“أن تكون بلا دولة من الناحية الثقافية يعني أن تمتلك أكثر من وطن، أن تشيَّد وطناً في مفترق طرق الثقافات، أن تصير هجيناً ثقافياً”
(Bauman, 2000: 206).
ملخص:
تهيمن الثّقافة، في عالم ما بعد الحداثة أو ما بعد – بعد الحداثة، على الحياة الاجتماعيّة، وتشبع كلّ جانب من جوانبها، وذلك نتيجة لتقدم تكنولوجيا الاتصال. وقد صرنا نعيش عصر الثقافة، حيث اُستبدل خطاب الثقافة بخطاب الاقتصاد. وتصف ما بعد الحداثة ظهور مجتمع تمثّل فيه الميديا والثّقافة الشّعبيّة المؤسّسات الأقوى التي تتحكّم في أنماط العلاقات الاجتماعيّة وتشكّلها. إذ تسيطر العلامات الثقافيّة الشعبيّة وصور الميديا على إحساسنا بالواقع وإدراكنا له، وعلى الطريقة التي نحدّد ونعرَّف بها أنفسنا والعالم من حولنا. وثمّة مفهومات ثلاثة هي الأبرز في معرض وصف الثّقافة في عالم ما بعد – بعد الحداثة، المعاصر: “الكريوليّة”، و “التّهجين”، و “السّيولة”. من هنا، تتركّز إشكاليّة هذه الدّراسة في تساؤل محوريّ: ما هي صورة الثّقافة التي ترتسمها الاتّجاهات المفسّرة لعالم ما بعد – بعد الحداثة المعاصر، والتي تستند على تلك المفهومات الثّلاثة؟ وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إنّ هذه الدّراسة تهدف، أوّلا، إلى مقاربة هذه المفهومات ومشتملاتها، وعرض مقاربات تتناول مستقبل الثّقافة في عالم يوصف بأنه كريولى تارة، وهجين وسائل تارة أخرى وتهدف ثانيا، إلى طرح تصورات لم آلات الثقافة في عالمنا المعاصر.
الكلمات المفتاحية: الثقافة، الكريولية، التهجين، السيولة، الحداثة السائلة.
Abstract:
In a postmodern or post-postmodern world, culture dominates social life and saturate all its aspects, as a result of the advances in communication technology. We are living in the age of culture, and the discourse of economy has been replaced by the discourse of culture. Postmodernism describes the emergence of a society in which media and popular culture represent the stronger institutions that control and shape the patterns of social relations. Popular cultural signs and media images control our sense of reality and our perception of it, and the way we define and know ourselves and the world around us. Three concepts are most prominent in the description of culture in a post-modern world: “Creolization”, “hybridization” and “liquid modernity”.
The problem of this study is therefore centered on a central question: What is the image of culture drawn by the approaches explain the post-postmodern world? Accordingly, this study aims to approach these concepts and their contents; and to review the current approaches to the future of culture in a world described as being sometimes creole, hybrid or liquid; and to review perceptions of the current status of culture
Key words: Culture, Creolization, Hybridization, Liquidity, Liquid Modernity.
1- مقدمة:
تمثّل الثّقافة حزمة الافتراضات غير المدركة، بدرجة كبيرة، والتي تعتنقها جماعة من البشر على نطاق واسع[1]. وتُقارب الثّقافة، غالباً، بوصفها شفرة، نموذجاً إرشادياً، وحديثاً مادة يمكن أن تنتشر عبر العالم. ويتبنى جوناثان فريدمان Friedman موقفاً أكثر بساطة في تعريفه، للثقافة، فهي بمعناها العام الأشمل، شيء تنفرد به المجتمعات الإنسانيّة، ويرتكز على فكرة وجود طرائق بديلة لفعل أشياء متشابهة أو حتى متماثلة وأدائها. ويستند مفهوم فريدمان على فكرة الاختلاف؛ طرائق مختلفة لإنجاز الأشياء، طرائق مختلفة للارتباط بالعالم، طرائق مختلفة لتنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعي، وهلمّ جرّا[2].
وتعدّ الثّقافة نسقاً مركّباً ومتكاملاً للتفكير والسلوك، يشترك فيه أفراد جماعة معينة، نسقاً يتيح لنا نمطه الكلّي فهم المعاني التي يُلصقها الأفراد بوقائع ومشاهدات معينة[3]. والثقافة هي نتاج وعملية تنشأ في نشاط الأفراد ذي المعنى، وما إن يصبح الفعل ذا معنى، حتّى يطوّر أفراد ثقافة معينة توقّعات عن مناشط الأفراد. وتتضمّن أنماط التّوقعات تلك المعايير والأدوار والأجندات والدّوافع والأساليب، ويعكس نموّ وتطوّر النّشاط الثّقافي نموّ وتطوّر التّوقّعات والمعاني[4]. بناءً على ذلك، تمثل الثقافة مجموعة من المعاني المشتركة داخل جماعة معينة[5].
ومن المقطوع به أنّ الثّقافة تشكّل كافّة مظاهر الحياة الإنسانيّة وجوانبها؛ سواء فرديّة، أو جمعية، أو خاصة بالّنظم الاجتماعية. ولا تعدّ العناصر التي اعتبرناها بصورة تقليديّة قوى بنائيّة (مثل أشكال الحكومة، أو البناء الطبقي لمجتمع معين) وحدها جزءًا من الثقافة، فحتى سلوكيّاتنا البيولوجيّة – التي نشترك فيها مع الثّدييات؛ كالأكل، والتّزاوج، والنّوم – تُعدّل وتتحول بتأثير الثّقافات، وتصبح سلوكيّات ثقافيّة بدرجة كبيرة. وتشكّل الثّقافة الخبرة الاجتماعيّة، والبناء الاجتماعي أيضا، ويتعين اعتبارها ممارسات منظّمة اجتماعياً لا تقتصر على ما يقبع في عقول الأفراد. من هنا تتحدّد الأبنية الاجتماعية بوصفها مجرد صيغ ثقافية تستثمر الموارد وتدعمها[6].
أصبحت الثّقافة اليوم حاضرة في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية وجوانبها، فمن الممكن شراء الثقافة، وبيعها، وتصميمها، واختراعها، وتسويقها، وأداء دورانها وتحقيقه، ونقلها وهجرتها فردياً أو جمعياً في أشكال مادية أو غير مادية. مثلما أضحت (الثّقافة) أيضا مكوناً أساسياً في أساليب الحياة والعوالم الفنية والتبادلات السلعية، الخ[7]. ويمكن الدفع بأن الثقافة والمجتمع قد سقط كلّ منهما في الآخر، وبات من المتعذّر اعتبار الثقافة “طبيعة ثانية” أو انعكاساً وشيئاً ملازماً للمجتمع والنسق الاقتصادي. فقد صارت الثقافة في مرحلة الرأسمالية المتأخرة محدداً أساسياً للواقع الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وحتى السيكولوجي.
ويقول فريدريك جيمسون Jameson في هذا الصدد: “أصبح هناك امتداد هائل وشاسع للثقافة عبر المجال الاجتماعي لدرجة أنّ كلّ شيء في حياتنا الاجتماعية – من القيمة الاقتصادية، وقوة الدولة إلى الممارسات، والبنية المجردة للنفس ذاتها – قد أصبح ثقافياً. يعني ذلك أن المجال الاجتماعي لم يعد منفصلاً عن المجال الثقافي”. على سبيل المثال لم تعد الطبقة الوسطى الجديدة تتحدد على أساس القوة الاقتصادية أو السياسية، بل على أساس استعراض الرموز الثقافية. كما بات من المتعذر فصل الثقافي عن الاقتصادي حيث تتمازج الثقافة والتجارة معاً، يتضح ذلك بجلاء في الدور المحوري للإعلان في الثقافة المعاصرة[8].
واليوم، في عالم ما بعد الحداثة أو حتى ما بعد – بعد الحداثة post-postmodernism، تعتبر “قضية الثقافة” وتراً حساساً نظراً إلى ارتباطها بقضايا الهوية والخصوصية، لذلك باتت الثقافة العمود الفقري الذي تراتبت حوله دراسات الهوية، والكونية، والتعددية الثقافية Multiculturalism، وغيرها من القضايا المثارة حالياً في الدوائر الأكاديمية[9]. ويستخدم مفهوم الثقافة كذلك لتفسير أسباب اندماج الأقليات والجماعات المهمَّشة، بسهولة، في المجتمع الكلي[10].
وهنا يثور في الأذهان سؤال، لماذا أضحت الثقافة، على نحو مفاجئ، الشكل المحوري للخطاب، وتسلَّطت مقاربات المفكرين على العولمة الثقافية وتأثيراتها التي تنخر في جسد الثقافات المحلية؟
“اليوم وبعد انقضاء قرنين على انتصار الاقتصاد على السياسة، فقد باتت المقولات الاجتماعية مبهمة، تترك في الظل قسماً كبيراً من تجربتنا المعيشة، وبتنا معها بحاجة إلى نموذج إرشادي جديد لأنه لم يعد في وسعنا العودة إلى النموذج الإرشادي السياسي، لاسيما وأن القضايا الثقافية بلغت من الأهمية حداً يفرض على الفكر الاجتماعي الانتظام حولها”[11]. وقد تزامن بروز الخطاب الثقافي مع ظهور السياسات الثقافية، وانحسار الأبنية الحداثية الخاصة بالهوية وتشظي العالم الحداثي إلى خصوصيات ثقافية، وبحث عن الجذور. وقد مثل ذلك تحولاً عميقاً أثار مجموعة من عمليات إعادة التحديد الثقافية reidentifications: الوطنية، والعرقية الإقليمية، والعرقية المهاجرة، وتحول الهوية القومية من قضية المواطنة إلى قضية الانتماء الثقافي، ويشير فريدمان إلى ذلك بمصطلح “التشظي الأفقي للنظام القومي”[12].
وتهيمن الثقافة في عالم ما بعد الحداثة على الحياة الاجتماعية، ويزعم منظرو ما بعد الحداثة، نتيجة لتقدم تكنولوجيا الاتصال، أنّ الثقافة، أصبحت الجانب الأكثر هيمنة على الحياة الاجتماعية، وكل جانب من جوانبها. إن زمن التركيز على الجوانب الاقتصادية البحتة قد ولّى، وإننا نعيش عصر الثقافة، ومن ثم، فإن خطاب الثقافة استبدل بخطاب الاقتصاد[13]. وتعدّ هيمنة إشكالية الثقافة ومفهومها، وتصدّرها طليعة الجدل النقدي منذ تسعينيات القرن الماضي، ظاهرة ثقافية في ذاتها[14]. والآن صارت الثقافة سلعة فكرية تتجاذبها ميادين متعددة وتتنازعها باعتبارها مبدأً موجِهاً منظماً، ومن هذه الميادين دراسات الثقافة، والسياسة متعددة الثقافات، والاقتصاد الكوني[15].
