ملخّص:
يقال إنّ “راولز” أحدث ثورة في الفلسفة الاجتماعيّة عندما أعاد النّظر في مفهوم العدالة، الأمر الّذي جعله يدخل في نقاشات فلسفيّة وسياسيّة مع عديد من المفكّرين انعكست على نظريّته، وأسهمت فعليّا في تجويدها وتدقيق منطلقاتها ونتائجها حتّى خرجت على الصّورة التّامّة في نظريّة العدالة كإنصاف. وهي على العموم تتأسّس على مبدأيْ المساواة واللّامساواة ثمّ الحرّية، مع إيلاء الاهتمام بالأقلّ حظّا ممّن حُرم من المواهب.
ولأهمّية هاته النّظريّة، ارتأينا أن نخصّص لها هذا المقال الّذي قسّمناه إلى محوريْن:
- المحور الأوّل: وقد نظرنا من خلاله في أدوار ووظائف نظريّة العدالة كإنصاف، مع محاولة تعريفها من خلال هذه الأدوار.
- المحور الثّاني: وقد خصّصناه للحديث عن مبادئ ومنطلقات هذه النّظريّة.
ولم نغفل عن استحضار بعض التّحديّات والرّهانات الموضوعة أمام هذه النّظريّة.
الكلمات المفاتيح: العدالة، نظريّة العدالة كإنصاف، مبدأ المساواة، مبدأ الحرّية.
Abstract:
Rawls is said to have revolutionized social philosophy when he reconsidered the concept of justice, which got him into philosophical and political debates with many thinkers who reflected on his theory, and actually contributed to its refinement and scrutiny of its premises and results until it came out in its full form as “the theory of justice as fairness”.
In general, it is founded upon the principles of equality, inequality and freedom, together with paying attention to the less fortunate who are deprived of talent.
Due to the importance of this theory, we have decided to devote this article to it, and we have divided it into two main axes: In the first axis, we have examined the roles and functions of the theory of justice as fairness and tried to define it through these roles. As for the second axis, we have devoted it to talking about the principles and premises of this theory, without forgetting to evoke some of the challenges and bets placed upon this theory.
Keywords: justice, the theory of justice as fairness, the principle of equality, the principle of freedom.
1- تمهيد:
عَرِفت علاقة الفلسفة بالمدينة -ومن ثَمَّ بالسّياسة- عديدا من التّقلّبات؛ ففي مرّات تميل هاته العلاقة للهدوء والمسالمة، وفي مرّات أخرى تشهد ضربًا من الصّراع والتّشاكس. وداخل هذا المجال الصّراعي، ومن منطلق فكرها النّقديّ، تطرح الفلسفة جملة من الأسئلة والإشكالات تخصّ نوعيّة الاجتماع البشريّ، وطُرق تنظيمه وتدبيره، وأوجُه تحصيل أكبر مقدار من النّفع والحياة الرّغيدة لأفراده. وها هنا يُطرح سؤال العدالة باعتباره أحد المفاتيح الأساسيّة لتحقيق خير الجماعة وإنصاف جميع أفرادها عبر ضمان تمتّعهم بكامل الحقوق مع إمكانيّة استعادتها في حالة انتهاكها. لذلك حقّ توصيف العدالة بكونها منظومة متكاملة تحتاج لتضافر جميع الهيئات المدنيّة والمكوّنات الاجتماعيّة والمؤسّسات التّابعة للدّولة. وبالتّالي، تبرز العدالة كشأن عموميّ وكحاجة ملحّة اجتماعيّا. يستحيل العيش من دونها. إنّها بمثابة الماء والهواء للإنسان. وفي هذا السّياق يدخل اهتمام “جون راولز” John Rawls (1921-2002) بمسألة العدالة، وذلك عبر طرح مشروعه بداية من ثمانينات القرن العشرين، ألا وهو نظريّة العدالة كإنصاف. فما المقصود بها؟ ما هي أدوارها ووظائفها؟ وعلى ماذا بُنيت؟ أيْ، ما هي أسسها ومنطلقاتها؟
2- في الحاجة إلى العدالة: أدوار ووظائف جديدة:
مع تصاعد الحركات الاحتجاجيّة في ربوع العالم، وما شهده من تزايد مؤشّرات العنف وارتفاع منسوب الظّلم، واتّساع الهوّة الطبقيّة، يبرز للعيان أهمّية تحقيق العدالة في المجتمع وعلى نحو مستعجل، فالتّأخّر عنها يرفع منسوب الكره والحقد، ويزيد من حجم الصّراع والنّزاع على كلّ المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة إلخ…
العدالة تحتاج حسب “راولز” إلى نوع من التّوزيع والتّقاسم وإلى مزيد من التّنازل، عسى أن تجتمع الأطراف المتنافية المصالح، والمتعدّدة المصادر والهويّات، وذلك في اعتراف كلّي باستحقاقها لهذا التّعامل العادل والمتكافئ؛ من مثل منحها حقّ الملكيّة والمكافأة والمنصب أو تسديد دينها أو إظهار الاحترام لها إلخ…كلّها أمور تؤكّد بالملموس درجة التّسامح المتقدّمة في هذا المجتمع اللّيبراليّ، وتؤشّر لمدى انفتاحه على المختلِف والمبايِن علاوة على استعداده لتقبل الآخر .
يبدو هذا الشّكل من التّعامل هو الأنسب والأقرب لإعلاء كلمة التّضامن الاجتماعيّ، وبديلا ملائما لما يسمّى بالإحسان العموميّ. إنّه شكل داعم لروح الشّراكة الاجتماعيّة القائمة على اختيار تقاسم المنافع والخيرات الاجتماعيّة بلغة “جون راولز”[1]. القرار بيد كلّ شخص ولا دخل للمجموع في اتّخاذه، حتّى وإن كان هذا القرار شخصيّا واختياريّا حرّا، في استعادة من “راولز” للنَّفَس الكانطي إلا أنّه يبدو الأقرب للصّواب. لذا إنّه من المفروض واللّازم اختياره والقيام به. وكأنّه يجعله ضرورة اجتماعيّة، ويجعل العدالة بالتّالي فعلا إكراهيّا يضمن خير جميع المتدخّلين والفرقاء الاجتماعيّين والسّياسيّين والاقتصاديّين. لاسيّما وأنّ الكلّ معنيٌّ بالخير الاجتماعي. فتلبية مطالب الفرد والمجتمع أوّلويّة الأوليّات في نظريّة العدالة كإنصاف (Justice as fairness)، الأمر المفسّر لماذا جعل “راولز” الكلّ معنيّا بالمشاركة من موقعه في بناء هذا النّظام الجامع؟
وهكذا، لكي يبعد “راولز” المصالح الذّاتيّة، خصوصا المتناقضة منها، مع مطالب الآخرين، ويقضي على المواقع التّفاضليّة للأفراد، المتأتّية من جرّاء صدفة امتلاك مواهب وملكات تتناسب مع مطلب الكلّ الاجتماعيّ؛ كبياض البشرة والذّكورة إلخ… لذلك أقام “راولز” ما يسمّى بحجاب الجهل (veil of ignorance). وبيانه أن لا أحد يعرف موقعه في المجتمع أو طبقته أو وضعه الاعتباريّ. فلا واحد يدرك حظّه ونصيبه في توزيع الموارد الطّبيعيّة مثل الذّكاء والطّول والبياض والطّبقة… وغير ذلك[2]. يسمح حجاب الجهل بإعادة المشاركين في فعل صياغة قوانين وتشريعات المجتمع عبر التّعاقد الاجتماعيّ وينشأ عن حالة أصليّة سيحضر فيها مبدأ المساواة ويغيب عنها الموقع الأوّلي المفضي إلى التّفاضل على أساس غير الكفاءة والاستحقاق، إذ من شأن غياب حجاب الجهل أن يشكّل دافعا قويّا للمنافحة عن هذه المصالح والخيرات والحقوق المكتَسبة ضدّ الآخرين. ممّا يجعل من المستحيل تقاسم الخيرات والمنافع على النّحو الأمثل. وعلى النّقيض من ذلك، لو أنّ المشاركين في فعل التّأسيس لقوانين المجتمع على جهل بهذا الموقع أو قل يوجدون من دون موقع، ولا علم مسبق بطبيعة مكتسباته أو ملكاتهم ومؤهّلاتهم، فإنّ كلّ واحد وهو يشرّع سيتوقّع أسوأ احتمال وهو وجوده في أدنى المجتمع. ذلك يعني أنّه سيحاول جاهدا تذويب الفوارق وعدم السّماح بها بحيث سيختار كلّ واحد تقاسم الخيرات والمنافع حتّى يضمن استفادة منها في أيّ موقع جاء فيه بعد انجلاء حجاب الجهل.
وعليه، فالأحسن هو نظام عادل يمكن أن أستفيد منه من أيّ موقع ، ويخيّل إلينا أنّ “راولز” يُولِي أهمّية لامتناهية لمسألة المواقع الاجتماعيّة ويحاول ما أمكنه ذلك القضاء على النّظام التّقاطبي الطّبقيّ. الممركز للخيرات والمنافع والمكاسب في يد بعض الفئات الأقليّة المحظوظة. وعليه، يبدو حجاب الجهل بوصفه فكرةً محوريّةً تشكّل الأساس الصّلب لنظريّة العدالة باعتبارها حقّا عند “راولز”، مبدؤها الجهل الواعي بقيمة مساواة الجميع عند المنطلق. فالبداية من المجتمع والنّهاية عنده، والأفضل للمجتمع هو بمعنى مّا من المعاني أفضل للفرد. لذلك تبرز علاقة جدليّة ضامّة لطرفيْ المجتمع العادل؛ أيْ الفرد والمجتمع. وكأنّنا بـ”راولز” يقرّ ألّا مقدرة لنا على تحصيل المساواة والإنصاف إلّا على أساس الجهل، بما يمثّله من حالة غياب للوعي بالذّات وبموقعها ومنبتها وأصولها وهويّتها وطبقتها.
