ملخّص:
نحاول في هذا المقال تسليط الضّوء على إشكاليّة العدالة والدّيمقراطيّة في الفلسفة السّياسيّة المعاصرة، وذلك من خلال استدعاء وجهين بارزين من وجوهها، هما الفيلسوفان: الألمانيّ يورغن هابرماس والأمريكيّ جون رولز. وسنركّز بالأساس على الاختلافات القائمة بينهما في تصوّرهما للعدالة من حيث كونها إنصافا لدى رولز وتشاورا عند هابرماس، وهي اختلافات مشروعة بالنّظر إلى خصوصيّة كلّ تقليد؛ فالتّقليد الفلسفيّ الأمريكيّ الّذي ينتمي إليه الأوّل ليس هو التّقليد الفلسفيّ الألمانيّ الّذي يمثّلُه الثّاني.
أمّا وجه الاختلاف الآخر فيكمن في تصوّرهما للدّيمقراطيّة، ذلك أنّ رولز يؤسّس الدّيمقراطيّة على معايير عقلانيّة ومُجرّدة يُتَوصّل إليها في وضعيّة بدئيّة تعاقديّة وهي وضعيّة يغيب فيها التّواصل، طالما أنّ كلّ المتعاقدين يمتلكون وجهة نظر سياسيّة ليبراليّة مُشتركة. في المُقابل، نجد أنّ هابرماس يؤسّس الدّيمقراطيّة على مبدأ التّشاور فكلّ المبادئ المتوصّل إليها هي نِتاجُ نقاش حُرّ بين الذّوات في إطار فضاء عموميّ مفتُوح للجميع، لكنّ الرّهان المُشترك للفيلسوفين هو بناء مجتمع ديمقراطيّ عادل ومُستقرّ تحكمه مبادئ مُستقلّة عن أيّ تصوّر مُسبق للخير، وهو ما عبّر عنه رولز بمفهوم “التّوافق المتشابك”، ودعاه هابرماس بمبدأ “الإجماع”. وضمن هذا المنظور، حاولنا أن نُبيّن مدى حدود هذا المبدأ في مُقاربة هابرماس.
الكلمات المفتاحيّة: العدالة، الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة، الدّيمقراطيّة التّشاوريّة، التّواصل، الإجماع.
Abstract:
This article attempts to shed light on the issue of justice and democracy in contemporary political philosophy by invoking two prominent figures; the German philosopher Jürgen Habermas and the American philosopher John Rawls. It primarily focuses on the differences between both philosophers about the conception of Justice with Rawls viewing it as fairness and Habermas emphasizing deliberation. Differences renames legitimate considering the distinctiveness of each philosophical tradition. The first, representing the American philosophical tradition, differs from the second, who embodies the German philosophical tradition.
The other facet of difference lies in their conceptions of democracy. Rawls grounds democracy on rational and abstract norms derived in an original contractual position devoid of communication, as long as all contractors share a common liberal political conception. In the contrary, Habermas establishes democracy on the principle of deliberation, where all principles are the result of free intersubjective discourse within an open public sphere. However, the common objective for both philosophers is to build a just and stable democratic society governed by independent principles of the good life. This is what Rawls expressed as the concept of “Overlapping Consensus,” while Habermas referred to it as the principle of “Consensus” Within this framework; we aim to explore the limits of this principle in Habermas’s approach.
Keywords: Justice, Democracy Liberal, Democracy Deliberative, Communication, Consensus.
1- مقدمة:
يُعدّ الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس J. Habermas(1929-….) واحدا من الوجوه الفلسفيّة البارزة في القرن العشرين، وأحد أبرز ممثّلي الجيل الثّاني لمدرسة فرانكفورت النّقديّة. عُرف بدفاعه عن قيم الحداثة والعقل والتّنوير وحرصه الكبير على تكوين رأي عامّ مُستنير، ساعيا إلى تأسيس مجتمع ديمقراطيّ مُتحرِّر من كلّ أشكال الضّغط والهيمنة والاستلاب، مجتمع يُمكِّن كلّ المُواطنين من التّعبير عن آرائهم كيفما كانت وجهة نظرهم، ويُمكِّنهم كذلك من تحقيق تواصل شفّاف خال من العنف والإكراه بُغية الوصول إلى تفاهُم مُشترك في شأن القضايا الشّائكة المطروحة للنّقاش.
من هذا المنطلق، عمل هابرماس على ربط الدّيمقراطيّة بالتّواصل، مُستفيدا من مكتسبات نظريّة الفعل التّواصليّ وأخلاقيّات المناقشة، وعيا منه بأنّ مبدأ التّواصل هو الّذي يُعطي لكلّ مواطن حقّ النّقد والتّعبير عن رأيه، وهو ما يساهم في بناء وعي حرّ لا تحكمه المؤسّسات أو الإيديولوجيّات على اختلافها، ولا تُوجّهه مصلحة أو غاية محدّدة وإنّما يسعى إلى تحقيق التّفاهم بين الذّوات استنادا إلى أخلاقيّات المُناقشة والحوار واعتمادا على أفضل حجّة.
عند ربطه الدّيمقراطيّة بالتّواصل تمكّن يورغن هابرماس من توسيع دائرة النّظريّة اللّيبراليّة وتجذير المقاربة الرّولزيّة -نسبة إلى جون رولز- الّتي تفتقر، في نظره، إلى الجدَّة النّظريّة، فمعه، صرنا أمام تصوّر جديد للدّيمقراطيّة يقوم في مجمله على “براديغم التّواصل” ويبتغي الدّفاع عن الدّيمقراطيّة التّشاوريّة والعقلانيّة التّواصليّة كأساسين متينين للعدالة. وهذا ما عبّر عنه في عمله الموسوم بــ “الحقّ والدّيمقراطيّة” (1992) الّذي يعدّ أهمّ كتاب في الفلسفة السّياسيّة المعاصرة بعد “النّظريّة في العدالة” (1971) لجون رولز، ففي هذا الكتاب، وفي “الاندماج الجمهوريّ” (1996)، سيحاول هابرماس الإجابة عن إشكال مركزيّ أرّقه -وأرّق قبله الفيلسوف الّذي حاوره رولز- وهو: كيف يُمكن تحقيق اندماج اجتماعيّ واستقرار سياسيّ في ظلّ وجود تعدّديّة سياسيّة ومذهبيّة عميقة؟
سعيا منه لتحقيق هذا الرّهان، دافع هابرماس عن الدّيمقراطيّة التّشاوريّة ذات البعد الأخلاقيّ، ما يعني أنّه لا سبيل لتحقيق استقرار سياسيّ واندماج اجتماعيّ إلاّ في بيئة ديمقراطيّة يلعب فيها المُواطن دورا محوريّا، وهو ما يعكس بجلاء إيمانه العميق بأهمّيّة الدّيمقراطيّة التّشاوريّة في حلّ المشاكل المطروحة داخل المجتمع التّعدّديّ المعاصر. لا نستحضر مقاربة هابرماس لغرض التّعرّف وجهة نظره الخاصّة للدّيمقراطيّة والعدالة فقط، ولكن لنبرز أيضا حدود النّظريّة اللّيبراليّة الرّولزيّة تبعا لانتقادات أنصارها ورافضيها. وفي هذا السّياق، كان هابرماس أحد أبرز منتقدي هذه النّظريّة فهو ينتمي إلى نفس المسَاق البرهانيّ الّذي خطَّه رولز لكن دون الحلول فيه حدّ التّماهي.
بناء على ذلك نتساءل، ما هي مبرّرات الرّبط بين الدّيمقراطيّة والتّواصل والجمع بين مجالين متباعدين، الأوّل سياسيّ صرف والثّاني أخلاقيّ عمليّ؟ وما الّذي أضافته نظريّة الفعل التّواصليّ وأخلاقيّات مناقشة المفاهيم السّياسيّة اللّيبراليّة من قبيل الدّيمقراطيّة والمواطنة والحرّيّة والمساواة؟ وكيف استطاعت البنية المفاهيميّة الهابرماسيّة من قبيل: الفعل التّواصليّ، أخلاقيّات المناقشة، العقلانيّة التّواصليّة، الإجماع، الدّيمقراطيّة التّشاوريّة والفضاء العمومي وغيرها، أن تقدّم صياغة جديدة للنّظريّة السّياسيّة اللّيبراليّة المعاصرة عموما ونظريّة “العدالة كإنصاف” على وجه الخصوص؟ ونذهب أبعد من ذلك في التّساؤل عن الإرث السّلبيّ للنّظريّة اللّبيراليّة والّذي ظلّ ثاويا في نظريّة هابرماس، وعن الحدود والمفارقات المُقلقة الّتي أضافتها للدّيمقراطيّة اللّيبراليّة الجديدة؟
لمعالجة هذه التّساؤلات، خصّصنا ثلاثة محاور:
الأوّل: يهمّ البراديغم التّواصليّ للعدالة الّذي دافع عنه هابرماس من حيث كونه تجاوزا لبراديغم الإنصاف لدى رولز.
الثّاني: يدرس الدّيمقراطيّة التّشاوريّة بصفتها مقاربة بديلة للدّيمقراطيّتين اللّيبراليّة والجمهوريّة.
في حين تمحور الثّالث حول حدود الدّيمقراطيّة التّشاوريّة ومُفارقاتها على مستوى معاييرها الصّوريّة وتصوّرها لمبدأ الإجماع.
2- البراديغم التّشاوريّ للعدالة: التّواصل بوصفه توافقا:
تمثّل فلسفة يورغن هابرماس منعطفا حاسما في مجال الفلسفة السّياسيّة المعاصرة ومحاولة جادّة في تطوير النّظريّة اللّيبراليّة السّياسيّة في تصوّرها للحقّ والدّيمقراطيّة والعدالة، كما تميّز مشروعه الفلسفيّ-السّياسيّ بإعادة الاعتبار لمبحث التّواصل الّذي يعدّ الإسهام المميّز له في نظريّة “أخلاقيّات المناقشة” (Discoures ethics) [1] بوصفها مدخلا لنظريّته السّياسيّة الّتي فضَّل أن يطلق عليها اسم “الدّيمقراطيّة التّشاوريّة”[2] (Deliberative Democracy) بل حاول من خلال نظريّته التّواصليّة نقد ما يطلق عليه “العقل الأداتيّ” (Instrumental Reason)الّذي يسود الفكر الغربيّ والمتمركز حول فلسفة الذّات ليقترح عقلا آخر أسماه “العقل التّواصليّ” (Communicational Reason).
ونظرا لأهمّيّة التّواصل كمجال للتّفاهم والنّقاش الحرّ بين الذّوات، عمل فيلسوف فرانكفورت على إدخال هذا العنصر في نظريّته السّياسيّة ليصبح معه مجال الفعل السّياسيّ مجالا عموميّا تواصليّا وبينذاتيّا، فـ “البراديغم التّواصليّ” الّذي نظَّر له في كتابه العمدة “نظريّة الفعل التّواصليّ”[3] «The theory of communicative action(1981) «لا يمكن فصله عن “البراديغم التّشاوريّ” الّذي وسم نظريّته السّياسيّة في كتابه “بين الحقائق والمعايير: مساهمات لنظريّة جدل الحقّ والدّيمقراطيّة” «Between Facts and Norms :Contributions to a Discourse Theory of Law[4] and Democracy»[5](1992)، ولذلك ارتبطت الدّيمقراطيّة عنده بالأخلاق التّواصليّة.
تجاوز هابرماس بهذا الأفق التّواصليّ، عيب الفلسفة السّياسيّة الحديثة وذلك بالعودة إلى المبدأ الفلسفيّ اليونانيّ القديم القائم على أسبقيّة الأخلاق على السّياسة، هذا المبدأ الّذي سبق أن دشّنه أرسطو في سياسته وعمل العقل السّياسيّ الحديث على نفيه وتقويضه بدءا من مكيافللي وصولا إلى رولز. موازاة لذلك، سعى هابرماس إلى تجاوز “براديغم فلسفة الوعي المتمركز حول الذّات”[6] نحو براديغم جديد وأوسع يتمثّل في “البينذاتيّة” (Intersubjectivity) القائم على التّفاعل الإيجابيّ والتّواصل المتكافئ بين الذّوات الّذي ساهمت عودته القويّة إلى فلسفة اللّغة في تحقيق هذا الرّهان فيما سيعرف عنده بـ”المنعطف اللّغويّ”[7] (Linguistic turn)حيث كان له اهتمام بأعمال اللّسانيّين وفلاسفة اللّغة خاصّة كلّا من جون سيرل J. Searle وجون أوستين J. Austin في نظريّة أفعال الكلام [8]، لأنّ الأخلاق التّواصليّة “هي الّتي تخلق إطارا عقلانيّا للتّفاهم بين مختلف مجالات المعرفة والتّفاوض بين المصالح المتعدّدة بالتّأكيد على العلاقة الضّروريّة بين العقلانيّة السّياسيّة والمشروعيّة الدّيمقراطيّة، والتّساؤل الدّائم عن شروط الاتّفاق بين ما هو ضروريّ عمليّا وما هو ممكن موضوعيّا. ويبدو أنّ هذه المعادلة هي الّتي تشكّل الهمّ المركزيّ لما هو سياسيّ عند هابرماس ضمن تصوّره العامّ للمفهوم المعياريّ للمجال العموميّ”[9].
