لا شك في أن الأورغانون الأرسطي بشهادة معظم مؤرخي المنطق، قد تطور إلى حد بعيد، وأنه لا يوجد كتاب من كتابات “أرسطو” المنطقية ظل بدون تغيير، فضلاً عن أن معظم تلك الكتب قد وضعها “أرسطو” في زمن متأخر داخل إطار عام يتطابق إلى حد ما مع تعاليمه الأخرى، ولذلك فإن تحليل الخطوات المختلفة في تطوره تعد مهمة صعبة (1).
وهذه الصعوبة تتمثل في أن كل كتابات الأورغانون الأرسطي ليست بمستوي واحد، فبعض النصوص كما يذكر مؤرخ المنطق الألماني “بوشنسكي” لا يتجاوز نصوص “أفلاطون” أو معاصريه، بينما تدل نصوص أخري علي قدرة منطقية خارقة، ومن ثم فهي تكشف عن تقدم ملموس بالمقارنة مع النصوص الأخرى (2).
ويذكر مؤرخ المنطق ” بوشنسكي ” أنه يمكن استخدام معايير عديدة لذلك الأمر، وذلك علي النحو التالي (3):
1- استخدام القياس التحليلي (الحملي)، والذي يعد بمثابة الاكتشاف الأخير
2- استخدام الحروف، كاختصارات وكمتغيرات.
3- مستوي الصرامة المنطقية، والأسلوب والذي كان مختلفاً جداً في كتابات عديدة، وربما من المفترض أن يكون قد تحسن مع الوقت.
4- التحسن الذي طرأ علي تحليل القضية، من الشكل البسيط ” أ – ب ” مروراً باستخدام الشكل الأكثر تعقيداً، وإن الذي يوجد فيه ب في كله يوجد أ “.
5- إن الحروف تظهر علي الأرجح في البداية، كاختصارات بسيطة، ثم كمتغيرات حدية، وفي النهاية كمتغيرات قضوية.
6- إن القضايا الموجهة التي تتوافق مع فلسفة أرسطو الخاصة بالمستقبل، تعد فيما يبدو الاكتشاف الأخير.
ثم يؤكد ” بوشنسكي ” أنه بتطبيق هذه المعايير، فإننا نجد أن الأعمال المنطقية لأرسطو – علي الأقل من حيث الاهتمام – يمكن أن تكون قد كتبت بالترتيب التالي: –
أ- ففي البداية يأتي كتاب الطوبيقا ( مع كتاب السفسطة والذي يعتبر تكملة لكتاب الطوبيقا، وهو بمثابة المقالة التاسعة منه )، وهما لا يشتملان بأية حال علي متغيرات، كما أن القياس لم يكن قد تمت معرفته بعد ؛ علاوة علي أن المستوي المنطقي فيه متدن وتحليل القضية الحملية فيه بدائياً (4).
ب- كتاب المقولات، وهو ينتمي فيما يبدو إلى نس الفترة ؛ حيث يعد مدخلاً لكتاب العبارة (5) ؛ وهو يشتمل علي نظرية في الألفاظ، ويتعامل معها بدون استخدام متغيرات.
ت- كتاب العبارة، ولا بد أنه كتب فيما بعد، ويتضمن هذا الكتاب نظرية السيميوطيقا، التي كانت فيما يبدو في الأصل أفلاطونية، ومع أنه لا يوجد أثر في هذا الكتاب للمتغيرات وللأقيسة، إلا أنه من الملفت للنظر أن مستواه أعلي من كتاب الطوبيقا والسفسطة والمقولات ؛ علاوة علي اشتماله فصل في الموجهات، وإن كان لم يزل أولياً بالمقارنة مع ما يوجد في التحليلات الأولى (6).
ث- يمكن وضع المقالة الثانية من كناب التحليلات الثانية بعد ذلك مباشرة ؛ حيث إن أرسطو الآن في القياس والمتغيرات معاً، وإن كانت المتغيرات تستخدم دائماً كاختصارات فقط. أما عن المستوي المنطقي، فإنه قد كان فيما يبدو أدني درجة من الأجزاء الأخرى لكتاب التحليلات الأولى (7).
ج- أنه يجب أن نضع بعد ذلك الفصول 1، 2، 3، 7، 23، 46، من المقالة الأولى لكتاب التحليلات الأولى، كما أن ما لدينا ليس مجرد متغيرات فحسب، بل إنها مستخدمة كمتغيرات حدية. كما يوجد أيضاً تفصيل كامل للقياس، فضلاً عن أن المستوي التكنيكي للقياس ملفت للنظر (8).