هكذا، يجرّد “راولز” كلّ الذّوات من أهمّ خاصّيّة شكّلت نظام العدالة ألا وهي خاصّيّة الوعي والفهم، ممّا يثير التّساؤل: على ماذا نتفاوض ونتنافس ونتحاور إن كنّا من الأساس نجهل ذواتنا وهويّتنا وموقعنا؟ ثمّ ما الّذي سنتنازل عنه إن كنّا لا نملك أيّ شيء في حجاب الجهل الرّاولزي؟ والأهمّ، ما السّلطة الّتي تُناط بها مسؤوليّة فرض ما تمّ الاتّفاق والتّعاقد حوله؟[3]
لا يخوض “راولز” في الإجابة عن هذه الاعتراضات بجملة واحدة، بقدر ما يمعن في تجزيئها ثمّ معالجتها انطلاقا من بسط المبادئ الّتي تتأسّس عليها نظريّة العدالة كإنصاف، وهي مبدآ المساواة والحرّية. والمطلوب أن يتّصف بهما كلّ فرد ومجتمع، بل حتّى الدّولة بمؤسّساتها وأجهزتها، لذا لا يجب أن ننخدع فنعتبرها مجرّد مبادئ وكفى، لأنّها أيضا معيار ومقياس معتمد لوزن مختلف الأنظمة السّياسيّة ومدى حضور وتغلغل العدالة فيها. فالكلّ يساوي الكلّ، إذ يُنظر إلى الموجودات البشريّة(حتّى لا نقول “المواطن” لِمَا في هذا المفهوم من انتماءات سياسيّة قبليّة حسب نظريّة التّعدديّة الثّقافيّة) في تجرّد مواقعها ومصالحها وهويّاتها وحتّى مواهبها وملكاتها. لكي لا نقول إنّ “راولز” يستبعد المواهب الطّبيعيّة(من مثل الذّكاء الموسيقي، الرّسم…)والظّروف الاجتماعيّة(الانحدار من أسرة ميسورة…) لكون هذه الأمور تدخل ضمن الحظّ والنّصيب وبلغة الدّين القضاء والقدر أو الأرزاق، ويضمن انتفاع البعض وتضرّر البعض الآخر، كما يسهم بشكل أو بآخر في انتهاك حرمة وحقّ هذا الشّخص في العيش الكريم في مجتمع صادف أن وجدت فيه، وصادف أنّه أغلبيّة ولا يتوفّر على شروطه الأولويّة، كأن يكون امرأة والمجتمع يقوّي من حظوظ الرّجل على حسابها، فما دخله أو دخلها في هذا الأمر؟ ولماذا سيحاسب الشّخص على ما لا يد له فيه؟
صفوة القول، تقوم العدالة بإشباع كلّ الرّغبات والاعتراف بحقوق وحرّيات جميع النّاس[4]، وتتحمّل أعباء مشاركة الجميع في الحياة الاجتماعيّة، ممّا يعني أنّها فعل دامج ولامٌّ وجامع وموحّد، يحضر فيه مبدأ الفرق The principe of différence بوصفه ضمانةً أساسيّةً لضمّ الأقلّ حظّا والأقلّ موهبة من المتخلّفين عقليّا والمعاقين والأقلّيات والنّساء والسّود، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة الكفاءة والقدرة أوّلا وأخيرا. فالتّطوير والتّنمية هدف شامل ونهائيّ لنظريّة العدالة كإنصاف، بحيث لا تصبح مبادئ الفرق والمساواة والحرّية مبادئ محافظة تلعب دور الكابح والمانع عن تنمية وتطوير كفاءة هؤلاء الأقلّ حظّا. لذلك لا محيد عن نوع من التّضامن الحيويّ بين فئاته كما اشترط “راولز” متابعا في ذلك “إميل دوركايم”. Émile Durkheim(1858-1917)[5].
تبعا لما تقدّم، فإنّ المشاركة الفعّالة من شأنها أن تقوّي الحضور المتعدّد والفاعل لكلّ الأطراف ومن مختلف مواقعها. كما أنّها مشاركة تمنح حقّ الفعل والقدرة على الإنجاز والسّرد والحكي بلغة “ريكور” Paul Ricœur(1913-2005) لكلّ الهويّات والأديان والأطياف الاجتماعيّة. لذا، هي عدالة إجرائيّة ومُنصفة لكونها تقوم على أساس الكفاءة والمشاركة الفعّالة للأفراد. ولعلّ من هذا المعيار يستمدّ الفرد أو الثّقافة قيمته أو قيمتها داخل المجتمع، بحيث أنّ الكلّ مدعوٌّ إلى القيام بعلمه على أحسن وجه. والتّمايز يُخلق نتيجة الجودة في الفعل والإنجاز. ولئن دلّ هذا على شيء، فإنّما يدلّ على حياديّة هذا المعيار وانفتاحه وقابليّته إلى التّطوّر والتّنمية والتّلاؤم مع مختلف المتغيّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة. إنّه معيار جاذبيّته كامنة في أنّه يستبعد ويقصي كلّ الظّروف الخارجيّة البرّانيّة على الفعل؛ من قبيل الدّينيّة أو اللّغويّة. يُنظر إليه في تجرّده وتساميه بغضّ النّظر عن التّنوّع النّهائي للظّروف، والتّغيير النّسبيّ في مواقع الأشخاص أو انتماءاتهم الإثنيّة أو الدّينيّة أو اللّغويّة[6] بل إن “راولز” يُولِي في هذا المستوى -عناية منقطعة النّظير للنّظام اللّيبراليّ الجديد بالفرد- لاسيّما الأقلّ امتيازا وحظّا، بحيث يعامله وفق مبدأ اللّامساواة أو الفرق.
يفرض “راولز” على الدّولة الزّيادة في سياساتها ومشاريعها التّنمويّة بهدف الزّيادة في الاعتناء بهؤلاء، وذلك عبر إكسابهم مزيداً من القوى والملكات والمؤهّلات تضمن لهم المنافسة على الحظوة والمكانة داخل المجال الاجتماعيّ، ما يفتح باب المنافسة الشّريفة على المناصب، وفي هذا الباب يعتقد “راولز” أنّ هناك شروطا تعجيزية تقصي الأفراد أو البعض غير المحظوظ منذ البداية وقبل المنافسة، منها مثلا عامل السّنّ أو عامل الطّول أو الجنس إلخ…، ويتساءل أليست هذه شروطاً إقصائيّة لا شروطاً انتقائيّة؟[7]
المهمّ هو إقدار الأفراد على المشاركة الفاعلة في الإنجاز والسّماح لكلّ الفئات بالفعل[8]، دون إغفال الاعتراف بمن أنجز ثمّ إثابته أو معاقبته. فمسألة الموقع مسألة مهمّة، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في نظام العدالة التّوزيعيّة المرجوّة كما أخذت المواهب والحظّ بعين الاعتبار. وإذن، الظّروف الاجتماعيّة والأسريّة الملائمة والمواهب والامتيازات لا تؤهّل بالضّرورة إلى المطالبة بأيّ امتياز. الأصوب والأحسن حسب “راولز” هو فكرة الاستحقاق المتّصلة بجوهر الاجتهاد الشّخصيّ والنّشاط الفردي؛ المظهر لمدى أصليّة الشّخص[9].
بحث “راولز” عن مبادئ ومنطلقات جديدة تدافع عن مبادئ نظريّة العدالة؛ الحرّيّة والمساواة بشرط أن تضمن استفادة من هم أقلّ حظّا. فالكلّ سيستفيد من هذه المبادئ العادلة، ولو أتيحت الفرصة للنّاس في الوضع البدئيّ حيث ستار الجهل يمنعهم من ملاحظة موقعهم وتتبّعه داخل المجتمع، قلنا لو أتيحت لهم فرصة اختيار نظام للعدالة فسيختارون لا محالة هذا النّظام الرّاولزي الأكثر إنصافاً. الحجّة الأولى الّتي دفعت “راولز” إلى اختيار نظامه، وتفضيله على باقي الأنظمة، كونه يركّز على التّساوي في حظوظ المنافسة الشّريفة. بمعنى آخر كلّ المتنافسين لهم الحقّ في الاستفادة من ظروف منصفة.
حاول “راولز” إضفاء جوّ اجتماعيّ تعاونيّ، يضمن إسهام الجميع ومشاركة الكلّ بجدّ، بما يمكّن من اندماج فاعل وسلس في هذا المجتمع. إذ ما يحكم أفعال النّاس ووضعهم هي تصرّفاتهم وأفعالهم وكفاءتهم وليس الوضع الاجتماعي المنحاز، كأن يولد الشّخص في أسرة مرموقة وحاكمة أو لون محدّد…[10] فالنّجاح شيء يكتبه هو على نفسه باجتهاده وإبداعه لا شيء يُوهب له على وجه الصّدفة والحظ. ولنلاحظْ ها هنا أنّ “راولز” يستبعد العوامل الخارجيّة في التّوزيع العادل؛ من قبيل عوامل طبقيّة مرتبطة بالشّكل الخارجيّ للأفراد كاللّون. وعوامل اجتماعيّة من قبيل الولادة داخل أسرة مرموقة. كما يجب على نفس المنوال أن تُوظّف ملكات ومواهب البعض الموهوب لصالح المجموع والأقلّ حظّا الّذي خذلته الطّبيعة دون سبب معروف، ومنحت غيره ما ينقصه. فلا مجال والحال هاته أن يزيد المجتمع بدوره في تكريس أولويّة المحظوظ، إذ دور نظام العدالة كإنصاف هو إعادة استغلال هذه المواهب لصالح الأقلّ حظّا. يقول “كيمليكا” Will Kymlicka(1962- …): ” فإذا لو أنّني دون أن كون نشأت في وسط اجتماعيّ يحظى بامتيازات من دون أن تزوّدني الطّبيعة بمؤهّلات استثنائيّة نجحت بفضل اختياراتي الصّائبة وجهودي الخاصّة في الفوز بنسبة من الدّخل تفوق ما حصل عليه غيري؟”[11].
