ملخّص:
يسعى هذا البحث إلى قراءة قصيدة أبي نواس “يا ساحر الطّرف” من خلال تأويل البؤرة التّخيّليّة وأبعاد التّرميز فيها. وما يميّز هذا البحث أنّه يستنطق النّصّ الشّعريّ، ويحاول أن يكشف عن مظاهر التّجريب فيه و إبراز دور استعارة السّيناريو والاستعارة التّصوّريّة في تشكيل المُتخيّل السّرديّ، والباحث – فيما تهيّأ له من دراسات – لم يعثر على دراسة لهذه القصيدة ولا للمُتخيّل السّرديّ في شعر أبي نواس عامّة و لا للآليّات الذّهنيّة الكامنة وراء التّجربة التي تتدخّل فيها عوامل شخصيّة ومرجعيّات مختلفة وتخييل ما، بل كان أغلبها إشارات – هنا أو هناك- في إطار الحديث عن التّجديد في شعر المُحدثين.
لقد كشفت هذه الدّراسة عن لغة ذاتيّة، جعلها أبو نواس، وسيلة يحقّق من خلالها مسعاه في الإدهاش والإثارة، بمرجعيّات تراثيّة.
وقد توصّلنا إلى نتيجة أساسيّة مفادها أنّ الإبداع، لدى أبي نواس، عمليّة ذهنيّة يتحكّم فيها الذّهن في بوتقة واحدة مع النّظام اللّغويّ خلال التّجربة، وأنّ التّجربة الجماليّة لديه خاضعة إلى عمليّات إدراكيّة ذهنيّة وتصوّرات وسياقات ومرجعيّات.
الكلمات المفاتيح: استعارة انشطار الذّات، رحلة جماليّة، فضاء عربيّ/فارسي، استعارة سيناريو.
Abstract:
This paper sought to read Abu Nawa s’ poem :(Yā Sāh ir al-T arf) (You with the Magic Gaze) under the interpretation of the imaginary focus and the dimensions of coding. What distinguishes this paper is that he questioned the poetic text and tried to reveal the manifestations of experimentation in it. He also highlighted the role of the scenario metaphor and the conceptual metaphor in the formation of the narrative imaginary, the mental mechanisms underlying the experience in which personal factors, different references, and imagination intervene.
The researcher did not find any study of this poem, nor of the narrative imagination in Abu Nawas’ poetry Min general, nor of the mental mechanisms behind the poet s’ experience, in which personal factors, different references, and imagination intervene. Most of the research consists of disconnected hints to the purpose of wine (Khamrīyyat).
This study reveals a self-language, which Abu Nawas has made, a means through which he achieves his quest for astonishment and excitement, with religious heritage. Last but not least, his aesthetic experience is subject to cognitive mental processes, perceptions, contexts, and cultural heritage.
Keywords: divided self-metaphor metaphorical scenario, aesthetic journey, Arabic-Persian space, sensory images.
1- تمهيد:
كثيرا ما تناولت الدّراسات النّقديّة النّزعة التّجريبيّة في قصائد المُحدثين. وقد اقترن مفهوم “التّجريب بـ “التّمرّد” و “التّفرّد” و “التّخطّي” للسّنن الجماعيّ. وقد عرّفه أدونيس بأنّه: “المحاولة الدّائمة للخروج من طرق التّعبير المستقرّة، أو التي أصبحت قوالب وأنماطا، وابتكارا لطرق جديدة. وتعني هذه المحاولة إعطاء الواقع طابعا إبداعيّا حرکيّا. وبناء على هذا إذن فهي عمل مستمرّ لتجاوز ما استقرّ وجَمُد، وهي تجسيد لإرادة التّغيير، ورمز للإيمان بالإنسان، وقدرته غير المحدودة على صنع المستقبل، لا وفقا لحاجاته وحسب، بل وفقا لرغباته أيضا”[1].
إنّ الباحث في المدوّنة الشّعريّة العربيّة القديمة يقف على سيل من الأشكال الشّعريّة التي تمرّدت على عمود الشّعر، وخرجت عن المعايير الشّعريّة السّائدة، ولو على بصورة جزئيّة، إلى مرحلة جديدة ترسم آفاق التّجريب في القصيدة وتطبعه بميسمه، “فلم ﯾﻌد اﻟﺷّﻌر وﻟﯾد اﻟطّﺑﻊ اﻟﺑدويّ اﻟﻔﺻﯾﺢ وإنّما ﺻﺎر نابعا ﻣن ﻗريحة ﻣدﯾﻧﺔ متوهّجة، ﺑﺎلثّقاﻓﺎت اﻟﻣﺗﻧوّﻋﺔ. وﻗد ﻛﺎن لزاما ﻋﻠﻰ اﻟشّعراء أن ﯾﺳتجيبوا ﻟواﻗﻌﻬم الجدﯾد وﻣﺎ ﻓﯾﻪ ﻣن ﻣﺗﻐيّرات. […] ودﻋوا إﻟﻰ اﻟتّمرّد ﻋﻠﻰ اﺣﺗذاء اﻟشّعر اﻟﻘديم ﻣن ﺟﻬﺔ وﺿرورة اﻻستجاﺑﺔ لروح العصر. وقد تمثّلت هذه الاستجابة في ﻟﻐﺔ الشّعر ومعانيهم”[2].
والبيّن أنّ التّجريب له عدّة تمظهرات، حيث حدّه محمّد صالح الشّنطي بأنّه: “العمل على ابتکار أشکال جديدة غير مسبوقة؛ وذلك باستخدام اللّغة على نحو جديد، أو توظيف الحاسّة البصريّة في تذوّق النّصّ، أو باستخدام الرّسوم واللّوحات التي يتمّ تشکيلها بواسطة الکلمات، أو بفتح النّصّ ليتحوّل إلى نوع من الکتابة تذوب فيه حدود الأجناس الأدبيّة ويستدعي نصوصا، لا حصر لها، حيث تصبح الکلمة إشارة عائمة في فضاء بلا حدود”[3]. فالتّجريب إذن يرتبط بعدّة عناصر معرفيّة ولغويّة، وإتقان لفنون القصّ، وفنون القول؛ ولنا في قصيدة “يا ساحر الطّرف” لأبي نواس نموذج سار فيه على نهج المجدّدين. والملاحظ أنّ التّجديد فيها صار غير مقتصر على عنصر واحد، بل هو مغامرة تجريبيّة مفتوحة.
- فما هي مظاهر التّجريب عند هذا الشاعر في هذه القصيدة؟
- وإلى أيّ مدى كان قادرا على ابتكار طرائق وأساليب جديدة تحرّره من البنية الأغراضيّة النّمطيّة؟
- وهل استطاع أن يضمّخها بلفتات إبداعيّة مغامرة وجريئة، ولمسات فنّية متفرّدة؟
2- التّقديم:
يتمثّل أبرز مظهر تجريبيّ في أشعار أبي نواس في أنّها لا تجسّد المحتوى بقدر ما تتجسّد في أنشطة ذهنيّة، والشّاعر يخضع إلى التّركيبة الشّخصيّة والنّفسيّة المتجذّرة في وعيه، كما أنّ الفكر الفارسيّ عنده له تركيبته الخاصّة به، وعندما تنظر في منظومته الشّعريّة كاملة تجدها مرتبطة بمفاهيم مخصوصة، يتبيّن الباحث فيها نمطا خاصّا من التّفكير ، في حين تميل المقاربات النّقديّة الحاليّة إلى وصف تأثيرات التّجربة، ونزعة الشّاعر إلى الثّورة على عمود الشّعر ،و شعوبيّته ،و وصفه الخمر دون رابط موضوعي ودون أداة إجرائيّة توحّد منظور الشّاعر وتحدّد معالم تجربته وسماتها .
فالشّاعر واقع تحت تأثير التّجربة وتشكيلها لإدراكه بعمق، و تحت تصوّرات مُتجذّرة فيه، يمكن أن تعيد تشكيل النّشاط الذّهنيّ للنّاقد المُحلّل، ممّا يخلق لدينا أشكالًا جديدة من الانتباه والإدراك بالانتقال من النّظريّة إلى التّطبيق العمليّ، واستخراج أشكال التّصوير من أشكال التّفكير ذاتها التي يغرسها هذا الضّرب من القصائد التجريبيّة.
