ملخّص:
يرمي هذا المقال إلى اجتراح فسحة استشكاليّة تسعف على إعادة النّظر في منزلة مهنة المدرّس وخطاب المهنة من أجل بلورة رؤية جديدة حولهما. ولأنّ الأمر كذلك، عملنا على تبنّي مقاربة نقديّة، تسعفنا في تشخيص مكانة المدرّس في الخطاب الإصلاحيّ التّربويّ (الرّؤية الاستراتيجيّة للمجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلميّ بالمغرب)، وفي بعض الأدبيّات التّربويّة والفلسفيّة. من هنا، وجدنا أنّ الخطابات السّائدة تفصل -مهنّيا وديداكتيكيّا- بين الموادّ الدّراسيّة معتمدة في ذلك على مقاربة تشريحيّة تغفل عن الجسور الكائنة بين مختلف التّخصصّات والمهن. وبهذا انتهينا إلى أنّ إمعان النّظر في مسألة “المهننة”، يحمل في داخله ما يساعد على تجاوز أعطاب الدّيداكتيك والخطاب المهنيّ الكلاسيكيّين.
الكلمات المفاتيح: التّربية، الدّيداكتيك، المدرّس، الخطاب المهنيّ، الكفايات..
Abstract:
This article aims to reconsider the status of the teacher and to reconsider the professional discourses, in order to propose a new look at them. Thus, we worked to adopt a critical approach, which allowed us to diagnose the status of the teacher in the discourse of educational reform (the strategic vision of the Higher Council for Education, Training and research – Morocco), and its status in educational and philosophical writings. From there, we noted that the dominant speeches separate, professionally and didactically, the school matters, while being based on an anatomical approach which neglects the bridges which exist between the various disciplines and professions. This study was the occasion to show that the deepening of the taking into account of the professional discourse can imply solutions which go beyond the defects of the classical didactic and pedagogical discourses.
Key words: Education, didactic, teacher, professional discourse, competencies.
1- مقدّمة:
أن يغدو المرء مدرّسا، غالبا ما يفرض هذا الأمر عليه. ويفرض عليه بالتّبعيّة أن يمرّر المعارف ويلقّن الوسائل الّتي تمكنّ المتعلّم من تحصيلها والمناهج الّتي تقوده إلى ضبطها. ويرصد المدرّس لمهنة توكل لنفسها قراءة البرامج التّعليميّة بغاية “تنزيل” المعرفة العالمة إلى مستوى أقلّ يكون في متناول أذهان “شعب الأطفال”[1] واليافعين والشّباب. وهكذا تحيل مهنة المدرّس، في معظم الإصلاحات التّربويّة والتّعليميّة، إلى حياة تتحرّك في نطاق الفصل الدّراسيّ والبرامج النّظاميّة والحقائب الدّيداكتيكيّة وما إلى ذلك[2].
لكن، هل يَقتصِر الإصلاَحُ علَى العنايَة بالتّحضير الجيّد للمدرّس بيداغوجيّاً وديداكتكيّاً؟ ألسنا في أمسّ الحاجة إلى بنَاء تصوّر عصريّ للتّدريس بوصفه “مهنَة” قائمَة بذاتهَا؟ وما هي المهنَنَة؟ وكَيف يمكِن للمهنَنة أن تساعد في معالجَة ما يتعذّر على الدّيداكتيك التّقليديّ مُعالجته؟ كلّ هذه ا أسئلة هي الخيط الناظم لمقالنا هذا، فلنمض إذن، في توضيح ما تتضمّنه من غموض وما تنطوي عليه من رهانات تربويّة وديداكتيكيّة.
2- في استشكال أمر مهنة التّدريس:
في البداية نشير إلى أنّ المدرسة ما كانت محض “فصل دراسيّ” لتعلّم مهَارات ما، والمدرّس ما كان مجرّد “معلّم” عارفٍ بالمناهج والبرامج والبيداغوجيّات وطرق التّعلّم وغيرها من “لوازم العمَل”، كما أنّ “ساحَة المدرسَة” ما كانت مجرّد “فراغ” مخصّص لـ”اللّعب” و”الاستراحَة” إلى حين دقّ الجرَس. تكاد المدرسَة تكون، علاوَة على كلّ ذلك، مَشتَلا لتعهّد “نباتات إنسانيّة” بالعنايَة اليوميّة بغيَة ضمَان شُروط صحّيّة لنموّهَا، ففِي كلّ بَذرَة ثمّة شجَرَة كامنَة تَنمُو وتتهيّأ للانبثَاق كمَا أشار هيغل إلى ذلك في محاضراتِه: “في تاريخ الفلسفة”[3]. إنّنا لا نتصوّر المَدرسَة، والحالُ هذه، إلّا بوصفها فضَاء مفتُوحا لبنَاء الوطَن والمواطِن وربطهِمَا بالإنسَان والأرض ومن لفَّ لفّهمَا.
