لا تَصُوغُ النَظَرِيَّةُ ما نَعْرِفُهُ فَحَسْبُ، بَلْ تُخْبِرُنا أَيْضاً بِما نُرِيدُ أَنْ نَعْرِفَهُ، أَيْ الأَسْئِلَةَ الَّتِي نَحْتاجُ إِلَى إِجابَةٍ عَلَيْها. تالكوت بارسونز [1]
1- مُقَدِّمَة :
يُعَدُّ تالكوت بارسونز (1979-1902) (Talcott Parsons) أَحَدُ أَبْرَزِ أَعْلامِ المَدْرَسَةِ البِنائِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ فِي الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ فِي النِصْفِ الثانِي مِن القَرْنِ العِشْرِينَ. وَقَدْ عَمِلَ عَلَى تَطْوِيرِ النَظَرِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ فِي ظِلِّ مُسْتَجَدّاتِ الأَوْضاعِ السِياسِيَّةِ وَالاِجْتِماعِيَّةِ فِي أَمْرِيكا ، واستطاع أَنْ يُطَوِّرَ الاِتِّجاهَ الوَظِيفِيَّ فِي التَفْكِيرِ السوسيولوجِيِّ الأَمْرِيكِيِّ لِيَأْخُذَ أطيافا فكرية جديدة وأَبْعاداً نَظَرِيَّةً مبتكرة متجددة.
وْمِن أَجَل فَهُمْ أَعْمَق لِسُوسِيوَلِوَجِيا بَارسُونز يَجِب علنيا الْخَوْض فِي الظُّرُوف الِاجْتِمَاعِيَّة لِلْحَيَاة الْأَمْرِيْكِيَّة الَّتِي فرضَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْمُفَكِّرِين فِي عِلْم الِاجْتِمَاعِ، وَتَجِلَتْ فِي نَظَرِيَّاتِهِمْ وَرُدُود أَفْعَالِهِم الْعِلَمِيَّةَ، وَمِن الْبَدَاهَة فِي عِلْم الِاجْتِمَاع أَنّ السِّيَاق الِاجْتِمَاعي يُحَدَّد التَّوْجُّهَات الْأَسَاسِيَّة لِلتَّفْكِير السُّوسِيُّوَلَوَجِيَّ، وَلِكَيْ نفهمْ طَبِيعَة التَّوْجُّهَات الْفِكْرِيَّة السُّوسِيُّولَوْجِيَّة فِي الْمُجْتَمِع الْأَمْرِيكِيِّ، عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذ بِعَيْن الِاعْتِبَار الْأَحْدَاث الاجتماعية وَالظُّرُوف السياسية الَّتِي مَرَّتْ بِهَا الْوِلَايَات الْمُتَّحِدَة الْأَمْرِيكِيَّة في فترة مَا قَبْل الْحَرْب الْعَالِمِيَّة الثَّانِيَة وَمَا بَعْدَهَا.
وَغَنِيٌّ عَن البَيانِ أَنَّ السوسيولوجيا الأَمْرِيكِيَّةَ – قَبْلَ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثانِيَةِ – قَدْ شُغِلَت بِأَوْضاعِ الأَزَماتِ وَالمُشْكِلاتِ وَالقَلاقِلِ وَالاِضْطِراباتِ وَالصِراعاتِ وَمَظاهِرِ الجَرِيمَةِ وَالمُخَدِّراتِ وَالعُنْفِ وَالقَلاقِلِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَكُلِّ أَشْكالِ الخَلَلِ الاِجْتِماعِيِّ، وَكانَ عَلَى عُلَماءِ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيِّينَ مُعالَجَةُ هٰذِهِ القَضايا الشائِكَةِ من خلال الدِراساتِ وَالبُحُوثِ المَيْدانِيَّةِ الَّتِي وُظَّفَت لِفَهْمِ الأَوْضاعِ القَلِقَةِ فِي المُجْتَمَعِ الأَمْرِيكِيِّ، وَالبَحْثِ عَن عَوامِلِها وَمُتَغَيِّراتِها، وَمِن ثَمَّ العَمَلُ عَلَى وَضْعِ المُقْتَرَحاتِ المُناسِبَةِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُسْهِمَ فِي إِيجادِ الحُلُولِ لَها وَإِعادَةِ التَوازُنِ الاِجْتِماعِيِّ إلى سابق عهده . وَقَدْ أَثَّرَ هٰذا الاِنْهِماكُ السوسيولوجِيُّ فِي إِضْعافِ مُسْتَوَياتِ التَنْظِيرِ، وَأَوْجَدَ مَدّاً كَبِيراً لِلبَحْثِ السوسيولوجِيِّ الأَمْبِيرُقِيِّ الَّذِي تَبَلْوَرَ بِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ فِي أَعْمالِ المُفَكِّرِينَ القائِمِينَ عَلَى مَدْرَسَةِ شيكاغو وغيرها من المدارس السوسيولوجية في أمريكا. وعلى خلاف وضعية ما قبل الحرب دَخَلْت أَمْرِيكًا فيما بعدها فِي فَتْرَة نُمُّو اقْتِصَادِي اجتماعي وَازْدِهَار ثِقَافِي وَعِمْرَانِيّ، وَحَقِقَتْ دَرَجَةً عَالِيَةً مِن التَّوَازُن السَيَاسِي وَالِاجْتِمَاعِي.
فِي هٰذِهِ الفتْرَةِ ظَهَرَت سوسيولوجيا بارسونز لتواكب الظُرُوفُ الاِجْتِماعِيَّةُ الجَدِيدَةُ، وتعبر عنها مضامينها أيديولوجيا وثقافيا، وقد شُغلَ بارسونْز بِالتَنْظِيرِ لِلاِسْتِقْرارِ الاِجْتِماعِيِّ الأَمْرِيكِيِّ، وَاِنْهَمَكَ فِي تَقْدِيمِ رُؤْيَةٍ أيديولوجِيَّةٍ هَدَفَها تَعْزِيزُ التَوازُنِ الاِجْتِماعِيِّ الاِنْدِماجِيِّ فِي المُجْتَمَعِ الأَمْرِيكِيِّ. وَقَدْ عَبَرَت رُؤْيَتَهُ الأيديولوجِيَّةُ هٰذِهِ عَن تَطَلُّعاتِ المُجْتَمَعِ وَالأَفْرادِ فِي أَمْرِيكا الَّذِينَ كانُوا مَأْخُوذِينَ بِالحُلْمِ الأَمْرِيكِيِّ الواعِدِ بِتَحْقِيقِ النَجاحِ العَمَلِيِّ فِي الحَياةِ، وَالحُصُولِ عَلَى وَظِيفَةٍ مُناسَبَةٍ وَمَنْزِلٍ وَضَمانٍ صِحِّيٍّ دائِمٍ وَحَياةٍ مُسْتَقِرَّةٍ آمِنَةٍ مُحاطَةٍ بِكُلِّ أَشْكالِ التَرْفِيهِ وَالنَجاحِ. وَيَعْبُرُ ريتشارد أوزبورن (Richard Osborn) عَن هٰذِهِ الوَضْعِيَّةِ الأَمْرِيكِيَّةِ بِقَوْلِهِ: “كانَ كُلُّ فَرْدٍ فِي أَمْرِيكا فِي تِلْكَ السَنَواتِ الذَهَبِيَّةِ فِي الأَرْبَعِينِيّاتِ وَالخَمْسِينِيّاتِ مِن القَرْنِ الماضِي مُؤْمِناً بِالوَظِيفِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شخص أمريكي كانَ يُؤْمِنُ بِالأُسْرَةِ وَالطَعامِ العائِلِيِّ وَمَوْقِعِ الأُمِّ فِي المَطْبَخِ، وَكانَت نَظَرِيَّةُ المُجْتَمَعِ الراسِخِ وَالاِعْتِقادِ بِأَنَّ ذٰلِكَ المُجْتَمَعَ القائِمَ عَلَى التَجانُسِ وَالاِسْتِقْرارِ تَمَشِّيانِ معا دُونَما أَيِّ تَناقُضٍ”[2].
جَاءَتْ نَظَرِيَّة بَارسُونز إذن لِلتَّأْكِيد عَلَى التَّوَازُن الِاجْتِمَاعي وَأَهْمِيَّة الْمُحَافَظَة عَلَى التَّضَامُن الِاجْتِمَاعي وَالأَمْن انْعِكَاسًا لِمُطَالِب الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة وَالسَّيَاسِيَّة الأمريكية، وَلَا سِيَّمَا مُطَالِب النِّظَام الرَّأْسُمَالِي بتحقيق الِاسْتِقْرَار وَالتَّوَازُن حِرْصًا عَلَى حِمَايَتِه مِنْ الِاضْطِرَابَات وَالْقَلَاقِل وَالثَّوْرَات وَالِانْحِرَافَات الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ وَيُمْكِن الْقَوْل فِي هَذَا السِّيَاق بِأَنّ سُوْسِيَّولَوَجِيا بارْسُونز جَاءَتْ لَتَعَبَّر عَن الأَوْضَاع الِاجْتِمَاعِيَّة الأَمْرِيكِيَّة الْقَائِمَةِ، وَاسْتُحِقَّتْ أَنْ تَكُون سُوْسِيُّولِوَجِيا الطَّرِيقَة الْأَمْرَيْكِيَّة فِي الْحَيَاةِ الجديدة، ويبنى على ذلك أن النِّجَاح الكبير الَّذِي حَقَقَتْه نَظَرِيَّة بارسونز كَان نِتَاجًا لِقُدْرَتِه عَلَى تَرْجَمَة الْوَاقِع الطُّمُوح لِلْأَمْرِيكِيَّيْن فِي نَظْرِيَّتِه الْوَظِيفِيَّة [3].
وَمِن المَعْرُوفِ اليَوْمَ أَنَّ تَأْثِيرَ نَظَرِيَّةِ بارسونز قَدْ تَضاءَلَ، وَتَراجَعَ كَثِيراً تَحْتَ مَطارِقِ النَقْدِ الهائِلَةِ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَها، وَقَدْ سَقَطَ اليَوْمُ الغِطاءُ الأيديولوجِيِّ المُخِيفِ لِنَظَرِيَّتِهِ البُرْجُوازِيَّةِ، وَلَمْ تَعُدْ فِي أَيِّ حالٍ قادِرَةً عَلَى تَفْسِيرِ وَتَحْلِيلِ الأَوْضاعِ الاِجْتِماعِيَّةِ المُعاصِرَةِ، كَما أَنَّها قَدْ أَصْبَحَت عاجِزَةً كُلِّيّاً عَن مواكبة العصر بَعْدَ أَنْ كَشَفَ زَيْفُها الأيديولوجِيُّ وَمُغالَطاتِها السوسيولوجِيَّةَ الرَهِيبَةَ. وَإِذا كانَ هٰذا هُوَ الواقِعُ، فَإِنَّهُ لَمِن الضَرُورَةِ بِمَكانٍ أَنْ نَتَساءَلَ عَن مَشْرُوعِيَّةِ البَحْثِ فِي نَظَرِيَّةٍ فَقَدَت جُزْءاً كَبِيراً مِن مِصْداقِيَّتِها وَمَشْرُوعِيَّتِها التارِيخِيَّةِ، وَالجَوابِ سَيَكُونُ بِبَساطَةٍ مَفادُها: أَنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونْز – رَغْمَ الاِنْتِقاداتِ الَّتِي وُجِّهَت لَها – تُشَكِّلُ حَلْقَةً مُهِمَّةً فِي تَطَوُّرِ الفِكْرِ السوسيولوجِيِّ بِصُورَةٍ عامَّةٍ، كَما تُشَكِّلُ مِحْوَراً أَساسِيّاً فِي فَهْمِ وَتَحْلِيلِ النَظَرِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ فِي سِياقِ تَطَوُّرِها وَنُمُوِّها وَتَراجُعِها وَسُقُوطِها.
وَيُضافُ إِلَى ذٰلِكَ أَنَّ سوسيولوجيا بارسونز تُشَكِّلُ جزْءاً مِن الجُغْرافْيا الفِكْرِيَّةِ فِي عالَمِ السوسيولوجيا، وَبِما أَنَّهُ لا يُمْكِنُنا أَنْ نُسْقِطَ أَيَّ مَشْهَدٍ فِي الجُغْرافْيا، كَما فِي التارِيخِ الفِكْرِيِّ بِعامَّةٍ، فَإِنَّ هٰذا الأَمْرَ يُوجِبُ عَلَيْنا التَأَمُّلَ فِي مُعْطَياتِ نَظَرِيَّةِ بارسونْز، وَالنَظَرِ فِي تَضارِيسِ وُجُودِها، لِأَنَّها تُشَكِّلُ جُزْءاً صَمِيماً تارِيخِيّاً فِي الفِكْرِ السوسيولوجِيِّ، وَلا سِيَّما فِي التَفْكِيرِ البِنائِيِّ الوَظِيفِيِّ الَّذِي لا يُمْكِنُ فَهْمُهُ فِي مَساراتِ تَطَوُّرِهِ دُونَ اللُجُوءِ إِلَى قِراءَةٍ نَقْدِيَّةٍ لِنَظَرِيَّةِ بارسونز ، وَالنَظَرِ فِي مُعْطَياتِهِ الفِكْرِيَّةِ، وَمِن ثَمَّ البَحْثُ فِي الكَيْفِيّاتِ الَّتِي أَثَّرَ فِيها -وَما زالَ يُؤَثِّرُ – فِي النَظَرِيّاتِ السوسيولوجِيَّةِ المُعاصِرَةِ، وَلا سِيَّما فِي مَجالِ النَظَرِيّاتِ الوَظِيفِيَّةِ الجَدِيدَةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى أَنْقاضِ وَظِيفِيَّته البائدة.
وَسَنَعْمَل فِي هَذِه الدَّرَّاسَة عَلَى تَنَاوُل أَهُمّ الْمَعْطِيَات الْأَسَاسِيَة فِي نَظَرِيَّة بارْسُونز، وَأَنّ نُحَلِّل مُخْتَلِف مَفَاهِيمَهَا، وَأَنْ نَخُوض فِي أَعْمَق تَضَارِيسِهَا، فِي مُحَاوَلَة جَادَة لِفَهْمِهَا وَاكْتِنَاه مَعَانِيَهَا. وَمِن الأَهْمِيَّة بِمَكَان أَنّ هَذِه الدُّرَّاسَة تركز عَلَى الْجَانِب النَّقْدِي لِنَظَرِيَّة بَارسُونز سَوَاء مِنْ قِبَلِنَا أَوْ مِنْ قِبَل الْمُفَكَّرِين وَالْبَاحِثِين الْمُهْتِمِين بِأَحْوَال هَذِه النَّظَرِيَّة وَمَآلاتِهَا، وَحُرِّي بِنَا في هذا السياق التَّأْكِيد على أنّ الْجَانِب النَّقْدِي يشكل أَبْرَز مَا تَهَدَّف إِلَيْه هَذِه الدِّرَّاسَة الْمُعْمَّقَة لِنَظَرِيَّة بَارسُونز الْوَظِيفِيَّةِ
2- السيرة الأكاديمية:
وُلِد تَالكوت بارْسُونز (Talcott Parsons) فِي كَوْلَوَرَادُو سبرينجز (Colorado Springs)بِالْوِلَايَات الْمُتَّحِدَة الْأَمْرِيكِيَّة عَامّ 1902 فِي عَائِلَة مِن الإِصْلاَحِيِّين الْبُرُوتُسْتَانِتِ، وَكَان أَبُوه رَاعِيًا لِلْكَنِيسَة الأَبْرَشَانِيَّةَ. وَتُلْقَى تَعْلِيمُه فِي كُلِّيَّة أُمُهِيْرِسْت فِي مَاسَاتِشُوسُتُس (Amherst College in Massachusetts)، وَبَعْد تَخَرُّجِه منها، سَافَر إِلَى أُوْرُوبًا لِدَرَاسَة الْبُيُولُوجِيَا وَالْفَلَسَفَةِ، وَبَدَأ دَرَاسَتِه فِي كُلِّيَّة لَنَدَنّ لِلاِقْتِصَاد فِي عَام 1924، وَهِي الْفَتْرَة الَّتِي الْتَقَى فِيهَا مَع عَدَد مِن الْمُفَكِّرِين الإِنْكِلِيز أَمْثَال لَيُونَارِد هَـوَبـهْـاوُس وَعَالِم الِاقْتِصَاد أَلْفَرِد مَارِشَالَ، وَقَدْ شَغِف بِعَالِم الأَنْثَرُوبِوَلْوَجِيًّا بِرُونُـسْـلاَو مَالَيْنُوَفُسَكِي (Bronisław Kasper Malinowski)، وَتَأْثُر بِنَظَرِيَّتِه الْوَظِيفِيَّة [4]، وَمِنْ ثَمّ انْتَقَل لِمُتَابَعَة دَرَاسَتِه فِي هَيْدِلْبْرَغ لِمُدَّة عَامَيْنِ، وقد تعرّفّ على ألفريد فيبر (الأخ الأصغر لماكس فيبر)، وكارل يسبرز، وإدغار سالين، الذي تولّى الإشراف على رسالته لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1929 حول “مفهوم الرأسماليّة في الكتابات الألمانيّة الحديثة”، وقد خصّها أساسا للمقارنة بين ماكس فيبر وفرنر زومبارت (Werner Sombart) ، وَقَدْ تَأْثَّر خِلاَل هذه الفترة بـ إِمِيل دوركهايم وَفِيلَفَرِيد بَارِيتُو، وَلَكِنْ تَأْثُرُه الْأَعْظَم كَان يَدُور فِي فَلَك عَالِم الِاجْتِمَاع الأَلْمَانِي مَاكِس فيبَر الَّذِي كَان فِي أَوَّج عَطَائِه الْفِكْرِي فِي تِلْك الْفَتْرَةِ [5]. وَتُجَلَّى تَأْثِير كُلّ مِنْ فَيَبَر وَدوركهايم بِدَايَة فِي أَطْرُوحَتِه لِلدُّكْتُورَاه الَّتِي دَافَع عَنْهَا فِي جَامِعَة هَايِدِلْبْرَغ (Heidelberg University)، وَاسْتَمَرّ هَذَا التَّأْثِير عَلَى مُدَّى حَيَاتَه الْفِكْرِيَّةَ [6]. وَبَعْد حُصُولِه عَلَى الدُّكْتُورَاهْ تَمّ تَعْيِينُه مُحَاضِرًا فِي جَامِعَة هَارِفْرِد فِي عَام 1927 فِي الْقِسْم الَّذِي كان يَرْأَسُه بِيَتَيْرِيم سَوْرُوكَيْن (Pitirim A. Sorokin) [7]، وَبَقِي يُدْرَس فِيهَا حَتَّى وَفَاتَه فِي عَام 1979. وَخِلاَل هَذِه الْفِتْرَة تَمّ تَعْيِينُه رَئِيسًا لِقِسْم عِلْم الِاجْتِمَاع بِجَامِعَة هَارِفَارِد فِي عَام 1944، وَمِنْ ثَمّ تَمّ انْتِخَابُه رَئِيسًا لِلْجَمْعِيَّة الِاجْتِمَاعِيَّة الأَمْرِيكِيَّة فِي خَمْسِينَات وَسِتِّينَات الْقَرْن الْعِشْرِين [8].
وَفِي النِّصْف الثَّانِي مِن الْقَرْن الْعِشْرِين، أَصْبَح بارْسُونز الشَّخْصِيَّة الْأَشْهَر فِي عِلْم الِاجْتِمَاع الأَمْرِيكِيِّ ، ومن ثم تَعْرِض لِهُجُوم كَبِير مِنْ قِبَل عُلَمَاء الِاجْتِمَاع الْأَمْرِيكِيَّيْن الرَّادِيكَالِيِّين فِي أَوَاخِر السِّتِّينِيَّات ، ولاسيما هؤلاء الَّذِين وَجَدُو فِي نَظَرِيَّتِه نَزْعَةً أَيَدِيولُوَجِيَّة شَدِيدَة الْمُحَافَظَةِ. وَتَبِين الْمُؤَشَّرَات الْفِكْرِيَّة أَنّ بَارسُونز تَأَثَّر كَثِيرًا بِكُلّ مِنْ عَالِم الِاجْتِمَاع الْفَرَنُسِي إمِيل دُورَکهَایمْ. وَعَالِم النَّفْس النَّمْسَاوِي سَيْجُمُونَد فَرْوِيد، وَالْإِيطَالِي صَاحِب نَظَرِيَّة الصِّفْوَة فَلِفَرِيدُو بَارِيْتُو، وَعَالِم الِاجْتِمَاع الْأَلْمَانِي مَاكِس فيبَر، وَكَذَلِك بِعُلَمَاء الِاقْتِصَاد التَّقْلِيدِيَّيْن [9].
وَفِي الثَمانِينِيّاتِ مِن القَرْنِ الماضِي وَجَدَت أَعْمالَ بارسونز كَثِيراً مِن الاِهْتِمامِ العالَمِيِّ، تَمَثَّلُ بِاِنْتِشارٍ كَبِيرٍ لِأَبْحاثِهِ وَدِراساتِهِ فِي مُخْتَلِفِ أَنْحاءِ العالَمِ [10]. وَمَع أَهْمِيَّة الدَّرَاسَات وَالْبُحُوث الْعَلَمِيَّة الَّتِي نَشَرُّهَا فِي بِدَايَاتِهِ، فَإِنّ إسْهَامَه الرَّئِيس- فِي السَّنَوَات الْأُولَى مِنْ حَيَاتِه الْعِلَمِيَّة- قد تجلى بِتَأْثِيرِه الْفِكْرِي فِي تَلَامِذَتِه الَّذِين أَصْبَح بَعْضُهُمْ – فِيمَا بَعْد – مِنْ كِبَار الْمُفَكِّرِين وَالْمُنْظَرِينَ في علم الاجتماع؛ وَمِنْ أَكْثَرِهِمْ شُهْرَة وَحُضُورًا يُشَار إِلَى رَوْبَرْت مَيْرَتُون الَّذِي سَرَعَان مَا أَصْبَح مُنْظَرًا رَئِيسِيًّا فِي مِجَّال السُّوسِيُّولْوَجِيا الْحَدِيثَة فِي جَامِعَة كَوْلُومَبِيًّا. وَيُشَار أَيْضًا إِلَى كُلّ مَنْ كَيَنْجَزِلِي دَيْفِيس وَوَيَلْبَرْت مَوْرَ، الَّذِين كَان لَهُمْ أَثَر كَبِير فِي التَّنْظِير الْبِنَائِي الْوَظِيفِيِّ. وَشَكَل أتبَاعَه وَمُرِيدُوه تِيَارًا فَكَرِيًّا أَطْلَق عَلَيْه “الْبَارِسُونِيْزِيُّونَ”، الَّذِين مَارِسُوا تَأْثِيرَهمْ السُّوسِيوَلِوَجِي الْكَبِير فِي السوسيولوجيا حَتَّى نِهَايَة تسعينيات الْقَرْن الْعِشْرِين [11].
نَشَر بارْسُونز كِتَابَه الأَوَّل بِنِيَّة الْفِعْل الاجْتِمَاعِيِّ(The Structure of Social Action) (1937) [12]، وَهُو أَوَّل تَوْلِيف نَظَرِي يُعَبِّر فِيه عَنْ طُمُوحِه الْفِكْرِي فِي بِنَاء نَظَرِيَّتِه السُّوسُيُّولِوَجِيَّةً. وَيَطْرَح بارْسُونز فِي هَذَا الْكِتَاب سُؤَالِين مُرْكَزِيِّين هُمَا: مَا الشُّرُوط الَّتِي تَجْعَل قِيَام الْمُجْتَمِع مُمْكِنًا؟ وَمَا هِي أَسَس الْفِعْل الِاجْتِمَاعِيُّ؟ [13]. وَقَدْ تَحَوَّل هَذَا الْكِتَاب إِلَى مَرْجَعِيَّة فَكَرِيَة سُوسيُّولِوَجِيَّة أَسْهُم فِي تَعْرِيف الْأَجْيَال الْجَدِيدَة، مِنْ عُلَمَاء الِاجْتِمَاع الْأَمْرِيكِيَّيْن الشَّبَاب، بِالنَّظَرِيَّات الِاجْتِمَاعِيَّة الأَوْرُوبِيَّةِ. وقد تَضَمَّن الْكِتَاب فُصُولًا عَنْ سُوسِيُولَوَجِيا ماكس فَيبَر، وإميل دوركهايم، وَأَوْغَسْت كَوْنْت، وهيربرت وَسبنسر، وَغَيْرَهُمْ مِنْ كِبَار الْمُفَكِّرِين الأُوْرُوبِيِّينَ، وَلَمْ يَفُتْهُ أَنْ يَعْرِفَ بِعالَمِ الاِقْتِصادِ الإنجليزِيِّ ألفريد مارْشال (Alfred Marshall) وَعَالِم الِاجْتِمَاع الإِيطَالِي فَلِفَرِيد بَارِيْتُو (Vilfredo Pareto).، وَما يُثِيرُ الاِسْتِغْرابَ فِي أَمْرِ هذا الكِتابِ أَنَّ بارسونز تَجَاهُل النَّظَرِيَّة الْمَارَكَسِيَّةِ، وَأَغْفَل ذكَر أَيْ إِشَارَة إلى ماركس بوصفه أحد أكبر المفكرين في الاقتصاد وعلم الاجتماع، وَقَدْ شَكَل هَذَا الإِغْفَال مَوْضِع نَقْد أَيْدِيولِوَجِي شَدِيد لبَارسُونز أسس لاحقا المنصة الأساسية لاتِّهَامِه الصريح بِالْعَدَاء الشَّدِيد الْمُبْطِن لِلْمَارَكَسِيَّة، وَخُرُوجه عَن الْمَوْضُوعِيَّة الْعِلَمِيَّةِ، وَانْحِيَازِه الْوَاضِح لَعِلِم الِاجْتِمَاع الْبُرْجَوَازِيَّ؛ كَمَا كَان هَذَا الإِغْفَال المقصود مَصْدَر شَكّ فِي الْبَعْد الْمَوْضُوعي الْعِلْمِي لِنَظَرِيَّة لِبَارسُونز الَّذِي خَدَع قرَاءَه إذ أَعْمَى عَلَيْهِمْ بشكل مقصود معرفة أهمّ نَظَرِيَّة فِي عِلْم الِاجْتِمَاع السَّيَاسِي وفِي تَارِيخ الْفِكْر السُّوسِيُّوَلِوَجِيّ. وَيَرَى بَعْض الْمُفَكِّرِين إِنَّه إِلَى جَانِب الِانْحِيَاز الأَيْدِيولِوَجِي، فَإِنْ بَارسُونز كَان أَيْضًا يَخْشَى الْمُلَاحَقَة الأَمْنِيَّة “الْمُكَارِثِيَّةَ” (McCarthyism) [14] المُعَادِيَة لِلشُّيُوعِيَّة الَّتِي كَانَتْ تُطَال الْمُفَكِّرِين فِي ذَلِك الْوَقْت بِتِهم الْوَلَاء لِلْمَارَكَسِيَّة أَوْ الشُّيُوعِيَّةِ، أَوْ كَان قَدْ تَذَرَّع بِهَذِه الْحُجَّة كَيْ يَجِد مُبَرَّرًا وَمَخْرَجًا لِمَوْقِفِه الْأَيْدِيوَلِوَجِي الْمُتَحَيِّز ضِدّ الْمَارَكَسِيَّةِ. وَمَع أَهْمِيَّة الْمُلَاحَظَات عَلَى مَوْقِف بِارْسُونْز فَإِنّ كِتَابَه الْمُشَار إِلَيْه قَدْ أَسْهَم فِي عَمَلِيَّة تَطْوِير التَّنْظِير السُّوسُيُّوَلِوَجِي وَتَعْزِيز التَّوَجُّهَات الْوَظِيفِيَّة فِي عِلْم الِاجْتِمَاع الأَمْرِيكِيِّ، وَقَدْ ذَهَبَ نَفَرٌ مِنْ النُقّادِ إِلَى أَنْ تَطَوَّرَ عِلْمُ الاِجْتِماعِ يَدِينُ بِشِدَّةٍ لِما قَدَّمَهُ بارسونْز فِي هٰذا الكِتابِ [15].
وَفِي عَام 1939، نَشَر بارْسُونز بَحَثَه الْمَوْسُوم: “الْمهن وَالْبُنِيَّة الِاجْتِمَاعِيَّة” (The professions and social structure) الَّذِي يَبْحَث فِيه طَبِيعَة الْعَلاقَة بَيْن المهن وَالْبِنَاء الِاجْتِمَاعي لِلْمُجْتَمِعِ. وَفِي عَام 1951 نَشْر كِتَابه الْمُهِمّ جِدًّا ” النَّسْق الِاجْتِمَاعي “( The Social system) [16]. وَفِي هَذَا الْعَمَل رَكَز بارْسُونز عَلَى بَنِى الْمُجْتَمِع وَعلاَقَتِهَا بِبَعْضِهَا، وَشُدِّد عَلَى أَهْمِيَّة الْعَلاَقَات بَيْن التَّكْوِينَات الِاجْتِمَاعِيَّة مِنْ مُنْطَلِق أَنّ التَّكْوِينَات الِاجْتِمَاعِيَّة تَتَفَاعَل إِيجَابِيًّا، وَيَعْزِّز بَعْضُهَا بَعْضًا عَلَى نَحْو دِينَامِي مُسْتَمِرّ لِتَحْقِيق التَّوَازُن فِي الْمُجْتَمِعِ، وَقَدْ رَكَز بشكل خَاصّ عَلَى الْكَيْفِيَّات الَّتِي تَتَفَاعَل فِيهَا هَذِه الْأَنْظِمَة لِلْمُحَافَظَة عَلَى الْوَحْدَة الدِّينَامِيَّة لِلْمُجْتَمِعِ.
وْقَد تَدَفَّق الْعَطَاء الْفِكْرِي لِبَارسونز فِي عَدَد مِنْ الْأَعْمَال وَالدِّرَاسَات الْعِلْمِيَّةِ، وَمِنْ أَهَمَّهَا يُشَار إلَى كِتَابِه “مَقَالَات فِي النَّظَرِيَّة الِاجْتِمَاعِيَّة” عَام 1964(Essays in Sociological Theory)[17]. وفي عام 1970 نشر كتابه ” نظرية النسق البنائي ” (On building social system theory) [18]، وفي العام ذاته 1971 نشر كتابه ” نظام المجتمعات الحديثة” (The system of modern societies) [19]. وفي عام 1978 نشر كتابه ” نظرية الفعل والشرط الإنساني” (Action Theory and the Human Condition) [20]. وَيُضَاف إِلَى ذَلِك نشره لعَدَد كَبِير مِن الْمَقَالَات وَالأَبْحَاث الَّتِي تَدُور فِي فَلَك الْمُجْتَمِع وَالْحَيَاة الإِنْسَانِيَّة. وَمَنْ يُتَأَمَّل فِي الإِنْتَاج الْعِلْمِي لِبَارسُونز سَيَجِد أَنّ مُعْظَم هَذَا الإِنْتَاج يَدُور حَوْل مفهومي الْوَظِيفِيَّة وَالْبِنَاء الْوَظِيفِي فِي الْمُجْتَمِعَات الأَمْرِيْكِيَّة الْحَدِيثَةَ. وَقَدْ تَأَكَّد الطَّابِع الْوَظِيفِي لنظريته في أَوَائِل الْخَمْسِينِيَّات مِن الْقَرْن الْعِشْرِينَ، وَعَلَى الرَّغْم مِنْ تَرْكِيزِه فِي الْبِدَايَة عَلَى الْجَانِب السَّتَاتِيكِي السُّكُونِي الْمُحَافِظ فِي نَظَرَتِه الْوَظِيفِيَّة إِلَى الْمُجْتَمِعِ، فَإِنَّه سُرْعَان مَا تَنَاوَل التَّغَيُّر الِاجْتِمَاعي بِوَصْفِه عَمَلِية مُنْظِمَةً تَدُور فِي أَفَق وَحدّة الْمُجْتَمِع وَسُكُونِه الْوَظِيفِيِّ.
وَيُمِيز النَّقَاد ثَلاَث مَرَاحِل فِي تَطَوُّر نَظَرِيَّة بارْسُونز: مُبَكَّرَة، وَوَسِيطَة، وَمُتَأَخِّرَة. وَقَدْ رَكَّز فِي الْمَرْحَلَة الْأُولَى عَلَى بِنِيَّة الْفِعْل الِاجْتِمَاعِيِّ، وَاهْتَمّ فِي الْمَرْحَلَة الثَّانِيَة بِبُنِيَّة النّظم الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَرَكَّز اهْتِمَامُه فِي الْمَرْحَلَة الْأَخِيرَة بِتَصْنِيف مَرَاحِل التَّطَوُّر الِاجْتِمَاعِيِّ.
3- البُعْدُ الفَلْسَفِيُّ فِي نَظَرِيَّةِ بارسونز:
تَأْثُر بَارْسُونز إِلَى حَدّ كَبِير بِأَفْكَار كُلّ مِنْ دوركهايم وَمَاكِس فيبَر وَهَرْبَرْت سَبَنْسِرَ، وَمَالَيْنُوفِسُكِي وَانْطَلَق مِنْ مَقَولَاتِهِم الْوَظِيفِيَّة الْأَسَاسِيَّة فِي التَّأْسِيس لِنَظَرِيَّتِه الْوَظِيفِيَّةِ، ويَتَجَلَّى تَأْثِيرَهُمْ فِي مُخْتَلِف أَعْمَالِه وَدِرَاسَاتِه الَّتِي تَدُور حَوْل نَظَرِيَّتِه فِي “الْفِعْل الاجْتِمَاعِي” الَّتِي تَسْتَمِدّ طَاقَتَهَا النَّظَرِيَّة مِنْ مَفَاهِيم النِّظَام وَالْبُنْيَّة وَالْوَظِيفَةِ.
وتجْدر الْإِشَارَة فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ بارْسُونز انْطَلَق مِنْ إِشْكَالِيَة الصِّرَاع بَيْن الِاتِّجَاهَيْن الْمَادِي وَالْمَثَالِي فِي الْفِكْر الِاجْتِمَاعِيِّ، وَكَانَت الْوَضْعِيَّة (Positivism) فِي زَمَنِه تَشْكُل النَّهْج السَّائِد سَوْسِيولَوَجِيًّا فِي تَفْسِير السُّلُوك الاجتماعي بطريقة موضوعية. وَقَدْ وَاجَهَتْ “الْوَضْعِيَّةُ” (Positivism) صِرَاعَهَا الْمُسْتَمِرّ مَع نَقِيضِهَا التاريخي “الِاتِّجَاه الْمَثَالِي” الْمُضَادّ (Idealism) الَّذِي يُشَدَّد عَلَى الْجَانِب “الذَّاتِيِّ” فِي الْفِعْل الِاجْتِمَاعِيِّ. وَفِي مُعْتَرِك الصِّرَاع بَيْن الِاتِّجَاهَيْنِ، وَجِد بارسونز بِأَنَّه لَنْ يَكُون مِن الْمُفِيد الْوُقُوف عَلَى حُدُود التَّعَارُض وَالتَّنَاقُض بَيْن الِاتِّجَاهِيَّيْن الْمَثَالِي وَالْمَادِي الْوَضْعي، أَوْ الِانْتِصَار لِأَي مِنْهُمَا، وَوُجِد أَنّ كُلًّا مِن الْمَوَقِفَين الْمَادِي وَالْمَثَالِي لَهُ مُبَرَّرَات مُعَيَّنَةٌ، وَيُمْكِن الأخذ بِهِمَا كِلَيْهِمَا فِي عَمَلِيَّة تفسير الْفِعْل الِاجْتِمَاعِيَّ، وقد وجد مَع ذَلِك وُجِد أَنَّه مِنْ الضَّرُورِي تُجَاوِز هَذِه الثُّنَائِيَّة، وَتُخَطِّي الِانْتِقَائِيَّة وَالْحِيَادِيَّة، وَاسْتِكْشَاف الْجُسُور القائمة بَيْن الْمَوْضُوعي وَالذَّاتِي فِي فَهْم الْفِعْل الِاجْتِمَاعِيِّ، وقد بَيّن أَنَّه إذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا التَّوْفِيق بَيْنَهُمَا فَإِنَّه لَمِن الْمُمْكِن الِاسْتِفَادَة مِنْ أَفْضَل معْطِيَاتِهِمَا انْتِقَائِيًّا.
وفيما يتعلق بموقف بارسونز من الماركسية، يْرَى أَلْفُن جَوْلَدَنِر فِي كِتَابِه ” الْأَزِمَّة الْقَادِمَة لَعِلِم الِاجْتِمَاع الْغَرْبِيَّ” (1970) (The upcoming crisis for Western sociology)، أَنّ نَظَرِيَّة بَارسُونز قَدْ تَطَوَّرْت فِي حَقِيقَة الْأَمْر رَدًّا عَلَى تَحْدِيَات النَّظَرِيَّة الْمَارَكَسِيَّةِ: وَإِذَا كَانَتْ الْمَارَكِسِيَّة نَظَرِية عَامَّة عَنْ الْمُجْتَمِع تَدَيُّن الرَّأْسَمَالِيَّةَ، فَقَدْ غَدَّتْ الْوَظِيفِيَّة الْبُنَائِيَّة نَظَرِية عَامية عَنْ الْمُجْتَمِع لَا تَسُوغ الرَأْسُمالِيَّةُ كَما يُعْتَقَدُ فِي العادَةِ، بِقَدْرِ ما تَقَدَّمَ تَفْسِيراً وَفَهْماً لِلمَصاعِبِ الرَأْسُمالِيَّةِ دُونَ أَنْ تُدِينَها ” [21].
