والاختيار السياسيّ، والامتثاليّة الاجتماعيّة، والتّقليد الثّقافيّ، والتّجاوز الإبداعيّ”[29]، وذلك لتوضيح أشكال التّهجين الّتي قد تكون سلبيّة من موقع ما بعد كولونياليّ. يكشف “لومبا” في كتابه عن حدود الإطار النّظريّ الّذي يفسّر به “هومي بهابها” الهجنة و وهو “براديغم” اللّغة الّذي يفسّر به تحوّلات الخطاب الكولونياليّ من خلال اللّغة ومنظومات النّطق أو كما تقول “بينيتا باري” في نقد مفصّل لعمل “بهابها”: “إنّ ما يقدّمه لنا هو العالم حسب الكلمة”[30]، كما أشار أيضا “ماكولاي” إلى نقطة مهمة في إستراتيجيّة التّهجين الثّقافيّ، وهو اعتماد بعض الدّول الأوروبيّة على التّهجين في برامج التّعليم لجعل الخطاب الإمبرياليّ مستساغا ويُؤتي أكله حينما تكون له القابليّة للاختراق داخل منظومات تعليم المستعمَر.[31]
يصبح هذا التّهجين، إذن، كما يراه “آنيا لومبا” ومن يشاركه في نقد “هومي بهابها” نوعا معدّلا من التّقليد Mimicry داخل “سياسات استيعابيّة تكراريّة من خلال تقنيع أو “تبييض” الاختلافات الثّقافية”[32]، ويؤكّد “بهابها” ومؤيّدوه بأنّ الطّبيعة الهجينة لثقافة ما بعد الكولونياليّة تقدّم نموذجا للمقاومة عبر الممارسات التّقويضيّة المضادّة للخطاب الكولونياليّ/ الإمبرياليّ وترى أنّ الطّبيعة الازدواجيّة للثّقافة المتكوّنة من المزج بين ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر هي الّتي تضمن بناء أرضيّة متماسكة وصلبة لمناهضة الكولونياليّة.
إذا كانت هذه هي الأرضيّة الّتي يقف عليها تيّار ما بعد الكولونياليّة في تناوله لمشكل الهويّة الثّقافيّة كموقع لمقاومة الهيمنة الكولونياليّة، فما هي، إذن، الأرضيّة الّتي يقدّمها التّوجّه الدّيكولونياليّ لبناء هويّة مقاومة الكولونياليّة الجديدة؟ وما هي شروط بناء هذه الهويّة؟
4- الهويّة من منظور ديكولونياليّ:
يُعتبر الخيار الدّيكولونياليّ خيارا ثالثا مُتجاوزا للعديد من الثّنائيّات كالشّيوعيّة والرّأسماليّة، ويتجاوز أيضا التّقابل بين الأصوليّة الّتي ترى أنّ المنتج الغربيّ لا يلزم إلّا الغرب ولا يمكن احتواؤه وإعادة إنتاجه وفق انتظارات المجتمعات ما بعد الاستعماريّة (كما فعلت إلزا باتيستا مع مفهوم الدّيمقراطيّة)، وبين القومويّة الّتي يراها رامون غروسفوغل بأنّها تقوم بنوع من “الاستعمار الدّاخليّ”[33] في المرحلة مابعد الاستعمارية باسم التّحديث والتّقدّميّة على حساب الثّقافات والهويّات ما قبل الاستعماريّة. هذا النّوع من التّجاوز يخلق مشكلا حول نوعيّة الهويّة المطروحة في الخيار الدّيكولونياليّ أو حول التّصوّر الدّيكولونياليّ للهويّة، فما هو هذا الطّرح الجديد الّذي يقطع مع الهويّات المنغلقة ومع الهويّات الّتي يخلقها إطار الدّولة-الأمّة الحديثة/ الاستعماريّة في نفس الوقت؟
يرى “بادي” أنّ النّماذج السّياسيّة الغربيّة تنتشر وتتعولَم بسبب الاستيراد الدّائم للدّول ما بعد الاستعماريّة ولغايات تمليها منافع الطّبقة الحاكمة وتحرّكها، “فمن أجل أن يحافظ الحاكم على سلطته بطريقة أفضل، يحاول تكييفها مع المعطيات الجديدة، أي مع هدف تحديثيّ يأمل في أن يمنحه المزيد من الموارد المادّيّة وموارد الشّرعيّة معا. يشمل عمل الحاكم حينذاك على تقديم الحداثة باعتبارها نمطا حياديّا يتمتّع بالكونيّة، وبالتّالي تتوافق مع كلّ الثّقافات ومزوّدة بشرعيّة تفوق الشّرعيّة المؤسِّسة لجميع الخصوصيّات. وفي هذا يطمح الحاكم إلى فرض فعله السّياسيّ باعتباره أعلى منزلة من فعل المحتجّين على سلطته؛ والّذين يتمّ استبعادهم إلى الأطراف باعتبارهم يُجسّدون تراثا يسهل تصويره بأنّه يقع في مرتبة أدنى”[34]، ومن خلال ضرب من الأركيولوجيا الدّيكولونياليّة يُحاول “بادي” البحث عن النّقطة التّاريخيّة الّتي بدأت من خلالها إستراتيجيّة الاستيراد من الغرب (ويضع تفسيرا يفهم من خلاله مشكل التّهجين الثّقافيّ الّذي يكون مأتاه/يتأتّى من الإفراط في الاستيراد والاستيراد الانتقائيّ في نفس الوقت)، من خلال المجال العسكريّ الّذي كان انتقائيّا في جوهره مع الفترات الّتي يقترن فيها الضّعف العسكريّ تجاه الغرب مع تدهور أوضاع السّيطرة السّلطانيّة داخل الإمبراطوريّة الإسلاميّة، وقد حافظت في الوقت ذاته على شرعيّة تقليديّة متجدّدة[35].
سيؤثّر هذا المنطق من الاستيراد مباشرة على الهويّات المحلّيّة، فمن خلال رؤية ماكروسيسيولوجيّة، يرى “بادي” أنّ التّحويرات الّتي أُحدثت على التّشكيلات الاجتماعيّة ما قبل الاستعماريّة (قبائل، عشائر، انتماء للأمّة الدّينيّة) خلال عمليّة استيراد لـ”مبدأ الأقلمة” الخاصّ بنظريّة الدّولة-الأمّة الغربيّة هي الّتي أحدثت أشكالا من الهويّات غير المتجانسة والرّافضة لهذا الشّكل الجديد من “أقلمة الأرض”، فهو يقول: “إنّ بناء الدّولة-القوميّة في مرحلة ما بعد الاستعمار هو الّذي قلب أوضاع التّوازنات التّقليديّة بعمق، وعمل على ترسيخ الإجراءات المتعلّقة بالحدود ومأسستها كما رسمها المستعمِر فيما مضى”[36]، وقدّم مثالا على ذلك قبائل “الطّوارق” الّتي أصبحت بعد هذا التّقسيم متوزّعة بين خمس دول (مالي، النّيجر، بوركينا فاسو، ليبيا، الجزائر)، مع إلزام عائلات “الطّوارق” الحصول على تصريحات للتّنقّل فالأقلمة تفرض إجراءات حدوديّة رقابيّة.
فهذه الثّقافات الجماعاتيّة تعطي معنى للإقليم ممتزج مع فكرة الأجداد والإحساس العميق بالفخر تجاههم كمالكين أصليّين/ تاريخيّين (ومن ثمّ اعتبار هذه الجماعات هي الوريثة لهؤلاء الأجداد) للأرض وهو يختلف جوهريّا عن مدلولها الغربيّ، وهذا العنصر المتعلّق بالخيال التّاريخيّ لهذه الجماعات هو ما يعطيها دعامة روحيّة تدفع نحو مزيد من التّعبئة الاحتجاجيّة ضدّ النّظام السّياسيّ المستورد، سواء كانت هذه الجماعات دينيّة تتمثّل فكرة الأمّة الإسلاميّة الّتي تعتمد على نموذج إسلاميّ للإقليم والقسمة بين دار إسلام ودار حرب[37]، أو جماعات ذات طابع قبليّ كقبائل “الطّوارق” دون اعتبار التّكيّف الهشّ للدّول ما بعد استعماريّة مع إطار الدّولة-القوميّة، لأنّ الإقليم ينشأ في بعده الجيوسياسيّ كنتيجة للسّياسات الدّبلوماسيّة والعسكريّة للدّول، لكنّ التّقسيم الإقليميّ للأرض في المرحلة ما بعد الاستعماريّة لم يكن تلبيةً لهذه الحاجيات بل كان نوعا من التّطبيع الكولونياليّ مع سياسة التّقسيم الاستعماريّة وعدم إدخال أيّة تحويرات أو تعديلات عليها.
الدّولة الإقليميّة على رأي الزّعيم الإسلاميّ السّودانيّ الصّادق مهدي هي “ضربة حظّ استغلّتها النّخب المُغَرَّبة لتندفع نحو السّلطة ولتخلق لنفسها جماعة سياسيّة موالية لها”، ويضيف “بادي”: “من المؤكّد أنّ إعلاء الإطار الإقليميّ مُجز للغاية لهذا النّمط من النّخب: فهو يساعد على إقامة نموذج الدّولة الّذي تعلّمته ويتلاءم، إذن، مع مهارتها المكتسبة، ومن ثمّ فهو يحمي النّخبة السّياسيّة بفضل تثمين ما تملكه من معرفة وهو يمنح، أخيرا، العاهل وسائل إضافيّة لاكتساب الشّرعيّة لدى شعبه حين يقدّم نفسه بوصفه الضّامن لسلامة أراضي الوطن أو كفاتح لأراض جديدة”[38]، طُرح مع نموذج الدّولة الحديثة مشكل القانون الحديث إذ كانت النّخب السّياسيّة ترى أنّ القانون قادر على أن يكون حلّا لشرخ الهويّات، و يمكّن من تقليص التّعبئة الاجتماعيّة للجماعات الّتي همّشها التّقسيم الإقليميّ الكولونياليّ من خلال إيجاد إطار قانونيّ جامع لكنّ المشكل يكمن في أنّ هذا الإطار خلق مشكلة المشروعيّة باعتبار أنّها أصبحت محصورة في النّخبة المغرّبة والّتي لا تسعى إلّا لتمثيل مصالحها المرتبطة بالنّموذج والتّصوّر الغربيّين للقانون في مقابل مصالح الجماعات المحلّيّة، فحتّى الجهود الّتي بُذلت لبناء مجتمعات مدنيّة (الّتي من المفروض أنّها تُحدث نوعا من التّوازن في مقابل مركزيّة مؤسّسات الدّولة في علاقة بسلطة القرار السّياسيّ) أفضت في النّهاية إلى الفشل وذلك راجع بدرجة أولى لترسيخها لهيمنة النّموذج الغربيّ للنّظام السّياسيّ لأنّ البناء التّاريخيّ لمفهوم المجتمع المدنيّ قائم على ثلاثة مبادئ، وهي: تمييز الفضاءات الاجتماعيّة بالنّسبة إلى المجال السّياسيّ، وفردنة العلاقات الّتي تجعل انتماء المواطنة قيمة ذاتيّة داخل المجتمع، والمبدأ الثّالث هو أفقيّة العلاقات داخل المجتمع والّتي تعطي أولويّة للمنطق التّشاركيّ على العلاقات والوشائج التّرابطيّة الجماعاتيّة، وهذه المبادئ الثّلاثة الّتي تمثّل الدّيناميكيّة الفعليّة لمنظّمات المجتمع المدنيّ أدّت كما يراها “بادي” إلى “تهميش الانتماءات الخصوصيّة لصالح الانتماء إلى الدّولة القوميّة”[39]، ففكرة المجتمع المدنيّ هي نتاج مسار تطوّريّ لفكرة الدّولة في السّياق الغربيّ ويصعب إسقاطها بنفس الشّكل والمضمون على واقع المجتمعات ما بعد استعماريّة.