ونستنتج ممّا سبق، أنّ الفاعلين التّربويّين في المدرسَة -وكما هو الشّأن بالنّسبَة إلى “خبراء المشاتل”- لا يَعبرُون إلَى هذا “المشتَل الإنسانيّ” إلاّ بعْد مرورهِم عبر مسَارات حياتيّة وتكوينيّة ودورَات مهنيّة تساعدهم في مهمّة صَون صحّة “المشتَل” وتقوية “مناعَـته” ضدّ كلّ ما من شأنه أن يتهدّده من مخاطِرَ، إضافة إلى اختبَار مدَى تملّكهم لمهَارات العمَل علَى الارتقَاء بجودَة المشتَل ونتاجه الإنسانيّ[4]. والواقع أنّه حينَ يعجَز “المشْتَل” عَن مواكبَة العَصْر وتكفّ نباتَاتُه أن تنفُخ الحيَاة في الحيَاة، فإنّ ذلك يُعدّ بمثابَة “جرَس إنذَار” يستوجِب “مساءلَة الضّمير”[5] ومراجعَة المسَار الّذي قادَ “المشتَل” إلى الخرَاب.
لا شكّ في أنّ “المَشتَل التّربويّ” يشهَد انسدادَات خانقَة، وتشخيصها يفضِي دوماً إلَى الحَديث عَن تعقيدَات “الأزمَة المركّبَة” الّتي يُعانيهَا في صلاتِه بمشَاتِل أخرَى تتقاطعُ معهُ كثيراً، بل وتشكّل أحياناً أوعية تحتوِيه وتتضمّنه، وهي: الدّولَة، المجتمع، الأسرَة… وغيرهَا، لكنّنا في هذهِ المساهمَة سنتوقّف عنْد حُدود المشتَل ونتساءَل عَن بَعضِ إمكانَات إصلاحِه من الدّاخل في علاقَة مباشرَة بفاعلٍ أساسيّ فيه: (المدرّس تحديداً)، لاسيّما أنّ ثمّة إشارَات كثيرَة إلَى ضرورَة الانتبَاه إلى “المدرّس” في أيّ عمليّة إصلاح شامِل للمشتَل اعتقاداً بأنّه يُجسّدُ “الخبير الأساسيّ” و”المشرف المباشِر” علَى “نباتَات المَشتَل”.
لعلّ المدرّس كما ذكرنا في البدايَة، ليس مجرّد مدرّس، وإنّما هو فاعل تربويّ لهُ “أدوار مستترة”[6]، ولا تشغل مساحته الفصليّة كلّ المساحَة التّربويّة الّتي له بها صلة، كما يبدُو أنّ “المساحَة الفصليّة” ذاتها ليسَت مساحَة ديداكتيكيّة كاملَة؛ إذ تخترقُها بياضَات وواقعَات لاَ شأن للدّيداكتيك بها[7]، وربّما يقُود إهمالُها أو إساءَة تدبيرها إلَى التّأثير السّلبيّ علَى “الأداء الدّيداكتيكيّ” نفسه، ومن ثمّة وجب ضرورة “اليقظَة المهنيّة” تجاههَا حتّى يؤدّي الدّيداكتيك الأدوار الموكولَة إليه[8].
ليْس المدرّس، وعلى سبيل المثال، مدرّس الفلسفة، ناياً سحريّاً يكفِي النفْخُ فيه لتتلاشَى المشاكل العويصَة للمدرسَة المغربيّة، بل هو فاعل ضمْن مؤسّسَة وانتماؤه المؤسّسيّ يفرض عليه مجموعة من الالتزامات والضّوابط، كما يفضي به إلى جملة من العلاقات الّتي قد تلامس تأثيراتها حياته برمّتها. للمدرّس أدواراً عليه إتقان أدائها، وهي تستلزم منه أن “يتخلّى عن نفسه” ويتحلّى بـ”قناع المؤسّسة”، فنحن نظنّ “أنّ المدرّس النّاجح هو ذلك الممثل الّذي يتوفّق في إخفاء شخصيّته الحقيقيّة بكلّ ما تحمله من انتماء ثقافيّ وعرقيّ وكلّ ما تعيشه من صراع نفسانيّ وطبقيّ، وما تؤمن به من قناعات سيّاسيّة. قدر المدرّس أن يتوارى عن الأنظار لتظهر المؤسّسة”[9]، وبالتّالي تعتبر مأسسة “التّدريس” ومهننته ضرورة حيّة لبناء تعاقد واضح حول معنى “الحياة المهنيّة” للمدرّس لما لها من آثار على معنى “التّدريس” بصفة عامّة، وما يقترن به من التزامات وآثار على الحياة الفصليّة والحياة الشّخصيّة لكلّ الفاعلين التّربويّين.
