لم ينتج حكيم فلسفة إلا وخاض في سؤال الأخلاق، وأعتقد أن من حق الفقيه والواعظ أن يخوض جولة اطلاع بين تجارب الحكماء في الوعي بالمقاربات الفلسفية للأخلاق، وسنكتفي هنا بقراءة خمسة من أهم فلاسفة عصر الأنوار، وهم أئمة العقل الذين تعودنا أن نعتبر جهودهم شأناً أوروبياً محلياً في حين أنهم حققوا تأثيراً عالمياً حقيقياً وباتوا منارة للفكر في غمار انعتاقه من أقفاص اللاهوت.
ويمكن البداية مع ديكارت فيلسوف الشك الذي قاده إلى الإيمان، وقد اختار أن الإنسان آلة بيولوجية وجوهر مفكر، وعليه أن يمارس الخضوع الفعال بحبور “للعلوية الكاملة” وهي إحدى تعابيره عن الذات الإلهية المسيطرة على الكون، وبذلك فإنه يعتبر الأخلاق انبثاقاً من الأعلى وإن رسالة الإنسان هي جهاد النفس للوصول إلى مراد الطبيعة العليا وغاياتها.
وقد عبر ديكارت عن التلاحم بين الأخلاق والميتافيزق، حيث اعتبر الأخلاق ثمرة لاتحاد الميتافيزيق بالفيزيق، أو اللاهوت بالناسوت، وهو اعتقاده أيضاً في علوم الفيزياء والطب وذلك وفق نصه الشجري المشهور: العلم شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق.
وفي مقابل ديكارت ظهر الفيلسوف الإنكليزي هوبز الذي كرَّس ارتباط الأخلاق عضوياً بمنفعة الإنسان ومرابحه، واعتبر أن الأخلاق يمكن أن تزدهر في ظل نظام أناني يكافح فيه كل فرد للحصول على أعظم المكاسب الشخصية، وفي سياق ذلك يمكن أن تدر الأخلاق عليه نفعاً مادياً، حيث سيؤدي الإحسان للفقراء مثلاً إلى تحسين سمعته وزيادة عملائه، وتؤدي نصرة المظلوم مثلاً إلى جعله مرهوب الجانب، ومحطاً للراغبين بموارد القوة، وبذلك نوفر مكاناً مناسباً لمجتمع أخلاقي قائم على التنافس وفق غرائز الطبيعة، وتتحقق الغايات الأخلاقية التي يريدها الفلاسفة والأنبياء بأقل قدر من التكاذب.
كما تتعين الإشارة بوضوح في حوارات الأخلاق إلى فيلسوفين اثنين مهمين هما ديفيد هيوم وجون لوك، الذين طالبا بإخضاع السلم الأخلاقي برمته إلى التجربة، بوصفه نشاطاً إنسانياً، وأن التجربة وحدها هي التي تحدد قيمة الفعل الأخلاقي أو بؤسه، وبالتجربة وحدها وليس بالوحي المتعالي ولا بالحدس الباطن يمكن الوصول إلى مؤشرات الأخلاق التجريبية الحاسمة، وفي سياق ذلك يندرج كل ما قدمه علماء النفس من ممارسات تجريبية لصناعة الأخلاق طوبة طوبة في النفس الإنسانية المستعدة للتعلم إلى الغاية وهو ما مارسه في الإطار التعليمي بدقة فيما بعد بافلوف وسكنر في فلسفتيهما عن المنعكس الشرطي والمنعطف الشرطي.
ولكن بين هؤلاء الفلاسفة الأربعة ظهر إمانويل كانط أشد فلاسفة عصر التنوير تأثيراً وحضوراً وفي كتابه نقد العقل المحض، حيث طرح إمانويل كانط رؤية مستقلة للأخلاق بوصفها تعليماً يستند إلى حقائق فيزيائية محكمة، فالأخلاق قيم مستقرة في روع ابن آدم، وهو جاهز أن يمارسها بوعي رشيد، والوصول إلى القيم الأخلاقية يشبه الوصول إلى القيم الرياضية، فإنه بمجرد اطلاعه على واحد زائد واحد سينتهي إلى الأبد من نقاش هذه الحقيقة الاتفاقية وسيضمها فوراً إلى مسلمات البديهة.