انطلاقا من هذا المنظور التّواصليّ، لم يعد من الممكن الحديث عن ذات ترنسندنتاليّة خالصة ولا عن إرادة مُشرّعة بإطلاق (سواء بالمعنى الأخلاقيّ الكانطيّ أو السّياسيّ الرّولزيّ)، بل أصبح الأمر متعلّقا بـ “بينذاتيّة” مُتفاعلة في فضاء عموميّ مفتوح للجميع. من هنا جاءت دعوته للتّواصل بوصفه مبدأ أساسيّا للدّيمقراطيّة، إلى حدّ يمكن اعتبار هذه الدّعوة نقطة تَحوُّل جذريّ للدّيمقراطيّة منذ نشأتها عند اليونان، إذ لم يعد الحسم في الاختلاف كمّيّا (عرضيّا) بل غدا عقلانيّا، ذلك أنّ التّواصل بالمعنى الهابرماسيّ، لم يعد يقف عند مستوى طرح الآراء وعرضها بغرض الحسم فيها عبر صناديق الاقتراع وإنّما يرقى إلى مستوى الإجماع العقلانيّ المدعوم بأفضل برهان حيث تشكّل الحجّة العقلانيّة بين المواطنين أساس الشّرعيّة السّياسيّة[10].
بهذا المعنى، صار مفهوم الأغلبيّة مُعادلا لقوّة الفكرة والحجّة عوض قوّة الأغلبيّة العدديّة، وأصبحت معه أيضا دلالة التّمثيليّة في الدّيمقراطيّة (الدّيمقراطيّة التّمثيليّة) عقلانيّة بالأساس. لم يعد الإجماع مع هابرماس كُتلة كمّيّة للذّوات، بل أضحى إجماعا حول الحُجج الأفضل باعتبارها الصّفة الصّوريّة للعقلانيّة. وإذا كان هذا الخلل الكّمّيّ هو لُبّ مواجهة سقراط للدّيمقراطيّة الأثينيّة، فإنّه يمكن اعتبار مشروع هابرماس مصالحة للدّيمقراطيّة مع انتقادات سقراط الّتي حافظت على جدواها إلى أن استطاع مفهوم التّواصل أن ينتقل بها من الطّبيعة الكّمّيّة العدديّة إلى طبيعة عقلانيّة تشاوريّة.
هكذا، أعاد هابرماس صياغة النّظريّة اللّيبراليّة السّياسيّة من خلال شبكة مفاهيميّة جديدة[11] تجمع بين الإرث التّعاقديّ وعُصارة النّظريّة النّقديّة لمدرسة فرانكفورت، وهو ما ساعده على تجذير المقاربة الرّولزيّة للعدالة وذلك بإنتاج فرضيّات سياسيّة جديدة تنسجم وروح المجتمع الدّيمقراطيّ المعاصر. وما كان له أن يصل إلى هذا المسعى لولا قيامه بتفكيك نظريّ للمبادئ الّتي قامت عليها النّظريّة اللّيبراليّة، لذلك كان ديدن هابرماس أن يؤسّس لتصوّر جديد للدّيمقراطيّة والعدالة يُضاهي في مبناه النّظريّ التّصوّر التّعاقديّ اللّيبراليّ المعاصر على نحو ما عبّر عنه رولز. يبدو هذا الأمر واضحا من خلال المناظرة الفلسفيّة الشّهيرة الّتي دارت بينهما في منتصف تسعينيّات القرن الماضي، والّتي نُشرت على صفحات “الجريدة الفلسفيّة”[12] الأمريكيّة «The Journal of philosophy» حيث أشار هابرماس في بداية مقاله الموسوم بـ “المصالحة بواسطة الاستعمال العامّ للعقل” إلى الأهمّيّة الّتي تحظى بها فلسفة رولز العمليّة إذ شكّلت نظريّته، من وجهة نظره، تحوُّلا جديدا ومهمّا في تاريخ الفلسفة السّياسيّة المعاصرة، ويتمثّل هذا التّحوّل في قراءتها الجديدة لفلسفة كانط[13].
على هذا النّحو، شكّل مفهوم التّواصل ثورة نقديّة على النّظريّة اللّيبراليّة السّياسيّة ونظريّة “العدالة كإنصاف” الرّولزيّة بالخصوص، إذ حاكم هذه النّظريّة من خلال هذا السّؤال المُقلق: من هُم الفاعلون الحقيقيّون في المجتمع اللّيبراليّ؟ إنّ الإجابة عن هذا السّؤال اعتمادا على مقاربة رولز تجعل هؤلاء الفاعلين مفترضين ومجرّدين، أي لا يرتبطون بفاعلين واقعيّين وممارسين، إنّهم -بلغة هابرماس- لا ينتمون إلى “العالم المعيش“[14] (Life–world) بل فقط إلى الخطّ الاستدلاليّ للنّظريّة الرّولزيّة، غير أنّ الإجابة عن هذا السّؤال وفقا لهابرماس تضعنا أمام فاعلين واقعيّين[15] يتباينون في وضعيّاتهم الاجتماعيّة ومرجعيّاتهم الإيديولوجيّة وأطيافهم السّياسيّة، بمعنى أنّهم لا يمثّلون بنية خالصة ومتجانسة. كلّ ذلك يجعل من التّواصل ميكانيزما ضروريّا لتحويل الاختلافات والنّزاعات إلى توافق وإجماع بفضل أخلاقيّات المناقشة والحوار داخل فضاء عموميّ سياسيّ رحب مفتوح للجميع، وهذا بالضّبط ما تفتقر إليه منظومة رولز[16].
إنّ دور التّواصل في نظريّة الدّيمقراطيّة التّشاوريّة لدى هابرماس ليس تقنيّا بالمعنى البراغماتيّ للكلمة بل ميكانيزما سياسيّا في حدّ ذاته، ذلك أنّه يفترض أوّلا وقبل كلّ شيء وجود فاعلين متعارضين أو على الأقلّ مختلفين حول قضايا موضوع التّشاور ومن خلال التّفاوض والمناقشة والحوار يحقّقون التّوافُق والإجماع، وبالتّالي فإنّ غياب التّواصل عند رولز يعني أنّه يفترض عدم وجود اختلاف في لحمة المجتمع اللّيبراليّ كما لو أنّه لا يزال يتحدّث بنفس المنطق المُنسجم مع طبيعة القرن الثّامن عشر أو التّاسع عشر وليس النّصف الثّاني من القرن العشرين الموسوم بالصّراعات الإيديولوجيّة والقطبيّة (اليمين، اليسار) والاختلافات العَقَديّة الّتي أذكتها حركات الهجرة وما خلّفته من ردود فعل أصوليّة وعنصريّة (اليمين المتطرّف)، والحال أن تأخذ نظريّة العدالة بعين الاعتبار كلّ هذه المستجدّات المُحايثة للمجتمع المعاصر.
إنّ مكوّنات المجتمع اللّيبراليّ حسب هابرماس غير مُنسجمة ولا تمثّل وحدة مُتمَاهية بل هي نسق يتّسم بالتّبايُن والاختلاف، هذا الأمر الغائب عن منظور رولز يجعل منه مُنظّرا كلاسيكيّا “حديثا”، فهو على غرار منظّري التّعاقد والأنوار، ينطلق من افتراض لحمة منسجمة تغيب فيها الصّراعات والاختلافات[17] لذلك ليس هناك أيّ حاجة إلى التّواصل طالما أنّ ما يقوله عبارة عن افتراض، بمعنى أنّه يقدّم العدالة بما ينبغي أن تكون عليه. في حين ينطلق هابرماس من الواقع السّياسيّ اللّيبراليّ بتجاذباته وصراعاته وأقطابه، أي من الواقع مُحاولا أن يصوغ النّموذج الأمثل الّذي يمكن اعتماده لخلق بيئة ديمقراطيّة قادرة على تحقيق العدالة.
ثمّة اختلاف بيِّن وبَوْنٌ شاسع بين رولز وهابرماس ويعود هذا الاختلاف، في نظرنا، إلى كون فيلسوف العدالة يمثّل امتدادا خالصا للذّهنيّة الأنواريّة ذات الطّبيعة الأفلاطونيّة، في حين تشبّع فيلسوف التّواصل بالفكر السّوسيولوجيّ الألمانيّ الّذي ورثه عن مدرسته النّقديّة، أي أنّ صياغة رولز للعدالة تقف عند حدودها النّظريّة بينما تزاوج صياغة هابرماس بين المستوى النّظريّ والبعد العمليّ/ الإجرائيّ؛ أي أنّها تُفكِّر وتُنظِّر للعدالة في ارتباط وثيق بالممارسة (Practice) وخصوصيّة المجتمع اللّيبراليّ التّعدّديّ المعاصر، ما يعني أنّ صياغة رولز إطلاقيّة لا تميّز، كما أشرنا سلفا، بين القرن الثّامن عشر أو التّاسع عشر أو العشرين، في حين أنّ المبنى الحجاجيّ لصياغة هابرماس محايثة للمستجدّات الاجتماعيّة والسّياسيّة المرتبطة بالقرن العشرين بأزماته وحروبه العالميّة وصراعاته القطبيّة والإيديولوجيّة.
فضلا عن ذلك، فإنّ صياغة رولز النّظريّة (theoretical) لا تأخذ على محمل الجدّ التّيّارات المناهضة للّيبراليّة السّياسيّة داخل المجتمع الدّيمقراطيّ، خاصّة التّوجّهات اليساريّة (الماركسيّة، اللّينينيّة)، وهذا ما انتبه إليه ممثّل الجيل الثّاني لمدرسة فرانكفورت فدمجها داخل منظومته التّواصليّة مُعتبرا التّواصل معها مدخلا جوهريّا لبناء الدّيمقراطيّة.
تكمن قيمة هابرماس في إعادة تأويله أسس النّظريّة التّعاقديّة وفق تصوّر جديد وعلى خلاف الطّرح الرّولزيّ الّذي حافظ على الطّابع المثاليّ والافتراضيّ للتّعاقد[18] نجد أنّ فيلسوف فرانكفورت قد راجع أسس التّعاقد، مُعوّضا الفرضيّات المثاليّة بإواليّات اجتماعيّة واقعيّة، ولم يعد التّعاقد معه تنازلا أو تفويضا سواء بصيغته الاستبداديّة عند هوبز[19] أم بصيغته الدّيمقراطيّة عند روسو[20]، بل صار مبنيّا على التّواصل السّاعي إلى التّوافق فالفعل التّواصليّ هو الّذي يحدّد لديه العلاقات الاجتماعيّة داخل فضاء عموميّ قائم على المناقشة[21] من حيث هو فعل بينذاتيّ يهدف إلى بناء وعي حرّ ويسعى إلى تحقيق التّفاهم بين الذّوات.
بهذا المعنى الّذي أراده هابرماس، لم يُطَالَب الأفراد بالتّنازل عن جزء من حرّيّتهم أو كلّها مقابل الاندماج الاجتماعيّ (Social integration)بل غدا هذا الأخير نتاجا عقلانيّا لتواصلهم وتوافقهم، وبذلك صار التّعاقد بصيغته التّواصليّة بناء اجتماعيّا وواقعة تاريخيّة لا مجرّد فرضيّة سياسيّة. ومن هنا يتّضح أنّ العدالة التّواصليّة قد نزعت الطّابع الافتراضيّ والتّرنسندنتاليّ عن النّظريّة السّياسيّة اللّيبراليّة، وجعلتها تتجاوز بناءها الفرضيّ السّياسيّ إلى البناء الاجتماعيّ المرتبط بالعالم المعيش، كما لو أنّ نقد هابرماس لرولز هو بالأساس نقد للأسس المثاليّة والصّوريّة للنّظريّة التّعاقديّة.