حين يتحوّل الإنسان من وضع “المواطن اللّامنتمي” مهنيّاً إلى وضع مهنيّ، فإنّ لذلك انعكاسَات شتّى على شخصيّته وحياته وشكل حضوره أمام نفسه وأمام الآخرين وفي المجتمع والدّولة أيضا. وبمجرّد أن يحمل الإنسان هويّة مدرّس فهو يفصح عن “انتماء جديد” له خصوصيّته وتعقيداته ويصبح جزءا من مؤسّسة واسعة، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين وتشريعات منظّمة، ومن ثمّة إيلاء الأهمّيّة للمؤسّسة بوسْمها “بنية أساسيّة لتنمية الحياة المهنيّة وتأهيل المهن التّربويّة”[10]، وعلى رأس هذه المهن “مهنة التدريس”.
إنّ المدرسة الجديدة الّتي تتغيّا “الرّؤى الاستراتيجيّة” لمنظوماتنا التّربويّة والتّعليميّة بلورة أسسها، لم تعد متوقّفة على “أنبياء تربويّين” و”مصلحين نوابغ” وإنّما أمست تؤكّد على أهمّيّة “العمل الجماعيّ التّشاركيّ” في إطار مؤسّساتيّ دقيق وواضح. لم يعد هناك مجال للحديث عن “زعماء” يتوقّف نجاح المدرسة أو فشلها على “بطولاتهم”، بل ظهرت مفاهيم جديدة تولي أهمّيّة لمناخ العمل، وتعتبره رافعة لتجويد الممارسة المهنية، ونذكر منها: “مشروع المؤسسة” و”فرق العمل” و”الجماعة المهنيّة” و”مناخ العمل” و”تدبير القرب”… لهذا، فإنّ التّأكيد على “المهننة” يضمر وعياً أنّ نجاح عمل المدرّس لا يتوقّف على “الحذق الفصليّ” و”المهارات الدّيداكتيكيّة” بل تتجاوزها إلى تملّك كفايَة “العمل معَ…”، طالما كانت الحياة المهنيّة تتخطّى الحياة الفصليّة.
لقَد ظلّ “التّدريس” فنّاً (أو علماً حتّى) ردحاً من الزمَن، يتوقّف نجاحُه علَى “كفايَات تقليديّة” لزمَ علَى المدرّس تملّك قدراتِها[11]، وظلّ نموذج “الفقيه التّقيّ” محرّكاً سرّياً للاوعيّ المدرّس فهو القُدوَة والنّمُوذج بعلمه وأخلاقه وهيبته، وكأن ثمّة “تعاقُد صامت” حول “هويّة المدرّس” باعتباره “ضمير المجتمَع”، والظّاهرُ أنّ لهذه الصّورَة علاقَة بالمورُوث التّقليديّ للإنسان المثَاليّ في المجتمَع المغربيّ، غَير أنّ الطّمُوح إلَى تَحديث المجتمَع ومأسسَة الهويّات وعقلنَة السّلُوك التّربويّ وتجويده، علاوةً على التّفكير في مدرسَة للحيَاة والقيم الإنسانيّة المفتوحة على العالم، فَرَضَ التّفكير في الانتقال التّدريجيّ من النّموذج التّقليديّ إلى النّموذج العصريّ للمدرّس، ومن ثمّة وجُوب المهنَنة بوصفها مرتكزاً جوهريّاً لتجديد مهَنة التّدريس.