دأب المفكرون والباحثون، حتى وقت قريب، على وصف العالم الذي نعيش فيه بأنه عالم ما بعد حداثي، وتصف ما بعد الحداثة ظهور مجتمع تمثّل فيه الميديا والثّقافة الشعبيّة المؤسسات الأقوى التي تتحكّم في أنماط العلاقات الاجتماعية الأخرى وتشكّلها. إذ تسيطر العلامات الثقافية الشعبية وصور الميديا على إحساسنا بالواقع وإدراكنا له، وعلى الطريقة التي نحدد ونعرَّف بها أنفسنا والعالم من حولنا[16].
وتشترك نظريات ما بعد الحداثة، والرأسمالية المتأخرة، وما بعد الماركسية في مقاربة التوسع الكوني، والتراكم المرن، وكسر الحدود الإقليمية، والتفكك، وحلول المصاحبات الثقافية ما بعد الحداثية، وتُعرف ما بعد الحداثية Postmodernity بأنها ظروف وأوضاع المعيشة والحياة السائدة منذ سنوات نهاية القرن الماضي، وتتضمن دورة البشر (عن طريق وسائل النقل والمواصلات الهائلة)، ودورة المعلومات (عن طريق الحاسبات الإلكترونية والاتصالات)، ودورة الصور والأفكار وانتشارها (عن طريق وسائل الإعلام والانفتاح بل والإندياح الإعلامي Mediascapes؛ أي ذخيرة الصور والمعلومات، والتدفقات التي أنتجها التليفزيون الكوني والفضائيات). وهنا تركز ما بعد الحداثة على صور الاختلاف والتماثل المتولدة عن هذه العملية[17]، خاصة بعد تضاؤل أهمية الحدود السياسية وتآكلها، وما حققته التكنولوجيات الإلكترونية من حركة انسيابية سريعة للسلع والمعلومات والأموال والتمثيلات والمعاني الثقافية[18].
ويروج أنصار ما بعد الحداثية لأربع دعاوى محورية تتعلق بالعالم الكوني الجديد، أولاً: تُحدِث التكنولوجيا تغييراً جذرياً في الحياة عبر الكوكب، وفي هذا الصّدد يقول هانز جوناس Hans Jonas: “ثمة إدراك متنامي للمخاطر المتأصلة التي تمثلها التكنولوجيا يفتح باب النقاش أمام قضية قوانين ومعايير الأخلاق التقليدية”. ويقول جاك دريدا “لأسباب فلسفية وسياسية تبدو مشكلة الاتصال والاستقبال تلك، في معطياتها التكنو – اقتصادية الجديدة، أكثر خطورة مما نعتقد، وإذا أمكن للمرء أن يتعايش مع هذه المشكلة فإنه سوف يتعايش مع المرض، والتناقض، والتوفيق والتفاهم المشترك”[19]. ثانياً: يستمد الأفراد هوياتهم اليوم من السلع التي يستهلكونها. ثالثاً: أُعيد ترتيب المكان واُنتزع من سياقه الإقليمي[20]، إذ يتميز الوضع ما بعد الحداثي باللاإقليمية، وانضغاط الزمان والمكان، والنزعة الاستهلاكية، والفردية، وتلاشي الاختلافات بين الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي، وبناء الهجائن الثقافية[21]. ويتسم عالم ما بعد الحداثة بأنه عالم بينصي تتفاعل فيه الثقافات بكثافة وعمق[22].
أحد الطرق التي يُقال من خلالها أن العالم قد صار ما بعد حداثياً هي عولمته التي تتم بصورة ووتيرة غير مسبوقة[23]. بتعبير آخر، ترتبط العولمة بما بعد الحداثية، والأشكال الثقافية المتنوعة والمتحركة، والتي تشمل أيضا ما بعد الحداثة المستندة على إنتاج الرموز واستهلاكها، ويتسم ظرف العولمة وما بعد الحداثة بالتدفق المتواصل والدائم للأفكار، والمعلومات، والقيم، والأذواق، والعلامات الرمزية، وصور المحاكاة الإلكترونية[24]. وتمثل العولمة أحد المسببات الاجتماعية لتحول الثقافة إلى ما بعد حداثية، إذ تحقق العولمة تنوعاً متزايداً وتعقيداً للثقافات، وذلك عن طريق إقحام كثرة متنوعة من التقاليد وفرضها داخل مجتمع محلي معين، ففي عالم ما بعد الحداثة نُعتبر جميعاً سائحين أو مغتربين داخل مجتمعاتنا، إذ يخلق التنوع الكوني بيئة غريبة تبدو فيها كل الثقافات غريبة، ويهيمن اغتراب ثقافي ما بعد حداثي، كما يخلق “ما بعد التحديث” postmodernization إحساساً عميقاً بالطبيعة المصطنعة المركبة Constructed لكافة الترتيبات الاجتماعية والأشكال الثقافية[25].
ثمة مفهومات ثلاثة هي الأبرز في معرض وصف الثقافة في عالم ما بعد الحداثة، أو ما بعد – بعد الحداثة، المعاصر: “الكريولية”، و”الهجائن”، و”الحداثة السائلة”. لذلك، تتلخّص مشكلة هذه الدراسة في تساؤل محوري: ما هي صورة الثقافة التي ترتسمها الاتجاهات المفسرة لعالم ما بعد – بعد الحداثي المعاصر، والتي تستند على تلك المفهومات الثلاثة؟ وبناءً على ذلك، تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة هذه المفهومات ومشتملاتها؛ وعرض مقاربات تتناول مستقبل الثقافة في عالم يوصف بأنه كريولى تارة، وهجين وسائل تارة أخرى؛ وطرح تصورات لم آلات الثقافة في عالمنا المعاصر.
وقد توخى الباحث في مقاربته أسلوبين منهجيين، الأول، تحليل المضمون، ويمثل عملية فكرية تقوم على التصنيف الفئوي للبيانات النصية إلى مجموعات من الفئات التصورية، وذلك لتحديد أنماط وعلاقات متسقة بين الأفكار الرئيسة. وقد استند تحليل المضمون في هذه الدراسة على تصنيف فئوي ثلاثيّ: كتابات منظري الثقافة الكريولية ومقارباتها؛ كتابات منظري الثقافة الكونية والتهجين الكوني؛ وكتابات ومقاربات منحى الحداثة السائلة والخفيفة ونقادها. قد حقق هذا التصنيف اختزالا لكثرة هائلة من البيانات إلى أقسام أو فئات منظمة، مع التركيز على فهم الرسائل والمعاني الكامنة داخل النصوص. أما الأسلوب الثاني، فهو الأسلوب التحليلي النقدي الذي يحقق قراءة ما بين السطور، واستبطان الأمور واستنطاقها، والتحول من الواقع إلى الفكر.
تأسيسا على ما سبق، تروم هذه الدّراسة رصد المحاور الآتية ومناقشتها:
أولاً: الثقافة الكريولية، والحياة في المناطق الرمادية.
ثانياً: التهجين، والتنافذ الثقافي المفرط.
ثالثاً: الواقع السائل، وحياة السرب.
2- الثقافة الكريولية، والحياة في المناطق الرمادية:
إن ظروف عالم ما بعد الحداثة الراهنة الجديدة وأوضاعه تتطلب أدوات جديدة للتفكير، ومصطلحات جديدة للتعبير، لذلك صيغت في السنوات الأخيرة مصطلحات مثل الكريولية creolization، والعولمة الثقافية، لتحل محل مصطلحات كلاسيكية مثل الإمبريالية الثقافية، والأنومي أو فقدان المعايير والتغريب[26].
تُستعمل كلمتا “كريولي” Creole و”كريولية” Creolization في سياقات مختلفة عديدة، وبطريقة متنافرة وغير متساوقة، وكلمة كريولى Creole مشتقة من الكلمة اللاتينية creara (وتعني “أُنشئت أصلاً” created originally). وتمثل الكلمة الإسبانية criollo أكثر الاستعمالات التاريخية شيوعاً للكلمة، وتصف هذه الكلمة أبناء المستعمرين الإسبان الذين ولدوا في منطقة البحر الكاريبي. فقد اُستعمل هذا اللفظ عندما بدأ الإسبان في استعمار العالم الجديد: أمريكا الجنوبية، وقد حوَّل الفرنسيون الكلمة إلى créole. ومع ذلك، واجه التعريف الحصري من الناحية السلالية، والذي قصر المصطلح على البيض في المجتمعات الاستعمارية (ساكني المستعمرات)، تحدياً فعليًّا في مطلع القرن الثامن عشر، وأشار إلى المحليين والمهاجرين الآخرين الذين اكتسبوا العادات (الأخلاق)، والثقافات، والحساسيات الميتروبوليتانية (الخاصة بالمستعمرة)[27].
الكريولية، إذن، هي إنتاج وصناعة ثقافة الكريولي، ويذهب بعضهم إلى أنّ المصطلح “كريولي” يشير تاريخياً إلى الفرد الذي ولد في أمريكا الجنوبية لكنه من أصل إسباني، مثله مثل الأنجلوساكسوني الذي ولد في الولايات المتحدة. وبالتالي فإن الكريولية هي في الحقيقة أن يعيش الفرد في المنطقة الرمادية، أي ما بين ثقافيتين[28].
لقد تمثل الشكل الرئيس للاكتساب الثقافي (التثاقف) في تبني لغة الجماعة المستعمِرة – لاسيما الفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والهولندية، والبرتغالية. وقد أفضى استعمال لهجة اعتبارية أو لغة فرعية أوربية European acrolect، ولهجة أقل أهمية وأقل اعتبارية افريقية أو وطنية، إلى توليد العديد من اللغات الكريولية، وتختلف هذه اللغات عن الرطن أو اللغات المبسطة pidgins (لغات التواصل البسيطة) في أنّ لها معجماً مفصلاً، وأصبحت لغات أم. وتعرف اللغة الكريولية بأنها لغة منطوقة أو رطن تصبح بعد فترة اللسان الأصلي لشخصين على الأقل، وتطبق الصفة “كريولي” Creole على الموسيقى (خاصة الجاز)، والرقص، والطهي، والملابس أو الأزياء، والعمارة، والأدب، والفن؛ هناك أيضا السمك الكريولي، والزهور الكريولية، والخنازير الكريولية[29].