نستنتج من كلام “بارتران بادي” أنّ عمليّات الاستيراد هذه خلقت نوعا من التّهجين (في معناه السّلبيّ)، والّذي يعني عدم تأقلم الهويّات الجماعاتيّة الأهليّة مع نمط التّقسيم الإقليميّ الغربيّ الّذي جلب معه نظاما قانونيّا ومجتمعا مدنيّا غربيّين وحتّى الأحزاب السّياسيّة على الطّراز الغربيّ (لكي تكتمل الغربنة صلب النّظام السّياسيّ في الدّول ما بعد الاستعماريّة). وهذا الإفراط في الاستيراد هو الّذي أفضى إلى منطق التّهجين الّذي كان له دور حاسم في خلق تصدّعات في الهويّة الثّقافيّة للجماعات الأهليّة والّتي أطلق عليها الخطاب الكولونياليّ حكما مسبقا بأنّها دونيّة ولا يمكنها أن تساهم في بناء مجتمع متطوّر/ متقدّم.
إنّ ما قدّمه “باتران بادي” من تحليل سوسيو-تاريخيّ يدفعنا إلى التّفكير أكثر في مشكل التّهجين أو الهجنة الّتي لعبت دورا قويّا في تثبيت الهيمنة الكولونياليّة على شاكلتين: تارة حينما تكون هذه الهجنة ذات طابع أورومركزي وتعتمد أكثر على خطابات الحداثة/ الاستعماريّة الّتي تمنح بدورها مشروعيّة النّطق/ التّلفّظ للذّات الكولونياليّة، وتارة تكون ذات بعد محلّيّ عابر لإطار الدّولة-القوميّة (قبائل مثلا) أو ذات بعد عالميّ كالنّموذج الإسلاميّ للأمّة. وهنا نتحدّث عن أشكال الهجنة المتناقضة مع التّقسيم الإقليميّ والنّظام القانونيّ الّذين ينظّمان الأفراد داخل المجتمع الواحد، ويخلق هذا الشّكل من التّهجين بدوره ثقافة مقاومة لكنّها مقاومة لا تتزحزح عن منطق الخطابات المضادّة للسّلطة الكولونياليّة لأنّ إستراتيجيّة الرّغبة الكولونياليّة تتمثّل في أداء “دراما الهويّة” عند الموضع الّذي يزلّ فيه الإنسان لكسب مشروعيّة إلقاء اللّوم على هشاشة الأرضيّة الّتي يقف عليها هذا الإنسان المستعمَر، فتثبّط ولو بشكل نسبيّ مسعاه الوجوديّ في مقاومة الثّقافة الكولونياليّة )بالرّغم من مشروعيّة الخطابات المضادّة المنخرطة في الكفاح السّياسيّ ضدّ الهيمنة الكولونياليّة(. و لهذا الهدف بالذّات تمحورت اهتمامات الخيار الدّيكولونياليّ في وضع الأرضيّة الملائمة لسياسات تعيين الهويّة Identification بعيدا عن التصوّر المانويّ الّذي تخلقه السّلطة الكولونياليّة بشكل مستمرّ ففيم تتمثّل هذه الأرضيّة؟
بيّنّا سابقا أنّ المنظور الدّيكولونياليّ يطرح مشكل الهويّة كخطّ ثالث للخروج من المانويّة الّتي لا ترى العالم إلّا من داخل هويّات مغلقة إمّا أصوليّة أو هويّات مشتقّة من القالب الحداثيّ/ الكولونياليّ، لكن هذا لا يعني أنّ التّيّار الدّيكولونياليّ يقترح “سياسة هويّة” تعيد بناء الهيمنة الثّقافيّة على هويّات المجتمع الأهليّ المحلّيّ، يقول رامون: “يمكن أن تكون الهويّات التّابعة بمثابة نقطة انطلاق إبيستيميّة لنقد جذريّ للباراديغمات وطرق التّفكير الأورومركزيّة “[40]، لكنّ إعادة تمثيل الذّات من خلال هذه الهويّات كـ “الهنديّة” أو “الإفريقيّة الإسلامويّة” أو “الكولومبيّة” وغيرها لن يعيد إلّا إنتاج نفس المانويّة الاستعماريّة الّتي لن تستطيع بناء إطار للنّضال ضدّ الكوسموس الحاليّ الّذي قسّم العالم حسب ترتيب عرقيّ، ولن تتناول الهويّات المنكفئة على ذاتها سوى أهداف الأفراد الّذين ينتمون إلى المجموعة الواحدة ولن تكافح إلّا من أجل المساواة داخل النّظام، وهو ما يجعلها قاصرة على تطوير صراع جذريّ مناهض للكوسموس الأورومركزيّ الّذي يتجسّد حاليا في العولمة و كياناتها. يمكن أن تعمل هذه الهويّات على توحيد شعب ما ضدّ عدو مشترك كما هو الحال بالنّسبة إلى حركات التّحرّر الوطنيّ زمن الاستعمار خاصّة في العالم العربيّ.
لا تهتمّ “سياسات الهوية” إلّا بأهداف مجموعة واحدة وتتطلّب المساواة داخل النّظام بدلا من تطوير صراع جذريّ مناهض للنّظام ضدّ الحضارة النّظاميّة والكوكبيّة المتمحورة حول الغرب. إنّ نظام الاستغلال هو مجال حاسم للتّدخّل ويتطلّب تحالفات أوسع ليس فقط على أسس عرقيّة وجنسانيّة ولكن أيضا على أسس طبقيّة وبين مجموعة متنوّعة من الجماعات المضطهدة حول تجذّر مفهوم المساواة الاجتماعيّة، ولكن بدلا من مفهوم الحداثة الأوروبيّة المركزيّ المحدود والمجرّد والشّكليّ للمساواة ، فإنّ الفكرة هنا هي توسيع مفهوم المساواة ليشمل كلّ علاقة اضطهاد مثل العنصريّة أو الطّبقيّة أو الجنسيّة أو الجنس، هذا ما يقوله رامون غروسفوغل و يوضّحه مينيولو حينما يميّز بين “سياسة الهويّة والسّياسة الهوويّة” (“إنّ سياسة الهويّة هي مختلفة عن السّياسة الهوويّة: الأولى مفتوحة على أيّ كان يرغب في الانضمام، في حين أنّ تميل الثانية إلى أن تكون محصورة بواسطة التّعريف الخاصّ بهويّة معيّنة “[41]) ، لكن ما الّذي يقصد به “مينيولو” بسياسة الهويّة؟
تكمن سياسة الهويّة بالنّسبة إلى “مينيولو” في تحديد الإطار الدّيكولونياليّ للهويّة من خلال فضح إستراتيجيّة الاستعارات والاختلافات الّتي تحدثها السّلطة الكولونياليّة الثّقافيّة والّتي تسعى دائما إلى الظّهور كذات متفوّقة على الآخر فتحطّ من قيمته ومن طرق عيشه و تفكيره في خطابها المعلن في البداية و في خطابها السّرّي في المرحلة ما بعد الاستعماريّة، وحتّى تتجاوز الذّات المستعمَرة هذه التّبعيّة في تحديد الهويّة وتعيينها لابدّ لها من إعادة إنتاج نفسها بعد القيام بعمليّة قتل حضور الرّجل الأبيض في الذّات، ويكون ذلك بفكّ-الارتباط الإبستيميّ بالحداثة الغربيّة وبطرق تعيين الهويّة وبالخروج من مسارات هذا التّعيين والإعلان عن تمرّد وعصيان معرفيّين تعلن فيهما الذّات ما بعد الاستعماريّة أنّها ستنخرط في مسارات أخرى لتعيين الهويّة وقد تشترك مع تجارب تاريخيّة للهويّات المحلّيّة التّابعة، لكن مهمة هذا المسار الجديد هو اصطحاب هذه الهويّات التّابعة نحو أفق آخر لا يتقاطع مع إبيستيميّات الحداثة الغربيّة و مسارات تقدّمها وبناءها لمستقبلها الخاصّ، وهو ما يؤكّده “مينيولو” بشكل مقتضب بقوله: “هذا يستدعي أنّه لكي تكون عمليّة تعيين الهويّة عمليّة ديكولونياليّة، لابدّ لها أن تصاغ عبر “اجتثاث تعيين الهويّة” و”إعادة تعيين الهويّة” و هذا ما نعني به بعمليّة فكّ-الارتباط”[42].
لقد تناول “فانون” في فصل “أشراك الوعي القوميّ” في كتابه “المعذّبون في الأرض” مشكل هيمنة الوعي القوميّ للجهاز الرّسميّ للدّولة على المجتمع الأهليّ في مرحلة بناء الدّولة ما بعد الاستعماريّة، فهو يرى بأنّ ما لم يتمّ بطريقةٍ ما هو تحويلُ الوعي القوميّ في لحظة انتصاره إلى وعي اجتماعيّ فإنّ المستقبل لن يأتي بالتّحرير بل بتجديد العلاقات الإمبرياليّة. يعلّق إدوارد سعيد على كتاب “لباب العاصفة ” لايمي سيزير” ويعتبره رد جميل على شكسببر ومنازعة ودودة على حق تمثيل المنطقة الكاريبية وهذا ما جعله يكتشف أسس لما يسميه بـ” ‘الهوية الاكتمالية’ المغايرة للهوية السابقة التي كانت اتّكالية تابعةٌ ومشتقّة”[43] ويعتبر هذا النوع الفريد من السجال “متخللا جذريا في ثقافة المقاومة”. إن مصطلح “هوية اكتمالية” وهو مغاير لمنطق الهوية التكاملية التي يمكن أن تذهب بالقول بأنها ستُحاول اكمال الجزء المتبقي من العالم والكوسموس (أي صورة الكون في العلم الحديث) مع الغرب كنموذج للكينونة، لأن منطق الهوية التكاملية هو منطق لا يخرج عن نظام العالم كما سطّرته الابستيمية الغربية ولن يكون هذا المنطق التكاملي انفكاكا ابستيمولوجيا مع الكوسموس الغربي، بل سيبني نفسه وستتعيّن هويته داخل الابستيمية الغربية التي لن ترضى به إلا تابعاً لها. هذا لا يعني أن الغرب هو خصم وجودي بالمعنى الذي لا يمكن أن توجد فيه الذات مابعد الاستعمارية إلا بمحو الغرب، لأنّ استعارات العلوم بين الثقافات هو معيار كوني”[44].