3- في الحاجة إلى تجديد خطاب المهننة في التّدريس: نموذج الرّؤية الاستراتيجيّة (المغرب):
منذ بداية الألفيّة الجَديدَة، بات السّياق التّربويّ المغربيّ أكثر اهتماما بمسألة “المهنيّة”، وإن كان الميثَاق الوطنيّ للتربيّة والتّكوين لم يخصّص أيّ دعامَة للمهننَة فقد تحدّث عن مداخل لها علاقة بها، من قبيل: “التّعليم الجيّد في مدرسة متعدّدة الأساليب”، واقتران الرّفع من جودة التّربية والتّكوين بتشجيع التّفوّق والتّجديد والعناية بالتّكوين الأساسيّ والتّكوين المستمرّ وغيرهما، وفي التّقرير التّحليليّ حول: “تطبيق الميثاق الوطنيّ للتّربية والتّكوين 2000-2013: المكتسبات، المعيقات، التّحدّيات، دجنبر 2014″، الصّادر عن المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين، إشارة إلى تحوّلات مهنة المدرّس والحاجة إلى مرجع كفاياتيّ للمهنة، “فمدرّس اليوم أصبح مطالباً بالتّوفّر على الكفايات الّتي تسمح له بتجديد طرق التّعلّم، وتحفيز فضول المتعلّم، وتنشيط جماعة القسم، وتوجيه التّلاميذ في استعمال تكنولوجيا الإعلام، وينبغي أن يستبق النّظام التّربويّ التّطوّرات الّتي ستعرفها مهنة المدرّس مستقبلاً”[12]، وقبل هذا التّقرير أكّد المجلس الأعلى للتّعليم سنة 2008 على وجوب الانتباه إلى إعادة النّظر في “مهنة المدرّس”، موصياً بالعنايَة بثلاثة مجالات للتّجديد: الكفايات والتّكوين والبحث والتقويم والارتقاء المهني أوّلها، والحقوق والواجبات المهنيّة ثانيها، ودور المدرّس والمكوّن في إنجاح المدرسة المغربيّة الجديدة ثالثها[13]، غير أنّ الحديث عن المهننة والمهنيّة سيشرع في التشكّل البديّ مع الرّؤيَة الاستراتيجيّة خاصّة في “الرّافعة التّاسعة” الّتي حملَت عنوان: “تَجديد مهَن التّدريس والتّكوين والتّدبير: أسبقيّة أولَى للرّفع من الجَودَة”[14]، وسيعقب ذلك إصدار عدّة تقارير تهتمّ بالمهننة، أهمّها: تقرير الارتقاء بمهن التّربية والتّكوين (2018) ورأي المجلس في موضوع “مهن التّربية والتّكوين والبحث آفاق للتّطوير والتّجديد” (2019).
تلازَم الحديث عن المهننَة، والحال هذه، باقتنَاع مؤسّسيّ أنّ الوقْت حانَ للعنايَة بمؤَشّر الجودَة بعْد النّتائج الإيجابيّة المحقّقَة على مستوَى “تعميم التّعليم”[15]. لقَد توضّحت الرّؤيَة بأنّنا بصدد “جيل مهنيّ مغاير”، فأكّدت على المهنَنة واعتبرتها جوهريّة في تَجويد الممارسَات المهنيّة. ووعى المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين بأنّ هناك تحوّلات عميقة تشمل كلّ مناحي الحياة، فأدرج مسألة ملائمة مهن التّربية مع العصر في جدول أعماله. والمهنيّة في هذه الحال، لم تَعُد محدّدة بامتلاك كفايات تقليديّة تقوم على تصوّر حول ما ينبغي فعله في وضعيّات معيّنة، وإنّما تتخطّى ذلك إلى التّمرّن على الفعل إذ لا يملك “المهنيّ” فكرة واضحة بشأن ما ينبغي فعله، لذا فـ”إنّ المسألة المطروحة في نموذج الكفايات هي ما العمل حينما لا يقال لي ما يجب القيام به؟”[16].
يرتكز مجمُوع العمليّات الهادفَة إلى “مهنَنة التّدريس” على تعزيز التّكوين المعرفيّ والمنهجيّ، علاوة على التّنظيم المؤسّسيّ والتّحكّم في الأطر الأساسيّة المحدّدة لمهنَة التّدريس ولوجاً وممارسَة وتقويماً من ناحية، وما يتّصل بذلك من تعاقدات تخصّ الحقوق والواجبات “والثّقَة”[17]، من ناحية ثانية. وحتّى لا يشكّل هذا المنحى الأوّل “كابحاً” أمام حرّيَة حركَة الفاعل التّربويّ (المدرّس)، فإنّ الرّؤيَة تحثّ علَى ضرورَة إفسَاح المجَال أمام الذّات التّربويّة للابتكار الحرّ والمبادرَة الذاتيّة. يظهَر أنّ الرّهان الأساسيّ من المهنَنة له صلَة بالارتقَاء بأوضَاع هيئَة التّدريس وتهيئتها لممَارسَة مهامّها في مجَال مهنيّ واسِع لا يتوقّف عند حُدود الفَصل الدّراسيّ، بَل يَتجاوزُه إلى الانخرَاط في “المجتمَع المدرسيّ الواسِع” ممّا يَقتضِي تَكويناً عصريّاً يسمَح للمدرّس بأن يَكون فاعلاً ومبادراً وقادراً علَى “حلّ المشكلاَت” والتّعرّض المنهجيّ والمهاريّ للطّارئ والمستجَدّ.