كلّ ذلك، يجعلنا نُدرك بعُمق لماذا غيَّب هابرماس لغة الافتراضات في نظريّته السّياسيّة ونفيه لفكرة الانتقال من حالة الطّبيعة/ الوضع البدائيّ إلى حالة المدنيّة/ المجتمع محكم التّنظيم، مشدّدا على أنّ الدّولة الحديثة بنيت على أسس ديمقراطيّة تواصليّة، ويعزو الانحرافات الّتي نتجت عنها إلى غياب أخلاق عقلانيّة للمناقشة تؤطّر هذه الدّيمقراطيّة التّواصليّة في صيغتها الجنينيّة.
إذا كان هابرماس قد أعلن في المحاضرة الّتي ألقاها في شتنبر 1980 بمناسبة تسلُّمه جائزة أدورنو على أنّ “الحداثة مشروع لم يكتمل بعد”[22] فإنّ هذا الزّعم ينسحب عنده على الدّيمقراطيّة نفسها، ما يجعل نقده لها تقويما وبحثا عن أسسها التّواصليّة المنسيّة الّتي يمثّل استكمالها أهمّ رهان سياسيّ معاصر بالنّسبة إليه. ومن هنا نفهم عودته القويّة إلى فلاسفة الأنوار للوقوف عند بنية عقلانيّاتهم المنفتحة خاصّة لوك وروسو وكانط، لا للتّأكيد على منظومتهم التّعاقديّة بل بغرض تسليط الضّوء على بعض الشّروط الّتي توفّرت لديهم وتمّ إغفالها خصوصا في مقاربة رولز لهم.
تكمن قيمة العدالة التّواصليّة إذن، إعادة النّظر في التّفكير السّياسيّ ككلّ، من التّفكير بالفرضيّات الأخلاقيّة (الطّبيعة الخيّرة، الطّبيعة الشّريرة، الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) والفرضيّات السّياسيّة (حالة الطّبيعة، حالة المدنيّة…) إلى تفكير واقعيّ إجرائيّ يستقرئ الوجود الاجتماعيّ ويستنتج منه ولا ينطلق من فرضيّات مسبقة ويسقطها عليه، وهذا ما لا يتحقّق إلّا بالتّواصل البينذاتيّ في الفضاء العموميّ وفق معايير تواصليّة تستمدّ مشروعيّتها من أخلاقيّات المناقشة لغاية تحقيق التّوافق والإجماع، ولعلّ مراعاته لهذا البعد هو الّذي جعل تصوّره للعدالة لا يمنح الأسبقيّة للنّظريّة على الممارسة على نحو ما فعل رولز في نظريّته السّياسيّة.
يمكن اعتبار هذا الارتباط الوثيق بين التّواصل والتّوافق بمثابة محاولة من لدن هابرماس للخروج من مفارقة اللّاَتناهي الّتي واجهتها نظريّته التّواصليّة، ذلك أنّ الغاية من المناقشة الدّيمقراطيّة ليست هي الاستمرار في المناقشة إلى ما لا نهاية وفق متوالية تواصليّة لا مُتناهية، وإنّما هي الوصول إلى توافق وإجماع على حلول وسطى تضمن نجاح العمليّة التّواصليّة، وإن لم يكن هذا التّوافق، في نظره، وقوفا عند الحدّ الأدنى للعقل العامّ بقدر ما هو اقتناع عقلانيّ بينذاتيّ مبنيّ على حجج أفضل.
3- من الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة إلى الدّيمقراطيّة التّشاوريّة:
لا تقلّ اهتمامات هابرماس بالفلسفة السّياسيّة عن نظيره رولز، فجلّ كتاباته الفلسفيّة المبكّرة والمتأخّرة منها -بدءا من “الفضاء العموميّ” (1962) إلى آخر ما كتبه حول فلسفة الحقّ- تعكس بوضوح انشغالاته الكبرى بقضايا الحقّ والدّيمقراطيّة والعدالة وغيرها من المفاهيم الأخرى ذات الصّلة بالحقل السّياسيّ، “فالرّهان الفعليّ للفيلسوفين هو المزيد من تجذير مسألة الدّيمقراطيّة في المجتمع وبناء شرعيّة ديمقراطيّة يكون المواطن فيها هو الفاعل الأساسيّ والمصدر الحقيقيّ لممارسة السّلطة السّياسيّة”[23]، فقد حاول كلا الفيلسوفين أن يؤسّسا لمجتمع ديمقراطيّ حرّ يسوده العدل والاستقرار والتّضامن والتّعاون بين أفراده لكن، مع ذلك، لا ينبغي الاعتقاد بأنّ ديمقراطيّة هابرماس نسخة مطابقة لديمقراطيّة رولز، ففي “الحقّ والدّيمقراطيّة” (1992) وكذا “الاندماج الجمهوريّ” (1996) سيخضع فيلسوف فرانكفورت مفهوم الدّيمقراطيّة لإعادة الصّياغة وسيسجّل نقط اختلافه مع رولز وسيُعرِّف الدّيمقراطيّة بكونها مرادفة “للتّنظيم الذّاتيّ السّياسيّ للمجتمع”[24] المنجز من طرف الأفراد اعتمادا على مقاربة بينذاتيّة (Intersubjective)، حواريّة (Dialogic) وتشاوريّة (Delibrative)، على اعتبار أنّ العدالة في مجملها لا يمكن أن تتحقَّق إلاَّ في بيئة ديمقراطيّة، جاعلاً من التّشاور أسّ هذه البيئة وقوامها العمليّ.
يمكننا القول بأنّ الدّيمقراطيّة التّشاوريّة الّتي يتبنّاها هابرماس تشكّل امتدادا للدّيمقراطيّة الرّولزيّة في الانتصار للتّوجّه اللّيبراليّ، ولكنّها تمثّل في الوقت ذاته ردّ فعل تجاهها. فما المقصود بالدّيمقراطيّة التّشاوريّة عند هابرماس؟ وما هي الأسس الّتي تقوم عليها؟ وهل هي امتداد للنّموذجين الدّيمقراطيّين اللّيبراليّ والجمهوريّ أم أنّها تجاوز لهما؟ وإذا كانت الدّيمقراطيّة في نظر هابرماس مطالبة بأن تكون تشاوريّة، فهل هذا يعني أنّ مفهوم التّشاور بدلالته السّياسيّة والأخلاقيّة قادر على سدّ ثغرات الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة والجمهوريّة معا؟
ميّز هابرماس في الفصل السّابع من كتابه “الحقّ والدّيمقراطيّة” وفي مقالته الموسومة بـ “ثلاثة نماذج معياريّة للدّيمقراطيّة” بيّن ثلاثة نماذج للدّيمقراطيّة، وهي: الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة، الدّيمقراطيّة الجمهوريّة والدّيمقراطية التّشاوريّة “بصفتها مقاربة لها خصوصيّتها مقارنة مع المقاربات الأخرى المتداولة في الفلسفة السّياسية”[25]، فالدّيمقراطيّة التّشاوريّة الّتي يتبنّاها هابرماس أرادها أن تكون بديلا للنّموذجين السّابقين المتعارضين فيما بينهما على مستوى المبادئ والتّوجّهات والغايات[26]. ما يهمّنا هنا، هو الوقوف عند أهمّ الاختلافات الموجودة بين هذه النّماذج المعياريّة الثّلاثة في تصوّرها للعمليّة الدّيمقراطيّة ولمعنى المواطن والحقّ والسّيرورة السّياسيّة. فما هي أبرز التّمايزات والاختلافات القائمة بينها؟ وهل استطاع هابرماس، حقّا، أن يُقدّم نموذجا ديمقراطيّا بديلا عن النّظامين اللّيبراليّ والجمهوريّ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي أسس هذا النّموذج البديل ومقوّماته؟
كما أسلفنا القول، أقام هابرماس تصوّره السّياسيّ للدّيمقراطيّة على التّمييز بين النّموذج اللّيبراليّ من جهة والنّموذج الجمهوريّ من جهة ثانية، وعلى خلاف الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة الرّولزيّة الّتي تحدّد طبيعتها بشكل مسبق، نجد الدّيمقراطيّة التّشاوريّة من حيث هي مقاربة تواصليّة عقلانيّة، تمثّل نتائجها مُعطى بعديّا لأنّ الغائب الأكبر في الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة هو عنصر التّواصل، بمعنى أنّ نظريّة “العدالة كإنصاف” -في صيغتها الأولى- تمثّل منتوجا مكتملا وناجزا على عكس النّموذج التّشاوريّ الّذي لا يقدّم تصوّرا نهائيّا للعدالة بقدر ما يقترح مسارا فاعلا وناجعا لبلوغها اعتمادا على “شرط التّواصل، فبواسطته يمكن أن تتحقّق نتائج معقولة لأنّها تتمّ في سيرورة سياسيّة تشاورية”[27].
تميّز هذه السّيرورة التّشاوريّة القائمة على التّواصل العقلانيّ والمناقشة الحُرَّة بين الذّوات الدّيمقراطيّةَ التّشاوريّة عن التّصوّر الجمهوريّ الّذي يعتبر الدّولة جماعة أخلاقيّة، وكذلك عن التّصوّر اللّيبراليّ الّذي يعتبر “الدّولة حارسة للمجتمع الاقتصاديّ”[28]، فإذا كانت وظيفة العمليّة الدّيمقراطيّة في التّصوّر اللّيبراليّ هي “برمجة الدّولة في خدمة مصلحة المجتمع بصفتها جهازا للإدارة العموميّة، وما المجتمع إلّا نسق للعلاقات بين الأفراد المبنيّة أساسا على اقتصاد السّوق”[29]، فإنّ السّياسة بهذا المعنى “تعمل على إبراز المصالح الخاصّة للجميع، أي أنّها أداة لخدمة مصالح الفرد داخل المجتمع وتلبيتها قصد تحقيق الأهداف المشتركة”[30]، ومقابل ذلك، تقوم الدّيمقراطيّة الجمهوريّة على تفعيل دور الجماعة ومشاركتها في الممارسة السّياسيّة فالدّولة في هذا النّموذج “تتشكّل بفضل سيرورة التّنشئة الاجتماعيّة (…)، إنّها الوسيط الّذي يُدرك فيه أعضاء الجماعة، بصفتهم مواطنين في الدّولة، ارتباطاتهم وعلاقاتهم المتبادلة”[31] كما يُنظر للسّياسة، وفق هذا النّموذج، بوصفها شكلا تأمّليّا لحياة أخلاقيّة.
يدافع النّموذج الأوّل (اللّيبراليّ) عن الحقوق والحرّيّات الفرديّة سواء المتعلّقة منها بالحقوق السّياسيّة أو الاقتصاديّة وفق ما يسمح به القانون (الدّستور) بينما يدعو النّموذج الثّاني (الجمهوريّ) إلى تعزيز الحرّيّات الجماعيّة، فهو لا ينظر بعين الرّضا إلى حجم الحرّيّة الممنوح للفرد، فـ”الحقوق المدنيّة، وبالدّرجة الأولى حقوق المشاركة السّياسيّة وحقّ التّعبير، هي حقوق إيجابيّة (…) وبدونها لا يستطيع المواطنون تحقيق ما يطمحون إليه”[32]، وفي مقابل هذين النّموذجين، يقدّم هابرماس نموذجا ثالثا دعاه بــ “الدّيمقراطيّة التّشاوريّة” ولكنّه لا يرفض النّظامين الدّيمقراطيّين السّابقين رفضا مطلقا، فلكليهما -كما يُسجّل- إيجابيّات وسلبيّات. وتكمن إيجابيّات النّموذج الجمهوريّ حسب رأيه في “حفاظه على المعنى الكلاسيكيّ للدّيمقراطيّة باعتبارها التّنظيم الذّاتيّ للمجتمع تنظيما سياسيّا قائما على التّواصل والاهتمام بالمصلحة الجماعيّة بدل المصلحة الخاصّة”[33]، أمّا سلبيّاته فتتمثّل في كونه “غالى في المثاليّة واعتبر الدّولة جماعة أخلاقيّة تربطها هويّة ثقافيّة، كما يختزل السّجال السّياسيّ في البعد الأخلاقيّ”[34].