ح- أما أخر الأعمال المنطقية، فربما تكون الفصول 3، 8، 22 من المقالة الأولى للتحليلات الأولى، والمقالة الثانية من الكتاب نفسه ؛ إذ أننا نجد هنا معظم النظريات الدقيقة كنظرية الموجهات. فضلاً عن استخدام المتغيرات أحياناً كمتغيرات قضوية (9).
وعلي ضوء هذا الترتيب الزمني السابق، فإنه يمكن القول بأن الأورغانون الأرسطي، قد تطور بالتمييز بين مرحلتين: مرحلة ما قبل التحليلات، ومرحلة التحليلات. في مرحلة ما قبل التحليلات، قام “أرسطو” بالتنظيم المنهجي لقواعد المجادلة، والتوسع في القسمة الأفلاطونية علي نحو ما يوجد في الطوبيقا والمقولات والعبارة، وهي الكتب التي طور فيها أرسطو إلى حد بعيد وقرر بوضوح مجموعة القواعد أو القوانين التي تقوم عليها هذه القسمة (10).
علاوة علي ذلك، فقد حاول “أرسطو” في تلك المرحلة إبراز العمومية في أعماله عن طريق الاستخدام غير الملائم إلى حد ما للضمائر، أو عن طريق الأمثلة علي نحو ما يفعل “أفلاطون” في محاورة الجمهورية.
أما مرحلة التحليلات، فقد أتاها اسمها من موضوعها ومنهجها، فموضوعها أجزاء القياس والبرهان، وهما آلة العلم الكامل ومنهجها تحليل القياس والبرهان إلى أجزائها، فإن العلم الكامل إدراك الشيء بمبادئه، ولا يتسنى هذا الإدراك إلا بالتحليل، والبرهان ينظر إليه من حيث صورته ومن حيث مادته، فهو ينحل إلى مبادئ صورية، وأخري مادية، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ الصورية التي يتعلق بها لزوم التالي من المقدم لزوماً ضرورياً بصرف النظر عن مادة البرهان، تسمي التحليلات الأولى، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ المادية التي يتعلق بها صدق التالي، تسمى التحليلات الثانية (11).
وكتاب “التحليلات الأولى “، يمثل مرحلة القطيعة المعرفية لكل صور الممارسات السابقة للفكر المنطقي عند كل من الأيليين، والسوفسطائيين، وأفلاطون، والتي كانت متمثلة في منهج القسمة الثنائية، حيث أخذ “أرسطو” في أوائل “التحليلات الأولى ” علي منهج القسمة في أنه لا يوصل إلى نتيجة مفيدة، نظراً لأنه بدلاً من نيل موافقة الآخر علي نحو ما، فإنه يتوجب علي هذا المنهج في كل خطوة من خطواته، أن يرجوه بالموافقة علي إدراك ذلك، ولهذا انتهي أرسطو إلى أن أسلوباً كهذا يعجز عن الإيصال إلى نتيجة، وبالتالي فهو غير استنتاجي. إذ أنه عندما نقسم المرتبة ” أ ” المنتمية إلى ” ب ” بدلاً من ” لا – ب”، إذ لا بد من موافقة المحاور علي ذلك، حتي نتمكن من التقدم، وهو ما نحتاجه باستمرار في كل خطوة جديدة، وحول هذه النقطة لا يقدم لنا منهج التقسيم أية مساعدة، ولهذا انتهي “أرسطو” إلى أن “القسمة الثنائية” ما هي إلا مجرد قياس ضعيف لا يمكنه في الواقع إثبات شيء، ولكنه يكمن في سلسلة الافتراضات (12).
وكذلك فإن كتاب “التحليلات الأوليط يقطع الصلة المعرفية بينة وبين كتاب الطوبيقا لأرسطو نفسه، والذي يعتبر أحد مؤلفات الشباب التي كان يتمرس فيها “أرسطو” ويتدرب علي صياغة القواعد النظرية لعلم المنطق كما جاءت بعد ذلك في التحليلات الأولى (13).
فعلي سبيل المثال لا الحصر، نجد في كتاب الطوبيقا فقرتين سابقتين لنظرية الرد غير المباشر الوارد في الفصول من الواحد والثلاثين إلى الخامس والأربعين من الباب الأول من كتاب التحليلات الأولى الفقرات 46 b 40-50 bH، ومؤدي الفقرة الأولى: إذا ما كان الخير جنساً للذة، فهل تكون أي اللذة، ليست خيراً، لأنه إذا ما وجدت لذة غير خيرة فسوف يتضح أن الخير ليس جنساً للذة، لأن الجنس يجمل علي كل شيء يندرج تحت أي نوع معطي (14).