تمسي الملكات والمواهب ملكيّة عموميّة، ومشاعا اجتماعيّا تستفيد منها الجماعة أوّلا قبل الفرد[12]، وها هنا نلاحظ أنّ “راولز” يميل إلى الاتّجاه الجماعاتي، وبطريقة غير مباشرة ستستفيد الجماعة من موهبة الفرد، فرخاؤه من رخائها، وقديما شبّه “أرسطو” الصّيف بمجموع عدد الأيام الصّحو. فكذا السّعادة لا تتحقّق بسعادة الفرد الواحد بمواهبه وقواه بل بسعادة مجموع الأفراد. بما فيهم الأقلّ حظّا. هذا في ما يخصّ الحجّة الأولى، أمّا الحجّة الثّانية؛ فهي حجّة العقد الاجتماعيّ (Contrat social) وتقوم على افتراض وجود وضع بدئيّ/أصليّ تستر فيه الوضعيّات الاجتماعيّة عن النّاس ليظلّوا على الحياد والاستقلال أثناء وضع أسس العيش المشترَك المتضمّنة في مبادئ العقد الاجتماعي[13]. وضع النّاس الاعتباري بوصفهم مشرّعين يفرض عليهم ملازمة الاستقلال والحياد وعدم الانحياز لكي تكون القواعد أكثر عدالة وملائمة للجميع. إذ الأفراد في هذا الوضع البدئيّ أو قل قبل الاجتماعيّ – الّذي يسمّيه “ريكور ” : لا اجتماعيّة المجتمع – يجهلون مواقعهم ومؤهّلاتهم وملكاتهم. و أيّا يكن الأمر، فما يحجب إنّما هو الجانب الهووي للشّخص وإدراكه لذاته، فكيف يختار وهو يجهل ذاته؟ بل كيف نطلب منه السّهر على إجراء تعاقد اجتماعيّ لا يعلم عنه أيّ شيء؟[14]
الأمر أشبه – في نظر “راولز”- بأن نعطي لمشارك لا علاقة له بما يراد تقسيمه كعكة عليه تقسيمها دون أن يعلم الغرض من هذا التّقسيم، ونصيبُه منها وأيّ جزء من الكعكة سيناله أو سيكون هو نصيبه. الأمر يحتاج منه للتّقسيم إلى نوع من المغامرة والحظّ يُبني على تأويج الأدنى. والمقصود من ذلك أنّ هذا الشّخص -الّذي أصبح متورّطا في اللّعبة وبالتّالي فقد حياديّته الّتي تصوّرها “راولز”- سيقسم وعينيه على الاحتمال الأسوأ وهو حصوله على أدنى خيرٍ أو أقلّ منفعةً. ولنتصور الآن أنّ لدينا ثلاثة أشخاص اكتسبوا بمجهود مشترك عشر تفّاحات، فأرادوا تقسيمها، فيمكن أن يقسموا المحصول بينهم بأن يأخذ أحدهم 5، والثّاني ،3 والثّالث 1(الحالة الأولى) أو يأخذ أحدهم 5ـ، والثّاني 3، والثّالث 2(الحالة الثّانية). تكون الحالة الثّانية هي الأفضل والأصوب والأعدل للجميع لأنّ الفوارق بين الأخير والأوّل ليست كبيرة، والأقل حظّا بإمكانه أن ينال نصيبا ملائما يحفظ كرامته بل باستطاعته أن يترقى[15]. ولن يضيره في شيء في أيّ موقع وُجد.
تيعا لهذا، يلاحظ “ويل كمليكا” أنّنا هنا نحارب الإبداع والاجتهاد من حيث أنّنا نؤوّج اختيارا فرديّا قد يكون خاطئا أو رغبةً ذاتيةً تحقّق مصلحة خاصّة. فمثلا، اختار أحد الأشخاص أن يستعمل أرضه من أجل التّرفيه فأنشأ فيها ملعب غولف، بينما الثّاني استغلّها في الفلاحة والزّراعة والحصد والرّعي فحصل على أموال أكثر ومدخول أكبر بالمقاربة مع الأوّل. على الدّولة إذن بمقتضى المبدإ الرّاولزي تأويج الأدنى(صاحب ملعب الغولف)، وذلك عن طريق فرضها لضرائب على البستانيّ أو الفلّاح، ثمّ منح جزء منها إلى المترفّه والمتنزه(صاحب ملعب الغولف)، ما يعني أنّه مبدأ يرسّخ الظّلم الاجتماعيّ ويزيد من حجم التّواكل، فلماذا سيعمل صاحب الغولف إن كان سيمنح بمنطوق المبدأ الرّاولزي ما سيُغنيه عن العمل؟ بل لما يستعمل البستانيّ/الفلّاح إن كان سيأخذ من كدّه من لا يعمل؟
الكلّ إذن سيختار أن يكون هو الأدنى الّذي سيجلب اهتمام واعتناء الدّولة، ولا أحد سيطلب الثّراء والغنى إن كانت الدّولة ستركّز عليه وستأخذ من ماله[16]. ولو شاء “راولز” لمبدئه أن يكون أكثر عمليّة فعليه أن يشرط العمل والاجتهاد والاستحقاق والمردود، وفي هذه الحالة، نحن نشجّع على اللّامساواة وندعم ضرورة التّباين والاختلاف في المواقع والمناصب، ولعلّ هذا نقيض مذهب “راولز”، إذ سوف نزيد من حجم تواجد الأقلّ حظّا، ونقلّل في المقابل من حضور الموهوب فقط لأنّ الأقلّ حظّا شخص فاشل وحسود لا يقدر على العمل والاجتهاد رغم توفّر الظّروف الملائمة. وحتّى هذا الشّرط لا يقبله كثيرا “كمليكا” في إطار مراجعته لنظريّة العدالة كإنصاف، فالشّروط يصنعها الشّخص المتفوّق وإن عانى منها، لكنّ الشّخص الفاشل بالرّغم من توفّرها لن تغيّر منه أيّ شيء. وإذن، كفى من تحميل الشّروط والسّياقات الاجتماعيّة كامل المسؤوليّة في غياب العدالة أو حضورها[17].
ودائما في السّياق النّقدي لنظريّة العدالة كإنصاف، ومدى أهمّية العدالة وأدوارها في المجتمع، يتناول “دووركين” في فصل موحّد، نظريّة “راولز” الّتي تنصّ على أنّ النّاس دخلوا المجتمع بناءً على تعاقد اجتماعيّ وهم لا يعلمون مواقعهم أو مؤهّلاتهم أو طبقاتهم…إلخ، فصادقوا على التّعاقد عن غير وعي، وبمنتهى العقلانيّة سيختارون مبدأيْ “راولز” وهما: الحرّية والمساواة اللّذيْن يمثّلان خير الجماعة ورخائها. على الرّغم من أنّهما قبليّان إلّا أنّ الموافقة عليهما تبدو الأكثر منطقيّة. مثلا لو وجد طبيب مريضا فاقدا للوعي وينزف دما، ثمّ زوّده بالدّم وعمل كلّ ما من شأنه إنقاذ هذا المريض، فمن الطّبيعيّ أنّ المريض لو كان واعيا لكان دون تردّد طلب هذا الأمر من الطّبيب، وبقياس الرّبح والخسارة، فإنّ المريض لم يخسر أيّ شيء بإنقاذ حياته وربح في المقابل كلّ شيء.
وعليه، فعمل الطّبيب قام على موافقة ضمنيّة ومفترضة من المريض، وكذا الحال بالنّسبة للمبدأيْن إذ من الطّبيعيّ والمنطقيّ أن يختارهما الجميع حتّى وهم تحت وقع حالة جهل، وقد كتب ” رونالد دووركين” Ronald Dworkin(1931-2013) : “وإذا اعتبرنا أنّ هذه الحجّة تفيد بأنّه من العدل تطبيق المبدأيْن، فلابدّ أن نعتبر أنّه ما دام هناك من لا يقبل ببعض المبادئ لو يستشار فيها على نحو مبكّر فسيكون من العدل تطبيق تلك المبادئ عليه فيما بعد ضمن ملابسات مختلفة في وقت آخر لا يوافق فيه عليها. لكن حجّة كهذه تُعدّ باطلة. لنفترض أنّني يوم الإثنين لم أكن أعرف ثمن لوحتي الزّيتيّة ولو أنّك عرضت عليّ يومها 100 دولار لكنت قبلت أن أبيعها لك. يوم الثّلاثاء اكتشفت أنّ قيمتها تفوق ذلك بكثير. لا يمكن أن تدّعي القول أنّ العدل هو أن تحكم عليّ المحكمة ببيعها إليك مقابل 100 دولار يوم الأربعاء. قد يكون الحظّ أسعفني لأنّك لم تطلبها منّي يوم الإثنين وليس هناك مبرّر لإكراهي على ذلك في ما بعد”[18]. فلا مبرّر للحديث على أنّ المبدأيْن يضمنان خير الجميع لأنّنا لا نعرف في ايّ شيء يتمثّل خير الجميع. وإن كنّا نعرف آنيا فقط، وهنالك قابليّة لأن تتبدّل المعطيات. ما نحن على يقين منه أنّ لكلّ منهم خيره الخاصّ ومنفعته الشّخصيّة. ولا يمكن تصوّر الخير دائما في المساواة ولا في الحرّية.
بناءً عليه، نحن في مسيس الحاجة – في نظر “دووركين”- إلى الوعي العامّ لكلّ من النّساء والرّجال المكوّنين للعقد الاجتماعي. إذ مبادئ العدالة هي الّتي تمّ اختيارها من طرف المحكومين بها، وشاركوا في بنائها بحوار ونقاش حرّ ونزيه وشفّاف، وهم من يتحمّل مسؤوليّة القيام بها أو حتّى تعديلها أو الاعتراض عليها؛ يسمّيه “دووركين” بحقّ الفيتو Right of Vito [19]. فـ”دووكرين” على وعي تامّ بالأرضيّة الّتي بُني عليها العقد الاجتماعيّ. وهي إلى ذلك أرضيّة آيتها المساواة القويّة والحرّة الموسّعة، ومركزها وعي بالدّائنيّة تجاه جميع البشر، من حيث هم شخصيّات معنويّة معتبرة ومحترمة ضمنيّا تُعامل بوصفها غاية في ذاتها، كائنات بشريّة مواطنة لها كلّ القدرة على إنجاز مشاريعها الخاصّة، وبدعم ومساندة من الدّولة.
