مرَّ العالم -قبل أيام- مرور الكرام على (الخامس من إبريل)؛ اليوم العالمي الذي أقرَّته منظمة الأمم المتحدة من كلِّ عام (للاحتفال) بالضمير والتوعية به؛ انطلاقًا من مفهوم الضمير البشري.
الاجتهادات الفكرية والفلسفية التي تعمَّقت في مصطلح مفهوم الضمير ودلالاته وظروف إنتاجه وتأويلاته ماتعةٌ للغاية. رحلة تَحكُمها لذَّة غموض المفهوم. معظم التعريفات المطروحة لا تُقدِّم لنا تعريفًا دقيقًا للضمير، وإنما أغلبها يقع في دائرة ممارسة وصف هذه الحالة النفسية. وهذا، كما هو معروف، قَدَر المفاهيم العظيمة من حيث إنها تستعصي على التعريف وتتموضع في فضاء التوصيف.
الضمير بالمُجمَل يُحيل على: استعداد الفرد (والمجتمع) النفسيّ للتمييز بين الحَسَن والسيّئ من الأعمال والأفكار والأقوال؛ ومن ثَم تَبنِّي الحَسَن واستبعاد السيّئ. وهو أحد المفاهيم المرتبطة بالمسألة الأخلاقية.
بحسب باربارا كاسّان Barbara Cassin، إحدى أهمّ (المتخصّصات) في الفلسفة الإغريقية فإنّ كلمة (ضمير) في المعنى المُتداوَل اليوم غير موجودة في الفلسفة الإغريقية. وهذا ينطبق على الفكر العربيّ/الإسلاميّ، إذ أنّ كلمة (ضمير) لم تَرِد في القرآن ولا في السنة ولا في الفلسفة الإغريقية (حتى ظهور المصطلح في بداية القرن السابع عشر على يد مالبرانش بصفته موضوعًا فلسفيًّا) أو في الفكر العربي/ الإسلامي، هذا لا يعني عدم وجود ألفاظ تحيل على الحمولات الدلالية لما يُعرف اليوم بمصطلح (الضمير). فمن يتأمَّل الخطاب القرآني يجدْ أنّ ثمّة مجموعة من الإشارات تندرج في قلب الحقل الدلالي لمفهوم الضمير بمعناه الاصطلاحي الراهن: فكرة (الرقيب العتيد) على التلفظ والقول؛ و(الحافظ) في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ؛ و(خاسر الذات) في {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، و”النفس اللوامة”؛ جميعها تتماهَى مع جزء كبير من الحمولات الدلالية لمصطلح (الضمير).
من التعبيرات الحاضرة في الحياة اليومية في معظم المجتمعات: “وخزة الضمير”! في حال لم توجد هذه الأداة (الجهاز) أو تعطُّلها، ما الذي يحدث؟ تعطُّل الجهاز المكلَّف بتفعيل الوخزة يعني اختلال الفعل الأخلاقي وإصابتَه بالعطب. ومن ثَم تتشكَّل لدى (الفاعل)، من جهةٍ القابليةُ للتلفظ بأسوأ الأقوال والتصرُّف بأسوأ الأفعال، ومن جهةٍ أخرى، يفقد إحدى أهم وظائف الضمير الأساسية والمتمثّلة، كما يرى روسو، بـ”الدافع الذي يدفعه إلى حب العدالة والأخلاق”.
الضمير الذي يسير في اتجاه السلوك الإنسانيّ (الخَيِّر) يحتاج بشكل دائم إلى جهاز رقابة يضعه على سُلَّم القيم التي اختارتها المجتمعات وترغب بها؛ مع الوعي بأنّ ما يمكن اعتباره قيمةً أخلاقيةً عالية في مجتمعٍ من المجتمعات قد تفقد قيمتَها في مجتمع آخر لا يرغب بها، أو يرى أنّ التجربة الإنسانيّة أثبتت عدم وجاهتها. وهذا يأخذنا إلى القول إنّ الإنسان محكومٌ عليه بالرقابة، بمعنى أنه حتى الحرية التي لا يستقيم الضمير إلاّ بوجودها، تتطلّب حضورَ الرقابة بشكل من الأشكال. ولا يوجد –كما هو معروف- حرية ولا ضمير متروكان في الهواء الطَّلْق من دون أن يحيطهما شيء من المعيارية، وما تتطلّبه هذه المعياريّة من عناية بالعلاقة (المعقّدة) القائمة بين القيمة والمعيار؛ وبظروف إنتاجهما المرتبطة بالأبعاد الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
ومازلت على قناعة أنّ مفتاح (التعارف) بين المجتمعات، بمعناه التثاقفيّ العميق، خاضع لمقدار فهم وتفكيك ظروف إنتاج علاقة القيمة بالمعيار في المجتمعات الإنسانيّة. والقيمة من سماتها الثبات إلى حدّ ما، بينما المعيار متحرّك بطبيعته مقابل القيمة، انطلاقًا من حركتي الزمان والمكان.
***
صبَّ الأديب الفرنسي الشهير فرانسوا رابليه في القرن الساس عشر جامَّ غضبه على جامعة السوربون (التي هي –كما هو معلوم– في الأساس جامعة دينية، تأسّست في القرن الثالث عشر لتدريس وإعداد رجال الدين المسيحي). انتقد رابليه جامعة السوربون كونها حصرت المعرفة في الكتب الدينيّة. وصعد في انتقاده إلى مؤسّسها روبير دو سوربون نفسه Robert de Sorbon (الذي سُمّيت الجامعة باسمه) ودور دو سوربون في وقوع الجامعة رهينةً لفِكر رجال الدين (اللاهوتيّين). ويتلخّص اعتراض رابليه في أنّ الجامعة -باعتمادها على كتب الدين المسيحي وكبار اللاهوتيّين- تتموضع خارج إطار قِيَم المعرفة، وتسير في اتجاه محدَّد سلفًا، وأنّها بهذا السلوك لن يكون بوُسعها طرح أيّ جديد ومستجدٍّ في عالم المعرفة.