وَيُلَاحِظ فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ السُّوسِيَّولَوَجِيا الأَمْرِيكِيَّةَ، قَدْ شغَلْت، فِي مَرْحَلَة مَا بَعْد الْحَرْب الْعَالِمِيَّة الثَّانِيَةِ، كُلِّيًّا بِالْجَوَانِب الإِمْبِيْرِيقِيَّة الْمَيْدَانِيَّةِ، وَغَرِقَتْ فِي مدّ الدَّرَاسَات الْمَيْدَانِيَّة وَالتَّحْقِيقَات الإِمْبِيرِيقِيَّة الْكُبْرَى، وَذَلِك فِي الْوَقْت الَّذِي بَدَأ فِيه تَرَاجُع النَّظَرِيَّات السُّوسِيُّولَوَجِيَّة الْكُبْرَى. وَفِي ظِلّ هَذَا التَّرَاجُع لِلْفِكْر التَّنْظِيرِي السُّوسِيُّوَلِوَجِيُّ، بَرْز تَالكوت بَارسُونز بوصفه مَنْظَرًا فَذَاً لا يشق له غبار، وقد جاء لِيَكْرِس جُهُودَه الْعِلَمِيَّة فِي عَمَلِيَّة بِنَاء مَشْرُوعِه الْفِكْرِي النَّظَرِي فِي أَعْلَى دَرَجَة مِنْ مُسْتَوِيَات التَّنْظِير السُّوسِيُّوَلَوَجِيّ، وَقَدْ اُسْتَلْهَم أَعْمَال كل من إميل دوركهايم وَمَاكِس فيبَر وَغَيْرُهمَا مِنْ كِبَار عُلَمَاء الِاجْتِمَاع فِي بِنَاء مَشْرُوعِهِ، وَبَدَأ بِطَرْح مُقَارَبَاتِه السُّوسِيُّولْوَجِيَّة بِطَرِيقَة مُخْتَلِفَة فِي اتِّجَاه التَّأْسِيس لِنَظَرِيَّة عَامَّة شَامِلَة عَن الْمُجْتَمِع بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْه مِنْ ظَوَاهِر اجْتِمَاعِيَّةً.
وَتجْدر الْإِشَارَة فِي هَذَا السِّيَاق إلى رفض بارْسُونز رَفْضَه لِلنُّزْعَة الإِمْبِيرِيقِيَّة فِي عِلْم الِاجْتِمَاعِ، وَانْصَرَف إِلَى تَشْيِيد مُمَلِكَتِه الْفِكْرِيَّة على أسس نظرية محضة، وَكَان يُرْدَّد دَائِمًا: “إِنّ الْعِلْم لَا يُمْكِن أَنْ يَخْتَصِر إِلَى مُجَرَّد تَرَاكُم لِلْمَعْطِيَاتِ، بَلْ عَلَيْه أَنْ يَنْطَلِق مِنْ أَسْئِلَة، عَلَيْه أَنْ يَسْتَنِد إلَى إطَار نَظَرِي يُضْفِي مَعْنًى عَلَى الْمَعْطِيَات الْوَاقِعِيَّة “[22]. وَقَدْ عُرِف عَنْ بَارِسونَز شَغَفُه الْكَبِير بِالتَّنْظِير وَبِنَاء الْأَفْكَار وَتَوْلِيد الْمَقَوِّلَات السُّوسِيُّوَلَوَجِيَّة وَتَصْنِيفِهَا، وَقَدْ اعْتَاد أَنْ يَصِف نَفْسَه قَوْلًا: ” بِأَنَّه مَرِيض بِدَاء التَّنْظِيرِ” [23]. وَاسْتَطَاع أَخِيرًا بِمَا تَمَتَّع بِه قُدْرَة عَلَى التَّنْظِير أَنْ يُرْسِم مَعَالِم نَظَرِيَّتِه الشُّمُولِيَّة وَأَنْ يُصْبِح فِيمَا بَعْد رَائِد السُّوسِيُّوَلِوَجِيا الْأَمْرِيكِيَّة فِي زَمَنِه وملهمها [24].
يَنْطَلِق بَارسُونز فِي بِنَاء نَظَرِيَّتِه بِدَايَة مِنْ الْإِقْرَار بِأَنّ الْوَاقِع الِاجْتِمَاعِي مُلْتَبِس ضَبَابِي غَامِض وَمُضْطَرِب مَحْكُوم بِالْفَوْضَى، وَعَلَيْنَا كَيْ نَفْهَمَه بِنَاء نَسْق مِنْ الْأَفْكَار وَالتَّصَوُّرَات الدَّقِيقَةِ، الَّتِي يُمْكِن اعْتِمَادُهَا فِي تَحْلِيل النِّظَام وَفَهْمِه، وَإِعَادَة تَرْتِيب أَوْلَوِيَّاتِه وصوغ َمُقَدِّمَاتِه والبحث في صيروراته. وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلِق وَجَد أَنَّه يَجِب عَلَيْنَا عِنْدَمَا نُرِيد أَنّ نُدَرِّس الْمُجْتَمِعِ، وَنَفْهَمَه جَيِّدًا، أَنْ نَعْمَل عَلَى تَرْتِيب أَفْكَارِنَا وَتَصَوُّرَاتِنَا الرَّئِيسَة فِي بِنَاء مُتَنَاسِق وَمُنْتَظَم مِنْ الْمَفْهُومَات الْمُجَرَّدَة الَّتِي يُمْكِنُهَا أَنْ تُغَطِّي مُخْتَلِف الظَّوَاهِر الْقَائِمَة فِيهِ. وَلَنْ يَكُون فِي مَقْدُورِنَا فَهُمْ الْوَاقِع وَتَحْلِيلُه وَإِدْرَاك أَبْعَادِه دُون هَذَا التَّنْظِيم الدَّقِيق لِأَفْكَارِنَا وَتَصَوُّرَاتِنَا عَنْ الْمُجْتَمِعِ. فَالْمَفْهُوم الْمُجَرَّد كَمَا يَرَاه بَارسُونز ” تَعْمِيم يُرْكِز عَلَى جَانِب مُهِمّ مِن الْوَاقِعِ، وَتَحْفِل الْحَيَاة الْيَوْمِيَّة بِمِثْل هَذِه الْمَفَاهِيم الَّتِي يُمْكِن اعْتِمَادُهَا فِي فَهْم الْمُجْتَمِع وَدُرَاسَة ظَوَاهِرِه الْمُخْتَلِفَة [25].
وَيُرْكُز بَارسُونز فِي هَذَا السِّيَاق عَلَى التَّمَاسُك الْمُنْطِقِي لِلنَّظَرِيَّة الَّذِي يَعَدّ الْمحَكّ الْأَسَاسِي لتقرير مدى مُصَدَّاقِيَّتِهَا أَوْ فَعَالِيَتهَا، وَيَنْطَلِق مِنْ هَذِه الرُّؤْيَة لِيُؤَكِّد بِأَنّ الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة مُنظِمَة بِطَرِيقَة مَنْطَقِيَّة عَقْلَانِيَّة رَغِم التَّنَاقُضَات الظَّاهِرَة فِي تَكْوِينِهَا والمفارقات التي تعتري َدِينَامِيَّات فعلهَا الْوَظِيفِيّ، وَبِنَاءً عَلَيْه، فَإِنّ أَيْ نَظَرِيَّة مَنْطَقِيَّة عَقْلَانِية مِنْ الْأَرْجَح أَنْ تَكُون نَظَرِيَّة صَحِيحَة [26]. وَتَأْسِيسًا عَلَى هَذَا التَّوَجُّه النَّظَرِيِّ، فَإِنّ العمل على تجْرِيد الْوَاقِع فِي مَفَاهِيم وَأَفْكَار دَقِيقَة، يُمْكِن الْبَاحِث – وفق بارسونز -من الْوُصُول إِلَى عَيْن الْحَقِيقَةِ وإدراك مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، وَعَلَى هَذَا النَّحْو يَبْدُو الأَمْرَ، وَكَأَنّ النَّظَرِيَّة لَا تَعْدُو أَنْ تَكُون إِلا تَجْرِيدًا لِلْوَاقِع الِاجْتِمَاعِي وَانْعِكَاسًا لَهُ، ويبنى عَلَى ذَلِك أَنّ الْخَطَأ فِي التَّنْظِير يُنَجُم غالبا عَن الْخَطَأ فِي عَمَلِيَّة تَجْرِيد الْوَاقِع إِلَى مَفَاهِيم دَقِيقَة وَصَرِيحَة وَوَاضِحَة .
وَقد تمكن بَارْسُونز فِي حَرَكَتِه التَّنْظِيرِيَّة أَنْ يَجْمَع بين رُؤْيَتِي دوركهايم الْكُلِّيَّة وَفيبَر الْفَرْدِيَّةَ في رؤية متكاملة، وَمِن الْمَعْرُوف أَنّ فيبَر قَدْ رَكَز فِي نَظَرِيَّتِه عَلَى أَوْلَوِيَّة تَأْثِير الأَفْرَاد فِي الْمُجْتَمِعِ، بَيْنَمَا رَكَز دُوْرَكَهَايم عَلَى تَأْثِير الْمُجْتَمِع فِي الأَفْرَادِ، إِذْ يَرَى أَنّ الضَّمِير الْجَمْعِي -بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْه مِنْ قِيَم أَخْلَاقِيَّة وَأَعْرَاف وَتَقَالِيد – يُحْكُم وُجُود الْأَفْرَادِ، وَيَضْبِط إيقَاعَات فِعْلِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّ. وَعَلَى خِلَاف ذَلِك يَنْطَلِق فَيَبَر مِنْ أَوْلَوِيَّة تَأْثِير الْأَفْرَاد فِي الْمُجْتَمِع بِوَصْفِهِمْ الْفَاعِلِين الْأَسَاسِيَيْن الَّذِين يَضُفّون الْمَعْنَى وَالدَّلَالَة عَلَى حَيَاة الْمُجْتَمِعِ.
وَهَكَذَا نَجِد أَنّ كُلًّا مِنْ دوركهايم وَفيبَر قد أعطيا اهْتِمَامًا كَبِيرًا لِلْفِعْل الِاجْتِمَاعي الْمُوَجَّه بِالرُّمُوز وَالدَّلَّالَات وَالْمَعَانِي، ويتمثل الْخِلَاف بَيْنَهُمَا فِي أَنّ دُورَكَهَايم يَنْطَلِق مِنْ تَأَثُّير الْكُلّ الِاجْتِمَاعِي فِي الْأَفْرَاد، بَيْنَمَا يُؤَكِّد فَيَبَر عَلَى تأثير الْأَفْرَاد فِي الْمُجْتَمِع وَقُدْرَتُهُمْ عَلَى تَحْدِيد مُلَامِحِه مِنْ خِلَال الْمَعَانِي التي يَضفونَهَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ. وَاسْتَطَاع بَارسُونز – كما سبقت الإشارة – أَنْ يُوَفِّق بَيْن وَجْهَتَيْ النَّظَر الدَّوْرَكْهَايمِيَّة وَالْفَيْبَرِيَّةِ، وَأَنْ ينطلق من كلتيهما لتأكيد الْعَلَّاقَة الْجَدَلِيَّة بَيْن الْفَرْد وَالْمُجْتَمِع فِي آن وَاحِد.
فَحَيَاة الْبَشَر كَمَا يَرَاهَا بارْسُونز تَنْتَظِم فِي سِيَاق التَّبَادُل الرَّمْزِي بَيْن تَأْثِير الْمُجْتَمِع من جهة وَتَأْثِير الْأَفْرَادِ من جهة أخرى، وعلى هذا النحو تأخذ الْمَعَايِير الاجتماعية -كَمَا يَرَاهَا – صُورَة الْقَوَاعِد الْمَقْبُولَة اجْتِمَاعِيًّا أي تلك الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا الْبَشَر فِي تَقْرِير أَفْعَالِهِمْ ,أعمالهم ؛ أَمَّا الْقَيِّم، فَأَفْضَل وَصْف لَهَا، هُو أَنَّهَا تعبر عن منظور البشر في معنى الحياة ودلالتها، وعما يجب أن تَكُون عَلَيْه، وَهِي تشكل قوة فاعلة تُؤَثِّر فِي تَحْدِيد أَفْعَال الأفراد وتوجه سلوكاتهم، وَهُنَا، وَفِي هَذَا السِّيَاق، يُرْكُز بَارسُونز عَلَى أَهْمِيَّة التَّبَادُل الرَّمْزِي وَالْمَعْنَوِي بَيْن أَفْرَاد الْمُجْتَمِع الَّذِي يُشْكِل عِنْصَر التَّفَاعُل الْقِيَمِي وَالْأَخْلَاقِي فِي تَحْدِيد سُلُوك النَّاس وَتَفَاعَلَاتِهِم الْوَجْدَانِيْة [27].
وَفِي غَمْرَة هَذِه الْوَضْعِيَّات الْجَدِيدَة، اعْتَمَد بَارْسُونز “نَظَرِيَّة الْمَنْظُومَاتِ” (السَّيْبَرِنْطِيقِيَّةَ) الَّتِي أخذت حينها تَهَيُّمن عَلَى السُّوسِيِّوَلَوَجِيا الْأَمْرِيكِيَّةِ، وَقَدْ اسْتَلَّهُمْ هَذَا النَّمُوْذِج السَّيْبَرَنْطِيقِي فِي عَمَلِيَّة صَوْغ نَظَرِيَّتِه الْبُنَيْوِيَّة التَّطَوُّرِيَّة فِي الْمُجْتَمِع الْأَمْرِيكِيِّ، إذْ كَان يَنْظُر إلَى الْمُجْتَمِع الْأَمْرِيكِي بِوَصْفِه الْحَلْقَة الْأَعْلَى فِي سَلَم التَّطَوُّر الْإِنْسَانِي وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَيَرَى في الوقت نفسه أَنّ هَذَا الْمُجْتَمِع يَتَمَيَّز بِدَرَجَة عَالِيَة مِنْ التَّعْقِيد وَالتَّمَايُز الدَّاخِلِي وَالِانْفِتَاح الْكَبِير الَّذِي يُوَفِّر لِلْأَفْرَاد وَالْمُؤَسِّسَات الِاجْتِمَاعِيَّة شُرُوط الْحُرِّيَّة الْكَامِلَةُ[28].
وَفِي سِيَاق التَّأْسِيس لِنَظَرِيَّتِه السُّوسُيُّولُوجِيَّة هذه يُحَاوِل بارْسُونز تَجَاوَز الثُّنَائِيَّة السُّوسِيُّولَوْجِيَّة فِي مَجَال الضَّبْط الِاجْتِمَاعِي وَتَشْكِيل الْمُجْتَمِعِ، وَهِي الثُّنَائِيَّة الَّتِي يُمْثِل طَرَفَاهَا كُلّ مِنْ الْفَيْلَسُوفان الإنكليزيان تَوْمَاس هَوْبَس (Thomas Hobbes) [29] فِي كِتَابِه الشَّهْرِي “اللُّفْيَاثَانِ” (Leviathan)[30]، وجُون لوكْ( (John Locke) [31] في كتابهِ: “رسالة في التسامحْ” (A Letter Concerning Toleration)[32]، وَفِي مَعْرِض هَذِه التناقض الثُّنَائِيّ يَرَى هوبز أَنّ النَّاس فِي الْحَالَة الطَّبِيعِيَّة أَشْرَار وَعُدْوَانِيُّون وهم أَشْبَه بِالذِّئَاب الضَّارِيَةِ، وَلَا يُمْكِن أَنْ يَسْتَقِيم الْمُجْتَمِع إلَّا مَع تَشَكُّل قُوَّة جِبَارَة، وَسَلْطَة دُيكَتَاتُورِيَّة، تُعْمَل عَلَى تَحَقُّيق الْأَمْن وَضَبْط الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة بِالْقَهْر وَالْقُوَّة وَالْغَلَبَةِ.
وَعَلَى عَكْس هَذَا التَّوَجُّهِ، يَرَى جَوْن لَوْك أَنّ الْمُجْتَمِع يَبْدَأ بِإِبْرَام عَقْد اجْتِمَاعَيْ تَوَافُقِي بَيْن أَفْرَاد الْمُجْتَمِعِ، وَهُو عَقْد يُمَثِّل التَّوَافُق فِي الْمَصَالِحِ، وَعَلَى أَسَاس هَذَا الْعَقْد تَنْشَأ حُكُومَة عَقْدِيَّةً، أَوْ سَلْطَةً مَشْرُوعَةٌ، تَقُوم بِرِعَايَة مَصَالِح النَّاس وَحِمَايَة حُقُوقِهِمْ وَتَوْفِير أَمْنِهِمْ [33]. وَفِي مُوَاجَهَة هَذِه الْمُعْضِلَة الثُّنَائِيَّةِ، خَطّ بَارسُونز رُؤْيَة جَدِيدَة تَرْفِض كُلَّتَا النَّظَرِيَّتَيْنِ، لِيَرَى بِأَنّ النِّظَام الِاجْتِمَاعِي يَنْشَأ تَحْت تَأْثِير نَسْق مِن الْقَيِّم وَالْمَعَايِير الأَخْلَاقِيَّةِ، الَّتِي تُفْرَض عَلَى الْأَفْرَاد الْخُضُوع لِلنِّظَامِ، وَالْعَمَل بِمُوجِب الْقِيَم الثُّقَافِيَّة وَالْمَعَايِير الأَخْلَاقِيَّة السَّائِدَة فِي الْمُجْتَمِعِ، الَّتِي تَعْمَل عَلَى تَرْسِيخ بُنْيَان الْمُجْتَمِع وَالْمُحَافَظَة عَلَيْهِ؛ وَتَتَنَاسَب هَذِه الْفِكْرَةَ، إلَى حَدّ كَبِير، مَع تَصَوُّر دُوْرَكِهَايم لِمَفْهُوم التَّضَامُن الِاجْتِمَاعَي الْمُتَمَحُور حَوْل الْقَيِّم وَالْأَعْرَاف وَالتَّقَالِيد وَالدَّيْن وَالْمَعَايِير الثِّقَافِيَّةِ.
وَقَدْ أَكِد بَارْسُونز دَائِمًا عَلَى أَنّ النِّظَام الِاجْتِمَاعِي يَقُوم بِالدَّرَجَة الْأُولَى عَلَى أَنْسَاق الْقَيِّم وَالْمَعْطِيَات الثِّقَافِيَّة الَّتِي يَجْتَمِع النَّاس حَوْلَهَا، وَهِي الْقِيَم الَّتِي تَعَبَّر عَنْ مَصَالِحِهِمْ وَوُجُودِهِمْ وَطُمُوحَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهَذَا هُو أَصْل فِكْرَتُه عَنْ الطَّوْعِيَّة الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تَدْفَع الْأَفْرَاد بِمَحْض إرَادَتِهِمْ وَتَحْت تَأْثِير الْقَيِّم إلَى الِاجْتِمَاع وَالتَّعَاوُن وَالتَّفَاعُل وَتَحْقِيق التَّوَازُن الِاجْتِمَاعِيُّ.
4- المقولاتُ الأساسيّة:
لا يُمْكِن فَهُمْ نَظَرِيَّة بَارسُونز، وَالتَّوَغُّل فِي أَعْمَاق رُؤْيَتِه لِلْمُجْتَمِع، دُون الْخَوْض فِي مَنْظُومَة الْمَفَاهِيم وَالْمُقَوِّلَات الْأَسَاسِيَّة الَّتِي يَنْطَلِق مِنْهَا فِي رُؤْيَتِه لِلْمُجْتَمِعِ. ويتضح في هذا المقام أن بَارسُونز يَنْطَلِق فِي الْعَمَل عَلَى تَشْيِيد نَظَرِيَّتِه الْفِكْرِيَّة تَأْسِيسًا عَلَى أَرْبَعَة مَفَاهِيم أَسَاسِيَة [34]، هي: الفعل الاجتماعي (Social Action)، والموقف (Situation)، والفاعل (Actor)، وتوجيهات الفاعل (Actor’s orientation) [35].
وَيُمَيِّزْ بارْسُونز، بِدَايَةً، بَيْن الْفِعْل وَالسُّلُوك ” فَكُلّ فِعْل يَأْخُذ صُورَة سُلُوِّك مُحَدَّد، وَلَكِنْ لَيْس كُلّ سُلُوك يُمْكِن أَنْ يَكُون فِعْلًا: فَاتِّجَاه الْفِرَاشَة نَحْو الضَّوْء يُعَدّ اسْتِجَابَةً غَرِيزِيَّة لِلْفِرَاشَة إِزَاء مُنَبِّه الضَّوْء سُلُوَّك وَلَيْس فِعْلًا” [36]. وَيُمْكِن الْقَوْل أَنّ الْفِعْل (Action) سُلُوك مُعْقلَن يَرْتَبِط بِغَايَة وَهَدْف ؛ ” فَلَوْ تَخَيَّلْنَا أَنّ الْفِرَاشَة قَالَتْ لِنَفْسِهَا: هَذَا الضَّوْء جَمِيلٌ، وَأُرِيد أَنْ أَكُون قَرِيبَةً مِنْهُ، وَلِذَا فَإِنَّنِي سَأْطِير إلَيْه مُبَاشَرَةً وَبِأَسْرَع مَا يُمْكِن فَإِنّ سُلُوك الْفِرَاشَة فِي الْحَالَة يَصْبْح فعلا غائيا ” [37]. وَهَذَا يَعْنِي ضرورة التَّمْيِيز بَيْن الْفِعْل الذي يكون غَائِيًا الذي يرتبط بهَدْف وَغَايَة مُعَقْلنَة، والفعل الذي يكون عَفَوِيًّا تَلْقَائِيًّا لَا يَرْتَبِط بِغَايَة أَوْ هَدْف أَوْ وَعِي مُسْبَق [38].
ويعرف بارسونز الْمَوْقِف (Situation) بِأَنَّه الْوَضْعِيَّة الَّتِي تَفَرَّض عَلَى الْفَاعِل اتِّخَاذ قَرَار مِنْ بَيْن احْتِمَالَات عَدِيدَة. وَهَذَا يَعْنِي أَنّ الْمَوْقِف يَتَضَمَّن مَجْمُوعَةً مِنْ الظُّرُوف وَالْمُتَغَيِّرَات وَالْمُنْبِهَات وَالْمَوْضُوعَات وَالْمَعَايِير الَّتِي هِي عِبَارَة عَنْ أَنْمَاط مُتَوَقِّعَة مِنْ السُّلُوك وَالْقَيِّم التي تكون عِبَارَة عَنْ تَصَوُّرَات لِمَا هُو مَرْغُوب فِيه وَمَرْغُوب عَنْهُ، وَفِي ظِلّ هَذِه الظُّرُوف وَالْأَحْوَال الْمُجْتَمِعَةُ، يَجِب عَلَى الْفَاعِل (Actor) أَنْ يَتَّخِذ قَرَارًا يَأْخُذ بِعَيْن الِاعْتِبَار مُخْتَلِف الظُّرُوف الَّتِي تَشْكُل الْمَوْقِف الَّذِي يُوجَد فِيه [39].
وْعِنْدَمَا يُوجَد الْفَاعِل مُطَالَبًا، فِي مَوْقِف ما، أَوْ وَضْعِيَّة مَا، أَنْ يَتَّخِذ قَرَارًا، أَوْ أَنْ يُمَارِس فِعْلًا فَإِنّ قَرَارَه يَهْتَدِي بِنَمْط مِن التَّوْجِيهَات (Orientations) الَّتِي تُسَاعِد الْفَرْد على اتِّخَاذ قرارَاتِهِ، وَهِي التوجيهات الَّتِي تحدد هَذِه الْقرَارَاتِ، وتؤسس لتصنيفها انْفِعَالِيًّا أَوْ عَقْلانِيًّا أَوْ نَفْعِيًّا. فَحِين يَخْتَار رَجُل مَا زَوْجَةً لَه، فَإِنّ قَرَارَه يَعْتَمِد عَلَى الْحَالَة الْعَاطِفِيَّة الانْفِعَالِيَّة (الحب والعشق مثلا)، وَحِين يَبْحَث عَنْ طَبِيب، فَإِنَّه خِيَارُه يجب أن يَكُون عَقْلَانِيًّا (البحث عن طبيب ماهر ومتمكن). وَهُنَا يُمَيِّز بَارْسُونز بَيْن ثَلاَثَة أَنْوَاع مِنْ التَّوْجِيهَات السُّلُوكِيَّة الدَّافِعَةِ: [40].
1- التَّوْجِيهَات الْمَعْرِفِيَّةُ: وَتَتَضَمَّن تَحْدِيد مَكَان الْمَوْضُوع الَّذِي يتم التعامل معه وَتَحْدِيد خَصَائِصِه وَوَظَائِفِه الْفِعْلِيَّة الْمُمْكِنَة وتقدير مدى تَمَايُزِه عَنْ غَيْرِه مِن الْمَوْضُوعَاتِ.
2 – التَّوْجِيهَات الِانْفِعَالِيَّة: وَتَتَضَمَّن مُخْتَلِف الْعَمَلِيَّات الَّتِي يُوزِّع بِوِسَاطَتِهَا الْفَاعِل طَاقَتَه عَلَى مُخْتَلِف الأَعْمَال فِيمَا يَتَعَلَّق بِمُخْتَلِف الْمَوْضُوعَات ذَات الدَّلالَة الِانْفِعَالِيَّة فِي مُحَاوَلَتِه زِيَادَة الإِشْبَاعِ.
3- أَمَّا التَّوْجِيهَات الْقِيَمِيَّة: فَتُشِير إِلَى الْمَعَايِير الثُّقَافِيَّة أَوْ إلَى تِلْك الْجَوَانِب مِنْ تَوْجِيهَات الْفَاعِل الَّتِي تَجْبُرُه عَلَى أَنْ يَأْخُذ فِي اعْتِبَارِه إمْكَانِية تَطْبِيق مَعَايِير مُعَيَّنَة واعتماد مَحَكَّات اخْتِيَار، وذلك حِين يَكُون الفاعل في مَوْقِف يَسْمَح لَه بِأَنْ يَخْتَار السُّلُوك الَّذِي يَقُوم بِهِ. وَتَنْقَسِم التَّوْجِيهَات الْقِيَمِيَّة بِدُورِهَا إِلَى ثَلاَثَة أَنْوَاع :
1- التَّوْجِيهَات الْمَعْرَّفِيَّة: وَتَتَضَمَّن الِالْتِزَام بِمَعَايِير مُعَيَّنَة ثَبَت صِدْقُهَا مُعَرِفِيًّا.
2 – التَّوْجِيهَات التَّقْدِيرِيَّة: وَتَتَضَمَّن الِالْتِزَام بِمَعَايِير مُعَيَّنَة يتم تقدير أهميتها وقيمتها من قبل الفاعل.
3- التَّوْجِيهَات الْأَخْلَاقِيَّةِ: وَتَتَضَمَّن الِالْتِزَام بِمَعَايِير مُعَيَّنَة تَحَدَّدَتْ صَلَاحِيَّتُهَا عَلَى أَسَاس نَتَائِج الْأَفْعَال بِالنِّسْبَة لِلنّسْق الْكُلَى أَيْ الْمُجْتَمِع [41].
ويرى بَارْسُونز فِي هَذَا السِّيَاق، أَنّ التَّوْجِيهَات الْقِيَمِيَّة تَجْسُد التَّوَقُّعَات الِاجْتِمَاعِيَّة لِلْفَرْدِ. “فَالْقِيَم الِاجْتِمَاعِيَّة – أَيْ التَّوَقُّعَات الَّتِي يَشْتَرِك فِيهَا النَّاس فِيمَا يَتَعَلَّق بِأَفْضَل الْوَسَائِل لِتَحْقِيق الْغَايَات الْمَرْجُوَّةِ- تُؤَثِّر في الْجَانِب الْمُعْرِفِي عِنْد الْفَرْد، وَتَحَدَّد لَه طَبِيعَة تَفَاعُلِه مَع الْقَضَايَا الِاجْتِمَاعِيَّة وَطُرُق الِاسْتِجَابَة لَهَا”، كَمَا أَنَّهَا تُؤَثِّر في الْفَرْد مِنْ حَيْث أَنَّهَا تَحَدَّد لَه الْقِيمَة النَّسَبِيَّة لِلْمَوْضُوعَات الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَذَلِك مِنْ حَيْث أَنَّهَا تَفْرَض عَلَيْهَا شَعُورًا بالمسؤولية عَنْ أَفْعَالِه عَلَى أَسَاس آثَارِهَا السَّلَبِيَّة وَالْإِيجَابِيَّة عَلَى الْمُجْتَمِعِ.
وَتَشْكِل هَذِه الْعَنَاصِر الأَرْبَعَةَ: الْفَاعِلَ، وَالْفِعْلَ، وَالْمَوْقِفَ، وَالتَّوْجِيهَاتِ، عِمَّاد نَظَرِيَّة بارْسُونز الْبُنَائِيَّة الْوَظِيفِيَّة عَن الْمُجْتَمِعِ، إِذْ يَرَى أَنّ النَّسْق الِاجْتِمَاعِي أَيًّا كَان نَوْعُه وَمُسْتَوَاه يَتَكَوَّن مِن التَّفَاعُل الْقَائِم بَيْن هَذِه الْعَنَاصِر الْأَرْبَعَةِ، وَهَذَا يَعْنِي أن هَذِه الْعَنَاصِر الْأَرْبَعَة تَدْخُل فِي تَكْوِين فِي مُخْتَلِف الأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة الثِّقَافِيَّة وَالِاجْتِمَاعِيَّة وَالسَّيَاسِيَّة وَالِاقْتِصَادِيَّةِ.
4-1- المُماثَلَةُ البيولوجِيَّةُ عِنْدَ بارْسُونْز:
انْطَلَق بَارسُونز مِن الْمَنَصَة الدَّورَكْهَايمِيَّة ( دوركهايم ) وَالتَّصَوُّرَات السَّبَنْسَرِيَّة (هَرَبَّرْت سَبَنْسَرً) فِي بِنَاء نَظَرِيَّتِه الْوَظِيفِيَّة الْجَدِيدَة فِي أَرْبَعِينِيَّات وَخَمْسِينِيَّات الْقَرْن الْمَاضِي، وَاتُّخِذ مِنْ مَفْهُوم التَّنَاظُر الْعَضْوِي الْحَيَوِي مَنْهَجًا لَه فِي تَحْلِيل الْمُجْتَمِعِ، وَأَقَرّ فِي سِيَاق ذَلِك أَنّ الْمُجْتَمِع يَتَشَكَّل مِنْ تَكْوِينَات اجْتِمَاعِيَّة عُضْوِيَّة تَتَآَلَّفُ، وَتَتَكَامَل وَتَتَفَاعَل حَيَوِيًّا فِي اتِّجَاه الْمُحَافَظَة عَلَى وَحْدَة الْمُجْتَمِع وَتَمْكِينُه مِنْ الِاسْتِمْرَار وَظَيفِيًّا بِوَصْفِه كُلا حَيَوِيًّا وَاحِدًا، وَقَدْ جَادَل بِأَنَّه يَجِب عَلَى الْبَاحِث فَهُمْ الأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة الْمُكَوَّنَة لِلْمُجْتَمِع عَلَى إيقَاع الْوَظَائِف الْحَيَوِيَّة الَّتِي تُؤَدِّيهَا فِي اتِّجَاه الْمُحَافَظَة عَلَى الْمُجْتَمِع بِوَصْفِه كَتِلَة وَاحِدَة أَوْ نِظَام حَيَوِي وَاحِد .
ولا يَكْتَفِي بارْسُونز بِاسْتِخْدَام هَذِه الْمُمَاثَلَة الْبَيُولُوْجِيَّة الْبَسِيطَة بَيْن الْمُجْتَمِع وَالْجَسَدِ، بَلْ يَذْهَب إِلَى ابْعُد مِنْ ذَلِكَ، عِنْدَمَا يُقَرَّر بِأَنّ الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة هِي كَائِن حَي مِنْ نَوْع خَاصّ، وَهَذَا يَعْنِي تَأْكِيدَه الْمُطْلَق عَلَى الْبُعْد الْحَيَوِي لِلْمُجْتَمِعِ. وَهُنَا يُكَمِّن وَجْه الْخُطُورَة فِي هَذِه الْمُمَاثَلَةِ، وَقَدْ وُجِد إِيَّان كَرَيْب هَذِه الْمُبَالَغَة الْحَيَوِيَّة مَوْضِعًا لِلتَّهَكُّم إِذْ يَقُول سَاخِرًا مِنْ هَذِه الْمُطَابَقَةِ: ” الْفَرْق كَبِير بَيْن الْقَوْل “حَبِيبَتِي مِثْل وَرِدَّة حَمْرَاء قَانِيَةٌ”، وَالْقَوْل “حَبِيبَتِي وَرِدَّة حَمْرَاء قَانِيَةٌ” [42]، وَهُو يُرِيد بِذَلِك أَنّ بَارسُونز قَدْ ذَهَب بَعِيدًا جِدًّا فِي التَّأْكِيد عَلَى التَّنَاظُر الْبَيُولُوجِي لِلْمُجْتَمِع إلَى حَدّ الْمُطَابَقَة بَيْن الْمُجْتَمِع وَالْكَائِن الْحَيِّ.
وفِي عُمْق هَذَا التَّنَاظُر بَيْن الْمُجْتَمِع وَالْجَسَد، يُمْكِن التَّمْيِيز بَيْن مَفْهُومَيْ الْوَظِيفِيَّة وَالْبِنَاءِ: عِنْدَمَا يَتَحَدَّث بَارسُونز عَنْ الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة بِوَصْفِهَا نِظَامًا حَيَوِيًّا يَتَكَوَّن مِنْ عِدَّة عَنَاصِر وَوَحَدَات فَإِنَّه يُحَدِّثُنَا عَن الْجَانِب “الْبُنَائِيِّ” فِي الْمُجْتَمِعِ، وَلَكِنَّه عِنْدَمَا يُمَاثِل بَيْن وَظَائِف الْجَسَد وَوَظَائِف الْمُجْتَمِع فَإِنَّه يَتَحَدَّث عَنْ الْجَانِب “الْوَظِيفِيِّ”، وَهُو فِي كُلّ الْأَحْوَال يُؤَكِّد عُنْصَر التَّكَامُل بَيْن الْبُنَائِي وَالْوَظِيفِي فِي مُخْتَلِف أَعْمَالِه وَدُرَاسَاتِه [43].
يَمْعَن بَارسُونز فِي اسْتِخْدَام الْمُمَاثَلَة الْحَيَوِيَّة بين المجتمع والجسد، فالجسد نِظَام حَيَوِي يَحْتَاج إلَى عَدَد مِنْ الْمطَالِب الْحَوِيَّة، مِثْل: الطَّعَام وَالشَّرَاب وَالدَّفْء وَالْأَمْنِ، وَهُو في الوقت نفسه مُجَهَّز بِالْأَدَوَات الضَّرُورِيَّة الْمُتَرَابِطَة وَظَيفِيًّا الَّتِي تُمْكِنُه مِنْ تَلْبِيَة هَذِه الِاحْتِيَاجَاتِ، مِثْلُ: الْمَعِدَة وَالْقَلْب وَأَجْهِزَة التَّنَفُّس، وَمُخْتَلِف الْعَنَاصِر الْحَيَوِيَّة فِي الْجَسَدِ، وهي الأدوات والوسائل الَّتِي يُقَوَّم كُلّ مِنْهَا بِتَأْدِيَة دَوْر وَظَيفِي تَلْبِيَةً لمُطَالِب الْجَسَد وَاحْتِيَاجَاتِه الْحَيَوِيَّةَ. وَعَلَى هَذَا الْأَسَاس تَجْرِي الْمُمَاثَلَة بين الْمُجْتَمِع والجسد، فالمجتمع كما يراه بارسونز نظَام اجْتِمَاعِي شَأْنُه شَأْن الْجَسَد، لَه حَاجَات لا بْدّ أَنْ تُلْبَى إذَا مَا أُرِيد لَه الْبَقَاء وَالِاسْتِمْرَارُ، وتتوفر في بنية المجتمع أَجْزَاء معنية بالعمل على تَلْبِيَة تِلْك الْحَاجَاتِ. وَهُو يَرَى أَنّ كُلّ الْأَنْسَاق الْحَيَّة تَسْعَى إلَى تَحْقِيق حَالَة التَّوَازُن وَالِاسْتِقْرَار والتفاعل الوظيفي بَيْن أَجْزَائِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، ووجد أَنّ هَذِه الْأَنْسَاق تَحْتَفَظ بِكِيَانَاتِهَا مُتَمَيِّزَةً عَنْ الْأَنْسَاق الْأُخْرَى [44]. وَقَدْ عُمِل عَلَى تَحْدِيد أَوْجُه الْتَّشَابه بَيْن جِسْم الْإِنْسَان وَالْمُجْتَمِع عَلَى النَّحْو التَّالِي :
1- يَتَكَوَّن فِي الْجَسَد مِنْ أَعْضَاء، وَكُلّ عُضْو يُمَارِس وَظِيفَة فَرِيدَة ضَرُورِيَّة مُحَدَّدَةٌ، وَكَذَلِك هُو حَال الْمُجْتَمِع إذ يَتَكَوَّن مِنْ مُؤَسِسَات مُخْتَلِفَة يُؤَدِّي كُلّ مِنْهَا وَظِيفَةً مُحَدَّدَةً وَفَرِيدَةً وَضَرُورِية لِاسْتِمْرَار الْمُجْتَمِعِ.
2- تَعْمَل جَمِيع وَحَدَّات الْجَسَد مَعًا بِشَكْل مُتَنَاغِم فِي تَحْقِيق اسْتِمْرَارِيَّتِه وَبَقَائِهِ، وَكَذَلِك هُو الْحَال فِي الْمُجْتَمِع إذْ تُعْمَل مُؤَسِّسَاتُه الْمُخْتَلِفَة وَتَكْوِينَاتُه الْمُتَنَوِّعَة مَعًا بِانْسِجَام كُلِّي ضَمِن نَسْق مِنْ التَّرَابُط وَالتَّكَامُل وَالتَّفَاعُل لِلْمُحَافَظَة عَلَى حَيَاة الْمُجْتَمِع وَتَأْكِيد وَحِدَّتِهِ.
3- الْمُجْتَمِع أَكْبَر مِنْ أَجْزَائِه مُجْتَمِعَةٌ: الْأَعْضَاء فِي الْجَسَد مُتَرَابِطَةٌ، وَلَهَا حُدُود وَاضِحَة يُمْكِن تَحْدِيد أَبْعَادِهَا، وَلَكِنّ مَجْمُوع الْجَسَد أَكْبَر مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكَذَلِك هُو الأمرّ بالنسبة لِلْمُجْتَمِع، فَالْمُجْتَمِع أَكْبَر مِنْ أَجْزَائِه مُجْتَمِعَةٌ، لِأَنّ الْمَجْمُوع التَّفَاعُلِي لعناصره يَخْتَلِف كَثِيرًا عَنْ الْمَجْمُوع الْحِسَابِي لأجزائه، فَالْجَسَد فِي تَكَامُلِه يَمْتَلِك رُوحًا وَوَظِيفَةً وَغَايَة، وَالْجَمْع الْحِسَابِي لِلْأَطْرَاف يَفْتَقِد إلَى هَذِه الْوَحْدَة الْحَيَوِيَّة الَّتِي يَخْتَصّ بِهَا التَّفَاعُل الْحَيَوِي لِلْأَطْرَافِ.