صفوة القول، يلاحظ أن نظريّة العدالة كإنصاف أمعنت في تفسير حسّ العدالة العالي الموجود عند الجنس البشريّ، وذلك راجع عند “راولز” إلى الوضع الأصلي أو البدئي، وهو حالة أولى نعود فيها إلى ما كانت عليه البشريّة عند الولادة بدون الزّوائد الاجتماعيّة والأعراض الثّقافيّة والتّفاوتات الاقتصاديّة والمواهب الطبيعيّة[20]؛ أيْ عاد إلى حالة من المساواة المطلقة والنّهائيّة. وهكذا يعترف “راولز” بضرورة وجود تكافؤ مبدئيّ تحرزه كلّ الأطراف المتنازعة والمتشاكسة حسب نظريّة الصّراع، ليستنتج أنّ الوضع الأصليّ حالة افتراضيّة، تضع الأشخاص خارج كلّ الأنظمة بما فيها الاجتماعيّة والقانونيّة الوضعيّة والأخلاقيّة. وعلى هذا المستوى جنّب الوضع الأصلي العيوب السياسية، والخلل الأخلاقي في السّلوك والفعل، من قبيل الأنانيّة والإهمال ثمّ التّنكّر إلخ…، فهي حالة صالحة لاشتقاق مبادئ العدالة والإنصاف منها، قدمها “راولز” بمثابة حلّ أسمى لمشكل التعدّديّة الهويّاتيّة ولتضارب المصالح والنّزاعات والتّقاطبات الطبقيّة. يصرّح “راولز”: “لقد افترض إذن أنّ الأطراف لا يعرفون أنواعا معيّنة في المقام الأوّل. لا أحد يعرف مكانه في المجتمع، طبقته الاجتماعيّة أو وضعه الاجتماعيّ، ولا يعرف نصيبه من التّوزيع المتعلّق بالإمكانات والموجودات الطّبيعيّة، ذكاءَه وقوّته وما شابه ذلك”[21].
تأسيسا على ما تقدّم، قد يتقاطع حجاب الجهل مع الوضع الأصلي، إذ من مميّزات الوضع الأصلي غياب الوعي الّذي يمكن أن نصطلح عليه الجهل الموجب[22]، نظير ما يقدّمه من منافع إيجابيّة للجنس البشري ليس أقلّها تحقيق العدالة. إيجابيّات تجعله متجرّدا ومستقلّا يعيش من أجل الغير، ويضع القوانين في تناسب معهم، ليصير بذلك مصدرا للثّقة ومحلّا للاحترام والتّقدير في مختلف التّشريعات والقوانين الصّادرة عنه. فلا غرابة أن يجد فيه الأشخاص مشرّعا لا يدافع مبدئيّا عن أيّ مصلحة أو موقع. ولا يوظّف موهبته أو طبقته أو انتماءه الدّينيّ أو الثّقافيّ لترسيخ نماذجه الثّقافيّة ورموزه الدّينيّة. وكيف يشغل كلّ ذلك وهو يجهل كلّ شيء يكون في المستقبل؟ ممّا يعني أنّ الوضع الأصليّ يجعل الأشخاص يحايثون الحاضر كلّ المحايثة فلا ماضي لهم ولا مستقبل، هم أشبه بالأطفال الصّغار عند بدايتهم أو في لحظة ولادتهم. بمعنى آخر، ليس للأشخاص في الوضع الأصليّ معلومات عن أنفسهم ولا عن محيطهم. وكأنّ “راولز” يرجع الظّلم والصّراع الطّبقيّ، والتّقاتلات الحزبيّة، والتّناحرات الطّائفيّة والاستغلالات الماليّة إلخ… إلى المعرفة والوعي، أي إلى كائن عاقل أنانيّ يُغلّب مصالحه على مصالح غيره. فيعكس التّعاقد المتّفق حوله هذه المصالح الأنانيّة.
بناءً عليه، تروم الرّؤية التّعاقديّة المبنيّة على حجاب الجهل تقريب وجهات النّظر الفرديّة دونما القضاء على التّنوّع والتّعدّد، الحافظ للحمة الجماعيّة ولتكامل مكوّناتها، فما مبرّر التّوافق والتّعاقد وحتّى العدالة والإنصاف من دون مهره بالتعدّد والتّنوّع؟ وذلك على اعتبار أنّ الإبقاء على هذا التّعدّد والتّنوّع ضمانة للإبقاء على كلّ الاحتمالات والاختيارات مفتوحة أمام الأفراد والمجتمع. وقابلة للتّطبيق متى اتُّفق حولها ورجحت على باقي الاختيارات، فإنّها تصير مشروعا فرديّا وجماعيا مدعوما بالحرية والمساواة، تلك المنطلقات الضّامنة لشرعيّة هذا الاختيار أو الاتّفاق[23]. إذ يكفي أن يكون اختيارا عقلانيّا مبرّرا ومبرهنا عليه، ولا يتعارض مع مبادئ ومنطلقات نظريّة العدالة كإنصاف، فيحوز على الإجماع والتّوافق. وبقدر ضعف حججه وقلّة براهينه يقلّ الإجماع والتّوافق حوله. وبالإمكان استبدال احتمال أو اختيار استبعد قبليّا. ولعلّ المهمّ من كلّ ذلكم هو أن “راولز” يشايع الاختيار العقلانيّ المجمع حوله من كلّ الفئات، والممثّل عند الجميع بشكل متساو، وعادة ما يتمّ التّوافق على قسمة وسطى أو مبدأ بينيّ لا يُضيّع حقوق أيّ فرد، ويضمن رخاء ومنفعة الجميع[24]، الأمر الّذي يستوجب مزيدا من الحرص على اختيار الأفضل والأحسن لصالح الكلّ ومنفعة الجميع، مع الوفاء بالعهدة والميثاق واحترام شروط التّعاقد، كلّ ذلك يحتاج أيضا إلى مزيد من التّضحية من الأكثر حظّا لصالح خير الجميع على الرّغم من اختلاف حجم التّضحية ومداها بالنّسبة إلى الطّرفين. وفعل التّضحية يلعب نفس دور معاملة النّاس باعتبارهم غايةً لا وسيلةً. فما متطلّبات العدالة وشرائطها؟
3- متطلّبات العدالة وشرائطها، أو في أدوار ووظائف العمل السّياسي عند “راولز”:
إنّ الإحساس بالظّلم ناتج عند “راولز” عن الإحساس الثّاوي في كلّ فرد بالعدالة، ورفض كلّ أشكال الظّلم ومن مختلف المواقع والحالات الاجتماعيّة هو نفسه عماد تحقيق العدالة. فأملًا في تحصيل هذا المطلب، وإيمانًا بإمكان تحقيقه عمل “مهاتما غاندي” بجدّ، واجتهد “لوثر كينغ” من أجل تحرير العبيد. كلّ من موقعه سعى إلى إزالة شوائب الظّلم، وتقصد تعديل الأوتار تجاه الفئات المسحوقة في المجتمع. فلا ذنب ولا جريرة لهذه الفئات المهمّشة وغير المحظوظة في ما يحصل لها من ظلم، إلّا أنّها وجدت بالصّدفة في مجتمع لا يطلب ملكاتها ومواهبها، ولا يتصرّف وفقا لعملتها الثّقافيّة والهويّاتيّة. لذلك طالها التّهميش والتّنكّر . ولو أنّها وجدت في مجتمع آخر لكان حالها غير هذه الحال، ووضعها أفضل من هذا الوضع.
تأسيسا عليه، يبدو الانخراط الجمعيّ بتظافر كلّ الفعاليّات الاجتماعيّة والثّقافيّة والدّينيّة لرفع الظّلم وعدم السّكوت عنه، ومحاولة إصلاحه من طرف أيّ كان، فعل مسؤول يحتاج القيام به إلى اجتماع كلّ النّاس. بداية من المثقّفين إلى المؤسّسات الدّوليّة.
ينطلق “أمريتا صان” Amartya Sen(1933- …) من شعوره بالظّلم، فمن ثقافته الهنديّة سوف يحاول أن يبني منظاره الخاصّ إلى العدالة. بعيدا عن الفكر الغربي الأنواريّ. يكتب “صان”: “يبدو لي أنّ حصر الاهتمام بشكل تامّ تقريبا بالأدبيّات الغربيّة، يجعل ممارسة الفلسفة السّياسيّة عوامل ومتطلّبات العدالة محدودة وضيّقة الأفق نوعا مّا”[25]. القدرة Capability هي استطاعة القيام بالفعل اختياريّا عن طواعيّة وبوسائل ذاتيّة. فمن الطّبيعيّ أن ينبثق عن القدرة المساءلة، وتحمّل المسؤوليّة خصوصا عندما يكون الاختيار سيّئا ومضرّا بالآخرين.
حاول “راولز” أن يخفي هذا الرّصيد الثّقافيّ الّذي أشاد به “صان”، وارتأى ألّا ينشّطه وألّا يأخذ به في بناء العقد الاجتماعي، فمن وراء حجاب الجهل لــ “راولز” يُخلف المتعاقدين وراءهم عاداتهم وتقاليدهم وأعراقهم ولغتهم ودينهم، بل إنّهم لا يعرفون حتّى الوضع الاعتباري لهم داخل هذا المجتمع المنتظر بناؤه وتشيده من طرفهم. يرفضها “راولز” تحت مبرّر أنّها انحيازات مسبقة لمجموعة معيّنة ضدّ كلّ المجتمع. إنّها (الحيازات) أداة فعّالة لإبعاد مصالح وأهداف شخصيّة. وفي المقابل يكسر “راولز” الرّصيد الثّقافيّ، ويفرغ الأفراد من محتواهم ومضمونهم الثّقافيّ والدّيني واللّغوي الّذي يساوي ذواتهم. ما يعني أنّ في تخلّيهم عنه تخلّيًا عن ذواتهم. والتّضييق لا يشمل حجاب الجهل باعتباره آليةً كبحيّة للتّعدّد الثّقافي بل يشمل حتّى واجبات الانخراط في هذا التجمع المنتظر، فمن له الحقّ في تحييد وتعليق هذا الجانب؟ وهل هو اتّفاق إن تمّ ملزم للجميع أم هو ملزم فقط لمن اتّفقوا حوله؟[26].