يُمكن اعتبَار المدرسَة فضَاء للطّارئ، فلا يكَاد يَنقَضي يوم دون أن يلتقِي المدرّس بطوارئ قَد تَكون لها انعكَاسات جمّة علَى مسَاره المهنيّ ووضعِه الاعتبَاريّ وبالتّالي فإنّ “المهْنَنة” لا تَعْني تملّك “أدوَات الحرفَة” البيدَاغوجيّة والدّيداكتيكيّة فحَسب، وإنّما تتخطّى ذلك إلَى امتلاكَ المدرّس كفايَة إدارَة الطّارئ بذكَاء سوَاء تعلّق الأمر في علاقَاته بجمَاعَة الفصْل أم بجمَاعَة المدرسَة بكاملهَا ومَا قَد يشْهدانِه معاً من حركَات منفلتَة أحياناً. يكَادُ الطّارئ يَكون وضعاً طبيعيّاً للفَصْل والمدرسَة، وفِي غياب الوعْي بما يخلّفهُ من آثَار وانعكَاسَات سيظَل المدرّس معرّضاً لخَطر “المنفلِت” دون أن يَجدَ في مواردِه ومهارَاتِه ما يسعفُه علَى حسْن إدارتِه والتّحكّم في نتائجه، لذا تقتَضي “المهنيّة” تَمكين المدرّس من الأدوات المنهجيّة الحيّة الكفيلَة بمساعدَته علَى إدارَة هذه الوضعيّات الطّارئَة.
في تقريره حول “الارتقاء بمهن التّربية والتّكوين والبحث والتّدبير”[18]، عدّ المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين المهننة مرتكزاً أوّلاً (إلى جانب مرتكزيْ المؤسّسة وتقييم الأداء المهنيّ) في تأهيل مهنة التّدريس وتجديدها، واختصَر المهننة في أبعاد ثلاثة:
- ركّز التّقرير في البعد الأوّل على إكساب الفاعل التّربويّ كفاية المبادرة والابتكار والنّقد وتطوير الممارسة، وتحدّث في هذا السّياق عن “الاستقلاليّة الوظيفيّة” مبيّناً أنّ هذه الاستقلاليّة لا تعني الإخلال بالمقتضيات القانونيّة المنظّمة لمهن التّربية والتّكوين، كما ورد في هذا البعد الأوّل التّأكيد على أهمّيّة التّأمّل الذّاتيّ(La réflexivité) في “تنمية القدرات والمهارات الجديدة الّتي يتطلّبها الوضع الجديد للمهنة (…)، وكذا التّكيّف مع الوضعيّات المختلفة الّتي تمارس فيها المهنة التّربويّة”[19]، والتّبصّر بحسب ذات الوثيقة “عامل ابتكار وتجديد، ينقل الفاعل (ة) من وضع المنفّذ والمطبّق لخطط وبرامج مسبقة، إلى وضع المبتكر الذي يمارس عمله بكيفية معقلنة وهادفة، وفي نطاق استقلاله الذاتيّ، ويبادر بابتكار صيغ جديدة للعمل التربوي يكيفها مع مختلف الوضعيات ومستجدّات السيّاق، والمواقف المعقّدة”[20] .
- أمّا البعد الثّاني فيقوم على وعي بالقاعدة التّشريعيّة والمؤسّسيّة للمهنَة، وفيه حديث عن الكفاية المهنيّة والتّمكّن المهنيّ والهويّة المهنيّة والتّنمية المهنيّة، وما يستلزمه كلّ ذلك من اعتراف مؤسّسيّ يضمن للمهنة المكانة الاعتباريّة والقانونيّة اللّائقَة بها.
- في حين يتوجّه البُعد الثّالث إلى الانفتاح على التّنظيمات الذّاتيّة والمهنيّة للفاعلين التّربويّين وأهمّيّتها في تعزيز الانتماء إلى الجماعة المهنيّة.