إنّ هذا التّصوّر الجمهوريّ لا يتماشى مع قيم التّعدّديّة والاختلاف الّتي تميّز المجتمعات الدّيمقراطيّة الحديثة فهو محدود بحدود الجماعة الأخلاقيّة، وهذا بالضّبط ما يرفضه هابرماس، فما يميّز نموذجه التّشاوريّ هو تأسيسه للحقّ بمعزل عن الخير[35]، أي أنّ “قضايا العدالة لا ترتبط بجماعة بعينها، بل تتعدّى حدودها، فالحقّ المؤسّس بواسطة السّلطة لكي يكون شرعيّا يجب أن يكون متطابقا مع مبادئ أخلاقيّة تدّعي الصَّلاحيّة الكَونيّة فيما وراء الجماعة القانونيّة الواقعيّة”[36]. أمّا بالنّسبة إلى النّموذج اللّيبراليّ، فإنّه بتركيزه على السّوق يكون قد جعل مسألة التّضامن الاجتماعيّ والعدالة الاجتماعيّة بين المواطنين خارج اهتماماته السّياسيّة، لكن مع ذلك، فإنّ هابرماس يستثمر جانبا إيجابيّا فيما يخصّ هذه النّقطة، وهذا النّموذج اللّيبراليّ بالنّسبة إليه، “يجعل الفرد فاعلا إيجابيّا مستقلّاً ويشجّعه، ويُولي أهمّيّة للمبادرات الفرديّة عكس النّموذج الجمهوريّ الّذي يقضي على هذه المبادرة باسم إرادة الجماعة”[37].
انطلاقا من مقارنته ونقده وتقويمه للنّموذجين الدّيمقراطيّين السّابقين، قدّم هابرماس ديمقراطيّته التّشاوريّة ذات البعد الإجرائيّ القائم على “المفاوضات والمناقشات المرتبطة بالعدالة وحقوق الإنسان الكونيّة اعتمادا على قواعد المناقشة والأشكال الحجاجيّة الّتي تستعير مضمونها المعياريّ من بنية التّواصل القائم على اللّغة، وهو ما يسمح بإمكانيّة الحصول على نتائج معقولة ومنصفة للجميع”[38]، هكذا إذن، لم تعد العدالة عند هابرماس مفهوما غائيّا أو وصفة سحريّة جاهزة للخلاص العمليّ للأفراد وإنّما هي منظومة عقلانيّة في التّفكير والحوار المشترك في عالم معيش لبلوغ المقاصد المرجوّة والمتمثّلة في إيجاد حلول عمليّة جادّة وممكنة للقضايا المطروحة للنّقاش (إيتيقيّة، ثقافيّة، اجتماعيّة… إلخ).
بهذا المعنى، لن تكتسب الدّيمقراطيّة قيمة عمليّة إلّا إذا أقامت وزنا لـ “تعدّد أشكال التّواصل والّتي بواسطتها تتشكّل الإرادة السّياسيّة بوصفها إرادة جماعيّة، ليس فقط بالنّقاش الأخلاقيّ حول الهويّة الجماعيّة، وإنّما أيضا بتحديد المصالح والاتّفاق العقلانيّ اعتمادا على التّبرير الأخلاقيّ والتّماسك القانونيّ”[39]، ولن تكون للدّيمقراطيّة صفة المشروعيّة إلاّ إذا تأسّست على منطلقات تشاوريّة مسبقة تضفي عليها طابع الشّرعيّة والإجرائيّة لأنّ التّشاور “يعطي لكلّ مشارك في المناقشة حقّ النّقد والإدلاء برأيه في فضاء عموميّ ديمقراطيّ ففي ظلّ هذه السّيرورة الخطابيّة المؤسّسة على المناقشة العقلانيّة النّقديّة يتكوّن الرّأي العامّ والإرادة السّياسيّة”[40]، والدّيمقراطيّة التّشاوريّة بصفتها ديمقراطيّة إجرائيّة لا تختزل في المصالح الخاصّة للفرد بعينه أو جماعة بعينها بل تكمن قوّتها أساسا في الدّفاع عن المصالح العامّة للمجتمع بأكمله، أي تقوم على الرّبط بين الفرد والجماعة.
يتعارض الأساس الّذي تقوم عليه الدّيمقراطيّة التّشاوريّة، إلى حدّ كبير، مع هذا المنظور التّعاقديّ سواء بمعناه الكلاسيكيّ أو المعاصر على نحو ما عبَّرت عنه فلسفة جون رولز. ولعل ما ميّز النّموذج الدّيمقراطيّ الجديد الّذي يقترحه الوريث الشّرعيّ لمدرسة فرانكفورت هو استحضاره للبعد التّواصليّ وللثّقافة المشتركة للمواطنين المرتبطة بعالمهم المعيش، فالدّيمقراطيّة عنده لا تنفصل عن المجتمع المدنيّ بخلفيّاته وصراعاته وتناقضاته باعتباره فضاءً عموميّا مفتوحا للجميع ولا تتمثّل وظيفتهُ فقط في تسوية النّزاعات والخلافات الحاصلة بين الأفراد المتّصلة بثقافاتهم وهويّتهم الدّينيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة، بل وأيضا الحصول على التّوافق والإجماع عبر النّقاش الحرّ والعقلانيّ.
ينطلق هابرماس، خلافا للطّرح اللّيبراليّ الرّولزيّ الّذي يؤسّس مبادئ العدالة انطلاقا من وضع بدائيّ وخلف حجاب الجهل في غياب تامّ ومطلق لذاكرة المتعاقدين، من الحسّ المشترك للأفراد المنتمين للعالم المعيش نفسه. وتعني العودة إلى الثّقافة المشتركة للمواطنين ولعالمهم المعيش، “إعطاء الأهمّيّة للمواطن ولثقافته في العمليّة الدّيمقراطيّة بما هو فاعل حقيقيّ يتمتّع بحقوق المشاركة بصفتها حقوقا إيجابيّة تجعل منه السّاعي إلى إقناع النّاس بالمصالح العامّة بدل المصالح الشّخصيّة الضّيّقة”[41]، فمع هابرماس سيصبح “المواطن الحرّ والمشارك الرّقم الصّعب في المعادلة الدّيمقراطيّة، حيث لا يمكن تصوّر ديمقراطيّة في غيابه، فهي عنده مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتّنظيم الذّاتيّ القانونيّ للمواطنين أنفسهم بأنفسهم”[42].
هكذا، تضع الدّيمقراطيّة التّشاوريّة المُواطن في قلب العمليّة السّياسيّة فهو الّذي يحدّد نسق الحقوق والحرّيّات الأساسيّة الّتي تُوجّه غاياته وأهدافه داخل دولة الحقّ والقانون اعتمادا على سياسة بينذاتيّة تشاوريّة. وفضلا عن ذلك، فإنّ وضعه لا يتحدّد فقط في الاستفادة من الحقوق والحرّيّات الأساسيّة بصفته حرّا وندّا للآخرين كما هو الشّأن عند رولز، بل بوصفه مشاركا فعَّالا في صُنع القرارات بفضل شبكة العلاقات التّواصليّة البينذاتيّة الّتي يقيمها داخل الفضاء العموميّ ففي دولة الحقّ والدّيمقراطيّة “كلّ المواطنين معنيّون بسنّ القوانين الّتي تضمن الحقوق وليس الخبراء وحدهم مؤهّلين للقيام بهذه المهمّة، ومبرّر ذلك أنّ السّجال في العمق بخصوص هذه القضايا هو سجال سياسيّ وليس قانونيّا”[43]، من هنا نفهم جيّدا لماذا أصرّ هابرماس على ربط ديمقراطيّته بمبدأ التّشاور، لأنّها، في اعتقاده، وسيلة لتحقيق الاندماج الاجتماعيّ والاستقرار السّياسيّ داخل المجتمع اللّيبراليّ المعاصر بالرّغم من التّعدّديّة السّياسيّة والأخلاقيّة الّتي تسمه: إنّها، بمعنى آخر، أداة إجرائيّة لتحقيق عدالة توافقيّة داخل فضاء عموميّ فعليّ ومُحدّد بين مواطنين فاعلين يوحّدهم التّواصل القائم بينهم. إنّ هذا البعد التّشاوريّ الإجرائيّ هو الّذي يجعل ديمقراطيّة هابرماس بمنأى عن ديمقراطيّة رولز الّتي تتماهى مع تصوّره للعدالة، ما يجعلها تتناقض مع النّسق العقلانيّ الاستدلاليّ الّذي تدّعيه نظريّته، ذلك أنّ صاحب النّظريّة يقدّم مخطّطا ليبراليّا جاهزا للعدالة لا يتطلّب تواصلا أو حوارا ممّا يضفي على تصوّره طابعا طوباويّا.
بهذا المعنى، يكون فيلسوف فرانكفورت قد نفخ الرّوح العقلانيّة من جديد في النّظريّة السّياسيّة اللّيبراليّة بعيدا عن أيّة نمْذجة جامدة لأنّ الفاعلين الحقيقيّين في العدالة ليسوا هم الفاعلين التّمثيليّين، بل هم أفراد واقعيّون منخرطون بشكل إجرائيّ في العالم المعيش بتنوّعه وغناه وتناقضاته وصراعاته، وهذا يبيّن الاختلاف الحاصل في التّنظير بينهما، فهابرماس المُمارس يختلف عن رولز المُنظِّر الّذي ظلّ بعيدا عن الممارسة السّياسيّة[44]، ما يُبيِّن انطلاق صاحب “الحقّ والدّيمقراطيّة” من الواقع مستقرئا نظريّته السّياسيّة وانطلاق صاحب “العدالة كإنصاف” من نظريّته السّياسيّة مُحاولا إسقاطها على واقع المجتمع اللّيبراليّ.
يمكننا القول إذن، بأنّ المشروع الفلسفيّ السّياسيّ لهابرماس -والّذي جمع فيه بين النّظريّة والممارسة، السّياسة والأخلاق، التّواصل والتّشاور، التوافق والإجماع- يبدو نموذجا جديدا للعدالة، يتجاوز التّصوّر اللّيبراليّ الرّولزيّ ويختلف عنه في أسسه ومراميه ويتفرَّد عنه في متنه المفاهيميّ القائم أساسا على براديغم “التّواصل فمن خلاله استطاع هذا الفيلسوف أن يُفكِّك المبنى النّظريّ للنّظريّة اللّيبراليّة السّياسيّة.
يمكن أن نُسجّل أيضا بأنّ الوسم التّشاوريّ لنظريّة العدالة عند رولز يجعل من المتعاقدين متوافقين سلفا، بينما يكون فيه التّوافق بعديّا عند هابرماس، بمعنى أنّ الحَسم في القرارات يكون نتيجة وليس شرطا، من منطلق أنّ الدّيمقراطيّة التّشاوريّة هي عمليّة بناء وسيرورة تفاعليّة منفتحة على احتمالات وإمكانيّات متعّددة يكون الحسْمُ فيها بالتّوافق والإجماع العقلانيّ، في حين تظلّ الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة في صيغتها الرّولزيّة نتيجة مُعطاة، إنّها لا تبتغي الوصول إلى حلول معيّنة بل تقدّم نفسها كحلّ نهائيّ.
بهذا المعنى، لم يعد العقل الهابرماسيّ صوريّا ومجرّدا بل صار عقلا إجرائيّا تواصليّا ومَرنا ومُنفتحا على الفضاء العُموميّ حيث يسُود النّقاش العقلانيّ الحُرّ بين مختلف الذّوات. ومن هنا نستوعب بعمق ارتباط العمليّة الدّيمقراطيّة لديه بالعالم المعيش والوجود الفعليّ الاجتماعيّ للأفراد.
هكذا، يكون الاختلاف مُنتهى العمليّة الدّيمقراطيّة عند رولز في حين يقدّم هابرماس الاختلاف كمنطلق للدّيمقراطيّة قصد بلوغ الإجماع. وعليه، فإنّ ما يمكن اعتباره إضافة نوعيّة للدّيمقراطيّة التّشاوريّة كونها قد حرّرت الدّيمقراطيّة نفسها من وهم النّموذج المثاليّ المكتمل والنّهائيّ فأصبحت مشروعا لم يكتمل بعد مثل الحداثة.