وحديثاً ارتأى الأنثروبولوجيون، وعلماء الاجتماع، ومنظرو الدراسات الثقافية أنه يمكن استعمال مصطلح الكريولية بمعنى أكثر ثراءً، ليشير إلى كافة أنواع التلاقح المعاصرة التي تحدث بين الثقافات المختلفة عندما تتفاعل، وفي حال الخضوع إلى قوى الكريولية وتأثيراتها، ينتقي الأفراد عناصر معينة من الثقافة الوافدة أو الموروثة، ويخلعون عليها معاني مختلفة عن تلك التي امتلكوها في الثقافة الأصلية، ثم يدمجونها بصورة إبداعية ليخلقوا بذلك تنويعات جديدة كلية تزيح الأشكال القديمة وتحل محلها[30].
ويمكن، ببساطة، تمييز الكريولية عن التأصيل indigenization، حيث تعيد التهديدات الكونية المعولمة إثبات أصالة الأشكال الثقافية المحلية؛ وعن إضفاء وفرض التجانس homogenization، حيث تسحق قوى ثقافية مسيطرة كلّ شيء في طريقها؛ وعن التعددية الثقافية multiculturalism، حيث تبقى الأقسام أو الشرائح الثقافية المكونة حية حتى في حال وجود حوار بينها. لكن الأمر الأكثر تعقيداً هو محاولة فصل التصور المعاصر للكريولية عن مصطلحات ذات صلة مثل تكوين الهجائن hybridity، والتوفيقية syncretism، والكوزموبوليتانية cosmopolitanism، وعبر القومية transnationalism، والتداخل الثقافي interculturality. ومع ذلك لا تؤكد الكريولية بصورة متميزة على الإبداع الثقافي، والمشاركة، والتجاوز أو السمو، والاختراع[31].
تتبدى التصورات المعاصرة للكريولية في أعمال الكاتب والمنظر الثقافي المارتينيكى[32] إيدوارد جليزانت Edouard Glissant، الذي يتساءل عما إذا كنا نؤثر “هوية لا تمثل تجسيداً لجذر فذ ووحيد، وطائفي، ولكن تجسيد لما نطلق عليه جذمور rhizome؛ جذر له كثرة من الامتدادات والملحقات في كل الاتجاهات، لا يقتل كل ما يحيط به، كما يفعل الجذر الفذ، ولكن يقيم اتصالاً وعلاقة بينهما جميعاً؟” ومن الأعمال بالغة الأهمية في هذا الإطار أعمال الأنثروبولوجي الثقافي الاجتماعي السويدي الف هانرز Ulf Hannerz. ويُقرّ في دراسته عن تطور العالم أو الفضاء الكوني global ecumene، بأن “العالم في حالة كريولية”. ويردف قائلاً أنّ “الكريولية تتيح بصورة متزايدة للهامشي أن يجيب أو يتحدث. كما أنها تخلق آصرة قوية بين ثقافات المركز والأطراف التي صارت بعض سلعها الثقافية الجديدة أكثر جاذبية بصورة متزايدة في سوق عالمي”[33].
أفضى تزايد الهجرة ووسائل الاتصالات الحديثة، في العقود الأخيرة، إلى تمزيق النسيج الثقافي في كثير من المجتمعات العالمية، وخلق عالم يتألف من شظايا ثقافية، “وتنوعت المعتقدات والآراء والأفكار وأصبحت أكثر من أي وقت مضى، زد على ذلك أنها لا تنتمي إلى المكان، ولم يعد من الممكن إنشاء حدود موضوعية بين الثقافات أو حول مكان معين، وتمثل الإنترنت وشبكات المعلومات اللامركزية واللامكانية مثالاً على لامحدودية الثقافات أو اختراق حدودها الإقليمية وتحولها إلى حدود نفيذة”[34].
ويُستعمل مصطلح الكريولية Creolization اليوم ليحل محل مصطلحات “كالمجتمع المحلي” community، فالفرد يمكن أن يكون ثنائي المحلية في هويته، كذلك صار الأفراد في حراك دائم وقوي. يحاجج جليزانت Glissant بأن التفاعلات الثقافية المكثفة، وتفكك الثقافات الوطنية، وتعددية اللغات، قدر محتوم لكل المجتمعات، إذ فاقمت تكنولوجيا الاتصالات الحديثة وضاعفت من الاحتكاك والتنوع، ومن المحقق أن الفوضى العارمة سوف تقود حتماً إلى الكريولية، التي تقتضي أن تقوم العناصر اللامتجانسة (في علاقتها) بتثبيت بعضها البعض. بتعبير آخر، لا يحدث هذا الاحتكاك والتمازج والاتصال اختزالاً. وتتضمّن الكريولية تناسي الأصول والجذور والتنوّع، ولكن، هل يفرز ذلك علاقات اجتماعية تتسم بالحراك والتنوع؟ وهل العلاقات الاجتماعية الآن متنوعة ومرنة ومتحركة بصورة متزايدة بصرف النظر عن عمليات الكريولية؟[35]
تشي الكريولية بأن التجانس الثقافي لا يوفر أساساً قوياً للحجج التي تسوقها فرضية الإمبريالية الثقافية. فالإمبريالية الثقافية يمكن أن تُفهم، بدلاً من ذلك، باعتبارها نتاجاً لراق من راقات الحداثة الرأسمالية الغربية التي تكسو، ولا تطمس بالضرورة، الأشكال الثقافية القائمة. إن الأفكار الحداثية وما بعد الحداثية عن الزمان والمكان، والعقلانية، والرأسمالية، والنزعة الاستهلاكية، والجنسانية sexuality، والأسرة، والنوع، الخ، تتموضع جنباً إلى جنب والخطابات القديمة، ويقيم ذلك تنافساً أيديولوجياً بينها، وناتج ذلك يمكن أن يكون مدى من أشكال هجينة للهوية وإنتاج الهويات التقليدية والأصولية والقومية، وتستمر القومية والدولة القومية في التعايش مع الكوزموبوليتانية، وضعف ووهن الهويات القومية. والخلاصة أن عمليات التدفق المعكوس reverse flow، والتشظي، والتهجين قوية تماماً مثلها مثل الاندفاع باتجاه التجانس[36].
واضح إذن، أن ظروف عالم ما بعد الحداثة وأوضاعه تشكل ثقافة كريولية سطحية تفتقر إلى العمق، وتجسد تجاور المتناقضات أو المتغايرات، ويعيش الفرد في منطقة رمادية، أي ما بين ثقافيتين، إحداهما كونية، والأخرى محلية. وهكذا يتعين الاهتمام بمقاربة العالم الكريولي باعتباره يمثل وسيلة ناجعة لوصف عالمنا المركب والمجتمعات المتنوعة التي تحتضننا جميعاً ونعيش فيها[37]. والكريولية لا تعبر فقط عن نتاج التقاء وتلاقح ما هو محلي، وما هو عالمي أو كوني، ذلك أنها ماثلة في داخل المجتمع الواحد، وتعد القاهرة نموذجاً إذ تحوي ثقافات متنوعة يحتاج نتاج تفاعلها إلى بحثٍ وتقصٍّ مستفيضين.
3- التهجين، والتنافذ الثقافي المفرط:
نشأ مصطلح الهجين hybridity في مجال الرعي، والزراعة، وزراعة البساتين. ويشير التهجين Hybridization إلى تطوير مجموعات جديدة من طرق تطعيم نبات أو فاكهة بأخرى. وتعد الوراثة تطبيقا آخر إضافيّا لفكرة التهجين. أما الآن فيشير الهجين إلى السيبورج cyborgs (الكائنات السيبرانية cybernetic organisms): اتحادات تجمع بين البشر أو الحيوانات، والتكنولوجيا الجديدة (على سبيل المثال، الحيوانات الأليفة التي تحمل رقائق لتحديد هويتها، والهندسة البيو-وراثية).
وقد ولج مصطلح هجين إلى العلم الاجتماعي عن طريق أنثروبولوجيا الدين وفكرة التوفيقية syncretism. ويعرف باستيد Bastide التوفيقية بأنها “توحد وتجمع قطع من التاريخ الأسطوري لتقليدين مختلفين في تقليد واحد يستمر في أن ينظمه نسق واحد”، وكانت اللغات الكريولية والكريولية في علم اللغة المجال التالي الذي لفت انتباه العلم الاجتماعي واجتذب اهتمامه. وتصف الكريولية التفاعل بين الثقافات والأشكال الثقافية المختلفة والمتمايزة[38].
يبيَّن الأنثروبولوجيون الذين يدرسون ارتحال العادات والمواد الغذائية أن قواعدنا أو أصولنا مختلطة بصورة عميقة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك. ويعدّ التمازج mixing أو التهجين جوهرياً في تطور الأنواع. إن التاريخ هو كولاج collage، والهجين كامن في راقات التاريخ، والتي تشمل الراقات قبل الاستعمارية، والاستعمارية، وما بعد الاستعمارية، ولكل منها مجموعات متميزة من الهجين، بوصفها تؤدي مهمة الحدود والتوق إلى الاختلاف. وقد فُرض على الراقات العميقة للتهجين والتمازج في الزمن التطوري حلقات تاريخية قوامها تجارة عبر ثقافية طويلة، غزو أو احتلال، وسلطة الإمبراطورية وحلقات مثل العبودية العابرة للأطلسي والتجارة الثلاثية. وداخل هذه الحلقات وعبرها يمكن تمييز تشكيلات هجينة إضافية.
إن التهجين عملية قديمة قدم التاريخ، لكن سرعته ووتيرته ومجاله يتفاقم ويتسع على إثر تغيرات بنائية كبرى، مثل التكنولوجيات الجديدة التي تخلق أشكالاً جديدة من الاتصال بين الثقافي. وتمثل العولمة المعاصرة المتسارعة هذه المرحلة الجديدة. وإذا كانت ممارسات التهجين والتمازج قديمة، فإن تحول الفكرة إلى موضوع للبحث بوصفه منظوراً يعد جديداً، يعود إلى الثمانينيات. وبمعنى أوسع يشمل التهجين والتمازج فكرة الخليط المتنوع bricolage (تكوين من مدى متنوع من الأشياء المتاحة) في الثقافة والفن. وقد جعلت الدادية من مزج الأشياء والمنظورات سمتها المميزة، واستلهمت الكولاج. وتحركت السريالية خطوات إضافية متجاوزة هذه الخطوط، وينسحب ذلك على الفن المفاهيمي والتركيبي. كما جمع التحليل النفسي ظواهر متنوعة ومختلفة معاً – الأحلام، النكات أو الدعابات، والزلات والرموز الفرويدية – تحت عناوين جديدة ترتبط بالتشخيص النفسي وتمثل أهمية له[39].