وهو، إذْ ينشئ بالسّرد رحلة جماليّة متخيّلة، فإنّه يحمل معه في هذه الرّحلة كلّ خلفيّاته. إنّها رحلة ينشئها في علاقة بمدركاته من خلال الاستعارة التّصوّريّة أوّلا، وهي ليست أسلوبيّة فحسب، بل تلعب دورًا مهمًّا؛ دورا ثقافيّا تكوينيّا. وينشئها ثانيا من خلال ﺳﻴﻨﺎرﻳﻮ اﻷﺣﺪاث، على وجه الخصوص، وهاتان الآليّتان تجمعان بين صورة المُدرك وصورة المُتخيّل:
3- السّيناريو:
السّيناريو مفهوم مُحدّد في مجال علم دلالة الأطر (frame Semantics theory). وقد عرّفت بموضوعه وغاياته ومنهجه ومفاهيمه تشارلز فيلمور (Charles Fillmore). وهو إطار ذهنيّ ويتميّز عن بقيّة الأطر الإدراكيّة بكونه يحدّد الكينونات التي هي في حالة حركة كما يقوم بتمثيل الأحداث [4]. ونحن نفضّل هذا النّوع من الأطر لأنّه يناسب طبيعة نصوص المولّدين، إذ حصل تطوّر على مدى قرنين في الشّعر العربيّ، وأصبحت القصيدة في معظمها سردا، وأصبحنا إزاء شعر وقائع. فالوصف، والمشاعر، والمعنى الإنسانيّ الّذي فيه التّمرّد، والإقبال على الحياة، والفخر، والنّزعة القوميّة، كلّها معان تُصاغ في حكاية. وقد أصبحت قيمتها التّعبيريّة، بما تتضمّنه من مشاعر، ووصف تعبيريّ، أبلغ وأخفّ من الوصف الأيقونيّ. فهذا الإطار العرفانيّ من جهة أولى قادر على أنْ يتغلغل داﺧﻞ اﻟنّظام اﻟّلّغويّ، ويمكن أن تضيق مساحته بوساطة هذا الإطار أو تتّسع.
ومن جهة ثانية، فللسّيناريو كفاءة إجرائيّة عالية لأنّ دوره يبرز في النّمذجة الذّهنيّة للاستعارات على حدّ عبارة Wagner Franc فهو مرن للغاية في تمثيل المعرفة، ويلعب دورًا مهمًّا في تكوين البنى الثّقافيّة، وانتقالها. وبهذا المعنى فالسّيناريو يمثّل وسيلة حقيقيّة للحفر في المفاهيم عبر الثّقافات المختلفة وفي النّصوص الشّعريّة[5].
ولأبي نواس سيناريو استعاريّ متكرّر هو (سَكِرَ فَكَسَّرَ) صغناه بوساطة الاشتقاق الكبير، وهو عبارة عن بنية حدثية مُجرّدة، ومتكرّرة، تُشكّل البنية التّحتيّة للسّرد عنده، ويستعيرها من تجارب يوميّة لعلّ أبرزها سيناريو الرّجل الذي سكر ذات ليلة وكسّر كلّ شيء، تنفيسا عن غضبه، ولا مناص للباحث في شعر أبي نواس من معرفة كيفيّة تشكّل هذه الآليّة المنتجة للمعنى.
وهذا السّيناريو تجسيد للرّفض بمعظم تجلّياته، وألوانه بصفته جزءا من نسيج السّلوك الإنسانيّ في تبنّي رؤية كسر القيود، والتّمرّد عليها، ويتوسّل بها الشّاعر ليُضفيَ الانسجام على البنية السّرديّة، وليحقّق تجربته. وهي بنية حدثية متكرّرة عنده، وهذه البنية تتعلّى بالخيبات والحرمان من المتعة الحسّيّة بكلّ ضروبها. وعليه فهو يبني مُتخَيَّله من خلال استعارة سيناريو. وننوّه في هذا البحث إلى علاقة الشّاعر بمدركاته ووظيفة المُتخيل السّرديّ ودلالته على التّمرّد وكسر القيود.
4- استعارة انشطار الذّات (Divided Self Metaphor):
هذه الاستعارة التّصوّريّة اعتبرها جورج لايكوف موغلة في أمْثَلَةِ مُتصّور انقسام الذّات، وتبدّدها، وتكسّرها، وتفرّقها. وهي تعكس ازدواج الوعي لدى الشّخص (المجال الهدف) باعتباره إنسانا مجزّأ مُنقسما بين الذّات التي يشكّلها العقل والفهم والذّكاء والذّات التي تشكّلها الجوانب الجسديّة والعاطفيّة[6]. ونحن نستند إلى الاستعارة التّصوريّة انطلاقا من كونها نموذجا عرفانيّا، ونموذجا تفسيريّا يتوجّه إلى الذّهن وتصوّراته من أجل استثماره في النّصّ الإبداعيّ، وقد وظّف أبو نواس استعارة انشطار الذّات إما عن وعي أو عن غير وعي.
ونحن نستخدم هذه الاستعارة في التّعابير اليوميّة مثل قولنا: جعلت نفسي أذهب إلى العمل، ولست أنا اليوم، هو يتقدّم على نفسه، وذهبت نفسه حسرات، وأنا مشتّت، وجمّع أفكارك! والمثير للاستغراب أنّه لا توجد دراسة إلى حدّ الآن تأخذ في الاعتبار تأثير نظام الذّات المنقسمة في اللّغة الأدبيّة، وتُقرّ بدور هذه الاستعارة التّصوّريّة في منح النّصوص تناسقًا مفاهيميًا وموضوعيًّا.
تتمثّل أهمّ الإشكاليّات التي سنشتغل عليها في:
- ماهي مظاهر التّجريب وآليّاته في المُتخيّل السّرديّ؟
- وما هو دور الاستعارة والسّيناريو في انسجام المُتخيّل السّرديّ؟
- وكيف تنصهر مرجعيّات الموروث الدّينيّ مع أساليب السّرد والتّصوّرات الذّهنيّة ونفسيّة الشّاعر الذي تتّسم بصفة التّمرّد؟
لعلّ الخيال الشّعريّ لأبي نواس ثمرة لتكوينه النّفسيّ والفكريّ، فمن هو أبو نواس؟
أبو نواس وهو الحَسَن بن هانِئ بن عَبد الأَوَّل بن الصَّباح الحكِّمي المَذحَجي المكنّى بأبي عَليَ (145هـ – 198هـ) (762م – 813م)، تمتّع بمقدرة أدبيّة ولغويّة مهّدت له الطّريق ليتصدّر مجالس العلماء، ويُشاركهم الحديث فيها، بشهادة العديد من علماء عصره من أمثال الجاحظ الذي مدح فصاحته بالكلام وعلمه الواسع باللّغة، إضافةً إلى ابن قتيبة، والأصفهاني، وأبي عبد الله الجمباز، وغيرهم.
ومن هنا تمحورت شخصيّته الشّعريّة المتفرّدة والمميّزة التي جمعت علوم عصره وجعلته عالمًا وشاعرًا غزير اللّغة، بعيدًا عن التّقييم الأخلاقي والدّيني، والكذب الفنّي، ومعايير الجودة في الشّعر القديم[7]. وهو شاعر الخمريّات، ومعظم شعره في صفة الخمر والتّغنّي بها وفي تعظيمها درجة التّأليه. وشعره صورة من تجاربه؛ من ندائه بالملذّات في الخمريّات والجنس المثليّ. وهو في الواقع من أوائل الشّعراء “المحدثين” الذين تمرّدوا على أسلوب الوقوف على الأطلال في الشّعر البدويّ الجاهليّ الذي تؤطّره الصّحراء، و”البكاء على بقايا الماضي” لتسليط الضّوء على الخمرة التي تطوّرت من كونها رمزا للكرم في مجتمع البادية والفرسان إلى الخمرة التي تؤثّث فضاء اللّهو، وتحدث فيه القصص المُشوّقة ذات البداية والوسط والنّهاية، والمغامرات الذّكوريّة. فتشكّلت بذلك علاقة جديدة بين الذّات والعالم في الفضاء المدينيّ لبغداد وأصبح الشّعر يميل إلى السّرد والحكي.