وارتباطاً بهذه الأبعاد الثلاثَة، تحدّث التّقرير نفسه عن المهننة بثلاثة مداخل للتّجديد: يؤكّد المدخل الأوّل على وجوب إرساء دعائم إطار مرجعيّ وطنيّ واضح ودقيق للمهن أوّلا، وقيمها ثانياً، ويذهب المدخل الثّاني إلى الاعتناء بالاستعدادات المهنيّة لولوج المهنة، أمّا المدخل الثّالث فإنّه ركّز على أدوار الجمعيّات المهنيّة في المهننة التّربويّة والتّدبيريّة للفاعلين التّربويّين.
فيما يخصّ المدخَل الأوّل، فإنّ التّقرير يؤكّد على ضرورة بلورة أطر مرجعيّة مهنيّة لمجمل الفاعلين التّربويّين، تحدّد مواصفات وشروط وأداور ومهام كلّ فاعل وتصير بمثابة مراجع للاحتكام في تحديد المسؤوليّات والتّرقية وغيرهما، كما يرسم التّقرير نفسه إطارا عاما لهذا المدخل تؤطّره مفاهيم، أهمّها: الاندماج المهنيّ والمبادرة الذّاتيّة والاستقلاليّة، والعمل الجماعيّ والتّعاقد المؤسّسيّ، والتّنمية المهنيّة… محدّدا كفايات مشتركة تهمّ كلّ الفاعلين التّربويّين، وتهمّ أبعادا متعدّدة: معرفيّة، وبيداغوجيّة وتواصليّة وقيميّة وإبداعيّة… تساعد على التّنظيم وحسن التّدبير والابتكار[21].
أمّا بالنّسبة إلى الشّقّ الثّاني في هذا المدخل، فيرتبط بمسألة القيم بالنّظر إلى أهمّيّة الاستناد إلى “مرجع مهنيّ” في تشكيل “الهويّة المهنيّة” تلافياً للتّشويش الحاصل في تصوّر الفاعل التّربويّ لنفسه ولدوره في المجتمع المدرسيّ، وقد توقّف التّقرير عند المسؤوليّة الأخلاقيّة الأساس للفاعل التّربويّ وحدّدها في حسّ المسؤوليّة تجاه المتعلّمات والمتعلّمين وتجاه المؤسّسة من جهة، والحسّ المدنيّ مثلما هو متعارف على قواعده. كما توقّف التّقرير كذلك عند الالتزام المهنيّ والانضباط والإشعاع الفكريّ والتّربويّ والعلاقات المهنيّة وما يفترضانه من قيم مساعدة على بناء “مناخ عمل” صحيّ يعين على البذل والعطاء، علاوة على الانتباه إلى التّحوّلات المتسارعة للمهن في الزّمن المعاصر وما يستلزمه ذلك من وعي مجتمعيّ وتربويّ لملاءمة الخطاب التّربويّ والمدرسيّ مع هذه التّحوّلات. ووعيا بما لمناخ العمل من أهمّيّة ظاهرة في تجويد الممارسة المهنيّة، تتأكّد من خلال هذا التّقرير أهمّيّة إقرار “ميثاق مهنيّ” قيميّ يرسّخ “أخلاقيّات المهنَة” بوصفها أساسا من أسس الارتقاء بالمنظومة التّربويّة.
أمّا بالنسبَة إلى المدخل الثّاني، فيمكن اعتباره تتمّة لما سبق من الميثاق الوطنيّ للتّربية والتّكوين، إذ نبّه إلى وجوب ضبط معايير المترشّح ومواصفاته واستعداداته لمهنة تربويّة ما، وتكييف التّكوين الأساس والمؤسّسات المتدخّلة فيه مع الانتظارات الكبرى من المدرسة والحرص على مواكبة الملتحقين بهذه المهن أثناء ممارستهم الأولى لها لتيسير اندماجهم المهنيّ.
وقد توقّف التّقرير في ختام مداخله على أهمّيّة التّنظيم الذّاتيّ في إكساب المهن التّربويّة تميّزاً مجتمعيّاً وهويّة متفرّدة تسمو بهذه المهن في المجتمع، وتسهم في تعزيز الانتماء المهنيّ والانخراط المسؤول في التّفكير الجماعيّ في إشكالات المنظومة وتحدياتها. ولعلّ الإلحاح في الارتقاء بها إلى منزلة “شريك” في تدبير القطاع يترجم قناعة مؤسّسيّة بالحاجة إلى هذه التّنظيمات الذّاتيّة لإنجاح عمليّة المهنَنة، بوصفها “مجموع العمليّات الّتي تستهدفُ تحويل نشاط ما إلى مهنة اجتماعيّة منظمّة، يحرّكها إنتاج موضوعات أو خدمات معيّنة، ولها إطارها التّنظيميّ والاجتماعيّ، وقواعدها ومتطلّباتها الخاصّة بالأداء المهنيّ”[22].