يظنّ “صان” أنّ اعتبار أصوات الآخرين طريقة لتحديد متطلّبات موضوعيّة، إذ لكلّ فرد ولكلّ جماعة أكثر من هويّة، وعديد من المداخل تسمح بأخذ آرائهم بعين الاعتبار لاسيّما وأنّ القرارات المتّخذة تهمّهم وتؤثّر في معيشهم اليومي بطريقة أو بأخرى. فلكلّ شخص همومه وخصائصه، ومن المستحيل أن يأتي إلى التّفاوض من الأساس دون ذاته وعناصر هويّته، وكأنّنا نطلب من الشّخص أن يأتي من دون أن يأتي. نريده أن يدخل لباب الحوار والنّقاش لوضع دستور للمجتمع والدّولة وهو نكرة؛ مبني للمجهول On. ودليل “صان” يستحيل أن نقول للمرأة بضرورة التّخلّي عن خصائصها الأنثويّة والهوويّة، ولا أن نقول لمسلم أو بوذيّ أو مسيحيّ تخلّص من ديانتك كشرط لقبولك في دائرة التّفاوض والنّقاش. ثمّ من هي الجهة المخوّل لها تنظيم هذا الحدث العظيم؟ ما أدوارها؟ وماهي وظائفها؟ ومن له الحقّ في وصفها والتّأسيس لها؟ وإلى أيّ حدّ يقبل تحكيمها في حالة عدم الوصول لأيّ اتّفاق وتوافق؟[27].
إجابة عن الإشكالات السّابقة، يسوق “راولز” الفاعل السّياسيّ بوصفه متدخّلا محوريّا في مجملة عمليّة بناء مجتمع العدالة كإنصاف؛ بداية من الوضع الأصلي إلى حجاب الجهل مرورا من الاتّفاق على تعاقد اجتماعيّ يُبنى على المساواة والحرّية وتأويج الأدنى والأقلّ حظّا. تبرز في نظر “راولز” أدوار عديدة ومتنوّعة للفاعل السّياسي وللفعل السّياسي، يجملها الفيلسوف الأمريكي في أربعة هي:
1 – حلّ النّزاع والشّقاق بين البشر من أجل إيجاد أرضيّة مشتركة، وحلّ توافقي يجمع الإخوة على صعيد واحد. وفي هذا النّطاق ستظهر مقولات التّسامح والحوار والتّضامن إلخ…نازعة فتيل غياب الثّقة والخلاف والتّغاير على المستويات الدّينية ثمّ الاقتصاديّة فالاجتماعيّة. وما مقولة العدالة كإنصاف إلّا تزكية لهذا الطّرح.
2 – يمكن أن تسهم أيضا الفلسفة السّياسيّة عند “راولز” في وضع أسس ومنطلقات الحياة السّياسيّة، ورسم ملامح أهدافها ومقاصدها، فهي شقّ عمليّ يستهدف تنظيم الفعل السّياسيّ. يسمّيها “راولز” بدور أو وظيفة التّوجيه Orientation دورها هنا تنظيميّ إداريّ أكثر، يضع المؤسّسات والأجهزة، ويهيّئ المجال لممارسة سياسيّة عادلة ومنصفة تضمن حقوق الكلّ.
3- يبقى “لراولز” هدف أخير يخصّ المجال السّياسيّ يكمن في التّهدئة والتّسوية Réconciliation من الغضب والإحباط الّذي ينتاب بعض الأفراد أو الجماعات من ضعف أداء المؤسّسات والأجهزة السّياسيّة التّابعة إلى الدّولة. وتبيّن قابليّتها إلى المراجعة والتّصحيح كآليّات وأدوات ووسائل تاريخيّة ممكنة التّعديل. فلا إذعان أو خضوع لأيّ مؤسّسة لم تستوف شروط وجودها فعليّا بالمزيد من المقاومة والمكابدة والاجتهاد لتصحّح مسارها.
4- الفعل السّياسيّ تعدّديٌّ تنوّعيٌّ ثمّ صراعيّ نزاعيّ، والأهمّ أنّ أفقه مفتوح على المحتمل والممكن. إنّه فعل تدبير استشرافي يتّجه إلى خلق الأفضل والأحسن بامتياز، مستفيدا من تجارب وخبرات الماضي عن طريق إنجاز توافق بين مبدأيْ العدالة كإنصاف؛ وهما الحرّية والمساواة[28].
يستلزم إعمال مبدأيْ العدالة كإنصاف انخراطا واعيا، وتعاونا تضامنيّا بين مختلف المكوّنات الاجتماعيّة. فلا مجال والحال هذه إلى تحقيق هذه النّظريّة في غياب تعبئة للمواطنين من كلّ الأجناس والفئات والطّبقات، بشرط أن تضمن لكلّ منهم حقوقه بالمساواة. تتحقّق هذه الفكرة بمجتمع حسن التنظيم، ومهيكل بشكل سليم وبمؤسّسات ديمقراطيّة وتمثيلية[29]. مجتمع يستنير بقواعد التّعاون والاحترام المتبادل والمنصف، ويقبل بالتّعدّد والتّنوّع، وينحاز لفكرة أنّه مجرّد عضو داخل جسم لكلّ من أعضائه وظيفة عليه أن يؤدّيها على أحسن وجه من أجل ألّا يفسد النّظام العامّ، جرّاء محاولة تغطية الثّغرة الّتي تركها عضو مّا في حالة لم يحسن القيام بوظيفته على أحسن وجه. الأمر أشبه ما يكون بالجسم الواحد، فاليد عندما تنعزل عن باقي الأعضاء المكوّنة له لا يبقى لها أيّ معنى أو دور، أمّا عندما تدخل في علاقة مع أعضائه فتمسي لها وظيفة عليها أن تؤدّيها بالتّمام والكمال، وفي تناسق مع باقي الأعضاء. وكأنّها “سمفونيّة” واحدة كلّ يعزفها بآلته ووفق لحنه.
لعلّ ما يساعد على إجادة وتلحين العمل والأداء هو اختيار كلّ شخص عن حرّية وقناعة لطبيعة العمل يحرّكه لذلك الحبّ والقناعة، وغياب أيّ إكراه لاسيّما فيما يسمّيه “راولز” بالوضع الأصليّ، المغطّى بحجاب الجهل. “ففي الوضع الأصليّ لا يُسمح للأطراف أن يعرفوا المراكز الاجتماعيّة للأشخاص الّذين يمثّلونهم أو عقائدهم الشّاملة الخاصّة، كما أنّهم لا يعرفون عنصر الأشخاص وجماعتهم الإثيقيّة وجنسهم، أو أيّ مواهب طبيعيّة مختلفة مثل القوّة والذّكاء”[30]. قد يكون الجهل حالة أصليّة مفيدة للجميع، لكونه ينطلق من مساواة الكلّ عند البدء، إذ لا أحد على علم أو وعي بوضعه الاجتماعي أو موقعه الدّيني أو إثنيّته ولونه إلخ… وأمام هذا الوضع من الجهل، يختار النّاس أفضل الأنظمة المنصفة والعادلة الّتي تضمن أفضل المواقع بشكل تقاربي، خصوصا أنّه من المحتمل أن يقع أيّ شخص في أيّ موقع. فلا يستحسن أن تكون المواقع متفاوتة كلّ التّفاوت، بل متقاربة حدّ التّساوي الّذي يؤهّل كلّ الأفراد للانخراط في تعاون اجتماعيّ ومشاركة فرديّة في أسلوب حياة تكاملي. يسمّيها “راولز” بفكرة الإجماع المتشابك، وهو ذلك الإجماع حسن التّنظيم المشتمل على واقع التعدّديّة المعقولة.
إنّ تنوّع العقائد الدّينيّة والأفكار الفلسفيّة، والآراء الأخلاقيّة الموجودة في المجتمعات الدّيمقراطيّة الحديثة ليس مجرّد حالة تاريخيّة سرعان ما تزول، بل إنّه ملمح دائم للثّقافة الدّيمقراطيّة. ما يعني أنّ ميزة النّظام الدّيمقراطي ومكمن قوّته في مدى تعدّد وتنوّع أطيافه، وقدرته على تدبير اختلافاتها والمرور بهم إلى برّ الأمان باعتباره مصدرا لقوّتهم. وبناءً عليه يتساءل “راولز”: ما المبادئ والمرتكزات الأكثر ملائمة للمجتمع الدّيمقراطي[31]؟
تبعا لذلك، نجد أنّ الأفضل لتحقيق هذا المجتمع المنشود هو نظام يرسّخ المساواة ويدافع عن الحرّية. وهو النّظام اللّيبرالي السّياسيّة. وآيته واقعتان، الأولى تخصّ التعدّديّة المعقولة على مستوى تنوّع العقائد إلخ… والثّانية واقعة كون السّلطة السّياسيّة تعتبر سلطة مواطنين أحرار ومتساوين يمثّلون كيانا جمعيّا واعيا، وقادرا على اختيار نخبته الحاكمة[32]. منهم تستمدّ الدّولة والنّظام الحاكم مشروعيّتها كهيئة عقلانيّة، تصدر عنها قرارات بالنّيابة عن هؤلاء المواطنين الأحرار والواعين. وبالتّالي فإنّ كلّ قراراتها لا تتعارض وهذه المبادئ العامّة للعدالة كإنصاف؛ أو على الأصحّ لا يحقّ للدّولة أن تشرّع لأيّ قانون يتنافى مع المبدأيْن السّالفيْن وإلّا فقدت مشروعيّة ممارستها للسّلطة. ويكفي أن نوضّح أهمّية المبدأيْن لنؤكّد واجب احترامهما من طرف أيّ دولة أو نظام للحكم.
هكذا يغدو المبدأ الأوّل رافعة للمساواة التّامة بين المواطنين، بحيث يضمن عدم استفادة أيّ منهم قبليّا من شروط التّخفيف أو بواعث التّفضيل أو استغلال غير مشروع وفردانيّ لمواهبهم. وبذلك تكون لهم فرص النّجاح نفسها، وتتكافأ حظوظهم بمعزل عن أصل طبقاتهم الاجتماعيّة أو ثروتهم أو دخلهم العائليّ. كذا يجوز للدّولة ها هنا أن تمدّ يد المساعدة للأقلّ حظّا والأضعف تحت مبرّر مساواته مع المحظوظ[33]. وبذلكم تمحو التّباين الأصلي بينهم، كما تسمح بالتّنافس على أساس التّكافؤ والإنصاف، حينها يكون النّاتج عن هذا التّنافس المساواتي مشروعا.