ونلاحظ هنا أنه توجد إشارة إلى قياس وارد في صورة الضرب Barabara (من الشكل الأول ) ” إذا كانت كل لذة خيراً، وكانت س لذة فإن س هي خير ” لإثبات صحة قياس في صورة الضرب Felapton (من الشكل الثالث)، وإذا ما كانت ” لا س ” هي خير، وكل ” س”، فإن بعض ما هو لذة ليس خيراً (15).
وتوجد إشارة مماثلة لهذا في الفقرة التالية ” لننظر ثانية ما إذا كان النوع المفترض يصدق علي شيء ما، ولكن الجنس لا يصدق عليه، مثل ما إذا جعلنا الموجود أو الذي يمكن معرفته جنساً للذي يمكن أن ندلي برأي عنه. لأن الذي يمكن أن ندلي برأي عنه يمكن أن يحمل علي شيء غير موجود ( لأن كثيراً من الأشياء غير الموجودة هي موضوعات للفكر)، ولكن من الواضح أن الموجود والذي يمكن معرفته هو جنس للذي يمكن أن ندلي برأي عنه (16).
وفيما يلي قياس من الضرب Ferison من الشكل الثالث ط إذا كان لا واحد ما هو غير موجود،، موجود وبعض ما هو غير موجود يمكن التفكير فيه، فإن ليس بعض ما يمكن التفكير فيه يكون غير موجود، ويمكن رد هذا القياس إلى قياس من الضرب Darii من الشكل الأول، فنقول ” إذا كان كل شيء نفكر فيه موجوداً وبعض غير الموجود يمكن التفكير فيه، فإن بعض غير الموجود يكون موجوداً (17).
وفي هذين المثالين من الأقيسة كما في التحليلات الأولى، يشير أرسطو إلى الشكل الأول للرد، ولكنه يصوغ أمثلته دون استخدام متغيرات (18).
وثمة نقطة أخري جدية بالإشارة، وهي أن كتاب الطوبيقا لم يقطع صلته بالفكر المنطقي الأفلاطوني، بدليل أن ممارسة فني التصنيف والتعريف في الأكاديمية، هي التي حددت محتويات كتاب الطوبيقا، ومن المحتمل أن تكون نظرية المحمولات هي التي اكسبت كتاب الطوبيقا الوحدة بما تنطوي عليه من وحدة قد درسها الأكاديميون من قبل، لأن “أرسطو” يعرض للمصطلحات الأساسية، مثل الخاصة والعرض والجنس والنوع والفصل، كما لو كانت معروفة من قبل. وكتاب “الطوبيقا” هو نتاج للتفكير المنهج الجدلي المستخدم في الأسئلة المتعلقة بالتعريف والتصنيف (19).
علاوة علي أن القصد من كتاب “الطوبيقا”، فيما يقول أرسطو هو ” أن نستنبط طريقاً يتهيأ لنا به أن نعمل من مقدمات ذائعة قياساً في كل مسألة تقصد “(20)، فإن الكتاب يكون في الواقع عملاً منطقياً قائماً علي مبدأ عام يمكن علي أساسه البرهنة علي أمور حسية، وهذه المبادئ إما أن تكون قواعد منطقية – ويوجد هنا عدد ليل من هذه الواعد علي عكس ما يحدث في التحليلات أو إرشادات منهجية وملاحظات سيكولوجية (21).
من كل ما سبق يتضح لنا أن كتاب الطوبيقا لم يتعد مرحلة الممارسة العفوية للتفكير المنطقي السابق علي أرسطو، حتي وإن انطوي علي بعض القواعد المنطقية، بدليل أن لغة كتاب “الطوبيقا” هي نفس لغة “أفلاطون” ومن قبله السوفسطائيين والأيليين. ولذلك فإن كتاب الطوبيقا هو أحد مؤلفات الشباب التي كان يتمرس فيها “أرسطو” للتدريب علي صياغة القواعد النظرية لعلم المنطق كما جاءت بعد في التحليلات الأولى.