يثبت مفهوم التهجين فائدته وأهميته في إلقاء الضوء على الامتزاج الثقافي، وظهور أشكال جديدة للهوية، ومع ذلك نظل بحاجة إلى التمييز بين أنماطه، ويتعين تحقيق ذلك بالإشارة إلى الظروف المعينة لجماعات اجتماعية محدّدة، وهنا يطرح بيترس pieterse تمييزاً بين التهجين البنائي والثقافي، فيشير التهجين البنائي إلى مجموعة اجتماعية ومؤسسية من التهجين أو التكوينات الهجينة، على سبيل المثال، مناطق الحدود، أو مدن مثل ميامي أو سنغافورة، والتي تزيد فيها مدى الخيارات التنظيمية المتاحة للأفراد. أما التهجين الثقافي فيميز الاستجابات الثقافية، التي تتراوح من التمثيل assimilation مروراً بأشكال الانفصال، إلى هجائن تزعزع استقرار الحدود الثقافية وتطمسها. ويشمل ذلك انفتاح “المجتمعات المتخيلة” imagined communities. ويحاجج بيترس بأن التهجين البنائي والثقافي علامتان على التجاوز المتزايد للحدود. ومع ذلك لا يمثلان انمحاءً للحدود[40].
وهنا يتعين لفت الانتباه إلى أنّ كلّ فئة ثقافيّة هي شكل هجين بالفعل منقسم من حيث قسمات الدين، والطبقة، والنوع، والعمر، والجنسية، وهلم جرا. ويمثل التهجين، على هذا النحو، امتزاجاً لما هو هجين بالفعل. إنّ جميع الثقافات هي نطاقات للحدود المتحولة والتهجين أو تكوين الهجائن. ومع ذلك حقق مفهوم التهجين القدرة على إدراك إنتاج هويات وأشكال ثقافية جديدة[41].
ترك الاستعمار الأوربي بصمته الثقافية عبر الكرة الأرضية، وكان ذلك قاهراً وواضحاً في التفرقة العنصرية الجنوب أفريقية أكثر من أي مكان آخر. هناك اتحد الإله الأبيض والسيف الأوربي لفرض وتبرير السيطرة والإخضاع. وفي جنوب أفريقيا تتجلى الثقافة الأوربية في اللغة، والرياضة، والعمارة، والموسيقى والطعام، وفن الرسم، والسينما، والتليفزيون، والشعور العام لدى البيض بأن الثقافة الأوربية تمثل الثقافة العليا. ومع ذلك، فإنّ تأثير المؤثرات الثقافية الخارجية على جنوب أفريقيا أكثر تعقيداً من فكرة الامبريالية الثقافية البسيطة، إذ ثمة هجائن ثقافية تتشكل من “الخارجي” والداخلي”. والهجائن ماثلة في كل مكان في العالم، المثال على ذلك، موسيقى الراب أو شكلها الأمريكي الذي يدين لأفريقيا أو غرب أفريقيا على وجه التحديد[42].
يستند مفهوم الامبريالية الثقافية في جوهره على فكرة الفرض والقهر، ومع ذلك فإذا كان الأفارقة يستمعون إلى بعض أشكال الموسيقى الغربية، ويشاهدون بعض صور التليفزيون الغربي، ويبتاعون السلع الاستهلاكية المصنَّعة في الغرب، إذا كان الأمر على هذا النّحو فكيف يمكن الاتفاق على أن ذلك يمثل سيطرة أو هيمنة دون الالتجاء إلى الحجج التي تعوَّل على فكرة “الوعي الزائف”. إن التدفقات الثقافية الكونية الجذمورية (المترابطة) rhizomorphic والمنفصلة يمكن تشخيصها ووصفها بدرجة أقل على ضوء مصطلحات السيطرة والهيمنة، وبدرجة أكبر باعتبارها هجيناً ثقافياً.
إنّ العولمة لا تتشكل بتدفق أحادي في اتجاه واحد من الغرب إلى بقية العالم، والشاهد على ذلك تأثير الأفكار والممارسات غير الغربية على الغرب، على سبيل المثال، التأثير الكوني أو العالمي “للموسيقى العالمية”، وتصدير المسلسلات التليفزيونية من أمريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة وأوربا، وتكوين جماعات شتات عرقية عبر حركة السكان من الجنوب إلى الشمال؛ وتأثير الإسلام والهندوسية والبوذية والديانات العالمية الأخرى داخل الغرب، وسلعنة أو تسليع commodification وبيع الأطعمة والملابس العرقية.
هذا التصور لا يُقصي المنظورات الغربية “للتقدم” عن المركز فحسب، ولكن يفضي أيضا إلى تفكيك الفكرة المجردة للثقافات القومية المتجانسة، ذلك أنّ المرحلة الرّاهنة من مراحل العولمة المتسارعة ليست أحادية الاتجاه. ولكنها بالأحرى عملية تطوّر متفاوت تفضي إلى التشظى والتفكك من ناحية، والتنظيم والتنسيق من ناحية أخرى – إنها تقدم أشكالاً جديدة للاعتماد المتبادل العالمي، والتي لا وجود فيها “لآخرين” مرة أخرى. ويتضمن ذلك، على حد تعبير جيدنز، أشكالاً بازغة ناشئة للترابط العالمي والوعي الكوني. ومن منظور جيدنز، لا يحقق ذلك فقط أن يجيب الآخر، ولكن يحقق استجواباً واستنطاقاً متبادلاً[43].
تسود اليوم خبرات “القطع والمزج” Cut’n’mix في السلوك الاستهلاكي وأساليب الحياة والهويات، وتصير يومية، على سبيل المثال الطعام وقوائمه. ويشير تكوين الهجائن إلى مزيج من الظواهر التي اعتبرت مختلفة، ومستقلة. والتهجين هو الطرق التي من خلالها تغدو الأشكال منفصلة عن الممارسات القائمة، وتتحدد مع أشكال جديدة في ممارسات جديدة، تُلائم فكرة الهجين أو تكافئ عالم الاتصال بين الثقافي المكثف، والتعددية الثقافية اليومية، وتنامي الهجرة، وحيوات الشتات، وتآكل الحدود، على الأقل في بعض المجالات. لذلك صار تكوين الهجائن فكرة بارزة في الدراسات الثقافية، وتعد الأشكال الهجينة الجديدة مؤشرات على تغيرات عميقة تحدث نتيجة للحراك، والهجرة، والتعددية الثقافية[44].
وتكتسب فكرة الهجين أهميتها من كونها تمثل أحد ثلاث اتجاهات رئيسة في مقاربة العولمة والثقافة، الأول فكرة أنّ الثقافة الكونية أصبحت متحدة ومطردة بصورة متزايدة (مثلما الحال في الماكدونالدية McDonaldization)؛ والثاني فكرة أنّ العولمة تتضمن “صداماً للحضارات”، والثالث أن العولمة تنتج تركيبات وتمازجات جديدة. وتؤكد رؤية الهجين على أنّ الخبرات الثقافية في الماضي والحاضر، لا تتحرك ببساطة صوب التزامن الثقافي cultural synchronization. والتزامن الثقافي يحدث، على سبيل المثال، في علاقته بالتغير التكنولوجي، لكن تيارات مضادة تتضمن تأثيرا تمارسه الثقافات غير الغربية على الغرب، وتأثيرا تمارسه الثقافات غير الغربية على بعضها البعض.
أما رؤية التقارب الثقافي cultural convergence فتتجاهل التلقي المحلي للثقافة الغربية، وأهمية الثقافة العابرة crossover culture والثقافات الثالثة third cultures مثل الموسيقى العالمية، كما تبالغ في تقدير تجانس الثقافة الغربية، وتتغافل عن أن العديد من السمات الثقافية التي صدَّرها الغرب هي في ذاتها ذات طبيعة مختلطة من الناحية الثقافية، ذلك إذا تتبعنا أنسابها أو شجيرات نسبها. لقد أفضت قرون من التناضح والتنافذ الثقافي cultural osmosis بين الشرق والغرب إلى ثقافة عابرة، وتمثل الثقافة الأوربية والغربية جزءاً من ذلك المزيج الكوني me´lange. ولردح من الزمن كانت أوربا على الطرف المتلقي للتأثيرات الثقافية الوافدة من الشرق، وقد بدأت سيطرة الغرب وتفوقه من العام 1800[45].
يُنتقد منظور الهجين أو تكوين الهجائن باعتباره نخبوياً. ويؤكد النقاد على سذاجة الرؤية التي مؤدّاها أنّ كلّ الثقافات واللغات مختلطة أو هجينة، وهي الرؤية التي تنزع عن الثقافات نقاءها. ولمنظور الهجين أهمية باعتباره نقداً للنزعة الجوهرية. إن فكرة الحدود مسألة حياة أو موت، وإنّ تجاهل التهجين يمثل قضية سياسية[46].
4- الواقع السائل وحياة السِربْ:
خلال العقود القليلة الماضية وقع تحوّل عميق في طبيعة الحياة الحديثة، صوَّره ثلاثة من المفكرين الاجتماعيين البارزين المعاصرين، وهم زيجمونت باومان Zygmunt Bauman، وأولرش بيك Ulrich Beck وأنتوني جيدنز Anthony Giddens. وقد ارتأوا أنه خلال نصف قرن مضى حلت مرحلة جديدة مركبة وجامحة من مراحل الحداثية، وهي مرحلة تحريرية ومقلقة في آن معاً[47]. حيث صار التغير في اللحظة التاريخية الراهنة العادة الأكثر استقراراً في حياتنا الفردية والجماعية والعامل الذي يشكل، في رأي باومان، ثقافتنا اليومية والمعيشة، وبه نواجه الصدمات، وننجح – أو نفشل – في مواجهة الإخفاقات[48].