ومن الغريب في هذا المستوى أن يمعن “راولز” في بناء نظريّته حول العدالة على مبادئ متناقضة، ضاربا بعرض الحائط المنطق الأرسطيّ القائم على أساس عدم التّناقض والثّالث المرفوع. وبيانه، عند تسليمنا بمبدأ اللّامساواة في الحقوق والواجبات، ينجم عنه ضرورة تسليمنا بمبدأ ينبثق عنه ألا وهو مبدأ اللّامساواة في المال والسّلطة. فمثلا يكفل تشريع الدّولة أنّ لكلّ مواطن الحقّ في التّجارة، البعض عمل واجتهد وتاجر في ماله وربح مالا كثيرا، فيما البعض الآخر لم يتاجر وفضّل أن يظلّ فقيرا. إذن ما نتج عن مبدأ المساواة(الحقّ) هو مبدأ اللّامساواة(الغنى والفقر). خرج أحدهما عن الآخر خروجا منطقيّا على تناقضهما. وعملا بنفس المنطق يمكن قول الشّيء نفسه عن المسابقات، مثلا السّباحة، الكلّ ينطلق من نفس الخطّ، ولكنّ عند الوصول يترتّب الأوّل والثّاني والثّالث إلخ…[34] وبالتّالي يعتمد مبدأ المساواة على مدى قدرة الأفراد عن الاستفادة من قاعدة الحقوق والواجبات المتساوية الّتي توفّرها الدّولة، وهي بدورها مطالبة بجعلهم قادرين على الاستفادة من هذه الحقوق. وعند ذلك من حقّها أن تطالبهم بالالتزام بواجباتهم تجاهها.
مبدأ الفرق/اللّامساواة مبدأ يمتّ بصلة للعدالة التّوزيعيّة جاء من أجل إعادة توزيع الخيرات والمنافع على الأفراد المتضرّرين منهم على وجه الخصوص أو الأقلّ حظّا الّذين لم يستفيدوا من التّوزيع، وهؤلاء لم يحدّدهم “راولز” بلون أو جنس أو فئة أو طبقة إلخ…، وذلك لشساعة تمثيليتهم وتعدّد وتنوّع مجالهم، إذ من الصّعب تحديد الفئة المتضرّرة على وجه الإجمال، ويصعب تحديد نوع الضّرر وكيفيّة علاجه. ما يثير مسألة الاستحقاق، ومن ثمَّ من يستحقّ ماذا؟
الإجابة عن السّؤ المُضمّنة في أنّ معيار التّوزيع مرتبط بالمشاركة الفاعلة في عمليّة الإنتاج. وبقدر ما يغدو المجهود المبذول كبيرا يغدو الاستحقاق أكثر وأحقّ، الأمر المشجّع ضمنيّا لكلّ أفراد المجتمع على إنجاز الفعل الإيجابي والمبدع، خصوصا وأنّ العضويّة والانتماء مرتبطان بما يمكن أو بما هو في مستطاع الفرد أن يقدّمه للجماعة. وبالتّالي، فأيّ واحد بذل مجهودا مضاعفا ولم ينل مراده، يستحقّ أن يعطى في إطار التّوزيع ما يستحقّه بتعديل بسيط في قوانين اللِّعبة. يكتب “راولز” موضّحا هذه الفكرة: “إنّ الفريق الخاسر كان يستحقّ الفوز، فليس ينكر هنا أنّ الفوز والتّكريم هما الرّابحان، إنّما المقصود هو أنّ الخاسرين قدّموا عرضا عالي المستوى للصّفات والمهارات الّتي كانت اللِّعبة موجودة لتشجيعهما، وهو العرض الّذي جعل اللّعبة ممتعة لجهة الأداء ولجهة المشاهدة. غير أنّ الصّدفة والحظّ، أو طوارئ أخرى غير ملائمة أبعدت الخاسرين عمّا يستحقّون”[35]. الرّابح والخاسر من منظور المعيار الاستحقاقي الوارد في النّصّ يستحقّ التّكريم والتّشجيع للمهارات الّتي أبان عليها المتنافسان (الرّابح والخاسر خصوصا الخاسر) وأسهمت في تطوير اللّعبة، وإضفاء الإثارة والتّشويق عليها. وبقليل من الحظّ والصدفة، وبمساعدة ظروف أخرى داعمة للرّابح ومعاندة للخاسر كان من الممكن أن يكون الرّابح خاسرا والخاسر رابحا[36]. فالكلّ ساهم في الإنجاز والكلّ ربح، إذ لولا المنافس والمنافسة لما حطّم العدّاء الفلاني التّوقيت العالمي مثلا. إنّنا نعتقد أنّ المجتمع ككلّ يستحقّ التّشجيع على روح المبادرة الّتي أظهرها أفراده، سواء نجحوا في أعمالهم أو فشلوا. فهم بالتّالي على صعيد واحد لا محيد عن تثمين مجهوداهم وتكريم أعمالهم.
وإذن، فإنّ معيار الاستحقاق معيار بديل لوزن أعمال وأفعال النّاس في المجتمع، جاء بوصفه بديلا عن معيار الحظّ والموهبة والشّرف[37] الّذي يمثّل نوعا من الفعل والإنجاز الخارج عن قوى الأفراد وقدراتهم. الأهليّة والاستحقاق بديل مناسب لكلّ المسبقات الطبقيّة واللّغويّة والدّينيّة إلخ…، والّتي تبدو هويّات خارجيّة لا أهميّة أو قيمة لها في أداء الأفعال. وعليه لا يمكن محاسبة الأفراد بما هو خارج اختيارهم وبما يفوق حرّيتهم. ولعلّ لمبدإ الاستحقاق فائدة أخرى تتجسّد في حثّه على التّعاون مع الآخرين وفق شروط يمكن للكلّ قبولها، وذلك على قاعدة المساواة والاحترام المتبادَل. وبإزالة المسائل الانقساميّة أو الخلافيّة الكبرى الّتي تؤبّد الشّقاق والفرقة الاجتماعيّة، وعملا بمبدأ المنفعة الّذي رفضه “راولز”[38]. قام بتقيده بالنّفع العامّ، وأمهره بألّا يتعارض مع مبدأ أكثر عموميّة منه، ألا وهو مبدأ التّعاون المنصف بين كلّ أفراد المجتمع. إنّه نفع قيّده “راولز” فمال به إلى المشاركة والانقسام لكلّ الخيرات الّتي شارك في إنتاجها الجميع. وبالتّالي استحقّ هذا الكلّ أن يحظى بنصيب متوازن وكامل. ومعنى ذلك أنّه لا يجب استغلال الفوارق الطبقيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة إلخ…إلّا على النّحو الكفيل بإفادة كلّ واحد من النّاس بحيث لا يسيء هذا إلى المجرى الطّبيعيّ(المصالح) لأيّ مواطن، فيعيقه عن الفعل والإنجاز داخل المفهوم الكامل للاستحقاق، الواجب على الدّولة والمؤسّسات والأجهزة التّابعة لها أن تضمنه لتضمن مشروعيّتها. أضف إليه أنّ الاستحقاق يمنع من سيطرة قسم محظوظ من المجتمع على باقي الأقسام غير المحظوظة. حاله على العموم مثل حال المساواة، كليهما مبادئ تنظيميّة ترسّخ العدالة كإنصاف. وتفعيلا لمبدأ الاستحقاق يفرض “راولز” عدالة ضريبيّة تفرض على الأكثر ربحا من أجل الأقلّ رحبا، وذلك سعيا لتقليل الهوّة بينهما. كما وتفرض هذه الضّريبة على الأكثر استهلاكا (على اعتبار أنّه غنيّ) وتوضع في صندوق الدّولة من أجل الأقلّ حظّا، والمعوزين على أن يشترط قيام هؤلاء بمجهود يتلاءم مع قواهم. فلا يقبل أن يتّخذ هذا المبدأ مطيّة من أجل التّواكل والتّقاعس.