ونحن هنا نحتاج إلى دراسة شاملة لمظاهر التّجريب وآليّاته، فالقصيدة لا تفاجئ المُتلقّي لجرأتها، بل بهذا التّغيير الجذريّ في ﺭﺅﻳﺔ الشّاعر، وفي أسلوب ﺗﻌﺎﻣﻠﻪ ﻣﻊ ﺍﻟلّغة، وﻏﻠﺒﺔ صوت المُتكلّم الفرد، ففيها برزت قدرة الشّاعر على بلوغ تخوم التّخيّل السّرديّ المُستلهَم من التّراث، إذ يُنشئ اجتماعاً خياليّا بينه وبين إبليس، ويستعير قصّة طوفان نوح، ويؤكّد بذلك أنّ الشّعر لا يمكن له إلاّ أن يكون ذاتيّا وإنْ تناوله الشّاعر داخل غرض؛ وهي لعمري طبقات لغويّة غير مطروقة في شعريّة أبي نواس؛ ثم إنّنا نجد “تموّجات” نفسيّة مختلفة حضرت بطريقة واعية أو غير واعية تناسب الأغراض الشّعريّة السّابقة منها الفخر، والغزل العذريّ والإباحيّ، وتنبني اللّغة الشّعريّة لديه على التّوصيف المشهديّ السّرديّ المُتخيّل للأحداث؛ إذْ يربط فضاء السّرد الحدثيّ بفضاء الشّعر الاستعاريّ الصّوريّ، وللثّنائيّات الضّدّيّة المُتشكّلة ضمن أنساق ضدّيّة: (محدود/ لامحدود)، (مقدّس/ سفليّ)، (حاضرة/ بادية) دور أساسيّ ﻓﻲ تشكيل بنيتها التّحتيّة والمضمون الإجمالي للنّصّ كلّه، وهي ترسم منعرجات الرّؤيا الشّعريّة في القصيدة، وتُجسّد كنه ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ بيْن المتخيّل السّرديّ والشّعريّ والبنية السّرديّة.
5- بنية القصيدة:
تمزج القصيدة على المستوى الفني بين غرض الخمريّات وغرض الغزل بالمُذكّر، فهي مغامرة ذكوريّة مسرحها اللّيل حيث اللّهو والخمر والمجون، بدأها الشّاعر بالغزل وبعد ذلك انتقل إلى وصف الخمرة التي في نظره هي سبب ﺍﻟﺘّﺴلّي، ﻭنسيان ﺍﻟﻬﻤﻭﻡ ﻭاحتضان النّشوة التي تأسر الحواسّ، ﻭهي سرّ الحياة تُحلّق به بعيدا ﻋن الهموم حيث اللاّمحدود واللاّنهائيّ وحيث بؤرة الدّلالة في القصيدة كلّها المُتّشحة بصوت الذّات الشّاعرة، وقد وردت شكوى الدّهر مفتعلة في القصيدة (ب 4) طغى عليها الوصف “الأثيريّ” للخمر. وفي آخر القصيدة يصف الشّاعر مشهدا جريئا،إذ يأتي على تأثير الخمر، ومجريات الجلسة الخمريّة التي تنعقد تحت رعاية إبليس مُركّزَةً في حيزها التّصويريّ الحسّيّ المرئيّ، وينتهي إلى مشهد جنسيّ على مائدة الخمر؛ وهو في كلّ ذلك يجعل الموروث الإسلاميّ والمسيحيّ ستارا خلفيّا للقصيدة، فالمرجعيّات التّراثيّة مثل إبليس ونوح و الكنيسة تُشكّل الأوجه الخلفيّة المخفيّة للسّرد.
ويستند الشّاعر إلى ثنائيّاب ضدّيّة، فالقصيدة في الأساس نوع مقابلات، وكذلك تقوم على المزج بين غرضين شعريين مختلفين في سياق واحد: بين غرض الغزل وتنطوي معانيه على روح شفّافة ونفس مرهفة تشكو رقّة الحال، وغرض الخمريّات وفيه بنى تجربته اللاّهية، وثنائيّة في المكان: الكنيسة / والمكان اللّاهي، وقد أثمرت بدورها العلاقات الثّنائيّة المتنامية، وكرّست هذه الثّنائيّة الضّدّيّة استقطابا أوّل واضحا، وهو المقدّس المنوط بالرّوح، ويحمل الطّرف الثّاني التّجربة الإيروسيّة المنوطة بالجسد.
وفي دراستنا نحاول تسليط الضّوء على جوانب مهمّة من القصيدة، ونسـيج لغتها، وأسرارها الجماليّة في محورين: محور الصّور ومحور الثّنائيّات الضّدّيّة، فالشّاعر يقيم علاقة متشابكة بين تلك القدرة التّجسيديّة للصّور الغزليّة، وبين رسم صوره الخمريّة من جهة، وبين تلك الثّنائيات الضّدّيّة التي جاء النّصّ زاخرا بها، وبين اللّحظة الشّعوريّة؛ فغـدت فضاء مشحوناً بالدّلالات من جهة أخرى، وهي تضع القارئ في لحظة زمانيّة ومكانيّة أمام خطوط متشابكة، وألوانٍ متداخلة تشكّل النّسيج السّرديّ والشّعريّ في آن معا، فقد ولّدت الثّنائيّات الضّدّيّة فضاءً متحرّكاً وصانعاً للمغامرة. وقد نزع الشّاعر إلى التّخييل والإِمْعَان في التّوصيف المشهديّ الحسّيّ؛ ونقصد بالتّخييل “كلّ تعبير عن تجربة حسّية تُنقل خلال السّمع أو البصر، أو غيرهما من الحواسّ إلى الذّهن، فتنطبع فيه، أي إنّ هذه الحواسّ كلّها، أو بعضها تدرك عناصر التّجربة الخارجيّة، فينقلها الذّهن إلى الشّعور، ثمّ يعيد إحياءها، أو استرجاعها بعد غياب المنبّه الحسّيّ بطريقة من شأنها أن تثير الإحساس الأصيل في صدق وحيويّة”[8]. فالذّهن محتاج في كثير من اعتمالاته إلى الحواسّ لترجمة تلك الاعتمالات، فتكون الحواسّ أهمّ وسائل الذّهن في الاستقبال والبثّ[9]. وبهذا المعنى فالمُتخيّل هو الصور وما تثيره من انفعال وهو أيضا المجهود الذي يُدفع إليه المتلقّي لإدراك الصورة. وقد غلب التّشكيل البصريّ للمعنى، إذ نجد الشّاعر يرسم بالصّورة الحسّيّة البصريّة، لذلك جسّدت القصيدة لوحات منقولةً بدقّة، استعرض خلالها لوحة الغزل، ويصف فيها العيون التي تصرعه، و لوحة الخمر التي تشعّ ألوانا وﻓﺘﻨﺔ، ولوحة الجنس، ويعرض فيها مشهديْن: مشهد قصف و عشق ومشهد تمايل الغلام وتثاقله بسبب وهن الجسم والعقل.
5- 1- لوحة الغزل:
يرسم أبو نواس لوحة غزل العيون ونحن بإزاء شاعر غزِلٍ تَحرَّرَ من كلّ القيم إلاّ من عبوديّةِ الحسنِ، وتكتسب اللّوحة قيمتها من كونها ترسم الجوّ النّفسيّ للشّاعر، وحرارة الوجد فيبدو موزّع النّفس مقهورا؛ ثمّ تغدو قادحا للبحث عن روح الأشياء وما يملأ فراغ روحه، واستثارة الرّوحيّ اللاّمحدود واللاّنهائيّ وهو يطلب كلّ ذلك في الخمرة. يقول [البسيط]:
يَا سَاحِرَ الطّرْفِ! أَنْتَ الدَّهْرُ وَسِنَانُ *** سِرُّ القُلُوبِ لَدَى عَيْنَيْكَ إعْلانُ
إِذَا امْتَحَنْتَ بِطَرْفِ العَينِ مُكْتَتَمًــا *** نَادَاكَ مِنْ طَرْفِهِ بالسِّرِّ تِبْيَـــــــــــــانُ
تَبْدُو السَّرَائِرُ إِنْ عَيْنَاكَ رَنّقَتَـــــــــــــا *** كَأنّمَا لَكَ فِي الأوْهَامِ سُلْطَــــــــــانُ
مَالِي وَمَا لَكَ قَـدْ جَزّأتَنِي شِيَـعًــــــــــــا *** وَأَنْتَ مِمَّا كَسَانِي الدَّهْرُ عُرْيَـانُ
أرَاكَ تَعْمَلُ فِي قَتْلِي بِلاَ تِــــــــــــــرَةٍ *** كَأَنِّ قَتْلِـي عِـنْـدَ الــلَّهِ قُـرْبــَـــــــــانُ
غَادِ المُدَامَ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَــــــــــــــةً *** فَلِلْكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ غُفْــــــــــــــرَانُ
والطّريف أنّه جرّد من نفسه ذاتا منفعلة، تعاني الجوى، وتأمره بأن ينفتح على وصف الخمر: (غَادِ المُدَامَ) وأن يترك المعاناة، وقد وظّف الشّاعر ألفاظا تمتاز بالرّقّة والعذوبة والشّفافيّة، بعيدة عن الوحشيّة، والغرابة؛ من حيث حمولتها ومعانيها وقيمها ورؤاها.