رابليه مسيحي متديّن، لكنّه مُحرِّض كبير على تحرير المعرفة من اللون الواحد. علم اللون الواحد علم بلا ضمير، و”العلم بلا ضمير ما هو إلا خراب للروح” كما يرى رابليه مثلما ورد في الرسالة التي بعثها غارغانتوا إلى ابنه بانتاغرول في خماسيته الشهيرة. كان لموقف رابليه دور حاسم في تدخُّل فرانسوا الأول (ملك فرنسا آنذاك) في إنشاء (الكلية الملكية) في عام 1530 التي أصبحت فيما بعد الـ (كوليج دو فرانس) للخروج من مأزق العلم خارج قيم المعرفة.
كل مؤمن بالله يشعر بأنّ الضمير قوة فطريّة، لكنّ هذه القوة معرَّضة حتمًا للوَهَن والتلاشي والانحسار إن لم تُستنبت وتجد الرعايةَ والدعمَ عبر ما يسمّيه أحمد أمين في كتابه النفيس (كتاب الأخلاق، 1920): تربيةَ الضمير. يرى أحمد أمين أنّ الضمير ينمو بالتربية ويضعف بالإهمال، ويُورِد مثالًا على ذلك بالأديب الذي يتذوَّق الشعر والأدب، لكنّه يُهمل القراءة ممّا يُفضي إلى تدنِّي ذَوقه الأدبيّ “حتى يصل إلى درجةٍ لا يُدرك معها ما في الأدب من جمال”. (كتاب الأخلاق: 18). وفي الوقت نفسه يصعب الاتفاق أو مسايرة أحمد أمين في قوله إنّه: “كلما زاد علم الإنسان ونما عقله ارتقَى ضميره”. (كتاب الأخلاق: 17). هذا ليس على الإطلاق إطلاقًا، فكم رأينا ووقفنا على واقع أساتذة وأكاديميين وباحثين يحملون من (العلم) كمًّا هائلًا، لكنّ سلوكيّاتهم وممارساتهم وأقوالهم وأفكارهم نماذج (صارخة) لانعدام الضمير. العلم لا يهذّب إلاّ مَن لديه الاستعداد النفسيّ لأن يتهذّب أخلاقيًّا. العلم لا يهذّب من وضع نفسه رهينةً لتنشئة اجتماعيّة إقصائيّة متوجِّسة من الاختلاف. العلم لا يكفي لتشييد ضميرنا الأخلاقيّ، وإنّما لا بدّ من ممارسة نوع من “التذويت” الأخلاقيّ المستمرّ يتحوَّل معه العلم إلى أداة لحماية الضمير والمجتمعات، ويوجّه البوصلة نحو القيم التي يرغب بها الفرد وترضى المجتمعات بأن تُشكِّل مرجعيتَها المعيارية.
يستعمل بعض المفكّرين –من ضمنهم أحمد أمين- مصطلح “تربية الضمير”، بمعنى المداومة على طاعته والعناية بأوامره ونواهيه. أميل إلى استعمال (ملفوظ) “التربية على الضمير” أكثر من (مصطلح) “تربية الضمير”. والسبب، الرغبة في الصعود بالإنهام بالضمير إلى منزلة أعلى. (التربية على الضمير) تتجاوز التحريض على العناية بالضمير وصيانته إلى الإنهام بالضمير ووضعه في مركز عملية التربية. نربّي ذواتنا على الضمير، يعني أنّ الضمير يشكّل الكتلة الأخلاقيّة (المركزيّة) الكبرى التي تتغذَّى عليها المسؤوليّة الأخلاقيّة المركَّبة: التلفظيّة، والفكريّة، والسلوكيّة (الفعل الأخلاقيّ). (التربية على الضمير) تعني أنّ الاشتغال على الضمير الأخلاقيّ ينطلق من التعاطي مع حضور الضمير الأخلاقيّ في أدقّ تفاصيل حياة الإنسان بوصفه سياسة تربوية، لا تقتصر على الفرد، وإنّما تتطلّب حضور المؤسّسات التربويّة المتعدّدة للتأسيس لـ “تربية حضارية على الضمير”. (التربية على الضمير الأخلاقيّّ) مسؤولة عن العناية بمثلث الواجب الأخلاقيّ: ما يجب علينا تجاه الذات، والغير، والأجيال القادمة. (التربية على الضمير) المترقب تنتج أجهزة ضمائر تعمل بكامل وظائفها، وعلى رأسها وظيفة (الوخز)، التي ما إن تتعطّل حتّى تنهار بدورها كلّ المصَدَّات.
في اللغة العربية يُعرَّف (اللوم) على أنه: “تنبيه الفاعل على موضع الضرر”. قد يكون هذا التنبيه موجَّهًا لقيمة مرغوبة في حال تجاوز (الفاعل) الحَدَّ في تَبنِّيها والإعلاء من قيمتها. ودائمًا ما يُضرب المثل في هذا السياق بمسألة السخاء الذي عندما يتجاوز الحدَّ يتحوّل إلى منطقة أخرى من السلوكيات غير المحمودة. جهاز التنبيه على موضع الضرر يفتح التفكير على فضاء (أخلاقيّات الضمير) وظروف إنتاجه وتأويلاته، وعلى جهازه المفاهيميّ الذي يستدعي منّا تشييدَه بطريقة مختلفة تتّسع للضمير في كلّ تمظهراته: الضمير الذاتيّ، ضمير المجتمع، الضمير الإنسانيّ.