ولذلك فإن كتاب التحليلات مختلف تماماً عن كل ما سبقه من تراث منطقي عند الفلاسفة اليونان، فهو يمثل قطيعة معرفية مع هذا التراث – أي بدون أن يلغيه أو ينفيه ؛ بل يتعداه ويتجاوزه. ولذلك يمكن أن ندرس معالم الجدة المطلقة التي تميز بها هذا الكتاب فيما يلي:
1-لغة التحليلات الأولى:
إذا كانت الوسائل التكنيكية المفيدة لدراسة المنطق كالمتغيرات وما يرتبط بها من المصطلحات لم تظهر في كتابات “أرسطو” في مرحلة ما قبل التحليلات، فإنها سرعان ما بدأت تظهر بوضوح في كتاب “التحليلات الأولى ” ؛ حيث يستخدم أرسطو في هذ الكتاب الحروف الأبجدية، كالمتغيرات، مما يعد وسيلة جديدة ومطلع عهد جديد في التكنيك المنطقي علي حد قول المؤرخ المنطقي “وليم نيل” (22).
ففي التحليلات الأولى كان “أرسطو” يصوغ جميع الأقيسة الصحيحة من خلال الرموز، وكان لا يأتي بأمثلة لغوية إلا في حالات نادرة، وخاصة عندما يريد أن يبين أن بعض الأقيسة فاسدة. وقد كانت أصغر الوحدات تتألف منها نظرية أرسطو هي الحدود، ويرمز لها أرسطو بحروف معينة. والحد يمكن أن يكون موضوعاً أو محمولاً في قضية أو مقدمة قياس. وبدل أن يستعمل أرسطو الألفاظ حدود منطقية، نجده يتخلى عن هذا العمل ويستعمل الرموز، وتتميز هذه الرموز بأنها تشير فقط إلى موضع الحد، ويمكننا أن نضع محل هذه الرموز ألفاظاً لغوية معينة لنحصل أخيراً علي عبارات لغوية، وأهم ما تتميز به هذه الرموز أنها لا تدل علي معني ثابت ؛ بل إنها مجردة من كل معني، وهذه الرموز هي متغيرات، وهذه المتغيرات علي نوعين: إحداهما – متغيرات تشير إلى الموضوع في القضية، وثانيهما – متغيرات تشير إلى المحمول في القضية (23).
وقد كان “أرسطو” حريصاً علي كتابة القضايا في صورة رمزية، إذ كان يضع حروف الهجاء كرموز للمتغيرات، وهذه المتغيرات ترمز إلى الحدود في القضية، ومن المألوف أن تعبر كتب المنطق التقليدي عن القضية الكلية الموجبة مثلاً بالصيغة كل أ يكون ب، (All A is B)، لكن لم تكن هذه طريقة أرسطو في صياغتها، فقد كان أرسطو يقدم المحمول علي الموضوع من خلال صيغة معينة هي: ب محمول علي كل أ (B is Predicated of All A) أو ب تنتمي إلى كل أ B is Belongs to All A)). وكان أرسطو يصوغ القياس في صورة رمزية أيضاً، لكنه لم يضعه في صورة استدلال، بحيث يوضع القياس ي ثلاثة أسطر متتابعة، وأمام النتيجة علامة إذن، كما نألف في كتب المنطق التقليدي، ( أن أول من استخدم هذ الرسم للقياس هو الإسكندر الأفروديسي Alexander of Aphrodisas في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث الميلادي ) (24).
كان “أرسطو” يصوغ القياس في صورة قضية شرطية متصلة تعبر المقدمتان مرتبطتين بواو العطف عن المقدم، وتعبر النتيجة عن التالي: ( إذا كان أ محمولاً علي ب، ب محمولاً علي كل ج، فإن أ محمولاً علي كل ج ) يزداد استخدام أرسطو لمتغيرات الحدود، حين يتحدث عن قوانين الفكر ونقض المحمول وعكس النقيض: (إذا كان أ محمولاً علي كل ب، ب محمولاً علي بعض أ ) وهكذا (25).
ومن جهة أخري فقد استخدم “أرسطو” في سياق واحد حروف الهجاء، رموزاً للقضايا لا للحدود، حين أثبت أن ما هو ضروري ينتج عما هو ضروري، وأن الممكن ينتج عنه الممكن، وأن القضية الضرورية والممكنة لا يلزم عنها قضية مستحيلة وقال: “… إذا كان أ محمولاً علي، ب محمولاً علي ج، فإن أ محمولاً علي ج، وإذا كانت كل منها ممكنة، فالنتيجة ممكنة، وإذا وجب علينا أن نعتبر مثلاً “أ “ضرورياً يكون “ب ” ضرورياً. بل وينتج أيضاً أنه إذا كان أ ممكناً يكون ب ممكناً، وما دمنا قد برهنا علي، فمن الواضح أنه إذا قمنا بفرض خاطئ، لكنه ليس مستحيلاً، فإن نتيجة الفرض سوف تكون خاطئة، لكنها ليست مستحيلة. إذا كان “أ” خاطئاً، لكنه غير مستحيل، وإذا كاب نتيجة “أ”، فإن “ب” خاطئ، لكنه ليس مستحيلاً (26).