في هذه اللّوحة يشكو الشّاعر من الحبيب المُدلّ بجماله (الغزال) ، ويُريك عينيه، وسحر طول رموشه، وغنجه، ويأتي بنسيب مستطرف: القتل باللّحظ، معتبرا ذلك عملًا مقدّسًا لحساب خدمة الله، على أنّ صاحب اللّحظ المُسمّى بساحِرِ الطّرْفِ يمكن أن يكون ساقيَ النّبيذ، و يمكن أن يكون النّديم ﻓﻲ الجلسة الخمريّة، وهو بذلك يمزج بين ما هو خمريّ مجونيّ، و ما هو غزليّ في هذه القصيدة، ويتعادل في صوره الجموح الشهويّ مع الوجد. فالشّاعر يرسم حركة وجدانه؛ ويأخذنا برسم مشهدٍ حالمٍ يبنيه لنا في هَيْئة هذا المتغزّل به وهو يسبل عينيه غنجاً. ويبدو الشّاعر متقنا لغة العيون الفاضحة والشّفّافة، وهي تُفضي بالغرام رغما عنها، ويصوغها في فضــاء قائم على ثنائيّتين متقابلتيْن (تِبْيَانُ/مُكْتَتِمَا، سِرُّ/ إعْلاَنُ) فالعين من أشدّ المفاتن تأثيرا تنطق وتشي بأسرار الهوى، وتبدي الذي في نفس صاحبها رغما عنه، والرّموش تحفّها، وهي في الجفن، ظِلٌّ يطَوَّق غنجه، وتبثّ الشّاعر معنى التّدلّه في الغرام، وﺗﻨﺎﺩﻱ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ، ثمّ تتمنّع فتعلق بقلبه؛ فنحن في هذه اللّوحة إزاء الغزل بالعيون، وقد تمحّض الغزل لَهَا وبِهَا. والشّاعر يتوسّع ﻓﻲ تصويره للعين بحدّة ﺍﻟﺴّﻴﻑ ﻭمضائه (قـد جَزّأتَني شِيَـعـاً) وفيها القوّة والفتك ( بِلا تِرَةٍ ) بعبارة الشّاعر أيْ بلا ذنب، وهذا النّسيب تقليديّ إلّا أنّ هذا الصّراع بينه وبين الحبيب الذي يؤول إلى سفك الدّماء في إطار الفداء والقتل المُقدّس جديد (كَأَنَّ قَتْلِـي عِنْدَ الــلَّهِ قُـرْبَــانُ)؛ وإنّ توجيه الغزل هذه الوجهة يربطه باللّحظة الشّعوريّة. فغـدت هذه اللّحظة، فضاء مشحوناً بالصّراع وانشطار الذّات وتشظّيها، والشّاعر، وهو يلتفت إلى شكوى الدّهر (ب 3)، ويرسم شعوره ﺑﺎﻟيأس بسبب الدّهر الذي غمره بالرّزايا، استعار الكساء ليفيد الإحاطة والشّمول؛ فكأنّما تمكّنت منه وشملته كما يشمل اللّباس صاحبه ويحيط به. فهو مكسوّ ولكن بالرّزايا، ﻭقد قابل بين حاله وحال الحبيب غير المبالي، وهذه مقابلة أنشأت الصّراع عند الشّاعر، وفي ذلك ﻣﺎ يُشعر بسخطه، ﻭتبرّﻣﻪ من الدّنيا بمتاﻋﺒﻬﺎ ﻭنكدها، فيصوغ هذه الوجدانيّات من خلال استعارة الانشطار؛ ﻭيحدث الانشطار الذّاتيّ عندما يكون لدى الشّخص جانبان غير متوافقين: مثل العقل والعاطفة، والشّاعر منشطر الكيان، والسّبب في هذا حالة افتتانه بالنّديم في المُتخيّل الذي يبنيه، و في هذا الإطار قدّم لايكوف (1993،1996) وصفًا تفصيليًّا للنّسق الاستعاريّ للذّات المنشطرة، فالشّخصيّة لها بعدان متصارعان: الوعي والعقل من جهة، والذّات من جهة ثانية، وهي موضع الأهواء والاحتياجات.
ويتجلّى انشطار الذّات، ﻓﻲ ﺳﯾﺎق سعْيها إلى اﻟوﺻول إﻟﯽ ﺣﺎﻟﺔ اﻻﻣﺗﻼء، وهذه الاستعارة ﻣﺘﺠذّﺭﺓ في ﺍﻟتّجرﺑﺔ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴّﺔ وفي النّصوص الشّعريّة والأدبيّة، وهي جزء من النّسق التّصوّريّ، وتمثّل آليّة جوهريّة في فهمنا لتجربة أبي نواس[10]؛ فالشّاعر يقمع شغفه خلال النّهار بتحكيم الجانب العقلانيّ، ويمارسه في ظلام اللّيل، فيستعيد السّلطة على الذّات، ويستعيد توازنه في مغامرة ليليّة مهّد إليها برحلة جماليّة هي رحلة الحسّ.
ومن منطلق رحلته التي يخاطب فيها نفسه ( غَادِ المُدَامَ) يطلق لخياله العنان من الضّيق والصّراع؛ ومن ثمّ ينطلق وراء اللاّمحدود والمطلق، وليس بالضّرورة أن يكون صراعا داخليّا إثر هجـران حقيقيّ عاشه الشّاعر؛ فهو يرسم ضيق النّفس وتبرّمها بكلّ ما هو محدود، أو هي شكوى ذاتيّة يتعرّض فيها لحال هذه النّفس وقد أصبح عقله مفتوحاً على الأفق، يتجادل، يحلّق مع روحه في الفضاء الواسع، بمعنى أنّه خلق من الغزل وسـائل تحول مناسبة تعمل على اتّساع أفق الحالة النّفسيّة من خلال فعل أمر “غَادِ المُدَامِ”؛ أي أغد وأذهب هناك حيث الخمر والنّدماء؛ فمشاعره ﺗﺘﻔﺎﻋﻞ في النّفس ﺣﺘّﻰ ﺗﻜﺎد تفجّر الدّوالّ الكامنة التي تستشرف آفاق الحسّ الجماليّ، و ﺗﻜﺎد تتفجّر بالأفق الشّاعريّ..
هنا نقف على ربط الصّورة بنفس الشّاعر، وقد نشأ ذلك خلال رسم الشّاعر حدّاً لحركة وجدانه، لتقديم تجربته الحسّيّة، فيـودع انفعـال الدّاخل أو المونولوج الدّاخليّ (صوت الذّات لتنبيه صاحبها المنادى للإقبال على جلسة خمريّة) أمام الخارج، أي رؤية الدّاخل للخارج من جهة، واستجابته لهذا الخارج من جهة أخرى، وتنتقل كلّ هذه الأحاسيس من وجدان الشّاعر إلى حركة القصيدة.
لقد حوّل اللّغة إلى منجز سرديّ، فتحوّل السّكون إلى الحركة، وكان لا بدّ من زخم الحركة ليمنح النّفس مساحة شاسعة منداحة كي تتجوّل منطلقة، أو كي تقطع أشواطا مديدة أو منفتحة الأمداء، فجاء فعل الأمر” غَادِ”، ويتضمّن في ذاﺗـﻪ دﻻﻟـﺔ حركيّة ولمّا كان صعود الذّات فوق ﻧﻔﺴﻬﺎ، وفوق الصّراع ﻣﺘّﺠﻬﺔ نحو الارتحال إلى اللاّمحدود، فقد منح أطره المكانيّة مجالاً حرّاً، منفتحا على جميع الجهات، فأبو نواس لم يحدّد المكان الذي سينضمّ فيه إلى المجلس الخمريّ. وإنّ هذه المساحة هي مساحــة حلــم شكّلتها نزعة نفسيّة هي الميل إلى المتعة والمغامرة في سبيلها، فالقصيدة بناء تخييليّ فيه صور، وإيقاع، ووصف، واستكمل وجوده بالحركة.