4- خاتمة:
تأسيسا على ما تقدّم، تَبدُو المدرسَة وكأنّها “مجتمَع مصغّر” ويمكن اعتبارها أحياناً مرآة عاكسَة لـ “المجتمع الواسع” الّذي تَنتمي إليه، مثلمَا يُمكن أيضاً اعتبَار المجتمَع بدوره مرآة عاكسَة للمدرسَة الّتي تخرّج منها. بيْن المدرسة والمجتمع علاقة جدليّة، فهما يتبادلان التّأثير والتّأثّر ويصعب كثيرا الفصل بينهما، ويمكن المراهنة على المدرسَة من أجل الإقلاع المجتمعيّ وعلاج أمراضه مثلما قَد يُنظَر إلى أنّ “إصلاح المدرسَة” لا تمام له إلاّ بـإصلاح شامل للمجتمع، وبيِن الاثنَين تحضُر “الدّولَة” بوصفهَا “مؤسّسة المؤسّسات” الّتي يوكل إليها أمر الإشراف على تدبير الشّأن العامّ، ومنه الشّأن المجتمعيّ عامة والشّأن التّربويّ ضمنه.
نخلص بالقول إلى أنّ الارتقاء بمنظومة التّربية والتّكوين ومهنها لا يكون بالانحباس ضمْن “تصوّر ضيّق” يعزل المهن التّربويّة عن بعضها البعض مثلما يعزل الموادّ الدّراسيّة والمتدخّلين فيها عن بعضها، وإنّما يظلّ الرّهان على تصوّر موسّع لهذه المهن ولا يغفل عن “أسّ مشترك للكفايات المهنيّة”[23] الّتي أوصى المجلس الأعلَى للتّربية والتّكوين بالنّهوض بها على أساس أن تشمل مجالات: المعارف واللّغات والقيم والكفايات… وهو الأسّ الّذي بإمكانه ضمان توازن مفيد في الحياة المهنيّة بين الحياة الفصليّة الضّيّقة ومناخ العمل في عموميته، طالما أنّ “المدرسة” ليست مجرّد “فصل دراسيّ” بقدر ما هي أرضيّة التقاء جماعات متعدّدة ومتقاطعة ومتصارعة أيضا.
المراجع المعتمدة:
- باعكريم (عبد المجيد) ومعاش (المصطفى): “المدرّس والأدوار المستترة”، ضمْن: مهامّ المدرّس ورسالته التّربويّة، دفاتر التّربية والتّكوين، العدد 8/9، الرّباط: إصدارات المجلس الأعلى للتعليم، 2013.
- باعكريم (عبد المجيد): قراءة في كتاب: مفارقة حول المدرس، لمؤلّفه هيبير هانون، ضمن: دفاتر التّربية والتّكوين، العدد 8/9، الرّباط: إصدارات المجلس الأعلى للتّعليم، 2013.
- اللّحية (الحسن): كفايات المدرّس(ة): المهنيّة ومرجع الكفايات، الرّباط: دار نشر المعرفة، 2011.
- المملكة المغربية، المجلس الأعلى للتربية والتكوين، إطار الأداء لتتبع الرؤية الاستراتيجية في أفق 2030، المستوى الوطني 2015-2018.
- المملكة المغربية، المجلس الأعلى للتربية والتكوين، تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 200-2013، المكتسبات والمعيقات والتحديات، 2014.
- المملكة المغربية: المجلس الأعلى للتعليم، حالة منظومة التّربية والتّكوين وآفاقها، الجزء الرّابع: هيئة ومهنة التّدريس، التّقرير السّنويّ 2008.
- المملكة المغربية: المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الارتقاء بمهن التربية والتكوين والبحث والتدبير، تقرير رقم 3/2018.
- المملكة المغربية: المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلميّ، من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، رؤية استراتيجيّة للإصلاح، 2015-2030.
- منصف (عبد الحق): محاضرات في الدّيداكتيك (غير منشورة)، الرّباط: مركز تكوين مفتّشي التّعليم، شعبة الفلسفة، السّنة التّكوينيّة 2020/2021.
- هيغل (جورج فريديريك فلهلم): محاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة خليل أحمد خليل، بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات، 1986.
الفرنسيّة:
- Alain (Émile Chartier), Propos sur l’éducation, Paris, PUF, 13ème édition, 1967.