ولذلك فقد تمكن “أرسطو” بفضل استخدام المتغيرات من التعبير مباشرة عن العديد من المبادئ المنطقية، وذلك بالإشارة إلى ما يمثلها بلغة المخطط الاستدلالي بدلاً من وضعها بشكل يتجاوز المنطق أو تفسيرها بأمثلة قياسية علي نحو ما يفعل في مرحلة ما قبل التحليلات، بما فيها كتاب العبارة. ولهذا يقال أن إدخال المتغيرات في المنطق اختراع أرسطي لم يسبقه إليه أحد (27).
وها هو ذا العالم المنطقي البولندي ” يان عالم المنطق البولندي “يان لوكاشيفتش” يقول: ” وقد كان إدخال المتغيرات في المنطق من أعظم مبتكرات أرسطو، ويكاد المرء لا يصدق أن أحداً من الفلاسفة أو اللغويين لم ينبه للآن إلى هذه الحقيقة الفائقة الأهمية. ولهذا أجازف بالقول إنهم لا بد كانوا جميعاً معرفة الرياضيات، إذ يعلم كل رياضي أن إدخال المتغيرات في علم الحساب كان فتح عهد جديد في ذلك العلم. ويبدو أن أرسطو قد أعتبر ابتكاره هذا شيئاً واضحاً لا يحتاج غلي بيان، وذلك لأنه لا يتكلم عن المتغيرات في أي موضع من مؤلفاته المنطقية، وكان الاسكندر (الأفروديسي) أول من قال صراحة إن أرسطو صاغ أقيسته من حروف Stoicheia، حتي يبين أن النتيجة لا تلزم عن مادة المقدمتين، بل تلزم عن صورتيهما واجتماعهما، فالحروف علامات الشمول و وهي تدل علي لزوم النتيجة دائماً آياً كانت الحدود التي نختارها. وثم شارح آخر هو “يوحنا فيلوبونوس”، كان يدرك تمام الإدراك أهمية المتغيرات ومغزاها، فهو يقول إن “أرسطو” بين بالأمثلة كيف يمكن عكس المقدمات جميعاً، ثم وضع بعض القواعد الكلية الخاصة بالعكس مستخدما في ذلك الحروف بدلاً من المتغيرات، وذلك لأن القضية الكلية يدحضها مثال واحد تكذب فيه، ولكن البرهنة علي صدقها لا تكون إلا بالنظر في كل أحوالها الجزئية ( وهو أمر لا نهاية له، وهو من ثم ممتنع) أو بالرجوع إلى قاعدة كلية بينة. ويصوغ أرسطو هذه القاعدة من حروف وللقارئ أن يعوض عن الحروف بما يشاء من الحدود المتعينة (28).
وقد برر بعض مؤرخي المنطق عدم قيام “أرسطو” بأية محاولة لشرح استخدامه، بأنه ربما كان معتاداً علي استخدامها في محاضراته في “اللقيون”، أو ربما أيضاُ لأن “أرسطو” اعتبر ابتكاره هذا شيئاً واضحاً لا يحتاج إلى بيان، ولهذا السبب لم يتحدث عن المتغيرات في أي موضع من مؤلفاته. إلا أن ” بوشنسكي ” لا يوافقهم علي هذا خاصة، وأن أرسطو نفسه نص أن الانتقال إلى المتغيرات كان يتم بصورة بطيئة. كما لو أن الأمر يبدو أن أرسطو نفسه لم يدرك تماماً أنه يتعامل مع متغيرات. وإن كان ” بوشنسكي ” يري في الوقت نفسه أنه مع أن أرسطو أستخدم نوعا واحداً من المتغيرات للفئات وللأفراد، الأمر الذي تسبب في وجود خلط نظرا لأنه يميز بوضوح شديد بين القوانين المتعلقة بالأفراد والقوانين الخاصة بالفئات (29).