5- 2- اللّوحة الخمريّة:
جسّدت اللّوحة الخمريّة، خروج الصّورة من الغنائيّة وشكوى الدّهر، والحرمان (في لوحة الغزل) إلى فضاء السّرد؛ وأبو نواس لم يحدّد المكان الذي سينضمّ فيه إلى المجلس الخمريّ ﻟﻴﻨـﺘﺞ مكاناﹰ مُتخيّلا عند القارئ. ولأبي نواس أشعار في وصف الخمر، تصل حدّ التّقديس، وقد استفرغ شعره بصفة الخمر، فجعل وصفها كما يُقال كدّه ووكده وقصده ومشغله، فأكثر من التّشخيص والتّجسيد، فشعره زاخر بالأوصاف، وﺎلمآثر كأنّما يتّخذ عناصره من الأحساب، والأنساب، والأيام والمآثر، والمثالب، غير أنّه في هذه القصيدة وجد ملاذا وموضوعا سرديّا يؤثّث به رحلته من الافتتان بالنّديم إلى معانقة تجربة الحسّ؛ وجد ملاذا لتفجير شاعريّته، وجزالة لغته، وثرائها من خلال بعض مرجعيّات المتخيّل السّرديّ، ومن ضمنها مرجعيّات المتخيّل الدّيني يقول [البسيط]:
صَهَبْاءُ، تَبْنِي حَبَاباً كُلَّمَا مُزِجَـــتْ *** كَأَنَّهُ لُؤلُؤٌ يَتْلُوهُ عُقْيَـانُ
كَانَتْ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ فِي سَفِينَتِــهِ *** مِنْ حَرِّ شَـحَنَـتِهَـا وَالأَرْضُ طُـوفَانُ
فَلَمْ تَزَلْ تَعْجُمُ الدُّنْيَا، وَتَعْجُمُهَـــا *** حَتَّى تَـخَـيّرَهَا لِلْخَـبْءِ دْهْـقَــانُ
فَصَانَهَا فِي مَغَارِ الأَرْضِ، فَاخْتَلَفَــــتْ *** عَلَى الدَّفِينَةِ أزْمَانٌ وَأَزْمَـانُ
بِبَلدَةٍ لَمْ تَصِلْ كَلْبٌ بِهَا طُنُبًـا *** إِلَى خِبَاءٍ، وَلاَ عَبْسٌ وَذُبْيَـانُ
لَيْسَتْ لِـذُهْـلٍ، وَلاَ شَيْبَانَا وَطَنًـا *** لَكِنَّهَـا لِبَني الأَحـْرَارِ أَوْطـَـانُ
أرْضٌ تَبَنّى بِهَـا كِـسْـرَى دَسَـاكِــرَهُ *** فَمَـا بِهَـا مِنْ بَنِي الـرَّعْـنَاءِ إِنْسَـــــــــانُ
وَمَا بِهَا مِنْ هَشِيمِ العُرْبِ عَرْفَجَـــــــةٌ *** وَلاَ بِهَا مِنْ غِذَاءِ العُرْب خُطْبَــــــانُ
لَكِنْ بِهَا جُلّنَارٌ قَدْ تَفَرّعَـــهُ *** آسٌ وَكَـلّلَـهُ وَرْدٌ وَسُـوسَــانُ
فَـإِنْ تَنَـسَّـمَـتْ مِـنْ أرْوَاحِهَا نَسَمًـــا *** يَوْماً تَنَسَّمَ فِي الْخَيْشُومِ رَيْحَــــانُ
رسم الشّاعر لوحات فنّية للخمر تتعدَّد فيها مواطن اللّذَّة، لتستثير جميع الحواسّ من ذوق، وشمٍّ، وبصر، ولمس، وسمع، فيصفها في غزارتها وتلوّنها، ثمّ يوغل في وصف قدم الخمر، وما مرّ عليها من الحقب إلى وصف أصلها وجوهرها، فهي من أرض كسرويّة برحيقها إلى وصف عطرها يقول [البسيط]:
صَهَبَّاءُ، تَبْنِي حَبَاباً كُلَّمَا مُزِجَتْ *** كَأَنَّهُ لُؤلُؤٌ يَتْلُوهُ عُقْيَانُ
يقدّم وصفة للخمرة حسب اللّون “الصّهَبَّاُء” ( اللّون الأَصفر الضّارب إلى شيءٍ من الحمرة والبياض)، ﻭيصفُ الشّاعرُ الخمرَ في حالة امتزاجها بالماء، إذ تتراءى مثل سبائك الذّهب صافية مضيئة، وهي تأتيه من صميم عاطفته وأشواقه، فاللّون في استعارته يمتزج فيه الإدراك البصريّ والإحساس النّفسيّ: فالألوان تعبّر عن مدركات بصريّة مرئيّة يراها الشّاعر في اللّؤلؤ، والذّهب؛ لأنّه دوما ينظر إليها بلحاظ التّعلّق بها لا بلحاظ لونها، فالمشهد اللّوني جاء بعد شكوى الدّهر؛ وذلك حتّى يبرز قدرة الخمر على تسرية الهموم والتّلاعب بالعقول. وهذا اللّون سيكون عاملا أساسيّا في سير الأحداث لأنّه سينثني على وصف قدمها، وتعتيقها، وجوهرها اللّطيف من جهة؛ وأصلها الفارسيّ من جهة أخرى.
يتغنّى الشّاعر بأصل الخمر وجوهرها في ثنائيّات وقد خيّل كلّ هذه في صور ومشاهد: في الثّنائيّة الأولى– سفينة نوح/ مَغارِ الأرْضِ: فهي خير ما شُحن في سفينة نوح، حيث انتقاها في سفينته، سفينة النجاة بعد اندياح الطّوفان، وقد حمل فيها من المؤن ما يكفي، وعند انحسار المياه/العَذاب يطلق الشّاعر العنان لحياة جديدة، متجدّدة؛ فهي تضمّ مشهداً خلق تفاصيل متناغمة : إذ تتجلّى هذه ﺍﻟﺼّﻴﺎﻏﺔ المكانيّة ﺍﻟمشهديّة ﺍﻟمتناغمة ترسيخاً في ذهن القارئ ﻟصورة السّفينة في عرض البحر، حيث الإثارة المشهديّة الحسّية المرئيّة للسّفينة، في صراعها وانتصارها على غضب الطّبيعة، ليُعيد ربّانها نوح تشكيل الحياة، وإِحْداث دورتها المتجدّدة، والخمر امتداد لهذه الرّمزيّة، فهي ابنة الطّبيعة والحياة، والخصب، وهي تمرّ في رحلتها، عبر الأزمان، من سفينة نوح إلى باطن الأرض، وهي في قدمها تغالب الدّهر، والحدثان حتّى ظفر بها دهقان ماكر كامن يتحيّن الفرصة، وتخيّرها بالدّفن، و واراها عن الزّمان.
ويقصد أبو نواس بطمرها في الأرض أنّها معطّلة عن أدران الحياة وعن نوائب الدّهر، وإنّ في تحوّلها من سفينة نوح إلى مَغارِ الأرْضِ لتمثّلا رمزياّ لجزء من منظومة تراثيّة دينيّة سامية تشكّل صورة حسِّية، تستدعي معنى الرّفعة، والعلوّ المتسامي، والقداسة، فمجموع التّحوّلات، وما رافقها من تلبّس لوجوه مختلفة نقلت الخمر من حال إلى حال؛ من حال القداسة إلى حال التّنزّه. كذلك فإنّ الوصف الأثيريّ للخمر، بما هي من زمن نوح، ثمّ طُمرت في دنانها يلقي بظلال أسطوريّة ودينيّة، فالمُتخيّل مشحون بظلال وأحداث بسيطة وجماليّات فنّية سحريّة وعجائبيّة.
وأمّا– الثّنائيّة الثّانية [البسيط]:
وَمَا بِهَا مِنْ هَشِيمِ العُرْبِ عَرْفَجَـــــــةٌ *** وَلاَ بِهَا مِنْ غِذَاءِ العُرْب خُطْبَــــــانُ
لَكِنْ بِهَا جُلّنَارٌ قَدْ تَفَرّعَهُ *** آسٌ وَكَـلّلَـهُ وَرْدٌ وَسُـوسَـــانُ
فمن خلالها ينشئ أبو نواس مقابلات بين الأرض التي طمرت فيها الخمرة الّتي تنتج الزّهور الحضريّة مثل الآس والجُلّنار والورد والسّوسان، لكونها منبتا لزهور توحي بقمّة توهّج الحياة، يتجدّد النّماء فيها، وتزداد تألّقاً وازدهاءً من جهة، وبين بادية الصّحراء، وتنتج العرفج، والخُطْبَانُ، تتّصف بقصور في العطاء، وقد تعرّت من الخضرة لون الخصب، والنّعيم من جهة أخرى.