وَمِنْ الْوَاضِح دَائِمًا أَنّ بِارِسُونَز يُوَلِّي الْأَهْمِّيَّة لِمَسْأَلَة التَّوَازُن الِاجْتِمَاعِيَّ، فَالْمُجْتَمِع كَمَا يَرَاه أَشْبَه بِبَنِي حَيَّة مُرَكَّبَةً مِنْ مَجْمُوعَات بَنِيوِيَّة أَرْبَعَة هِيَ: الْأَدَوَات الَّتِي تَحَدَّد نُشَاطَات الْأَفْرَاد (آبَاءً مُعَلِّمُون …إلَخْ)، وَمِنْ ثَمّ الْجَمَاعَات وَالْمُؤَسِّسَات مِثْلُ: الْعَائِلَة وَالْجَامِعَة وَالْمَدْرَسَةُ، وَالْقَيِّم وَالْمَعَايِير الثِّقَافِيَةُ. وَهَذِه التَّكْوِينَات الْأَرْبَعَة تَعْمَل وَظِيفِيًّا مَعًا عَلَى تَحْقِيق التَّوَازُن الِاجْتِمَاعِيَّ. وَالْمَدْرَسَة وَفْقًا لِهَذِه الرُّؤْيَة تَقُوم بِعَمَلِيَّة تَحْقِيق الِانْدِمَاج الِاجْتِمَاعِي وَالْمُحَافَظَة عَلَى النَّمَاذِج الثِّقَافِيَّة وَتَأْكِيد الْوَلَاء لِلْمُجْتَمِعِ. وَقَدْ يَحْدُث فِي سِيَاق ذَلِك ظُهُور نَوْع مِنْ الْإِكْرَاهَات الِاجْتِمَاعِيَّة وَالضُّغُوط النَّاجِمَة عَنْ ضَعْف فِي عَمَلِيَّة الدَّمَج الِاجْتِمَاعِيِّ، وَلَكِنّ ذَلِك سَرْعَان مَا يَجِد تَوَازُنَه مِنْ جَدِيد عَبْر عَمَلِيَّات تَصْوِيب قَدْ تَكُون مُعْلنَةً وَخُفْيَةً إلَى حَدّ مَا [45].
4-2- طَوْعِيَّةُ الفِعْلِ الاِجْتِماعِيِّ:
وتَتَجَلَّى الْمِثَالِيَّة فِي مَفْهُومِ بَارسُونز عَن “الطَّوْعِيَّة أَوْ الْفِعْل الطُّوعِيِّ” (Voluntarism or Voluntary action) في اللحظة التي يقرر فيها بأَنّ الْقَيِّم الثِّقَافِيَّة وَالْمَعَايِير تَحَكَّم النَّاسَ، وَتُجْعَل مِنْ سُلُوكِهِمْ سُلُوكًا طَوْعِيًّا؛ وَهَذَا يَعْنِي أَنّ الْقَيِّم الثِّقَافِيَّة تَتَغَلْغَل فِي الْوَعِي فَتُشْكِل قُوة دَاخِلِية تُحْرِّك السُّلُوكَ، وَتُنْتِج الْفِعْل عَلَى نَحْو طُوعِي وهذا يعني أَن الْأَفْرَاد لا يشعرون بأي إكراه خارجي أَثْنَاء سُلُوكِهِمْ. وَقَدْ عَرَفْنَا أَنّ دوركهايم كَان يَرَى بِأَنّ الثِّقَافَة تَمَارَس ضَغْطًا قَسْرِيًّا عَلَى الْأَفْرَاد فَتُشْكِلُهُمْ، وَتَحَدَّد لَهُمْ أَنْمَاط سُلُوكِهِمْ ونظم حَيَاتِهُم، وَعَلَى الْعَكْس مِنْ دوركهايم يَرَى بَارسُونز بِأَنّ الْأَفْرَاد يَسْلُكُون طَوعِيًّا لَا قَسْرِيًّا تَحْت تَأْثِير الْقِيِّم الذَّاتِيَّة الَّتِي تُمْثُل إرَادَة الْفَرْد وَمَشَاعِرُه الذَّاتِيَّةُ.
وَيُؤْخَذ عَلَى بارسونز غَالِبًا أنه يعاني من طُغْيَان الطَّابِع الْمَثَالِي فِي نَظَرِيَّتِه وَتَفْكِيرُهُ، الذي دفع به إلى تجاهل أَهْمِيَّة النسق الِاقْتِصَادِي وَالْبِنَاء التَّحْتِّي فِي سُلُوك الْأَفْرَادِ، فَالْأَفْرَاد وَفْق رُؤْيَتِه لَا يَتَأَثَّرُون فِي سُلُوكِهِمْ بِالظُّرُوف الْمَادِيَة أَوْ الِاقْتِصَادِيَّة الَّتِي تُحِيط بِهِمْ وَبِوُجُودِهِمْ، بَلْ بِالْقَيِّم وَالرُّمُوز وَالنَّمَاذِج الثَّقَافِيَّة الَّتِي تَحَدَّد لَهُمْ نَمْطِيَة أَفْعَالِهِمْ وَمَسَارَات سُلُوكِهِمْ. وَيَبْدُو فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ بَارسُونز يَعْكِس مَقُولَة مَارَكِس الْقَائِلَة بِأَنّ الْوُجُود الِاجْتِمَاعي يُحَدَّد وَعِي الْأَفْرَادِ، وَيَرَى بِأَنّ وَعي الْأَفْرَاد هُو الَّذِي يُحَدِّد ضَرُورَات وُجُودِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ الاجتماعية.
فَالْأَفْرَاد – وَفْق بَارسُونز – يَسْلُكُون بِاخْتِيَارِهِمْ وَطُوع إرَادَتِهِمْ، أَيْ: أَنَّهُمْ يَقُومُون بِالِاخْتِيَار بَيْن الْبَدَائِل الْمَتَاحَة أَمَامَهُمْ، وَيَقُومُون بِالْأَفْعَال طَوَاعِيَةً، وَهَذِه الطَّوْعِيَّة تُعْتَمَد عَلَى مَنْظُومَة الْقِيِّم الثِّقَافِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة الَّتِي تَحَكَّم الْمُجْتَمِعُ، وَهَذَا يَعْنِي أَنّ الْعَمَل الطُّوعي “يُرْتَبِط بِالِاخْتِيَارَات بَيْن غَايَات أَوْ أَهْدَاف بَدِيلَة، وَاسْتِخْدَام وَسَائِل لِتَحْقِيق هَذِه الْأَهْدَاف الْمُلَائِمَة فِيمَا يَتَعَلَّق بِالظُّرُوف الَّتِي يَجِد الْأَفْرَاد أَنْفُسَهُمْ فِي مُحِيطِهَا، وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة الَّتِي يَلْتَزِمُون بِهَا” [46].
يُؤَسِّس بَارْسُونز فِي كِتَابِه بنِيَّة الْفِعْل الاجْتِمَاعي (The Structure of Social Action) الَّذِي أَصْدَرَه عَامّ 1937، لِنَظَرِيَّتِه حَوْل “طَوْعِيَّة الْفِعْل ” (Theory of voluntarism of action”)، وَهِي النَّظَرِيَّة الَّتِي يُؤَكَّد فِيهَا أَنّ الأَفْرَاد يَقُومُون بِأَفْعَالِهِمْ عَلَى نَحْو اخْتِيَارِيّ، أَيْ: أَنَّهُمْ يَقُومُون بِالِاخْتِيَار أَوْ الْمُفَاضَلَة بَيْن عِدَّة أَهْدَاف وَوَسَائِل تَحْقِيق تِلْك الأَهْدَافِ. وَيَقْتَرِح بَارسُونز نَمُوَذِجًا تَجْرِيدِيًّا لِنَظَرِيَّتِه الطَّوْعِيَّة يَتَكَوَّن مِنْ ثَلاَثَة أَبْعَاد أَسَاسِيَة: أَوَّلَهَا: الإِنْسَان الْفَاعِلَ، وَثَانِيهَا: نِطَاق الأَهْدَاف أَوْ الْغَايَات الَّتِي لا بُدّ لِلْفَاعِل مِنْ أَنْ يَخْتَار مَنْ بَيْنِهَا مَا يُرِيد فِعْلَهُ. وَثَالِثُهَا: مُخْتَلِف الْوَسَائِل الْمُمْكِنَة لِبُلُوغ تِلْك الْغَايَاتِ. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّه يَجِب عَلَى الْفَاعِل أَنْ يَخْتَار الْأَهْدَاف الْمَرْغُوبَة وَالْوَسَائِل الْمُفَضَّلَة لَدَيْه فِي بُلُوغِهَا. وَتَجَدُّر الْإِشَارَة فِي هَذَا الْخُصُوص أَنّ بَارسُونز لَمْ يُجْعَلْ هَذَا الِاخْتِيَار مُطْلَقًا إذْ يَرَى أَنَّه يَحْدُث فِي وَسَط بَيْئَة مُكَوَّنَة مِنْ عَوَامِل مَادِيَة مُتَعَدِّدَة وَمُتَغَيِّرَات اجْتِمَاعِيَّة مُخْتَلِفَة تُؤَثِّر فِي تَحْدِيد الِاخْتِيَارَات الْمَتَاحَةِ: مَثَلًا، قُصُور النَّظَر يَمْنَع الْفَرْد مِنْ أَنْ يُصْبِح طِيَارًا، وَفِي الْوَضْع الِاقْتِصَادَي الرَّاهِن قَدْ لَا يَكُون فِي إمْكَان الْفَرْد أَنْ يَكُون مُهَنْدِسًا، لِأَنَّه لَا تُوجَد فَرْص عَمَل مَتَاحَة فِي هَذَا الْمَجَال التَّخَصُّصِي ” [47]. وَهَذَا يَعْنِي أَنّ الْبَيْئَة الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تُحِيط بِالْفَرْد تَحَدَّد الْمَعَايِير وَالْقِيِّم الِاجْتِمَاعِيَّة وَالثِّقَافِيَّة الْمَقْبُولَة اجْتِمَاعِيًّا الَّتِي تُؤَثِّر فِي اخْتِيَار الْفَرْد لِلْأَهْدَاف وَوَسَائِل تَحْقِيقِهَا. “فَلَوْ كُنْت كَاثْولِيْكِيَّا وَطَبِيبًا مُخْتَصًّا بِأَمْرَاض النِّسَاء مَثَلًا، فَإِنَّنِي لَنْ أَتَخَصَّصْ فِي الْإِجْهَاضِ، حَتَّى لَوْ كَان هَذَا الِاخْتِيَار مَتَاحًا لِي [48]. وَعَلَى هَذِه الصُّورَةِ، يُبِيِّن لَنَا بَارْسُونز، أَنّ الْفِعْل الِاخْتِيَارِي يَتَكَوَّن مِن الْفَاعِلِ، وَالْوَسَائِلِ، وَالْغَايَاتِ، وَالْبَيْئَة الَّتِي تَضُمّ عناصر اجْتِمَاعِيَّة وَمَادِيَة فَضْلًا عَن الْمَعَايِير وَالْقَيِّمِ. وَيَنْطَوِي فِعْل الِاخْتِيَار عِنْد بارسونز ونَز عَلَى أَرْبَعَة أَزْوَاج رَئِيسِيَّة مِن الْبَدَائِلِ: [49]
1- “الْعُمُومِيَّة وَالْخُصُوصِيَّة Universalism-Particularism: فَقَدْ يَتَعَامَل الْفَرْد مَع مَوْضُوع مَا بِاعْتِبَارِه مَوْضُوعًا خَاصًّا أَوْ فَرِيدًا، أَوْ أَنْ يَتَعَامَل مَعَه بِوَصْفِه مَوْضُوعًا عَامًا، وَالْفَرْق بَيْنَهُمَا، هُو كَالْفَرْق بَيْن مُعَامَلَة الْأُسْتَاذ لِأَطْفَالِه وَمُعَامَلَتِه لِطَلاَبِهِ.
2 – الْوَجْدَانِيَّة وَالْحَيَاد الْوَجْدَانِي Affective-affectively neutral: يُمْكِن لِلْفَرْد أَنْ يُطَلِّق الْعِنَان لَأَحَاسِيسَه ومُشَاعِرَه لَيَعْبُر عَنْ عِلاقَتِه بِالآخَرِينَ، وَذَلِك مِثْلُ: عِلاَقَة الْفَرْد بِأَطْفَالِه أَوْ يُمْكِن لَه أَنْ يُحَافِظ الطَّابِع الْمَوْضُوعي لِلْعَلاقَة مِثْل عِلاَقَة الْأُسْتَاذ بِطَلاَبِهِ.
3- النَّوْعِيَّة وَالْإِنْجَاز Quality-Performance: يُمْكِن أَنْ يَقُوم الشَّخْص بِتَقْيِيم شَيْء لِذَاتِهِ، كَتَقْيِيم الْفَرْد لِنَفْسِه أَوْ لِأَطْفَالِهِ، أَوْ قَدْ يَكُون تَقْيِيمُه مَوْضُوعِيًّا كَتَقْيِيم الْمُعَلِّم لَأَدَاء طَلاَبَهُ.
4 – الِانْتِشَار وَالتَّخْصِيص Diffuseness-Specificity: قَدْ يَبْنِي الْفَرْد عِلَاقَةً مَع مَوْضُوع بِطَرِيقَة شُمُولِيَّة تَغْطِي مُخْتَلِف جَوَانِبِهِ، كَعِلَاقَة الْأَب بِأَطْفَالِهِ، إِذْ يَجِب عَلَيْه أَنْ يَعْرِف عَنْهُمْ كُلّ شَيْء، أَوْ قَدْ تَكُون عَلَاقَة الْفَرْد قَائِمَةً وَفْق حُدُود مُعَيَّنَة كَعَلَاقَة الْمُعَلِّم بِطَلَابِه الَّتِي لَا تَسْمَح لَه بِالتَّدَخُّل فِي شُؤُونِهِمْ الْخَاصَّةَ، بَلْ تَتَوَقَّف عَلَاقَتُه عَلَى الْجَوَانِب الْعَلَمِيَّة وَالْمَدَرَسِيَّة ” [50].
4-3- النَسَقُ الاِجْتِماعِيّ(social system):
يُشَكِّلُ مَفْهُومَ النَسَقِ الاِجْتِماعِيِّ أَحَدَ أَبْرَزِ المَفاهِيمِ الَّتِي تُؤَسِّسُ لِنَظَرِيَّةِ بارسونز البِنائِيَّةِ. فَالمُجْتَمَعُ يُشَكِّلُ نَسَقاً رَئِيساً يَشْتَمِلُ عَلَى عِدَّةِ أَنْساقٍ تَكْوِينِيَّةٍ ثَقافِيَّةٍ وَاِقْتِصادِيَّةٍ وَاِجْتِماعِيَّةٍ وَسِياسِيَّةٍ. وَيَعْرِفُ بارسونز النَسَقُ الاِجْتِماعِيُّ عِدَّةَ تَعْرِيفاتٍ أَوْضَحَها ذٰلِكَ الَّذِي يَعْرِفُ فِيها النَسَقُ الاِجْتِماعِيُّ بِقَوْلِهِ: “النَسَقُ الاِجْتِماعِيُّ عِبارَةٌ عَنْ تَفاعُلٍ بَيْنَ فاعِلِينَ أَوْ أَكْثَرَ، يَحْتَلُّ كُلٌّ مِنْهُمْ مَرْكَزاً أَوْ مَكانَةً مُخْتَلِفَةً، ويؤدي كُلٌّ مِنْهُما دَوْراً مُتَمايِزاً، وَهُوَ عِبارَةٌ عَنْ نَمَطٍ مُنَظَّمٍ يَحْكُمُ عَلاقاتِ الأَعْضاءِ فِيما بَيْنَهُمْ، وَيُحَدِّدُ حُقُوقَهُمْ وَواجِباتِهِمْ، بَعْضُهُمْ تُجاهَ بَعْضِهِمْ الآخَرِ، وَتَقُومُ هٰذِهِ العَلاقَةُ عَلَى نَسَقٍ مِنْ المَعايِيرِ أَوْ القِيَمِ المُشْتَرَكَةِ، بِالإِضافَةِ إِلَى أَنْماطٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الرُمُوزِ وَالمَوْضُوعاتِ الثَقافِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ”[51].
يَتَكَوَّن نَسْق الْفِعْل عِنْد بَارسُونز جوهريا مِن الْعِلاَقَات الأَوَّلِيَّة الْقَائِمَة بَيْن الأفراد الْفَاعِلِينَ. وَيَبْدَأ النسق بالتَّشَكُّل مِن التفاعل الذي يتم بين الأفراد سعياً للْحُصُول عَلَى أَقْصَى دَرَجَة مِن الإِشْبَاعِ، ويتضح أنه يترتب على الفرد – مِنْ أَجْل أَنْ يَحْظَى الْفَرْد بِإِشْبَاع رَغَبَاتِه الْمَادِيَة وَالْمَعْنَوِيَّةِ- أَنْ يَدْخُل فِي دَائِرَة التَّفَاعُل مَع الآخَرِينَ، وَذَلِك لأَنّ مِثْل هَذَا التَّفَاعُل، يُشْكِل الْمُنْطَلِق الْأَوَّل لِتَحْقِيق الإِشْبَاعِ، وَعِنْدَمَا يَسْتَطِيع الْفَرْد إشْبَاع حَاجَاتِه مِنْ خِلال التَّفَاعُل مَع الْآخَرِين، يَمِيل بِصُورَة عَفْوِيَّة إِلَى تَكْرَار هَذِا التَّفَاعُلِ مرة ومرات، وَيُؤَدِّي التَّكْرَار الْمُسْتَمِرّ لِلتَّفَاعُل إِلَى تَوْلِيد مَعَايِير وَقَيِّم سَلُوكِيَّة تُمَكِّن الْمُتَفَاعِلِين مَنْ تَوَقَّع الِاسْتِجَابَات الْمُحْتَمَلَة وَرُدُود الْأَفْعَال الْمُتَوَقِّعَة فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا النَّحْو تَتَشَكَّل قَوَاعِد السُّلُوك وَمَعَايِيرُه وَقَيِّمُه بَيْن الأفراد الْمُتَفَاعِلَيْنِ، وَهِي الْقِيَم الثُّقَافِيَّة وَالْمَعَايِير الَّتِي تَحْظَى بِقَبُولِهِمْ، وَتَشَكَّل الضَّامِن الْفَعَّال لِاسْتِمْرَار التَّفَاعُل ضَمِن نَسْق الِاسْتِجَابَات الْمُتَوَقِّعَةِ فيما بينهم.
وَيَضْرِب بارسونز مِثَالًا بِسِيطًا لِتُوضَح هَذِه الْفَعَّالِيَّة النَّسَقِيَّة حَوْل عِلاَقَة الْحَبّ الَّتِي تَبْدَأ بَيْن طَرَفَيْنِ – أي بين رجل وامرأة- وَتَنْتَهِي بِالزَّوَاجِ: ” فَمَا دَام الطَّرَفَان يُشْعِرَان بِالرِّضَى مِنْ بَعْضِهِمَا بَعْضًا، فَإِنّ كُلًّا مِنْهُمَا يُتَوَقَّع مِن الْآخَر الِاسْتِمْرَار فِي التَّصَرُّف بِطَرِيقَة تُرْضِي الْآخَرُ. وَمَع بِدَايَة الزَّوَاج تَرْتَسِم الْقَوَاعِد غَيْر الرُّسْمِيَّةِ، وَحَتَّى الرَّسْمِيَّة الَّتِي تَحَكَّم الْعَلاَقَة بَيْن الزَّوْجَيْنِ، فَكِلاهُمَا سَيَتَوَقَّع مِن الْآخَر التَّغَاضِي عَن الْخِيَانَات الْعَابِرَةِ، أَوْ مُشَارَكَتِه فِي شُؤُون الْمَنْزِلِ، وَسَيَنَتَهِي الْأَمْر بِكُلّ مِنْهُمَا إِلَى الِاقْتِنَاع بِأَنّ هَذِه التَّوَقُّعَات حُقُوقٌ، وَقَدْ يُؤْمَنَان بِأَنّ مَا يَرْبِطُهُمَا هُو « عَلَاقَة مُقَدَّسَةً » رَغَم نَظْرَة الِاسْتِخْفَاف الَّتِي كَانَا يَنْظُرَان بِهَا إلَى الزَّوَاج قَبْلَئِذ ” [52].
وَيْرَى بَارْسُونز أَنّ النَّسْق الِاجْتِمَاعي يَقُوَّم عَلَى أَرْبَع عَمَلِيَّات أَسَاسِيَة، يُمْكِن الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا فِي تَحْقِيق تَكْيِف النسق مَع الْوَسَط الَّذِي يُوجَد فِيهِ، وهي عمليات التكيف، وتحقيق الأهداف، والتكامل والمحافظة على استمرارية النسق، وفي ظل هذه العمليات الأربعة يَتَرَتَّب عَلَى النَّسْق أن يتكيف وأن أَنْ يُحَدِّد الأَهْدَاف الَّتِي يَسْعَى إِلَيْهَا، وَأَنْ يَعْمَلَ، فِي الْوَقْت ذَاتَهُ، عَلَى تَحْقِيق نَوْع مِن التَّكَامُل وَالتَّرَابُط وَالتَّفَاعُل بَيْن أَجْزَائِهِ(مُكُونَات النَّسقِ)، كَمَا يَجِب عَلَيْه أَنْ يَعْمَل عَلَى بِنَاء الْقِيَم الْأَسَاسِيَّة الَّتِي يَرْكَن إِلَيْهَا فِي عَمَلِيَّة تَوَازُنِهُ. وَتَشْكِل هَذِه الْفَعَالِيَّات الْوَظِيفِيَّة الْأَرْبَعَة ضَرُورَةً حَيَوِية لأَي نُسْق اجْتِمَاعِيّ، إِذْ لَا بُدّ لَه مِنْ التَّكَيُّف مَع الْبَيْئَة الْفَيْزِيقِيَّة وَإِيجَاد الْوَسَائِل الِاقْتِصَادِيَّة الْمَادِيَة لِحَيَاة الأَفْرَاد الْمُنْتَسِبِين إِلَيْهِ، وَلِكَيْ يُحَقِّق أَهْدَافَه لا بُدّ مِنْ إيجَاد قُوَّة سَيَاسِيَّة تُفْعَل فِعْلُهَا فِي تَحْقِيق الْغَايَات الَّتِي وُجِد مِنْ أَجْلِهَا. وْلُحِمَايَة النَّسْق مِن التَّفَكُّك فَإِنّ هَذَا الْأَمْر يَتَطَلَّب إيجَاد الْقَوَانِين الْمُنَاسَبَة لِعَمَلِيَّة الضَّبْط الِاجْتِمَاعِيِّ. وباختصار يَنْظُر بارْسُونز إِلَى الْمُجْتَمِع الإِنْسَانِي بِوَصْفِه نَسْقًا رَئِيسًا كُلِيًّا يَتَكُوَّن مِنْ مَجْمُوعَة مِن الأَنْسَاق ( الاقْتِصَاد وَالسَّيَاسِيَّة وَالثِّقَافَة وَالْمُجْتَمْعِ) الَّتِي يُشْكِل كُلّ مِنْهَا نَسْقًا مُسْتَقِلًّا نِسْبِيًّا، وَلَكِنَّهَا تَتَآلِف جَمِيعَهَا لِتَشْكُل النِّظَام الِاجْتِمَاعي الْكُلِّي لِمُجْتَمِع .
4-4 – الدَوْرُ بِوَصْفِهِ وَظِيفَةً:
عَلَى هَدْي مَنْهِجِه الْوَظِيفِي، اسْتَطَاع بَارْسُونز أَنْ يَطُور مَفْهُوم الدَّورِ، وَأَنْ يُحَدِّد تَضَارِيسَهُ، وَيَرْسِم لَنَا الْمُخْطِطَات الْأَسَاسِيَّة لِعَمَلِيَّة تُشْكِلُهُ، وَأَنْ يَعْرِف آلِيَّات اشْتِغَالِه فِي سِيَاق تَفَاعُلِه وَتَكَامَلَه الْوَظِيفِي مَع الْأَنْسَاق الْأُخْرَى فِي الْمُجْتَمِعِ. وَقَدْ بَيَّن لَنَا فِي مَوَاقِع كَثِيرَة مِنْ نَظَرِيَّتِه بِأَنَّه يُمْكِن تَعْرِيف الْمُجْتَمِع بِأَنَّه نَسْق مِنْ الْأَدْوَار الْمُتَفَاعِلَة الْمُتَكَامِلَة وَظَيفِيًّا الَّتِي تُعْمَل فِي مَجْمُوعِهَا عَلَى تَشْكِيل الْبِنَاء الِاجْتِمَاعي الْعَامّ وَتَحْقِيق وَحِدَّتِه وَتَكَامُلِه عَلَى نَحْو بِنَائِي وَظَيْفِي. وَبِنَاءً عَلَى هَذِه الرُّؤْيَة فَإِنّ الْأَدْوَار الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تُؤَدِّيهَا الْمُؤَسِّسَات وَالْكَيَّانَات الِاجْتِمَاعِيَّة (الِاقْتِصَادِيَّة وَالتَّعْلِيمِيَّة وَالْقَانُونِيَّة وَالسَّيَاسِيَّة وَغَيْرُهَا) تَتَكَامَلُ، وَتَتَفَاعَل وَظَيفِيًّا ضَمِن صَيْرُورَةً تُؤَدِّي إلَى التَّكَامُل الِاجْتِمَاعي ضَمِن فَعَالِية مُسْتَمِرة تُقُوَّم عَلَى تَلْبِيَة احْتِيَاجَات الْمُجْتَمِع وَتَأْكِيد وَحِدَّتِه وَظَيفِيًّا وَبُنْيَوِيًّا.
يُعْرَف بَارسُونز الدَّور بِوَصْفِه “صِيغَة مِنْ الْمُشَارَكَة الِاجْتِمَاعِيَّة الْمُنْظَمَة بِشَكْل مِعْيَارِي ضَمِن صِيغَة تَفَاعُل اجْتِمَاعي مَع الْآخَرِين بِصُورَة مُحَدَّدَة وَمَلْمُوسَة تَتَوَافَق مَع الْمَعَايِير الَّتِي تَحْكُم طَبِيعَة الدُّور الَّذِي يَقُوم بِه الْفَرْدُ” [53]. وفي مستوى الفرد، يُمْكِن لِلشَّخْص الْوَاحِد أَنْ يُؤَدِّي عَدَدًا مِنْ الْأَدْوَار الْمُخْتَلِفَة فِي وَقْت وَاحِد، وَعَلَى هَذِه الصُّورَة يُمْكِن الْقَوْل بأَنّ الْفَرْد كَيْنُونَة مِنْ الْأَدْوَار الثِّقَافِيَّة الَّتِي يَشْغِلُهَا فِي حَيَاتِه الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيَتَّضِح هَذَا الْأَمْر عِنْدَمَا يُطْلَب مِنْ الْأَفْرَاد تَعْرِيف أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَيُقَدَّمُون أَنْفُسَهُمْ وَفْقًا لِلْأَدْوَار الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي يَقُومُون بِهَا. وهنا يميز بارسونز بين الدور والمركز، فالدور نَمْط مِنْ سُلُوك الفرد فِي عَلَاقَتِه بالْآخَرِين وعلى خلاف ذلك يشير المركز إلَى مَوْقِع الْفَاعِل فِي نَسْق عَلَاقَة اجْتِمَاعِيَّة مُعَيَّنَة ” [54].
فَالأَدْوَار الْمُتَنَاسِقَة الَّتِي يَقِرُّهَا الْمُجْتَمِع تَفْعَل فِعْلَهَا فِي تَحْقِيق التَّوَازُن الِاجْتِمَاعِيِّ، وَهَذَا يَعْنِي أَنّ أَفْرَاد الْمُجْتَمِع يُدْرِكُون شَبَكَة التَّوَقُّعَات الِاجْتِمَاعي – مَا هُو مُتَوَقِّع مِنْهُمْ وَمَا هُو مُتَوَقِّع مِن الآخَرَيْن – فِي مِضْمَار الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهَذَا يَنْسَحِب عَلَى الْمُؤَسِّسَات الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تُؤَدِّي أَدْوَارًا وَاضِحَةً وَمُتَوَقَّعَةً، وَعَلَى هَذَا الأَسَّاس تَنْطَلِق الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة فِي سِيَاق نِظَام مِنْ التَّوَقُّعَات وَالِاسْتِجَابَات الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَلْبِيَة الِاحْتِيَاجَات الِاجْتِمَاعِيَّة ضَمِن فَعَالِيَةً مِن التَّوَازُن وَالتَّكَامُل الْمُجْتَمِعِيِّينَ.
وْمَن الْبَدَاهَة أَنّ اكْتِسَاب الأَدْوَار يُتِمّ وَفْقًا لِعَمَلِيَّات التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة وَالرِّقَابَة الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَهُنَا يُؤَكِّد بَارسُونز عَلَى أَهْمِيَّة التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة بِوَصْفِهَا الْوَسِيلَة الْأَسَاسِيَّة لِتَأْصِيل الْمَعَايِير وَالْقِيِّم الِاجْتِمَاعِيَّة فِي الأَفْرَاد وَتَمْكِينِهِمْ مِنْ أَدَاء أَدْوَارِهِم الْمُخْتَلِفَة فِي مُخْتَلِف مُسْتَوِيَات الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الأَسَاس يَرَى بِأَنّ التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة الْمِثَالِيَة قَادِرَة عَلَى تَمْكِين الْفَرْد مِنْ اسْتِيعَاب قِيَم الْمُجْتَمِع وَمَعَايِيرِه وَمِثْلِه وَثَقَافَتِه عَلَى نَحْو أَمْثَلَ، وَمِنْ ثَمّ لِتَشْكُل هَذِه الثِّقَافَة جُزْءًا صَمِيمِيًّا فِي شَخْصِيَّة الْفَرْد وَكَيْنُونَتُه الذَّاتِيَّةَ.
5- بِنِيَّةِ المُجْتَمَعِ:
يَرَى بَارسُونز أَنّ الْمُجْتَمِع مَجْمُوعَة مِنْ الْأَفْرَاد الَّذِين يَتَفَاعَلُون مَع بَعْضِهِمْ الْبَعْض مَادِيًا وَمَعْنَوِيًّا فِي سَعْيِهِمْ إلَى تَحْقِيق أَقْصَى قَدْر مِنْ الْإِشْبَاع الْمَادِي وَالْمَعْنَوِي لِاحْتِيَاجَاتِهِمْ الْمُتَنَوِّعَةَ. وَيَعْرِف الْمُجْتَمِع بِأَنَّه “مَجْمُوعَة ذَات اكْتِفَاء ذَاتِي نِسَبِي، يَسْتَطِيع أَفْرَادَهَا تَلْبِيَة جَمِيع احْتِيَاجَاتِهِمْ الْفَرْدِيَّة وَالْجِمَاعِيَّةَ، وَالْعَيْش بِالْكَامِل دَاخِل إطَارِهَا بِصِفَتِه وَظَيفِيًّا بُنْيَوِيًّا”[55]. وَيَتَّضِح أَنّ بَارسُونز يَنْظُر إلَى الْمُجْتَمِع بِوَصْفِه كَيَّانًا وَظَيْفِيًّا يَتَكَوَّن مِنْ عِدَّة أَنْسَاق (أَنْظِمَة ) اجْتِمَاعِية مُتَفَاعِلَةً وَمُتَكَامِلَة وَظَيفِيًّا، وَقَدْ عَرَّف النسق الِاجْتِمَاعي بِأَنَّه كَيَّان ” يَشْمَل مَجْمُوعَةً مِنْ الْفَاعِلِين الْأَفْرَاد الَّذِين يَتَفَاعَلُون مَع بَعْضِهِمْ فِي مَوْقِف لَه جَانِب مَادِي أَوْ بَيْئِي عَلَى الْأَقَلِّ، أَيْ أَنَّهُمْ فَاعِلُون يَتِمّ تَحْفِيزُهُمْ مِنْ نَاحِيَة الْمَيْل إلَى “تَحْقِيق الْإِشْبَاعِ عَبْر نِظَام مِنْ الرُّمُوز الْمُشْتَرَكَة وَالْمُنْظَمَة ثَقَافِيًّا ” [56]. وهَذَا التَّعْرِيف يهدف كما هو واضح إلَى تَعْرِيف النسق الِاجْتِمَاعي بِنَاءً عَلَى الْعَدِيد مِنْ الْمَفَاهِيم الْأَسَاسِيَّة فِي أَعْمَال بَارسُونز، التي تتمثل في :التَّفَاعُل، وَالتَّكَامُل، وَالتَّوَازُن، وَالِاسْتِقْرَار، وَالتَّضَامُن، وَتَلْبِيَة الِاحْتِيَاجَات …الْخ.
وَيَتَّضِح أَنّ بَارسُونز اعْتَمَد مَنْهَجِيَّة الْمُمَاثَلَة الْبَيُولُوجِيَّة بَيْن الْمُجْتَمِع وَالْكَيَّان الْحَيَوِي الْعُضْوِي فِي تَعْرِيفِه لِلْمُجْتَمِعِ، وَاسْتَطَاع وَفْقًا لِهَذِه الْمَنْهَجِيَّة أَنْ يَرَى الْمُجْتَمِع فِي صُورَتِه الْكُلِّيَّة الْمُكَوَّنَة مِنْ أَنْسَاق وَظَيْفِيَّة تَفَاعُلِيَّة، وَهَذِه الْأَنْسَاق تَلْعَب دَورًا حَيَوِيًّا وَظَيفِيًّا فِي الْمُحَافَظَة عَلَى وُجُود وَتَوَازُنَه الْوُجُودِي الْمُسْتَمِرُّ. وَيُمْكِن لِلشَّكْل التَّالِي أَنْ يُقَدَّم لَنَا بَيَانًا عَنْ تَصَوُّر بَارسُونز لِلْمُجْتَمِع فِي مُكَوَّنَاتِه الْأَسَاسِيَةِ.
الشكل رقم (1)
وَيَتَّضِح مِن الشَّكْل أَعْلَاه أَنّ بارْسُونز يُمَيِّز بَيْن أَرْبَعَة أَنْسَاق رَئِيسَة فِي الْمُجْتَمِعِ، وَهِي كَمَا يَتَّضِح فِي الرَّسْم الْبَيَانِيُّ: النَّسْق السَّيَاسِي وَالنِّسْق الدِّينِي وَالنَّسْق التَّرَبَوِيَّة وَالنَّسْق الِاقْتِصَادِي وَالنَّسْق الْعَائِلِيُّ.
وْمِن الطَّبِيعي أَنّ بارْسُونز يَرَى أَنّ هَذِه الأَنْسَاق الرَّئِيسَة تَنْطَوِي عَلَى أَنْسَاق فَرْعِيَّة أَدْنَى، وَكُلّ نُسْق يَنْطَوِي عَلَى أَنْسَاق أَصْغَر مِنْه فِي الْمُجْتَمِعِ. وَيُحَاوِل بَارسُونز فِي كَثِير مِنْ فَعَالِيَاتِه الْعَلَمِيَّة أَنْ يُؤَكِّد عَلَى أَهْمِيَّة التَّفَاعُل الْوَظِيفِي بَيْن هَذِه الْأَنْسَاق الْكُبْرَى وَالْأَنْسَاق الْفَرْعِيَّةِ الصغرى. فَالتَّفَاعُل الْوَظِيفِي يُشْكِل الْقُوَّة الْحَيَوِيَّة الَّتِي تُؤَدِّي إلَى تَفَاعُل مكونات الْمُجْتَمِع وَتَمَاسُكِها كَمَا يَتَّضِح فِي الشَّكْل الْبَيَانِي رَقْم (2):
الشكل البياني رقم (2)
وَيَتَّضِح التَّفَاعُل الْوَظِيفِي بَيْن الْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى الَّتِي تُؤَدِّي فِي نِهَايَة الْأَمْر إلَى تَأْكِيد وَحِدَّة الْمُجْتَمِع وَتَآلِفُه فِي صِيغَة وَظَيْفِيَّة كُلِّيَّة بِحَيْث يَسَاهُم كُلّ جُزْء فِي تَأْكِيد وَتَعْزِيز الْأَنْسَاق الَّتِي تَجَاوَرَه وَالْأَنْسَاق الَّتِي يَشْتَمِل عَلَيْهَا فِي حَرَكَة جَدَلِيَّة مُسْتَمِرَّة لِلْمُحَافَظَة عَلَى الْوُجُود الِاجْتِمَاعي بِطَرِيقَة مُشَابَهَة لِحَرَكَة الْجَسَد وَتَآلِف مُكَوَّنَاتِه الْعُضْوِيَّةَ.
وْمِن الْمُهِمّ فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ بَارسُونز أعطى اهْتِمَامُه الْكَبِير لِلْمُكَوَّنَات الْأَسَاسِيَّة فِي الْمُجْتَمِع الَّتِي تَتَمَثَّل فِي أَنْسَاقِه الْبُنَيْوِيَّة [57].وَيُمْكِن الْقَوْل فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ بَارسُونز لَمْ يَكُنْ بُنْيَوِيًّا فَحُسِب بَلْ وَظَيفِيًّا بِالدَّرَجَة الأُولَى، وَقَدْ تَمَثَّلَتْ نَزَعْتُه الْوَظِيفِيَّة فِي تَأْكِيدِه عَلَى نَسْق مِنْ الْمُطَالِب الْوَظِيفِيَّة فِي الْمُجْتَمِعِ، أَهَمَّهَا: [58]
أَولاَ- يَجِب أَنْ تَتَفَاعَل الْأَنْظِمَة الِاجْتِمَاعِيَّة الْفَرْعِيَّةَ، وَأَنْ تَتَوَافَق ضَمِن نَسْق الْأَدْوَار الْوَظِيفِيَّة لِلْأَنْظِمَة الِاجْتِمَاعِيَّة الْمَوَّازِيَة لَهَا ضَمِن تَسَاوُق وَظَيْفِي حَيَوِي يَضْمَن لِلْمُجْتَمِع وَحِدَّتْه وَاسْتِقْرَارُهُ. وَمِنْ أَجْل اسْتِمْرَار النِّظَام فِي الْوُجُود يَجِب عَلَى كُلّ نِظَام فَرَعِي أَنْ يُحْظَى بِالدَّعْم الْمَطْلُوب مِنْ الْأَنْظِمَة الْفَرْعِيَّة الْأُخْرَى فِي الْمُجْتَمِع بِوَصْفِه كُلا مُتَفَاعِلًا مُتَكَامَلًا بُنْيَوِيًّا وَوَظِيفِيًّا.
ثَانِيًا: يَتَرَتَّب عَلَى الْأَنْظِمَة الْفَرْعِيَّة وَالْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى أَنْ تُعْمَل عَلَى تَلْبِيَة احْتِيَاجَات الْأَفْرَاد وَتَحْقِيق مطَالِبِهِمْ الْوُجُودِيَّة الْحَيَوِيَّة فِي مُخْتَلِف الْقِطَاعَات وَالِاتِّجَاهَات الِاجْتِمَاعِيَّةِ.