بالرّغم من هذا الحسّ الفلسفيّ النّقديّ الشّديد الّذي تميّز به هابرماس، فإنّ مشروعه الفلسفيّ لا يخلو من حدود ومفارقات شأنه في ذلك شأن المشروع الرّولزيّ فكلاهما يؤسّس المجتمع على أسس تعاقديّة، ما يعني أنّ العدالة لا يمكن أن تتحقّق إلّا في إطار مجتمع ليبراليّ تعاقديّ يكرّس لديمقراطيّة الحرّيّة والمساواة، كما لو أنّ المسار الطّبيعيّ لأيّ مجتمع يرغب في ولوج الحداثة وتحقيق الدّيمقراطيّة والعدالة هو أن يسلك نفس التّراكم الّذي عاشته أوروبا بالانتقال من مجتمع سياسيّ قوميّ إلى مجتمع سياسيّ ليبراليّ يؤمن بالأفراد لا بالمجتمع، وهذا ما يضع المشروع الهابرماسيّ في سجَال حادّ مع النّماذج السّياسيّة الجديدة في عالمنا اليوم (اليابان نموذجا) وهو ما يفرض علينا أن نتساءل: ألا يمكن أن تتحقّق العدالة في إطار مجتمع ديمقراطيّ ليبراليّ حديث محكوم بتصوّر سياسيّ تعاقديّ؟[45].
إنّ مرادفة هابرماس بين الحداثة والدّيمقراطيّة يجعل نظريّته محدودة بحدود المجتمع الحداثيّ، أو ما يدعوه بـ “المجتمع العقلانيّ التّواصليّ” وكلّ بنية اجتماعيّة لا تتوافق مع تصوّره النّظريّ غير مؤهّلة لتحقيق الدّيمقراطيّة والعدالة، وإن كانت الحداثة، في نظره، مشروعا غير مكتمل بعد، فإنّ هذا الأمر يفرض على أيّ مجتمع أن ينخرط في الحداثة الغربيّة ويواكب تحوّلاتها. من خلال هذا الفهم الكرونولوجيّ تكون اللّحظة الأنواريّة ضروريّة لهذا الانخراط، أي ضرورة إقامة المجتمع على أسس تعاقديّة مدنيّة بحيث تصبح العدالة الوحيدة الممكنة هي العدالة التّعاقديّة وكلّ نسق سياسيّ يتعارض معها فإنّه يتعارض مع هذه القيمة، وهذا تناقض في الحدود ولا يمكن إنكاره.
4- صوريّة المعايير وحدود القول بالإجماع:
بالرّغم من أنّ هابرماس قد ربط النّظريّة بالممارسة[46] (وهو عنوان أحد مؤلّفاته المُبكّرة) وجعل الدّيمقراطيّة تنفتح على الفضاء العموميّ باختلافاته وتناقضاته وصراعاته الإيديولوجيّة، فإنّه مع ذلك ظلّ أسيرا للنّظرة الكانطيّة الّتي وسمت التّصوّر الرّولزيّ للعدالة وذلك لأنّ المشترك بينهما هو وقوعهما في فخّ المعايير الصّوريّة للعقل، وإن كان هذا المُعطى واضحا وجليّا لدى رولز، فإنّه بدا مخفيّا ومضمرا عند هابرماس لأنّ هذا الأخير غلَّف تصوّره للدّيمقراطيّة والعدالة بهالة تواصليّة عمليّة وبأخلاق مناقشة تطبيقيّة، غير أنّ هذا التّواصل بقي مُحتفظا بشيء من المثاليّة والصّوريّة، لأنّ “القول بمجتمع تواصليّ عقلانيّ ذي مرجعيّة معياريّة وأخلاقيّة قول يبدو أنّه ينتمي إلى اليوتوبيا أكثر ممّا يستند إلى أساس واقعيّ”[47]، فهو يفترض بأنّ حلّ النّزاعات والخلافات أو الصّراعات لا يمكن أن يتمّ إلّا بفضل التّواصل القائم على أخلاقيّات المناقشة، متناسيا، أو قُل متجاهلا بذلك كلّ الحلول الّتي تحسم أحيانا بالصّراع أو القوّة أو الحرب في محاولة منه لجعل الدّيمقراطيّة ذات بعد تشاوريّ وتوافقيّ.
تبدو صوريّة معايير العدالة عند هابرماس في انتصاره للتّواصل وتقديمه كحلّ إجرائيّ لعدالته وإخفاء أيّ طابع مثاليّ عليه، فهو من جهة يؤسّس ديمقراطيّته التّشاوريّة اعتمادا على معايير تواصليّة عقلانيّة ذات أساس أخلاقيّ ولكنّه من جهة أخرى يقدّم تصوّرا مثاليّا للتّواصل بعيدا كلّ البعد عن الواقع المعيش. صحيح أنّ هابرماس يربط تصوّره للتّواصل بنظريّة اجتماعيّة لكنّ “هذا التّصوّر بحكم ارتهانه لأخلاق معياريّة ولطبيعته الذّهنيّة يبقى عبارة عن يوتوبيا صعبة التّطبيق في مجتمع “عقلانيّ” مؤسّس على التّوازنات والمساومات والتّسويات أكثر ممّا يعتمد على الخطاب البرهانيّ الإقناعيّ”[48]، وحتّى يتسنّى لنا كشف حدود المعايير الصّوريّة للعقل التّواصليّ ومفارقاتها عند هابرماس في نظريّته السّياسيّة يتعيّن علينا الوقوف أوّلا عند أهمّ الأسس الّتي أقام عليها نظريّته التّواصليّة. فما هي صفات الفعل التّواصليّ عند هابرماس؟ وكيف كانت دعوته إلى أخلاقيّات المناقشة؟ وهل استطاع فعلا، بنظريّته التّواصليّة، أن يتجاوز عيوب النّظريّة اللّيبراليّة السّياسيّة ونواقصها أم أنّه، على العكس من ذلك، أضاف إليها حدودا جديدة؟
لقد سعى هابرماس في نظريّته التّواصليّة إلى وضع جملة من المعايير الصّوريّة الّتي يتعيّن على كلّ الذّوات احترامها لنجاح العمليّة التّواصليّة، معايير تمتح جدواها ممّا هو أخلاقيّ، على اعتبار أنّ الإنسان كما يقول: “كائن إتيقيّ تواصليّ انطلاقا من أنّ التّواصل بمختلف تجلّياته المادّيّة والدّلاليّة هو رمز دالّ من رموز المرحلة المعاصرة، ويكفي أنّ العالم صار قرية صغيرة “[49].
من هنا، توجّهت دعوته إلى تأسيس أخلاقيّات للمناقشة هدفها تحقيق التّفاهم والابتعاد قدر الإمكان عن كلّ نقاش يمكن أن يؤدّي إلى الصّراع أو العنف، أي تواصل بينذاتيّ مبنيّ على حجج أساسها عقلانيّ. يفسّر هابرماس هذا الأساس العقلانيّ في كتابه “الخطاب الفلسفيّ للحداثة” بقوله: “إنّ ما نسمّيه عقلانيّة هو أوّلا الاستعداد الّذي تبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والفعل وعلى اكتساب معرفة قابلة للخطأ وتطبيقها”[50]، لذلك، يمكن القول بأنّ المشروع التّواصليّ لهابرماس يهدف إلى توفير الشّروط المناسبة لحوار جدليّ مفتوح بين الذّوات، مُنزَّه عن كلّ ضغط أو تمويه أو عنف كلاميّ أو تلاعب أو إقصاء، حوار يمنح لكلّ الأطراف المشاركة في النّقاش فرصا متساوية في الكلام حتّى يتمكّنوا من إيصال آرائهم أو اعتراضاتهم، لأجل ذلك يدعو هابرماس إلى “الابتعاد عن التّخريف والتّخويف في الكلام، وقدرة كلّ مُتحدِّث على أن يُحاسب نفسه قبل غيره ويتأكّد من ادّعاءاته عقلانيّا وبطريقة مسؤولة، وهذا يرجع إلى كون الموقف الخطابيّ المثاليّ يقوم على قيم مترابطة للحقيقة، هي: الحرّيّة والعدالة”[51].
إنّ هذا التّواصل المنشود لدى هابرماس الصَّافي، الحُرّ، العَقلانيّ والمُتخلِّص من كلّ ضغط أو إكراه أو تمويه أو تلاعب هو ما سيعرف عنده بـ “الحالة المثاليّة للكلام”، وهي حالة يتمّ التّسليم بها قبليّا في كلّ عمليّة تواصليّة، وتستند إلى معايير المعقوليّة، الحقيقة، الصّدق والمسؤوليّة، على اعتبار أنّ الفرد المُشارك في النّقاش يجب أن تتضمّن دعواه “صلاحيّة ادّعاءاتها، وهو مُلزم بتقديم الحجّة على ما يقول والبيّنة على ما ادّعى إذا وجب ذلك”[52] أي أنّه مطالب بتبرير ادّعاءاته.
إنّ ما كان يطمح إليه هابرماس من وراء تأكيده على هذه الادّعاءات التّواصليّة هو حصول التّفاهم (Understanding) بين الأطراف المشاركة في النّقاش حول قضايا موضوع التّشاور، أي “الوصول إلى نوع من الاتّفاق (Agreement)الّذي يؤدي إلى التذاوت المشترك وإلى التفهُّم المتبادل والثّقة المتبادلة وإلى التّقارب في وجهات النّظر والآراء، وهذه الأبعاد من التذاوت تقابلها ادّعاءات للصّلاحيّة تتمثّل في المعقوليّة والحقيقة والدّقّة والصّدق الّتي يستند عليها كلّ شكل من أشكال الاتّفاق”[53]، وبالتّالي فإنّ “التّفاهم هو العمليّة الّتي من خلالها يتحقّق اتّفاق معيّن على الأساس المفترض لادّعاءات الصّلاحيّة المعترف بها باتّفاق مشترك”[54]، ولا يجب أن يتأسّس هذا التّفاهم في منظور هابرماس على أيّ سبب خارجيّ (سلطة، إكراه، عنف…)، فالأساس الوحيد الّذي يجب الاستناد إليه هو التّفاعلات البينذاتيّة المشتركة والحجج العقلانيّة.
إذا كانت غاية هابرماس من التّواصل هي تحقيق التّوافق والتّفاهم بين الذّوات، فإنّ هذا المسعى كان لأجل تبرير مبدأ الإجماع (Consensus)لأنّه “في غياب أيّ إجماع بين الأطراف الفاعلة في العمليّة التّواصليّة يعني فشل الفعل الّذي يمكن أن يترتّب عن ذلك لأنّ هابرماس يربط ارتباطا وثيقا بين اللّغة والفعل، فالالتزام الّذي يحدث بعد الانتهاء من المناقشة قد يؤدّي إلى فعل ناجح إذا كان مبنيّا على قناعات متبادلة”[55]، ويمكننا أن نضيف أيضا بأنّ سعيه إلى التّأكيد على مبدأ الإجماع هدفه هو الوصول إلى “مبدأ الكونيّة، بحيث “لا يمكن اعتبار المعايير الأخلاقيّة سارية المفعول إلّا إذا حُظيت بانخراط كلّ الأشخاص العقلانيّين الّذين أقحمت مصالحهم ومسَّها التّطبيق الشّامل لهذه القواعد”[56]، فتبعا لهذا المبدأ، لا يمكن لأيّ معيار أن يدَّعي الصّلاحيّة الكونيّة لنفسه إلّا إذا كان محلّ إجماع عقلانيّ من طرف المشاركين في النّقاش، ويتمّ الوصول إليه عبر نقاش ديمقراطيّ حُرّ يشترك فيه الجميع دون ضغط أو إكراه بهدف تحقيق المصلحة المشتركة، وهي كلّها مواصفات تسمح لمبدأ الكونيّة “بتكوين حكم أخلاقيّ مُحايد يستجيب للجميع، وهو مبدأ يتوقّف على الرّؤى الخاصّة والمحلّيّة ويتجاوز التّطبيق الشّكليّ والحرفيّ للمعايير العامّة”[57]، غير أنّ دفاع هابرماس عن مبدأ الإجماع جعله عُرضة لنقد شديد سواء من داخل مدرسة فرانكفورت أو من خارجها، إذ لم يعمل تلامذته على تطوير نظريّته أو الدّفاع عنها، بل عمدوا على نقدها وتجذيرها بحيث عمد كلّ من الجيل الثّالث والرّابع إلى نقد رولز وهابرماس معا، بل والأدهى من ذلك، أنّهم أسّسوا لمشاريع سياسيّة جديدة ما بعد “الإنصاف” و “التّواصل”، نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: الاعتراف مع أكسيل هونيث، التّبرير مع راينر فورست، الكونيّة المنفتحة مع سيلا بنحبيب، الاعتراف وإعادة التّوزيع مع نانسي فريزر، إلى جانب الدّيمقراطيّة الصّراعيّة مع شانتال موف.