ومن هنا فإنّ أبا نواس يعُدّ الأرض التي عُتّقت فيها الخمرة رمزاً للخصب يضرب المثل في الجمال بمنأى عن أرض القبح والقحولة والموت، فهذه صورة حسّيّة تنبّه ﺍلحواسّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﺭﻭﻕ بين ألوان الزّهور؛ فقد ميّز ﻟﻭﻥ ﺍﻟزّهر الأحمر والأخضر ﻋﻥ لونه وهو قاتم أصفر ﻭأسود، والصّورة أخذت معنى المقابلة بين ﺃﺭﺽ خصبة حيّة ﻭﻓﻴﺭﺓ، وأخرى جدباء، فنحن إزاء الصّورة، في حركتها المشهديّة الحسّيّة المرئيّة المباشرة المجسّدة. وهو يتعمّق في الصّورة تفصيلاً وتركيباً واستنباطا، إذْ يقول [البسيط]:
لَيْسَتْ لِـذُهْـلٍ، وَلاَ شَيْبَانَا وَطَنًــا *** لَكِنَّهَـا لِبَني الأَحـْرَارِ أَوْطـَـــانُ
أرْضٌ تَبَنّى بِهَـا كِـسْـرَى دَسَـاكِـرَهُ *** فَمَـا بِهَـا مِنْ بَنِي الـرَّعْـنَاءِ إِنْسَــانُ
فهو لا يكتفي بأن يجعل الخمرة دفينة بل يذكر الأرض التي دُفنت فيها، وهي أرض كسرى وينسبها إلى بني الأحرار، ولفظه الأحرار كناية عن الفرس وشرف مقامهم في مقابلة ضدّيّة مع السّفلة الأَدْنون الرّعاع من النّاس، وهم ذُهْـل وشيبان، وهم يحيوْن في جحيم عيش ضئيل، في ظلّ حياة عقيمة وفارغة ورتيبة، و شعر أبي نواس شاهد على تقديره لتاريخ الفرس وحضارتهم، فهي الحضارة المثلى في ناصية خيال الشّاعر، فالتّناسب بينهما يعني بين هذه الحضارة وبين الخمرة نُلفيه ماثلا في ذوقها المرهف وحسّها العالي ومزاجها، وفي البيتين استحضار للحضارة الفارسيّة من خلال كسرى ولحضارة العرب من خلال بعض قبائلها (ذُهْـل و شيبان).
و” إنّ ذكر النّواسي لكسرى-فيما يبدو- لا يقصد مجرّد القدم، بل فيه إشارة إلى كرم النَّسب، فالخمرة المنسوبة إلى كسرى هي أجود الخمور”[11] ويسقط دواخله، فهو يجاري نزعته الشّعوبيّة وميله إلى الفرس. وهو يمضي في رسم صوره المركّبة الحسّيّة البصريّة الحركيّة الشّمّيّة، إذ يقول [البسيط]:
فَـإِنْ تَنَـسَّـمَـتْ مِـنْ أَرْوَاحِهَا نَسَماً *** يَوْماً تَنَسَّمَ فِي الْخَيْشُومِ رَيْحَانُ
فيخلع على الخمرة النّفس، إذ يستعير جزءا من الخلق، وهو التّنفّس، ويسبغه على الخمرة على أنّ النّفس الذي ينسبه إليها له خصائص عطريّة شبيهة بالرّيحان، فتتخلّق هذه الصورة التي توحي بالرّائحة في تضاعيف الاستعارة التّشخيصيّة لتمنحها نسيجا من النّموّ المطّرد، والحيويّة، والانتشار؛ ﺃﻱ إنّها توحي بأكثر من ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ الظّاهر، فهي تُمنح ﺣﻆّ النّسيم في اﻻﻧﺘﺸﺎر، ولها عبق الزّهور؛ تُرسِلُ أنفاسَها المُعطّرة بالرّياحين، ولها حظّ النّفس عند الخلق من الحركة السّريعة، فالصورة إذن ليست مجرّد انعكاس ﻟﻟﻭﺍﻗﻊ ، وهي ليست صورة ناجزة وإنّما هي تنمو حتّى تكتمل في مُخيّلة القارئ المتقبّل. وهي صورة عطريّة شمّيّة يستكمل بها لوحة الأجواء المُتخيّلة. لقد جعل أبو نواس ﻣﻦ ﺃﺑﻴﺎﺗﻪ، في وصف الخمر المُعتّقة، لوحة جميلة تخطف ﺍﻷﺑﺼﺎﺭ، وخلع عليها أوصافا جعلتها ينبوع هذه الطّاقة الرّوحيّة العظيمة، ثمّ تأتي مرحلة مباشرتها مع الأصفياء، ﻭتأتي طقوس المعاقرة وآداب المنادمة في لوحة اللّيلة الخمريّة.
لقد جسّدت اللّوحة الخمريّة، في هذا المقام، خروج الصّورة من الغنائيّة، وشكوى الدّهر، و الحرمان إلى فضاء السّرد من خلال الفعل (غاد) ، فكأنّها رحلة الألوان وحفلة الحسّ أو كأنّها مدخل إلى الحسّ والمتعة؛ فالذّوق والحسّ والصّوت هو إمتاع لجميع الحواسّ، ثمّ ستنضاف حاسّة اللّمس في لوحة الجنس، فاللّوحة الخمريّة شكّلت مرحلة انتقاليّة من حالة الافتتان بالغلام إلى حالة الإشباع، وكأنّها سرّعت العمليّة واللّقاء وحلّت مشكلة العشّاق، والمدام هي آداة لتسريع الانتقال من الشّهوة إلى الإشباع، وقد وظّفها أحسن توظيف، فكأنّ العاشق افتكّ حقّه، وكأنّي بالمقابلات غدت نفسيّة وليست لغويّة.
هكذا يُنشئ أبو نواس رحلة جماليّة الغاية منها إشباع كلّ الحواسّ، ويخيّل الجمال المطلق والمثل الأعلى الماثل في الحضارة الفارسيّة، ويحمل معه ماضيه الجماعي، وخلفيّته الجماعيّة والفكريّة، وصراعاته الثّقافيّة، وهي جزء من شخصيّته بصفته فارسيّا في فضاء عربيّ مهيمن، والشّاعر يعيش انشطار الذات بين عالمين، وقد جعل القصيدة تجسيدا للوجود العربيّ في فضاء فارسيّ على أنّه تجسيد ينطوي على معطى شوفيني، فهو يحطّ من قيمة العرب ومن قبائلهم ونباتهم وأرضهم، وكأنّنا به عرق فارسيّ يتمرّد على هيمنة الآخر؛ فينتصر للجانب الفارسيّ في قصيدته ويقلب المعادلة: فهو في الواقع، فارسيّ مُحتقر في المجال العربيّ المُهيمن عليه، وفي القصيدة هو السّيد والعنصر العربيّ مُحتقر. وهذا تابع لعنصر التّخييل بما هو إفلات من الواقع.
5-3 – لوحة الجنس:
إذا كان الشّعراء العبّاسيّون قد أطلقوا أنفسهم من قيود القديم في الخمريّات، فكثرت إلى جانب وصف الخمر أوصاف أخرى مثل وصف الرّياض، والحدائق، والبرك، ووصف مجالس اللّهو، والغناء، فإنّنا قد لمسنا لديهم، كذلك، ﻗدرة ﻋﺠﻴﺒﺔ ﻋﻟﯽ مزج اﻟﺨﻤر بالطّبيعة، والمرأة، والسّاقي، والقصف، والعزف، وهي عند أبي نواس رسمٌ فنّيّ يتمثّل للقارئ ﻣﻦ لفظ اﻟﺸّﺎﻋﺮ أو ﻣﻌﺎﻧﻴﻪ ونظامه، فهذا أبو نواس في توظيفه التّقنيات السّرديّة، يصوّر البنية الحدثيّة، ويفلسف الوصف ويبدع في التّصوير اﻟذي يستمدّ عناصره من جملة من اﻷﺣـوال والأفعال، إذ يقول [البسيط]:
يَا لَيْلَـةً طَلَعَتْ بِالسَّعْدِ أَنْجُمُهَـا *** فَبَاتَ يَفْتِكُ بِالسُّكْـرَانِ سُكْـرَانُ
بِتْـنَـا نَـدَينُ لِإبْـلِيـسٍ بِطَـاعَتِــــهِ *** حَتَّى نَعَى اللَّيْلَ بِالنَّاقُوسِ رُهْبَـانُ
فَقَامَ يَسْحَبُ أَذْيَالاً مُنَعَّمَــةً *** قَـدْ مَسَّهَـا مِـنْ يَـدِي ظُـلْمٌ وَعُــــــدْوَانُ
يَقُـولُ: يَا أَسَفِي، وَالدَّمْـعُ يَغْلِبُـهُ *** هَتَكْتَ مِنِّي الذِي قَدْ كَانَ يُصْطَانُ
فَـقُلْتُ : لَيْثٌ رَأَى ظَبْـيًا فـَوَاثَـبَــهُ *** كَـذَا صُـرُوفُ لَيَـالِي الدَّهْـرِ أَلْــوَانُ!