ثَالِثًا: يَجِب عَلَى الْمُجْتَمِع بِأَنْسَاقِه الْقَانُونِيَّة وَالثِّقَافِيَّة أَنْ يَضْمَن أَمْن الْأَفْرَاد وَحَيَاتَهُمْ وَوُجُودِهُمْ بِصُورَة مُسْتَمِرَّة وَدَائِمَة لِحِمَايَة الْمُجْتَمِع مِنْ مُخْتَلَف أَشْكَال التَّخْرِيب وَالتَّدْمِير الْمُحْتَمَلِ، وَهَذَا يَتَطَلَّب ضَبْط سُلُوك الْأَفْرَاد وَالْمُؤَسِّسَات وَالْجَمَاعَات أَخْلَاقِيًّا وَقَانُونِيًّا وَثَقَافِيًّا مِنْ أَجْل الْمُحَافَظَة عَلَى وَحْدَة الْمُجْتَمِع وَتَوَازُنِهِ. وَفِي الْحَالَة الَّتِي يَشْتَدّ فِيهَا الصِّرَاع يَجِب عَلَى الْمُجْتَمِع أَنْ يَسْتَنْفِر قَوَّاه وَقُدْرَاتَه مِنْ أَجْل تَحْيِيد الصِّرَاع وَنَبْذ الْعُنُف وَإِعَادَة الْمُجْتَمِع إلَى حَالَة التَّوَازُن الْقَصْوَى.
وَيَتَّضِح مِنْ خِلَال هَذَا الْمُخْطِط تَرْكِيز بَارسُونز عَلَى الْمُطَالِب الْوَظِيفِيَّة لِلْمُجْتَمِع عَبْر رُؤْيَة كُلِّيَّة شُمُولِيَّة لِلْعِلَاقَات الْقَائِمَة بِيْم الْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة الْكُبْرَى عَلَى نَحْو وَظِيفِي يَضْمَن لِلْمُجْتَمِع تَكَامُلُه وَتَوَازُنُه وَوَحْدَتُه وَاسْتِقْرَارُه الْأَسَاسِيُّ. وَيَتَّضِح هُنَا فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ بَارسُونز كَان يُوَلِّي النِّظَام اهْتِمَامَه الْأَسَاسِيَّ، وَلَمْ يُعْط الْأَفْرَاد بِصُورَتِهِمْ الْمُسْتَقِلَّة أَيْ اهْتِمَام يَذْكُرُ، وَبِعِبَارَة أُخْرَى كَان يَنْظُر إلَى الْكَيْفِيَّات الَّتِي يُحْكَم فِيهَا النِّظَام الْأَفْرَادُ، وَلَيْس إلَى الطَّرِيقَة الَّتِي يَتَحَكَّم فِيهَا الْفَاعِلُون الْأَفْرَاد فِي النِّظَام وَالطُّرُق الَّتِي يُوَاجِهُون بِهَا تَحَدِيَاتَهُ، وَهَذَا الْأَمْر يَعْكَس إلَى حَدّ كَبِير الْتِزَام بَارسُونز بِالتَّوَجُّهَات الْبُنَيْوِيَّة الْوَظِيفِيَّة الْأَسَاسِيةْ. [59].
وَيُمْكِنُ تَلْخِيصُ أَهَمِّ أَفْكارِ بارسونز التي تتعلق ببنية المجتمع ووظائفه التوازنية وفق النِقاطِ الآتية:[60].
-1 تُشَكِّلُ الأَنْساقُ الاِجْتِماعِيَّةُ أَنْظِمَةً فَرْعِيَّةً فِي المُجْتَمَعِ (النَسَقِ السِياسِيِّ، الحُقُوقِيُّ، الاِجْتِماعِيِّ، الثَقافِيُّ، التَرْبَوِيُّ، الاِقْتِصادِيُّ…الخ) وَتَعْمَلُ هٰذِهِ الأَنْظِمَةُ بِطَرِيقَةٍ مُتَكامِلَةٍ وِفْقَ مَنْظُومَةٍ فَعّالَةٍ مِن التَبادُلِ الوَظِيفِيِّ بَيْنَها وَبَيْنَ الكُلِّ الَّذِي هُوَ المُجْتَمَعُ الحاضِنُ لَها.
2- تَعْمَلُ الأَنْظِمَةُ الفَرْعِيَّةُ وَالأَنْساقُ الاِجْتِماعِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ مَعاً عَلَى ضَمانِ الاِسْتِقْرارِ الاِجْتِماعِيِّ وَهٰذا يَعْنِي أَنَّها تَقُومُ بِوَظِيفَةِ المُحافَظَةِ وَتَحْقِيقِ التَوازُنِ فِي المُجْتَمَعِ وَحِمايَتِهِ مِن مُخْتَلِفِ أَشْكالِ الاِضْطِراباتِ وَالاِنْحِرافاتِ إِلَى الحِفاظِ عَلَى النِظامِ فِي وِحْدَتِهِ وَالتَوازُنِ فِي أَشْمَلِ مُسْتَوَياتِهِ.
3- قَدْ يَكُونُ النِظامُ ساكِناً أَوْ مَشْغُولاً فِي عَمَلِيَّةِ تَغْيِيرِ مُنَظَّمَةٍ، وَهٰذا التَغْيِيرُ يُطَوِّرُ وَضْعِيَّةَ المُجْتَمَعِ، دُونَ أَنْ يُلامِسَ جَوْهَرَهُ الأَساسِيَّ، وَيَبْدُوَ أَنَّ التَغْيِيرَ الَّذِي يَنْشُدُهُ بارسونْز لا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِن حالَةِ تَكَيُّفٍ يُحَقِّقُ فِيها المُجْتَمَعَ دَرَجَةً أَكْبَرَ مِن ثَباتِهِ وَاِسْتِقْرارِهِ وَتَوازُنِهِ.
4- يُؤَكِّدُ بارسونْز عَلَى أَنَّ بِنْيَةَ النِظامِ تُؤَثِّرُ فِي الشَكْلِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَتَّخِذَهُ الأَجْزاءُ الأُخْرَى وَكَذٰلِكَ فَإِنَّ التَشَكُّلاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالأَنْساقِ وَتَغَيُّراتها تَعْمَلُ عَلَى تَغْيِيرِ صُورَةِ المُجْتَمَعِ…
5- يُؤَكِّدُ بارسونْز عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَفاعُلِ بَيْنَ الأَنْظِمَةِ وَالأَنْساقِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَبَيْنَ البِيئَةِ الحاضِنَةِ لَها وَيَتَوَخَّى أَنْ تُحافِظَ الأَنْظِمَةُ وَالأَنْساقُ عَلَى الحُدُودِ مَعَ بِيئاتِها.
6- يَرَى بارسونز بِأَهَمِّيَّةِ التَكامُلِ بَيْنَ عَمَلِيَّتَيْ التَخْصِيصِ وَالتَكامُلِ بِوَصْفِهِما عَمَلِيَّتَيْنِ أَساسِيَّتَيْنِ ضَرُورِيَّتَيْنِ لِتَحْقِيقِ التَوازُنِ فِي داخِلِ البِنْيَةِ العامِّ لِلنِظامِ الاِجْتِماعِيِّ.
7- يُؤَكِّدُ عَلَى فَعالِيَّةِ المُحافَظَةِ الذاتِيَّةِ لِلأَنْظِمَةِ وَالأَنْساقِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَيَرَى بِأَنَّ هٰذِهِ الأَنْظِمَةَ تَنْطَوِي عَلَى عَمَلِيّاتٍ فَعّالَةٍ ذاتِيَّةٍ تَقُومُ بِالمُحافَظَةِ عَلَى العَلاقاتِ التَفاعُلِيَّةِ التَكامُلِيَّةِ بَيْنَ أَجْزاءِ المُجْتَمَعِ وَكُلِّيَّتِهِ أَيْ بَيْنَ الأَنْساقِ الفَرْعِيَّةِ وَالنِظامِ الاِجْتِماعِيِّ الكُلِّيِّ، وَهُوَ فِي ذٰلِكَ يَرَى أَنَّ هٰذِهِ العَمَلِيّاتِ تُؤَكِّدُ السَيْطَرَةَ عَلَى المُتَغَيِّراتِ البِيئِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى تَغْيِيرِ النِظامِ مِنْ الداخِلِ [61].
6- المُخَطَّطُ الوَظِيفِيُّ الرُباعِيّ ” أجيل” (A.G.I.L) :
يَرَى بَارسُونز أَنّ الْمُجْتَمِعَات لَدِيْهَا بَعْض “الْمُتَطَلِّبَات الْوَظِيفِيَّةِ” الَّتِي يَجِب تَلْبِيَتُهَا مِنْ أَجْل بَقَاء الْمُجْتَمِعِ. تَمَامًا مِثْل الْبَشَر يَحْتَاجُون إِلَى أَشْيَاء مُعَيَّنَة لِلْبَقَاء عَلَى قَيْد الْحَيَاةِ، لِذَلِك يَجِب أَنْ يَمْتَلِك كُلّ مُجْتَمِع أَشْيَاء مُعَيَّنَةً حَتَّى يَعْمَل بِشَكْل صَحِيح. عَلَى سَبِيل الْمِثَالِ، يَجِب عَلَى الْمُجْتَمِع إِنْتَاج وَتَوْزِيع الْمَوَارِد مِثْل الْغِذَاء وَالْمَأْوَى؛ يَجِب أَنْ يَكُون هُنَاك نَوْع مِنْ الْمُنْظَمَات الَّتِي تَحِلّ النُّزَاعَاتِ، وَأَنْوَاع أُخْرَى تُنْشُر الشَّبَّابُ. وَيُمْكِن التَّعْبِير أَيْضًا عَنْ هَذِه الرُّؤْيَة بِالْقَوْلِ: إِنّ كُلّ مُجْتَمِع لَدَّيُه مُتَطَلِّبَات وَظَيفِيَّة مُعَيَّنَةٌ، أَوْ احْتِيَاجَات أَسَاسِيَة يَجِب تَلْبِيَتُهَا مِنْ أَجْل بَقَائِه وَاسْتِمْرَارِهِ، وَهِي تُغَطِّي شَبَكَةً مِنْ احْتِيَاجَاتِه إِلَى الطَّعَام وَالْمَأْوَى وَالتَّكَاثُر وَالْقَيِّم الأَخْلَاقِيَّة وَالْمَعَايِير الِاجْتِمَاعِيَّة الثِّقَافِيَّة الَّتِي يَجِب عَلَى الْأَنْظِمَة الِاجْتِمَاعِيَّة الْمُتَعَدِّدَة (الْمُؤَسِّسَات الِاجْتِمَاعِيَّةُ: الْأَسِرَّة الْمَدْرَسَةُ، الْحُكُومَةُ) أَنْ تُلَبِّيَهَا بِوَصْفِهَا الْمَسْؤُولَة عَنْ تَلْبِيَة احْتِيَاجَات الْمُجْتَمِع وَمُتَطَلِّبَاتِهِ.
وَوُجِد بارْسُونز أَنّ الْمُجْتَمِع الصِّنَّاعي الْمُتَقَدِّم يَقُوم بِتَلْبِيَة هَذِه الِاحْتِيَاجَات مِنْ خِلَال أَنْظِمَة فَرْعِيَّة مُتَخَصِّصَة. وَأَوْضَح انْ كُلّ مُجْتَمِع – مَهْمَا كَان مُسْتَوًى تَطَوُّرِه – يَحْتَاج إلَى مُؤَسِسَات مُتَخَصِّصَة لِتَلْبِيَة مُطَالِب اسْتِمْرَارِه وَوُجُودِهِ، وَمَنْ أَهَمَّهَا إنْتَاج السِّلَع وَالْخَدَمَات الضَّرُورِيَّة لِلْحَيَاة تُؤَدِّيهَا الْمُؤَسِّسَات الاقْتِصَادِيَّةُ، وَالْعَمَل عَلَى تَحْقِيق تَضَامُن أَخْلَاقِي وَقِيَمِي وَثِقَافِي تُؤَدِّيه الْمُؤَسِّسَات التَّرَبُّوِيَّة وَالتَّعَلُّمِيَّةُ، وَإِيجَاد مُؤَسِسَات حَقُوقِية تَقُوم بِالْمُحَافَظَة عَلَى الأَمْن الِاجْتِمَاعي وَمُعَاقَبَة الْمُخَالِفِين فِي الْمُؤَسِّسَات الْقُضَائِيَّة الْمُخْتَصَّةِ. وَيَرَى بَارسُونز أَنّ أَي نَسْق اجْتِمَاعي يَجِب أَنْ يُشَارِك فِي تَلْبِيَة الْمُطَالِب الْوُجُودِيَّة بِصُورَة أَوْ بِأُخْرَى إذَا كَان يُرِيد الْبَقَاء وَالِاسْتِمْرَارَ.
طُور بارْسُونز نَمَوَذِجًا فَكَرْيَا مُنْهَجِيًا يُمْكِن اعْتِمَادُه فِي فَهْم الْمَنْظُومَة الِاجْتِمَاعِيَّة فِي مَجْمَلِهَا. وَبِمُوجِب هَذَا الْمُخْطِط النَّمُوْذِجِي يُتِمّ مُتَطَلِّبَات الْمُجْتَمِع أَوْ الْمُسْتَلْزَمَات الْوَظِيفِيَّة (Functional requirements)، وَقَدْ نَحْت لِهَذَا الْمُخْطِط تَسْمِيَة رَمَزِيَّة مُخْتَصَرَةً عَرَفْت ب أجِيلٌ” (AGIL)[62]، وَهُو مَخْطَط وَظِيفِي رُبَاعي يَسْتَعْرِض الْمُتَطَلِّبَات الْأَرْبَعَة الَّتِي يَجِب عَلَى كُلّ مُجْتَمِع الْوَفَاء بِهَا حَتَّى يَتَمَكَّن مِنْ الْحُفَّاظ عَلَى وَحْدَتِه وَتَوَازَنَه وَاسْتِقْرَارِهِ. وَيُمْكِن تَعْرِيف هَذَا الْمُخْطِط بِوَصْفِه “مَجْمُوعَةً مِنْ الْأَنْشِطَة الْمُوَجَّهَة نَحْو تَلْبِيَة احْتِيَاجَات النِّظَام ” [63]. وَبَيْن بَارسُونز أَنّ الْمُجْتَمِع يَحْتَاج إِلَى أَرْبَع وَظَائِف أَسَاسِيَة كَيْ يَتَمَكَّن مِنْ الْمُحَافَظَة عَلَى وَحِدَتِه وَاسْتِقْرَارِه وَتَوَازُنِهِ، وَهِيَ: التَّكِيُّف مَع الْمُحِيط (Adaptation) الَّذِي يَؤْمَن بَقَاء الْمُجْتَمِعِ، ثُمّ مُتَابَعَة الأَهْدَاف (Goal)، لأَنّ الْمَنْظُومَة لا تَقُوم بِوَظِيفَتِهَا إِلاّ إِذَا اتَّجَهَتْ صَوْب هَدْف مَا، ثُمّ انْدِمَاج الأَعْضَاء بِالزَّمْرَةِ، وَأَخِيرًا الْمُحَافَظَة عَلَى الأَنْمَاط وَالْمَعَايِير (Latent pattern). وَمِنْ أَجْل تَسْهِيل اسْتِخْدَام هَذِه الْكَلِمَات نَحْت بَارسُونز كَلِمَة (AGIL) الَّتِي تَرَمَّز إِلَى الأَحْرَف الأُولَى لِوَظَائِف الْمَنْظُومَة الِاجْتِمَاعِيَّة بِاللُّغَة الإِنْكُلِيزِيَّةِ.
وَيْعِد نَمُوْذِج “أجِيل ” (AGIL) هَذَا المُنْطَلِق المنهجي في نَظَرِيَّة بارْسُونز، وَمِنْ أَكْثَر عَنَاصِرِهَا أَهْمِيَّةٌ، وَقَدْ تَنَاوَل هَذَا النَّمُوْذَج بِشَكْل مُفَصَّل فِي كِتَابِه الْمَرْكِزِي “بِنِيَّة الْعَمَل الاجْتِمَاعِيِّ” (The Structure of Social Action)، الَّذِي يُقَدَّم فِيه خَرِيطَة مُوَحَّدَةً لِجَمِيع أَنْظِمَة الْعَمَلِ، وَقَدْ وَضَعَه بِشَكْل مُفْصِل عَام 1956، وَلَاحِقًا قَام بِارْسُونُز بِتَطْوِيرِه وَتَوْسِيعِه لِيَشْمَل مُخْتَلِف التَّكْوِينَات الِاجْتِمَاعِيَّة الْقَائِمَة فِي الْمُجْتَمِعِ. وَيُحَدَّد مُخْطِط AGIL أَرْبَع وَظَائِف أَسَاسِيَة مَنْهَجِيَةً، وَهِي مُتَطَلِّبَات أَسَاسِيَة لِأَي مُجْتَمِع لِيَكُون قَادِرًا عَلَى الِاسْتِمْرَار بِمُرُور الْوَقْت وَهِيَ:
1-التَّكِيف ( Adaptation): لا بُدّ لِلْمُجْتَمِع أَنْ يَتَكَيَّف مَع الْبَيْئَة الْحَاضِنَة لَه الَّتِي تُوفِّر لَه احْتِيَاجَاتُه الْوُجُودِيَّةُ، وَمِنْ مُطَالِب التَّكِيُّف تَأْمِين الْمَوَارِد الْمَادِيَة وَتَوْزِيعُهَا فِي الْمُجْتَمِع بِهَدْف الْمُحَافَظَة عَلَى الْوُجُود أَوَّلًا وَالتَّوَازُن فِي النِّظَام الِاجْتِمَاعي ثَانِيًا، وَيَتَمَثَّل التَّكِيف عَادَةً فِي قُدْرَة الْمُجْتَمِع عَلَى التَّفَاعُل مَع الْبَيْئَة وَالتَّكَيُّف مَع مَعْطِيَاتِهَا.
2- تَحْقِيق الْهَدْف (Goal-attainment): يُشِير إِلَى تَحْدِيد الْأَوْلَوِيَّات بَيْن أَهْدَاف النِّظَام وَتَعْبِئَة الْمَوَارِد لِتَحْقِيقِهَا، وَيَتَضَمَّن ذَلِك تَحْدِيد الأَهْدَاف الْآنِيَة وَالْمُسْتَقْبَلِيَّة وَاتِّخَاذ الْقِرَارَات لِتَحْقِيقِهَا ضَمِن نَسْق مِنْ الْقِرَارَات السَّيَاسِيَّة وَالِاجْتِمَاعِيَّة الْمُمْكِنَةِ. وَلا بُدّ لِلْمُجْتَمِع مِنْ أَنْ يُوَفِّر الْأَدَوَات الْمُنَاسَبَة لِتَحْقِيقِ أَهْدافِهِ وَالوُصُولِ إِلَى دَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الإِشْباعاتِ المادِّيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ أَيْضاً .
3- ويعدّ التَّكَامُل أَوْ التَّنَاغُم (Integration) بَيْن مَكَونَات الْمُجْتَمِع وعناصره مَطْلَبا حَيَوِيا يوجب أَنْ تَكُون قِيم الْمُجْتَمِع وَأَعْرَافَه مُتَينَةً وَمُتَقَارِبَةً بِمَا فِيه الْكِفَايَةُ. وَيَجِب عَلَى الْمُجْتَمِع تَحْقِيق التَّوَاؤُم وَالِانْسِجَام بَيْن مُكُونَاتِهِ، وَوَضَع طُرُق فِعَالَة لِلمُحافَظَةِ عَلَى تَوازُنِ المُجْتَمَعِ وَوَحْدَتِهِ، وَيَتَطَلَّب هَذَا الْأَمْر أَنْ يَكُون النِّظَام الِاجْتِمَاعي مُتَّسِقًا وَفَعَالا فِي تَحْقِيق التَّضَامُن الْحَيَوِي الْمَطْلُوبِ. وَبِاخْتِصَار فَإِنّ كُلّ نُسْق اجْتِمَاعي أَسَاسِي أَوْ فَرَعْي يَجِب أَنْ يُحَافِظ عَلَى التَّوَاؤُم وَالِانْسِجَام بَيْن مُكُونَاتِهِ، وَوَضَع طُرُق لِدَرْء الانْحِرَاف وَالتَّعَامُل مَعَهُ، أَيْ لَا بُدّ لَه مِنْ الْمُحَافَظَة عَلَى وَحِدَتِه وَتَمَاسُكِهِ.
3-الْكمُون أَوْ الْمُحَافَظَة عَلَى النَّمَط (Latency or Pattern Maintenance): يَجِب عَلَى كُلّ نِسْق أَنْ يُحَافِظ بِقَدْر الْإِمْكَان عَلَى حَالَة التَّوَازُن فِي دَاخِلِهِ، وَأَنْ يُسْهَم أَيْضًا فِي الْمُحَافَظَة عَلَى هَذَا التَّوَازُن فِي الْأَنْسَاق الْأُخْرَى وَفِي الْمُجْتَمِع بِصُورَة كُلِّيَّة. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّه يَجِب عَلَى الْجِهَات الْفَاعِلَة فِي النِّظَام الِاجْتِمَاعي أَنْ تَعْمَل وَفْق مُطَالِب الْمُجْتَمِع وَاحْتِيَاجَاتِه الْأَسَاسِيَةِ، وَهَذَا يَعْنِي تَأْكِيد وَظِيفَة الْمُحَافَظَة عَلَى النِّظَام وَإِدَارَة مُخْتَلِف أَشْكَال التَّوَتُّرَات الْمُحْتَمَلَة فِي النِّظَام الِاجْتِمَاعِيِّ. وَتَقُوم مُؤْسِسَات التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة بِهَذِه الْوَظِيفَةِ، مِثْلُ: الْأَسِرَّة وَالْمَدْرَسَةِ، وَغَالِبًا مَا يُشِير مَفْهُوم الْكُمُون إلَى الْفَعَالِيَّات الْقَيَمِيَّة وَالْوَظِيفِيَّة الَّتِي تَعْزَز بِمُخْتَلِف الْوَسَائِل التَّرَبُّوِيَّة بِصُورَة مُسْتَمِرَّة، لِلْمُحَافَظَة عَلَى النِّظَام الِاجْتِمَاعي ثَقَافِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا وَإِنْسَانِيًّا [64]. وَيُمْكِنُنَا الْقَوْل فِي هَذَا الِاتِّجَاهِ: إِنّ الْمُجْتَمِع يَفْعَل فِعْلَه بِصُورَة مُسْتَمِرَّة، وَعَلَى نَحْو عَفْوِي فِي تَرْسِيخ الْقَيِّم وَالْفَعَالِيَّات وَالْعَادَات وَالتَّقَالِيدِ، وَبِصُورَة مُسْتَمِرَّة، مَنْ خِلَال وَسَائِل التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّةِ، للْحُفَّاظ عَلَى هَوِيَّة الْمُجْتَمِع وَكَيْنُونَتُه الْوُجُودِيَّةَ. وَمِنْ أَجْل الْمَزِيد مِن الْوُضُوح يُمْكِن مُعَايَنَة النَّمُوَذَج الرُّبَاعي لبارسونز ونَز فِي الشَّكْل الْبَيَانِي رَقَم (3) الَّذِي يُوَضِّح صِيَغ التَّفَاعُل بَيْن الْعَمَلِيَّات الْأَرْبَعَةِ.
الشكل رقم (3)
يُؤَكِّد بارسونز عَلَى التفاعل بين هَذِه الْوَظَائِف الْأَرْبَعَة الْوَارِدَة فِي الشَّكْل 3، عَلَى سَبِيل الْمِثَّالِ: يَحْتَاج النِّظَام فِي قَبِيلَة بِدَائِيَة مِن الصِّيَادَيْن إِلَى جَمْع الطَّعَام مِن الْعَالِم الْخَارِجِي عَنْ طَرِيق صَيْد الْحَيَوَانَاتِ، كَمَا يَحْتَاج إِلَى الْحُصُول عَلَى مَصَادِر الْحَيَاة الْأُخْرَى كَالطَّعَام وَالْوُقُود وَاللِّبَاس وَغَيْر ذَلِكَ. وَهُمْ فِي هَذَا السِّيَاق يَحْتَاجُون إِلَى تَحْقِيق مَجْمُوعَة مِن الأَهْدَافِ، كَمَا يَحْتَاجُون إِلَى بِنَاء نِظَام اجْتِمَاعِي فَعَالَ، يتُمْ بِمُوجِبِه اتِّخَاذ قِرَارَات حَاسِمَة بِشَأْن قَضَايَا الْحَيَاةِ، مِثْلَ: اتِّخَاذ قِرَارَات الْهِجْرَة إِلَى مَنَاطِق صَيْد جَدِيدَة أَفْضَلُ، وَوضِع مُخْطَطَات أَشْمَل لِلأَمْن الِاجْتِمَاعِيِّ، وَالْحُصُول عَلَى وَسَائِل جَدِيدَة لِلدُّفَاع عَنْ حُدُود الْجَمَاعَةِ. وَتَحْتَاج الْقَبِيلَة أَيْضًا إِلَى نِظَام اجْتِمَاعي يُعَوَّل عَلَيْه فِي تَحْدِيد الْإِجْرَاءَات، وَاتِّخَاذ الْقِرَارَات الْمُنَاسَبَة لِلْمُجْتَمِعِ، وَهَذَا الْأَمْر كُلُّه يَتَطَلَّب وُجُود نِظَام تَرْبَوِي تَعْلِيمِي وَقِيَمِي يُمْكِن النَّاشِئَة مِنْ مَهَارَات الصَّيْد وَالْجَمْعِ، وَيَجْعَلُهُمْ قَادِرِين عَلَى تَمَثُّل الْقِيِّم الِاجْتِمَاعِيَّة الضَّرُورِيَّة لِلْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة دَاخِل الْقَبِيلَةِ، وَمِن الْبَدَاهَة أَنّ وُجُود الْقَبِيلَة وَاسْتِمْرَارِهَا يَكُون دَائِمًا رَهْنًا لِتَحْقِيق هَذِه الشُّرُوط الْوُجُودِيَّة وَالْمُتَطَلِّبَات “الأجَيْلِيَّةِ” الْأَرْبَعَة السَّابِقَة الَّتِي أَشَار إِلَيْهَا بارْسُونز [65].
فَالِاقْتِصَاد هُو النِّظَام الْفَرْعي الَّذِي يُؤَدِّي وَظِيفَة الْمُجْتَمِع لِلتَّكِيُّف مَع الْبَيْئَة مِنْ خِلَال الْعَمَل وَالْإِنْتَاج وَالتَّخْصِيصِ، وَهَذَا يَعْنِي بِأَنّ الْمُجْتَمِع يَعْتَمِد النِّظَام الِاقْتِصَادِي لِتَحْقِيق عَمَلِيَّة التَّكَيُّف مَع الْبَيْئَة وَتَطْوِيعِهَا لِاحْتِيَاجَات الْمُجْتَمِع كَمَا يُسَاعِد الْمُجْتَمِع فِي تَحْقِيق التَّكَيُّف مَع الْعَالِم الْخَارِجِيِّ. وَعَلَى غِرَار الِاقْتِصَاد يُؤَدِّي النِّظَام السَّيَاسِي وَظِيفَة تَحْقِيق الْأَهْدَاف؛ فَالسِّيَاسَة تُمَثِّل إرَادَة الْمُجْتَمِع وَقُدْرَته عَلَى تَحْقِيق أَهْدَافِه الِاسْتِرَاتِيجِيَّة فِي مَجَال الْحَيَاة وَالْعَمَلِ، وَفِي اتِّجَاه الْمُحَافَظَة عَلَى تَوَازُن الْمُجْتَمِع وَاسْتِقْرَارِه، وَمُتَابَعَة تَحْقِيق الْأَهْدَاف الْمُجْتَمْعِيَّة، وَحُشْد الْفَاعِلِين وَالْمَوَارِد لِهَذِه الْغَايَةِ. وَيُؤَدِّي النسق الثَّقَافِي التَّرَبُّوِي وَظِيفَة الكمون عَنْ طَرِيق نَقْل الْمَعَايِير وَالْقَيِّم الثِّقَافَة إلَى الْفَاعِلِيْنَ، وَالسِّمَاح لَهُمْ بِاسْتِبْطَانِهَا. وَأَخِيرًا يُؤَدِّي النسق الِاجْتِمَاعي وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْه مِنْ مُؤَسِّسَات قَانُونِيَّة تَحْقِيق التَّكَامُل فِي الْمُجْتَمِع [66]. وَأَخِيرًا، يُعْطِي بَارسُونز النسق الثَّقَافِي أَهْمِية كَبِيرَةً، وذلك نظراً للدور الكبير الذي يؤديه فِي تَحْقِيق الِانْدِمَاج الِاجْتِمَاعِيِّ [67].
واعتمد بَارسُونز نِظَامِه الرُّبَاعي فِي تَنَاوُل مُخْتَلِف الْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعي الْأُخْرَى، وَلَا سِيمَا الْأَنْسَاق الْأَرْبَعَة الرَّئِيسِيَّة الَّتِي تَتَمَثَّل فِي النسق السُّلُوكِي، وَنَسْق الشَّخْصِيَّة، وَالنَّسْق الِاجْتِمَاعي، وَالنسق الثَّقَافِيِّ، وَقَدْ وُجِد أَنّ هَذِه الْأَنْسَاق تَنَاظُر نَمَوْذِجِه الرُّبَاعي (أجِيلَ) وَتَعَبّر عَنْهُ. أَنْظَر الشَّكْل الْبَيَانِي رَقْم (4).
الشكل البياني رقم (4)
وَيَتَّضِح مِن الرَّسْم الْبَيَانِي أَعْلَاه رَقَم (4) أَنّ النَّسْق الِاقْتِصَادِي يُمَارِس فَعَالِيَة التَّكِيُّف مَع الْعَالِم الْخَارِجِي (Adaptation). أَمَّا النَّسْق السَّيَاسِي فَيُؤَدِّي وَظِيفَة تحديد أَهْدَاف النَّسْق وَحشْد الْمَوَارِد لِتَحْقِيقِهَا (Achieving goals). وَيُؤَدِّي النَّسْق الِاجْتِمَاعي وَظِيفَة التَّكَامُل وَالِاِنْدِمَاج مِنْ خِلال التَّحَكُّم فِي الْأَجْزَاء الْمُكَوّنَة لَه (Integration). وَأَخِيرًا يُؤَدِّي النَّسْق الثَّقَافِي وَظِيفَة الْكُمون (Latency) مِنْ خِلَال تَزْوِيد الْفَاعِلِين بِالْمَعَايِير وَالْقَيِّم الَّتِي تَحْفِزُهُمْ عَلَى الْفِعْلِ. وَيُلَخِّص الشَّكْل هَذَا التَّنَاظُر بَيْن الْمُخْطِط الرُّبَاعي (أُجِيل ) وَبَيْن الْأَنْسَاق الرَّئِيسَة الْأَرْبَعَة فِي الْمُجْتَمِعِ. وباختصار يُمْكِن الْقَوْل بِأَنّ بَارسُونز وَظَفّ هَذَا النَّمُوْذَج الرُّبَاعي ” أُجِيلَ” فِي دِرَاسَة الْمُؤَسِّسَات الِاجْتِمَاعِيَّة الْمُخْتَلِفَة وَتَحْلِيل وَظَائِفِهَا فِي الْمُجْتَمَع الْأَمْرِيكِيِّ: الْعَائِلَة ،وَالشُّرْطَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالتَّعْلِيم وَالدَّيْنِ، وَظَائِفِهَا وَمَنْطِقِهَا الدَّاخِلِي إلْخَ. [68].
7- النسق الْقِيَمِي وَالثَّقَافِيُّ:
يُؤَكِّد بَارسُونز عَلَى أَهْمِيَّة الثِّقَافَة بِوَصْفِهَا الْقُوَّة الرَّئِيسِيَّة الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الْمُجْتَمِع فِي تَحْقِيق الِانْدِمَاج الِاجْتِمَاعِيِّ، فَالثِّقَافَة تَقُوم بِعَمَلِيَّة تَحْقِيق التَّكَامُل وَالتَّفَاعُل بَيْن مُخْتَلِف أَفْرَاد الْمُجْتَمِع وَمُكَوَّنَاتِه الْأَسَاسِيَّةِ، وهي َتَتَغَلْغِل فِي مُخْتَلَف أَشْكَال التَّفَاعُل بَيْن الأَفْرَادِ، وَتَعْمَل عَلَى دَمَجِهم فِي الْمُجْتَمِعِ، كما تعمل على دَمَج الْقِيِّم الِاجْتِمَاعِيَّة وَالثِّقَافِيَّة فِي الْأَفْرَاد الْفَاعِلِينَ. وَالثِّقَافَة بوصفها تكوينا بنيويا تَتَمَيَّز بِقُدْرَتِهَا الْفَرِيدَة عَلَى الْحُضُور فِي مُخْتَلِف مظاهر الوجود الاجتماعي، والتغلغل في الْوِجْدَان الْفَرْدِي وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وتَتَجَلَّى فِي الْقَيَم وَالْمَعَايِير وَالأَخْلَاق الَّتِي يَسْتَبْطِنُهَا الأَفْرَادُ، وَيَتَمَاهَوْن بِهَا.
وْعَلَى الرَّغْم مِنْ حُضُور الثِّقَافَة وتغلغلها فِي التَّكْوِينَات الِاجْتِمَاعِيَّة الْمُتَعَدِّدَةِ، فَإِنَّهَا تُشْكِل فِي الْوَقْت نَفْسِه كَيَّانًا اجْتِمَاعِيًّا مُسْتَقِلًّا، أَيْ: نَسْقًا اجْتِمَاعِيًّا رَئِيسًا فِي النِّظَام الرُّبَاعي المعروف عِنْد بَارسُونز، وَهِي تَشْكُل الطَّاقَة الروحية لِلْمُجْتَمِع وَالْمُكْتَنِز الِاجْتِمَاعي لِلْمَعْرِفَة وَالرُّمُوز وَالتَّصَوُّرَات وَالْقَيِّم وَالْأَفْكَار وَالْمَعَانِي وَالدَّلالات الَّتِي تُعْطِي لِلْمُجْتَمِع مَعْنَاه وَوَحَدَتُه وَتَكَامَلَه الْإِنْسَانِي وَالِاجْتِمَاعِيُّ، لِهَذَا يَنْظُر بارْسُونز إِلَى الثِّقَافَة بِوَصْفِهَا نِظَامًا رَمْزِيًّا يَعْمَل بِقُوَّة عَلَى تَوْجِيه الأَفْرَاد الْفَاعِلِين فِي الْمُجْتَمِع إِلَى الْغَايَات الْعَلِيَا الَّتِي يَنْشُدُهَا الْمُجْتَمِعْ. [69].
وَيُؤَكِّد بَارْسُونز الطَّبِيعَة الانْتِشَارِيَّة الْمَرِنَة لِلثِّقَافَةِ، كَمَا يُؤَكِّد في الوقت نفسه قُدْرَتَهَا الْهَائِلَة عَلَى التَّغَلْغُل فِي مُخْتَلِف الْأَنْظِمَة وَالْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة الأُخْرَى، وَيَرَى بِأَنَّهَا كَالطَّيْف الَّذِي يَخْتَرِق أَعْمَاق المجتمع، وَيَتَغَلْغِل فِي ثَنَايَا الْوُجُود الِاجْتِمَاعِيَّ وفِي جَمِيع َالأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَبِعِبَارَة أُخْرَى، يرَى بارْسُونز أَنَّه يُمْكِن لِلثِّقَافَة أَنْ تَتَغَلْغَلَ، فِي مُخْتَلِف الأَنْظِمَة الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَأَنْ تَنْتَشِر فِي جَمِيع مُظَاهِر الْحَيَاة عبر التَّرْبِيَة وَالتَّعْلِيم وَالتَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيُضَاف إِلَى ذَلِك أَنّ الثِّقَافَة تَمْتَلِك فِي ذَاتِهَا الْقُدْرَة الْعَفْوِيَّة عَلَى التَّحَكُّم الذَّاتِي فِي مُخْتَلِف الْأَنْظِمَة الِاجْتِمَاعِيَّة الأُخْرَى. وَيَبْدُو أَنّ بارْسُونز أراد أن يُجْعَل مِن الثِّقَافَة قُوَّة جِبَارَة قَادِرَةً عَلَى الإِحَاطَة بِالْمُجْتَمِعِ، وَالتَّغَلْغِل فِيهِ، وَالتَّحْكَّم بِصَيْرُورَاتِه وَفَعَالِيَاتِه وآليات اشتغاله، وَقَدْ أَخَذَه هَذَا التَّصَوُّر إِلَى تبني أُطْرُوحَة “الْحَتْمِيَّة الثُّقَافِيَّة ” (Cultural Determinism)، والتماهي بمعطياتها الفكرية إلى الدرجة التي كان يصف نفسه فيها دائما بِأَنَّه “حْتَمِي ثِقَافِيٌّ” (“Cultural determinist”) فِي نَظَرَتِه إِلَى الثِّقَافَة وَالْمُجْتَمِعِ. [70].
أْكُد بِارْسُونز دَائِمًا أَهْمِيَّة الِانْدِمَاج الِاجْتِمَاعي الْقِيَمِي لِلْأَفْرَاد فِي الْمُجْتَمِعِ، وَوُجِد أَنّ هَذَا الْمَطْلَب يُوجِب عَلَى الْأَفْرَاد التَّكِيُّف مَع مُخْتَلِف عَنَاصِر الْوُجُود الِاجْتِمَاعي بِصُورَة عَفْوِيَّة وَذَاتِيَّة، دُون أَنْ يُفْرَض عَلَيْهِمْ هَذَا التَّكِيُّف مِن الْخَارِجِ، أَيْ: مِنْ قِبَل قَوِىّ اجْتِمَاعِيَّة خَارِجِية فِي الْمُجْتَمِعِ.