من هذا المنطلق، سيعتبر أكسيل هونيث A. Honneth (وهو أحد تلامذة هابرماس) بأنّ “الصّوريّة الّتي يتمّ التّبشير بها من طرف آبل[58] وهابرماس وهميّة لأنّ التّذرّع بافتراضات معياريّة يستنتج منها مبدأ الكونيّة يعرض أخلاقيّات المناقشة في الحقيقة لتصوّر جدّ ضيّق للعدالة”[59]، ونفس الملاحظة تقريبا تسجّلها سيلا بنحبيب (الّتي هي أحد أوجه الجيل الثّالث لمدرسة فرانكفورت)، حيث أكّدت “أنّ الحياد والصّوريّة اللّذين تقول بهما نظريّة أخلاقيّات التّواصل خداع ليس إلّا، فالافتراضات المقدّمة من طرف هابرماس تتضمّن مفهوما محدودا للمساواة، وأنّ الرّؤية العالميّة للأخلاق فيه خاضعة لأفق ثقافيّ وتاريخيّ معيّنين هو تاريخ الغرب وثقافته وسجين حضارتها ومنطقها”[60]، لذلك، نجد من يعتبر أنّ النّموذج المعياريّ للتّواصل عند هابرماس، بصفته نموذجا صوريّا ومكتملا، غير قابل للتّحقّق والتّطبيق، خصوصا في ظلّ المجتمعات المعاصرة المركّبة لأنّه يفترض أن تصل مختلف الذّوات المشاركة في العمليّة التّواصليّة في نهاية المطاف إلى وجهة نظر مشتركة، متناسيا أنّ التّواصل بين الذّوات يطبعه أيضا التّنازع والاختلاف. وفي هذا السّياق يلاحظ السّوسيولوجيّ الفرنسيّ المعاصر ريمون بودون R. Boudon (1934-2013) أنّ “ادّعاء هابرماس بإمكانيّة تطبيق نموذجه التّواصليّ في المجتمعات المعقّدة ادّعاء يصعب تبريره أو الدّفاع عنه لأنّه لا يمكن أن يطبّق إلّا داخل جماعات تواصليّة محدودة تجتمع لمناقشة موضوعات محدّدة”[61]، بالإضافة إلى ذلك، تمّ التّشكيك في مسألة “الحالة المثاليّة للكلام” باعتبارها إحدى الأسس الّتي اعتمدها هابرماس في نظريّته التّواصليّة بحيث “اعتبرها خصوم المدرسة النّقديّة مثالا عن سقوط المدرسة في المثاليّة، مؤكّدين أنّ هذا الإطار النّظريّ يتضمّن شروطا بعيدة كلّ البعد عن تلك القائمة في واقع التّفاعل اللّغويّ بين الأفراد”[62]، ويمثّل نقد جون فرنسوا ليوتار J.F. Lyotard (1924-1998) أقوى الانتقادات الّتي واجهتها نظريّة التّواصل عند هابرماس خارج التّقليد اللّيبراليّ ومدرسة فرانكفورت والّذي يعدّ من أبرز ممثّلي فلسفة الاختلاف وواحدا من المنظّرين لفلسفة “ما بعد الحداثة”، ووظّف انتماءه هذا في مواجهة مبدأ الإجماع الّذي نادى به هابرماس، وقد تجلّى هذا الاعتراض بوضوح في كتابيه “التّنازع” (1983) و “الشّرط ما بعد الحداثيّ” )1979)، ففي هذا الكتاب الأخير احتجّ ليوتار قائلا “إنّ الاختلاف أقدر على الابتكار من الإجماع”[63]، ففي نظره، الاختلاف هو الشّكل الجوهريّ للإبداع والابتكار وبالأخصّ في العلم، أمّا الإجماع -كما يقول- فإنّه يقفل بابه بل يصفه بكونه “سلوكا إرهابيّا”[64].
يستمدّ مبدأ الإجماع مرجعيّته عند هابرماس حسب ليوتار ممّا أسماه بــ “السّرديّات الكبرى” [65]والّتي لم نعد، بالنّسبة إليه، قادرين على الاستعانة بها أو اللّجوء إليها لتبرير خطاباتنا من قبيل: فكر الأنوار، العقلانيّة، الرّوح المثاليّة، فكرة التّقدّم، تحرير البشريّة… وغيرها من الحكايات والسّرديّات الّتي تجد مبرّرها وصلاحيّتها في خطابات الحداثة والتّنوير. وهذ ما جعل ليوتار يقول: “إنّ مبدأ الإجماع بوصفه معيارا للصّلاحيّة يبدو غير ملائم”[66]، لهذا الاعتبار، لا يحذو ليوتار حذو هابرماس في مبدأ “الإجماع الكونيّ” فالتّأكيد على ادّعاءات الصّلاحيّة والحوار البرهانيّ يفترض في نظر ليوتار شيئين: “أوّلهما أنّه يمكن لكلّ المتكلّمين أن يتوصّلوا إلى اتّفاق على القواعد الّتي تكون صالحة بشكل كلّيّ، أمّا الافتراض الثّاني فيتمثّل في كون الإجماع حالة من حالات المناقشة وليس غاية”[67]، فضلا عن ذلك، فإنّ “الإجماع أصبح قيمة متجاوزة ومشكوكا فيها، بينما العدالة بوصفها قيمة لم يتمّ تجاوزها ولا هي مشكوك فيها”[68] لذلك، فإنّ ما يجب التّأكيد عليه في مجتمعات ما بعد الحداثة هو مسألة العدالة لأنّه يجب “أن نتوصّل إلى فكرة وممارسة للعدالة لا تكون مرتبطة بفكرة وممارسة الإجماع”[69] خاصّة وأنّنا نعيش في مجتمعات لا تهتمّ بجذب العلماء من أجل الوصول إلى الحقيقة، بقدر ما تقوم بذلك من أجل تدعيم القوّة، الأمر الّذي يؤدّي إلى القول بأنّ المعرفة والسّلطة هما في العمق وجهان لسؤال واحد هو: من يقرّر ماهيّة المعرفة؟ ومن يتّخذ القرارات؟[70].
ويظهر من مناظرة “هابرماس – ليوتار” أنّ مقولة “الإجماع” كانت أضعف من النّاحية الحجاجيّة (الواقعيّة) مقارنة مع مقولة “التّنازع”، إذ كان هابرماس يلجأ عادة إلى أفكار وبراهين عقليّة مجرّدة لتدعيم تصوّره في حين نجد ليوتار شديد الميول إلى خصوصيّة الواقع السّياسيّ، ما يُزكّي الطّابع الصّوريّ لنظريّة هابرماس السّياسيّة.
غير بعيد عن ليوتار، نبّه الباحث الألمانيّ مانفريد فرانك M. Frank (1945-….) في كتابه الموسوم بــ”حدود التّواصل، الإجماع والتّنازع بين هابرماس وليوتار” إلى أنّ “بلاغة الانسجام الّتي حرص عليها كلّ من هابرماس وآبل في نشر نظريّة الإجماع، ساهمت في إهمال المستوى الحربيّ الجوهريّ الموجود في نظريّتهما”[71]، وإنّ تصوّر هابرماس وزميله كارل أوتو آبل لنظريّة الإجماع يسعى إلى إذابة كلّ اختلاف بين الأطراف المشاركة في العمليّة التّواصليّة على أساس أنّهما متّفقان حول إمكانيّة بناء خطاب فوقيّ اعتمادا على نظريّة التّداوليّات الكلّيّة.
نجد لهذه الدّعوة المتمثّلة في مناهضة الإجماع ودحضه صدى آخر لدى السّوسيولوجيّ الألمانيّ نيكلاس لوهمان N. Luhmann (1927-1998)، حيث أشار في كتابه “الأنظمة الاجتماعيّة” إلى أنّ التّواصل لا يجب أن ينبني على مبادئ أنطولوجيّة، كما أنّه لا يهدف إلى الإجماع. لا يعتبر التّواصل حسب هذه الرّؤية لعبة ذاتيّة وإنّما لعبة تقوم على الاختلاف بين المعلومة والتّوصيل، إذ إنّ لها هدفا واحدا وهو التّواصل نفسه الّذي ينتج الإجماع كما ينتج الاختلاف. لا يمكن للإجماع، حسب لوهمان، تجاوز عوامل الإزعاج والاضطراب فهو يرفض أن يقوم التّواصل على العقل، مقابل ذلك، يرى أنّه يقوم على الصّراع أو ما يسمّيه بــ”الاستقرار الدّيناميّ”، فبمساعدة التّواصل قد نصل إلى فهم ما هو غير منتظر وغير مرغوب فيه[72].
5- على سبيل الختم:
إنّ مُعايشة هابرماس لواقع ألمانيا الهشّ بعد الحرب العالميّة الأولى وما أعقبها من أحداث وكوارث لا تُراعي احترام كرامة الإنسان، دفعته إلى صياغة “نظريّة في الدّيمقراطيّة” مبنيّة على أسس أخلاقيّة تواصليّة. هذا البعد الأخلاقيّ-التّشاوريّ للدّيمقراطيّة هو ما أعطى مُقاربته جدَّة نظريّة وأصالة عمليّة، وهو ما جعله يقف عند حدود النّظريّة السّياسيّة اللّيبراليّة الرّولزيّة والّتي تفتقر، في اعتقاده، إلى هذا البُعد العمليّ الإجرائيّ.
يوحي نقد هابرماس لرولز وسجاله معه بأنّ البراديغم اللّيبراليّ ليس أرضيّة وحيدة للتّفكير في الدّيمقراطيّة والعدالة من منطلق أن ثمّة نماذج سياسيّة أخرى يمكن التّفكير من خلالها في نظريّة العدالة، وقد استقرّ هابرماس على اعتبار البراديغم التّشاوريّ منطلقا أفضل لمقاربة النّظريّة السّياسيّة بوصفها تواصلا لا إنصافا، وتوافقا مبنيّا لا مُعطى قبليّا.
على هذا الأساس نقل فيلسوف فرانكفورت سياق نظريّة العدالة من الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة إلى الدّيمقراطيّة التّشاوريّة القائمة على أخلاقيّات المناقشة والحوار بغرض ربط النّظريّة بالممارسة، مُستبعدا بذلك صرامة رولز في وضع معايير مُعطاة لطبيعة المجتمع العادل. مع ذلك، تظلّ مقولة الإجماع الّتي نادى بها هابرماس في نظريّته محدودة بحدود التّنازع والصّراع والاختلاف.
يكمن عيب هابرماس ، في ما يبدو لنا، في إقامته زواجا غير منطقيّ بين السّياسة والأخلاق من جهة، وبين النّظريّة والممارسة من جهة أخرى وذلك راجع بالأساس إلى عجزه عن التّوفيق بين الكانطيّة والهيجيليّة فبالرّغم من تظاهره بالجمع بينهما، إلّا أنّه كان دائم الانتصار لكانط، ومن هنا نفهم لماذا انتصر في تصوّره للجانب النّظريّ على جانب الممارسة، وإن أقرّ، على غرار أصدقاء مدرسته، بضرورة ربط النّظريّة بالممارسة، فبدل الانشغال بقضايا الصّراع والحرب والنّزاعات الدّوليّة حاجج هابرماس على مشروع لسلام دائم وعكس التّعارضات السّياسيّة والاختلافات الإيديولوجيّة، آمن هابرماس بتخليق الفضاء العموميّ.