دلّ ملفوظ النّداء “يَا لَيْلَةً” على أنّ اﻟﺸّﺎﻋﺮ ﻳﻨﺒّﻪ إلى اﻟﻠّﻴﻠﺔ التي يصفها بأنّها ﻣﺸﺮﻗﺔ، قد زال ﻋﻨﻬﺎ كلّ كدر، وهو ينتقل من التّنبيه إلى تكثيف الصّور، وإلى مفاجأة القارئ عبر إقحام مفاجئ لمشهد جريء، ويقرن بين الجرأة وذكر مكان مقدّس(الكنيسة). وقد وظّف الشّاعر وسيلة فنّيّة للتّعبير هنا “العدوان على الثّياب المُنعّمة”؛ فها هنا عنف وسرد بالمجاز المرسل؛ والمقصود بالعنف هو عنف الشّهوة وعنف اللّحظة الّتي عاشاها، وقد استمدّ صوره من العنف الطّبيعيّ (افتراس الأسد للغزال) لتوظيفها أيروسيّا في الفتك الأخلاقي (لَيْثٌ رَأَى ظَبْـياً فَـوَاثَـبَـهُ) والاجتماعيّ (هَتَكْتَ مِنّي الذِي قَدْ كَانَ يُصْطَانُ).
فنحن إزاء فتك جسديّ أخلاقيّ وفتك للثّياب، وفتك اجتماعيّ، وهو لعب على الحواجز والحدود الاجتماعيّة، والأعراف، والقوانين الأخلاقيّة، وقد حطّمها الشّاعر دفعة واحدة. والقصيدة قامت على ذلك التّحطيم، فالتّعبير كان بتشبيه العنف بالافتراس: افتراس، ودم يعبّر عن قوّة الشّهوة، وقوّة إيروسيّة، فقد قام الغزل على مصطلحات حرب وعنف، وصورة الافتراس كثيفة في الشّعر الجاهلي، وهو شعر يستمدّ صور الحياة، والبقاء من صور الطّبيعة، استعارها الشّاعر من الرّثاء لتوظيفها إيروسيّا، فكان دقّ ناقوس الكنيسة عند الفجر مع المغامرة للصّلاة مفارقة سرديّة بين المقدّس والمدنّس، والمكان هنا ينقل خلجات النّفس، وأهواءها، ونزقها.
والشّاعر يُنشئ بين مقاطع ﺍﻟقصيدة مجموعة من التّناظرات: بين القتل قربانا في قسم الغزل، والموت من لذّة الخمر في لوحة الخمر، فالمُتخيّل يلقي بظلاله بعيدا بجعل القاتل بلحظه والمقتول يتقرّبان إلى الله في مسار واحد، وهو يصوغ الصّورة بمقابلة دقيقة ولطيفة بين لوحة الغزل و لوحة الجنس؛ إذْ سلّط الضّوء في لوحة الغزل على الغزال بما هو قاتل بسهام لحظه قتلا مقدّسا وكأنّ ضحيّته قربان أو ذبح عظيم، و يناظره في لوحة الجنس فتك السّكران بالسّكران؛
فهما موتتان: موتة صدّ وهجر، وموتة إغراق في اللذّة، وهو في كلّ ذلك يركّز على التّغيّرات الطّقوسيّة وتفاعلها مع المكان؛ فمن وراء محفل مقدّس للقرابين، محفل للمجون؛ ووقائع، ومشاهد، ومظاهر تتخلّق بها الصّور، وهذا يعني أنّ الفضاء قد تحوّل إلى رمـز وقناع يخفي المباشرة ويسمح لفكر المبدع أن يتسرّب من خلاله[12].
فالمكان تخلّقت من ورائه جماليّة القصيدة وتَنَاظَرَ أجزاؤها. وما موقف الشّاعر منه إلاّ صیغة من صیغ الإدراك الواعي لحقیقته، فلا فرق عنده بين الجسد والرّوح؛ فدفق الغرام في القسم الغزليّ وعذابات الرّوح بسبب العشق كأنّنا نشتمّ فيه رائحة البخور المُتصاعد معه، تخاله بخور صلاة حتّى تراه بخور تقدِمة الضّحيّة (العاشق) على مذبح الافتراس. ويغدو الافتراس في لوحة الجنس، وقد تزامن مع دقّ ناقوس الكنيسة للصّلاة، عنوان إغراق في اللّذة بما هي صنوٌ للرّوح، والصّورتان تنطبقان على بعضهما البعض وتحيل كلّ واحدة على الأخرى إلى ما لا نهاية.
هكذا تكشف القصيدة عن حضور دوالّ تراثيّة في نسيج المتخيّل الشّعريّ، ﻭ بهذا تغدو عناصر التراثّ خيوطا أصيلة من نسيج الرّؤية الشّعريّة، يتجلّى ذلك من خلال روح المغامرة، لدى الشّاعر، في طرح الرّؤية الذّاتيّة. وقد برزت معها الحدود الفاصلة بين الحقيقيّ، والمتخيّل، والمقدّس، والدّنيويّ، و هذه الفواصل تدهش المتلقّي في توظيفها بين ما هو إنسانيّ إيروسيّ شهويّ، وما هو أسطوريّ، أو دينيّ، وبين صورة المُدرك وصورة المتخيّل، وبين الواقع والخيال، ولعلّها ثنائيّات ماثلة في الخلفيّة العميقة لكلّ قصيدة تحكي لنا مغامرة الذّات.
وأبو نواس يمزج بين الشّعر والسّرد وكأنّنا به في ملتقى لغتين؛ إحداهما سرديّة والأخرى شعريّة، وهو في كلّ ذلك، في طلب دؤوب لصور الكمال الأمثل في كلّ موصوف، من متعلّقات الخمر، ومتحدَّث عنه في المجلس: يتحدّث عن مقام الخمر ويتخيّر لها أكمل الصّفاتِ، وأشرفَها وأكثرها إشراقا، ولم يتناولها، في ريشته السّاحرة، كما هي قطّ وكأنّ الشّاعر ألْبَسها أفواف السّحر، ولا يريد أن يراها إلاّ من خلالها. فالرّسوم المنتزعة من الطّبيعة، والصّور المأخوذة من التّراث الدّينيّ التي نضّد بها مضامين الخمر تمدّه بالكثير من الصّور الخلاّبة، المتدفّقة بالسّحر، والجمال، والصّفاء، والطّهر. وقد خيّلها في أوعيّتها روحا في جسد، وأناط بها الجوارح، فكانت كلّها مثيرة وكلّها تبعث على الحلم، محبّبة إلى النّفس: لوناً، وسَيْماء، وشذى، بل إنّ الشّاعر، إذ يصف الخمر وكلّ عناصر الضّوء المحيطة بها في نزوع مضادّ للمكان، فكأنّه يتلاشى عبر الأزمنة، وينقل الشّعور بالوجود إلى اللاّمتحيّز، ومن المادّيّ إلى الرّوحانيّ، ومن اليوميّ إلى الأبديّ.
لقد مثّلت الخمرة، عند أبي نواس، إطار التّصوّر الشّعريّ للكون والحياة، وكأنّنا به يعاني ضيقا نفسيّا وغبنا اجتماعيّا ، فكلّ استعارات المكان في تفاعل مع بيئته نفسيّا واجتماعيّا وثقافيّا، من ذلك أنّها ولدّت، عند الشّاعر، إشكاليّات وأسئلة وجوديّة في علاقة بالزّمان، فالشّاعر أعلن تمرّده على الموروث الشّعريّ الأمر الذي نشّط مواضع في خياله، وراكم فضاءات تسبر ذاته، ورؤياه، فشكّل أحيازا خياليّة ذات بعد مكانيّ مُنبنية على ما هو حلميّ تسكن استعاراته، ويجسّدها وفق ذاته ومجتمعه، ووفق الكينونات والأشياء المرتبطة بفلسفته. فالخمرة، مع أبي نواس، تؤثّث فضاء سرديّا ينتصر فيه رمزيّا، وثقافيّا، واجتماعيّا، وعرقيّا بعد أن كسر كلّ الضّوابط وقلب كلّ الموازين فهو، في الواقع، فارسيّ في إطار عربيّ مقهور، وفي القصيدة هو السّيّد والعربيّ هو المولى، وهذه البنية الحدثيّة جسّدها ضمنيّا سيناريو الرّجل الذي سكر ذات ليلة فكسر كلّ شيء. وهذا السّيناريو اشتغل بمعاضدة استعارة انشطار الذّات، وكان لهما أثر في توجيه مساره القصصيّ نحو أقْصَى ما يمكن أنْ يبلغه الشّاعر من اعتقاد التّمرّد في نفسه ﻭتجلية دلالاته شيئا فشيئا من أجل مواجهة الانشطار، والحرمان، بالسّكر وبكسر كلّ الضّوابط، والقيود، والحدود، وقد مثّلت هذه البنية، بالنّسبة إلى الشّاعر، حافزا قويّا من أجل بلوغ الذّروة الانفعاليّة.