وَيُعْطِي بَارسُونز أَهْمِية كَبِيرَةً لِلتَّوَافُق الِاجْتِمَاعِيِّ، وَيُؤَكِّد ضَرُورَة التَّضَامُن الْقِيَمِي وَالأَخْلَاقِي فِي الْمُجْتَمِعِ، وَيَرَى بِأَنّ مِثْل التَّضَامُن مَعْنِي بِمُهِمَّة الْمُحَافَظَة عَلَى النِّظَام الِاجْتِمَاعِيِّ، وَتَحْصِين الْمُجْتَمِع ضِدّ مُخْتَلِف الِانْحِرَافَات وَالثَّوْرَة وَالِاضْطِرَابَات وَالصِّرَاعَات الْمُحْتَمَلَة بِأَنْوَاعِهَا. وَيُلَاحِظ فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ بارْسُونز يُوَلِّي أَهْمِيَّة كُبْرَى لِلنُّسْق الثِّقَافِي بدرجة كبيرة تَفُوق كَثِيرًا أَهْمِيَّة الأَنْسَاق السَّيَاسِيَّة وَالِاقْتِصَادِيَّة فِي الْمُجْتَمِعِ، وإذ يَرَى فِي هَذَا السِّيَاق أَنّ النِّظَام الِاجْتِمَاعي لَا يَتَحَقَّق بِوَسَائِل النُّفُوذ وَتَأْثِير الْقُوَّةِ، أَيًّا كَانَتْ صِيغَتُهَا عَسْكَرِية أَوْ سَيَاسِيَةً، بَلْ مِنْ خِلَال الْمُؤَسِّسَات الثِّقَافِيَّة وَالتَّرَبُّوِيَّة الَّتِي تعمل على تَوْلِيد نَسْق ثِقَافِي فَكَرِّي وَأَيْدِيولُوَجِي وَأَخْلَاقِي يَقُوم بِتَحْقِيق التَّوَازُن الِاجْتِمَاعِيُّ، وَتَعْزِيز الْقِيَم الْمُشْتَرَكَة بَيْن أَفْرَاد الْمُجْتَمِع وَمُؤَسِّسَاتِه الْمُخْتَلِفَةِ. وَقَدْ أَقَرّ بِأَنّ الْقِيَم الثِّقَافِيَّة وَالأَخْلَاقِيَّة الْمُشْتَرَكَة تَشْكُل أَسَاس النِّظَام فِي الْمُجْتَمِع وَلُحْمَتَهُ، وَأَنَّه لَا يُمْكِن لِمُجْتَمِع مَا أَنْ يُوصَف بِأَنَّه مُجْتَمِع حَقِيقِي مَا لَمْ يَتَوَفَّرْ فِيه نِظَام ثِقَافِي قِيَمَيْ نَشْط وَفَعَّالٌ، وَذَلِك لأَنّ الثِّقَافَة تُشْكِل رَوح الْمُجْتَمِع وَعَمْقُه الإِنْسَانِي.
وَعَلِىّ خَطًى دوركهايم اعْتَقَد بَارسُونز أَنّ كُلّ شَيْء يَحْتَاج إِلَى “تَوَافِق قِيَمِي ” وَهُو اتِّفَاق مُشْتَرَك بَيْن أَفْرَاد الْمُجْتَمِع لِلتَّوَافُق مَع مَعَايِير وَقِيِّم مُعَيَّنَةً، وَهَذَا يُؤَدِّي بدوره إِلَى التَّضَامُن الِاجْتِمَاعي وَالِاسْتِقْرَارِ والتوازن الضروري للمجتمع. فَالْمُجْتَمِعَات تَضَع قَوَاعِد ثِقَافِيَة وَمَعَايِير اجْتِمَاعِيَّة وَضَوَابِط أَخْلَاقِيَّة حَوْل الْكَيْفِيَّة الَّتِي يَجِب أَنْ يَتَصَرَّف بِهَا النَّاسُ، وَذَلِك فِي اتِّجَاه تَحْقِيق الْهَدْف الرَّئِيس الْمُشْتَرَك الْمُتَمَثِّل فِي التَّوَازُن وَالِاسْتِقْرَار الِاجْتِمَاعِيَّيْنِ، وَلِذَا يَتِمّ تَكْوِين الأَفْرَاد اجْتِمَاعِيًّا وَتَأْهِيلُهمْ تَرَبَوِيًّا لِقَبُول الْقَيِّم وَالأَعْرَاف القائمة وَتَشْرّبهَا، كَمَا يَتِمّ تَأْهِيلُهُمْ ثِقَافِيًّا عَبْر التَّعْلِيم وَمُخْتَلِف وَسَائِل التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة المتاحة في المجتمع.
وَيَرْكِز بَارسُونز فِي تَنَاوُلِه الْوَظِيفِي لِلْمُجْتَمِع عَلَى أَهْمِيَّة اثْنَتَيْن مِنْ أَهَمّ الْقِيِّم الْمُشْتَرَكَة فِي الْمُجْتَمِعَات الصُّنَاعِيَّةِ، وَهُمَا:
أولا: الإِيمَان بِأَخْلَاقِيَّات الْعَمَل (Work ethic).
ثانيا: الإِيمَان بِمَبْدَأ الْجِدَارَة (Meritocracy) (مُكَافَأَة الأَفْرَاد عَلَى قَدْر جَهْدِهِمْ وَإِمْكَانِيَاتِهِمْ).
وَهُمَا الْقِيمَتَان اللَّتَان يَجِب عَلَى الْمُؤَسِّسَات التَّرَبُّوِيَّة تَأْصِيلُهُمَا فِي الأَفْرَادِ. وَيُؤَكِّد بَارسُونز عَلَى الأَهْمِّيَّة الْحَيَوِيَّة لِهَاتَيْن الْقِيمَتَيْن الْمُرْكَزِيَّتَيْن فِي الْمُجْتَمِعِ، وَذَلِك لِأَنّ أَخْلَاقِيَّات الْعَمَل تُضْمَن لِلنَّاس قِيمَة الْجَهْد بَدَلًا مِن التَّكَاسُلِ؛ فالجدارة تَعَنِّي أَنّ هَؤُلاء الأَشْخَاص الَّذِين يَنْتَهِي بِهِم الْأَمْر فِي وَظَائِف مُنْخَفِضَة الْأَجْرُ، يَقْبَلُون عَدَم الْمُسَاوَاة فِي الْمُجْتَمِعِ؛ لأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُون بِعْدَالَة هَذَا الْمَوْقِف عَلَى نَحْو عَفْوِي وَطَبِيعِيّ، لأَنّ مَنْ يَعْمَل أَكْثَر يُحْظَى بِأَجْر أَكْبَرَ، وَبِالتَّالِي فَإِنّ الإِيمَان بِهَذَا الْحَقّ الْمُتَعَلِّق بِالْجِدَارَة يُسَاعِد الأَفْرَاد عَلَى الِانْدِمَاج الِاجْتِمَاعِيِّ، وَتَمَثَّل الْقِيَم الْمُشْتَرَكَة فِي الْمُجْتَمِعِ.
يَعْرِف بَارسُونز النَّسْق الِاجْتِمَاعي بِأَنَّه بُنْيَّة مِنْ أَفْعَال الأَفْرَاد فِي الْمُجْتَمِعِ، وَنِظَام مِنْ سَلْوكِيَّاتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِم الَّتِي تَتَأَثَّر بِنَسْق مِن الْعَوَامِل الْمَادِيَة وَالْمُتَغَيِّرَات الِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَضَمِن هَذِه الرُّؤْيَة يُقِرّ بَارسُونز بِوُجُود نِظَام مِنْ التَّوَقُّعَات تَحَدَّد عِلاقَة كُلّ فَرْد بِرُدُود أَفْعَال الْآخَرِينَ، وَتَمَكَّنَه فِي الْوَقْت نَفْسَه مَنْ تَوَقَّع سُلُوكَهُمْ وَرُدُود أَفْعَالِهِمْ. وَيُبَيِّن لَنَا فِي هَذَا الْمَسَار أَنّ تَوَقُّعَات الأَفْرَاد وَرُدُود أَفْعَالِهِمْ وَنِظَامَهُمْ السُّلُوكِي يَتَحَدَّد بِنِظَام مِن الْمَعَايِير الثُّقَافِيَة وَالْقِيِّم الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تَسُود فِي الْمُجْتَمِع الْحَاضِن لأَفْرَادِهِ. وَمَع أَهْمِيَّة هَذَا التَّفَاعُلِ، بَيْن الْفَرْد وَالْمَعَايِير الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَإِنّ سُلُوَّك الأَفْرَاد لا يَتَوَافَق دَائِمَا مَع الأَنْسَاق الأَخْلَاقِيَّة وَالْقِيَمِيَّة فِي الْمُجْتَمِعِ، وَفِي هَذِه الْحَالَة فَإِنّ الْعَلاقَة بَيْن الْمُجْتَمِع وَالْفَرْد يَشُوبُهَا التَّوَتُّرُ، وَلا تَأْخُذ طَابِعًا مُثَالِيًا لأَنّ التَّنَاقُض قَدْ يَكُون قَائِمًا فِي صَمِيم هَذِه الْعَلاَقَةِ، وَمِن الطَّبِيعي أَنَّه يَجِب عَلَى الْمُجْتَمِع أَنْ يَصُوب هَذِه الْعَلاقَةَ، وَيُنَمِّيَهَا فِي اتِّجَاه تَحْقِيق التَّوَازُن الِاجْتِمَاعِيَّ.
فَالْمُجْتَمِع يَتَجَلَّى عَلَى نَحْو قِيَمِي ثِقَافِي فِي مَنْظُور بَارسُونز، وَالثِّقَافَة تُفْرَض وُجُودُهَا عَلَى الأَفْرَاد لَتُضَفِي عَلَيْهِم الطَّابِع الْإِنْسَانِي الَّذِي يُعْطِي مَعْنًى لِوُجُودِهِم الِاجْتِمَاعِيَّ. وَالنسق الثَّقَافِي كَمَا يَرَاه يُوجَد بِصُورَة مُسْتَقِلَّة عَن الأَفْرَاد وَإِرَادَتِهِمْ، وَيَعْمَل عَلَى فَرْض سُلْطَانِه عَلَيْهِمْ وَإِخْضَاعِهِمْ لِسَطْوَتِهِ. وْهُنَا يَجِب أَنْ نَأْخُذ بِعَيْن الِاعْتِبَار أَنّ سَطْوَة الثِّقَافَة تَأْخُذ طَابِعًا سَيَكُولُوجِيًّا طَوْعِيًّا، وَهَذَا يَعْنِي أَنّ السُّلُوك تَحْت ضَغْط الثِّقَافَة يَأْخُذ طَابِعًا انْسِيَابِيًّا، وَهَذَا هُو شَأْن الْفِعْل الثَّقَافِي الَّذِي يُحِيط بِالْأَفْرَاد كَالضَّغْط الْجُوِي الَّذِي لَا يُشْعِر بِه الأَفْرَادُ، فَيَتَحَرَّكُون تَحْت تَأْثِيرِه بِكُلّ انْسِيَابِيَّة وَطَوْعِيَّة.
ويذهب بارْسُونز إلى القول بأن كُلّ مَا يَحْدُث فِي الْمُجْتَمِع يُمْكِن تَفْسِيرُه ثَقَافِيًا؛ فَالثِّقَافَة تَمْتَلِك فِي ذَاتِهَا الْقُوَّة الَّتِي تُجْعَل الأَفْرَاد يَعِيشُونَ، وَيَتَصَرَّفُونَ، وَيَسْلُكُون طَوعِيًّا عَلَى هَذَا النَّحْو أَوْ ذَلِكَ. وَوَفْقًا لِهَذِه الرُّؤْيَة، فَإِنّ بارْسُونز يَغْفَل أَوْ يَتَغَافَل عَن الأَسَاس الِاقْتِصَادِي وَالسَّيَاسِي لِلْمُجْتَمِعِ، وَهُو بِذَلِك يَتَجَاهَل حُضُور الْأَسْبَاب الْجَوْهَرِيَّة لِلْوُجُود الْكَامِنَة جَوْهَرِيًّا فِي الْعَوَامِل الِاقْتِصَادِيَّة وَالِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تُشْكِل بِدُورِهَا الْأَسَاس الْجَوْهَرِي لِكُلّ الظَّوَاهِر الِاجْتِمَاعِيَّة فِي الْمُجْتَمِعِ؛ وَهُو بِإِغْفَالِه الْعَوَامِل الِاقْتِصَادِيَّة وَالْإِنْتَاجِيَّة، وَمُخْتَلِف الْعَنَاصِر الَّتِي يَشْتَمِل عَلَيْهَا هَذَا الْجَانِبُ، يَعْلَن عَن انْحِيَازِه الْأَيْدِيُّوَلُوَجِي لِلطَّبَقَة الرَّأْسُمَالِيَّة الْحَاكِمَة الَّتِي لِطَالِمًا عَمِلْت عَلَى إضْفَاء الطَّابِع الشَّرْعي ثَقَافِيًّا وَأَيْدِيَولِوَجِيًّا عَلَى وُجُودِهَا، وَالتَّعْمِيَة عَلَى مُخْتَلِف الْأَسْبَاب الْحَيَوِيَّة لُبُؤْس النَّاس وَشِقَائِهِمْ.
وقَدْ أَكَد بَارسُونز، دَائِمًا، عَلَى أَنّ الإِنْسَان الْفَرْد لا يَمْتَلِك الْقُدْرَة عَلَى تَغْيِير مَعْطِيَات النَّسْق الثَّقَافِي الْقِيَمِي بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْه مِنْ أَعْرَاف وَقَيِّم وَتَقَالِيد وَأَفْكَار وَتَصَوُّرَات، وَأَنَّه يَتَرَتَّب عَلَيْه أَنْ يَخْضِع لَهَا، وَيَهْتَدِي بِهَا فِي سُلُوكِه وَحَيَاتِه وَمُخْتَلِف أَشْكَال التَّكَيُّف الِاجْتِمَاعي الَّذِي يُمْكِنُه مِن الِاسْتِمْرَار فِي الْوُجُود وَالْحَيَاةِ. وَقَدْ جَعَل بَارْسُونز مِنْ الْخُرُوج عَلَى الْقَيَمِ، وَمُحَاوَلَة تَغْيِيرِهَا فِعْلًا يُهْدَد الِاسْتِقْرَار الِاجْتِمَاعِيَّ، وَيَنْتَهِك تَوَازُن الْمُجْتَمِعِ، مُؤَكَّدًا فِي الْوَقْت ذَاتَه عَلَى أَهْمِيَّة التَّوَازُن وَالسُّكُون وَالثَّبَات وَالِاسْتِقْرَار ضِدّ كُلّ أَشْكَال الصُّرَاع وَالتَّنَاقُض وَالتَّغْيِيرِ.
وفِي تَنَاوُلَه لِلْمَسْأَلَة الثِّقَافِيَّة مُيِّز بَارسُونز بَيْن ثَلاَثَة أَنْمَاط مِن الأَنْسَاق الثَّقَافِيَةِ: [71].
1 – أَنْسَاق الْأَفْكَار أَوْ الْمُعْتَقِدَاتِ.
2 – أَنْسَاق الرُّمُوز التَّعْبِيرِيَّة مِثْل الْفَنِّ.
3- أَنْسَاق التَّوْجِيهَات الْقِيَمِيَّةِ.
وَيْرَى بَارسُونز أَنّ النسق الثَّقَافِي كَمَا هُو حَال مُخْتَلِف الْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة يَتَّصِف بِخَاصَّتَيْن أَسَاسِيَتَيْن اثْنَيْنِ، هُمَا: [72]
أَوَّلاَ: مَيْل مُكَوَّنَات النَّسْق إِلَى الْحُفَّاظ عَلَى دَرَجَة عَالِيَة مِن التَّكَامُل عَلَى الرَّغْم مِنْ الضُّغُوط الْبَيْئِيَّةِ.
ثَانِيًا: مَيْل النَّسْق إِلَى التَّوَازُن أَيْ إِلَى اسْتِمْرَارِيَّة مُكَوَّنَات النَّسْق فِي أَدَاء وَظَائِفِهَا.
وْغَنِي عَن الْبَيَان أَنّ بارْسُونز يَخْضِع النَّسْق الثَّقَافِي لِفَعَالِيَّة نِظَامُه الْأجِيلِي الرُّبَاعي (AGIL) فَالثِّقَافَة نِظَام فَرُعِي فِي الْمُجْتَمِع يَشْتَمِل عِدَّة أَنْظِمَة أُخْرَى، وَقَدْ وُضِع بارسونز تَرْتِيبًا جِيلًا لِلنِّظَام الثِّقَافِي يَتَنَاظَر مَع الْمُخْطِط “الْجِيْلِي ” الْعَام هُوَ:
(A) – التَّرْمِيز الْمُعْرِفِيّ: ( A: Cognitive symbolization) وَظِيفَتُه التَّكِيُّفُ.
(G) – التَّرْمِيز التَّعْبِيرِيّ: (G: Expressive symbolization) وَظِيفَتُه تَحْقِيق الأَهْدَافِ.
(I) -التِّرْمِيز الأَخْلَاقِي التَّقْيِيمِيّ: ( Moral-evaluative symbolization) وَظِيفَتُه تَحْقِيق الانْدِمَاجِ.
(L) – التَّرْمِيز التَّأْسِيسِيّ: ( Constitutive symbolization) وَظِيفَتُه التَّأْسِيس الثَّقَافِي الْكُوْمُونِي.
وْعَلَى هَذِه الصُّورَة تَتَّضِح مَعَالِم الرُّؤْيَة البَارسُونز يَّة إلَى النَّسْق الثَّقَافِي بِوَصْفِه أحد أَهَمّ الْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي يَنْطَوِي عَلَيْهَا الْمُجْتَمِعُ، وَيُعْطِي لِهَذَا الْجَانِب أَهْمِية كَبِيرَةً فِي الْمُحَافَظَة عَلَى اسْتِقْرَار الْمُجْتَمِع وَتَوَازَنَه الْخَلَاق.
وباختصار، يُمْكِن الْقَوْل تَأَسِّيًا عَلَى مَا تَقَدَّم إنْ بَارَسُونَز يَرَى بِأَنّ الْحَيَاة الِاجْتِمَاعِيَّة تَتَحَدَّد بِأَفْكَار الْبَشَرِ، وَتَرْتَسِم عَلَى مَقَايِيس قَيِّمِهِمْ وَمَعَايِيرِهِمْ وَتَصَوُّرَاتِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ. فَالْمَعَايِير بالتعريف، هِيَ: “تِلْك الْقَوَاعِد الْمَقْبُولَة اجْتِمَاعِيًّا الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا الْبَشَر فِي تَقْرِير أَفْعَالِهِمْ؛ أَمَّا الْقَيِّم فَأَفْضَل وَصْف لَهَا هُو أَنَّهَا مَا يَعْتَقِدُه الْبَشَر عَمَّا يَجِب أَنْ تَكُون عَلَيْه الْحَيَاة ” [73].
يَقُول إِيَان كُرَيْب في هذا السياق :” إِنْ نَظَرِية بارْسُونز فِي الْفِعْل هِي أَيْضًا نَظَرِيَّة فِي الْمَعَانِي وفِي الْمَعَايِير وَالْقَيِّم وَالرُّمُوز وَالِاتِّصَالِ. وَالْأَنْسَاق الْمُخْتَلِفَة عِنْد بَارْسُونز تَرْتَبِط بِبَعْض مِنْ خِلال تُبَادَل الْمَعْلُومَات الرَّمَزِيَّةَ، وَالرُّمْز عِنْدَه لَيْس شَيْئًا ذَا قِيمَة بَذَاتِه بَلْ بِمَا يُمْكِن أَنْ نَصْنَع بِهِ. وَأَوْضَح مِثْال عَلَى ذَلِك هُو النُّقُودُ: فَالْعَمَلَة الْمَعْدِنِيَّة لا قِيمَة لَهَا تَقْرِيبًا بِصِفَتِهَا شَيْئًا مَعْدِنِيًّا، غَيْر أَنَّهَا تَكْتَسِب قِيمَتَهَا فَقَطْ لأَنَّنَا نَسْتَطِيع اسْتِخْدَامَهَا لِشِرَاء الْأَشْيَاءِ. وَكُلّ نَسْق فَرُعِي لِلنّسْق الِاجْتِمَاعي لَه رُمُوزُه الْمُكَافِئَة لَه وَالْخَاصَّة بِهِ: فَالِاقْتِصَاد يَتَعَامَل بِالنُّقُود وَالنَّسْق السَّيَاسِي بِالْقُوَّةِ، وتأخذ هذه الرموز فِي الرَّوَابِط الْمُجْتَمِعَة شَكْل التَّأْثِيرِ، بَيْنَمَا تُتَّخَذ فِي نَسْق التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة شَكْل الِالْتِزَامِ. وَيَبْقَى كُلّ نَسْق عَبْر عَمَلِيَّة تَبَادُل الرَّمْزِيَّة فِي حَالَة مِن التَّوَازُن مَع الْأَنْسَاق الْأُخْرَى، وَفِي ذَات الْوَقْت يَحْتَفِظ ذَلِك النَّسْق بِهَوِيَّتِه الْخَاصَّة ” [74].
8- التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة :
تَنَاوَل بارْسُونز مَوْضُوع التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة فِي كِتَابِه النِّظَام الِاجْتِمَاعي (The Social System) [75] الصَّادِر فِي عَام 1951. وَهُو فِي هَذَا الْكِتَاب يَعْلِي مِنْ شَأْن الْقُوَّة اللَّامِتِنَاهِيَّة للتَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تُمْكِّن الْأَفْرَاد مِنْ اسْتِبْطَان الْقِيَم الثِّقَافِيَة السَّائِدَةِ، وَتَمَثُّلُهَا كَقُوَّة هَائِلَة لتَحْقِيق التَّكَامُل الِاجْتِمَاعي وتأصيل التَّوَازُن الثَّقَافِيِّ. كَمَا يُوَلي اهْتِمَامًا كَبِيرًا لِمَنَاهِج التَّنْشِئَة الِاجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تُعْتَمَد فِي تَشْكِيل الْقَيِّم وَالْأَعْرَاف وَالتَّقَالِيد وَالْمَعَايِير الثِّقَافِيَّة الَّتِي نُهِيْمَن عَلَى الْأَفْرَاد الْفَاعِلِين دَاخِل النِّظَام الِاجْتِمَاعِيُّ. وَيُبَيِّن لَنَا بوضوح كَبِير الْكَيْفِيَّات الَّتِي يَتِمّ فِيهَا اسْتِبْطَان هَذِه الْمَعَايِيرِ، وَتمَثَّل هَذِه الْقَيِّم الَّتِي تَشْكُل فِي نِهَايَة الْأَمْر الضَّمِير الِاجْتِمَاعي لِلْفَاعِلِين فِي الْمُجْتَمِعِ. [76].
وَيعطِي بارْسونْز لِعملِيَّة التَّنْشئة الاجْتماعيَّة بُعْدًا سيْكولوجْيَا عِنْدمَا يُؤكِّد على الطَّابع اللَّاشعوري اَلعفْوِي لِعملِيَّة التَّنْشئة الاجْتماعيَّة، إِذ يرى بِأنّ الأطْفال يتلقَّوْن المعايير وَالقِيم بِطريقة المحاكاة اللَّاشعوريَّة والتَّماهي اَلحُر المنْطلق مِن عِقاله، وَهُم، فِي سِيَاق هَذِه العمليَّة، لا يتعلَّمون السُّلوك وَكيفِية التَّصَرُّف فحسْب، بل يتشبَّعون بِالْمعايير وَالقِيم أو الأخْلاق الخاصَّة بِالْمجْتمع. وَعلَى هَذِه الصُّورة يرى أنّ التَّنْشئة الاجْتماعيَّة تَلعَب دوْرًا مُحافِظًا تَتَكامَل فِيه الاحْتياجات والمطالب اَلتِي يُحَددهَا المجْتمع لِلْمحافظة على توازنه واسْتقْراره الاجْتماعيِّ، وَعلَى هذَا النَّحْو تَكُون تَأخُذ التَّرْبية طابعًا تقْليديًّا سُكونِيًّا مُحافِظًا يَسعَى إِلى تَحقِيق التَّوازن، وتتضاءل فِيه مِساحة التَّجْديد والابْتكار والْإبْداع. [77].
فالتَّنْشئة الاجْتماعيَّة، كمَا يراهَا بارْسونْز، تَجرِبة تَربوِية مُسْتمِرَّة مدى الحيَاة، وَذلِك لِأنّ الفرْد يَحْتاج إِلى التَّكَيُّف مع الحيَاة الاجْتماعيَّة اَلتِي يعْتورهَا التَّغَيُّر المسْتمرّ والتَّبدُّل الدَّائم، وَكذَلِك فَإِن القيم والْمعايير اَلتِي يحْتاجهَا الفرْد فِي عَمَليَّة التَّكَيُّف تَختَلِف مِن مَرْحَلة عُمْرِية إِلى أُخرَى، وَمِن وَضعِية اِجْتماعيَّة وَظيفِية إِلى وَضعِية أُخرَى. ولم يَتَردَّد بارْسونْز فِي التَّأْكيد على أَهَميَّة التَّنْشئة فِي مَرْحَلة الطُّفولة المبكِّرة اَلتِي تَترُك أَثرَها اَلعمِيق فِي مُخْتَلِف المراحل العمْريَّة اللَّاحقة، وَذلِك لِأنّ القيم والْمعايير اَلتِي يكْتسبهَا الطِّفْل فِي مَرْحَلة الطُّفولة تُشكِّل الأسَاس الجوْهري لِلشَّخْصيَّة، وتبْقى مُلَازمَة لِلْفرْد مدى الحيَاة [78]. ويؤكِّد بارْسونْز فِي هذَا المسَار أنّ التَّنْشئة الاجْتماعيَّة والرِّقابة الاجْتماعيَّة تُشكِّلَان الوسيلتيْن الأساسيَّتيْن اللَّتَيْن يعْتمدهمَا المجْتمع فِي المحافظة على تَوازُن النِّظَام الاجْتماعي واسْتقْراره[79].
فَفِي مَقالَة لَه بِعنْوَان ” اَلصَّف المدْرسي كنظام اِجْتماعي ” عام 1959 ( The school class as a social system ) [80]. يُبيِّن لَنَا بارْسونْز كَيْف يُمْكِن لِلْمدْرسة أن تُصْبِح وِكالة رَئيسِية لِلتَّنْشئة الاجْتماعيَّة، والاصْطفاء الاجْتماعيُّ، وَذلِك فِي مُجتَمَع تِكْنولوجي مِثْل الولايات المتَّحدة الأمْريكيَّة. فالْمدْرسة كمَا يَعتَقِد بارْسونْز تَغرِس فِي الطُّلَّاب والتَّلاميذ قِيم المجْتمع والْكفاءات والْمواقف اَلتِي تَرمُز إِلى الشُّروط الأوَّليَّة والْجوْهريَّة اَلتِي تَسمَح لِهؤلَاء التَّلاميذ والطُّلَّاب بِإنْجَاز أدْوارهم المسْتقْبليَّة. وَهِي فِي الوقْت نَفسِه تَعمَل على تَوزِيع الحصَاد البشريَّة فِي مَجَال بِنْيَة الأدْوار الاجْتماعيَّة، وبالتَّالي فَإِن عَمَليتَي التَّنْشئة الاجْتماعيَّة والاصْطفاء الاجْتماعي تُبْدأَان مِن المرْحلة الابْتدائيَّة، وَمِن ثمّ يَأتِي درّ المدْرسة الثَّانويَّة فِي إِكمَال الدَّوْر وَتوزِيع الشَّبَاب وفْقًا لِأدائهم المدْرسي فِي مَجَال اَلفُروع العلْميَّة الدِّراسيَّة المخْتلفة والْحياة العلْميَّة الدِّراسيَّة والْحياة العلْميَّة، حَيْث يَتَرتَّب على قِسْم مِن التَّلاميذ، فِي هَذِه المرْحلة، وتحْت تَأثِير الاصْطفاء المدْرسيِّ، أن يُنوِّعوا فِي اِخْتصاصاتهم ودراساتهم، فِي الوقْت اَلذِي يَتَرتَّب على بَعضهِم الآخر أن يَندَمِج فِي إِطَار الحيَاة المهْنيَّة فِي دَاخِل المجْتمع، وَتحلِيل بارْسونْز يَكَاد يَكُون شاملا إِلَّا أَنَّه أَهمَل أَهَميَّة الأصْل الاجْتماعي وقدْرَته على تَحدِيد مُسْتويات النَّجَاح المدْرسيِّ، كمَا لَم يَتَطرَّق إِلى دَوْر الطَّبقات الاجْتماعيَّة فِي تَحدِيد القيم الاجْتماعيَّة العامَّة [81] .
وباخْتصار، يَنظُر بارْسونْز بِعَين الاعْتبار والْأهمِّيَّة إِلى مُؤَسستَي اَلأُسرة والْمدْرسة بِوصْفهمَا أهمّ المؤسَّسات اَلتِي تَقُوم بِالتَّنْشئة الاجْتماعيَّة، وَهمَا المؤسَّستان المعْنيَّتان وَظيفِيا بِبناء اَلنسِيج الأخْلاقي والْقيمي فِي المجْتمع. فالْأسْرة مَسؤُولة عن تَوفِير ” التَّنْشئة الاجْتماعيَّة الأساسيَّة ” اَلتِي تَتَمثَّل بِتأْصِيل القيم والْأعْرف والْمعايير الأخْلاقيَّة والسُّلوكيَّة الأساسيَّة فِي المجْتمع الأساسيَّة، ويركِّز بارْسونْز فِي هذَا السِّيَاق على اَلأُسرة النَّوويَّة بِوصْفِهَا أَفضَل أَنوَاع اَلأُسر لِترْبِية الأطْفال وتنْشئتهم أخْلاقيًّا وإنْسانيًّا. وَإلَى جَانِب اَلأُسرة، وَفِيمَا بعْدهَا، تَأتِي الأنْظمة التَّرْبويَّة المدْرسيَّة اَلتِي تُتَابِع مُهمَّة اَلأُسرة فِي تَطوِير عَمَليَّة التَّنْشئة الاجْتماعيَّة، وَهنَا نَجِد أنّ بارْسونْز يُؤكِّد على الدَّوْر الحيَوي لِلْمدارس والْمؤسَّسات الاجْتماعي فِي عَمَليَّة دَمْج الأطْفال فِي ثَقافَة المجْتمع ودمْج ثَقافَة المجْتمع فِي الأطْفال، وتأْهيلهم أخْلاقيًّا وَعلمِيا وإنْسانيًّا لِلتَّفاعل والتَّخاصب مع المجْتمع إِنْسانيًّا وأخْلاقيًّا واجْتماعيًّا. وَوجَد فِي هذَا السِّيَاق أنّ المؤسَّسات التَّعْليميَّة مَعنِية بِتنْمِية مَشاعِر اَلهوِية الاجْتماعيَّة لَدى الأفْراد وَتأصِيل إِحْساسهم بِالانْتماء إِلى مُجْتمعهم، وَتعزِيز قُدْرتِهم على تنْميَته، والْمساهمة بِفعَّاليَّة فِي مُخْتَلِف نشاطاته الإنْسانيَّة.
9 – التَّغَيُّر الاجْتماعيُّ: ( Social Change ):
رَغْم التَّأْكيد المرْكزي المسْتمرّ على أَهَميَّة الثَّبَات والاسْتقْرار والتَّوازن فِي المجْتمع اِتَّجه بارْسونْز لَاحقًا لِدراسة التَّغَيُّر الاجْتماعيِّ، واسْتطاع أن يَبتَكِر مَفهُوم ” التَّغْيير التَّطوُّري ” ووظفه في دراسة مظاهر التغير الاجتماعي. وَكمَا هُو مَعرُوف يرى بارْسونْز أنّ المجْتمع يَتَكوَّن مِن مَجمُوعة مِن الأنْساق الفرْعيَّة المخْتلفة اَلتِي تَتَكامَل وَظيفِيا، وافْترض أَنَّه فِي سِيَاق التَّطَوُّر تَنبَثِق أَنظِمة فَرعِية جَدِيدَة مِن صُلْب الأنْظمة القديمة لِتقوم بِوظائفهَا على نَحْو أَكثَر كَفاءَة وَمرُونة، ويأْخذ هذَا التَّغَيُّر صُورَة نَوْع مِن المرونة التَّكيُّفيَّة الجديدة. وقد وجد أنّ هذَا التَّغَيُّر سيؤدِّي إِلى نِظَام أَكثَر توازنًا وَمرُونة وَقُدرَة على تَحقِيق التَّوازن التَّكيُّفيِّ، وَهذَا يَعنِي أنّ كُلّ نِظَام جديد يَجِب أن تَكُون لَديْه قُدرَة أَكبَر على التَّكَيُّف الاجْتماعي مِن الأنْظمة اَلتِي اِنبثَق عَنهَا وأكْثر قُدرَة على الأدَاء الوظيفيِّ، وَهذَا مَا يُمْكِن أن يُطلَق عليْه التَّغَيُّر التَّكيُّفي أو التَّغَيُّر الارْتقائيِّ. وَهذَا يَعنِي أنّ التَّغَيُّر هُنَا يَخدِم النِّظَام فِي ثَباتِه واسْتقْراره، ولَا يُشكِّل أي خطر على الأدَاء الوظيفي الشَّامل لِلْمجْتمع، بل يزيد فِي عَمَليَّة اِتِّزانه ويعزز تكامله ويرسخ وتفاعله الدَّاخلي [82]. وهذَا الشَّكْل اَلجدِيد مِن التَّطَوُّر يَجعَل المجْتمع قادرًا على مُعَالجَة مُشْكلاته ومواجهة تحدِّياته بِشَكل فَعَّال، إِنَّه تَغيُّر اِجْتماعي إِيجابي يُمْكِن المجْتمع مِن تَحقِيق التَّفاعل والتَّوازن بِشَكل أَفضَل، وقد جَعلَت هَذِه الرُّؤْية لِلتَّغَيُّر مِن بارْسونْز أحد أَبرَز رُوَّاد الوظيفيَّة المحافظة على وَجْه الإطْلاق [83].
ويوضِّح بارْسونْز، فِي نظريَّته هَذِه، الكيْفيَّة اَلتِي تَتَغيَّر الأشْياء لِتبْقى على حالهَا فِي الوقْت نَفسِه، ويفْهم مِن ذَلِك أنّ نَظَريتَه هَذِه تَقتَرِن جَوهرِيا بِمفْهوم التَّوازن الاجْتماعي ( Equilibrium )، وَبمُوجب هَذِه النَّظريَّة فَإِن التَّغْييرات اَلتِي تَحدُث فِي أحد أَجزَاء النِّظَام تُؤدِّي إِلى رُدُود فِعْل مُغَايرَة تكامليًّا توازنيًّا فِي مُخْتَلِف مُكونَات النِّظَام الاجْتماعيِّ [84]، ومثال ذَلِك أَنَّه ” إِذَا فَشِل نِظَام الحزْب الدِّيمقْراطيِّ، سَيقفِز الجيْش إِلى سُدَّة اَلحُكم لِيسْتعيد النِّظَام، وَرُبمَا نتج عن ذَلِك وِلادة مُجتَمَع فَاشِي، لَكِن ثَمَّة تَوازُن فِي هذَا، وَرُبمَا نشأ نَوْع آخر مِن النِّظَام الاجْتماعي” [85].
لَم يَأخُذ بارْسونْز بِنظرِيَّة التَّطَوُّر الجدَلي المعقد التي نَجدُها عِنْد مَاركِس، وتجنُّب فِي الوقْت تقسه فِكْرَة التَّطَوُّر الخطِّي اَلبسِيط، وَفِي هذَا يَقُول ” إِنَّنا لَا نَتَصوَّر أن يَكُون التَّطَوُّر المجْتمعي عَمَليَّة مُسْتمِرَّة أو خَطيَّة بَسِيطَة، بَيْد أَنَّه يُمْكننَا التَّمْييز بَيْن مُسْتويات وَاسِعة مِن التَّقَدُّم، دُون إِغفَال التَّنَوُّع الهائل فِي كُلّ وَاحِدة مِنهَا ” [86]. ويميِّز بارْسونْز بَيْن ثَلَاث مَراحِل تَطورِية: البدائيَّة، والْمتوسِّطة والْحديثة. وقد مَيَّز بَيْن هَذِه المراحل على أَسَاس الأبْعاد الثَّقافيَّة فِي المقَام الأوَّل وَهِي الأبْعاد اَلتِي تُشكِّل “التَّطَوُّر الحاسم فِي الانْتقال مِن المرْحلة البدائيَّة إِلى المتوسِّطة هُو تَطوِير اَللغَة”[87]. وقد شرع بارْسونْز فِي مَرْحَلة لَاحِقة بِتحْلِيل التَّطَوُّر التَّاريخي لِبَعض المجْتمعات بدأ مِن الحالة البدائيَّة وانْتهاء بِالْحالة الحضاريَّة الحديثة. وَمِن اللَّافت أنّ بارْسونْز كان يُركِّز بِشَكل أَساسِي على فَعالِية الثَّقافة والْأنْظمة الرَّمْزيَّة فِي عَمَليَّة التَّغَيُّر الاجْتماعيِّ، وقد بدَا هذَا واضحًا جِدًّا فِي تناوله لِلتَّغَيُّر الاقْتصادي تَحْت المظَلَّة الثَّقافيَّة الرَّمْزيَّة، وَهُو بدلا مِن التَّرْكيز على الظَّواهر المادِّيَّة لِلتَّغَيُّر الاقْتصاديِّ، رَكَّز على السِّمَات الرَّمْزيَّة لِلاقْتصاد، وَنظَر إِلى اَلْمال على سبيل المثَال كَفِكرَة رَمزِية قَبْل أن يَكُون قُوَّة مادِّيَّة، وقد ربط بَيْن السُّلْطة السِّياسيَّة والنُّفوذ والالْتزامات القيمة الرَّمْزيَّة كَعامِل أَساسِي فِي عَمَليَّة التَّغَيُّر، وَهُو فِي كُلّ ذَلِك لَا يَأخُذ المفاهيم الاقْتصاديَّة على مَحمَل اَلجِد، وقد نظر إِلى العوامل الاقْتصاديَّة، مِثْل: الإنْتاج والتَّوْزيع وَدوْرَة الإنْتاج وعلاقاته والتَّنْمية الاقْتصاديَّة وَغيرِها مِمَّن المفاهيم المادِّيَّة وَفْق مَدخَل دَلالِي رَمزِي ومعْنَوي بِالدَّرجة اَلأُولى[88].