أن تستعير الجزء الكونيّ غير المختلط بمركزيّة إثنيّة يعني أن تفكّر في حدود اللّغة والثّقافة الغربيّة، كما أنّ الوعي بالحدود بين كلّ الثّقافات ليس بالأمر السّهل بل هو وعي بالصّمت وبكلّ المساحات الصامتة من أجل كتابة تواريخ أخرى للشّعوب والثّقافات الّتي من خلالها توجد وتتحرّر من كلّ أشكال الهيمنة المخاتلة الّتي تسعى دائما إلى جذب الآخر إلى مساحتها وتكرار ذاتها باختراع مسارات محدّدة من تعيين الهويّة. أن تفكّر بوعي حدوديّ داخل الثّقافات المحلّيّة يعني أيضا أنّك تفكّر في حدود تلك الثّقافة ولغتها وفي المناطق المشتركة الّتي أُلجمت باسم التّحديث والتّفوّق القومويّ، وأن تفكّر في حدود الثّقافة المحلّيّة يعني كما قال ذات مرّة “حميد دبّاشي”: أن ندشّن مرحلة جديدة بانتزاع الإسلام من أيادي الإسلاميّين وانتزاع العروبة من أيادي العروبيّين و اِنتزاع الحداثة من أيادي الحداثيّين و العلمانيّة من أيادي العلمانيّين والمشاركة بصورة جماعيّة وفعّالة في مسعى عالميّ لاستعادة كلّ هذه الممكنات في الثّقافة المحلّيّة، واستئناف هذه الممكنات في مسارات متنوّعة من المحادثات الإبداعيّة والنّقديّة في العالم والمرور بها إلى شكل من “المحلّيّة الكوزموبوليتانيّة” Cosmopolitan Localisms (المصطلح لوالتر مينيولو[45]).
نلاحظ من خلال كلّ ما سبق أنّ إحدى المهامّ النّقديّة للتّوجّه الدّيكولونياليّ هي عمليّة الخلق والإبداع للهويّة خارج سياسات التّهجين الكولونياليّ الّتي قد تعتبرها الدّراسات ما بعد الكولونياليّة جدارا إيتيقيّا مريحا (في أغلب أشكالها)، وهي مهمّة مزدوجة تتمثّل الأولى في عمليّة “الاجتثاث للهويّات الّتي أحدثتها الكولونياليّة” والّتي لم تساهم الذّات المُستعمَرة في بناءها وتشكيلها، وسحب البساط من تحت النّماذج الغربيّة للتّمثيل والّتي تستبطن رؤية “مغربنة” عن العالم وتقرّر ما ينبغي أن تكون عليه شعوب العالم اليوم (وهي فكرة تجد جذورها في كتابات “جيل دولوز” في نقد مفهوم التّمثيل). المهمة الثّانية، وهي إعادة إنتاج الهويّة من خلال لغة جديدة تترجم اِختلاف ثقافات المجتمعات ما بعد الاستعماريّة وابتكار نمط كينونة آخر غير متحيّز لأيّة إثنيّة عرقيّة أخرى.
إن مهمّتنا الأركيولوجيّة تستوجب منّا بالأساس تقصّي الحدود والعتبات وأماكن الوصل والفصل والاتّصال بين الخيار الدّيكولونياليّ وأنماط التّفكير ومدارس الفكر القريبة من هذا الخيار وخاصّة تلك الّتي دخلت معها في نقاش فلسفيّ بشكل مباشر أو غير مباشر، لذلك فإنّنا نحاول من خلال ما تناولناه في هذا العنصر أن نستنتج الحدود الّتي تفصل بين الخيار الدّيكولونياليّ وبين مدرسة ما بعد الكولونياليّة حتّى نفهم العتبات والحدود الّتي تفصل بينها، ونفهم الإضافة الفسلفيّة الّتي قدّمتها الكتابات الدّيكولونياليّة في هذا المضمار والّتي تتمثّل بالأساس بعدم القبول بالهجنة وجلّ أشكالها الّتي تخلقها الهيمنة الكولونياليّة إمّا في المرحلة الاستعماريّة عن طريق سياسات الاستيطان وسياسات الإدماج والاحتواء Assimilation (بحكم أنّ الاستعمار كان في تلك الحقبة استعمارا عسكريّا وإداريّا)، أو في المرحلة ما بعد استعماريّة عن طريق عمليّات الاستيراد المفرط للنّماذج الغربيّة دون تخطيط مسبق كما وضّحها لنا “بارتران بادي” والّتي تجد في إطار الدّولة-الأمّة القوميّة وعاء بنيويّا صالحا لتقبّل هذا الاستيراد، لكن دون أن يتمّ تعميم هذا الاستيراد على مستوى المجتمع الأهليّ المحلّيّ.
نستنتج، إذن، أنّ الهجنة هي نتاج كولونياليّ وقد أحدثت قطيعة اجتماعيّة بين النّخبة (الثّقافيّة، الاقتصاديّة، السّياسيّة) والمجتمع الأهليّ المحلّيّ، وهي قطيعة مبنيّة على هويّة مغايرة تتجسّد في سلوك نخبويّ ترى فيه النّخبة أنّها وصيّة على المجتمع الأهليّ المحلّيّ، وبالتّالي ترى أنّه من واجبها أن تنخرط في نوع من التّحديث القسريّ الدّوليّ الفوقيّ الّذي يصادر أحقّيّة المجتمع الأهليّ المحلّيّ في أن يتطوّر وفق برنامج يتلاءم مع شكل الهويّة الّذي يختاره.
إنّ الدّرس التّاريخيّ الّذي يمكن فهمه من خلال فهم عميق لتحوّلات الهويّة في الحقبة الاستعماريّة وما بعد الاستعماريّة هو أنّ الهويّة بمعناها الثّقافيّ هي شكل من الوجود الّذي يعرّف به الإنسان نفسه إزاء الذّات وإزاء الخارج مهما كان هذا الخارج، وعمليّة التّعديل والتّغيير في الهويّة لا يمكن أن تكون من الخارج مهما كان هذا الخارج سواء كانت الدّولة الاستعماريّة أو ما بعد الاستعماريّة، لأنّ الهويّة كإطار تاريخيّ وثقافيّ تستمدّ قوّتها من الذّاكرة الّتي تمجّد الأجداد وما فعلوه للحفاظ على سيادة الأرض وصيانة الأعراض، وهذه القوّة تمدّ الذّات بروح متمسّكة تمسّكا عميقا بالأرض وبتاريخها.
يحيلنا الحديث عن الغيريّة والآخريّة يحيلنا بطريقة مباشرة على علم لطالما كان مشتبكا مع السّلطة الكولونياليّة منذ القرن التّاسع عشر، وهو العلم الّذي يلجأ إليه الباحث في الغالب لدراسة الثّقافات بشكل علميّ ودقيق، وهنا نتحدّث عن الأنثربولوجيا (والّتي أصبحت السّوسيولوجيا تملأ أغلب لحظات غيابه في دراسة الظّواهر). هذه الإحالة تدفعنا إلى طرح سؤال يوسّع لنا أفق الفهم لهذا الخيار الدّيكولونياليّ والآثار الّتي يمكن أن يتركها النّقد الدّيكولونياليّ على العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، فإذا كنّا نتحدّث من منظور ديكولونياليّ عن هويّة منزوعة الطّابع الغيريّ الّذي تخلقه السّلطة الكولونياليّة ونظام الخطاب التّابع لها من أجل المحافظة على الهيمنة الإمبرياليّة، كيف يمكن أن نتحدّث، إذن، عن خطاب علميّ يتجاوز مشكل الآخر ويبني نظريّة اجتماعيّة على قاعدة المشترك المتحرّر من الغيريّة/ الآخريّة الكولونياليّة؟ وهذا ما سيتمّ تناوله في العنصر التّالي.
جاء في معجم Universalise في العنصر المتعلّق بالهويّة في الأنثربولوجيا فقرة مهمّة جدّا يمكننا أن نقتبسها في هذا المستوى من النّقاش لمحاولة فهم علاقة الهويّة بالأنتروبولوجيا، خاصّة وأنّ الأنتروبولوجيا -كما قلنا في الفصل السّابق- تتبنّى خطابا علميّا حول ثقافة الإنسان أي الإطار الّذي يستمدّ منه هويّته، وهذه الفقرة الّتي سنقتبسها توضّح لنا مشكل الخطاب العلميّ في هذا المضمار: “إنّ معنى الهويّات ، المتغيّر من ثقافة إلى أخرى، الّذي يؤسّسه أيّ مجتمع بين كائنات معيّنة بينما يستبعد الآخرين، ليس مشكلة خاصّة بالمجتمعات التّقليديّة. ومع ذلك، فهي أكثر إثارة في تلك المجتمعات، حيث تختلف تعريفات الكون وتصنيفاته اختلافًا جذريًّا، للوهلة الأولى، عن تلك الّتي اعتبرها الغرب دائمًا هي الوحيدة الممكنة والعقلانيّة الوحيدة. ويتجلّى ذلك في المثال الشّهير الّذي رواه فون دين شتاينن عام 1894 بشأن بورورو البرازيليّة. فقد قالوا: “نحن أرارا”، وهو بيان رأت فيه الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت جهلاً صارخًا بالقوانين الأوّليّة للمعنى الغربيّ. في الواقع، لا يمكن فصل التّحليلات الإثنولوجيّة للهويّة عن تلك المتعلّقة بطبيعة الدّين والفكر السّحريّ والبدائيّة ولاعقلانيّة المجتمعات بدون كتابة”[46]، وهذا ما يفسّر لنا التّواطئ الفعليّ بين خطاب الأنثربولوجيا والنّموذج المعياريّ الّذي تأسّس به الأثنولوجيا معايير التّصنيف بين الثّقافات (علم الإثنيّات الّذي يتناول خصائص الإثنيّات ولكنّه يحمّل هذا العلم تمييزا تراتبيّا بينها).