وينطلق كانط إلى بناء المدينة الفاضلة التي يتخيلها فهي مدينة أخلاقية في المقام الأول تتجاوز الجماعة الدينية التاريخية، سواء نطقت باسم القوة أو باسم الرب، وذلك بالسعي من دون كلل، للانتقال من الكنيسة التاريخية إلى كنيسة الأخلاق، التي هي الكنيسة الحقيقية والمنتصرة، ذات السمة الكونية، حيث مبدؤها وجوهرها، الأخلاق العقلية المتعالية على الزمان والمكان ونصوص الوحي التاريخانية.
وأفرد كانط مكان الجوهر المحرك للأخلاق عند توفر الإرادة، وقد عبر عن ذلك بقوله: ما من شيء على الإطلاق في هذا العالم يمكن اعتباره جيداً في ذاته دون قيد أو شرط سوى الإرادة الخيّرة، وكانت هذه الفكرة هي المؤسس النظري لمبدأ القانون الفيزيائي للأخلاق الذي نادى به كانط. إن مجتمع الأخلاق الفاضل، لن يكون إلا بإقامة منظومة من الناس ذوي النوايا الحسنة، أو الإرادة الطيبة، التي يعتبرها كانط جوهر المدينة الفاضلة وإن لم يستخدم هذا المصطلح الأفلاطوني، ولكنه نادى بوجوب كفاح الإنسان للخلاص من دوافعه الغرائزية والتحول إلى الحقائق العقلية التي تجعله تلقائياً ملزماً بتطبيق القيم الأخلاقية العميقة.
وقد مضى كانط في تعبيره عن السقف القيمي للأخلاق بأنه فعل يحمل عليه الواجب الأخلاقي أو الضمير إن شئت ولا يصح أن يعلق به أي نفع مادي أو معنوي، وهي ما أعاد شرحه برتراند رسل: لست مضطراً للتهديد بالجحيم حتى أفعل ما هو أخلاقي، فالأخلاق شيء نابع من الضمير وكل وعد بجائزة أو وعيد بعقوبة يجعل العمل الأخلاقي بلا معنى، حتى ولو كان الوعد والوعيد شأنا ًأخروياً محضاً..
واستمر كانط في عبادة الأخلاق تجريدياً إلى المستوى الذي اعتبر فيه الفعل الأخلاقي مقدساً ولو لم لم يلتفت إليه أي دين ولا عرف ولا منطق، وأن الناس يتكاذبون إذا كانوا ينتظرون النص القانوني أو الديني للتمييز بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، وفي سياق ذلك فقد اعتبر أن التفسير القانوني أو اللاهوتي للأخلاق بمثابة إشارة واضحة إلى الانحطاط الاخلاقي والمجتمعي.
وفي سياق وعيه برسالة الأخلاق فقد نفى كانط أن تكون الأخلاق سبباً لتحصيل اي فائدة مادية أو معنوية، واعتبر أن أي فائدة تعود بها الأخلاق تحولها إلى لون من المعاوضة، وتخرج بها عن أن تكون خيراً أو واجباً إنسانياً.
وفي سياق طوافه حول معبد الأخلاق، وتنزيهه من مشابهة الحوادث والسقوط الأخلاقي، قال كانط ولو كانت نجاة العالم كله تتوقف على قتل صبي لظل هذا الفعل غير أخلاقي.