يلاحظ فِي هذَا السِّيَاق أنّ نَظَريَّة بارْسونْز التَّطوُّريَّة تَقُوم على مَبدَأ المماثلة التَّناظريَّة لِلْمجْتمع مع الكائن اَلحَي. ويأْخذ بِنموذج تَكاثُر الخلايَا فِي الجسد، ولَا سِيَّما الطَّريقة اَلتِي تَنقَسِم بِهَا اَلخلِية الحيَّة وتتكاثر. وقد لا يَخفَى على أحد الكيْفيَّة اَلتِي تَنشَطِر اَلخلِية الحيويَّة إِلى اِثْنتَيْن ثُمّ أَربَع ثُمّ ثَمانِية، وهكذَا دوالَيْك حَتَّى يَكتَمِل البنَاء اَلحَي لِلْجسد. وَعلَى صُورَة هذَا المشْهد، يرى بارْسونْز أنّ تَطوُّر المجْتمع الإنْساني يُمْكِن أن يَنظُر إِلَيه بِنَفس الطَّريقة. ” إذ يمكن أن ننظر إلى الْمجْتمعات البسيطة بوصفها خلايَا أُولَى تَنقَسِم فِي البداية إِلى أَربَعة أَنسَاق فَرعِية، وَهذِه بِدوْرِهَا تَنقَسِم ثَمانِية ثُمّ سِتّة عَشرَة، وهكذَا دوالَيْك وَهلُم جرًّا حتى يكتمل البناء الاجتماعي ويأخذ هيئة تطورية . وَهذِه العمليَّة تَمُر فِي مَراحِل ثَلَاث: يَبدَأ أَولُها بِمرْحَلة التَّمايز، إِذ يَقُوم النَّسق اَلفرْعِي اَلجدِيد بِتمْيِيز نَفسِه عن النَّسق اَلأصْلِي، ويأْخذ ترْتيبًا جديدًا لَه، ثُمّ يَمُر هذَا التَّرْتيب اَلجدِيد بِمرْحَلة التَّكَيُّف وانْدماج جديد. وأخيرًا، يَتِم تَشكُّل نسق لِلْقيم يلَكُون مَسؤُولا عن تَحقِيق التَّلاحم الثَّقافي والْوجودي فِي النَّسق اَلفرْعِي اَلجدِيد”[89].
وَفِي هذَا السِّيَاق التَّماثليِّ، يَتَناوَل بارْسونْز تَحوُّل المجْتمعات الزِّراعيَّة إِلى صِناعِيَّة، ويبْحث فِي الكيْفيَّات اَلتِي تفصل النَّسق الاقْتصادي عن نسق التَّنْشئة الاجْتماعيَّة. ” كَانَت العائلة فيمت مضى – فِي المجْتمعات البدائية – أو ما قَبْل الصِّناعيَّة- تُشكِّل وَحدَة إِنْتاجيَّة مُكتفيَة بِذاتِهَا تَمتَلِك أَرضَها، ويعمل أفرادها مجتمعين لِتحْقِيق الاكْتفاء الذَّاتيِّ. ومع تَطوُّر المجْتمع وَظهُور التَّصْنيع تمّ تَقسِيم العمل فظهرتْ المصانع والْمعامل والْمؤسَّسات الصِّناعيَّة والْإنْتاجيَّة، وَتَقلصَت وَظائِف اَلأُسرة، وانْحصرتْ وظيفتهَا فِي التَّنْشئة الاجْتماعيَّة الأوَّليَّة لِلْأطْفال فِي اَلمنْزِل. وَمِن أَجْل أن يَكُون هذَا الفصْل ناجحًا يرى بارْسونْز، أنّ هَذِه العمليَّة يَجِب أن تَكُون ذات قُدرَة تَكيفِية أَكبَر، لِذَا كان العمل فِي الوحدات الصِّناعيَّة أَكثَر كَفاءَة وعقْلانيَّة وإنْتاجًا في المستوى الاقتصادي، بيْنمَا تَقُوم العائلة بِوظيفة التَّنْشئة الاجْتماعيَّة بِكفاءة أَكبَر مِن ذِي قَبْل مع اِنتِزاع وظائفهَا الاقْتصاديَّة مِنهَا ” [90].
فالْمجْتمع، وَفَّق بارْسونْز، يَأخُذ صُورَة نِظَام يُغيِّر نَفسَه، ويتغَيَّر ذاتيًّا فِي اِتِّجاه تَحقِيق الاسْتقْرار والتَّوازن، وَكُل تَغيُّر فِي أي مِن عَناصِره يَحدُث تموُّجَات فِي العناصر اَلأُخرى اَلتِي تَتَكامَل فِي اِسْتجاباتهَا لِاحْتواء هَذِه التَّموُّجات وتوْظيفهَا فِي عَمَليَّة التَّوازن الاجْتماعيِّ. فَعلَى سبيل المثَال: إِذَا عَجزَت اَلأُسرة عن أَدَاء دوْرهَا المرْسوم لَهَا سيتدَخَّل المجْتمع، ويعوِّض غِيابهَا عن طريق تَقوِية جُزْء آخر مِن البنَاء الاجْتماعي كان يُركِّز على التَّنْشئة الاجْتماعيَّة فِي دَوْر الحضانة أو فِي رِيَاض الأطْفال أو فِي اَلأُسر البديلة[91].
والْخلاصة، يَخضَع النِّظَام الاجْتماعيُّ، وَفْق بارْسونْز، لِمطالب التَّغَيُّر وصيْروراته اَلتِي تُعزِّز التَّضامن الاجْتماعي دُون أن تَضُر بِه، وقد وُجِد أنّ مَفهُومي التَّوازن والضَّبْط الاجْتماعي لا يسْتبْعدان تَعرُّض البنْية الاجْتماعيَّة لِوضْعيَّات التَّغَيُّر فِي الأوْقات اَلحرِجة [92].
فالْأفْراد يتكيَّفون ويتفاعلون مع المواقف المتغيِّرة وفق العملية التي يُطلَق عليْه ” مُسَاومَة الأدْوار”؛ وَهِي العمليَّة يعتمدها الأفراد في تكيفهم مع المواقف الاجْتماعيَّة المسْتجدَّة، اَلتِي تَأخُذ فِيمَا بَعْد طابعًا مُؤسَّساتيًّا يُضْفِي عليْهَا طَابَع المشْروعيَّة الاجْتماعيَّة. وَعلَى هذَا الأسَاس عِنْدمَا تَغيَّب إِمْكانيَّة التَّكَيُّف مع مُسْتجدَّات الحيَاة الاجْتماعيَّة – بِسَبب الأزمات والتَّغيُّرات الجذْريَّة الحادَّة فِي المجْتمع – فَإِن المجْتمع يَتَعرَّض لِعملِيَّة التَّداعي والسُّقوط والتَّفكُّك والانْحلال، وَعلَى خِلَاف ذَلِك عِنْدمَا يَتَمكَّن المجْتمع مِن تَجاوُز أزماته والتَّغيُّرات الحادَّة اَلتِي يَتَعرَّض لَهَا فَإنَّه يَعمَل مِن جديد على تَولِيد تكْوينات اِجْتماعيَّة جَدِيدَة، وَتشكِيل تنْظيمات مُتَجددَة تُؤدِّي فِي النِّهاية إِلى وِلادة مُجتَمَع جديد بِصيغة مُختلفَة، وَفِي الحالة اَلتِي لَا يَستطِيع فِيهَا المجْتمع تَجاوُز أزماته الحادَّة فَإِن – كمَا نوَّهْنَا أَعلَاه – يَتَعرَّض لِلْموْت والْفناء والْهلاك. وقد أَطلَق بارْسونْز نَمُوذَج التَّغْيير الاجْتماعي اَلذِي يُنَادِي يه بِأَنه بِمصْطَلح “التَّوازن الدِّينامي “اَلذِي يُحقِّق اِسْتمْرار المجْتمع، ويؤكِّد وحْدته فِي مَسَار صَيرُورة اِجْتماعيَّة مُسْتمِرَّة .
10 – نَقْد بارْسونْز :
تَعرضَت نَظَريَّة بارْسونْز إِلى مَوجَة عَارِمة مِن النَّقْد السُّوسْيولوجي اَلمُكثف اَلذِي طال مُخْتَلِف جَوانِب نظريَّته الوظيفيَّة، فِي مُخْتَلِف مُسْتوياتهَا، وَفِي مُعظَم تجلِّياتهَا الفكْريَّة. وقد جاء هذَا النَّقْد مِن دَاخِل التَّيَّار الوظيفي نَفسُه، وَمِن خَارجِه أيْضًا فِي أَمرِيكا وَفِي أُورُوبا كما فِي مُخْتَلِف أَنحَاء العالم. وقد حَملَت نَظَريَّة بارْسونْز التَّبعات النَّقْديَّة لِلنَّظريَّة الوظيفيَّة بِوَجه عامّ، بِالْإضافة إِلى حُمولتهَا النَّقْديَّة الخاصَّة بِهَا. وقد لا نُبَالِغ فِي القوْل بِأنّ مُخْتَلِف الانْتقادات اَلتِي وُجهَت إِلى النَّظريَّة البنائيَّة الوظيفيَّة الكلاسيكيَّة قد وَجهَت مِن جديد وَبقُوة أَكبَر إِلى نَظَريَّة بارْسونْز الوظيفيَّة. ويمْكننَا تَصنِيف الانْتقادات الموجَّهة إِلى نَظَريَّة بارْسونْز إِلى اِنْتقادات أيْديولوجيَّة وَعلمِية وسيْكولوجيَّة وَشكلِية ومثاليَّة وتبْسيطيَّة .
10 – 1 – الطابَعُ الأيديولوجِيُّ لِنَظَرِيَّةِ بارسونز:
يَتَصدَّر النَّقْد الأيْديولوجي الحرَكة النَّقْديَّة ضِدّ وَظيفِية بارْسونْز، ويشكِّل هذَا النَّوْع مِن النَّقْد المساحة اَلْأَوسع مِن النَّقْد اَلذِي وَجَّه إِلى نَظَريَّة بارْسونْز اَلذِي يَنظُر إِلَيه بِوصْفه مَنْظَرا بُرْجوازيًّا مُثقَل بِالْحمولة الأيْديولوجيَّة ضِدّ كُلّ أَشكَال الأفْكار المارْكسيَّة والْيساريَّة اَلتِي تَتَعلَّق بِمخْتَلف المقولات المضادَّة لِنظام الرَّأْسماليِّ. وقد شَكلَت نَظَريَّة بارْسونْز دَرِيئَة لِلْهجوم مِن زَاوِية أيْديولوجيَّة، وَيَكاد يُوجد هُنَاك إِجمَاع مِن قَبْل النُّقَّاد والْمهْتمِّين بِأنّ نَظَريَّة بارْسونْز غَارِقة حَتَّى النُّخَاع فِي المسْتنْقع الأيْديولوجيِّ، ولَا رَيْب أنّ الطَّابع الأيْديولوجي يُهيْمِن على نظريَّته فِي مُخْتَلِف مُسْتويات التَّعْليل والتَّفْسير. وَيرَى كثير مِن النُّقَّاد والْمفكِّرين أنّ نَظَريتَه البنائيَّة لا تَعدُو أن تَكُون صوْغًا نظريًّا عِلْميًّا فِي مَظهَرِه أيْديولوجْيَا فِي جَوهَرِه ومتطرِّفًا فِي مُستَوَى تحيُّزاته الأيْديولوجيَّة. وقد تَعرضَت نَظَريَّة بارْسونْز لِلنَّقْد الأيْديولوجي الصَّارم مِن قِبل عدد كبير مِن عُلَماء الاجْتماع أَمثَال جُولْدِنر (Alvin gouldner) [93] ولوكْوود (Lochwood.D) [94] وكوزْر (Coser) [95]ودارنْدورْف (Dahrendorf) [96]. وقد أَكَّد مُعْظمهم أنّ بارْسونْز لَا يَعدُو أن يَكُون مَنْظَرا لِلْبرْجوازيَّة الأمْريكيَّة وَطَريقَة عيْشهَا، وقد جعل مِن نَفسِه دَاعِية لِترْسِيخ النِّظَام الرَّأْسمالي بِكلّ مَا يَنطَوِي عليْه مِن تناقضات ومظالم وصراعات، وَلذَا تَرَاه يَغُض النَّظر عن الأسْباب الحقيقيَّة المادِّيَّة لِلْحيَاة الاجْتماعيَّة والاقْتصاديَّة، ويرْهب فِي الوقْت نَفسِه فِكْرَة التَّغَيُّر الاجْتماعي اَلجذْرِي أو اَلثوْرِي فِي المجْتمع [97].
يمْكننَا القوْل فِي هذَا السِّيَاق: إِنّ نَظَريَّة بارْسونْز نَظَريَّة بُرْجوازيَّة بقْضهَا وقضيضهَا، وقد وَضعَت لِلدِّفَاع عن مشْروعيَّة النِّظَام الرَّأْسمالي اللِّيبْرالي اَلجدِيد فِي أَمرِيكا وَفِي العالم، وقد شَكلَت غِطَاء أيْديولوجْيَا لِلتَّعْمية على مَثالِب النِّظَام الرَّأْسمالي وَعيُوبه ونقائصه ووحْشيَّته. وقد بَينَت مُتابعتنَا لِلطَّابع الأيْديولوجي لِنظرِيَّة بارْسونْز، أَنَّه اِنطلَق مُنْذ البداية على مَسَار العدَاء اَلصرِيح لِلْمارْكسيَّة، وَكُل مَا يَمُت إِليْهَا بِصلة مِن رأى يَسارِية واتِّجاهات نَقدِية فِي عِلْم الاجْتماع. وقد بيِّنًا سابقًا بِأنّ بارْسونْز قد تَجنَّب فِي كِتابه اَلرئِيس الأوَّل “بِنْيَة الفعْل الاجْتماعي “أي إِشارة إِلى مَاركِس أو المارْكسيَّة مع أَنَّه تَضمَّن فُصولا كَامِلة عن سُوسْيولوجْيَا فِيبر وُدورْكهايم وسبنْسر وَأوغِست كَونَت وَألفِرد مارْشَال وباريتو، وَيدُل هذَا اَلموْقِف بِشَكل قَطعِي على تَحيزِه الأيْديولوجي اَلمخِيف ضِدّ المارْكسيَّة اَلتِي تُشكِّل عِلْميًّا وأيْديولوجيًّا وَفكرِيا قُوَّة فِكْريَّة مَركزِية فِي الفلْسفة وَعلِم الاجْتماع والاقْتصاد لا يُمْكِن لِأي كان أن يتجاهلهَا أو أن يُقلِّل مِن شأْنهَا، وَمِن البداهة أنّ تَجاهُل السُّوسْيولوجْيَا المارْكسيَّة يَعنِي طعْنًا فِي شرف العلم والْمعْرفة العلْميَّة، وقد أخذ بارْسونْز بِهَذا اَلحُمق الأيْديولوجي لِيجْعل مِن نَفسِه – مُنْذ اللَّحْظة اَلأُولى لِمسيرته العلْميَّة – عَدُوا سافرًا ضِدّ المارْكسيَّة ومنْطلقاتهَا الفكْريَّة. ويلاحظ فِي هذَا السِّيَاق أنّ بارْسونْز اِستمَر فِي تَجاهُل النَّظريَّة المارْكسيَّة ومقولاتهَا على مدى مسيرَته العلْميَّة، وَكَأنَّه يخْشاهَا، ويرْتَعد مِن أفْكارهَا اليساريَّة المعادية لِلْأنْظمة الرَّأْسماليَّة. وَيمكِن القوْل فِي هذَا اَلمقْصِد بِأنّ عَداوَة بارْسونْز لِلْمارْكسيَّة تُشكِّل أحد أَخطَر المثالب وأوْجه الضَّعْف فِي نظريَّته، وَيُؤخَذ عليْه إِن لَم يَكُن قادرًا على مُوَاجهَة الومْض الفكْر المارْكسي فَقضَى حياته مُتواريًا بعيدًا عَنهَا، وعن مقولاتهَا، ولم يَمتَلِك، اَلجُرأة قد على تَناوُل مُعْطياتهَا الفكْريَّة نقْديًّا، كمَا فعل أُسْتاذه الأكْبر ماكْس فِيبر. وقد أثارتْ نَظَريَّة بارْسونْز الحفيظة النَّقْديَّة لِلْمفكِّرين المارْكسيِّين فِي مُخْتَلِف أَنحَاء العالم، وَفِي هذَا المسَار يَقُول عَالَم الاجْتماع السُّوري خِضْر زَكَريَّا إِنّ بارْسونْز: “يَدعُو لِلْحفَاظ على النِّظَام الرَّأْسمالي القائم فِي بَلدِه ( أَمرِيكا )، ويسوِّغ علاقاته ومؤسَّساته وَأنظِمة اَلقُوة فِيه، بِوصْفِهَا اَلأُسس اَلتِي تَقُوم عليْهَا جميع المجْتمعات، أو على الأقلّ المجْتمعات المرْغوبة ( المسْتقرَّة، المتكاملة، اَلتِي تسودهَا القيم المشْتركة ) “[98].
وقد يُظْهِر الطَّابع الأيْديولوجي الضَّحْل لِنظرِيَّة بارْسونْز عِنْدمَا يُفسِّر مَسْأَلة التَّفاوت الاجْتماعي واللَّامساواة الاجْتماعيَّة بَيْن الأفْراد والطَّبقات بِطريقة دِيماغوجيَّة مُثيرَة لِلسُّخْرية، إِذ يرى بِأنّ اللَّامساواة بَيْن الأفْراد والطَّبقات تَعُود إِلى الفارق اَلمهْنِي فِي أَدَاء الأفْراد وتباين مهاراتهم، ويصوِّر لَنَا فِي هذَا السِّيَاق أنّ الأفْراد يتفاوتون اِجْتماعيًّا كَنَتيجَة طَبِيعَة لِأدائهم اَلمهْنِي، فبعْضهم يُؤدِّي عَملُه بِمهارة وجدِّيَّة وبعْضهم الآخر يُؤدِّي عَملُه بِطريقة سَلبِية كَسُولَة وَسيئَة، وَعلَى هذَا النَّحْو يَتَحدَّد وُجودهم الاجْتماعي بِمهاراتهم وكفاءاتهم وَمدَى اِسْتبْسالهم فِي العمل وقدْرتهم على الإنْجاز والْإبْداع. وتلْك هِي الطَّريقة اَلتِي يَتَجاهَل فِيهَا بارْسونْز قَوانِين الملْكيَّة، والصِّراع الطَّبَقيُّ، وَفائِض القيمة، وَملكِية وَسائِل الإنْتاج، والْأيْديولوجْيَا، والْقوَّة السِّياسيَّة، وَهِي اَلأُمور اَلتِي تَفعَل فِعْلهَا فِي تَولِيد التَّفاوت بَيْن البشر. وَممَّا لا شكّ فِيه أنّ تَأثِير هَذِه العوامل لَه دَوْر وَاضِح وبديهي فِي تَولِيد اللَّامساوة والتَّناقضات الاجْتماعيَّة، وَيُبنَى على ذَلِك أنّ مُسْتويات الكفاءة والْمهارة والْجدِّيَّة فِي العمل مَا هِي إِلَّا نِتَاج لِلنِّظَام الاجْتماعي القائم على الاسْتغْلال وَفائِض القيمة. وقد لَمس عَالَم الاجْتماع سمير نعيم أَحمَد فِي كِتابه النَّظريَّة فِي عِلْم الاجْتماع طُغْيان الطِّبَاع الأيْديولوجي فِي نَظَريَّة بارْسونْز إِذ يَقُول: “إِنّ تَأكِيد بارْسونْز على فِكْرَة التَّوازن، عن طريق اَلخُضوع لِلْمعايير السَّائدة المشْتركة بَيْن النَّاس، إِنَّما هُو تَحذِير ضِدّ أي تَمرُّد أو مُحَاولَة لِتغْيِير الأوْضاع القائمة كمَا أنّ اِفْتراضه أنّ هُنَاك قِيَما ومعايير مُشتركَة بَيْن جميع الأفْراد لا يَستَنِد إِلى أي أَدلَّة إِمْبيريقيَّة “[99].
وَبِدُورِه يُهَاجِم الْمُفَكِّر الْمَارْكِسِي س.ي. بوبُوف الطَّابِع السَّيْكُولُوجِي لِنَظَرِيَّة بِافْلُوف الْوَظِيفِيَّةِ، وَيَرَى بِأَنّ بَارْسُونز يُفَسِّر الظَّوَاهِر الِاجْتِمَاعِيَّة بِالظَّوَاهِر السَّيْكُولُوجِيَّةِ، وَيَرَى “أَنّ الْأَفْعَال الِاجْتِمَاعِيَّة لَا تُحَدِّدُهَا الأَسْبَاب الْمَادِيَةُ، بَلْ تَحَدَّدَهَا سَيَكُولُوجِيَّة الأَفْرَاد بِوَصْفِهِمْ مُمْثِلِين يَقُومُون بِأَدْوَار مُحَدَّدَة لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، تَحَدَّدَهَا الْقَيَم الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا مُطْلَقَةً وَأَبْدِيَةً، لِأَنّ مَصْدَرَهَا هُو مَجَال غَيْر حِسِّي أَوْ تَجْرِيبِيّ. أَيْ: إِنَّه اللَّهُ. وَهُنَا، يَتَّفِق بَارسُونز مَع كُلّ مَنْ يَسُوغُون لِلسَّلْطَة حُكْمَهَا فِي كُلّ زَمَان بِادِّعَاء أَنَّهَا مُمَثَّلَة لِإِرَادَة اللَّهِ” [100]. وَيَرَى بوبُوف أَنّ الْوَظِيفِيَّة -مِثْل غَيْرِهَا مِنْ النَّظَرِيَّات الِاجْتِمَاعِيَّة الْغَرْبِيَّة التَّقْلِيدِيَّة – تَدُور فِي حَلْقَة مُفْرَغَة لا تَسْتَطِيع الْخُرُوج مِنْهَا، وَهِيَ: أَنّ وَعِى الإِنْسَان (أَي سَيَكُولُوَجِيَّتِهِ) تَحَدَّد وُجُودُهُ. وعلى هذا الأساس يقرر بوبوف ” أنّ النَّظَرِيَّات الْوَظِيفِيَّة رَجْعِيَّة تُدَافَع عَنْ النِّظَام الرَّأْسَمَالِيِّ، وَعَنْ مَعَايِيرِه وَقَيِّمِه ولا سيما الْمِلْكِيَّة الْخَاصَّة لِوَسَائِل الْإِنْتَاج” [101].
10-2- غُمُوضُ النَظَرِيَّةِ:
يَجمَع نُقَّاد بارْسونْز، على كَثرتِهم، بِأنّ نَظَريتَه مُفعَمَة بِالْغموض مُثقَلَة بِالضَّبابيَّة، وِيصورْنهَا على أَنهَا مجرد مَتاهَة مِن الألْغاز والرُّموز والْألْفاظ اَلتِي تَستعْصِي على الإدْراك وتمتنع على الْفَهْم. وقد وجدْنَا أَنَّه لمن الصُّعوبة بِمكان فَهْم نَظَريَّة بارْسونْز مُبَاشرَة مِن خلال كُتُبه وأعْماله لِمَا تَنطَوِي عليْه مِن تدفُّقَات رَمزِية غَامِضة غَيْر مَفهُومة. وقد تَرتَّب عليْنَا أن نَقرَأ كثيرًا مِن الأعْمال العلْميَّة اَلتِي كَتبَت حَتَّى تَيسَّر لَنَا القبْض على مَفاصِل هَذِه النَّظريَّة واسْتشْراف أَبعَاد اَلغُموض السَّاكن فِيهَا. ومن الواضح كما تفيد الوقائع أن بارْسونْز يعدّ مِن أَوائِل المفكِّرين اَلجُدد الَّذين اِنْتقلوا بِالنَّظريَّة الوظيفية إِلى مُسْتويات عَالِية مِن التَّجْريد فِي مَجَال التَّنْظير الأكاديميِّ، وقد تَطلبَت نظريَّته توْظيفًا تجْريديًّا مُعَقدا لِلْمفاهيم اَلتِي يَصعُب اِسْتخْدامهَا بِبساطة فِي لُغَة الحيَاة اليوْميَّة. [102].
وَمِن اَلجدِير بِالْإشارة، فِي هذَا المسَار اَلنقْدِي، أنّ عَالَم الاجْتماع الأمْريكي اَلشهِير رايْتْ مِيلْز (C. Wright Mills)[103] مُؤلَّف “المخيَّال السُّوسْيولوجي “( The sociological Imagination )، قد اِطَّلع على كِتَاب بارْسونْز اَلرئِيس ” النَّسق الاجْتماعي “، فوجده مُخَيبا لِلْآمَال، بِمَا يَنطَوِي عليْه مِن تَعقِيد وضبابيَّة، وقد أَعلَن بِصراحة قائلا: “أنّ مَا يقوله بارْسونْز فِي هذَا الكتَاب “صَعْب على الفهْم حقًّا بل قد يَكُون مِن المسْتحيل فَهمُه “ [104]. ويتابع قَولُه بِأنّ “كُلّ مَا يفْعله بارْسونْز فِي نظريَّته هَذِه لَيْس أَكثَر مِن مُجرَّد تَلاعُب بِالْألْفاظ وبالْمفْهومات طُول الوقْت لِكيْ يَبدُو عميقًا فِي تحْليله لِلْقرَّاء، وبالتَّالي فَإِن مَا يُقَدمه لَيْس إِلَّا تأمُّلَات فِكْريَّة تَفتَقِر إِلى اَلأدِلة الموْضوعيَّة “[105]، ويؤكِّد فِي هذَا المضْمار، أنّ نَظَريتَه مُتخَمَة بِالْمفْهومات المعقَّدة والْألْغاز أَكثَر مِن المعْرفة العامَّة المتوفِّرة لَدى اَلجمِيع، والْمعْلومات اَلتِي تَنطَوِي عليْهَا تَحْتاج إِلى الاخْتبار لِلتَّأَكُّد مِن مِصْداقيَّتهَا [106].وَهذَا يَعنِي، أنّ بارْسونْز “لَم يُقدِّم لَم يُقدِّم فِي نظريَّته شيْئًا على الإطْلاق أَكثَر مِن صِياغَات لُغَويَّة تَبدُو عِلْميَّة، وَلَكنهَا فِي حَقِيقَة الأمْر تُخْفِي وَرَاءهَا أهْدافًا أيْديولوجيَّة وَاضِحة تمامًا لِمن يَملِك اَلقُدرة على التَّفْكير اَلنقْدِي، ويتلَخَّص هدف نظريَّته فِي شَغْل أَذهَان المحلِّلين الاجْتماعيِّين بِمسائل ثَانوِية، وصرْف اِنْتباههم عن فَحْص ودراسة المؤسَّسات والْأنْظمة الاقْتصاديَّة والسِّياسيَّة الفاعلة فِي الحيَاة الاجْتماعيَّة ” [107].لَقد ” حَوْل بارْسونْز كُلّ أَبنِية المجْتمع إِلى فضاءَات رَمزِية، واسْتطاع بِذَلك أن يُقدِّم تبْريرًا أخْلاقيًّا لِاسْتمْراريَّة الطَّبَقة البرْجوازيَّة فِي السُّلْطة والْبقاء فِي اَلحُكم، وأن يُضْفِي على حُكْمِهم الجائر صِفة المشْروعيَّة ” [108].
وَكمَا فعل مِيلْز، يُعْلِن إِيَان كريْب اِسْتيائه مِن نَظَريَّة بارْسونْز، ويؤكِّد غُموضهَا وسطْحيَّتهَا بِطريقة لا تَخلُو مِن التَّهَكُّم إِذ يَقُول: ” إِنّ نَظَريَّة بارْسونْز مَشهُورة بِصعوبتهَا على الفهْم، وَذلِك بِسَبب تعْقيدهَا أَكثَر مِنْه بِسَبب عُمْقِها كمَا أرى، فقراءة أعْماله تُذَكرنِي فِي بَعْض الأحْيان بِموظَّف مَسؤُول عن حِفْظ مِلفَّات العمل فِي شَركَة، وَهذَا اَلمُوظف أَذكَى مِن أن يُعيِّن فِي هذَا العمل المتواضع، وَلكَي يُبيِّن أَنَّه ذَكِي، ويتجاوز إِحْباطه مِن العمل، طَوَّر نِظامًا مُعَقدا يَأخُذ فِيه كُلّ مِلفّ فِي اَلشرِكة مكانًا خاصًّا بِه. وتكْمن المشْكلة فِي أنّ هذَا اَلمُوظف هُو الشَّخْص اَلوحِيد اَلذِي يَستطِيع تَسيِير نِظَام الملفَّات هذَا، وَمِن دُونه لَا يُمْكِن مَعرِفة مَكَان أي شَيْء ” [109]. وَيُؤَكِّد عَالِم الِاجْتِمَاع الْفَرَنُسِي جِي رُوْجِير (Guy Rocher) ( 1974) فِي هَذَا السِّيَاقِ، عُمْق التَّعْقِيد الَّذِي تَعَانَي مِنْه نَظَرِية بَارسُونز، وَيُورد لَنَا مِثَالًا طَرِيفًا عَنْ هَذَا التَّعْقِيد بِقَوْلِهِ: “إِنْ نَظَرِية بَارسُونز تُشْبِه الصَّنَادِيق الصِّينِيَّةَ، حَيْنَمَا تُفْتَح صُنْدُوقًا مِنْهَا تَجِد أَنَّه يَحْوِي صُنْدُوقًا آخَر بِدَاخِلِهِ، وَهَذَا الصُّنْدُوق بِدَاخِلِه صُنْدُوق أَصْغَر وَهَكَذَا دَوَالِيك” [110].
10-3- البَساطَةُ فِي الدَلالَةِ وَالمَعانِي:
وْمِن التَّعْقِيد فِي الْمَفَاهِيم وَالتَّلَاعِب بِالأَلْفَاظ إِلَى التَّبْسِيط السَّاذِج فِي الْمَعَانِي وَالدَّلاَلَةِ، يُعَاب عَلَى بَارسُونز وَالْوَظِيفِيَّيْن بِعَامَّة التَّرْكِيز الْهَائِل عَلَى الْمُمَاثَلَة الْبَسِيطَة السَّاذِجَة بَيْن الْجَسَد وَالْمُجْتَمِعِ، وَهُمْ يُقَدِّمُون هَذِه الْمُمَاثَلَةَ، وَكَأَنَّهَا كَشْف نَبَوِي يُوَازِي اكْتِشَاف نَيَوَتِن لِلْجَاذِبِيَّةِ، أَوْ أَنْشَاتَيْن لِلنَّسَبِيَّةِ، فَمَا أَبْسَط أَنْ تُتِمّ الْمُقَارَنَة بَيْن الْمُجْتَمِع وَالْجَسَدِ؟ وَمَا أَسْهَل الْقَوْل بِأَنّ مُكُونَات الْمُجْتَمِع تَتَكَامَل وَظَيفِيًّا كَمَا تَتَكَامَل أَعْضَاء الْجَسَدِ؟ وَقَدْ يَعْرِف الْقَاصِي وَالدَّانِي بِأَنّ فَكْرَة الْمُمَاثَلَة الْحَيَوِيَّة لِلْمُجْتَمِع قَدِيمَة قَدِم التَّارِيخُ، قَبْل نُشْأَة الْحَضَارَة الإِغْرِيقِيَّة وَالرُّومَانِيَّة وَالْفَرْعُونِيَّة الْقَدِيمَةِ. وَلَيْس أَدَلّ عَلَى بِسَاطَة هَذِه الْمُمَاثَلَة مِنْ وُجُودِهَا بِالْبَدَاهَة فِي صُلْب الثِّقَافَة الإِسْلاَمِيَّة الْحِيَاتِيَّة الْيَوْمِيَّة وَقَدْ جَاءَتْ هَذِه الْمُمَاثَلَة فِي الْمَقْدِس الإِسْلاَمِي قَوْلَه (صلى الله عليه وسلم) “مثْل الْمُؤْمِنِين فِي تَوَادِهِمْ وَتُرَاحِمَهُمْ وَتَعَاطُفِهُمْ مِثْل الْجَسَد إِذَا اشْتَكَى مِنْه عُضْو تَدَاعَى لَه سَائِر الْجَسَد بِالسَّهْر وَالْحُمَّى” [111]. ومَا كان هذَا القوْل اَلجمِيل البديهي يَحْتاج إِلى أي تَفسِير أو تَحلِيل، لِأَنه وَاضِح بذاته دون لبس أو غموض، ونعني بذلك، أنّ هَذِه المماثلة الوظيفيَّة سَاذِجة إِلى حدّ البداهة. ومع ذَلِك لا يَتَوقَّف بارْسونْز وإخْوانه مِن الوظيفيَّيْن عن التَّأْكيد عليْهَا وتكْرارهَا، وَكَأنهَا اِختِراع عَقلِي فريد فِي نَوعِه، أو اِكتِشاف كَونِي عَبقَرِي لَيْس لَه مثيل. وَمِن الواضح أنّ هَذِه المماثلة العمْياء بَيْن المجْتمع والْجَسد والْإصْرار على تفْنيدهَا وَشرَح بُنودَهَا تَشعُر القارئ بِالْغبْن اَلذهْنِي، وَكأَن الوظيفيَّة تَستَخِف بِعقول اَلقُراء وذكائهم. فالْوظيفيون كمَا يَقُول المثل العرَبي يجْعلون ” مِن الحبَّة قُبَّة “، والتَّمْثيل البيولوجي لَا يَتَعدَّى قدرة الأطفال الصغار على الفَهْم دُون أَدنَى جدّ أو كدّ أو اِجتِهاد عَقلِي. وقد نَجِد هذَا التَّبْسيط فِي كثير مِن مَناحِي النَّظريَّة البنائيَّة، وَفِي مُخْتَلِف تجلِّياتهَا؛ وقد شَكَّل هذَا التَّبْسيط مُنطَلَق الوظيفيَّيْن فِي اِسْتخْدام التَّعْقيد اَلممِل فِي تناول المفاهيم والتَّصوُّرات، وَذلِك لِتغْطِية مَنطِق السَّذاجة فِي نظريَّتهم، وإظْهارهَا على أَنهَا فَعالِية ذِهْنيَّة فِكْريَّة مُتَطورَة بِامْتياز.
وقد اِكتشَف مِيلْز هذَا الجانب، وَكشَف غِطَاء المسْتور الوظيفي عِنْد بارْسونْز وَغيرِه مِن الوظيفيَّيْنِ، وَذلِك عِنْدمَا قام فِعْليًّا بِإعادة تَلخِيص نظريَّته الوظيفيَّة بِلغة مُبَسطَة، وقد وُجِد أنّه يمكن تلخيص كل مَا يُريد بارْسونْز قَولُه فِي وسط هذَا الرُّكَام الهائل مِن كُلّ التُّرَّهات الفكْريَّة اَلتِي أَحَاط نظريَّته الوظيفيَّة بِهَا فِي الفقْرة الآتية: ” هُنَاك نسق اِجْتماعي يَقُوم فِيه الأفْراد بِأفْعَال بَعضهم تُجَاه بعْضهم الآخر، وَهذِه الأفْعال عَادَة مَا تَكُون مُنَظمَة، لِأنّ الأفْراد فِي النَّسق يشْتركون سويًّا فِي الاعْتقاد بقِيم مُعَينَة، وبأَسالِيب مُنَاسبَة لِلسُّلوك. وبعْض هَذِه القيم يُمْكِن أن نُسَميهَا مَعايِير سلوكية. وَالذِين يتَّبعون هَذِه المعايير يتصرَّفون بِشَكل مُتَشابِه فِي المواقف المتشابهة، وَهذَا مَا يُحقِّق الانْتظام فِي المجْتمع، أو مَا نُسَميه بِالتَّوازن الاجْتماعي (Social equilibrium)، وَهذَا التَّوازن مُهِم جِدًّا لِلْمجْتمع. ويتحَقَّق التَّوازن وَتتِم المحافظة عليْه عن طريق أُسْلوبيْنِ: التَّنْشئة الاجْتماعيَّة (Socialization) من جهة، والضَّبْط الاجْتماعي ( Social control) من جهة أخرى والْأسْلوبان مُكملَان بعْضهمَا بعْضا، وهدفهمَا جَعْل الأشْخاص فِي المجْتمع ينْصاعون لِلْمعايير اَلتِي تُوجَد فِي النَّسق الاجْتماعيِّ، فَإذَا مَا فَشِل التَّطْبيع الاجْتماعي فِي جَعْل الأشْخاص يتَّبعون المعايير فَإِن الضَّبْط الاجْتماعي يُجْبرهم على ذَلِك “[112].
10-4 – نَقْدُ المُماثَلَةِ بَيْنَ المُجْتَمَعِ وَالجَسَدِ:
يحْمَل التَّرْكِيز عَلَى الْمُمَاثَلَة بَيْن الْمُجْتَمِع الْجَسَد كَثِير مِنْ الْمَثَالِب وَالْعَوَاقِب غَيْر الْمَنْطَقِيَّةِ، فَالنَّسْق الِاجْتِمَاعي لَيْس لَه أَعْضَاء حَاسَّة يَسْتَطِيع أَنْ يَسْتَشْعِر الْحَاجَة بِوِسَاطَتِهَا كَمَا يَجْرِي فِي الْجَسَد [113]. فَالنِّظَام التَّعْلِيمِي لَا يُشْعِر بِحَاجَاتِه كَمَا يُشْعِر الْجِسْم بالْجُوْعَ، فَالأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة لَيْس أدوات تتحسس بها حاجاتها، وليس لها قدرة على تحديد أَهْدَافها كَمَا يَحْدُث فِي الْجَسَد أَوْ فِي مُسْتَوَى الْأَفْرَاد لِلْأَفْرَاد [114]. وَالْفَرْق بَيْنَهُمَا، هُو أَنّ الْكَائِن الْإِنْسَانِي مَكُون مِنْ أَجْزَاء عضوية، لَا يَسْتَطِيع أيّ مِنْهَا أَنْ يُفَكِّر بِمُفْرَدِهِ، وَهَذِه الْأَجْزَاء يُوَجِّهُهَا جُزْء وَاحِد قَادِر عَلَى ذَلِكَ، وَهُو الدِّمَاغُ، إذْ لَا تَسْتَطِيع الْمَعِدَة أَنْ تَتَحَدَّث مَع الْقَدَمَيْنِ، ولا يستطيع الذَّيْل أن يطالب بِمَكَانَة أَفْضَل فِي الْجَسَدِ. ومع ذلك يماثل بَارسُونز بين الجسد والبناء الاجتماعي على مبدأ الإطلاق: فالمجتمع كما يتصوره مُكَوَّن مِنْ أَجْزَاء قَادِرَة عَلَى التَّأَمُّل وَالتَّفْكِير أَثْنَاء قِيَامِهَا بِأَدْوَارِهَا، وهذا أمر غريب حقا لأن الصِّلَة الْعَضْوِيَّة بَيْن أَجْزَاء الْجِسْم مُخْتَلِفَة كُلّ الِاخْتِلَاف عَمَّا يَجْرِي فِي بِنِيَّة الْمُجْتَمِعِ، وَمِنْ الْغِرَابَة بِمَكَان أَنّ بَارسُونز لَمْ يُكَلَّفْ نَفْسَه عَنَاء الْبَحْث عَنْ طبيعة الِاخْتِلَاف الْجَوْهَرِيَّة بَيْن الْبِنَاء الِاجْتِمَاعي وَالْجَسَد [115].