لا يرفض التّفكير الدّيكولونياليّ أحقّيّة الشّعوب في الانتماء لثقافتها، أيّا كانت، لا كيان بلا هويّة أي أنّه لا يمكن تصوّر وجود شعب بلا هويّة، أي من دون سياسة انتماء معيّنة، لكنّ مكمن المشكل هو في درجة استعمال الهاجس الهوَويّ في تحديد الذّات لنفسها لا في ظاهرة الانتماء بحدّ ذاتها. والتّفكير الحدوديّ الّذي يفكّر في الحدود بين الثّقافات واللّغة هو ضرب من التّفكير الحيويّ الّذي يتيح لكلّ هويّة أن تبني ذواتها دون أن تبني جدرانا عازلة تخنق بها أفرادها وكلّ المنتمين إليها، فهذا الاختناق هو الّذي يجعل الخلايا الّتي تتكوّن منها أيّ هويّة لا قِبَلَ لها بالاستدامة، فتنكمش وتصبح لها قابليّة للموت ممّا يجعلها لا تملك أن تقدّم شيئا للإنسانيّة سوى ثقافة الموت المؤجّلة. وهذه الهويّة الّتي تصبح مُصدّرة للموت بعد تراكم كمّيّات هائلة من الاختناق الهوويّ ليست مرتبطة في الحقيقة بأيّ أفق انتماء خاصّ أو محدّد مسبقا، فهذا الأفق يمكن أن يرتّب بالحداثة وهو الّذي أنتج النّازيّة والفاشية في لحظة انحباس هوويّ لم تعد تحمل أيّة قابليّة لأن تتنفّس وتشارك الهواء مع من يختلف معها ثقافيّا باسم التفوّق العرقيّ الآريّ، أو أفقا يرتبط بالأديان تحت أيّ نوع من أنواع الخطاب الشّموليّ أو حتّى الغربيّ الّذي أعطى لنفسه مشروعيّة الاستعمار تحت مسمّى تقدّم الحضارة الإنسانيّة.
لكلّ جماعة روحيّة المشروعيّة المطلقة في اختيار مصادر النّفس الملائمة لها وفي العناصر الّتي تُؤسّس بها هويّتها، كما أنّها تحمل في مضمونها خصوصيّة تجعلها تتمّيز عن الهويّات الأخرى وهو ما يوضّحه “أبو الفلسفة الألمانيّة: فيلهم لايبنتز” في شرحه للهويّة بالمعادلات الرّياضيّة، لكن لا يمكن أن نقف عند حدود التّفسير الحسابيّ للهويّة الّذي يقول بأنّ: )أ( لا يمكن أن تكون مثل )ب( إلّا إذا كانتا تحملان نفس الخصوصيّات، لكنّ هذا النّموذج لا يمكن أن يفسّر لنا أشكالا متعدّدة الانتماء لنفس الهويّة ممّا يفضي إلى درجات مغايرة لاستعمال الهاجس الهوويّ.
يتيح لنا التّفكير الدّيكولونياليّ الفرصة في التّفكير في نوعيّة الحدود الّتي تحدّد بها الذّات نفسها داخل كلّ هويّة ، فالحدود أو الجدران الّتي تحدّد هذه الهويّة يمكن أن تكون حدودا غير عازلة وتتيح للذّات العبور واختراق كلّ جدران الهويّة بشكل متواصل وحيويّ كما تتيح لها إمكانيّة الهجرة بين الإنسانيّات، لكنّ هذا العبور المتواصل ليس مجرّد ترف معرفيّ يقتصر في حدود اكتشاف السّرديّات الّتي تبني بها الذّوات الأخرى ذاتها، بل هي نوع فريد من تمارين قبول الآخر الّتي تسمح لأيّ مجتمع ببناء مشترك ثقافيّ يمكّنها من بلورة نموذج خاصّ عن التّعدّد الثّقافيّ، خارج نطاق المفهوم الأورومركزيّ عن التّعدّد الّذي لم يفرز من خلال مسار عولمته سوى نظام عالميّ متعدّد الهيراركيات كما سمّاه “رامون غروسفوغل”، وهذا النّوع من التّعدّد هو الّذي يخلق مناخا يتجاوز حدود الثّنائيّات الضّدّيّة في البلدان ما بعد استعماريّة حيث تهيمن هذه الثّنائيّات المتضادّة على أشكال الانتماء وتفرض شكلين وحيدين من تحديد الذّات: إمّا الشّكل السّلفيّ Fondamentalist أو الشّكل القومويّ الّذي تحوّل إلى تقليد نخبويّ فرضته دولة ما بعد الاستعمار.
إن هذا النّوع من التّعدّد خارج نمط التّعدّد الأورومركزيّ، هو نوع من التّعدّد يتجاوز خطاب ما بعد الحداثة الّذي لا يبحث إلّا عن التّخلّص من النّظام الأبويّ الذّكوريّ الأوروبيّ دون أن يفكّر في المشترك الثّقافيّ الخاصّ بدول العالم الثّالث (الّذي من شأن هذا المشترك أن يحافظ على تماسك هذه المجتمعات خارج انتظارات ما هو كونيّ والّذي تحدّده دوائر العولمة كما سنرى هذا النّقاش بأكثر وضوح في العنصر الموالي)، كما أنّ هذا النّوع من التّعدّد الّذي يتمّ بناؤه داخل التّجربة التّاريخيّة لشعوب العالم الثّالث دون أن تحرم نفسها من نوعيّة مصادر النّفس الّتي تحتاجها لاستدامة وجودها الثّقافيّ (والتي أصدرت في شأنها السّلطة الثّقافيّة الكولونياليّة حكما نهائيّا وهي أنّها لا يمكن أن تفيد أيّ شيء لإنسان القرن العشرين)، هو تعدّدٌ يختلف عن نوعيّة التّعدّد الّذي يمكن أن يتولّد داخل الفضاء الثّالث الّذي أراد أن يجعله “هومي بهابها” ملجأ مريحا لمشكل الهجنة الثّقافيّة، الّتي يتجاهل عن غير قصد جذورها ما بعد الاستعماريّة الّتي كشف عنها “برتنارد بادي” في كتابه “الدّولة المستوردة: في تغريب النّظام السّياسيّ” (والّتي لم يتفطّن إليها “هومي بابا”) حيث بيّن أنّ هذا الفضاء الثّالث إنّما هو في حدّ ذاته خيار كولونياليّ طالما أنّ الذّات الكولونياليّة غير قادرة على أن ترى الآخر سوى ظلّها النّاقص.
يمثّل طرح مشكل الهويّة وتصوّر مفهوم التّعدّد الثّقافيّ ضمن الخيار الدّيكولونياليّ العناصر الأولى لبلورة الأرضيّة الإبستيمولوجيّة للنّظريّة الاجتماعيّة في الخيار الدّيكولونيالي، أي أنّنا بصدد مناقشة هذه الأرضيّة في مستوى ميكروسوسيولوجيّ، وسنحاول في العنصر الموالي تناول النّقد الدّيكولونياليّ عبر توضيح الاستتباعات الإبستيمولوجيّة لهذا النّقد على منهجيّة العلوم الاجتماعيّة لكن هذه المرة على المستوى الماكروسوسيولوجيّ.
5- النّظريّة الاجتماعيّة في الخيار الدّيكولونياليّ:
تشترك مدرسة ما بعد الكولونياليّة مع تيّار ما بعد الحداثة في الوقوف على نفس الأرضيّة الإبستيولوجيّة القائمة على الكتابات ما بعد البنيويّة الّتي جاءت بعد إعلان لوتيارد (في كتابه الوضع ما بعد الحداثيّ La Condition Postmoderne) بتشظّي السّرديّات الكبرى الّتي تقوم عليها الحداثة الأوروبيّة (وهي سرديّات تقدّم رواية كبرى عن كيفيّة تحرّر البشريّة وتقدّمها)، لكن ما بعد الكولونياليّة يختلف مع الكتابات ما بعد الحداثيّة فقط في موضع النّطقLocus of enonciation الّذي منح لها مساحة مكنّتها من بلورة خطابات مضادّة للمصفوفة الكولونياليّة وخطاباتها الإمبرياليّة، فأعطت لنفسها فرصة لتقديم سرديّة أخرى لتواريخ ثقافاتها المحليّة. هذا على المستوى الإبستيمولوجيّ (إبستيمولوجيا العلوم الإنسانيّة). أمّا على المستوى العمليّ فإنّ إستراتيجيّة العمل والتّغيير الاجتماعيّ لا يمكن أن نفهمها إلّا إذا نظرنا بدقّة في تقاطعات النّظريّة الاجتماعيّة لكلتا المدرستين، وهذا الفهم الّذي سنقدّمه هو من باب تحليل العناصر الّتي تميّز الموقف الدّيكولونياليّ في النّظريّة الاجتماعيّة للقارئ حتّى تتّضحّ الصّورة أكثر: فما هي، إذن، نقاط التّلاقي في النّظريّة الاجتماعيّة عند تيّاريْ ما بعد الحداثة وما بعد الكولونياليّة؟
تعدّ قضيّة الجندر والنّسويّة من أهمّ قضايا النّظريّة الاجتماعيّة في السّوسيولوجيا الما بعد حديثة Post-modern، فالنّضال النّسويّ والنّظريّة ما بعد الكولونياليّة يشتركان في رؤيتهما للنّظام الاجتماعيّ الّذي يقوم على تراتبيّة هرميّة ذكوريّة، كما أنّهما يتقاسمان نفس الموقف الرّاديكاليّ من السّلطة حيث يرى هذان التّيّاران أنّ النّضال التّحرّريّ يجب أن يقوم على مقاومة السّلطة الذّكوريّة والتّحرّر من الثّقافة الّتي تعطيها المشروعيّة، “فالنّظام الأبويّ والإمبرياليّة يمكن رؤيتهما كممارستين لأشكال متشابهة من السّيطرة على أولئك الّذين يجعلونها خاضعين”[47] ونصوصهم تلتقي في جوانب كثيرة من نظريّة الهويّة، فالنّسويّة في العالم الثّالث ترى كما تراه نسويّة العالم الأوّل بأنّ الثّقافة الذّكوريّة تهيمن على الاختلافات الثّقافيّة وبالتّالي علينا أن نخلق فئة عالميّة تدافع عن حقوقنا كنساء (في إطار الرّدّ على التّصوّر الماركسيّ الكلاسيكيّ الّذي يرى بأنّ مشكل التّفاوت الطّبقيّ سيقضي على كلّ الهراركيات(، إلى حدود الثّمانينات من القرن الماضي، أين بدأ بعض النّقّاد النّسويّين يوجّهون سهام نقدهم لهذا الادّعاء و يصرّحون بأنّ هذا الموقف نابع من رؤية أورومركزيّة للمشكل الّذي تتعرّض إليه النّساء في الغرب.