4- خاتمة:
ينتظر من مجتمعات اليوم أن تنخرط فعليّا في إصلاح منظومات العدالة، وتقوية حضورها في المجال العامّ، ممّا يعني الزّيادة في توسيع حقوق الأفراد والانتصاف لهم في حال تعرضهم لكلّ أنواع الظّلم، وتحقيق أكبر مقدارٍ من المساواة، وضمان تكافؤ الفرص، مع الاعتناء بوضعيّة الأقلّ حظّا من ذوي الحاجات الخاصّة والنّساء والأقلّ موهبة وكلّ المعاقين. الأمر المؤشّر إلى ضرورة إعادة النّظر النّقديّ في منظومة العدالة من الأساس، ولعل هذا ما تحصل مع نظرية العدالة كإنصاف التي أمعن صاحبها(راولز) في التّأسيس لها على مبدأ الحياد المطلق أثناء وضع التّعاقد الاجتماعيّ في ما يسمّى بحجاب الجهل مع الأخذ بعين الاعتبار أثناء وضع القوانين والتّشريعات الأقلّ حظّا، وذلك عبر احترام مبدأيْ المساواة والحرّية. كلّ ذلك من أجل تحصيل أكبر مقدار من السّعادة والخير العامّ . فإلى أيّ مدى تلائم هذه النّظريّة للمجتمعات العربيّة؟ وهل تحتاج هاته المجتمعات لإعادة النّظر في منظومات عدالتها؟
المراجع:
العربية:
- -تايلور، شارلز: سياسة الاعتراف. ترجمة: عبد الرحيم الدقون. ط1.(الدار البيضاء: عقول الثقافة للنشر والتوزيع. 2018)
- -الحاج لطيف، نوفل: جدل العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالين جون راولز في مواجهة التقليد المنفعي. ط1.(بيروت: جداول للنشر والترجمة والتوزيع)
- -دووركين، رونالد: أخذ الحقوق على محمل الجد. ترجمة: منير الكشو. ط1.(تونس: المركز الوطني للترجمة. 2015)
- -ريكور، بول: إعادة تأصيل العقل الهرمينوتيقي، تأويل السياسة. ترجمة: عبد الحق منصف، عز الدين الخطابي. ط1. (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق. 2021)
- راولز، جون: العدالة كإنصاف إعادة صياغة. ترجمة: حيدر حاج إسماعيل. ط1.(بيروت: المنظمة العربية للترجمة. 2009)
- راولز، جون: نظرية في العدالة. ترجمة: ليلى الطويل. ط1.(دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب. 2011)
- سن، أماريتا: فكرة العدالة. ترجمة: مازن جندلي. ط1. (أبوظبي، بيروت: ترجم مؤسسة محمد براشد آلمكتوم، الدار العربية للعلوم ناشرون. 2010)
- -ساندال، مايكل: الليبرالية وحدود العدالة. ترجمة: محمد هناد. ط1.(بيروت: المنظمة العربية للترجمة. 2009)
- -صوميل كورفنز: جون راولز، نظرية في العدل. ضمن كتاب جماعي: من فلاسفة السياسة في القرن العشرين. تحرير: أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج. ترجمة: نصار عبد الله. ط1.(القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2012)
- -كيملشكا، ويل: مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة. ترجمة: منير الكشو. ط1.(تونس: المركز الوطني للترجمة. 2010)
الأجنبية:
- Luppi, Roberto: John Rawls and the common Good, An Introduction. In: John Rawls and the common good. (New York: Routledge. 2002)
- Munoz-Dardé, Véronique : La justice Sociale, le libéralisme égalitaire de John Rawls.(Paris : Armand Colin. 2000)
- Nancy Fraser, Qu’est- ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution. Tr : Estelle Ferrarese.(Paris : La découverte)
- Nya, de Blandine : Mérite et égalité en éducation- Critique de John Rawls.(Paris : édition baudelaire. 2014)
- Rawls, John, Lectures on the History of Political Philosophy. Edited by: Smuel Freeman. (London: The Belknap Press of Harvard University Press. 2007)
- Rawls, John, Political Liberalism. (New York: Columbia University Press. 1996)
- Schaefer, David Lewis, Justice or Tyranny? A Critique of John Rawls’s, a theory of Justice. (London: Kennikat Press Corp. 1979)
- Zwarthoed, Danielle : Comprendre la pauvreté. John Rawls, Amartya Sen. (Paris: PUF. 2009).
[1]– Rawls, John, Political Liberalism. (New York: Columbia University Press, 1996), P.237.
أنظر أيضا: راولز، جون: نظرية في العدالة، ترجمة: ليلى الطويل، ط1.(دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب. 2011)، ص38.
[2]– راولز: نظرية في العدالة، ص41.
[3]– Schaefer, David Lewis, Justice or Tyranny? A Critique of John Rawls’s, a theory of Justice, (London: Kennikat Press Corp. 1979), P. 116.
[4]– من مصلحة الجميع داخل الدّولة الوعي بقيمة المواطنة المتعدّدة الثقافات، إذ بمقتضى مبادئ الاحترام والتّسامح والاعتراف يمارس كلّ فرد هويّته وثقافته وعاداته، ولا يخشى على نفسه من التّميز أو الفصل العنصري. يكتب ربيرتو ليبي Roberto Luppi:
“The status of equal citizenship and its mutual recognition are crucial, above all, in order to highlight what unites all members of the community, partially setting aside differences and divisions and preventing – as far as possible – the rise of social envy and erroneous competition among individuals and groups”. John Rawls and the common Good, An Introduction. In: John Rawls and the common good (New York: Routledge, 2002), P.6.
[5]– Rawls : Political Liberalism, P. 78.
[6]– راولز: نظريّة في العدالة، ص 125.
[7]– Rawls, John, Lectures on the History of Political Philosophy. Edited by: Smuel Freeman.(London: The Belknap Press of Harvard University Press. 2007), Pp. 174-175.
[8]– يكتب ضمن هذا السّياق نوفل الحاج لطيف: “تعد نظريّة العدالة بوصفها إنصافاً محاولة لتجاوز مشكلة التعددية الأخلاقية لأنّ التّعددية، في تقدير راولز، أمر لا بد منه ومرغوب فيه في آن وذلك لأن البشر توصلوا في سياق ممارسة قدراتهم العقلية إلى تصورات مختلفة ومتساوية في معقوليتها عن الحياة الطيبة، ولأنهم أيضا يمتلكون مواهب وفرصاً متباينة وتحتاج إلى تدخّل الآخرين لتفعيل وتنمية ذلك الجزء من ذواتهم الذي لم يستطيعوا تنميته ورعايته عبر قدراتهم الذاتية”. جدل العدالة الاجتماعية في الفكر اللّيبرالين جون راولز في مواجهة التقليد المنفعي. ط1.(بيروت: جداول للنّشر والترجمة والتوزيع). ص 170.
[9]– Rawls: Lectures on the History of Political Philosophy, P.304.
[10]– تعتقد نانسي فرايزر أن المجتمع العادل هو مجتمع عادل اجتماعيّا، بحيث يعترف أفراده ومؤسّساته وأجهزته الحاكمة بكل أشكاله وألوانه وأطيافه. إذ تعامل داخله الأسرة ثنائية الجنس نظير معاملة أحادية الجنس. وتحترم الأسرة الملونة والسوداء مثل البيضاء إلخ… مما يعني أن لا توزيع عادل للخيرات والموارد المجالية دون عدالة اعترافيّة وتقديريّة. انظر:
Nancy Fraser, Qu’est- ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution. Tr : Estelle Ferrarese.(Paris : La découverte). PP. 80-81.
يكتب الزواوي بغوره: “تقدم فريزر أمثلة عمليّة تدعم هذا المفهوم، ومنها؛ قوانين الزّواج وسياسات المساعدة الاجتماعية الخاصّة بفئة السّيدات العازيات اللواتي يختلفن عن الأرامل. واعتبار أحادي الجنس أمر طبيعي، والمثلي منحرف. واعتبار العائلات الّتي يكون رؤساؤها نساء غير شرعيات، واعتبار البيض يحترمون القانون والزنوج يشكلون خطرا على القانون. في كل هذه الأشكال المتعلقة بعدم الاعتراف، فإن المسألة متصلة بالمنزلة القانونية التي تحكمها معايير ذات مصادر أخلاقية. وعلاج ذلك لا يتم إلا من خلال تغيير المؤسسات الاجتماعية، والقيم الناظمة للترابط الاجتماعي التي تمثل عائقا أمام تكافؤ الفرص”. العدل والاعتراف عند نانسي فريزر. ضمن الكتاب الجماعي: سؤال العدالة في الفلسفة السياسية المعاصرة. تنسيق: محمد المصباحي. ط1. سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 179. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. 2014. ص 97.
[11]– كيملشكا، ويل: مدخل إلى الفلسفة السياسيّة المعاصرة. ترجمة: منير الكشو. ط1.(تونس: المركز الوطني للترجمة. 2010). ص89.
[12]– في هذا المستوى يعيد مايكل ساندال تأويل مفهوم الملكية أو الحيازة الخاصّة بالمواهب الطبيعية، لتصير مجرّد حيازة وقتية وعارضة من أجل الاستغلال العام، وليست ملكية خاصة تمنع أي كان من الانتفاع بها. إذ الطبيعة لم تميز بين الناس إلا على أساس أن يتعاونوا ويتضامنوا، يقول : “فلو كان راولز على صواب، بحيث لا يجوز أن أوصف بالمالك لحيازتي وخصائصي، لا يبقى هناك إلا تفسيران: إما فكرة الحراسة التي تنفي الملكية الفردية في صالح مالك أسمى أو ذات حائزة يكون الفرد وكيلا لها، فالقول إنّي حارس للمواهب الّتي أحملها معناه أن هذه المواهب ملك لذات ما أخرى أنمي هذه المواهب وأستغلها باسمها، أو بفضلها. إن الحيازة بهذا المعنى تذكرنا بفكرة الملكية عند المسيحيين الأوائل الذين كانوا يقولون إن الملك لله وحده وما الإنسان إلا حارس لما بين يديه؛ وهذه الفكرة تروق مختلف التصورات الجماعاتية لمعنى الملكية.
أما حسب التصور الثالث، فأنا لست لا مالكا ولا حارسا، بل مؤتمنا على الحيازات والخصائص التي تصادف أن حصلت لشخصي، فكرة الائتمان هذه لا تفرض ذاتا حائزة أخرى تعود إليها هذه الحيازات في نهاية الأمر، وإنّما لا ملكية أصلا”. اللّيبرالية وحدود العدالة. ترجمة: محمد هناد. ط1.(بيروت: المنظمة العربية للترجمة. 2009). صص 173-174. ويضيف في نص آخر موضحا معنى الحيازة: “فمن الواضح أن مختلف الحيازات الطبيعية التي أولد بها قد يقال إنها لي، بالمعنى الضّعيف والعارض، أي إنّها موجودة في شخصي عرضا. غير أن الحيازة بهذا المعنى لا تدلّ على أنّ لي حقوقا خاصة تخولني إياها هذه الحيازات أو مزاعم في الاستحواذ على الثمار الناجمة عن استغلالها. وبهذا المعنى الضعيف للحيازة، لا أكون أنا الحائز الحقيقي، بل مجرد مؤتمن على مجموعة من الحيازات والخصائص الموضوعة هنا”. نفسه، ص153.