وَيُشِير إيَّان كُرَيْب، فِي هَذَا السِّيَاقِ، إلَى مَخَاطِر هَذَا التَّنَاظُر السَّاذِج بَيْن الْجَسَد الْحَي وَالْبِنَاء الِاجْتِمَاعِيِّ، وَيَرَى أَنّ الْوَظِيفِيَّة الْبَارِسَونَزِيَّة قَدْ أَخْفَقْتْ كُلِّيًّا فِي التَّمْيِيز بَيْن وَظَائِف الْأَنْسَاق الْعُضْوِيَّة ووظائف الْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّةِ: وَأَدَّى عَدَم التَّمْيِيز بَيْنَهُمَا إلَى تَعْمِيم خَاطِئ يُمَاثِل بِالْمُطْلَق بَيْن الْجَسَد وَالْمُجْتَمِعِ، وأدى ذلك أيضا إلى الاعتقاد بأن وضعية الْجَسَد ووظائفه تَعَبَّر عَنْ وَاقِع الْمُجْتَمَعَات الْإِنْسَانِيَّة في تكويناتها وآليات اشتغالها، وعلى هذا الأساس نظر الوظيفيون إلَى الْأَفْرَاد بِوَصْفِهِمْ كَائِنَات عُضْوِية بِكُلّ خفة عقلية وسَذَاجَة فكرية [116] .
وَيَذْهَب بَعْض النَّقَاد إلَى أَنَّه لَا يُمْكِن الْبُرْهَان عَلَى أَنّ الْأَنْسَاق الِاجْتِمَاعِيَّة مُزَوَّدَة بالقدرة على تحسسِ حاجاتها ومتطلباتها، كما يَحْدُث فِي حَالَة الْجَسَدِ ويرون بأن هذا القول نمط من المغالطة أو اللامعقول، وَيَرَى بَعْضهم الآخر أَنّ هَذَا الِافْتِرَاض يَفْتَقِر إلَى الْمَعْنَى وَالْمُصَدَاقِيَّةِ، ولا يمكن في هذا المسار البرهنة على صلاحية هذه الفرضية؛ ومن أجل البرهان عليها وإثْبَات صِحَّتها يفترض البحث عن مُجْتَمَعَات انْقَرَضَتْ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعْ تَلْبِيَةً مُتَطَلِّبَات وُجُودُهَا الْوَظِيفِي وإثبات حدوث هذا الانقراض”[117]، كَمَا يَتَطَلَّب هذا الأمر الْكَشْف عَنْ الْأَسْبَاب الَّتِي أَدَّتْ إلَى انْقِرَاض مِثْل هَذِه الْمُجْتَمِعَاتِ، “وَإِذَا مَا اسْتَثْنَيْنَا الْمُجْتَمِعَات الْقَلِيلَة جِدًّا، فَمِنْ الصُّعُوبَة إيجَاد مِثَال وَاحِد عَلَى صُورَة هَذَا الِانْقِرَاضِ، وَيَبْدُو أَنّ مَا يَحْصُل عَادَةً هُو أَنّ الْمُجْتَمِع الْأَقَلّ تَكِيفًا لِبَيْئَتِه يُتِمّ احْتِوَاؤُه عَبَّر غَزْو عَسْكَرِي أَوْ اقْتِصَادِي بِوَاسِطَة مُجْتَمِع آخَر أَفْضَل مِنْه تَكَيُّفًا” [118].
وَقَدْ بَيَّنَتْ اَلدِّرَاسَات اَلْأَنْثُروبولوجُيَّة أَنّ اَلْمُجْتَمَعَات اَلْمُنْقَرِضَة لَا تَخْتَفِي بِصُورَة كُلِّيَّة بَلْ تَبَقَّى لِتَأْخُذ صُورَةً مُعَدَّلَةً أَوْ قَدْ يَتِمّ اِحْتِوَاؤُهَا مِنْ قَبْل مُجْتَمَعَات أُخْرَى أَكْثَر تَكَيُّفًا وَقُدْرَة عَلَى اَلِاسْتِمْرَار فِي اَلْوُجُودِ. وَقَدْ بَيَّنَتْ اَلدِّرَاسَات اَلْأَنْثُروبولوجُيَّة ” أَنّ بَعْض اَلْقَبَائِل اَلْأَمْرِيكِيَّة اَلْأَصْلِيَّة فِي أَمْرِيكَا قَدْ أُبِيدَتْ عَنْ بَكْرَة أَبِيهَا بِالْغَزْو اَلْعَسْكَرِيِّ، بَيْنَمَا ظَلّ اَلْبَعْض اَلْآخَر مِنْهَا إِلَى اَلْيَوْم لَه هُوِيَّتِه اَلْخَاصَّة بِه فِي اَلْمُجْتَمَع اَلْأَمْرِيكِيِّ. وَيَبْدُو أَنّ اَلْفَرْق بَيْن اَلْقَبَائِل اَلَّتِي أُبِيدَتْ وَتِلْك اَلَّتِي بَقِيَتْ عَلَى قَيْد اَلْحَيَاة يَعْتَمِد فِي جَانِبِه اَلْأَكْبَر عَلَى اَلظُّرُوف اَلسِّيَاسِيَّة لِلْغُزَاة اَلْبَيْض أَكْثَر مِنْ أَي شَيْء آخَرَ، فَضْلاً عَنْ أَنّ مَعْنَى اَلْبَقَاء بِالنِّسْبَة لِأُولَئِك اَلَّذِين بَقُوا عَلَى قَيْد اَلْحَيَاةِ، هُو فِي حَدّ ذَاتِه مَسْأَلَةً تُثِير اَلْجَدَل ” [119]. وَالْحَقّ يقال: إَنّ اَلْمَوْقِف اَلْبَارْسُونْزِي لَا يُمْكِن قَبُولُه إِلَّا فِي اَلْحَالَة اَلَّتِي تَكُون فِيهَا اَلْمُجْتَمَعَات اَلْبَشَرِيَّة في تماثل مطلق مع الْأَنْوَاع اَلْحَيَوَانِيَّة تَمَامًا إذ تُقَاتِل بَعْضُهَا لِلْبَقَاء، فَيَفُوز اَلْأَصْلَح مِنْهَا وينقرض الأضعف والأكثر قصورا. ويَرَى اَلنُّقَّاد إن القول بوجود حاجات للنَّسَق اَلِاجْتِمَاعي لَا يُفَسِّر لنا الكيفية التي تتم فيه تلبية هذه اَلْحَاجَاتِ. وَقْد يَصِحّ اَلْقَوْلُ: إِنّ اَلْمُجْتَمَعَات اَلصِّنَاعِيَّة اَلْحَدِيثَةَ، عَلَى سَبِيل اَلْمِثَالِ، تحتاج دائما إِلَى نِظَام تَعْلِيمِي مُتَطَوِّر ومع ذلك فإن دولا مثل بِرِيطَانْيَا وَفَرَنْسَا وَأَمْرِيكَا- وَهِي مُجْتَمَعَات عَلَى نَفْس دَرَجَة اَلتَّطَوُّر تَقْرِيبًا- لَهَا أَنْظِمَة تَعْلِيمِيَّة مُتَبَايِنَةٌ. وهذا يعني أن َالْحَاجَة الاجتماعية يُمْكِن تَلْبِيَتَهَا بِعِدَّة طُرُق، ومرة أخرى فإن َمُجَرَّد اَلْإِعْلَان عَنْ وُجُودِهَا لَا يُفَسِّر شَيْئًا عَنْ كَيْفِيَّة تَلْبِيَتِهَا [120].
وَفِي سِيَاق آخَرَ، يَرَى إيَّان كُرَيْب، فِي تَنَاوُلِه النَّقْدِي لِنَظَرِيَّة بَارسُونز، أَنّه يُفَسِّر وُجُود الْأَشْيَاء بِوَظِيفَتِهَا، وَهَذَا مُخَالِف لِلْمَنْطِقِ، إذْ كَيْف يمكن لْوَظِيفَة الشيء أن تسبق وُجُودَه؟ وَيَقُول فِي مُعْرِض نَقْدُه هَذَا: ” إنّ تَفْسِير وُجُود شَيْء مَا بِوَاسِطَة الْوَظِيفَة الَّتِي يُؤَدِّيهَا يَعْنِي تَحْوِيل فِكْرَة السَّبَب إلَى لَغْو فَارِغ، ذَلِك أَنّ إشْبَاع وَظِيفَة مَا – وَفْق هَذَا الْمَنْطِق – لَا يَتِمّ إلَّا إذَا وُجِد الشَّيْء أَوَّلًا، وَهَذَا يَعْنِي قَلْب التَّرْتِيب الزَّمَنِي لِلْعَلَاقَة بَيْن السَّبَب وَالنَّتِيجَة مُنْطَقِيًّا ” [121].
10-5 – إِهْمالُ الجانِبِ المَيْدانِيِّ:
بدَا واضحًا، فِي مُخْتَلِف الجوانب اَلتِي تناولْناهَا فِي نَظَريَّة بارْسونْز، أنّ أفْكاره وتصوُّراته تَصُب فِي المنْحى المثالي لِلتَّفْكير، وَفِي هذَا المقَام يَقُول رايْتْ مِيلْز: ” لَقد حَوْل بارْسونْز المجْتمع بِأسْره إِلى مُجرَّد قِيم ومعايير، أو إِلى رُمُوز مُجَردَة تُوجَد مُسْتقِلَّة عن البشر، وَتفرِض عَليهِم سُلْطانهَا، وأغْفل تمامًا الأسَاس الاقْتصادي والسِّياسي لِلْمجْتمع، وَعبَّر بِوضوح عن اِنْحيازه الأيْديولوجي لِلطَّبَقة الحاكمة، والْإنْسان عِنْده غَيْر قَادِر على تَغيِير هَذِه الأنْساق القيميَّة، وَلكِن عليْه أن يَخضَع لَهَا ويتكَيَّف مَعهَا ” [122].
رُبمَا قد يَكُون بارْسونْز قد بَالِغ حَقِيقَة فِي الإيمان بِقدْرَته على فَهْم المجْتمع واسْتكْشاف مُخْتَلِف مَناحِيه وإدْرَاك قضايَاه بِطريقة مُجَردَة تَعتَمِد على التَّأَمُّل اَلمُجرد والتَّنْظير الخالص. وَهذَا يَعنِي أنّ بارْسونْز أَطلَق لَمخِّياله السُّوسْيولوجي العنَان، وأصْبح مَفتُونا بِنظريَّته اَلتِي زعم بِأنَّهَا قَادِرة على اِسْتكْشاف الواقع وتحْليله وَفهمِه. وليْس غريبًا عليْه ذَلِك، وَهُو المفْتون بِذاته والمختال بقدرته على البناء التجريدي، ويعبِّر عن ذَلِك واصفا نَفسِه ” بِأَنه مُصَاب بِدَاء التَّنْظير “.
ويسْتنْتج أنّ بارْسونْز قد أَهمَل الجانب الإمْبيرْقي الميْداني كُلِّيًّا فِي نظريَّته، ولم يَأبَه لِلْوجود الواقعي الحسِّي العياني الميْداني لِلْمجْتمع، ومع ذَلِك لَم يَكُن قادرًا على اِختِبار نظريَّاته ومفاهيمه المجرَّدة، لِأَنه كان يُحلِّق عاليًا جِدًّا فِي عَالَم المجرَّدات والْمفاهيم المنْطلقة مِن عِقالِهَا النَّظَريِّ، لِيرْسم لَنَا سُوسْيولوجْيَا أيتوبيَّة خَيالِية خَارِج مدارَات الحيَاة الواقعيَّة الفعْليَّة. وقد عَبْر كثير مِن المفكِّرين عن الصُّعوبة البالغة فِي اِسْتنْباط فرْضيَّات أو مقولَات مِن نَظَريَّة بارْسونْز قَابِلة لِلاخْتبار فِي مَجَال الواقع الاجْتماعيِّ. وَكَان يُفتَرَض بِبارْسونْز أن يَتَنازَل قليلا عن سَطوَتِه النَّظريَّة، وأن يَقتَرِب مِن الحيَاة لِيبْحث فِي وَاقِع المجْتمع وفي تجلياته العيانية، أيّ: أي أن يُبْدِي اِهْتمامًا حقيقًا بِالْواقع الاجْتماعي الإمْبيرْقي والْميْداني لِحياة النَّاس ووجودهم الواقعي فِي نظريَّته. ولو أخذْنَا على سبيل المثَال نَظَريَّة بارْسونْز عن أَنظِمة الفعْل الأرْبعة، فَإنَّه لا يُمْكننَا أبدًا أن نَجِد مَا يُمَاثِل هذَا التَّصَوُّر فِي الواقع، فالْعناصر الأرْبعة غَيْر مَوجُودة فِي العالم الحقيقيِّ، بل هِي أَدوَات تحْليليَّة قد تَكُون غَيْر قَادِرة أبدًا عن تَحلِيل العالم الحقيقي المتدفِّق بِالْمعْطيات الميْدانيَّة المعقَّدة [123].
ويعد إيان كريب من أكثر المفكرين نقدا لنظرية بارسونز التي تعاني من السيطرة العمياء للتجريد المسرف المبتذل في تناول المجتمع من علٍ، وقد أظهر المثالب التنظيرية التجريدية التي أعمت بارسونز عن معاينة الحقيقة الاجتماعية في أماكن وقوعها، أي في الداخل الاجتماعي الحيوي المصقول بتجربة الناس وحياتهم الواقعية. يقول إيان كريب في هذا المضمار ” إن مفهومات بارسونز. كالوحدة، والفعل وأدوار المكانة، والنسق الاجتماعي، إلخ – كلها تجريدات، وهناك مستويات من التجريد. ولو رجعنا إلى مثال اللون الأحمر الذي ذكرناه سابقا، لوجدنا أن ثمة درجة عليا للتجريد (اللون) يكون الأحمر أحد أشكالها، وهناك درجة أدنى للتجريدات الأحمر الغامق الأحمر الفاتح، الوردي إلخ). وهناك درجة دنيا للتجريدات التي تتضمن إضافة خصائص أخرى أحمر غامق ودائري). ويمكن لهذه العملية أن تستمر إلى أن نصف شيئا معينا مثل: الجسم المطاطي المدور الذي قطره يساوي إنشات الموجود أمامي على الأرض، أي هذه الكرة. وهذا المثال يعرّفنا بصعوبات نظرية بارسونز، حيث إن أكثر تلك النظرية صيغت بطريقة تشبه طريقة وصفنا لهذه الكرة «الحمراء الغامقة، إلخ” [124].
10-6- التَوازُنُ وَالتَغَيُّرُ الاِجْتِماعِيّ:
يَنْظُر بَارْسُونز إِلَى الصِّرَاع الِاجْتِمَاعي بِوَصْفِه وَبَاءً بِشَرِيًّا، وَيَرَى بِأَنّ مُعَظَّم وَظَائِفَهُ- إنْ لَمْ تَكُنْ كُلَّهَا – سَلَبِيَّةً. وَشَكَلَتْ هَذِه الْفُكْرَة مِثَار نُقِض وَنَقَد وَاسْتِيَاءً مَنْ قَبْل عَدَد كَبِير مِن الْمُنْظَرِين الْعُمَالَقَةِ، أَمْثَالٌ: كَوَزْر وَدَارَنْدُورِف وَكَوْلَيْنِز الرَّوَاد الْمُحَدِّثِين لِنَظَرِيَّة الصِّرَاعِ.
وْمِن الطَّبَعي أَنّ فَكْرَة بَارسُونز حَوْل سَلَبِيَّة الصِّرَاعِ، تَتَعَارَض مَع أَشْكَال التَّفْكِير الْمَارْكِسِي وَالْفَيْبَرِيِّ، وَتَتَنَاقَض مَع مُعْظَم النَّظَرِيَّات السُّوسِيُّوَلَوْجِيَّة الْقَدِيمَة وَالْحَدِيثَةِ، الَّتِي تَنْظُر إِلَى الصِّرَاع الِاجْتِمَاعي بِوَصْفِه قُوَّة اجْتِمَاعِيَّة مُحَرَّكَةً لِلتَّارِيخِ. لَقَدْ وَقَع ب بارسونز ونَزّ فِي رَفْضِه لِلصِّرَاع الِاجْتِمَاعي فِي خَطَأ قَاتِل أَدَّى لَاحِقًا إِلَى رَفْض نَظَرِيَّتِه بِقَضِّهَا وَقَضِيضُهَا مِنْ قِبَل جَمْهَرَة الْكِتَاب وَالْمُفَكِّرِينَ؛ وَذَلِك لِأَنّ مُعْظَم الْمُفَكَّرِين وَالْبَاحِثِين يَنْظُرُون إِلَى الصِّرَاع بِوَصْفِه قُوَّة مُحَرَّكَة دِينَامِية فِي الْمُجْتَمِعِ، تُؤَدِّي إِلَى التَّغْيِير وَالتَّمَاسُك وَالْوَحْدَةِ، أَوْ التَّغْيِير وَالثَّوْرَةِ. فَالْمُجْتَمِع لا يُمْكِن أَنْ يَكُون كَتْلَةً وَاحِدَةً صَامِتَةً سَاكِنَةً سُكُون الْمَوْتِ، كَمَا يُرِيدُه بارْسُونز .
وَيَرَى بَعْض الْمُفَكِّرِين أَنْ خَطَأ بارْسُونز القاتل يَكْمَن فِي ابْتِعَادِه عَن الْوَاقِع وَالتَّمَتْرُس خَلْف الْمَفَاهِيم الْمُجَرَّدَةِ، وَالْمُقُوِّلَات التَّأَمُّلِيَّةُ، الَّتِي اسْتَخْدَمَهَا فِي مُحَاوَلَة مِنْه لِفَهْم الْوَاقِع دُون أَنْ يَلِجّ فِيهِ، وَدُون أَنْ يَعْتِرَك فِي ظَوَاهِرِهِ، وَأَنْ يَدْخُل فِي مَتَاهَاتِه الْمَعْقَّدَةَ. وَنَحْن نُرَجِّح أَنّ مَوْقِف بارْسُونز مِن الصِّرَاع كَان بِتَأْثِير نَزَعَتْه الْفَاضِحَة لِتَأْيِيد الِاسْتِقْرَار وَالتَّوَازُن فِي الْمُجْتَمِع الرَّأْسَمَالِي فِي النِّصْف الثَّانِي مِن الْقَرْن الْعِشْرِينَ. وقد أَدِّى اسْتِخْدَام بَارسُونز لِأَدَوَات مَفَاهِيمِيَّة مِثْل أَنْظِمَة الْفِعْل الْأَرْبَعَةِ، وَالضَّرُورَات الْوَظِيفِيَّة، إِلَى اتِّهَامِه بِأَنَّه قَدَّم نَظَرِيَّة بُنَيْوِية غَيْر قَادِرَة عَلَى التَّعَامُل مَع التَّغْيِير الِاجْتِمَاعي[125]. وَلِطَالِمًا كَان بارْسُونز حِسَاسًا لِهَذِه التُّهْمَةِ، وفي السِّتِّينِيَّات مِنْ الْقَرْن الْعِشْرِين لَمْ يُعُدْ قادرا على مُقَاوَمَة الْهُجُومِ، فانكب على ِدَرَاسَة التَّغْيِير الِاجْتِمَاعِيِّ، وَعَلَى وَجْه الْخُصُوص دَرَاسَة التَّطَوُّر الِاجْتِمَاعِيّ [126].
وَفِي هَذَا السِّيَاق يَرَى نَقَاد بَارْسُونز، أَنّ نَمُوَذِجَه الْوَظِيفِي عَاجِز عَنْ تَفْسِير ظَاهِرَتَيْ الصِّرَاع وَالتَّغَيُّر الِاجْتِمَاعِيِّ، ذَلِك أَنَّه يُرْكُز أَسَاسًا عَلَى التَّوَازُن الِاجْتِمَاعي وَالتَّبَادُل الْمُتَكَافِئ وَالْعِلَّاقَات الْوَظِيفِيَّةِ. وَقَدْ شَبَّه دَارَنْدُورِف Dahrendorf نَظْرِية بَارسُونز بِالْيَوْتُوبِيَا الْأُدْبِيَةِ، أَيْ بِرُؤْيَة الْمُجْتَمِع كَمَا لَوْ أَنَّه فِي غَايَة فِي الْكَمَال أَوْ السُّوءِ، وَهِي رُؤْيَة تَفْتَقِد الْحِسّ بِالتَّارِيخِ، وَلَا يُمْكِن اعْتِمَادُها أَبَدًا فِي دِرَاسَة مَصْدَر التَّغَيُّر الِاجْتِمَاعي سَوَاء أَكَان خَارِجِيًّا أَوْ دَاخِلِيًّا. [127]. وَغَالِبًا مَا يَرْكُز النَّقَاد عَلَى أَنّ نَظْرِيَّة بَارسُونز مَجْبُولَةً بِالِانْحِيَاز الْأَيْدِيوَلِوَجِي إلَى مَبْدَأ الْمُحَافَظَة وَالتَّوَازُن وَالِاسْتِقْرَارِ، وَهِي مُنَاسَبَة جِدًّا لِلْمُجْتَمِع الْبُرْجَوَازِيِّ. إذْ يُنْظُر بَارسُونز إلَى عَدَم الْمُسَاوَاة فِي الثَّرْوَةِ، وَإِلَى ظَاهِرَة الصَّرَاع الطَّبَقِي بِوَصْفِهِمَا ظَاهِرَتَيْن وَظَيفِيَّتَيْنِ، فَعَالَتَيْن لِلْمُحَافَظَة عَلَى اسْتِمْرَار النَّسْق وَتَحْقِيق التَّوَازُن الِاجْتِمَاعِيُّ، وَهَذَا الْأَمْر يَشْمَل ظَوَاهِر أُخْرَى مِثْل تَبَايُن الْمَكَانَة الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتُوَزَّع السَّلْطَة وَتَبَايُن النُّفُوذِ، وَهِي ظَوَاهِر تَسَاعُد النَّسْق فِي تَحْقِيق أَهْدَافِهِ، وَهَكَذَا فَكُلّ شَيْء يَجْرِي فِي الْمُجْتَمِع يُحَدِّث وَكَأَنَّه يُمَارِس وَظِيفَة التَّوَازُن وَالضَّبْط الِاجْتِمَاعِيُّ. [128]. وَفِي مَسَار التَّعْلِيق عَلَى هَذِه التَّصَوُّرَات الْبَارسُونزيَّة يَقُول مُيْلِز :” إنّ تَأْكِيد بَارسُونز عَلَى فِكْرَة التَّوَازُن عَنْ طَرِيق الْخُضُوع لِلْمَعَايِير السَّائِدَة وَالْمُشْتَرَكَة بَيْن النَّاسِ، إنَّمَا هُو تَحْذِير مِنْ أَي تَمَرُّد أَوْ مُحَاوَلَة لِتَغْيِير الْأَوْضَاع الْقَائِمَة ” [129].
وَبِاخْتِصَار تَجَاهُل فيبَر أَهْمِيَّة التَّغَيُّر الِاجْتِمَاعِيَّ، وَبَالِغ فِي تَأْكِيدِه عَلَى أَهْمِيَّة التَّوَازُن وَالِاسْتِقْرَار فِي الْمُجْتَمِعِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقَدِّم رُؤْيَةً مَوْضُوعِية لِأَهْمِيَّة الصِّرَاع وَالتَّغْيِير فِي الْمُجْتَمِعِ، وَيُعَدّ هَذَا الْأَمْر يُعَدّ مِنْ أَكْبَر نَقَائِص وَنَقَائِض وَعُيُوب نَظَرِيَّة بَارسُونز الْوَظِيفِيَّةِ.
10-7- الموْقِف اَلنقْدِي لِبَعض المفكِّرين مِن نَظَريَّة بارْسونْز :
لَا يَكتَمِل المشْهد اَلنقْدِي لِنظرِيَّة بارْسونْز الوظيفيَّة مَا لَم يُشِر إِلى النَّقْد اَلذِي وَجهَه بَعْض كِبَار المفكِّرين مِن عُلَماء الاجْتماع الذين تناولوا وظيفية بارسونز بالنقد والتحليل.
وَيمكِننا الإشارة في هذا السياق بِشَكل خَاطِف إِلى نسق مِن الانْتقادات اَلتِي أبْداهَا بَعْض المفكِّرين حَوْل نَظَريَّة بارْسونْز. وقد وَجَّه عالم الاجتماع الأماني يُورْغِن هابْرماس (Jürgen Habermas) – نقْدًا كبيرًا لنظرية ِبارْسونْز يرى مفاده أنَّ بارْسونْز لَم يَستَطِع تَناوُل الفعْل التَّواصليِّ ودوْر اَللغَة فِي تَشكِيل التَّفاعلات الاجْتماعيَّة. وجادل بِأنَّ تأكيده على التَّكامل الوظيفي أدى إلى إهمال العقْلانيَّة التَّواصليَّة.
وَعلَى هذَا المسَار اَلنقْدِي يرى اَلمُفكر الفرنْسيُّ مِيشيل فُوكُو ( Michel Foucault ) أنَّ بارْسونْز لَم يَستَطِع تَناوُل مَفهُوم اَلقُوة وأن يَأخُذ بِعَين الاعْتبار علاقاتهَا فِي عَمَليَّة التَّشَكُّل الاجْتماعيِّ، وقد فَشلَت نظريَّته فِي مُعَالجَة الطُّرق اَلتِي تَعمَل بِهَا السُّلْطة فِي تَشكِيل النُّظم الاجْتماعيَّة.
ولم يَتَوان عَالَم الاجْتماع الفرنْسيِّ بِيير بُورْدِيو ( Pierre Bourdieu ) فِي نَقْد نَظَريَّة بارْسونْز اَلذِي لَم يَستَطِع بِرأْيه أن يُدْرِك الأبْعاد الاقْتصاديَّة والاجْتماعيَّة فِي مَسَار إِعادة إِنتَاج المجْتمع اِجْتماعيًّا وثقافيًّا، ولم يَستَطِع أن يَأخُذ بِعَين الاعْتبار تَأثِير هَذِه العوامل فِي تَولِيد التَّفاوتِ الاجْتماعيِّ وَتشكِيل رَأْس اَلْمال الثَّقافيِّ، وَهذَا يُؤكِّد أنَّ بارْسونْز لَم يَستَطِع أن يَأخُذ بِعَين الاعْتبار دَوْر العوامل الاجْتماعيَّة والثَّقافيَّة فِي عَمَليَّة فَهْم الظَّواهر الاجْتماعيَّة.
وَمِن المعْروف أيْضًا أنَّ نَظَريَّة بارْسونْز تَعرضَت إِلى نَقْد فَتَّاك مِن قَبْل رُوَّاد نَظَريَّة الصِّرَاع الاجْتماعيِّ أَمثَال: رالْف دارنْدورْف ( Ralf Dahrendorf ) وكولينْز ( Randall Collins ) وكوزْر ( Louis Coser ) الَّذين قَدمُوا نقْدًا كاسحًا لِنظرِيَّة بارْسونْز وأصابوهَا بِمقْتل فِي مشْروعيَّتهَا، وقد أَخذُوا عليْه بِشدَّة إِهْماله لِمفْهوم الصِّرَاع الاجْتماعيِّ كُلِّيًّا. وقد رَكَّز كُولينْز نَقدَه لِنظرِيَّة بارْسونْز حَوْل إِهْمالهَا لِلْعواطف والانْفعالات الإنْسانيَّة وتأْثيرهَا فِي عَمَليَّة التَّفاعل الاجْتماعيِّ، وقد جَادَل بِأَنه لََا يُمْكِن تَجاهُل أَهَميَّة الجوانب السَّيْكولوجيَّة الشُّعوريَّة العاطفيَّة فِي فَهْم السُّلوك الاجْتماعيِّ وَتحلِيل التَّغْيير الاجْتماعيِّ، وَهُو مَا لَم تتناولْه نَظَريَّة بارْسونْز بِشَكل كافٍ، وقد أَحدَثت اِنْتقادات رُوَّاد نَظَريَّة الصِّرَاع الاجْتماعيِّ شرْخًا كبيرًا فِي نَظَريَّة بارْسونْز، وَأدَّت إِلى تَقوِيض أرْكانهَا وفقْدَان مشْروعيَّتهَا بِدرجة كَبِيرَة، لِأنَّ إِهمَال الصِّرَاع الاجْتماعيِّ يُعَد مِن أَكبَر الأخْطاء القاتلة اَلتِي وَقعَت فِيهَا الوظيفيَّة بِشَكل عامٍّ وَنظرِية بارْسونْز بِشَكل خاصٍّ. و
ومِن المفكِّرين الَّذين اِخْترقوا جِدَار النَّظريَّة الوظيفيَّة عِنْد بارْسونْز يُشَار إِلى اَلمُفكر الأمْريكيِّ رايْتْ مِيلْز (Wright Mills) اَلذِي فَنَّد بِقوَّة نَقدِية نَارِية مُخْتَلِف رَكائِز نَظَريَّة بارْسونْز الوظيفية، وقد أَعلَن بِصراحة أَنهَا نَظَريَّة تجْريديَّة غَامِضة فِي مَظهرِها بَسِيطَة فِي جَوهرِية، وقد بقيت بعيدة جدا عن مقاربة الحقائق الاجْتماعيَّة الملْموسة لِلْأفْراد وتجاربهم المعيشيَّة، وبيّن أن بارسونز بقِي يَطُوف عاليًا على أجنحة مفاهيمه المجرَّدة الغامضة بعيدا جدا فوق الواقع، وبقيت نظريته نتيجة لذلك تدور حَوْل المظاهر السَّطْحيَّة لِلْمجْتمع دُون أن تَبحَث فِي أعْماقهَا وَفِي تجلِّياتهَا الحياتيَّة الوجوديَّة. وقد حكم مِيلْز نقْديًّا على نَظَريَّة بارْسونْز بِالْعقْم المنْهجيِّ والْفكْريِّ، وَشكَّك فِي مشْروعيَّتهَا على وَجْه الإطْلاق.
ويشار فِي هذَا السِّيَاق إِلى عَالَم الاجْتماع البريطانيِّ أَنتُوني جِيدينْز (Anthony Giddens) اَلذِي وَجَّه اِنْتقادات صَرِيحَة عَمِيقَة لِنظرِيَّة بارْسونْز مُتَّهمًا إِيَّاهَا بِالتَّرْكيز على الجانب الوظيفيِّ والتَّمحْور حَوْل مَفهُوم التَّوازن الاجْتماعيِّ وَعدَم قُدْرتِهَا على تَناوُل مَفهُوم التَّغَيُّر الاجْتماعيِّ بِوصْفه قُوَّة مُحَركَة لِلتَّاريخ، كمَا أَنهَا لَم تَستَطِع اِسْتكْشاف اَلبُعد التَّفاعليِّ بَيْن الأفْراد والْمؤسَّسات الاجْتماعيَّة. وَهذِا غيض من فيض المفكِّرين الَّذين قَدمُوا نقْدًا لِنظرِيَّة بارْسونْز الوظيفيَّة. وهنا علينا أن نأخذ بعين الاعتبار وجود اِخْتلافات وآراء مُتَنوعَة وأحيانا متناقضة فِي النَّقْد الموجه إلى سوسيولوجيا بارسونز، إذ غالباً ما يُفسر هذا الاختلاف باختلاف السِّيَاق الثَّقافيِّ والفكري عند علماء الاجتماع. ويمكننا أن نجمل أهم الانتقادات التي وجهت إلى نظرية على النحو الآتي:
1- الطابَعُ الأيديولوجِيُّ المُحافِظُ: يُجادِلُ النُقّادُ بِأَنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونز تُصَوِّرُ النُظُمَ الاِجْتِماعِيَّةَ عَلَى أَنَّها مُسْتَقِرَّةٌ وَمُحافَظَةٌ بِطَبِيعَتِها، وَيَرَوْنَ بِأَنَّهُ قَلَّلَ مِن أَهَمِّيَّةِ الصِراعِ الاِجْتِماعِيِّ وَتَجاهُلِ دِينامِيّاتِ القُوَّةِ وَالتَغْيِيرِ الاِجْتِماعِيِّ. وَيَكادُ يُوجَدُ إِجْماعٌ بَيْنَ المُفَكِّرِينَ عَلَى تَوَجُّهِ بارسونْز لِتَكْرِيسِ الأَوْضاعِ القائِمَةِ وَتَثْبِيتِ النِظامِ الاِجْتِماعِيِّ الرَأْسُمالِيِّ فِي أَمْرِيكا وَمُواجَهَةِ مُخْتَلِفِ التَوَجُّهاتِ الفِكْرِيَّةِ اليَسارِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ.
2- المُبالَغَةُ فِي التَبْسِيطِ وَعَدَمِ وُجُودِ أَدِلَّةٍ تَجْرِيبِيَّةٍ: يُؤْخَذُ عَلَى نَظَرِيَّةِ بارسونز دائِماً أَنَّها نَظَرِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ بشكل مفرط، وَتَفْتَقِرُ إِلَى أَدِلَّةٍ تَجْرِيبِيَّةٍ مَلْمُوسَةٍ لِدَعْمِ فَرْضِيّاتِها، وَيَرَى مُعْظَمُ النُقّادِ أَنَّهُ النَظَرِيَّةُ تَعْتَمِدُ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ عَلَى الأُطُرِ وَالاِفْتِراضاتِ المَفاهِيمِيَّةِ دُونَ تَقْدِيمِ بَياناتٍ تَجْرِيبِيَّةٍ كَبِيرَةٍ. وَيَرَى بَعْضُ المُفَكِّرِينَ أَنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونز تَفْتَقِرُ إِلَى الأَدِلَّةِ العِلْمِيَّةِ وَالأَبْحاثِ العِلْمِيَّةِ المَيْدانِيَّةِ لِتَأْكِيدِ فَرْضِيّاتِها وَتَصَوُّراتِها المُجَرَّدَةِ.
9- تَعْقِيدُ النَظَرِيَّةِ وَصُعُوبَةُ التَطْبِيقِ: يَكادُ يُوجَدُ هُناكَ إِجْماعٌ بَيْنَ النُقّادِ عَلَى اِتِّصافِ نَظَرِيَّةِ بارسونز بِالتَعْقِيدِ وَصُعُوبَةِ التَطْبِيقِ العَمَلِيِّ، إذ تَتَضَمَّنُ تَفاصِيلَ وَمَفاهِيم صَعْبَة الفَهْمِ عصية على التَحْلِيلَ.
3– إِهْمالُ الخُصُوصِيَّةِ الثَقافِيَّةِ وَالتارِيخِيَّةِ لِلشُعُوبِ: تَعَرَّضَت نَظَرِيَّةُ بارسونز لِاِنْتِقاداتٍ بِسَبَبِ اِهْتِمامِها المَحْدُودِ بِالسِياقاتِ الثَقافِيَّةِ وَالتارِيخِيَّةِ. وَيَرَى مُعْظَمُ النُقّادِ بِأَنَّ النَظَرِيَّةَ تَمِيلُ إِلَى التَعْمِيمِ الشديد وَتَجاهُلِ الخصوصية الثَقافِيَّةِ وَالتارِيخِيَّةِ لِلمُجْتَمَعاتِ الإنسانية الَّتِي تَتَّصِفُ بدرجة كبيرة من التَنَوُّعِ الحَضارِيِّ والثقافي، وَيَبْدُو أَنَّ بارسونز قَدْ عَمَّمَ السِماتِ الثَقافِيَّةَ لِلمُجْتَمَعِ الأَمْرِيكِيِّ بِوَصْفِها سِماتٍ كَوْنِيَّةً وَعالَمِيَّة، والأرجح أنه لم يضع في اعتباره إلا المجتمع الأمريكي الذي عاش في سجنه الأيديولوجي الكبير .
4- غياب مسائل الجِنْسِ وَالعَرَقِ وَالطَبَقَةِ: أَخْفَقَت نَظَرِيَّةَ بارسونز فِي مُعالَجَةِ قَضايا الجِنْسِ وَالعَرَقِ وَالطَبَقَةِ، وَلَمْ تَتَناوَلْ قَضايا التَمْيِيزِ العِرْقِيِّ وَالطَبَقِيِّ وَالجِنْسِيِّ التي تعدّ مِن أَهَمِّ القَضايا الحَيَوِيَّةِ فِي المُجْتَمَعاتِ الإِنْسانِيَّةِ القَدِيمَةِ وَالمُعاصَرَةِ.
5- تَجاهُلُ قَضِيَّةِ التَفاوُتِ الاِجْتِماعِيِّ: وَقَدْ اِتَّهَمَت نَظَرِيَّةُ بارسونز بِتَجاهُلِها مَسْأَلَةَ التَفاوُتِ الاِجْتِماعِيِّ الَّتِي تَقُومُ بَيْنَ الفِئاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَيَرَى النُقّادُ بِأَنَّ النَظَرِيَّةَ لا تَأْخُذُ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ تَأْثِيرَ الطَبَقَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالثَرْوَةِ وَالسُلْطَةِ فِي تَشْكِيلِ النُظُمِ الاِجْتِماعِيَّةِ.
6– تَجاهَلَ دَوْرَ الصِراعِ الاِجْتِماعِيِّ: يُؤَكِّدُ النُقّادُ – وَلا سِيَّما أَنْصارُ نَظَرِيَّةِ الصِراعِ – أَنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونز تَتَجاهَلُ أَهَمِّيَّةَ الصِراعِ الاِجْتِماعِيِّ فِي قِيادَةِ التَغْيِيرِ الاِجْتِماعِيِّ وَتَشْكِيلِ النُظُمِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَيُعَدُّ هٰذا الجانِبُ مِن أَخْطَرِ الاِنْتِقاداتِ الَّتِي وُجِّهَت إِلَى بارسونز الَّذِي كانَ مُعادِياً لِكُلِّ التَصَوُّراتِ اليَسارِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ، وَأَنَّهُ كَرَّسَ جُهُودَهُ العِلْمِيَّةَ لِتَحْقِيقِ مَبْدَأَيْ التَوازُنِ وَالاِنْسِجامِ فِي المُجْتَمَعِ الرَأْسِمالِيِّ. وَيُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونز لَمْ تَكُنْ قادِرَةً – بِحُكْمِ الطابَعِ الأيديولوجِيِّ الطاغِي فِيها – عَلَى تَناوُلِ مَسْأَلَتَيْ الصِراعِ الاِجْتِماعِيِّ وَالتَفاوُتِ الاِجْتِماعِيِّ وَتَحْلِيلِ مُعْطَياتِهِما، لِأَنَّها تُرَكِّزُ بِشَكْلٍ أَساسِيٍّ عَلَى الاِسْتِقْرارِ وَالتَكَيُّفِ فِي المُجْتَمَعِ، وَتَحُضُّ في الوقت ذاته عَلَى تَجاهُلِ أَهَمِّيَّةِ الصِراعاتِ وَالتَوَتُّراتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ نَتِيجَةً لِتَفاوُتِ السُلْطَةِ وَالمَوارِدِ.