لقد كان هذا النّقد دافعا مُوجّها لكثير من النّسويّات لإعادة تفسير طبيعة واقعهم داخل الثّقافة الّتي يعيشونها بعد أن اتُّهِمُوا بفشل التّفسير والتّحيّز للنّسويّة الأوروبيّة، وكانت منطلقات هذا المسار الجديد في التّفسير الرّجوع إلى خبرات نساء العالم الثّالث وفهم موقعهم داخل مجتمعاتهم و داخل تجارب العيش فيها، و في نفس الوقت إعادة فهم موقع نساء العالم الثّالث بالنّسبة إلى العمالة الرّخيصة في السّوق العالميّة ضمن علاقة التّبعيّة بين اقتصاد المركز واقتصاد الأطراف، وموقع نساء العالم الثّالث بالنّسبة إلى التّقسيم العالميّ للعمل (مثال: العاملات العالمثالثيّات في مصانع العالم الأوّل ووضعيّتهم الاجتماعيّة وظروفهم المهمشة حيث تعتبر كحالة ما دون الإنسان الأوروبيّ، أمثلة من كتاب “مستقبل النّظريّة الاجتماعيّة”[48]). هذا باختصار ما يمكن اعتباره نقاط الالتقاء بين رؤية كلّ من تيّار ما بعد الحداثة وتيّار ما بعد الكولونياليّة في النّظريّة الاجتماعيّة والمتعلّقة بطبيعة المجتمعات أو بنيتها الّتي تعيش فيها النّساء، وكيف ترى حلّ المشكل وأفق التّغيير لكن: ما الّذي يميّز النّظرية الاجتماعيّة بالنّسبة إلى الخيار الدّيكولونياليّ؟ وما الجديد من النّاحية السّوسيولوجيّة بالنّسبة إلى هذا الخيار؟
ظهرت خلال القرن العشرين أشكال متعدّدة من الحركات الاجتماعيّة الّتي تناضل من أجل القضاء على الهيراركيّات المتعدّدة القائمة على الجنس والعرق والطّبقة والإثنيّة واللّون، ولا يمكن فهم هذه الهيراركيّات من خلال المنطق الاقتصاديّ فهي من منطلق ديكولونالي تصبّ في خانة لباترياركيّة واحدة وهي باترياركيّة الرّجل الأبيض، يقول رامون غروسفوغل في هذا الصّدد: “يجب التّنبّه بدايةً إلى أنّ الباترياركيّة الّتي تمّت “عولمتها” هي “باترياركيّة أوروبيّة”، وهذا لا يعني أنّه لم تكن ثمّة نماذج أخرى للباترياركيّة قبل الاستعمار الأوروبيّ، ولكنّها تنشطُ بأشكال تنظيميّة مختلفة وبمنطق هيمنة مغاير”[49]، وهذا النّظام العالميّ هو نظام مقسّم وفق تقسيم عرقيّ داخل هرميّة إثنوعرقيّة حيث يتجسّد من النّاحية الاقتصاديّة في التّقسيم العالميّ للعمل الّذي يجعل من دول الأطراف تابعة اقتصاديّا حتّى يراكم الرّأسمال الأوروبيّ ثروته على حسابه. وعليه فإنّ النّضال يجب أن يكون ضدّ كلّ الهراركيّات ولكن شريطة أن يتمّ خلق “لغة سوسيولوجيّة جديدة”[50]، يمكن من خلالها توصيف العلاقات بين الثّقافات خارج “النّماذج الأصليّة Native model” الّتي على أساسها تجعل ما يراه النّموذج طبيعيّا، فهو بالضّرورة طبيعيّ لكلّ الثّقافات والمجتمعات ويضع معيارا لما هو إنسانيّ.
هذه اللّغة تتجاوز منطق الكتابات ما بعد الكولونياليّة في توصيف الباترياركيّة، وهذا التّجاوز يرمي إلى غايات معرفيّة أبرزها من النّاحية السّوسيولوجيّة: وضع حدّ يفصل بين الممارسات الباترياركيّة الّتي ترجع للثّقافة ما قبل الاستعماريّة وبين الممارسات الباترياركيّة الأوروبيّة المعولمة الأكثر حضورا والّتي لم تتخلّص منها الدّولة الاستعماريّة في بنية مؤسّساتها.
هذا النّقاش حول اللّغة الّتي تتمّ عبرها عمليّة الوصف والتّحليل (اللّذين لا يخضعان إلى إبستيميّة السّوسيولوجيا الأورومركزيّة)، هو نقاش دفعه العديد من مُنظّري الخيار الدّيكولونياليّ على ضوء قراءتهم لمفهوم “علم نشأة المجتمع Sociogenic” لـ”فرانز فانون”، فعلم نشأة المجتمع حسب ما ذهب إليه “فانون” هو علم يحاول أن يرصد تحوّلات العلاقات الاجتماعيّة في المرحلة ما بعد الاستعماريّة محاولا أن يفهم كيفيّة تجاوز المجتمعات ما بعد الاستعماريّة “الجرح الكولونياليّ”، أي كيف تشفى هذه المجتمعات من الجرح الاستعماريّ وتبني نفسها خارج منطق الاختلاف الّذي تحدّده الكولونياليّة وتخرج من دائرة التّهجين (الّتي تخلقها السّلطة الكولونياليّة)، وتفهم العلاقات الاجتماعيّة بين الإثنيّات والثّقافات داخل المجتمع وخارج “لغة البيولوجيا العصبيّة” ولغة العلوم المشتقّة من البيولوجيا والعلوم الطّبيعيّة وهي علوم تحدّد في إبستيميّتها بشكل مخفيّ ما يجب أن يكون عليه الإنسان[51]، وبالتّالي الخروج من سجن السّوسيولوجيا الأورومركزيّة الّتي تحدّد في خطابها المخفيّ (في إطار إجابتها عن سؤال: لماذا؟ وما هي أسباب التّخلّف أو وجود أي ظاهرة ما؟) ما يجب أن تكون عليه التّجربة الاجتماعيّة في العيش، من خلال تحديدها لنوعيّة “التّضامن La Solidarité” ونوعيّة التّنظّم وشكل العلاقات مع المختلّفين ثقافيّا (أشكال تعيين الهويّة Identification).
إنّ تشخيص العلاقات داخل المجتمع الواحد في حاجة إلى لغة منفصلة تقطع مع مسلّمات السّوسيولوجيا الأورومركزيّة وعابرة للثّقافات أو متعدّدة الثّقافات غير متحيّزة[52]، وكما يقول فرانسوا فيرجيه قادرة على أن تكون بمثابة براديغم يبني هندسة معيّنة تحافظ على “المشترك” في الثّقافة ما بعد الاستعمارية على تنوّعها[53]، لكن هذا لا يمكن أن يتواجد إلّا بشرط نجده في ما كتبه “رامون غروسفوغل” في علاقة بنقد نظريّات المعرفة الأورومركزيّة، فهو يقول: “يعني أنّ الطّرق الحالية لتحليل العالم لم توفّر طريقة لدمج المعارف التّابعة في مسارات إنتاج المعرفة، بدون هذا لا يمكن أن تتواجد عمليّة نزع الكولونياليّة Decolonization في المعرفة (…) إذ يدعو تواطؤ العلوم الاجتماعيّة مع كولونياليّة السّلطة في إنتاج المعرفة والتّصاميم العالميّة الإمبرياليّة إلى مواقع مؤسّسيّة وغير مؤسّسيّة جديدة بمقدور التّابع من خلالها الحديث والاستماع “[54].
إنّ القصور الفكريّ المتمثّل في عدم الاجتهاد في خلق “لغة” تحليل وتوصيف دقيق يتمّ من خلالها التّمييز بين “الباترياركيّة المعولمة المتجذّرة بنيويّا في مؤسّسات الدّولة ما بعد الاستعماريّة والباترياركيّات المنحدرة من الثّقافات ما قبل استعماريّة”، والكسل المعرفيّ المتمثّل في بعض الإسقاطات الّتي يقدّمها تيّار ما بعد الحداثة على الواقع المهجّن ما بعد الاستعماريّ واجترار لغة السّوسيولوجيا ما بعد حديثة، هو الّذي يخلق مشكلات سوء الفهم بالنّسبة إلى من يقدّمون أنفسهم كفاعلين اجتماعيّين جدد ومناضلين ضدّ الباترياركيّة والذّكوريّة.
لقد ساعدنا مايكل يونغ في كتابه “صعود الميريتوقراطيّة Méritocracy [55]” في التمييز بين التّسلسل الهرميّ السّياسيّ الّذي يمكن أن يكبّل عمليّة الحراك الاجتماعيّ وبين التّسلسل الهرميّ الاجتماعيّ؛ فالأوّل راجع إلى النّظام السّياسيّ والثّاني راجع إلى النّظام الاجتماعيّ. وفي السّياق الأوروبيّ هناك انصهار أو نوع من التّجانس بين التّسلسلات الهرميّة (السّياسيّة والاجتماعيّة)، بينما مع مرحلة بناء وتشكّل الدّول ما بعد الاستعماريّة في العالم العربيّ فإنّ التّسلسل الهرميّ الاجتماعيّ هو نتاج لما تبقّى من الثّقافة الماقبل الاستعماريّة، والتّسلسل الهرميّ السّياسيّ هو نتاج لنموذج الدّولة الأوروبيّ المُستورد.
لم تستطع عمليّة استيراد مفهوم المجتمع المدنيّ التّأثير على التّسلسل الهرميّ الاجتماعيّ وفق الغايات الّتي تمّت لأجلها عمليّة الاستيراد وذلك لأسباب عدّة، أبرزها: تعقّد البنى الاجتماعيّة في العالم العربيّ وأيضا لأنّ أنظمة الدّول ما بعد الاستعماريّة لم تترك المجال لتطوير مجتمع مدنيّ فالأنظمة ما بعد الاستعماريّة في العالم العربيّ دخلت مرحلة الشّموليّة بشكل سريع.
يمكننا القول إنّه من منظور ديكولونياليّ يقع إستراتيجيّا تقديم النّضال ضدّ الممارسات الباترياركيّة المعولمة قبل غيره لأنّه الأكثر تجذّرا في بنية المؤسّسات في الدّول ما بعد استعماريّة، لكنّ واقع تجربة الصّراع الاجتماعيّ تكشف لنا فشل أغلب الفاعلين الاجتماعيّين في ضمّ الطّبقات الشّعبيّة المنحدرة من الثّقافة الأهليّة المحليّة إلى صفّهم من أجل النّضال ضدّ هذه البارترياركيّة المعولمة، ومن أجل تحقيق المساواة بين المرأة و الرّجل والدّفاع عن الحقوق الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة (الموجة الأولى من النّسويّة العالمية).