بناء على هذه الحدود، يمكننا القول بأنّ نظريّة التّواصل عند هابرماس تمثّل إضافة نوعيّة إلى النّظريّة السّياسيّة اللّيبراليّة الجديدة، غير أنّها ليست حلّا حاسما ونهائيّا للإشكاليّة السّياسيّة عموما، إنّها تتمّة للنّسق السّياسيّ اللّيبراليّ، وبالتّالي، لا يمكن مقارنتها بالتّصوّرات المعارضة للنّظريّة اللّيبراليّة، ما يجعلنا نتساءل: ألا يمكن القول بأنّ الإسهام الهابرماسيّ في العدالة ظلّ أسيرا للرّؤية اللّيبراليّة عموما؟ أليست نظريّته في الدّيمقراطيّة والعدالة استمرارا للمسعى العقلانيّ الصّوريّ والمُجرَّد الموروث عن كانط؟ ثمّ، ألا يمكن أن تتحقّق الدّيمقراطيّة والعدالة خارج نسق المجتمع اللّيبراليّ الحداثيّ؟
قائمة في المراجع:
بالعربيّة:
- الأشهب (محمّد): “الفلسفة والسّياسة عند هابرماس جدل الحداثة والمشروعيّة والتّواصل في فضاء الدّيمقراطيّة“، مطبعة النّجاح الجديدة، الطّبعة الأولى، 2006.
- الأشهب (محمّد): “فلسفة الحقّ في نظريّة الفعل التّواصليّ ليورغن هابرماس“، ضمن مؤلّف جماعيّ “فلسفة الحقّ عند هابرماس”، سلسلة ندوات ومناظرات، منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرّباط، الطّبعة الأولى، المغرب، 2009.
- الأشهب (محمّد): “أخلاقيّات المناقشة في فلسفة التّواصل لهابرماس“، دار ورد الأردنيّة للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، عمّان-الأردن، 2013.
- أفاية (محمّد نور الدّين): “الحداثة والتّواصل في الفلسفة النّقديّة المعاصرة، نموذج هابرماس“، دار إفريقيا الشّرق، الطّبعة الأولى، المغرب، 1991.
- بوطيّب (رشيد): “مفهوم التّواصل في الفلسفة، من الحقيقة إلى الاختلاف“، ضمن مؤلّف جماعيّ “التّواصل نظريّات وتطبيقات”، سلسلة فكر ونقد، الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، الطّبعة الأولى، بيروت، 2010.
- فرانك (مانفريد): “حدود التّواصل، الإجماع والتّنازع بين هابرماس وليوتار“، ترجمة الدّكتور عزّ العرب حكيم بنّاني، دار إفريقيا للشّرق، 2003.
- لشهب (حميد): “العقل والدّين في المجتمع الحديث وما بعد الحديث، نموذج الغرب والدّول الجرمانيّة“، الطّبعة الأولى، نداكوم، أكدال، الرّباط، المغرب،2005.
- مصدق (حسن): “يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النّظريّة النّقديّة التّواصليّة“، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، المغرب، 2005.
- هابرماس (يورجين): “إيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة“، ترجمة عمر مهيبل، الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، الطّبعة الأولى، لبنان، 2010.
- هاشمي (محمّد): “نظريّة العدالة عند جون رولز، نحو تعاقد اجتماعيّ مغاير“، دار توبقال للنّشر، الطّبعة الأولى، الدّار البيضاء، 2014.
الأجنبيّة:
- Habermas (Jürgen): “Theory and Practice Translated by john Viertel”, Beacon Press, Boston, (1974).
- Habermas (Jürgen): The theory of Communicative Action”, Vol.1. Translated by Thomas McCarthy, Beacon Press Boston, (1985).
- Habermas (Jürgen): “The Philosophical Discourse of Modernity”, translated by Frederick Lawrence, Polity Press, First published (1987).
- Habermas (Jürgen): “Three Normative Models of Democracy”, published by Black well publishers, Vol. No (1994).
- Habermas (Jürgen): “Reconciliation through the public Use of Reason: Remarks on John Rawls Political liberalism”, the journal of philosophy, Vol. 92, No 3, (March 1995).
- Habermas (Jürgen): “Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy”, Translated by William Rehg, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, Second printing, (1996).
- Lyotard (Jean François): The Postmodern Condition: A Report on Knowledge, Translation from the French by Geoff Bennington and Brian Massimo Foreword by Fredric Jameson, Theory and History of Literature, Volume 10, Manchester University Press, 1984.
- Munster (Arno): Le principe Discussion, Habermas ou le tournant langagier et communicationnel de la théorie critique, Editions Kimé, 1998.
- Rawls (John): “A Theory of Justice”, Cambridge, MA: Harvard University Press, 1971. Revised Edition, 1999.
- Rawls (John): “Justice as fairness: a Restatement”, Eric Kelly, Ed, Cambridge, MA: Harvard University Press, 2001.
- Rawls (John): “Reply to Habermas, in Political liberalism”, With a new introduction and reply to Habermas, New York, Columbia University Press, 1996.
[1]– ننبّه هنا إلى أنّ لفظ Discourse لا يدلّ عند هابرماس على الخطاب أو القول أو الكلام، وإنّما يحيل إلى المناقشة كما يعبّر عن ذلك اللّفظ الفرنسيّ Discussion. ومفهوم “أخلاقيّات المناقشة” أو” إتيقا المناقشة” كما يترجمها البعض في اللّغة العربيّة، هو عنوان أحد مؤلّفات هابرماس وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات الّتي ألقاها في باريس سنة 2001، وقد كان لصديقه في مدرسة فرانكفورت “كارل أتو آبل” (توفي سنة 2017) السّبق في هذا العنوان.
[2]– J. Habermas: Three Normative Models of Democracy, Published by Black well publishers, Vol. No (1994), P1.
نفضّل هنا ترجمة «Democracy deliberative» بـ “الدّيمقراطيّة التّشاوريّة” كما اعتمدها الباحث محمّد الأشهب بدل التّرجمة الّتي قدّمها الباحث حسن المصدّق والّذي ترجمها بــ “الدّيمقراطيّة التّداوليّة”، وذلك تجنّبا للخلط الّذي يمكن أن تحدثه كلمة تداول مع مبحث التّداوليّات في مجال اللّسانيّات.
[3]– يمكن اعتبار هذا الكتاب أهمّ عمل في مشروع هابرماس الفلسفيّ، ويتكوّن من مجلّدين: المجلّد الأوّل عنونه بـ”العقل وعقلانيّة المجتمع” «Reason and Rationalization of society»، أمّا المجلّد الثّاني فقد وضعه تحت عنوان “العالم المعيش وأنساقه: في نقد العقل الوظيفيّ” «Lifeworld and system :A Critique of functionalist Reason». وقد سعى هابرماس في هذا العمل الضّخم (أكثر من 500 صفحة لكلّ مجلّد) إلى تقديم نظريّة نقديّة في المجتمع اعتمادا على براديغم التّواصل القائم على أسس: العقلانيّة، الفاعليّة، اللّغة، البينذاتيّة، أخلاقيّات المناقشة إلخ. وما يلفت الانتباه في هذا الكتاب اعتماد هابرماس على مرجعيّات متعدّدة ومتنوّعة (سوسيولوجيّة، فلسفيّة، لغويّة، قانونيّة، تأويليّة…) وذلك لتعزيز نظريّته التّواصليّة.
[4]– ننبّه هنا إلى وجود اختلاف في ترجمة المصطلح الألمانيّ «Recht»الّذي وظّفه هابرماس في العنوان الأصليّ للكتاب، ولعلّ هذا الاختلاف راجع إلى اللّغة الّتي تتمّ التّرجمة عنها إلى العربيّة، ففي اللّغة الإنجليزيّة تُرجم إلى «Law» ويدلّ على “القانون” كما هو الحال عند وليام ريخ مترجم نصّ هابرماس، وهذا المصطلح (أي القانون) نجده في أغلب التّرجمات العربية كما هو الحال بالنّسبة إلى الأستاذ محمّد الأشهب، والحال أنّ ترجمته إلى العربيّة عن الألمانيّة مباشرة يدلّ على “الحقّ” وهذا هو الأقرب إلى الصّواب في نظرنا.
[5]– يعدّ هذا الكتاب من أهمّ ما كُتب في الفلسفة السّياسيّة المعاصرة بعد كتاب “النّظريّة في العدالة” لجون رولز، إنّه تتويج لمسار فلسفيّ حافل بدأ منذ مطلع السّتينيّات، ويعبّر فيه هابرماس عن تصوّره لدولة الحقّ والدّيمقراطيّة مستفيدا من مكتسبات نظريّة الفعل التّواصليّ وأخلاقيّات المناقشة.
[6]– L. Christina: The Linguistic turn in Hermeneutic philosophy, Translated by Jose Medina, IT Press, (2000), P128.
[7]– Ibid. P125. See also: J. Habermas, The Philosophical Discourse of Modernity, translated by Frederick Lawrence, Polity Press, First published (1987), P317.
[8]– J. Habermas: The theory of Communicative Action, Vol.1, Translated by Thomas McCarthy, Beacon Press Boston, (1985), P277.
[9]– محمّد نور الدّين أفاية: الحداثة والتّواصل في الفلسفة النّقديّة المعاصرة، نموذج هابرماس، دار إفريقيا الشّرق، الطّبعة الأولى، المغرب،1991، ص167.
[10]– يقول هابرماس عن تجاوزه للتّصوّر اللّيبراليّ للدّيمقراطيّة “في المنظور اللّيبراليّ، تتشكّل العمليّة الدّيمقراطيّة من خلال صراع الأحزاب السّياسيّة من أجل احتلال مواقع السّلطة الّتي تسمح لها بالتّحكّم في السّلطة الإداريّة، ففي الفضاء العموميّ والبرلمان يتحدّد الرّأي العامّ والإرادة السّياسيّة بالمنافسة بين الفاعلين السّياسيّين (المترشّحين) من أجل الحفاظ على مواقع السّلطة، وتعتبر صناديق الاقتراع مقياس درجة تعاطف المواطنين مع برامجهم السّياسيّة، وهي تخضع في نهاية المطاف لمنطق السّوق”، انظر:
- Habermas: Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy, translated by William Rehg, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, Second printing (1996), Pp299-300.
[11]– العقل التّواصليّ، الفاعليّة التّواصليّة، البينذاتيّة، أخلاقيّات المناقشة، العالم المعيش، الفضاء العموميّ، الدّيمقراطيّة التّشاوريّة، الأخلاق التّواصليّة، التّشاور، الإجماع… إلخ.
[12]– للاطّلاع على هذه المناظرة يمكن الرّجوع إلى المقالات التّالية الّتي نشرت في الجريدة الفلسفيّة الأمريكيّة The Journal of Philosophy وهي المقالات الّتي أعيد نشرها في مؤلّفات رولز وهابرماس:
Jürgen Habermas: Reconciliation through the public Use of Reason: Remarks on John Rawls Political liberalism, The journal of philosophy, Vol. 92, No 3 (March 1995), Pp109-131.
ردّ عليه رولز بمقالة نشرت في الجريدة الفلسفيّة نفسها بعنوان “ردّ على هابرماس”
John Rawls: Reply to Habermas, In Political liberalism, with a new introduction and reply to Habermas, New York, Columbia University Press, 1996, It first appeared in The Journal of Philosophy, Vol. 92, No 3 (March 1995).
[13]– Ibid. P25.
[14]– يمثّل هذا المفهوم نقطة التقاء النّظريّة بالممارسة في مشروع هابرماس، انظر:
- Habermas: The theory of Communicative Action, Op, cit. P279.
[15]– من الواضح أنّ هابرماس تأثّر بشكل كبير بالفلسفة الماركسيّة خصوصا في كتاباته الأولى، ونخصّ بالذّكر هنا عمله الموسوم بـ”النّظريّة والممارسة”، وهذا يعبِّر عن انخراطه بوجه عامّ في التّوجّه الماركسيّ للمدرسة النّقديّة خاصّة في تركيزه على الأبعاد المادّيّة للحياة الاجتماعيّة والتّجاذبات الدّيالكتيكيّة بين الأفراد والطّبقات، فهابرماس ورغم كانطيّته الواضحة لم يتجاهل الأساس الماركسيّ لنظريّته ولذلك سعى إلى خلق نفس جديد في الماركسيّة، وهو ما عبّر عنه بوضوح في قوله: “إنّ الماركسيّة ليست إيديولوجيا أو اعتقادا سياسيّا بل هي طاقة للنّقد، فمع ماركس نستطيع أن نميّز بين النّظريّة والممارسة”، انظر:
- Habermas: Theory and Practice, Translated by John Viertel, Beacon Press, Boston (1974), Pp230-231.