مما سبق يتضح لنا أنه إذا كان “أرسطو” في أعماله المبكرة، قد حاول إبراز العمومية عن طريق استخدام الضمائر والأمثلة، إلا أنه في التحليلات الأولى قد تخلص من ذلك تماماً، وذلك من خلال استخدامه للمتغيرات التي أعطت لتعبيراته قدراً كبيراً من الوضوح والإيجاز ؛ وخاصة في إطار القواعد المنطقية المعقدة، كالقواعد الخاصة بالقياس، والتي يكون استخدام المتغيرات فيها أمراً لا مفر منه تقريباً.
2- منهج التحليلات الأولى:
عندما اكتشف “أرسطو” مبدأ القياس ( مقالة الكل ولا واحد Dictum de omni et nullo ) (30) – وهو صلب المنطق الأرسطي وضحت له صياغة نظريته في التحليلات الأولى، وترسخت عنده هذه الفكرة، وهو أنه المنهج الوحيد الذي يستطيع بواسطته أن يشيد العلم آياً كان، وبما أن اكتشاف مبدأ القياس، قد ارتبط تاريخياً عند “أفلاطون”، و”أرسطو” نفسه بنظرية التعريفات، قد اعتقد “أرسطو ” أنه لاكتشافه هذا، إنما اكتشف في الوقت نفسه المنهج الذي يستطيع بواسطته تشييد النظرية العامة في التعريفات، التي تستند إليها أي نظرية عامة في العلم (31).
وهكذا أصبح القياس بأشكاله وقواعده الثابتة بالنسبة لأرسطو هو المنهج الذي يستطيع بواسطته الانتقال من تشييد نظرية العلم إلى تشييد العلم نفسه. ومعني هذا أن كتاب “التحليلات الأولى “، قدم لأول مرة منهج جديد في تاريخ علم المنطق، وهو المنهج الاستنباطي، وذلك في بناء نظرية القياس، وهذا المنهج يمثل قطيعة معرفية مع منهج القسمة الثنائية الذي استخدمه أفلاطون في محاورة “السوفسطائي”، بدليل أن أرسطو بعد أن عرف القياس وحلله، شرع يقارن بين منهج القياس ومنهج القسمة الثنائية، فيقول: ” إن هذه القسمة قياس ضعيف أو عاجز، لأنها خلو من حد أوسط، فهي تقول مثلاً: الكائنات إما حية وإما غير حية، فلنضع الإنسان في الحية، والحيوانات إما أرضية وإما مائية. فلنضع الإنسان في الأرضية، وهكذا حتي تمضي جميع خصائص الإنسان، ولكنها لا تبين علة إضافية خاصة دون الخاصة المقابلة، وإنما نضعها وضعاً. فما لا نجده عند أفلاطون هي فكرة أن الاستدلال إقامة البرهان علي أن المحمول يوافق الموضوع، وهذا لا يتحقق في القسمة، إن القسمة مصادرة علي المطلوب الأول في جميع مراحلها، فإن صح أن القسمة الأفلاطونية، هي التي أدت إلى القياس، فإن الفرق بعيد بين الطريقتين (32).
3– شكل نظرية العلم في التحليلات الأولى:
قدم “أرسطو” في التحليلات الأولى نظرية مكتملة في الاستدلال المنطقي التحليلي وهدفها العلم الاستنباطي، إلا أنه لم يخطر ببال “أرسطو” مطلقاً أن يكون منطقاً صورياً علي النحو الذي أراده – مثلاً – عالم المنطق الإنجليزي “هاملتون” – فيما بعد لتحليلاته الجديدة. صحيح أن نظرية القياس تبدو في التحليلات الأولى، وكأنها مقطوعة الصلة بمضمون الفكر، إلا أن هذه الفكرة باطلة رغم شيوعها، حتي بين المتخصصين في المنطق، وسرعان ما تتداعي حين نعلم أن ” نظرية القياس ” ما هي تمهيد أو إعداد لنظرية البرهان، موضوع التحليلات الثانية، والتي كانت الهدف النهائي من المنطق الأرسطي (33).
ومن هنا جاء كتاب ” التحليلات الثانية ” بعد ذلك ليحكي لنا بشكل عام، مدي النجاح الذي حققه “أرسطو” في تشييد المعرفة الضرورية البرهانية، فلا غرابة بعد هذا أن يكون القياس عند “أرسطو” – علي ما فيه من عيوب ومآخذ – هو وسيلتنا أو أداتنا الوحيدة في تشييد العلم، أو أن يكون ذهب إلى ذلك بعض تلاميذه من بعده ليمثل المدخل الضروري لكل علم (34).