يضع الخيار الدّيكولونياليّ شرطين أساسيّين للنّضال ضدّ الباترياركيّة المعولمة في العالم الثّالث على مستوى الخطاب، حتّى يتحقّق هذا الضّمّ كمشترك نضاليّ في العالم الثّالث: أمّا الشّرط الأوّل فهو المتعلّق أساسا بإيجاد لغة سوسيولوجيّة، وينطلق من الممكنات المطمورة والمخفيّة الّتي تسكن في الحدود بين اللّغات (العالميّة والمحلّيّة) القادرة على التّمييز بين ممارسات الباترياركيّة الأوروبية المعولمة وبين ممارسات البارترياركيّة المنحدرة من الثّقافات ما قبل الاستعماريّة (حتّى ينخرط المجتمع الأهليّ في النّضال ضدّ باترياركيّة السّلطة ما بعد الاستعماريّة الّتي لم تتخلّى بنيويّا -كما قلنا- عن جزء مهمّ من نمط السّلطة الاستعماريّة في المؤسّسات)، والشّرط الثّاني على مستوى الواقع الاجتماعيّ والمتمثّل في عدم التّماهي مع أشكال الوجود الاجتماعيّ المستمدّة من المجتمعات الغربيّة وخلق أنماط أخرى من الوجود الاجتماعيّ.
كما أنّ هذه الطّرق غير المجدية في تحليل واقع الثّقافات في المجتمعات ما بعد الاستعماريّة يعود سببها، أيضا، إلى عدم تخلّيها عن فكرة “التّمثيل La Représentation[56]“، ولهذا السّبب دعا “والتر مينيولو” إلى التّخلّي عن هذه الفكرة الّتي تستبطن رؤية مسبقة عن العالم (بالتّالي هذه الظّاهرة لن تكون إلّا جزءا من هذا العالم المرسوم بشكل مسبق مهما غاص الباحث في تفاصيل الظّاهرة) وتركّز على النّطق والتّلفّظ ومنظومات النّطق مع بلورة لغة تحليليّة جديدة انطلاقا من منظومات نطق الثّقافات المحلّيّة[57].
تطمح السّلطة الكولونياليّة إلى قيام جهاز أيديولوجيّ في الدّول ما بعد استعماريّة (التّعليم والتّنشئة الاجتماعيّة والإعلام الرّسميّ) مفرغٍ من الذّاكرة ويُمحى فيه ما خلّفه الدّمار الاستعماريّ، ويجعل كلّ دمار لحق بهذه البلدان مرتبطا بالفترة ما قبل الاستعماريّة حيث يتمّ ذلك عبر سرديّة استعماريّة تخلط بين الاستعمار كحقبة زمانيّة جاءت نتاجا لرؤية كوسمولوجيّة وجيوسياسيّة للعالم وبين العبوديّة، وبالتّالي يتمّ ضمّ الاستعمار داخل نوع من التّاريخانيّة الّتي ترى أنّه نتاج لطبيعة مرحلة العبوديّة الّتي تعيشها إنسانيّة القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، فيتمّ اعتبار الهيمنة الاستعماريّة حالة طبيعيّة ونتاجا طبيعيّا لعلاقات اجتماعيّة ما قبل حديثة، وذلك سعيا منها لحجب النّهب والسّلب الاستعماريّ وحجب السّياسة الهوويّة Identity politic المرتبطة بالحداثة الكولونياليّة.
تسعى هذه السّرديّة في إستراتيجيّتها المخفيّة إلى تحميل مسؤوليّة فشل الدّول والمجتمعات ما بعد استعماريّة في بناء مجتمعاتها بشكل متماسك إلى مجتمعات العالم الثّالث، وجعلها هي المسؤولة على عدم قدرتها في القضاء على الصّراعات الإثنيّة والعرقيّة الّتي هي في جزء كبير منها من صنع الاستعمار (فهي تريد أن تهرب وتتملّص من خلاص الدَيْن التّاريخيّ الّذي في ذمّتها). ومن ناحية أخرى تسعى السّلطة الكولونياليّة من خلال خطاباتها حول الرّسالة التّحضيريّة الّتي حاولت، تجذيرها في مرحلة الاستعمار، أن تروّج لفكرة مفادها أنّه على المستعمرات القديمة أن تدفع الدَّيْن (يعني أن المجتمعات ما بعد استعماريّة مدينة لفرنسا أو إنجلترا على ما قدّمته طيلة الفترة الاستعماريّة من تحديث في مجالات محدّدة). هذا النّوع من السّرد التّاريخيّ متواطئ مع وكلاء الدّاخل لخلق التّصدّعات والانقسامات في الرّأي تجاه المجتمع الواحد ما بعد الاستعماريّ، وبالتّالي عدم منحه مساحة للتّفكير في بناء لغة المجتمع الجديد ما بعد الاستعماريّ والعلاقات داخله بل إغراقه في الصّراعات الإثنيّة وحلّ مشكل الانقسامات والجماعات الانفصاليّة، ويمكن لعلم التّاريخ -خاصّة في الإسهامات الّتي قدّمتها الدّراسات ما بعد الكولونياليّة- أن يدفع نحو تقديم سرديّات تاريخيّة بديلة من موقع بديل تعالج هذا المشكل.
كانت ثورات ما يسمّى بـ”الرّبيع العربيّ” فرصة مهمّة لبناء المشترك مع من ينتمون إلى ثقافة المجتمع الأهليّ الّتي تعتبر الأرضيّة الخصبة أو الحاضنة الاجتماعيّة لـ”خطاب السّلفيّة Fondamentaliste”، لكن عندما ذهب الّذين يفكّرون في مشكل الحداثة في العالم العربيّ (وخاصّة في الدّول الّتي حصلت فيها الثورات) إلى فهم خطاب ما بعد الحداثة لم يرجعوا من هذه الرحلة إلّا بخطاب السّوسيولوجيا ما بعد حديثة (كمحاولة منهم لفهم التّحوّلات الثّقافيّة والسّياسيّة في العالم) أين يكون المشكل المركزيّ متمحورا في النّضال ضدّ السّلطة الذّكوريّة مع ترجمة مشوّهة ومنقوصة لمعنى “الباترياركيّة” (على خلاف محاولة فهمها من قبل رامون غروسفوغل كما ناقشناه في هذه الورقة).
لم يستطع هؤلاء أن يبلوروا مفهوما متجاوزا للحداثة عن “المشترك” الخاصّ بالعالم غير الأوروبيّ، وهو أحد المفاهيم الرّئيسيّة في تيّار ما بعد الحداثة ضدّ مفهوم الهوويّة يعني المفهوم المشترك في مقابل ما هو هوويّ Identitaire والّذي لا يبحث في نقاط الالتقاء أكثر من بحثه في نقاط الاختلاف ونقاط التّباين الّتي تحدّد به الذّات ذاتها. هذا التّشوّه في ترجمة مفهوم المشترك هو الّذي فوّت الفرصة في المرحلة ما بعد 2011 حول بلورة المشترك الخاصّ بالثّقافة المحلّيّة، وهو نتاج منطقيّ لفشل غالبيّة النّخب الثّقافيّة في تقديم مشكل الحداثة من الموقع التّاريخيّ الخاصّ بالعالم العربيّ، كما أنّ هذا الفشل في تقديرنا قد أفرز بدوره إعادة إنتاج لعزلة المجتمع الأهليّ ومن ثمّ إعادة إنتاج عزلة جزء مهمّ من المجتمع وفشل في إدماجه في المجتمع الكلّيّ، كما سجّل هذا الفشل ضعف النّخبة السّياسيّة والثّقافيّة الفاعلة وقصورها في بلورة أنماط جديدة للمشترك والّتي تعيد من خلالها صياغة مجتمعها خارج منطق الحلول الجاهزة المستوردة من سياقات أخرى.
6- الخاتمة:
لقد حاولنا من خلال هذه الورقة العلمّيّة توضيح ما قدّمه التّناول الدّيكولونياليّ لقضيّة الهويّة وللنّظريّة الاجتماعيّة، والّتي تتمثّل:
أوّلا: فكّ الارتباط بإبستيميّة الحداثة الغربيّة بفكّ الارتباط بأشكال الهويّات الهجينة الّتي تخلقها الحداثة الكولونياليّة، وعدم القبول بالحلول المُجزّئة الّتي تقترحها الدّراسات ما بعد الحداثيّة والما بعد الكولونياليّة والّتي تخدم بدورها مصالح السّلطة الكولونياليّة (حيث تقع نظريّة الفضاء الثّالث “لهومي بهابها” في نفس هذه الخانة كما وضّحنا ذلك).
ثانيا: بلورة أرضيّة إبستيمولوجيّة للنّظريّة الاجتماعيّة الّتي ستشكّل من خلالها نموذجا مجتمعيّا قادرا على دمج الثّقافات ما قبل الاستعماريّة داخل مجتمع متعدّد القوميّات والثّقافات وغير متحيّز لأيّ منها، كما تعتمد هذه النّظريّة الاجتماعيّة على خصوصّية رهاناتها في بناء المشترك الخاصّ بها.
كما وضّحنا أيضا أهمّيّة اللّغة السّوسيولوجيّة والخطاب السّوسيولوجيّ وذلك في تمييزه بين نمطين من أنماط الأبويّة: الأبويّة الاجتماعيّة والأبويّة المنغرسة في المؤسّسات السّياسيّة، والحذر من الخلط بينهما في النّضال السّياسيّ لأنّ السّلطة الكولونياليّة تدفع نحو هذا الخلط وعدم التّمييز لتُبقي على حالة الصّراع بين النّخب المناضلة والبنى الاجتماعيّة العميقة في العالم الثالث. وهذا التّمزّق هو الّذي تجد فيه السّلطة الكولونياليّة الأرضيّة والمشروعيّة الملائمة للتّدخّل وتشكيل سياسات الهويّة وفق رؤيتها الكولونياليّة للعالم، وقد حاولنا أن نقدّم تحليلا علميّا لهذا التّمزّق على المستويين الماكروسوسيولوجيّ والميكروسوسيولوجيّ.
يساهم علم الاجتماع، شأنه شأن فروع العلوم الإنسانية الأخرى، بدرجة مهمّة في بلورة صورة محدّدة عن العالم، وذلك من خلال فهمه وتفسيره لمحدّدات العلاقات الاجتماعيّة حينما يرجع إلى أحضان النّقد والفلسفة، ومن خلال النّظريّة الاجتماعيّة الغربيّة يمكننا أن نستنتج بأنّ المجتمعات تصنّف ضمن ثلاث خانات وهي:
أولا؛ المجتمعات ما قبل حديثة وهي المجتمعات الّتي تقوم -كما يقول إيميل دوركايم- على التّضامن الآليّ La solidarité mécanique، والّتي يتحدّد فيها الوجود الاجتماعيّ للفرد من خلال القبيلة والعشيرة الّتي قد تختلط مع الطّائفة والمذهب الدّينيّين، وهذا المحدّد هو الّذي يتمّ من خلاله نسج القواعد المنظّمة للعلاقة بين الأفراد و بين الفرد والدّولة.