[13]– ولعلّ الهدف المتوخّى من وضع حجاب الجهل الّذي يمنع من رؤية الوضعية الاجتماعية للأفراد في المستقبل هو: “ضمان الحيدة التامة لعملية التفاوض، والحيلولة دون أن يحاول احد المتفاوضين أن يتحيز إلى أوضاعه الشّخصيّة بحيث يفصّل على مقاسه مبادئ يطرحها على الآخرين، فمادام كل متفاوض لا يعلم شيئا عن أوضاعه الخاصّة، فإنه لن يستطيع أن يطرح مبادئ متحيزة إلى أوضاع بعينها يستفيد منها البعض على حساب الآخرين”. صوميل كورفنز: جون راولز، نظرية في العدل. ضمن كتاب جماعي: من فلاسفة السّياسة في القرن العشرين. تحرير: أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج. ترجمة: نصار عبد الله. ط1.(القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2012). ص 273. ويضيف محمد الهاشمي تحت شعار أنّ حجاب الجهل فقدان طوعي وإراديّ للذّاكرة الجمعيّة والفرديّة، علاوة على أنّه يمنع دخول مؤثّرات جانبية من قبيل المشاعر والثقافة والرغبات والأهواء. كما سيمنع حدوث انسحابات من الفعل التعاقدي في حال ما إذا لم تُفقد هذه الذّاكرة طوعيا. أضف إليه أنه يشكل نوعا من القربى وأرضية مناسبة للتحاور والنقاش. يكتب محمد الهاشمي: “إن الغاية من حجاب الجهل غنما هي تحييد واستبعاد كلّ ما يمثل عاملا عرضيا للتواجه بين الناس، أي كل تلك المعطيات الاعتباطيّة التي لا تمثل سمة نهائية ولا كونية لأطراف العقد، ولذلك سيفرض راولز أن هؤلاء المتعاقدين لا يتوفرون على أي معرفة اسمح لهم بتقييم آثار اختياراتهم على وضعياتهم الخاصة، مما سيفرض عليهم الحكم على المقترحات من منظرو عامّ وليس من خلال مبررات خاصة، وهذا ما يقتضي افتراض جهل المتعاقدين بوضعهم داخل المجتمع، سواء الطّبقي أو المهني وكذلك بمواهبهم الطبيعية المتعلقة بالصحة والذكاء والجنس”. نظريّة العدالة عند جون راولز، نحو تعاقد اجتماعي مغاير. ط1.(الدار البيضاء: دار توبقال للنّشر. 2014). ص117-118.
[14]– Schaefer: Justice or Tyranny? A Critique of John Rawls’s, a theory of Justice, P.146.
[15]– Bidet: John Rawls et la justice, (Paris : PUF. 1995), P. 74.
[16]– كمليكا: مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، ص106-107.
[17]– Nya, de Blandine : Mérite et égalité en éducation- Critique de John Rawls.(Paris: édition baudelaire. 2014), P 131.
[18]– دووركين، رونالد: أخذ الحقوق على محمل الجد. ترجمة: منير الكشو. ط1.(تونس: المركز الوطني للترجمة. 2015). ص244.
[19]– دووركين: أخذ الحقوق على محمل الجد، ص270.
[20]– يقول نوفل الحاج لطيف: “هكذا فإن اختيار مبادئ العدالة من وراء ستار الجهل هو ما يضمن ألا يقع تفضيل أو إقصاء أي واحد من الشركاء أثناء عملية الاختيار إما عن طريق الصدفة الطبيعية أو بواسطة عرضية الظروف الاجتماعية بل إنه يبدو من المعقول جدا أن نتصور أن الشركاء في وضعهم البدئي متساوون أي إن لهم الحقوق نفسها ضمن إجرائية اختيار المبادئ بحيث يكون لكلّ شخص الحق في أن يقدم بعض المقترحات يدعمها ببعض الحجج يدافع بها عنها حتى يقبلها الآخرون”. جدل العدالة الاجتماعية في الفكر الليبرالي، ص 173.
[21]– راولز: نظرية في العدالة، ص181-182.
[22]– Bidet: John Rawls et la justice, Pp. 103-104.
[23]– Zwarthoed, Danielle: Comprendre la pauvreté, John Rawls, Amartya Sen, (Paris: PUF. 2009), P.135.
[24]– راولز: نظريّة في العدالة، ص229.
[25]– سن، أماريتا: فكرة العدالة. ترجمة: مازن جندلي. ط1.(أبو ظبي، بيروت: ترجم مؤسسة محمد براشد آلمكتوم، الدار العربية للعلوم ناشرون. 2010). ص 17.
[26]– Zwarthoed: Comprendre la pauvreté, John Rawls, Amartya Sen, P.92.
[27]– Nya: Mérite et égalité en éducation- Critique de John Rawls, Pp. 160-161.
[28]– Rawls: Political Liberalism, Pp.223-225. Voir aussi: Rawls: Lectures on the History of Political Philosophy, Pp.137-138.
[29]– راولز، جون: العدالة كإنصاف إعادة صياغة. ترجمة: حيدر حاج إسماعيل. ط1.(بيروت: المنظمة العربية للترجمة. 2009). ص92.
[30] – راولز: العدالة كإنصاف إعادة صياغة، ص107.
[31]– Rawls : Political Liberalism, P.78.
[32]– راولز: العدالة كإنصاف إعادة صياغة، ص145.
[33]– يصرّح ريكور في هذا المجال: “أصل الآن إلى النقطة الثّالثة، الأساسية والمثيرة للجدل بشكل أكبر داخل هذا العمل. ويتعلق الأمر بالمبدأ الثاني للعدالة الذي يهتم بالمبادئ المتساوية، الخاصة بالاختلافات على مستوى المداخيل والثروات وأيضا على مستوى السلطة والمسؤولية داخل مختلف التنظيمات. ويؤكد هذا المبدأ على أنه من بين كل التوزيعات اللامتكافئة، يوجد توزيع أعدل من غيره، وهو الذي تعوض فيه كل زيادة في امتيازات المحظوظين بشكل أكبر، بنقصان في الأضرار التي يعاني منها الأقل حظوة. وهناك صيغة تلخص هذا المبدأ وهي: الزيادة إلى أقصى حد في أدنى حصة”. إعادة تأصيل العلق الهرمينوتيقي، تأويل السياسة. ترجمة: عبد الحق منصف، عزّ الدّين الخطابي. ط1.(الدار البيضاء: أفريقيا الشرق. 2021). ص 194.
[34]– Munoz-Dardé, Véronique: La justice Sociale, le libéralisme égalitaire de John Rawls,(Paris: Armand Colin, 2000), P.100.
[35]– راولز: العدالة كإنصاف إعادة صياغة، ص 197. يزيد في توضيح الأمر ساندل عندما يصرح: “لا تُعوِّق أسرع العدائين، بل اتركهم يجرون ويأتون بأفضل ما يقدرون عليه. وأعلمهم مقدما أن الفوز ليس ملكا لهم وحدهم، بل تجب مُشاركته مع أولائك الذين يفتقرون إلى المواهب”. العدالة، ما الجدير أن يُعمل به؟ ترجمة: مروان الرشيد. ط1.(بيروت، الرباط: جداول للنشر والتوزيع، مؤمنون بلا حدود. 2015). ص 176.
[36]– Véronique: La justice Sociale, le libéralisme égalitaire de John Rawls, P.211.
أنظر أيضا: محمد الهاشمي: جون راولز والتراث الليبرالي. ط1.(الدار البيضاء: دار توبقال للنشر. 2015). ص 94.
[37]– شهدت المجتمعات الحديثة والمعاصرة تغييرات بنيوية على عدة مستويات، لعل أبرزها على مستوى تمثل الكائن البشري. وحصر تشارلز تايلور هذه التغييرات على مستويين؛ مستوى الشرف ومستوى الكرامة. وما يهمنا هنا هو الشرف. يقول تايلور: “تمثل الأول منهما(التغيير) في انهيار التراتبات الاجتماعية التي كانت تقوم على أساس الشرف. أستعمل هنا الكلمة بالمعنى الذي كان لها في ظل النظام القديم حيث كان مرتبطا بشكل وثيق بمظاهر اللامساواة والتفاوت. حتى يحصل بعضهم على الشرف بهذا المعنى، من الضروري ألا يحصل عليه الجميع. ذلك هو المعنى الذي وظفه مونتسكيو في حديثه عن الملكية. الشرف هو بالأساس مسألة تفضيلات. إنه أيضا المعنى الذي تستعمل فيه الكلمة عندما نتحدث عن تشريف أحدهم بمنحه مكافأة عمومية من قبيل الوسام الكندي”. سياسة الاعتراف. ترجمة: عبد الرحيم الدقون. ط1.(الدار البيضاء: عقول الثقافة للنشر والتوزيع. 2018). صص 21-22.
[38]– يرفض راولز مبدأ المنفعة لستوارت ميل القائم على تحقيق أكبر منفعة لأكبر عدد من الناس، بسبب أنه معيار ذاتي، إذ ما فيه منفعة للبعض هو مضرة للبعض الآخر. ففتح نافذة القطار لدخول الهواء نافع لي لكنه ضار لغيري. ثم إنه معيار يناقض التصور الكانطي الذي تأثر به راولز، المؤَسس على النظر للشخص بوصفه غايةً لا وسيلةً قابلة للاستعمار. وعن حق يقول كيمليكا: “فتلبية أشياءنا المفضلة لا تسهم دوما في رفاهيتنا. لنفترض أننا نذهب لاقتناء وجبة طعام وأن بعضنا يريد البيتزا، في حين تفضل البقية الباقية طبقا صينيا. إن كانت الطريقة الأحسن لتلبية التفضيل الغالب هي في اقتناء أطباق بيتزا للجميع، فسيوصينا بذلك هذا الضرب من المنفعية. لكن، ما الذي سيحدث إن صادف، ودون دراية منا، أن كانت البيتزا التي طلبناها مسمومة أو أنها بباسطة كانت تالفة؟ سيكون في طلبها، عند ذلك خطر أكيد على رفاهيتنا. فما هو خير لنا يمكن أن يكون مغايرا للتفضيلات التي نشعر بها على نحو يومي (…). وتقول المنفعية القائمة على تلبية التفضيلات المختلفة أن ما يجعل شيئا ما ذا قيمة هو أن عددا من الناس يرغبون فيه. إلا أن ذاك غير سليم ومخالف للصواب. فليست تفضيلاتنا هي التي تمنح لهذا الشيء أو ذاك قيمة وإنما لأن هذا الشيء أو ذاك ذا قيمة، يكون لنا عندها سبب كاف لتفضيله على غيره”. مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، صص 34-35. أنظر أيضا: ساندل: الليبرالية وحدود العدالة، ص 147. يمكن العودة كذلك إلى كتاب: محمد الهاشمي: جون راولز والتراث الليبرالي، ص 280.