وبذلك تصبح النظرية المنطقية المتمثلة في القياس برمتها عند أرسطو – هي في خدمة العلم، ومعني هذا بعبارة أخري أن المنطق ظل علي علاقة وثيقة بالواقع، ولهذا فد اكتسب إلى حد بعيد الطابع التجريبي، كما أنه ظل مرتبطاً بالميتافيزيقيا، إذ أنه يعد وسيلتها المنهجية في التعبير عن نفسها. وباختصار فإن النظرية الاستدلالية المنطقية التي تضمنها كتاب “التحليلات الأولى ” تستند إلى نزعتين فلسفيتين متكاملتين عند أرسطو هما: النزعة الواقعية من جانب، والنزعة العقلانية من جانب آخر (35).
بعد هذه الجولة السريعة من الحديث عن ” كتاب التحليلات الأولى الأرسطية.. قراءة إبستمولوجية “، يمكن أن نلخص أهم النقاط التي توصلنا إليها، وذلك علي النحو التالي:
1- إذا كان المنطق يهتم أساساً، بدراسة الفكر الذي نعبر عنه في صورة عبارات وقضايا، لكي يستخلص منها المبادئ المنطقية للفكر آياً كان. فإن الناس لم ينتظروا أرسطو، حتي يأذن لهم أن يفكروا، بل فكر الإنسان وقاس واستنبط الأمور من بعضها البعض منذ أن وجد علي ظهر الأرض، وتعريف أرسطو للإنسان بأنه ” حيوان مفكر ” أو ” عاقل ” ما كانا ليكون كذلك لولا أن الإنسان هو بطبعه مفكر.
2- إذا كان العرف قد جري علي أن الأورغانون الأرسطي، يبدأ بكتاب المقولات، يليه العبارة، ثم التحليلات الأولى، ثم التحليلات الثانية، ثم الطوبيقا، وأخيراً كتاب السوفسطيقا. إلا أن أرسطو لم يتبع هذا الترتيب في مؤلفاته ولا يوجد أي دليل يؤيد التصنيف الذي وضعه ” أندرنيقوس الرودسي “، لكتابات أرسطو المنطقية، خاصة بعد أن تبين أنه لا يوجد كتاب من تلك الكتابات ظل بدون تغيير، فضلاً عن أن معظم تلك الكتب قد وضعها أرسطو في زمن متأخر داخل إطار عام يتطابق مع تعاليمه الأخرى.
3- ليس صحيحاً أن أرسطو اخترع علم المنطق بدون مرشد ؛ فقد ثبت في ثنايا هذا البحث أن أرسطو قد استفاد في صياغته لموضوعات المنطق المختلفة من أبحاث المفكرين السابقين عليه في الرياضيات واللغة والجدل الفلسفي الذي بدأته المدرسة الأيلية وأكمله من بعدهم كبار أعلام السوفسطائيين. فمن صلب الجدل الأيلي خرج المنطق وتطورت الرياضيات، ولم تكن حجج زينون الخاصة بنفي الكثرة والحركة – مثلاً- والتي تعتمد علي فكرة القسمة الثنائية وفكرة اللانهاية بجدل عابث لا طائل من ورائه، بل كانت الأساس الأول الذي بني عليه فيما بعد حساب التفاضل والتكامل في الرياضيات. كما أن فكرة اللانهاية التي يقوم عليها جدل الأيليين وخوفهم من وقوع العقل الإنساني في الخطأ عبر القسمة الثنائية التي لا تنتهي هي التي عملت علي اكتشاف مبدأ عدم التناقض ومبدأ قياس الخلف، الأساس الذي بني عليه التفكير النقدي – فيما بعد – في المنطق والرياضيات علي السواء.
4- إذا نظرنا إلى جوهر المنطق الأرسطي، والمتمثل في نظرية القياس القائم علي القضية الحملية، فإننا نجد أن أرسطو قد أخذ الفكرتين معاً من أستاذه، حينما كان بصدد قراءة نقدية في التعريفات قراءة نقدية.
5- إن كتاب التحليلات الأولى يعد ثورة بالفعل داخل ميدان المنطق، وهذه الثورة قد أنجزها أرسطو بمفرده، ونقل بها هذا الفرع من فروع المعرفة، من مرحلة الممارسة العفوية عند ” زينون ” و ” السوفسطائيين ” و “أفلاطون “، إلى مرحلة الصياغة النظرية، ولذلك فإن كتاب التحليلات الأولى يمثل قطيعة معرفية، وقد تمثلت أبعاد تلك القطيعة في لغة المتغيرات، ومنهج الاستنباط ونظرية البرهان.