ثانيا؛ المجتمعات الحديثة الّتي تقوم -كما يقول أيضا إيميل دوركايم- على التّضامن العضويّLa solidarité organique، أين يتحدّد فيها الوجود الاجتماعيّ للفرد بانتمائه إلى الوطن والنّموذج الثّقافيّ الّتي ترسمها الدّولة الحديثة الأوروبيّة (الدّولة/ الأمّة)، فالفرد يشغل وظيفة خاصّة داخل المجتمع الواحد الّذي لا يقوم على التّماثل بل يقوم على التّكامل العضويّ في كلٍّ واحد، فالأفراد في هذا النّمط المجتمعيّ الحديث هم أعضاء يشغل كلّ واحد منهم وظيفة محدّدة وكلّ هذه الوظائف المتنوّعة تضمن استمراريّة المجتمع الكليّ وتماسكه.
أمّا الحالة الثّالثة؛ و نقصد بها نموذج المجتمعات ما بعد حديثة وهي الّتي ترى أنّ الفرد لا يجب أن يتحدّد داخل أيّة هويّة ثقافيّة سواء كانت هويّة ثقافيّة مرتبطة بالثّقافة السّائدة أم أيّة هويّة جنسيّة يمكن أن تحدّد الجنس والنّوع الاجتماعيّ للفرد، وهذا النّموذج المجتمعيّ هو نتاج لبحوث فلسفيّة ونقديّة تجد هالتها في دراسات و بحوث الفيلسوف الفرنسيّ ميشل فوكو الّذي اهتمّت بحوثه بكلّ من علاقة السّلطة بالمعرفة وإرادة المعرفة وعلاقة السّلطة بالرّغبة، وهو نموذج مجتمعيّ يضع في مقابله كلّ النّماذج المجتمعيّة الباطرياركيّة الّتي تقوم على الهيمنة الأبوية التّسلّطيّة.
يمكن القول إنّ الملفت للاهتمام على المستوى السّوسيولوجيّ، هو أنّ المجتمعات ما بعد الاستعماريّة -الّتي خرجت من الاستعمار في القرن التّاسع عشر والّتي دشّنت مرحلة قيام الدّولة القوميّة ما بعد الاستعماريّة المتزامنة مع قيام حركات التّحرّر الوطنيّ- لم تستطع أن تدخل الحداثة وتتحوّل إلى مجتمعات حديثة، ولم تستطع في نفس الوقت أن تبقي على البنى الاجتماعيّة التّقليديّة كما هي فتحوّلت إلى شكل هجين ولم تستطع إلى الآن أيّة نظريّة اجتماعيّة أن تحتويَ هذه الوضعية. يمكننا القول من موقع ديكولونياليّ عن هذه المجتمعات، هو أنّها مجتمعات لم تتمكّن من خلق وابتكار نظريّة اجتماعيّة للنّهوض بثقافاتها المحلّيّة خارج النّماذج الأوروبيّة وخارج إملاءات النّموذج ما قبل الاستعماريّ اللّذين لم يتلاءما مع رهانات حاضر هذه المجتمعات، ولم تستطع نخب الدّول ما بعد الاستعماريّة بلورة نظريّة تثبت جدارتها ودقّتها في توصيف حاضرها بالطّريقة الّتي تحتوي -من خلال هذا التّوصيف- كلّ التّناقضات المهجّنة ما بعد الاستعماريّة، فالخيار الدّيكولونياليّ يقدّم بدوره توصيفا أقرب للدّقّة بالنّسبة إلى باقي الخيارات أو البراديغمات من خلال ما وفّره من تجربة نقديّة موجّهة أساسا إلى نظريّات علم الاجتماع الأمريكو-أوروبيّة وقصور تطابقها مع طبيعة مجتمعات العالم الثّالث.
من خلال هذه الزّاوية يصبح الخيار الدّيكولونياليّ فاتحا لأفق جديد في علم الاجتماع لم تستطع النّظريّة الاجتماعيّة الأوروبيّة بلورته، كما يسمح هذا التّوجّه النّقديّ في المقابل لغير الأوروبيّين بتقديم إضافة في علم الاجتماع وفي النّظريّات السّوسيولوجيّة تحمل توقيعهم الخاصّ كأفراد و ذوات فاعلة في العلوم الإنسانيّة، وتستطيع الذّات الّتي لا تزال حاملة للجرح الكولونياليّ الخروج -من خلال هذا الخيار/ التّوجّه- من الطّابع الاستهلاكيّ لهذه العلوم والخروج من الموقع الّذي جعلها تُختزل في كونها موضوعا للمعرفة Sujet de savoir وهو الموقع الّذي فرضته المعرفة الأورومركزيّة الّتي لا ترى بصلاحيّة الآخر في أن يكون ذاتا عارفة وفاعلة في العلوم الإنسانيّة.
قائمة المراجع:
باللّغة العربيّة:
- أشكروفت (بيل) وآخرون: دراسات ما بعد الكولونياليّة المفاهيم الأساسيّة، ترجمة: أحمد الرّوبي وآخرون، تقديم: كرمة سامي، المركز القوميّ للتّرجمة، الطّبعة الأولى، القاهرة-مصر، 2010.
- بادي (برتران): الدّولة المستورَدة تغريب النّظام السّياسيّ، نقله إلى العربيّة: لطيف فرج، مراجعة: عومرية سلطاني، مدارات للأبحاث والنّشر، الطّبعة الأولى، القاهرة-جمهورية مصر العربية، يناير 2017.
- بوسو (هوغو) و(مونتويا) أنخيليكا: في نقد كولونياليّة السّلطة وعلاقتها بالإبستيمولوجيا الأورومركزيّة. حوار مع رامون غروسفوغل، ترجمة: البشير عبد السّلام، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، الرّباط- أكدال المملكة المغربيّة، 01 نوفمبر 2017.
- جين (نيكولاس): مستقبل النّظريّة الاجتماعيّة، ترجمة وتقديم: يسرى عبد الحميد رسلان، المركز القوميّ للتّرجمة، الطّبعة الأولى، 2014.
- ريكور (بول): الذّات عينها كآخر، ترجمة وتقديم وتعليق: د. جورج زيناتي، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، الطّبعة الأولى، بيروت-لبنان، نوفمبر 2005.
- ريكور (بول): الذّاكرة، التّاريخ، النّسيان. ترجمة وتقديم وتعليق: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتّحدة، طرابلس-الجماهيريّة اللّيبيّة، حزيران/يونيو 2009.
- سعيد (إدوارد): الثّقافة الإمبرياليّة، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب، الطّبعة الأولى، لبنان-بيروت، 1993.
- فوكو (ميشيل): تاريخ الجنون في الكلاسيكيّ، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثّقافيّ العربيّ، الطّبعة الأولى، الدّار البيضاء-المغرب، 2006.
- ك. بابا (هومي): موقع الثّقافة، ترجمة: ثائر ديب، المشروع القوميّ للتّرجمة، الطبعة الأولى، القاهرة- مصر، 2004.
- لالاند (أندريه): الموسوعة الفلسفيّة، المجلّد الثّاني، ترجمة: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت باريس، الطّبعة الثّانية، 2001.
- لومبا (آنيا): في نظريّة الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبيّة، ترجمة: محمّد عبد الغني غنوم، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، سوريّة-اللّاذقيّة، 2007.
- المسكيني (فتحي): الهويّة والزّمان تأويلات فينومولوجيّة لمسألة “النّحن”، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، لبنان-بيروت، أغسطس 2001.
معاجم:
- الباشا (محمّد): الكافي: معجم عربي حديث، شركة المطبوعات للتّوزيع والنّشر، الطّبعة الأولى، بيروت-لبنان، 1992.
- عمر (أحمد مختار): معجم اللّغة العربيّة المعاصرة، المجلّد الثّالث، عالم الكتب، الطّبعة الأولى، القاهرة-مصر، 2008.
مجلّات:
- د. منيوليو (والتر): العصيان المعرفي، التّفكير المستقلّ والحرّيّة الدّيكولونياليّة، ترجمة: فتحي المسكيني، مجلّة الباب التّابعة لمؤسّسة مؤمنون بلا حدود الدّراسات والأبحاث، العدد 8، شتاء 2016.
- كوفرينانديز (فرانسيس): حوار مع رامون غروسفوغل، “عن استحالة فصل الحداثة الأورومركزيّة عن الاستعمار”، ترجمة: البشير عبد السّلام، مجلّة حكمة، الجزائر، جويلية 2017.
مراجع باللّغة الأجنبيّة:
- Bermudez (Juan Pablo): Modernité/Colonialité- Décolonialité: Une critique sociale autre(… ?), Nouvelle Critique Sociale Europe- Amérique Latine Aller- Retour, Marc Maesschalck et Alain Loute, Polimetrica, 2011, Monza- Italy.
- Grosfoguel (Ramon): Decolonization Post-Colonial Studies and Paradigms of Political Economy: Transmodernity, Decolonial Thinking, and Global Coloniality, California-USA, University of California Press, 2011.
- Taylor (Charles): Philosophical Papers, Volume 1, Human Agency and Language, Boston-USA, Cambridge University Press,
- Taylor (Charles): The Sources Of The Self: The Making of the Modern Identity, Boston-USA, Harvard University Press, 1989.
- Wynter (Sylvia): Towards the Sociogenic Principle : Fanon, The Puzzle of Conscious Experience, of “Identify” and What it’s Like to be “Black”, Edited by Mercedes Duran-Cogan and Antonio Gomez-Moriana, University of Minnesota Press, 1999.
- Young (Micheal): The Rise of Meritocracy, Bristol-UK, Penguin Books, 1985.
- Dictionnaire de La Philosophie, ENCYCLOPAEDIA UNIVERSALIS, Paris-France, 2016
- Rubén Gaztambide-Fernández, Decolonial options and artistic/aestheSic entanglements: An interview with Walter Mignolo, Torento-USA, Decolonization: Indigeneity, Education & Society Vol. 3, No. 1, 2014, pp. 196-212.