7– المَرْكَزِيَّةُ الأوروبِّيَّةُ وَالتَحَيُّزُ الغَرْبِيُّ: يَرَى مُعْظَمُ النُقّادِ بِأَنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونز تَعْكِسُ تَحَيُّزاً غَرْبِيّاً يُرَكِّزُ بِشَكْلٍ أَساسِيٍّ عَلَى تَحْلِيلِ المُجْتَمَعاتِ الغَرْبِيَّةِ يُجادِلُونَ بِأَنَّ النَظَرِيَّةَ فَشِلَت فِي تَفْسِيرِ تَنَوُّعِ المُجْتَمَعاتِ العالَمِيَّةِ وَالأَنْظِمَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ البَدِيلَةِ بِشَكْلٍ مُناسِبٍ.
8-تَجاهُلُ التَغَيُّرِ الاِجْتِماعِيِّ: يُعَدُّ تَجاهُلُ نَظَرِيَّةِ بارسونْز لِلتَغَيُّرِ الاِجْتِماعِيِّ إِحْدَى نِقاطِ ضَعْفِها وَقُصُورِها المَعْرِفِيِّ، وَيَرَى نُقّادَها بِأَنَّها لا تُعْطِي اِهْتِماماً كافِياً لِكَيْفِيَّةِ تَطَوُّرِ المُجْتَمَعاتِ وَتَغَيُّرِها عَبْرَ الزَمَنِ.
يَجِبُ مُلاحَظَةُ أَنَّ هٰذِهِ الاِنْتِقاداتِ لا تَعْنِي أَنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونز لا تَحْمِلُ أَيَّ قِيمَةٍ، أَوْ أَنَّها غَيْرُ مُهِمَّةٍ، بَلْ تَعْكِسُ المُناقَشاتِ وَالتَحْلِيلاتِ المُسْتَمِرَّةَ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ وَالاِهْتِمامِ بِتَطْوِيرِ وَتَحْسِينِ النَظَرِيّاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ.
11- خاتِمَةٌ: مَنْ يَقْرَأُ بارسُونْز اليَوْمَ؟
تَعَرَّضَت نَظَرِيَّةُ بارسونز كَما أَوْضَحْنا فِي هٰذا العَمَلِ لِنَقْدٍ مَنْهَجِيٍّ عَنِيفٍ وَشَدِيدٍ قَلَّما شَهِدْنا لَهُ مَثِيلاً فِي تارِيخِ النَظَرِيّاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَقَدْ تَمَيَّزَت هٰذِهِ الاِنْتِقاداتُ بِمَنْهَجِيَّتِها وَمَوْضِعِيَّتِها، وَاِسْتَطاعَت أَنْ تُقَدِّمَ لَنا صُورَةً قاتِمَةً فِي كَثِيرٍ مِن الأَحْيانِ عَن التَوَجُّهاتِ الأيديولوجِيَّةِ الكَبِيرَةِ فِي المَنْظُومَةِ الفِكْرِيَّةِ لِنَظَرِيَّةِ بارسونز الوَظِيفِيَّةِ. لَقَدْ بَدا لَنا المَشْهَدُ الفِكْرِيُّ المُعْتِمُ لِبارْسُونْز فِي دِفاعِهِ المَحْمُومِ عَن تَوازُنِ النِظامِ الرَأْسُمالِيِّ، وَحِرْصِهِ الشَدِيدِ عَلَى تَأْكِيدِ مَصالِحِهِ وَتَضامُنِهِ وَتَوازُنِهِ الاِجْتِماعِيِّ وَالثَقافِيِّ. وَمِن أَجْلِ هٰذِهِ الغايَةِ قَلْبُ بارسُونْز ظَهَرَ المِجَنُّ لِكُلِّ الجَوانِبِ العِلْمِيَّةِ وَالفِكْرِيَّةِ المُتَكامِلَةِ، فَأَسْقَطَ كُلَّ المَفاهِيمِ وَالتَصَوُّراتِ الَّتِي لا تُصُبُّ فِي مَصْلَحَةِ الرَأْسُمالِيَّةِ الصاعِدَةِ فِي أَمْرِيكا.
ورغم تَأَثُّرِهِ بِأُسْتاذِهِ الكَبِيرِ ماكْس فيبر، لَمْ يَسْتَطِعْ بارسونز أَنْ يَبْلُغَ شَأْوَهُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى تَناوُلِ مُخْتَلِفِ القَضايا الاِجْتِماعِيَّةِ، وَمَعَ أَنَّ ماكْس فيبر كانَ قَدْ طَرَحَ نَفْسَهُ عَدُوّاً لِلمارْكِسِيَّةِ وَنَصِيراً وَظَهِيراً لِلرَأْسِمالِيَّةِ، إِلّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْفِيَ إِعْجابَهُ بِمارْكْس وأن يتبنى كثيرا من مَقُولاتِهِ، وَقَدْ أَبْدَى شَجاعَةً كافِيَةً فِي نَقْدِ المارْكِسِيَّةِ وَتَطْوِيرِ مَقُولاتِها بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَمْ يَجْرُؤْ يَوْماً عَلَى تَجاهُلِ مارْكْس أَوْ المارْكِسِيَّةِ، وَقَدْ أَقَرَّ بمفهوم الصِراعِ الطَبَقِيِّ الماركسيّ، وَوَظَّفَه معكوسا في مفهومه عن التَوازُنِ الاِجْتِماعِيِّ فِي النِظامِ الرَأْسِمالِيِّ، وَقَدْ اِسْتَحَقَّ الإِعْجابُ حَتَّى مِن أَكْثَرِ خُصُومِهِ المارْكِسِيِّينَ. وَيَبْدُو لَنا أَيْضاً أَنَّ بارْسونْز لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُجارِيَ فِيبر فِي تَشْكِيلِهِ لِلأَنْماطِ المِثالِيَّةِ؛ فَالأَنْماطُ المِثالِيَّةُ الَّتِي أَسَّسَها فِيبَر كانَت قَرِيبَةً مِن الواقِعِ مُعَبِّرَةً عَنهُ تَسْتَلْهِمُهُ، ويضاف إلى ذلك تَأْكِيدِ فِيبِرُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الواقِعِ التَجْرِيبِيِّ وَدِراساتِهِ العِيانِيَّةِ لِتارِيخِ الشُعُوبِ وَالواقِعِ الاِجْتِماعِيِّ فِي أوروبا. وَيَبْدُو لَنا أَنَّ بارسونز حاوَلَ أَنْ يُجارِيَهُ، وَلٰكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ ضَبْطَ نَمُوذَجِهِ الرُباعِيِّ المِثالِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِن تَصَوُّراتِهِ المِثالِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ عَلَى إِيقاعاتِ الواقِعِ الاِجْتِماعِيِّ.
وَلَمْ يَسْتَطِعْ بارسونز أيضا أَنْ يُجارِيَ أُسْتاذَهُ الثانِيَ دوركهايم، الَّذِي أَسَّسَ مَنْهَجِيَّةً عَرِيقَةً إِمبِيرقِيَّةً فِي تَناوُلِ القَضايا الاِجْتِماعِيَّةِ وتحليلها، وتمكن من بناء إمبراطورِيَّة سوسيولوجِيَّةً تُلامِسُ الواقِعَ فِي أَدْناهُ، وَتَرْتَطِمُ بِالأُفُقِ فِي أَبْراجِهِ العالِيَةِ، وَعَلَى خِلافِ دوركهايم بَقِيَ بارسونْز أَسِيرَ تَصَوُّراتِهِ وَأَوْهامِهِ البُرْجُوازِيَّةِ الَّتِي أَعْمَت بَصِيرَتَهُ عَن رُؤْيَةِ الواقِعِ بِطَرِيقَةٍ نَقْدِيَّةٍ بَعِيدَةٍ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ عَن النَزَقِ الأيديولوجِيِّ البُرْجُوازِيِّ.
وَيُمْكِنُنا القَوْلُ فِي هٰذا السِياقِ: إِنْ تَبَنِّي بارسونز لِلأيديولوجِيَّةِ الرَأْسِمالِيَّةِ وَالتَعْبِيرِ عَنها فِي مَرْحَلَةِ اِزْدِهارِها كانَ أَحَدُ أَسْبابِ نَجاحِ نَظَرِيَّتِهِ وَشُهْرَتِها، وَلٰكِنَّ هٰذا السُعارَ الأيديولوجِيَّ فِي الوَلاءِ غَيْرِ المَشْرُوطِ لِلنِظامِ الرَأْسِمالِيِّ كانَ سَبَبَ سُقُوطِهِ الفِكْرِيِّ فِي ثَمانِينِيّاتِ القَرْنِ الماضِي. وَهٰذا يَعْنِي أَنَّ التَطَرُّفَ الأيديولوجِيَّ أَدَّى إِلَى سُقُوطِ نَظَرِيَّةِ بارسونز وَنِهايَةِ أُسْطُورَتِهِ فِي مَجالِ النَظَرِيَّةِ الاِجْتِماعِيَّةِ. وَنُكَرِّرُ ما قُلْناهُ سابِقاً فِي المُقَدِّمَةِ بِأَنَّ سوسيولوجيا بارسونز كانَت تَعْبِيراً الأَوْضاعَ الاِجْتِماعِيَّةَ الأَمْرِيكِيَّةَ القائِمَةَ فِي زَمَنِهِ، وَكانَت أَفْضَلَ تَعْبِيرٍ عَن الطَرِيقَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ فِي الحَياةِ. وَمِن جَدِيدٍ نَقُولُ إِنَّ النَجاحَ الكَبِيرَ الَّذِي حَقَّقَتْهُ نَظَرِيَّتُهُ كانَ نِتاجاً لِقُدْرَتِهِ عَلَى تَرْجَمَةِ الواقِعِ الطُمُوحِ لِلأَمْرِيكِيِّينَ فِي سِياقِ نَظَرِيَّتِهِ الوَظِيفِيَّةِ التَوازُنِيَّةِ.
ويؤكد إيان كريب هذا التوافق بين ازدهار الرأسمالية الأمريكية وازدهار البارسونزية بقوله: ” وَلَعَلَّهُ مِن حُسْنِ الطالِعِ لِبارسونز أَنَّ الرَأْسَمالِيَّةَ قَدْ ازدهرت بِطَرِيقَةٍ مُناسِبَةٍ بَعْدَ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثانِيَةِ، وَأَنَّ الفَتْرَةَ الَّتِي قدم فيها أعماله الفكرية رافَقَتها فَتْرَةٌ مِن التَوَسُّعِ الاِقْتِصادِيِّ وَالاِسْتِقْرارِ النِسْبِيِّ في المجتمع الأمريكي” [130]. لٰكِنَّ نَظَرِيَّةَ بارسونْز وَالنِظامَ الرَأْسُمالِيَّ مَعاً أَخَذا يُواجِهانِ صُعُوباتٍ حَقِيقِيَّةً فِي أَواخِرِ عَقْدِ السِتِّينِيّاتِ، وَفِي غُضُونِ عَشْرِ سَنَواتٍ لاحقة أصبحت نَظَرِيَّةَ بارْسُونْز مِن النَظَرِيّاتِ القَدِيمَةِ الَّتِي أحيلت إلى المتحف التاريخي.
لَقَدْ أَعْلَنَ بارسونْز يَوْماً فِي مَعْرِضِ هُجُومِهِ عَلَى هيربرت سْبِنْسَر قائِلاً: “لَقَدْ ماتَ سْبِنْسَر”! مَنْ يَقْرَأُ سْبِنْسَرَ الآنَ؟ [131] وَقَدْ اِنْقَلَبَ السِحْرُ عَلَى الساحِرِ اليَوْمَ، إِذْ يُمْكِنُ التساؤل عَلَى الإِيقاعِ نَفْسِهِ قائلين: “ماتَ بارسونز! مَنْ يَقْرَأُ بارسونز اليَوْمَ”؟ من يقرأ بارسونز اليوم وَقَدْ وَلَّى زَمَنَهُ وهزمت أيامه وَأَصْبَحَت تَصَوُّراتُهُ خارِجَ سِياقِ العَصْرِ السوسيولوجِيِّ الجَدِيدِ. وَمَنْ يَقْرَأُهُ اليَوْمَ يَقْرَأُهُ لِلغايَةِ نَفْسِها الَّتِي كانَ يَقْرَأُ فِيها سْبِنْسَر، وَنَحْنُ نَقْرَأُ اليَوْمَ سْبِنْسَر كَتَجْرِبَةٍ أَخْفَقَتْ كَثِيراً فِي رَصْدِ الواقِعِ عَلَى نَحْوٍ مَوْضُوعِيٍّ، أَوْ كَنَظَرِيَّةٍ أَفْقَدَها التَطَرُّفُ الأيديولوجِيُّ صَوابَها، فَتَرَنَّحَتْ وَسَقَطَتْ فِكْرِيّاً وَسوسيولوجياً.
وَمَعَ ذٰلِكَ نَقُولُ فِي هٰذا السِياقِ أَنَّ النَقْدَ الهائِلَ الَّذِي تَعَرَّضَ لَهُ بارسونز يُشَكِّلُ ظاهِرَةً سوسيولوجِيَّةً يَجِبُ أَنْ تُؤْخَذَ بِعَيْنِ الاِعْتِبارِ، وَهِيَ تُشَكِّلُ دُرُوساً مُهِمَّةً لِكُلِّ مُحاوَلَةٍ تَنْظِيرِيَّةٍ جَدِيدَةٍ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ. وَالدَرْسُ الأَكْبَرُ المُسْتَفادُ مِن النَقْدِ المُوَجَّهِ إِلَى بارسونز هُوَ أَنَّ الاِنْحِرافَ الأيديولوجِيَّ يَجِبُ أَلّا يُعْمِيَ المُفَكِّرِينَ عَن الحَقِيقَةِ العِلْمِيَّةِ. لَقَدْ كانَ مارْكْس أيديولوجيّاً صَرِيحاً، وَلٰكِنَّهُ مَعَ ذٰلِكَ حاوَلَ أَنْ يُقَدِّمَ جَوانِبَ فِكْرِيَّةً عِلْمِيَّةً فِي الاِقْتِصادِ السِياسِيِّ، وَفِي التَحْلِيلِ الجَدَلِيِّ لِلتارِيخِ عَلَى أُسُسٍ عِلْمِيَّةٍ واقِعِيَّةٍ إِلَى الدَرَجَةِ الَّتِي أَعْلَنَ فِيها خصومه بِأَنَّ الأيديولوجيا المارْكِسِيَّةَ أيديولوجِيَّةً عِلْمِيَّةً عَرِيقَةً قائِمَةٌ عَلَى تَصَوُّراتٍ عَمِيقَةٍ فِي تارِيخِ الفِكْرِ الإِنْسانِيِّ، وَهٰذا الأمر كانَ غائِباً تَماماً فِي الاندفاع الأيديولوجِيِّ الَّذِي نَجِدُهُ عِنْدَ بارْسُونْز.
وَلِكَيْلا يَكُونَ المَوْقِفُ مِنْ نَظَرِيَّةِ سْبِنْسَر عَدَمِيّاً، يَجِبُ عَلَيْنا القَوْلُ: إِنَّ النَقْدَ الشَدِيدَ الَّذِي تَعَرَّضَ لَهُ بارسونْز وَكَثْرَةُ نُقّادِهِ عَلَى تَعَدُّدِ مَشارِبِهِم يُقَدِّمُ مُؤَشِّراً إِيجابِيّاً عَلَى أَهَمِّيَّةِ بارسونز وَأَهَمِّيَّةِ التَصَوُّراتِ الوَظِيفِيَّةِ الَّتِي أَفاضَ بِها فِي نَظَرِيَّتِهِ السوسيولوجِيَّةِ. وعَلَى الرَغْمِ الاِنْتِقاداتُ الهائِلَةُ الَّتِي وُجِّهَت إليه فإنه يجب عَلَيْنا أَنْ نَأْخُذَ بعين الاعتبار أَنَّهُ اِسْتَطاعَ أَنْ يَكُونَ مِن أَكْثَرِ علماء الاجتماع الأمريكيين نُفُوذاً وتأثيراً فِي زَمَنِهِ وَعَصْرِهِ، وَلا يُنْكِرُ أَنَّ نَظَرِيَّتَهُ كانَ لَها تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ فِي تَطَوُّرِ الفِكْرِ السوسيولوجِيِّ فِي الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ وفي غيرها، وَظَلَّت أَفْكارُهُ تُلْهِمُ نُخْبَةً مِن المُنَظَّرِينَ فِي مَجالِ السوسيولوجيا البِنائِيَّةِ. وَقَدْ مارَسَت مُساهَماتُهُ النَظَرِيَّةَ تَأْثِيراً كَبِيراً فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيِّ، واستطاع أن يقدم رؤية مبتكرة لِلكَيْفِيَّةِ الَّتِي تَتَفاعَلُ فِيهِ عَناصِرُ المُجْتَمَعِ وَأَنْساقُهُ وظيفياً. وَمَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقَدِّمَ تَصَوُّراتٍ واضِحَةً عَنْ القَضايا المُجْتَمَعِيَّةِ الَّتِي بادَرَها، “إِلّا أَنَّهُ قد أبدع أَداةً مُهِمَّةً لِتَحْلِيلِ البنى وَالمُؤَسَّساتِ الاِجْتِماعِيَّةِ، كما أنه اِسْتَطاعَ أَنْ يُهَيْمِنَ عَلَى النَظَرِيَّةِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي الغَرْبِ مُنْذُ نِهايَةِ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثانِيَةِ إِلَى أَواسِطِ السِتِّينِيّاتِ. وَلَقَدْ أُنْتِجَ إِطاراً نَظَرِيّاً ضَخْماً يَدَّعِي مِن حَيْثُ المَبْدَأُ قُدْرَتَهُ عَلَى الإِحاطَةِ بِكُلِّ جَوانِبِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ” [132].
وَرَغْمَ تَقاعُدِهِ فِي عامِ 1973، اِسْتَمَرَّ بارسونز فِي متابعة إنْتاجِهِ الفِكْرِيِّ، وواظب على َالحُضُورِ المُسْتَمِرِّ فِي مُخْتَلِفِ المُنْتَدَياتِ العِلْمِيَّةِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَن إِلْقاءِ مُحاضَراتِه فِي الجامِعاتِ الأَمْرِيكِيَّةِ. وَقَدْ وافَتْهُ المَنِيَّةُ فِي الثامِنِ مِنْ شَهْرِ إيار / مايو في عام 1979، وقد صادفت وفاته بعد يوم من الاِحْتِفالِ الَّذِي أَعَدَّتْهُ جامِعَةُ هايدلبرغ على شرفه بِمُناسَبَةِ مُرُورِ 50 سَنَةً عَلَى مَنْحِهِ دَرَجَةَ الدكتوراه.
وبعد وَفاتِهِ بَدَأَتْ نَظَرِيَّتُهُ تذبل وتذوي تحت تأثير وابِلٍ شديد الوطأة مِنْ الاِنْتِقاداتِ، وَبَدَأَتْ نَظَرِيَّتُهُ تنحسر بقوة وتتراجع بعنف تحت مطارق النقد والصدّ والرَفْضِ. حتى غدا الاِسْتِخْفافُ بِنَظَرِيَّتِهِ أَمْراً شائِعاً بَيْنَ المُفَكِّرِينَ، وعلى هذا المنوال فقدت نَظَرِيَّتُهُ البنائية وهجها وبَرِيقَها، وَأَصْبَحَ تَناوُلُها يَنْطَلِقُ مِنْ مجرد الأَهَمِّيَّةِ التارِيخِيَّةِ الَّتِي حَظِيَتْ بِها. وَلَمْ يَتَوانَ بِيتَر هاملتون (Peter Hamilton) وهو أحد النقاد المتعاطفين معه أن يطلق على بارْسونْز تَسْمِيَةُ «الأَبِ المَخْلُوعِ”.
وَرَغْمَ كُلِّ هٰذا الهُجُومِ النَقْدِيِّ المُثِيرِ ضِدَّ بارسونز وَنَظَرِيَّتِهِ مُنْذُ وَفاتِهِ، فَإِنَّ بُذُورَ نَظَرِيَّتِهِ لَمْ تَمُتْ، بَلْ بَدَأَت تَتَفَتَّحُ مع بِدايَةِ تسعينيات القَرْنِ الماضي، وَأَخَذَ بَعْضُ المُفَكِّرِينَ الأَمْرِيكِيِّينَ الشَبابِ عَلَى عاتِقِهِم إِحْياءَ نَظَرِيَّةِ بارسونز وَتَطْوِيرَها وقاموا بإنشاء مَدْرَسَةٌ جديدة عرفت باسم “البارسونزِيُّونَ الجُدُدِ “. وَقَدْ وَصَفَ إِيان كريب هٰذِهِ العَوْدَةَ المُظَفَّرَةَ لبارسونز بِقَوْلِهِ:” إِنَّ بارسونْز عَلَى غِرارِ الأَبِ الأَصْلِيِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَنْهُ سيجموند فرويد، الَّذِي قُتِلَ عَلَى أَيْدِي أَبْنائِهِ، عادَ لِيُطِلَّ عَلَيْنا ثانِيَةً بِصُورَةٍ جَدِيدَةٍ عَبْرَ فَيْضٍ مِنْ الأَعْمالِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالوَظِيفِيَّةِ الجَدِيدَةِ (Neofunctionalism) [133].
وَيُعَدُّ جِفْرِي أَلِكْسَنْدَر (Jeffrey Alexander)، اليَوْمَ مِن أَكْثَرِ أَنْصارِ البارسونزِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ الجَدِيدَةِ حُضُوراً وَنَشاطاً فِي السوسيولوجيا الأَمْرِيكِيَّةِ المُعاصِرَةِ [134] وَيُشارُ أَيْضاً إِلَى كُلٍّ مِنْ نیلِ سمِلسَر (Neil smelter) ونيكولاس لومان (Niklas Luhmann) [135] بوصفهم من أبرز رواد الوَظِيفِيَّةُ البارسونزِيَّةُ الجَدِيدَةُ الَّذِينَ حاوَلَ الاِرْتِقاءَ بِالبِنائِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ وَإِعْطائِها رُوحاً جَدِيدَةً فِي مَجالِ تَكْيِيفِها مَعَ مُتَطَلَّباتِ العَصْر الرأسمالي الليبرالي الجديد.
مراجع المقالة وهوامشها:
[1] – Talcott Parsons, Sociological Theory and Modern Society. Hardcover – Illustrated, January 1, Free Press; First Edition 1967.
[2] – ريتشارد أوزبرن وبورن فان لون، أقدم لك.. علم الاجتماع، ترجمة حمدي الجابري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005. ص 102.
[3] – فيليب كابان – جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، ترجمة إياس حسن، ط1، دمشق، دار الفرقد، 2010. ص 110.
[4] – برونيسلاف أو برونيسلاو كاسبر مالينوفسكي ( Bronisław Kasper Malinowski) (7 أبريل 1884- 16 مايو 1942) كان عالماً بولندياً مختصاً في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان( ويعد من أهم علماء الإنسان في القرن العشرين، وهو من أهم الرواد في الأنثروبولوجيا التطبيقية.
[5] – مارتل، م.ي. بارسونز تالكوت، ترجمة أحمد أبو زيد، الموسوعة الدوليّة للعلوم الاجتماعيّة (ج2) علماء الاجتماع. (مجموعة من الباحثين، مترجم). (ط.1). القاهرة: المركز القومي للترجمة. ص 37-103
[6] – دورتيه، ج.ف. معجم العلوم الإنسانيّة. (جورج كتورة، مترجم). (ط.2). أبوظبي- الإمارات العربيّة المتّحدة، بيروت- لبنان: كلمة ومجد المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع،. (2011). ص 130-132
[7] – بتيريم أليكساندروفيتش سوروكين (Pitirim A.Sorokin) ولد في 2 فبراير [21 يناير وفق التقويم القديم] 1889- 10 فبراير 1968) كان عالم اجتماع أمريكي من أصل روسي، وله تاريخ ثوري وسياسي، أسهم في نظرية الدورة الاجتماعية. نشر سوروكين في حياته أكثر من ثلاثين كتاباً، ويعترف الكثير من علماء الاجتماع بإسهاماته الكبيرة في هذا الميدان، حتى إن المتحمسين يعتقدون أن تاريخ النظرية الاجتماعية يجب أن يتوقف طويلا عند ثلاثة كبار وهم: كونت، ودوركايم، وسوروكين.
[8]– Lidz, Victor, Parsons, Talcott: in The Blackwell .Encyclopedia of Sociology, edited by G. Ritzer. Oxford: Blackwell. 2007. Pp. 3365- 3368
[9] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، ط 5، القاهرة، دار المعارف، 1985. ص 204.
[10]– Holton, Robert J. and Bryan S. Turner,. Talcott Parsons on Economy and Society. London: Routledge and Kegan Paul, 1986.
[11] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، دققه وراجعه علميًّا ذيب بن محمد الدوسري، عمر عبد الجبار أحمد، خالد بن عمر الرديعان، الرياض: مكتبة جرير، ط 1، 2018. ص 139.
[12]– Parsons T. (1937,1968]). The Structure of Social Action. New York: Free Press.
[13] – فيليب كابان – جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، مرجع سابق، ص 107.
[14] – المكارثّية (McCarthyism) اتجاه سياسي أمني ظهر في أمريكا بزعامة عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي. الذي استطاع أن يصدر قانون يقضي بملاحقة عدد من موظفي الحكومة ولاسيما في وزارة الخارجية، وأدى هذا الأمر إلى إلقاء القبض على عديد منهم بتهمة الشيوعية والعمل لمصلحة الاتحاد السوفيتي. وقد تبين فيما بعد أن معظم اتهاماته كانت على غير أساس. وأصدر المجلس في عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم عليه. ويستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين. بدأت المكارثية بقائمة فيها 205 أسماء قيل إنهم شيوعيون وجواسيس في الخارجية الأميركية، ثم امتدت المكارثية لجميع قطاعات المجتمع الأمريكي، وراح ضحيتها أكثر من مائتي شخص الذين زجوا في السجون، فضلا عما يزيد على 10 آلاف تم طردهم من وظائفهم والتنكيل بهم وفق تهم ملفقة ومن هؤلاء مارتن لوثر كينغ وألبرت أينشتاين وآرثر ميللر وتشارلى تشابل.
[15] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق. ص 139.
[16]– Parsons T, The Social System. London: Routledge, 1951.
[17] – Parsons T,. Essays in Sociological Theory. Revised Edition. New York: The Free Press, 1964.
[18]-Parsons, T, On building social system theory: A personal history. Daedalus, 1970, 826-881.
[19]– Parsons, T, The system of modern societies, Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall, 1971.
[20]– Parsons T,. Action Theory and the Human Condition. New York: The Free Press, 1978.
[21]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم، مراجعة محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 244، إبريل 1999. ص 61.
[22] – فيليب كابان – جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، مرجع سابق، ص 108.
[23]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق ،ص 64.
[24] – فيليب كابان – جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، مرجع سابق ،ص 107.
[25]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 64.
[26]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 65.
[27]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم، مراجعة محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 244، إبريل 1999. ص62، 63.
[28] – فيليب كابان – جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، المرجع السابق، ص 110.
[29] – توماس هوبز (5 أبريل 1588 – 4 ديسمبر 1679) ( Thomas Hobbes)، عالم رياضيات وفيلسوف إنجليزي. اشتهر بأعماله في الفلسفة السياسية. نشره كتابه اللفياثان عام 1651 والذي كان الأساس لمعظم الفلسفة السياسية الغربية من منظور نظرية العقد الاجتماعي. وفي كتاب اللفياثان، عرض هوبز مذهبه حول أساس الدول والحكومات الشرعية وخلق علم موضوعي للأخلاق. يشرح جزء كبير من الكتاب ضرورة وجود سلطة مركزية قوية لتجنب شر الشقاق والحرب الأهلية.
[30] – توماس هوبز، اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة.، ترجمة ديانا حرب، وبشرى صعب. بيروت: الفارابي، 2011
[31] – جون لوك (John Locke ) (1632ـ 1704) فيلسوف إنكليزي وأحد أبرز رواد الفكر الحديث، وصاحب نظرية تربوية ومذهب فلسفي جمع فيه الاتجاهين التجريبي empirical والعقلاني rational. ولد في مدينة رينغتون Wrington بإنكلترا، لأب بيوريتاني puritan ثري كان يحمل الاسم ذاته، ويعمل بالمحاماة، وتُوفِّي في مدينة أواتس Oates.
[32] – جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة: منى أبو سنة، تقديم ومراجعة: مراد وهبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997.
[33] – فيليب كابان – جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، مرجع سابق ،ص 108.
[34] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، ط 5، القاهرة، دار المعارف، 1985. ص 204.
[35] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، المرجع السابق،. ص 204.
[36] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، المرجع السابق،. ص 204.
[37] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، المرجع السابق،. ص 205.
[38]– Calvin J. Larson: Major Thems in Sociological Theory (David Mckay Company, New York, 1973), pp. 127-153.
[39] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 205 .
[40] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 206.
[41] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 207.
[42]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 63.
[43]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 63.
[44]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 63، 64.
[45] – Lê Thành Khôi , l’éducation: cultures et sociétés , Paris: Éditions de la Sorbonne, 2021.
[46] – جون سكوت، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، ترجمة محمود محمد حلمي مراجعة جبور سمعان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2009. ص 76.
[47]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 65 .
[48]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 65 .
[49]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 71- 72 .
[50]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 72 .
[51] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 207.
[52]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 66، 67 .
[53] – Cuff, E. & Payne, G , Perspectives in Sociology, Allen & Unwin, London, 1984, P46.
[54] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 207.
[55] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 213.
[56] – Parsons, Talcott. 1951. The Social System. Glencoe,IL: Free Press. P.5,6.
[57]– .Parsons, Talcott. 1966. Societies. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall. P.11.
[58] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع،مرجع سابق، ص 210.
[59] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق ص 212.
[60] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 206.
[61] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 207.
[62] -(AGIL) هو اختصار للأحرف الأولى للوظائف الأربعة التي هي التكيف والأهداف والتكامل والكون المقابلة للكلمات التالية باللغة الإنكليزية (Adaptation, Goal, Integration, latenncy).
[63] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 203.
[64] – Parsons, Talcott (1970). The Social System. London: Routledge & Kegan Paul Ltd.
[65] – Parsons, Talcott (1970). The Social System. London: Routledge & Kegan Paul Ltd.
[66] – Parsons, Talcott and Gerald Platt. 1973. The American University :Cambridge, MA
[67] – Parsons, Talcott. 1966. Societies. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall
[68] – فيليب كابان – جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، مرجع سابق، ص 109.
[69]– Parsons, Talcott, Prolegomena to a Theory of Social Institutions, .American Sociological Review 55 , 1990 :319-333
[70] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 215.
[71] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 208.
[72] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 208.
[73]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق ،ص 63.
[74]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق ،ص 72 .
[75]– Parsons, Talcott. 1951. The Social System. Glencoe,IL: Free Press
[76] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع مرجع سابق، ص 210.
[77] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 211.
[78] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 211.
[79]– Parsons, Talcott. 1951. The Social System. Glencoe,IL: Free Press
[80] – Talcott Parsons , The School Class as a Social System: Some of Its Functions in American Society , in: Exploring Education , Routledge , Edition5th Edition , 2017, Pages14
[81] – Lê Thành Khôi , l’éducation: cultures et sociétés , Paris: Éditions de la Sorbonne, 2021.
[82]– Parsons, Talcott, Societies. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall, 1966,. P22.
[83] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 220.
[84] – ريتشارد أوزبرن وبورن فان لون، أقدم لك.. علم الاجتماع، ترجمة حمدى الجابري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005. ص 100.
[85] – ريتشارد أوزبرن وبورن فان لون، أقدم لك.. علم الاجتماع، المرجع السابق ،ص 100.
[86]– Parsons, Talcott, Societies. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall 1966, 26.
[87] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 222.
[88] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 224.
[89]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 74 .
[90]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 74، 75 .
[91] – ريتشارد أوزبرن وبورن فان لون، أقدم لك.. علم الاجتماع، مرجع سابق، 2005. ص 103.
[92] – Parsons, T., Theories of Society: foundations of modern sociological theory, Free Press, New York, 1961 , P.37.
[93]– Alvin gouldner, The Coming Crisis of Western Socilogy – (Heiman, London, 1973).
[94]– Lochwood, D. Some Remerks on the Social System Brithish , Journal of Sociology. 1956, col.7 pp.134-136.
[95]– Coser, L. a. The Function of Social Conflict (Fee Press, NewYork, 1956).
[96]– Dahrendorf, R. Out of Utopia: Towrads in reorientation of TV Sociological Analysis American Journal of Sociology, 1958, Vol.6, pp. 115-127.
[97] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 223.
[98] – خضر زكريا: نظريات سوسيولوجية، دمشق، الأهالي للطباعة النشر والتوزيع، 1998. ص 212 – 213.
[99] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 222.
[100] – نقلا عن: سمير نعيم أحمد: النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، ط 5، القاهرة، دار المعارف، 1985، ص: 210.
[101] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 223.
[102] – جون سكوت (تحرير )، خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، ترجمة محمود محمد حلمي مراجعة جبور سمعان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2009. ص 74.
[103] – رايت ميلز (C. Wright Mills) عالم اجتماع أمريكي راديكالي ) ولد في 28 أغسطس عام 1916، في (مدينة واكو) بولاية تكساس لأبوين من الطبقة المتوسطة، توفي في مارس 1962 إثر تعرضه لرابع أزمة قلبية، عن عمر يناهز 45 سنة في نيويورك. ويعتبر ميلز الأب الروحي للاتجاه الراديكالي في علم الاجتماع المعاصر، ومن الأعلام البارزين في اليسار الجديد بالولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات القرن العشرين المنصرم، لذا يمكن اعتباره شخصية أكاديمية غير عادية في علم الاجتماع الأمريكي آن ذاك، لأنه يؤمن بأن النخبة الأكاديمية في المجتمع يقع على عاتقها واجب أخلاقي لقيادة الطريق نحو مجتمع أفضل من خلال تلقنهم للقيم مع الجماهير. تبنى ميلز خلال حياته موقفاً لعل أفضل وصف له أنه جماهيري ليبرالي منه اشتراكي. ويعد كتابه ” المخيال السوسيولوجي (1959) ” من أكثر أعماله أهمية وشهرة ومن الأعمال الرئيسية الأخرى التي قام بها ميلز: من ماكس ويبر: مقالات في علم الاجتماع (1946)، رجال السلطة الجدد (1948)، ذوو الياقات البيضاء (1951)، الشخصية والهيكل الاجتماعي: علم النفس الاجتماعي (1953)، أسباب الحرب العالمية Three (1958)، and Listen، Yankee (1960).
[104] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 221.
[105] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 221.
[106] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 222.
[107] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 222.
[108] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 222.
[109]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 62.
[110]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 67 .
[111] – أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (4/ 1999)، برقم: (2586)، والبخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، (8/ 10) برقم: (6011)، بلفظ: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى.
[112] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 221.
[113]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 79 .
[114]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 80 .
[115]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 79 .
[116]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 77 .
[117]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 77 .
[118]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 77 .
[119]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 78 .
[120]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 79 .
[121]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم، مراجعة محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 244، إبريل 1999. ص 79 .
[122] – جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع – المجلد 1 – جامع الكتب الإسلامية، 2015 ,ص 54.
[123] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 208.
[124]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 67،68..
[125] – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 220.
[126] – Parsons, Talcott, On Building Social System Theory: A Personal History Pp. 22-76 in Social Systems and the Evolution of Action Theory, edited by .T. Parsons. New York: Free Press. 1977.
[127]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 77 .
[128]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 77 .
[129] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، ط 5، القاهرة، دار المعارف، 1985، ص: 210.
[130]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 62.
[131]– علي أسعد وطفة، السوسيولوجيا الاصطفائيّة: قراءة نقدية معاصرة في نظرية هربرت سبنسر، نقد وتنوير، 19 مارس، 2023 . https://tanwair.com/archives/16480
[132]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مرجع سابق، ص 61.
[133]– إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، المرجع السابق، ص 84 .
[134] – فتحية الطويل، النظرية الوظيفية الجديدة وتحليل البناء الاجتماعي، مجلة التغير الاجتماعي، العدد الأول، جامعة بسكرة، 2016، (صص217- 234) .
[135] – نيكلاس لومان: مدخل إلى نظرية الأنساق، ترجمة يوسف فهمي حجازي ، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا) ـ بغداد 2010 .
1 تعليق
تقدم المقالة نظرة شاملة على الدور البارز الذي لعبه تالكوت بارسونز في تطوير السوسيولوجيا الوظيفية في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين. هذه النقاط الخمسة تمثل تعليقًا على المقالة:
أولًا، يجب أن نقدر إسهامات تالكوت بارسونز في تطوير النظريات الوظيفية وتجديدها. عمله أسهم في تطوير نهج السوسيولوجيا الوظيفية وجعله يأخذ أبعادًا نظرية جديدة، مما ساهم في تفسير الواقع الاجتماعي بشكل أكثر تعقيدًا وشمولًا.
ثانيًا، من المهم أن نفهم السياق الاجتماعي الذي أثر على أفكار بارسونز. تعامل بارسونز مع الأزمات والتحديات الاجتماعية في أمريكا، وقدم نظرياته ورؤاه لمعالجتها والبحث عن حلول لها.
ثالثًا، يمكن القول إن نظرية بارسونز تعكس الوضع الاقتصادي والاجتماعي في أمريكا في تلك الفترة. كانت تسعى لتعزيز التوازن الاجتماعي والاستقرار، مما يعكس متطلبات النظام الرأسمالي والحاجة إلى الحفاظ على الاستقرار.
رابعًا، برغم أن نظرية بارسونز تجسدت في سياق أمريكا، إلا أنها أثرت على السوسيولوجيا بشكل عام. تعزز فكرته حول التضامن الاجتماعي والأمان أهمية فهم العلاقات الاجتماعية والتواصل في مجتمعات مختلفة.
ختامًا، يمكن القول إن تالكوت بارسونز كان مهمًا بشكل كبير في تطوير السوسيولوجيا الوظيفية وتعزيز الفهم الاجتماعي. إسهاماته في تطبيق نظرياته على الواقع الاجتماعي تظل لها أثر كبير في مجال السوسيولوجيا حتى اليوم.