4-1- من الحداثية الصلبة إلى الحداثية السائلة:
برغم تبني بيك وجيدنز عدداً من المصطلحات لوصف هذا التحول الاجتماعي المعاصر، فإنني أفضل مسمى صاغه باومان الذي نمذج وصوّر هذا الانتقال باعتباره مروراً وانتقالاً بين مرحلتي الحداثية “الصلبة” و”السائلة”، واللتين ترتبطان على التوالي بالتشكيلات “الثقيلة والكثيفة” و”الخفيفة” للرأسمالية. وقد اتسمت الحداثية الصلبة Solid modernity، التي نشأت في نهاية القرن الثامن عشر واستمرت حتى الستينيات، بالثبات المقارن لأدوارها الاجتماعية وتطلعاتها إلى سيطرة كلية ومستديمة على كافة جوانب الوجود. ومن رموز هذه المرحلة عقليتها الصارمة والجامدة والكونية، والكتلة الهائلة والروتينيات غير المرنة للصناعة الثقيلة، والتي تخدم عقلانية أداتية مقتنعة بقدرتها على السيطرة على النظم الاجتماعية والطبيعية. ومن ناحية أخرى تعرّف وتحدد الحداثية السائلة، التي تلائم وصف أوضاعنا الراهنة، من خلال سيولتها الكبيرة والطبيعة المؤقتة والمشروطة لتطلعاتها، وتتسم ارتباطاتها المالية بأنها أخف بدرجة كبيرة، وبنظام اقتصادي ما بعد صناعي أخف[49].
ويحاجّ باومن بأنه في العالم المتقدم على الأقل، وقعت تحولات جوهرية متداخلة، أو هي جارية في الوقت الراهن، خلقت وضعاً جديداً، بل وغير مسبوق، لطرق الحياة الفردية، بما يثير سلسلة من التحديات غير المعهودة، ومن أبرز هذه التحولات وأكثرها خطورة، تمثّل التحول الأول، في انتقال الحداثة من مرحلة “الصلابة” إلى مرحلة “السيولة”، فالأشكال الاجتماعية، بمعنى الأبنية التي تحدد الاختيارات الفردية، والمؤسسات التي تضمن دوام العادات وأنماط السلوك المقبول، لم تعد قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمناً طويلاً؛ إنها تتحلل وتنصهر بسرعة فائقة، كما أن الأشكال الحاضرة يصعب أن تتحول إلى الحالة الصلبة أو أن تصير أطراً مرجعية لأفعال البشر بسبب عمرها القصير. أما التحول الثاني، فيتمثل في الانفصال بين السلطة والسياسة. ففي هذا الزمن، ينتقل جانب كبير من سلطة الدولة إلى الفضاء العولمي (خارج إطار الدولة). في حين تبقى السياسة محلية[50].
وأما التحوّل الثالث، فهو الانسحاب التدريجي الدائم للدور الاجتماعي للدولة أو تقليص الضمان الجماعي المدعوم من الدولة ضد عجز الأفراد أو ضد المصائب، ويقوَّض ذلك الأسس الاجتماعية للضمان الاجتماعي. وهكذا يبدو مصطلح المجتمع كلمة جوفاء، لقد استحقّت الروابط الاجتماعية فكرة التضحية بالمصالح الفردية المباشرة من أجلها، غير أنّها أضحت هشة ومؤقّتة إلى حد كبير، فالمعاناة الفردية من الأخطار الصادرة عن تقلبات أسواق العمل والسلع لا تبعث على الوحدة بقدر ما تبعث على الانقسام وتعززه، كما أنّها تعلي من قيمة المواقف التنافسية، وتحط من قيمة التعاون والعمل الجماعي، لذلك صار المجتمع أقرب إلى “الشبكة” منه إلى “البنية”، وإلى مصفوفة من اتصالات وانفصالات مشتتة، وتغيرات لانهائية في جوهرها[51].
“لم يعد بوسعنا أن نطيق أي شيء يدوم، لم نعد نعلم كيف يمكننا أن نفيد من الملل”[52]. بهذه الكلمات لبول فاليري يستهل باومان كتابه عن الحداثة السائلة، وهو استهلال ذو دلالة في سياق ما يريد أن يقوله باومان في هذا الكتاب، وهو أن العالم يتجه نحو مزيد من السرعة والميوعة والتبدل المستمر إلى حد غيَّر من طبيعة الإنسان المعاصر الذي لم يعد يحتمل أشكال الثبات والديمومة[53].
ويعد زيجمونت باومان أحد أبرز منظري ومفسري العصر الذي نعيش فيه، العصر الذي يتحول إلى كتلة عديمة الشكل، ومشوهة، تميل إلى التغير المتواصل المطرد والعنيف. ولا يمثل ذلك “العصر الحديث” أو “العصر ما بعد الحديث”، ولكن يعرّف هذه الفترة بأنها حداثة سائلة. ويركز مفهوم الحداثة السائلة على التحولات التي تؤثر في الحياة الإنسانية فيما يتعلق بالمحددات أو الثوابت الحياتية للسياسة العامة. وعلاوة على ذلك، تمثل الحداثة السائلة عند باومان مصطلحًا يمكن أن يقهر مفهوم ما بعد الحداثة ويتغلب عليه، لأنه مصطلح يميل باتجاه العالم المعاصر: الواقع الذي تقدَّر فيه الحياة أو تمنح قيمة للزائل العابر لا الدائم، والفوري العاجل لا طويل المدى، وتصير الأولوية للفائدة أو المنفعة utility على أي قيمة أخرى. بتعبير آخر، يُفسح الثابت والدائم الطريق للزائل العابر، وتُفسح الحاجة المجال للرغبة، وتفسح الضرورة الطريق للمنفعة أو الفائدة[54]. وتوسم فوضى العوالم الحياتية عالم اليوم.
واضح إذن، أن باومان قد تحول في أعماله الأخيرة من “ما بعد الحداثية” إلى “الحداثية السائلة”. ويؤشر مفهوم الحداثة السائلة الذي طرحه على أنّ ثمة نظاماً سريع التغير يُنذر بتقويض كافة أفكار وتصورات الاستمرارية والمتانة. ويفترض ذلك، شعوراً بعدم الانتماء لكافة أشكال البنية أو التركيب الاجتماعي. وتمثل ما بعد الحداثية، في رأي باومان، مصطلحًا شاملًا يطبق على مدى واسع من التحولات الاجتماعية، وقد طرح مصطلح الحداثة السائلة بوصفه المصطلح الأكثر ملائمة لفهم التغيرات، وكذا أشكال الاستمرارية، في الحداثية والحداثة[55].
4-2- إزاحة ما بعد الحداثة، واستبدال ما بعد الحداثية:
إذا كان مصطلح “الحداثة السائلة” مفضلًا على مصطلح “ما بعد الحداثية”، فماذا يعني استعماله لمعنى سياق الحداثة الراهن؟ بطريقة معينة، يمكن النظر إلى تفضيل باومان لمصطلح الحداثة السائلة بوصفه جزءًا من استجابة عامة للانحسار الراهن لتيار ما بعد الحداثة. ويرجع هذا الانحسار، على الأرجح، إلى إخفاق ما بعد الحداثة في التطرق إلى ما هو أبعد من نقد الفكر الأساسي والقاعدي، وعن طريق اختزال “الاجتماعي” إلى نسق مجرد من الاختلافات، والذات إلى وهم عن الفردية والحضور الذاتي، جرَّدت ما بعد الحداثة الفاعلين وانتزعت من المجتمع، ومن ثم عجزت عن تقديم تفسير ملائم لمعنى الفعل والتغير الاجتماعي.
وقد مثلت ما بعد الحداثة هجوماً حماسياً على أبنية القوة الخاصة بالحداثية، بيد أنها لم تضع، أو ربما عجزت عن وضع، مبادئ لبناء بديل نظرًا لأنها كانت معادية بعناد للأسس والقواعد anti-foundational. وبالسخرية من الحداثة، اتخذت ما بعد الحداثة إطارًا هزليًّا تعذّرت ترجمته إلى مقولات عن التغيرات الزمنية في المجتمع. ومع ذلك، تحول العالم وتغير بصورة درامية، وتعيَّن على المنظرين الاجتماعيين صوغ مصطلحات جديدة مثل الحداثة الجديدة neo-modernism لوصف تلك التحولات وتفسيرها. وعن طريق استعمال هذا المصطلح سعى ألكسندر Alexander إلى تقديم رؤية للمجتمع المعاصر تضمنت انتصار اليمين الليبرالي الجديد، والتحولات رفيعة المستوى التي خبرتها المجتمعات الصناعية الجديدة، وتنشيط السوق الرأسمالي. وقد قادته ملاحظة هذه التغيرات إلى استنتاج أن الظروف الاجتماعية الجديدة كانت دافعًا للعودة إلى العديد من الموضوعات والأفكار الحداثية[56].
ويمكن موضعة أعمال باومان الأخيرة داخل إطار هذه العودة أو التحول إلى الموضوعات والأفكار الحداثية، هذه الأفكار التي تتمركز حول إحياء السوق، والانتشار العالمي للديمقراطية، والدور الحيوي للفعل agency. واقع الحال أنّ باومان لم يتخلّ عن هذه الأفكار حتى عندما كتب عن ما بعد الحداثية في مطلع التسعينيات، وأكد، في استعراضه لنظرية ما بعد الحداثة، على استحالة تجاهل الفعل في التعامل مع أي نموذج للتغير الاجتماعي. وفى رأيه، أنّ ما اُعتبر ما بعد حداثيًّا، بصورة متميزة، فيما يتعلق بالعالم المعاصر يتمثل في معنى الاختيار للفاعلين الأفراد في ظل ظروف التعددية. ولكن بعد عقد من الزمان لم يعد اهتمامه بالاختيار يعنون ما بعد الحداثي، ولكن مستقبل مجهول يتسم بعالم العولمة السائل، وتحطيم القيود والقوانين والقواعد، والفردية[57].
إن مجاز “الحداثة السائلة” عند باومان موجه صوب نقد الأساس المائي aqueous للحداثية. وفي نفس الوقت لم تنقطع الصلة بما بعد الحداثية تمامًا لأن معنى المرونة، وعدم اليقين الكامن في ما بعد الحداثي مستمر ومتواصل مع فكرة السيولة. هذا الخطاب الجديد عن الأساس المائي يمكن تأويله باعتباره استياءً محتملاً من عجز ما بعد الحداثة عن مواجهة الظروف الناشئة لعدم المساواة في الغرب وحول العالم. إذ اهتمت أعمال باومان المبكرة عن عدم المساواة والتفاوت، كثيراً، بالمشكلة في المجتمعات الغربية، ولكن، وعلى ضوء التأثيرات المعولمة للحداثية، طوَّر باومان اهتمامه على الصعيد العالمي. وعُدّت فكرة السيولة ملائمة لتصور تدفق الحداثة ونتائجها حول العالم. ولكن، وحتى يتسنى فهم هذا التحول إلى السيولة، من الضروري فحص السياق النظري الذي قارب فيه باومان جوانب القصور الماثلة في الحداثية الصلبة solid modernity[58].