[1]– إنّ مفهوم الدّيكولونياليّة أو تفكيك الاستعمار كما تُرجم في معجم مصطلحات الدّراسات ما بعد الكولونياليّة، هو “عمليّة الكشف عن النّفوذ الكولونياليّ بكافّة أنماطه وفصل أجزاء بعضه عن بعض، وتشمل هذه العمليّة تفكيك العناصر المستترة لتلك القوى المؤسّسيّة والثّقافيّة الّتي منحت ديمومة للنّفوذ الكولونياليّ وظلّت كذلك حتّى بعد تحقيق الاستقلال السّياسيّ”، لأنّ “الاستقلال السّياسيّ لا يعني بالضّرورة التّحرّر الكلّيّ للمستعمَر من القيم الكولونياليّة إذ أنّ هذه القيم استدامت مع أنماط سياسيّة و اقتصاديّة و ثقافيّة في العديد من الحالات بعد الاستقلال”. مصدر الاقتباسين: بيل أشكروفت ءجاريث جريفيث و هيلين تيفين، “دراسات ما بعد الكولونياليّة المفاهيم الأساسيّة”، ترجمة: أحمد الرّوبي وأيمن حلمي وعاطف عثمان، تقديم: كرمة سامي، المركز القوميّ للتّرجمة، الطّبعة الأولى، ، القاهرة-مصر، 2010، ص129-130.
[2]– Charles Taylor, The Sources of The Self: The Making of the Modern Identity, Boston-USA, Harvard University Press, 1989.
[3]– Charles Taylor, Philosophical Papers: Volume 1, Human Agency and Language, Boston-USA, Cambridge University Press, 1985.
[4]– حوار مع رامون غروسفوغل أداره فرانسيس كوفرينانديز، “عن استحالة فصل الحداثة الأورومركزيّة عن الاستعمار”، ترجمة: البشير عبد السّلام، مجلّة حكمة، جويلية 2017، الجزائر.
[5]– الدّكتور أحمد مختار عمر: معجم اللّغة العربيّة المعاصرة، المجلّد الثّالث، عالم الكتب، الطّبعة الأولى، القاهرة- مصر، 2008، ص2379.
[6]– محمد الباشا: الكافي: معجم عربي حديث، شركة المطبوعات للتّوزيع والنّشر، الطّبعة الأولى، بيروت-لبنان، 1992، ص1073.
[7]– أندريه لالاند: الموسوعة الفلسفيّة، المجلّد الثّاني، ترجمة: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت باريس، الطّبعة الثّانية، 2001، ص610.
[8]– فتحي المسكيني: الهويّة والزّمان تأويلات فينومولوجيّة لمسألة ‘النّحن’، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، لبنان- بيروت، أغسطس 2001، ص10.
[9]– يمكن الرّجوع إلى هذا المرجع للتّعمّق في هذه المسألة: بول ريكور: الذّات عينها كآخر، ترجمة وتقديم وتعليق: د. جورج زيناتي، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، الطّبعة الأولى، بيروت-لبنان، نوفمبر 2005، ص70-73.
[10]– يعني التّرتيب والتّنظيم بين الأشخاص والمجتمعات والشّعوب النّابع من فلسفة نظام الكون.
[11]– بيل أشكروفت وآخرون: دراسات ما بعد الكولونياليّة، المفاهيم الأساسيّة. ترجمة: أحمد الرّوبي حلمي-عاطف عثمان وآخرون، تقديم: كرمة سامي، المركز القوميّ للتّرجمة، الطّبعة الأولى، القاهرة-مصر، 2010، ص297.
[12]– اُنظر إلى: المصدر نفسه، الصّفحة نفسها.
[13]– العرق الّذي اِدّعت فيه المعرفة الكولونياليّة أنّه العرق المتفوّق طبيعيّا.
[14] -آنيا لومبا: في نظريّة الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبيّة، ترجمة: محمّد عبد الغني غنوم، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، سوريّة-اللّاذقيّة، 2007، ص125.
[15]– المصدر نفسه، ص137.
[16]– اُنظر: آنيا لومبا: في نظريّة الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبيّة، ص145.
[17]– ميشيل فوكو: تاريخ الجنون في الكلاسيكيّ، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثّقافيّ العربيّ، الطّبعة الأولى، الدّار البيضإ المغرب، 2006، ص ص 271-315.
[18]– اُنظر: المصدر نفسه، ص146.
[19]– المصدر نفسه، ص149.
[20]– هومي. ك. بابا: موقع الثّقافة، ترجمة: ثائر ديب، المشروع القوميّ للتّرجمة، الطبعة الأولى، القاهرة- مصر، 2004، ص54.
[21]– هومي. ك. بابا: موقع الثّقافة، ص78.
[22]– هي ترجمة لمفهوم La différence coloniale لوالتر مينيولو، ويعني ذلك أنّ المعرفة الكولونياليّة والأورمركزيّة تضع فروقا سيكولوجيّة وأنطولوجيّة وقيميّة بين الذّات الأورو-أمريكيّة وبين الآخر، وهي جملة من الفروق القائمة على العنصريّة والرّؤية الاختزاليّة للآخر من أجل جعل مسألة الهيمنة عليه (في الحقيقة الاستعماريّة أو ما بعد الاستعماريّة) أمرا طبيعيّا. للتّعمّق في هذا المفهوم يمكن الرّجوع إلى هذا المرجع:
Juan Pablo Bermudez: Modernité/Colonialité- Décolonialité: Une critique sociale autre, Nouvelle Critique Sociale Europe- Amérique Latine Aller- Retour, Marc Maesschalck et Alain Loute, Polimetrica, 2011, Monza- Italy, Pp223-225.
[23]– بيل أشكروفت وآخرون: دراسات ما بعد الكولونياليّة المفاهيم الأساسيّة، ص264.
[24]– انظر: المصدر نفسه، ص266.
[25]– انظر: هومي. ك. بابا: موقع الثقافة، ص82.
[26]– المصدر نفسه، ص92.
[27]– المصدر نفسه، ص131.
[28]– المصدر نفسه، ص134.
[29]– المصدر نفسه، هومي. ك. بابا: موقع الثقافة، ص182.
[30]– المصدر نفسه، ص183.
[31]– انظر: بيل أشكروفت وآخرون: دراسات ما بعد الكولونياليّة المفاهيم الأساسيّة، ص227.
[32]– المصدر نفسه، ص200.
[33]– Ramon Grosfoguel: Decolonization Post-Colonial Studies and Paradigms of Political Economy: Transmodernity, Decolonial Thinking, and Global Coloniality, California-USA , University of California Press, 2011, P24.
[34]– برتران بادي : الدّولة المستورَدة تغريب النّظام السّياسيّ، نقله إلى العربيّة: لطيف فرج، مراجعة: عومرية سلطاني، مدارات للأبحاث والنّشر، الطّبعة الأولى، القاهرة- جمهورية مصر العربية، يناير 2017، ص182-183.
[35]– انظر: المصدر نفسه، ص183-190.
[36]– برتران بادي: الدّولة المستورَدة تغريب النّظام السّياسيّ، ص131.
[37]– اُنظر: المصدر نفسه، ص135.
[38]– المصدر نفسه، ص138.
[39]– برتران بادي : الدّولة المستورَدة تغريب النّظام السّياسيّ، ص168.
[40]-Ramon Grosfoguel, Decolonization Post-Colonial Studies and Paradigms of Political Economy: Transmodernity, Decolonial Thinking, and Global Coloniality, California-USA, University of California Press, 2011, P26.
[41]– والتر د. منيولو: العصيان المعرفي، التّفكير المستقلّ والحرّيّة الدّيكولونياليّة، ترجمة: فتحي المسكيني، مجلّة الباب التّابعة لمؤسّسة مؤمنون بلا حدود الدّراسات والأبحاث، العدد 8، شتاء 2016، ص20.
[42]– Decolonial options and artistic/aestheSic entanglements: An interview with Walter
Mignolo, Torento-USA, Decolonization: Indigeneity, Education & Society Vol. 3, No. 1, 2014, p 198.
[43]– إدوارد سعيد: الثّقافة الإمبرياليّة، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب، الطّبعة الأولى، لبنان-بيروت، 1993، ص271.
[44]– المصدر نفسه، ص270.
[45]– Walter D. Mignolo: The Darker Side Of Western Modernity Global Futures, Decolonial Options, Duke of university press, Durham and London 2011, pp 252-295.
[46]– Dictionnaire de La Philosophie, Encyclopaedia Universalis, , Paris-France, 2016, Pp 1755-1756.
[47]– بيل أشكروفت وآخرون: دراسات ما بعد الكولونياليّة، المفاهيم الأساسيّة، ص177.
[48]– اُنظر: حوارات أجراها نيكولاس جين: مستقبل النّظريّة الاجتماعيّة، ترجمة وتقديم: يسرى عبد الحميد رسلان، المركز القوميّ للتّرجمة، الطّبعة الأولى، 2014، ص362-363 .
[49]– هوغو بوسو وأنخيليكا مونتويا: في نقد كولونياليّة السّلطة وعلاقتها بالإبستيمولوجيا الأورومركزيّة، حوار مع رامون غروسفوغل، ترجمة: البشير عبد السّلام، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، الرّباط- أكدال المملكة المغربيّة، 01 نوفمبر 2017، ص4.
[50]– اُنظر:
Sylvia Wynter: Towards the Sociogenic Principle : Fanon, The Puzzle of Conscious Experience, of “Identify” and What it’s Like to be “Black”, Edited by Mercedes Duran-Cogan and Antonio Gomez-Moriana, University of Minnesota Press, 1999, P29.
[51]– اُنظر: المرجع نفسه، ص31..
[52]– حوارات أجراها، نيكولاس جين: مستقبل النّظريّة الاجتماعيّة، ص369.
[53]– اُنظر:
Sylvia Wynter: Towards the Sociogenic Principle: Fanon, The Puzzle of Conscious Experience, of “Identify” and What it’s Like to be “Black”, P32.
[54]– Ramon Grosfoguel: Decolonization Post-Colonial Studies and Paradigms of Political Economy: Transmodernity, Decolonial Thinking and Global Coloniality, P24.
[55]– Michael Young: The Rise of Meritocracy, Bristol-UK, Penguin Books, 1985, pp 252-295.
[56]– للتّعمّق والفهم أكثر لمفهوم التّمثيل وصورة العالم الّتي ترتبط به يمكن الرّجوع إلى حواشي كلّ من الصّفحات: 424 و 425 و426 من هذا المصدر؛ بول ريكور: الذّاكرة، التّاريخ، النّسيان، ترجمة وتقديم وتعليق: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتّحدة، طرابلس- الجماهيريّة اللّيبيّة، حزيران/يونيو 2009.
[57]– للتّعمّق في فهم مشكل مفهوم “التّمثيل” في الخيار الدّيكولونياليّ، يمكن الرّجوع إلى هذا المرجع:
Decolonization: Indigeneity, Education & Society”, Decolonial options and artistic/aestheSic entanglements: An interview with Walter Mignolo, vol 3, No. 1, 2014, Pp198-199.