ولكن أفكار كانط المثالية في الشأن الأخلاقي تعرضت لأسئلة جدية حين أفرد جون ستيوارت مل فيما بعد فلسفته الذرائعية التي اعتبرها رداً مباشراً على كانط وفيها أكد أنه لا يوجد فعل أخلاقي يخلو من منفعة، وتنزيه الأخلاق عن المنفعة تصوف بارد، ونفاق مستتر، ومنطق عكس الطبيعة، ومن حق الإنسان أن ينتظر الخير لنفسه إذا فعل الخير للآخرين، وتحدث بإسهاب عن حق الإنسان في متعة العطاء، فمتعة العطاء ولذة الرضا وسعادة الطمأنينة كلها قيم حقيقية ينالها الإنسان تلقائياً حين يفعل الخير، بل إن حق الإنسان حقوقياً وأخلاقياً أن يفعل الخير ابتغاء هذه السعادة والمتعة واللذة طالما أن ذلك لن يعود على من أصابه الإحسان بمن ولا بأذى.
ويمكن القول إن ميل وهوبز تقارباً في تقرير حق الإنسان في جني المنفعة من فعل الخير، وبينما اعتبر هوبز الأنانية حقاً مشروعاً للإنسان وطبيعة حتمية للتنافس البشري مادياً ومعنوياً، فإن جون ستيوارت ميل اكتفى بالحديث عن اللذة المعنوية، ولم يعترض على منطق كانط في وجوب نفي المنفعة المادية عن عمل الخير المبرور، ويمكن القول إن الجميع أقروا فساد العمل الأخلاقي إذا أدى إلى ضرر أو تنمر على الجانب الضعيف في عملية الإحسان، وهو منطق بينه القرآن الكريم في آيات كثيرة تنهى بشدة عن المن والأذى، ولكن يمكن لهوبز وستيوارت ميل معاً أن يجدا في النص القرآني ظهيراً لبعض ما ذهبا إليه إن تبدو الصدقات فنعما هي، وهو ما شرحته أحاديث كثيرة بقبول صدقة العلانية إلى جانب صدقة السر، وحين ربط بعضهم صدقة العلانية بمصلحة الفقير بأسلوب هوبزي قال الرسول الكريم: لك أجر صدقة السر وصدقة العلانية.
ولا بد أن نسجل للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن جهوده الكبيرة في ترسيخ قيم للأخلاق تستند إلى جذور أعمق مما طرحته الحداثة وأكبر مما طالبت به الفيزياء، حيث طالب بالغوص في غمار الإنسان نفسه، وكذلك أعماق الحياة بأبعادها العميقة، فلا أعمق من حياة تمتد من عاجلها إلى آجلها ولا أعمق من إنسان يتصل ظاهرة بباطن.
إنها محاولات للعقل الإنساني في تنزيه عمل الخير، وبناء قدسيته وطهره، حفاظاً على مكان الإنسان في هذه المنظومة المتكاملة، واعترافاً بحق الإنسان الفطري في تبادل الخير والمنفعة.
نحتاج بالفعل إلى جولة في الفلسفة الأخلاقية على النحو الذي قدمه فلاسفة عصر الأنوار، ومن ثم الانتباه إلى الركس الذي أوردنا فيه أنفسنا يوم صارت الأخلاق كلها معاوضة مادية مشروطة، يتم تعويضها بثواب أو عقاب، وراح الثواب يتخذ شكل المطالب الجسدية الغريزية من نكاح ووجاع وخمور وسكر، أما العقاب فقد ذهب بعيداً إلى عالم قاسٍ تسلخ فيه الجلود ثم لا تكف ملائكة العذاب عن تبديلهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين.
هل يمكن اعتبار كانط ثائراً إلحادياً ضد الإيمان؟
لا أعتقد ذلك على الإطلاق، بل هو تجل أوربي لحقيقة قدمتها المتصوفة الآسيوية الرائعة الرابعة العدوية:
يا رب…
إن قوماً عبدوك رجاء جنتك فتلك عبادة التجار
وإن قوماً عبدوك خوف نارك فتلك عبادة العبيد
وإن قوماً عبدوك لأنك أنت الله فتلك عبادة الأحرار