لقد أعاد باومان تعريف ما بعد الحداثية وتحديدها بوصفها حداثية في مرحلتها أو حالتها السائلة، وبأنها حقبة الابتعاد عن، أو التمرد على، التضمين disembedding دون إعادة التضمين reembedding. إنها حقبة عدم الثبات المتداول والمتجدد، حيث الروابط مهترئة، وحيث تسقط العلاقات الحميمة فريسة للطبيعة العابرة الزائلة لكل العلاقات الاجتماعية. لم يختف الاغتراب لكنه سلك سلوكًا جديدًا، إذ نشهد تحلل الروابط التي تُشابك الخيارات الفردية في المشاريع والأفعال الجمعية، إنه يعيد تقديم ظروف وأوضاع المخاطرة وعدم اليقين الذي يبرز ضعف الفرد بدلاً من توحيد الأفراد للدفاع عن حقوقهم[59].
4-3- تذويب ميراث الحداثية الصلبة والقوة المؤسسية:
البيَّن، إذن، أنّ السيولة مجاز يلائم، في رأي باومان، فهم الحاضر، أو المرحلة الجديدة في تاريخ الحداثية. ومع ذلك، لا ريب في أنّ الحداثة تمثل منذ البداية عملية تمييع أو تسييل، إذ يمثل تذويب الكيانات والموجودات الصلبة أبرز انجازاتها[60]. لقد ذاب ميراث الحداثة الصلبة، وتشكّل نظام جديد كانت فيه “المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، وباختصار شديد: اللايقين صار هو اليقين الوحيد”، ربما تختلف أنماط الحياة الحديثة في بضع نواحِ، ولكنها تتشابه تحديداً في طبيعتها الهشة العابرة، وقابليتها للتغير الدائم، وميلها إليه[61].
وهنا يتعين إلقاء مزيد من الضوء على مفهوم السيولة الذي نسج حوله باومان تأملاته الفلسفية والسوسيولوجية. تمثل “الصلابة” و”السيولة” سمتين تميزان عصر “الحداثة” و “ما بعد الحداثة” التي تحولت إلى حداثة سائلة عند ارتباطها بوجود معاصر تُفسح فيه “الحاجة” وتخلي مكانها “للرغبة” التي تفعم البشر في ظل تحولات وتغيرات مطردة ومتواصلة تؤثر في حيواتهم، وتحول الهوية من حقيقة إلى مهمة task: حيث يستغرق كل منا في بناء الذات، الذي يحل محل المشروع ذاته[62].
وتبدو الحداثية صلبة نظرًا إلى التركز السريع للقوة المؤسسية، كانت تلك على وجه التحديد إشكالية قاربها فيبر عندما ميَّز بين السلطة التقليدية، والبيروقراطية – القانونية، والكاريزمية. وبصفة جوهرية، يماثل تحول الحداثية إلى الصلابة solidification الانتقال من السلطة التقليدية إلى السلطة البيروقراطية – القانونية legal-bureaucratic. وقد تبدو الأبنية البيروقراطية أكثر صلابة مقارنة بالأبنية التقليدية، ولكنها عرضة للتأثيرات الملطفة أو الملينة للكاريزما. وبصورة مشابهة نلحظ في مقاربة جيدنز للحداثية عزو القوة المؤسسية للوشائج التي تربط بين الرأسمالية، والتصنيعية، والمراقبة surveillance، والجيش. إنّ الحداثية صلبة بمعنى أنّ القوة المتحدة والمتكتلة لهذه المؤسسات المتشابكة تقهر أي جهد فردى للاحتفاظ بالتقليد في مكان، وتجعل من المستحيل مقاومة التوسع الغربي. وعلاوة على ذلك، تُصور العملية الانعكاسية المتأصلة في الحداثية باعتبار أن لها تأثيرات مليَّنة وملطَّفة على الأبنية المؤسسية. وهكذا فإن المعرفة الجديدة التي أفرزتها الحداثية يمكن تطبيقها على نحو انعكاسي لتقويض صلابتها الظاهرة[63].
ويمكن الدفع، على أساس المقارنة بين فيبر وجيدنز، بأن الحداثية تشكلت لتكون صلبة بقدر ما اتحدت وتبلورت القوة المؤسسية عن طريق عملية التغيرات العنيدة ظاهريًّا في الأبنية الاجتماعية. ومع ذلك فهذه القوة لا تعتبر مطلقة لأن الكاريزما والانعكاسية تشكلان المذيبات التي من شأنها أن تذيب الترتيبات المؤسسية القائمة. إن فكرة التمييع liquefaction مطمورة ومدمجة في نموذج الحداثية الموجه بالقوة power-driven، والذي لا يمكن أن يتجاهل الطبيعة السائلة والمائعة للممارسة الاجتماعية سواء كانت مشتقة من الكاريزما أو الانعكاسية. إن مسألة الممارسة الاجتماعية تختفي وراء بعض المحاولات ما بعد البنائية لتذويب الصلابة الكامنة في تكوين المؤسسات الحديثة[64].
وكان ميشيل فوكو Foucault من أوائل من بذلوا هذا الجهد، فقد رأى أنّ القوة شيء يُمارس ولا يمتلك، وهي لا ترتبط بفاعلين ومصالح، ولكنها مندمجة في كثرة هائلة من الممارسات. وتتعلق هذه الممارسات بممارسة القوة واستعمالها على مستوى مايكرو تتواشج فيه الشبكات والاستراتيجيات لتنتج صورة مركبة بصورة كبيرة للكيفية التي من خلالها تعمل المؤسسات الحديثة. ومن ثم فإنه ليس التكوين الصلب للمؤسسات هو الذي يبدو واقعيًّا أو حقيقيًّا ولكن الممارسات التي تتم داخل هذه المؤسسات هي التي تُليَّن وتُلطَّف بنية الواقع. إنّ لاتجانس علاقات القوة هو الذي يتحدى طابع الصلابة في هذه المؤسسات.
يؤشر ذلك على أنّ الحداثة الصلبة أسطورة، إلى حد كبير. ولا يمكن التسليم بصلابتها، ولكنها تتسم بالمقاومة، والتناقضات، وغير ذلك من التأثيرات الملطفة softening effects. وعلى شاكلة فيبر وجيدنز وفوكو، يدرك باومان التناقضات الحديثة بوصفها مصدر الممارسات الاجتماعية التي غيَّرت مظهر الصلابة المؤسسية أو النظمية[65].
4-4- تجسيدات السيولة، والأخلاق:
يستعمل باومان كلمة “سائل” بالاستعارة من طبيعة المواد الفيزيائية، فالمواد السائلة تتميز عن المواد الصلبة بعدم قدرتها على الاحتفاظ بقوى التماسك بين مكوناتها في حالة السكون، كما أنها لا يمكن أن تحتفظ بشكلها بسهولة. ومن هذه الاستعارة، يصف باومان مسار الحداثة باعتباره عملية إذابة لكل ما هو صلب، وهو ما تجلى في دعوات التحرر من الماضي المستبد، والتنصل من الدين والمقدس، وتحطيم وتجاوز العادات والتقاليد والولاءات التي تثقل كاهل الفرد. لكن المواد الصلبة التي أحلَّتها الحداثة قد تعرضت بدورها إلى موجة من السيولة غيَّرت من معالمها الأصلية على نحو أفقدها قيم الثبات والثقل التي كانت تتسم بها[66].
تناول باومان في كتابه Globalization: The Human Consequences ما يعرف برأس المال السائل، والذي يعني الحركة الحرة لرأس المال والنقود، حيث يتدفق رأس المال السائل في كافة الاتجاهات وصارت مسألة العمل أكثر أهمية في علاقتها بالبحث عن الإنتاج والفوائد، وقد اتخذ العمل مظهرًا أكثر مرونة في علاقته بقوى السوق التي لا يمكن التّنبّؤ بها. وفي عالم رأس المال والعمل متحول الأشكال، يفضل تعريف الحداثية بأنها غير متبلورة وبلا شكل amorphous – حداثية سائلة. ويمكن تأويل الحداثة السائلة بأنها جهد تراكمي يبذله باومان لتوثيق وفهم اغتراب التقدم، أو على تعبير أبراهامسون Abrahamson “إن الطريق الذي تنحدر إليه الحداثة السائلة الآن يفضي إلى معاناة وظلم إنساني لا يُحتمل”. وفى رأي باومان إنّ عملية التمييع التي بدأت بحداثة صلبة كُرَّست للقضاء الوحشي على أي عنصر يتهدد، على نحو مزعوم، حديقة التقدم المشذبة، صار الاغتراب يعين الطبيعة المحضة للوجود الحديث ويحدّدها، وهو في البداية يعطى الانطباع بالتغلب والسيطرة، ولكن في النهاية يتجلى كتناقض غير مفارق[67].
تحتل مسألة عدم الثبات مركز خطاب باومان عن الأخلاق، إذ يتساءل كيف لنا أن نفهم معنى أي شيء إذا كانت العرضية وسرعة الزوال هي ذاتها الثابتة”. ويمثل التغير الاجتماعي جزءًا جوهريًّا من أي مجتمع، وهو أيضا ينتج نزوعًا إلى قبول قيم جديدة يتضمنها تصورنا للعالم. وحلَّت الوقتية، في رأي باومان، محل الاستمرارية في قمة جدول القيم، وما يُمنح قيمة اليوم هو القدرة على الحركة بسرعة خاطفة. وتُقاس القوة على أساس السرعة التي يمكن بها الهروب من المسؤوليّات، من يسرع يفوز، ومن يبطئ أو يبقى في مكانة يخسر.