6- الخاتمة:
هدفت هذه الدّراسة إلى إبراز المنحى التّجريبيّ والإدراكيّ الذي اتّجهت إليه شعريّة المُحدثين من خلال نموذج من طريف شعر أبي نواس، ونخلص إلى النّتائج التّالية:
- إنّ قراءة النّصوص ليست مجرّد أساليب دون الوصول إلى المعنى الإنسانيّ العميق في النّصّ، فتاريخ الأدب فيه إنسانيّة الإنسان ولا يمكن دراسته بطريقة جافّة في معادلات رياضيّة جافّة، فصحيح أنّ النّصّ فيه أبنية ولكنّه نسيج داخل الحياة وليس خارجها، فالشّاعر يرغب في أن ينشئ عالما خياليّا رمزيّا خاصّا به، ولذلك يستمدّ صوره من عالم البذخ بصفته العالم الرّمزيّ للخمرة ، ويسخر من الحضارة العربيّة، ويعلي من قيمة حضارته، فعالمه عالم بذخ، وحضارته حضارة ملوك، فهو يقابل بين عالم الفارسيّ الباذخ وعالم العربيّ الفذ، وهو رافض لنمط حياة الآخر، ولا يخفى أنّه يرفضه في الشّعر ولكنّه في الواقع يهيمن عليه، فما كان منه إلاّ أنْ جعل نفسه وقومه أسيادا بصفة رمزيّة، في حين يوجد عالم آخر للأجلاف والصحراء والهوّام، ففي الشّعر يقيم دورته وعالمه الخاصّ.
- يرفض الشّاعر اللّغة التي ورثها عن الأجیال التي سبقته، ويسعى أقصى جهده إلى خلق لغة أخرى شعریّة لها من الخصائص ما تستطیع به أن تعكس نظرته للعالم، وتشخّص رفضه للواقع وتمرّده، وهذه الكتابة يزيدها المُتخيّل السّرديّ حميميّة في تشكّله وفق الدّفقات الشّعريّة. ونزعة الشّاعر التّجريبيّة جعلته يصوغ لغته في ثناياه (ثنايا المتخيّل السّرديّ)، فيحرص على أن يثريها ويبتدعها ابتداعا ذاتيّا، يكسبها خصائص شعريّة حداثيّة، مستقاة من بنية تراثية سواء كانت موقفا أم شخصيّة أم حدثا يثري بها لغت ، ويلغي منها ما ترسّب، وينحو بها نحوا جديدا يجسّد بوضوح المنحى التّجريبيّ الذّاتيّ.
- لقد خرج الشّاعر من ربْقة الوصْف إلى فضاء أوسع وأرحب هو فضاء السّرد، فالقصيدة بناء تخييليّ فيه صور، وإيقاع، ووصف؛ واستكمل وجوده، فكأنّه جَسَدٌ بالسّرد، فهي فضاء ذو أبعاد ثلاثيّة: سرد، وحياة نابضة لم تخل من مؤثّرات شخصيّة الشّاعر: وهي مؤثّرات ثقافيّة، ومكبوتات جنسيّة وقوميّة، فقد فجّر مخياله المكبوت الشّخصيّ الجنسيّ، والمكبوت العرقيّ، فانتصر الإثنان معا انتصارا للقهر العرقيّ الّذي كان يعيشه في ذاته.
قائمة المصادر والمراجع:
المصدر الرّئيسي:
- أبو نواس: الدّيوان، رواية الصّولي أبو بكّر محمّد بن يحيى، تحقيق بهجت عبد الغفور الحديثيّ، هيئة أبي ظبي للثّقافة والتّراث، دار الكتب الوطنيّة، 2010.
المراجع باللّغة العربيّة:
- أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت، 1983، رؤية للنّشر والتّوزيع 2018.
- باشلار (غاستون): جماليّات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للنّشر والتّوزيع، بيروت- لبنان، ط2، 1984.
- البطل (علي): الصّورة الفنّيّة في الشّعر، دار الأندلس للنّشر والتّوزيع، ط2، 1982.
- الخلايلة (محمّد خليل): جـدليـّة أبي نواس وعلمـاء القـرن الخامس والسّادس والسّابع الهجريّ، حوليات العلوم الإنسانية والاجتماعية المجلد 34، العدد3، الجامعة الهاشميّة، الزرقاء، الأردن، 2007.
- داغر (شربل): القصيدة والزّمن: الخروج من الواحديّة التّماميّة، الفصل الخامس: بين النّوع الشّعريّ والزّمن، رؤية للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2018
- الشّنطي (محمّد صالح): النّقد الأدبيّ المعاصر في المملکة العربيّة السّعوديّة، دار الأندلس، حائل، ط1، 2004.
- الصّائغ (عبد الإله): الصّورة الشّعريّة معياراً نقديّاً، المركز الثّقافيّ العربيّ (د.ط.ت).
- العشماوي (أيمن محمّد زكيّ): خمريّات أبي نواس دراسة تحليليّة في المضمون والشّكل، دار المعرفة الجامعيّة، 1998.
- اليافي (نعيم): مقدّمة لدراسة الصّورة الفنّيّة، منشورات وزارة الثّقافة والإرشاد القوميّ، دمشق، 1982.
المراجع باللّغة الأجنبيّة:
- Fillmore C. J., Frames and the semantics of understanding, Quaderni di Semantica” 6, 2, 1985, p 222–254.
- Lakoff, G. (1993). The internal structure of the Self. In U. Neisser & D. A. Jopling (Eds.), The Conceptual Self in Context, Culture, Experience and Self Understanding Cambridge: Cambridge University Press.
- Lakoff, G. (1996). Sorry, I’m not myself today: The metaphor system for conceptualizing the Self. In G. Fauconnier & E. Sweetser (Eds.), Spaces, worlds, and grammar. Chicago University of Chicago Press.
- Wagner, Franc, Cultural aspects of metaphor scenarios,The Polish Journal of the Arts and Culture. New Series 3 (1/2016): 73–88 [article].
[1]– أدونيس: زمن الشّعر، دار السّاقي، بيروت، ط6، 2005، ص355.
[2]– ضرعام الدّرّة: التّطوّر الدّلاليّ في لغة الشّعر، دار أسامة للنّشر والتّوزیع عمّان، الأردن، ط1 ،2009، ص57-58.
[3]– محمّد صالح الشّنطي: النّقد الأدبيّ المعاصر في المملکة العربيّة السّعوديّة، دار الأندلس، حائل، ط1، 2004، ص978.
[4]– Fillmore C. J. Frames and the semantics of understanding, „Quaderni di Semantica” 6, 2, 1985, p222–254.
[5]-Wagner Franc Cultural aspects of metaphor scenarios. P3 The Polish Journal of the Arts and Culture. ]New Series (1/2016): 73–88 [[article].
[6]– Lakoff, G. (1993). The internal structure of the Self. In U. Neisser & D. A. Jopling (Eds.), The Conceptual Self in Context, Culture, Experience and Self Understanding pp(92–114). Cambridge: Cambridge University Press.
[7]– محمّد خليل الخلايلة: جـدليـّة أبي نواس وعلمـاء القـرن الخامس والسّادس والسّابع الهجريّ، حوليات العلوم الإنسانية والاجتماعية المجلد 34، العدد3، الجامعة الهاشميّة، الزرقاء، الأردن، 2007. ص10.
[8]– نعيم اليافي: مقدّمة لدراسة الصّورة الفنّيّة، منشورات وزارة الثّقافة والإرشاد القوميّ، دمشق، 1982، ص45.
[9]– عبد الإله الصّائغ: الصّورة الشّعريّة معياراً نقديّاً، المركز الثّقافيّ العربيّ، (د.ط.ت)، ص406.
[10]– Lakoff, G. (1993) p92-114; Lakoff, G. (1996) p91-123.
[11]– أيمن محمّد زكيّ العشماوي: خمريّات أبي نواس دراسة تحليليّة في المضمون والشّكل، دار المعرفة الجامعيّة، 1998، ص111.
[12]– غاستون باشلار: جماليّات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للنّشر والتّوزيع، بيروت- لبنان، ط2، 1984، ص2.