[16]– يمكن إرجاع هذا الاختلاف بين هابرماس ورولز إلى كون الأوّل قد ارتبط بتنوّع الأطياف السّياسيّة الألمانيّة في حين ظل الثّاني أسيرا للنّمطيّة اللّيبراليّة الّتي ميّزت المجتمع الأمريكيّ وعكس تعدّد الأحزاب السّياسيّة الألمانيّة وتجاذباتها وصراعاتها (اليسار المعتدل، الجذريّ، الأخضر، اليمين القوميّ، المسيحيّ، المتطرّف)، وقد ارتبط المجتمع الأمريكيّ فقط بحزبين ليبراليّين هما: الحزبان الدّيمقراطيّ والجمهوريّ، كما لو أنّ رولز نظر إلى المجتمع السّياسيّ اللّيبراليّ عموما بعيون خصوصيّة المجتمع السّياسيّ الأمريكيّ.
[17]– لئن أقر رولز فعلا بوجود اختلافات مذهبيّة داخل المجتمع الدّيمقراطيّ اللّيبراليّ فإنّه اعتبرها معقولة لأنّها، في اعتقاده، تنسجم وروح هذه المجتمعات، انظر في هذا الصّدد:
- Rawls: Justice as Fairness: A Restatement, Eric Kelly, Ed, Cambridge, MA: Harvard University Press, 2001, P32.
[18]– يمكن توضيح ذلك من خلال التّناظر الشّديد بين فرضيّة “الوضع البدائيّ” و”حالة الطّبيعة”، وكذا “المجتمع محكم التّنظيم” في مقابل “حالة المدنيّة”، ثمّ فرضيّة “التّوافق المتشابك” في مقابل “فكرة التّسامح”.
[19]– J. Habermas: Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy, Op. cit., P293.
[20]– Ibid. P300.
[21]– J. Habermas: The theory of Communicative Action, Op. cit. P278.
[22]– J. Habermas: The Philosophical Discourse of Modernity, Op. cit, Preface.
[23]– حميد لشهب: العقل والدّين في المجتمع الحديث وما بعد الحديث، نموذج الغرب والدول الجرمانيّة، نداكوم، أكدال، الطّبعة الأولى، الرّباط، المغرب، 2005، ص89.
[24]– J. Haberms: Three Normative Models of Democracy, Op. cit. P6.
[25]– محمّد الأشهب: أخلاقيّات المناقشة في فلسفة التّواصل لهابرماس، دار ورد الأردنيّة للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، عمّان-الأردن، 2013، ص175.
[26]– عن تعارض النّماذج الدّيمقراطيّة الثّلاثة، يقول: “سأعطي في هذا المقال معنى لكلّ من التّصوّرين اللّيبراليّ والجمهوريّ للسّياسة بوصفها نماذج مثاليّة يميّزان اليوم حقل النّقاش الفلسفيّ الدّائر في الولايات المتّحدة الأمريكيّة من قبل الجماعتين(Communitarians) ، وعلى ضوء أعمال فرانك مشلمان سأصف هذين النّموذجين للدّيمقراطيّة والمتعارضين فيما بينهما من وجهات نظرهما للمواطن: الحقّ وطبيعة الإرادة السّياسيّة. وفي الجانب الثّاني والّذي ينفتح على نقد الحضور المفرط للأخلاق في النّموذج الجمهوريّ، سأطوّر تصوّرا ثالثا ذو طابع إجرائيّ وهو النّموذج الّذي أفضّل تسميته بـ”السّياسة التّشاوريّة”، انظر:
- Haberms: Three Normative Models of Democracy, Op. cit. P6.
[27]– Ibid. P6.
[28]– عن الدّولة بوصفها حارسة للمجتمع الاقتصاديّ، انظر:
- Haberms: Three Normative Models of Democracy, Op. cit. P6.
وانظر أيضا:
- Habermas: Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy, Op. cit., P296.
[29]– J. Haberms: Three Normative Models of Democracy, Op. cit. P1.
[30]– Ibid. P1.
[31]– Ibid. Id.
[32]– Ibid. P2.
[33]– Ibid. P3.
[34]– Ibid. P4.
[35]– يتّفق هابرماس مع رولز ومرجعه كانط في كون الحقّ سابقا على الخير لأنّ ما كان يهمّه بعمق هو تأسيس حقوق كونيّة تتجاوز حدود الجماعة. هذا البعد الكونيّ الغائب لدى الجماعتين هو ما يعيبه على تصوّرهم، وقد وجد في فلسفة كانط سندا قويّا للدّفاع عن تصوّره للحقّ والدّيمقراطيّة والعدالة في سياق ما عُرف عنده بـ”المنعطف الكانطيّ” «Kantian turn»، انظر:
- Haberms: Three Normative Models of Democracy, Op. cit. P1.
[36] محمّد الأشهب: فلسفة الحقّ في نظريّة الفعل التّواصليّ ليورغن هابرماس، ضمن مؤلّف جماعيّ “فلسفة الحقّ عند هابرماس”، سلسلة ندوات ومناظرات، منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرّباط، الطّبعة الأولى، المغرب، 2009، ص186.
[37]– J. Haberms: Three Normative Models of Democracy, Op. cit. P5.
[38]– Ibid. P6.
[39]– Ibid. Pp5-6.
[40]– محمّد الأشهب: فلسفة الحقّ في نظريّة الفعل التّواصليّ ليورغن هابرماس، مرجع سابق، ص181.
[41]– ا حمّد الأشهب: فلسفة الحقّ في نظريّة الفعل التّواصليّ ليورغن هابرماس، مرجع سابق،ص191.
[42]– المرجع نفسه، ص177.
[43]– المرجع نفسه، ص202.
[44]– من المعروف أنّ هابرماس تقلّد مناصب حكوميّة عديدة في الدّولة الألمانيّة وهو ما يفسّر ارتباطه الوثيق بالممارسة السّياسيّة، عكس رولز الّذي ظلّ بعيدا طيلة حياته عن الحياة السّياسيّة العمليّة، إذ لم يكن له انتماء سياسيّ، ويبدو ذلك بوضوح في ردّه على سؤال أحد طلّابه في إحدى حواراته المتأخّرة والصّادرة في مجلّة طلّابيّة محلّيّة لجامعة هارفارد سنة 1991 بخصوص هذا الشّأن كالتّالي: “هارفارد: هل سبق وأن كان لك ميل لولوج السّياسة بشكل شخصيّ؟ رولز: كلّا، لم يكن لي أبدا هذا الميل فأنا مهتمّ بالسّياسة، ولكن ليس على صورة امتهان لها، أعتقد أنّني كنت سأبدو سيّئا للغاية في هذا المجال”. أورد الحوار الأستاذ محمّد هاشمي ضمن كتاب “نظريّة العدالة عند جون رولز”، مرجع سابق، ص288.
[45]– لا شكّ أن هذا السّؤال يذكّرنا بأطروحة أمارتيا سن الّذي حاول في كتابه “فكرة العدالة” أن يتجاوز الطّرح اللّيبراليّ الأنواريّ القائم على العقل الواحد، داعيا إلى تأسيس العدالة على تعدّد العقول والأنوار طالما أنّه ليس هناك عقل واحد، وإنّما عقلانيّات متعدّدة. ولعلّ قوّة أطروحته تكمن في عودته إلى التّراث الهنديّ السّابق على التّنوير الأوروبيّ ليبيّن وجود نماذج لديمقراطيّات عادلة ومُتنوّرة، مُستدلّا بذلك بالإمبراطور المغوليّ المسلم والمتنوّر محمّد جلال الدّين أكبر، انظر :
أمارتيا سن: الهويّة والعنف، وهم المصير الحتميّ، ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة، يونيو 2008، ص162-163.
[46]– من بين المبادئ الأساسيّة الّتي تقوم عليها مدرسة فرانكفورت النّقديّة الّتي ينتمي إلى جيلها الثّاني يورغن هابرماس ربط “النّظريّة” «Theory» بـ”الممارسة” «Practice» أو ما يدعوه هابرماس بجدليّة “المعرفة” «Knowledge» و”المصلحة” «Interest» من خلال ربط النّظريّة بالممارسة، فلا جدوى من نظريّة تعلو على الواقع، كما لا مصلحة أيضا من عقلانيّة أداتيّة تسلب الفرد حرّيّته وتفكيره، انظر:
- Habermas: Theory and Practice, Op. cit. P3.
[47]– محمّد نور الدّين أفاية: الحداثة والتّواصل في الفلسفة النّقديّة المعاصرة، نموذج هابرماس، مرجع سابق، ص230.
[48]– محمّد نور الدّين أفاية: الحداثة والتّواصل في الفلسفة النّقديّة المعاصرة، نموذج هابرماس، مرجع سابق،ص248.
[49]– يورجين هابرماس: إيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل، الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، الطّبعة الأولى، لبنان،2010، ص8.
[50]– J. Habermas: The Philosophical Discourse of Modernity, Op. cit. P315.
[51]– حسن مصدّق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النّظريّة النّقديّة التّواصليّة، مرجع سابق، ص144.
[52]– حسن مصدّق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النّظريّة النّقديّة التّواصليّة، مرجع سابق، ص145.
[53]– محمّد نور الدّين أفاية: الحداثة والتّواصل في الفلسفة النّقديّة المعاصرة، نموذج هابرماس، مرجع سابق، ص197.
[54]– المرجع نفسه، ص197.
[55]– محمّد الأشهب: الفلسفة والسّياسة عند هابرماس جدل الحداثة والمشروعيّة والتّواصل في فضاء الدّيمقراطيّة، مطبعة النّجاح الجديدة، الطّبعة الأولى، 2006، ص35.
[56]– حسن مصدّق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النّظريّة النّقديّة التّواصليّة، مرجع سابق، ص152.
[57]– المرجع نفسه، ص153.
[58]– كارل أوتو آبل (1922-2017): فيلسوف ألمانيّ وأحد ممثّلي الجيل الثّاني لمدرسة فرانكفورت، كما عُرف بتجديده للفلسفة الكانطيّة خصوصا في بعدها المتعالي وذلك عن طريق ربطها باللّغة والتّواصل وفق ما دعاه بــ “أخلاقيّات المناقشة”. تصوّره قريب إلى حدّ ما من صديقه هابرماس، من أهمّ أعماله: “التّفكير مع هابرماس ضدّ هابرماس” و “أخلاقيّات المناقشة”.
[59]– حسن مصدّق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النّظريّة النّقديّة التّواصليّة، مرجع سابق، ص167.
[60]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[61]– محمّد نور الدّين أفاية: الحداثة والتّواصل في الفلسفة النّقديّة المعاصرة، نموذج هابرماس، مرجع سابق، ص248.
[62]– حسن مصدّق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النّظريّة النّقديّة التّواصليّة، مرجع سابق، ص159.
[63]– مانفريد فرانك: حدود التّواصل، الإجماع والتّنازع بين هابرماس وليوتار، ترجمة الدّكتور عزّ العرب حكيم بنّاني، دار إفريقيا للشّرق، 2003، ص70.
[64]– J.F. Lyotard: The Postmodern Condition: A Report on Knowledge, Translation from the French by Geoff Bennington and Briaan Massumi Foreword by Fredric Jameson, Theory and History of Literature, Vol. 10, Manchester University Press, 1984, P63.
[65]– Ibid. P60.
[66]– J.F. Lyotard: The Postmodern Condition: A Report on Knowledge, Op. cit. P60.
[67]– Ibid. P65.
[68]– Ibid., P66.
[69]– Ibid. Id.
[70]– من الواضح أنّ تأكيد ليوتار على تلازم المعرفة والسّلطة ليس بجديد، فقد سبقه إلى ذلك العديد من الفلاسفة، وبالأخصّ ميشيل فوكو، لكنّ ما يميّز تصوّر ليوتار هو حديثه عن العلاقات الوثيقة بين المعرفة وخطاب السّلطة وأشكال المشروعيّة، انظر في هذا الصّدد: محمّد نور الدّين أفاية: الحداثة والتّواصل في الفلسفة النّقديّة المعاصرة، نموذج هابرماس، مرجع سابق، ص248.
[71]– مانفريد فرانك: حدود التّواصل، الإجماع والتّنازع بين هابرماس وليوتار، مرجع سابق، ص76.
[72]– رشيد بوطيّب: مفهوم التّواصل في الفلسفة، من الحقيقة إلى الاختلاف، ضمن مؤلّف جماعيّ “الّتواصل نظريّات وتطبيقات”، سلسلة فكر ونقد، الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، الطّبعة الأولى، بيروت، 2010، ص40.