ونتيجة لذلك بات للوقتية قيمة مندمجة حيال الهوس بالجدة. والبيئة الوقتية هي التي تُفرز بصورة مستمرة أشياءً جديدة نعجب بها، ونمتلكها، ونستهلكها للحظات. وتنتج هذه البيئة تعلّقًا بالدوران والتغير السريع لأي شيء، وقد نتجت من هذا الارتباط أخلاق أو مبدأ النزعة الاستهلاكية المفككة وغير المنهجية، أو كما يقرر باومان “لا يجب من الناحية المثالية اعتناق أو اغتنام شيء بصورة صارمة من جانب مستهلك معين، لا يجب لشيء أن يخلق التزامًا به حتى يفرقنا الموت، لا ينبغي لحاجات أن تُشبع بصورة تامة، وليس ثمة حاجات تعتبر مطلقة. وأن الشعور بالحرية الذي نخبره في الحالة الدائمة للوقتية يمكن أن يُترجم باعتباره “كثرة هائلة من خيارات المستهلك”[68].
من الصعب تصور ثقافة لا تبالي بالخلود، وتجتنب البقاء. وبصورة مشابهة يصعب تصور أخلاق لا تبالي بنتائج الأفعال الإنسانية، وتنبذ المسؤوليّة عن تأثيرات هذه الأفعال على الآخرين. لقد قاد حلول الفورية instantaneity الثقافة والأخلاق الإنسانية إلى إقليم مجهول حيث تفقد معظم العادات المكتسبة الخاصة بالتكيف والتوافق مع عمل الحياة فائدتها ومعناها. ويصف جاى ديبورد Guy Debord ذلك بقوله: “يشبه الأفراد أزمنتهم أكثر من كونهم يشبهون آبائهم”، ويختلف الرجال والنساء المعاصرون عن آبائهم وأمهاتهم، إذ يعيشون حاضرًا يتوق إلى نسيان الماضي، ولا يبدو أنه يؤمن بالمستقبل”، لكن ذاكرة الماضي، والثقة في المستقبل، تبقى بعيدة عن ركيزتين ترتكز عليهما الجسور الثقافية والأخلاقية بين الوقتية والاستمرارية؛ الأخلاق الإنسانية، ولا أخلاقية الانجازات الإنسانية؛ وكذا تحمل المسؤوليّة، والحياة وفقًا للحظة[69].
تمثل الحداثة السائلة، إذن، تصور باومان للكيفية التي من خلالها ينكر العالم اليوم ما يطلق عليه صلابة ناضلت بدأب لتُخلق وتبقى. وقد قارب باومان قوة الإسالة الكامنة في الحداثة، والتي تُستدعى لتستبدل مجموعة موروثة من الكيانات الصلبة المعيبة والمنقوصة، ومن شأن ذلك أن يجعل العالم قابلاً للتنبؤ به[70]. إنّ ما يحدث في الحاضر، هو إعادة توزيع وتقسيم “لقوى الحداثة المذيبة” melting powers. وتتحول قوى التسييل من الأنساق إلى المجتمع، من السياسة إلى السياسات الحياتية – أو انحدرت من مستوى الماكرو إلى مستوى الميكرو الخاص بالتعايش الاجتماعي social cohabitation [71].
تعني الحداثة أشياءً مختلفةً، لكن ثمة اختلاف وسمة بارزة تميَّز الحداثة تتمثل في العلاقة المتغيرة بين المكان والزمان. لقد بدأت الحداثة حينما انفصل المكان والزمان عن الممارسة المعيشة، وعن بعضهما البعض، ومن ثم التنظير لهما بوصفهما فئتين متمايزتين ومستقلتين للإستراتيجية والفعل، وذلك بعد أن اُعتبرا، لقرون ما قبل حديثة طويلة، مظهرين متشابكين متواشجين لخبرة حياتية معيشة. وفي الحداثة يمتلك الزمان تاريخًا، ويكتسب الزمن تاريخًا حالما وتصبح سرعة الحركة عبر المكان مسألة براعة إنسانية، أو خيال ودهاء إنساني. وما إن صار تجاوز المسافة بوحدة من الزمن يعتمد على التكنولوجيا، ووسائل النقل الصناعية، حتّى تمّ تجاوز الحدود الموروثة لسرعة الحركة الآن. وصارت السماء الآن هي الحد، وتمثل الحداثة الجسد المستمر والمندفع والمتسارع للوصول إليها[72].
4-5- السيولة، تفسُّخ الاجتماعي، وطغيان الفردية:
إن ما يدفع العديد من المعلَّقين والنقاد إلى الحديث عن نهاية التاريخ، وما بعد الحداثية، والحداثة الثانية، والحداثة المفرطة أو الفائقة surmodernity، أو غير ذلك، هو محاولتهم تبيان ورصد التغير في ترتيب التعايش الإنساني، وفى الأوضاع الاجتماعية التي تتم في ظلها السياسات الحياتية اليوم. لقد بلغت جهود تسريع سرعة الحركة ذروتها أو حدها الطبيعي. ويمكن للقوة أن تنتقل وتتحرك مع سرعة الإشارة الإلكترونية. لكل هذه الأسباب العملية صارت القوة متجاوزة للإقليمية، ولم تعد مقيدة أو يمكن إبطائها من خلال مقاومة المكان[73].
انتقلت الحداثة، إذن، من الحالة الصلبة، من هياكل وأبنية وتصورات ومفاهيم مستقرة، إلى حالة السيولة في ظل العولمة وثورة الاتصالات وتنامي تدفقات البشر، والأموال، والسلع عبر القارات. والمحقق أن السيولة لا تمثل، في رأي بومان، ظرفًا للتأمل والتفكر، ولكنها معضلة وجودية تحتاج إلى مقاربتها علميًّا، وهو عندما يؤكد على أنه من الصعب تصور ثقافة لا تبالي بالخلود وتهجر البقاء، فإنه يؤكد القدرة على الحفاظ على الأمن، وعلى أنّ الأخلاق لا ينبغي أن تُفقد وتُنسى في مواجهة السيولة سريعة الاندفاع. من الضروري، إذن، استعادة نمط الروابط الاجتماعية اللازمة لتحقيق الأمن والأخلاق، أو إعادة اختراعه. إنّ السيولة تقلل شعورنا بالبقاء أو الاستمرارية لتطرح مستويات جديدة للحرية، وتفكك في الوقت ذاته الروابط والأواصر التي تشيّء شعورنا بالأمن[74].
يتحدث أولرش بيك (الذي سك، منذ سنوات، مصطلح الحداثة الثانية second modernity، ليصف مرحلة تنقلب فيها الحداثة على ذاتها) عن “الفئات الزومبية “، أو الحية الميتة في آن، والنظم الزومبية. وقد اعتبر الأسرة، والطبقة، والجيرة شواهد على هذه الظاهرة الجديدة. ففيما يتعلق بالأسرة على سبيل المثال: “اسأل نفسك ما هي الأسرة اليوم؟ ماذا تعني؟ بالطبع هناك أطفال أو أبناء، أطفالي، أطفالنا. ولكن حتى الأبوة أو الوالدية، نواة الحياة الأسرة، بدأت في التفسخ والتحلل في ظل ظروف الطلاق. ويتم تضمين الجدات والأجداد دون وسائل للمشاركة في قرارات أبنائهم وبناتهم. ومن وجهة نظر الأحفاد، يتعيَّن تحديد معنى الأجداد من خلال قرارات وخيارات فردية”[75].
يُلمح ذلك إلى أن تفسخ الشبكات الاجتماعية، وسيادة النزعة الفردية، من مصاحبات السيولة التي روَّج لها باومان، أو على حد تعبير آلان تورين: “لقد انهار العالم الذي سميناه اجتماعيًّا، وذلك حكم لا يفاجئنا، طالما أن ملايين الناس يعربون عن أسفهم لانقطاع الروابط الاجتماعية، وانتصار النزعة الفردية المفككة”[76].
إنّ “تفكك الروابط، وانفصال السلطة الحاكمة عن السيطرة الفعلية على مقاليد السياسة التي تحددها توازنات خارج حدود الدولة، ومحنة المعاناة الفردية بعد تشرذم الروابط الاجتماعية، والمسارات الأفقية للحياة الاجتماعية والمهنية من مرحلة إلى مرحلة من دون إحداث تراكم رأسي نتيجة هذا الوضع سريع التغير”[77] – تلك هي الملامح الأربعة التي يرى باومان أنها تحكم هذا الزمن السائل، وتلك اللحظة التاريخية. النتيجة لذلك ببساطة هي ارتفاع رصيد المخاوف نتيجة غياب التوقع وتآكل العرف والعادة ومنظومة الأخلاق الاجتماعية، فالفرد لا يمكنه التعويل على دعم الأسرة الممتدة نظرًا إلى تفكك الروابط، وتباعد المسافات، والتمحور حول الأسرة النووية الصغيرة، وذوبان معنى الالتزام تجاه المجموع، وكذلك لا يمكنه الاعتماد على الأصدقاء، الذين يتغيرون باستمرار ويتحركون من مكان إلى آخر، فلا يملكون حتى المشاركة في الأزمات، حتى وإن حسنت النوايا، وتفقد الجماعة الاجتماعية لحمتها، وسرعان ما تلتقط النظم السياسية والاقتصادية الخوف الناتج من هذا النمط من “التجمع المكون من أفراد يعانون من الوحدة”، وتحوله إلى رأسمال لبقائها، وتوظفه لمصالحها[78].
ويُلاحظ تفسخ الشبكات الاجتماعية، وتهاوي مؤسسات الفعل الجمعي الفعالة، بقدر كبير من القلق غالبًا، وقد اُعتبرا من الآثار الجانبية للسيولة الجديدة التي تميز القوة المتحركة والزلقة والمتحولة والمراوغة والهائمة بصورة متزايدة. وتمثل الروابط والشبكات الاجتماعية عقبة في طريق السيولة التي تفرضها وتؤثرها القوى الكونية. وتُقارب الروابط والأواصر والمشاركات كأشياء تُستهلك، لا تُنتج؛ إنها خاضعة لنفس معايير التقييم، تماما كموضوعات الاستهلاك الأخرى[79].
ويحاجّ باومان بأن العلاقات “وصف عميق يعكس خيارات اجتماعية مركبة ومعقدة ولها ثمن في مجتمع متلاحم، في حين أن إنسان الحداثة السائلة يقرر أنه لا يرغب في دفع أثمان، ولا استثمار وقت، ولا التضحية من أجل أن يحصل على مزايا التواصل الاجتماعي أو الاتصال الجنسي. ببساطة تحول هذا الإنسان من وضوح العلاقات الاجتماعية إلى غموض الصلات العابرة في ظل تنامي السيولة في كل شيء من حوله، وفى ظل تحول ما كان يسمى المجتمع إلى مجرد تجمع بشري”[80]. حتى شبكات القرابة صار يعتريها الضعف والوهن، كما أن حدودها ضبابية وخلافية.