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
الهوامش
1- W. Kneale , M. Kneale: The Development of Logic ,Clarendon Press , Oxford , 1984 , P.23-24.
2-روبير بلانشي: المنطق وتاريخه، ص 41.
3- أ. م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، دار الثقافة لدنيا الطباعة والنشر، 1990م، ص 102-103.
4-نفس المرجع، ص 103.
5- د. محمد فتحي عبد الله: الجدل بين أرسطو وكنط، دار الوفاء، الاسكندرية، 1999م، ص 36.
6- أ. م. بوشنسكي: المرجع السابق، ص 104.
7- نفس المرجع، ص 104.
8- نفس المرجع، ص 104.
9- نفس المرجع، ص 105.
10- نفس المرجع، ص 105.
11- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص46.
12- أرسطو: منطق أرسطو، ج1، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ط1، وكالة المطبوعات، الكويت، 1980، ص225.
13- د. حسن عبد الحميد: التفسير الابستمولوجي لنشأة العلم الحديث، بحث منشور ضمن كتاب نظرية المعرفة، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1988م،.. ..، ص 201.
14- Aristotle: Topica, Translated by W. A. Pickard-Cambridge، B.IV،ch.1, 120b, 17-20.
15- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 125.
16- Aristotle: op cit، B.IV,ch.1،101b, 20 ff.
17- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 125.
18- W. Kneale , M. Kneale The Development of Logic, London, 1990, p.38-39.
19- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 127-128.
20- Aristotle: op cit، B1،100a, 1 ff.
21- أ. م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، ص 128.
22- W. Kneale، M. Kneale: op.cit , p.61.
23- د. ياسـين خــليل: نـظرية أرسطو المنطقية، مطبعة أسعد، بغداد، 1964، ص 47-48.
24- د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي ” نشأته وتطوره “، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2002، ص 28.
25- نفس المرجع، ص 28-29.
26- Aristotle: Prior Analytic , Translated by A. J. Jenkinson, 1.15,34a.20-28.
27- د. محمود فهمي زيدان: المرجع السابق، 29.
28- يان لوكاشيفتش: نظرية القياس الأرسطية من وجهة نظر المنطق الصوري الحديث، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1961، ص 20-21.
29- أنظر مقدمة د. إسماعيل عبد العزيز لترجمته لكتاب أ. م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، ص 27-28.
30- وهذا المبدأ ينص علي أن: ” كل ما يكون محمولاً بشكل مستغرق – إيجاباً أو سلباً علي أي فئة، يمكن أن يحمل بنفس الطريقة علي أي شيء يتقرر انتماؤه إلى تلك الفئة. “
أنظر: د. محمد مهران: مدخل إلى المنطق الصوري، دار الثقافة، القاهرة، 1991، ص 227.
31- د. حسن عبد الحميد: التفسير الابستمولوجي.. ..، ص 228-229.
32- Aristotle: Prior Analytic ,24b.18-.
33- د. حسن عبد الحميد: نفس المرجع، ص 228-229.
34-: نفس المرجع، ص 229.
35-: نفس المرجع، ص 230.
1 تعليق
يعطيك العافيه استاذ على هذه المقاله الرائعه فقد استفدت منها كثيرا اتفق تماما بان الكتابات القديمه لا تظل كما هي بل تتغير بالطبع للافضل ،فلابد من هذه التغيرات للزياده من الاكتشافات فمن الاشياء التي استفدت منها تأيد بوشنسكي بانه استحدمه معايير عديده لذلك الامر واعجبت كثيرا كذلك بالترتيبات لتطبيق هذه المعايير حيث انها اهتمت اهتمام كبير الا وهي فالبدايه يأتي كتاب الطوبيقا وبعدها المقولات ووبعدها كتاب العباره والى اخره من التريبات الباقيه واعجبتب ربط ارسطو القياس بالمتغيرات و واعجبت بان ارسطو قام كذلك بابراز العموميه عن طريق استخدام الضمائر والامثله بالبدايه وبعدها في التحليلات الاولى تخلص منها وبعدها استخدم المتغيرات التي اعطت نجاح من الوضوح والايجاز واخيرا اتت التحليلات الثانيه لتحكي النجاح الذي قدمه ارسطو فكل ما قراته استفدت منه لم يكن لي علم بذلك الموضوع من قبل شكرا جزيلا