- Jean-Pierre Obin, Être enseignant aujourd’hui, Hachette Éducation, 2011.
- Pascal Guibert, Julie Des Jardins, Olivier Maulini, Questionner et valoriser le métier d’enseignant: Une double, Louvain, De Boeck Supérieure, 2009.
[1]– Alain (Émile Chartier),: Propos sur l’éducation, Paris, PUF, 13ème édition, 1967, p23.
[2]– Jean-Pierre Obin: Être enseignant aujourd’hui, Hachette Éducation, 2011, p11.
[3]– جورج فريدريك فلهالم هيغل، محاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة خليل أحمد خليل، بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات، 1986، ص92.
[4]- Pascal Guibert et autres Questionner et valoriser le métier d’enseignant: Une double, Louvain, De Boeck Supérieure, 2009, p33.
[5]– “توجد المدرسة، اليوم، في موضع مساءلة من الجميع: أوّلا؛ من أعلى سلطة في البلاد، والّتي دقّت ناقوس الخطر مع الدّعوة إلى القيام بوقفة لـ”مساءلة الضّمير”، والعمل على إعادة تأهيل المدرسة وبنائها”، المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلميّ، من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، رؤية استراتيجيّة للإصلاح 2015-2030، ص06.
[6]– يُنظر: المصطفى معاش، “المدرّس والأدوار المستترة”، ضمْن: “مهام المدرّس ورسالته التّربويّة”، دفاتر التّربية والتّكوين، العدد 8/9، الرّباط: إصدارات المجلس الأعلى للتّعليم، 2013، ص13.
[7]– عبد الحقّ منصف، محاضرات في الدّيداكتيك (غير منشورة)، الرّباط: مركز تكوين مفتّشي التّعليم، شعبة الفلسفة، السّنة التّكوينيّة 2020/2021.
[8]– Pascal Guibert et autres: Questionner et valoriser le métier d’enseignant: Une double Louvain, op. cit. P56.
[9]-عبد المجيد باعكريم، قراءة في كتاب: “مفارقة حول المدرّس” لمؤلّفه هيبير هانون، ضمن: دفاتر، مرجع مذكور، ص46.
[10]– المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلميّ: الارتقاء بمهن التّربية والتّكوين والبحث والتّدبير، تقرير رقم 3/2018، ص58.
[11]– أهمّها: التّخطيط والتّدبير والتّقويم، وعموما كلّ ما يمتّ بصلة إلى “الممارسَة الفصليّة”.
[12]– المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين: تطبيق الميثاق الوطنيّ للتّربية والتّكوين 2000-2013، المكتسبات والمعيقات والتّحدّيات، 2014، ص156-157.
[13]– المجلس الأعلى للتّعليم: حالة منظومة التّربية والتّكوين وآفاقها، الجزء الرّابع: هيئة ومهنة التّدريس، التّقرير السّنويّ 2008، ص83.
[14]– المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين: الرّؤية الاستراتيجيّة، ص24.
[15]– المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين: إطار الأداء لتتبّع الرّؤية الاستراتيجيّة في أفق 2030، المستوى الوطنيّ 2015-2018.
[16]– الحسن اللّحية، كفايات المدرّس(ة): المهنيّة ومرجع الكفايات، الرّباط: دار نشر المعرفة، 2011، ص12.
[17]– تتحدّث الرّؤية عن “تعاقُد الثّقَة” للارتقاء بأوضاع التّربية والتّكوين وترسيخ أخلاقيّات المهنة، يُنظر: الرّؤية الاستراتيجيّة، ص29.
[18]. المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلميّ، تقرير رقم 3/2018، ذكر سلفاً.
[19]– المرجع نفسه، ص42.
[20] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[21]– مثلما وردت في التّقرير آنف الذّكر، ص47.
[22]– المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين: الرّؤية الاستراتيجيّة، ص82، ينظَر أيضاً: مجلّة دفاتر للتّربية والتّكوين، العدد 8/9، مرجع مذكور آنفا، صص153-154-155. وقد عاد المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين مرّة أخرى إلى إشكال المهننة في الإحالة الذّاتيّة، الّتي أسفرت الرّأي رقم 5/2019، المشار إليه آنفاً.
[23]– المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين، رأي المجلس رقم 5/2019، ص24.
1 تعليق
ان “المدرسة” ليست مجرّد “فصل دراسيّ” بقدر ما هي أرضيّة التقاء جماعات متعدّدة ومتقاطعة ومتصارعة أيضا.