إن الاستعمال المتزايد لمجاز “الشبكة” بدلاً من عبارات كانت أكثر شيوعًا في الحديث عن التفاعلات الاجتماعية في الماضي (عبارات مثل نظم، أبنية، مجتمعات، جماعات) يعكس الإدراك المتزايد بأن الكليات الاجتماعية ضبابية عند الأطراف، تظل في حالة من التدفق، إنها تتشكل باستمرار ولا تستمر لفترة طويلة. إنها، بتعبير آخر، توحي بأن الكليات التي تكافح اليوم لكي يعترف بها هي أكثر سيولة مما كانت عليه. وتفقد الروابط الإنسانية في كل مكان، سواء أكانت موروثة أم مرتبطة بمسار التفاعلات الحالية، حمايتها المؤسسية السابقة، الضمانات التي ينظر إليها بوصفها قيودًا مزعجة وغير محتملة على حرية الفرد في الاختيار وتأكيد الذات. وبتحررها من الإطار النظمي أصبحت الروابط الإنسانية ضئيلة وهشة[81]. نخلص مما سبق إلى أن الحداثة السائلة، وعالم تهيمن عليه سيرورة النزعة الفردية، تتسم بهشاشة تعانيها الروابط الإنسانية، وإحساس بعدم الأمان تبثه هذه الهشاشة[82].
وهنا تأتي فكرة مركزية في تصور باومان عن الحداثة السائلة، فهو يعتبر أنّ عملية تشكيل أعضاء المجتمع في صورة أفراد هو سمة المجتمع الحديث، وهو مسار يتم تأكيده وتجديده كل يوم، فمسار “التفريد” يتخذ أشكالاً جديدة على الدوام، وهذا المسار يجعل من الهوية البشرية مهمة مستمرة تضطلع بها مسؤوليّة الفرد وتحمل تبعاتها، “فالحداثة تستبدل قيم التبعية المحددة للمكانة الاجتماعية بحرية الإرادة وتقرير المصير الواجب الذي يُلزم صاحبه”. يحمل ذلك في طيّاته تأكيدًا على تحرير الأفراد، وانصرافهم إلى أمورهم وشؤونهم الخاصة، بصورة أثيرة على المصلحة العامة. وفي تعبير دقيق لآلان تورين حول ما آلت إليه المجتمعات المعاصرة، يقول إنّ هذه الحالة تنذر “بنهاية تعريف الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً، يستمد تعريفه من مكانه في المجتمع الذي يحدد سلوكه أو فعله”[83].
إنّ الفكرة الأساسية في “الحداثية السائلة” تتمثل في أنّ المجتمع يمر بعملية تحول نحو النزعة الفردية، والتي نعني بها أنّ الفعل قد أصبح منبت الصلة أو منفصل بل ومتحرر من النسق الاجتماعي، كذلك صارت الخيارات والحيوات الفردية منعزلة عن المشاريع والأفعال الجمعية[84]. ويقرر بيك أن النزعة الفردية هي البناء الاجتماعي للحداثية الثانية Second Modernity وتنتج مصاحبات ونتائج لا خطية، مفتوحة النهاية وتتميز بالازدواجية والتناقض[85]. كما يشير إلى نمو النزعة الفردية، وإضفاء الطابع الفردي على العلاقات الاجتماعية. ويتجلى عدم استقرار العلاقات في عصر أطلق عليه كيرشوفير Kirchhöfer “حقبة التشكيل الاجتماعي ذو الصبغة الفردية للفرد”. إذ شهدت أبنية الأسرة تغيرات عميقة خاصة مع حدوث تغييرات درامية استثنائية في دور النساء وكبار السن. وأحدثت تكنولوجيا المعلومات، بخاصة، والتقدم العلمي، بعامة، نموًا هائلاً في قدرة البشر على التحكم في مصيرها وتوليد وعي شامل بالمخاطرة وعدم اليقين. كما أفرز تغلغل المعرفة في كل ميادين الحياة انفتاحاً ا جديدًا ا في قدرة الأفراد وإمكاناتهم، فقد صاروا يمتلكون إمكانيات وقدرات تمكنهم من التأمل الذاتي (تأويل الذات) وإعادة التركيب والتشكيل الثابت لهوياتهم. وقد افترض أنتوني جيدنز أنّ “المشروع الانعكاسي للذات قدر لا مفر منه، ويتضمن ذلك إعادة صياغة مستمرة للحياة الاجتماعية”، لقد فقدت الروابط والعلاقات أهميتها في عالم أكثر انفتاحًا ا ومرونة وفقدت الشبكات غير الرسمية أهميها في المجتمعات المعاصرة. على سبيل المثال يقلل الإنترنت من الاعتماد على التفاعل المباشر ويخلق مكانًا ا وفضاءً افتراضيًاً[86].
إذن، تتنامى في عوالم ما بعد الحداثة، وما بعد – ما بعد الحداثة، والحداثة السائلة النزعة الفردية وإضفاء الطابع الفردي على العلاقات الاجتماعية[87]. وكان من نتائج ذلك أن اتجه الأفراد إلى تشكيل هوياتهم في عزلة متزايدة، وعند هذه النقطة تصبح الهوية “خاصة”، وتتحول إلى نوع من التحديد الإجباري للذات، وينفصل تشكيلها عن كل مسؤوليّة جمعية. ليتحول تشكيل الهوية إلى عبء فردي بحيث تقع مسؤوليّة الخطأ أو الإخفاق على الفرد، بيد أننا لسنا بحاجة إلى رؤية تشكيل الهوية باعتباره عبئًا، ولكن باعتباره جانبًا إيجابيًا للتعبير عن سياسيات ثقافية جديدة. إن أدبيات ما بعد الحداثة وما بعد – ما بعد الحداثة تتناول قضية حرية اختيار الهوية، وهي مثل كافة الحريات لها جوانب إيجابية وسلبية. وتحتفي هذه الأدبيات بالجانب الإيجابي المتمثل في حرية اختيار الهوية وبناء الاختلاف، وهي حرية تتمتع بها النخبة الكونية التي تحظى بحرية تشكيل الذات. وتطرح ما بعد الحداثة أسلوباً فنتازيًّا جديدًا يكون فيه المكان الانعكاسي Reflective محوريًّا بالنسبة للهوية والسياسية، ويخلق فضاءات جديدة لاحتواء التعددية، والغموض، والازدواجية، والتناقض، والاحتمالية، وعدم اليقين[88].
4-6- السيولة، الاستهلاك، والهوية:
تتغير العلاقة بين الفرد والمجتمع في عصرنا الراهن نظرًا إلى أن مفهومات الهوية، والفرد، والفردية صارت فارغة بلا معنى. ويطالب العالم الفرد ببحث متواصل ومثير للجدل بصورة متزايدة عن هوية، وتتبع معايير للمعايرة والتوحيد standardizing بقصد تعيين “دور” للأفراد، وذلك نظراً لأن الهوية مهمة[89].
ولا يعني وجود الأفراد في المجتمع السائل ببساطة أن يكونوا مستهلكين جيدين فحسب، ولكن أن يكونوا، أيضا سلعًا تنافسية في السلوك العالمي. ولا يتطلب هذا الظرف شراء “عناصر الموضة” فحسب، ولكن أيضا شراء جسد يواكب الموضة، ويساعد على الانتقال الكامل من التلاعب الذاتي بأبداننا، إلى الاختيار المباشر الحقيقي والمستقل للجسد الذي نريده لأبنائنا. وبناءً على ذلك، تؤكد رؤية باومان المستقبلية أنه، وحتّى نكون أشخاصا ملائمين للعصر، فإنّ هذا الأمر لا يتحقق عن طريق الجراحات التجميلية، ولا عن طريق إعادة النمذجة أو إعادة التنظيم على أساس الأماكن topoi التي خلقتها بصورة مستمرة سياسات السوق الكونية، إنّ الأمر المهم ليس فقط أن نشترى ما يجعلنا “ملائمين” للمعاصر، ولكن قبل أي شيء علينا أن نغير ذواتنا، والجزء الأقرب لإمكانية إخضاعه للمعالجة والتدخل، وهو الجسد[90].
لقد صار الجسد فضاءً حرًّا نشكل عليه الذات المنظورة، ومن ثم فإن عجزنا عن كسوة أبداننا كما ينبغي يعني أننا نفتقر إلى شيء ما. تنبع الإدارة المستقلة لأبداننا، والمسؤوليّة الشخصية، من مفهوم الامتلاك، وأن تمتلك يعني أن تملك وتسيطر على، وذلك لأنّ شكلاً من أشكال السيطرة يمكن أن يولد الأمن في عالم يفتقر إلى مرجعياته الصلبة. ولهذا السبب فإن ظروف الامتلاك تقع على جسد الإنسان المعاصر الذي يجد فيه شكلاً من أشكال اليقين: أن نعالج ونسيطر على الوسائل المادية أو البدنية (التي تؤثر على ما أنت متأكد ومتيقن من امتلاكه). إن التجسيد والتملك جزء من الامتلاك، الذي يُنجز في عصرنا الراهن عن طريق النزعة الاستهلاكية، ذلك أن فعل الاستهلاك يمثل شكلاً من أشكال الامتلاك هو على الأرجح الأكثر أهمية لمجتمع الوفرة الصناعي المعاصر.
وثمة مظهران متناقضان للاستهلاك: إن الاستهلاك يهدأ القلق، لأن ما امتلكه الفرد لا يمكن انتزاعه أو استرداده، لكنه يتطلب أن يعمد المستهلكون إلى الاستهلاك بصورة متزايدة، لأن الاستهلاك السابق يفقد على الفور خصوصيته التي حققت مكافأة. هذه الدوامة المفرغة، التي تمتد بين التملك والاستهلاك، تمثل أكثر النتائج والتأثيرات وضوحًا لما يطلق عليه باومان الحداثة السائلة، والتي – على خلاف ما بعد الحداثة – تربطها علاقة مستمرة بعملية التحديث، والتي لها جذورها في الأزمنة الحديثة – ولكنها تمتد وتشتد وتتكثف حتى تصل إلى السيولة المميزة لعصرنا، الذي يتميز بنزعة استهلاكية وفيرة وشرهة[91].
والحقيقة أننا نعيش اليوم في عالم معولم من المستهلكين، ومن المحتم أن يؤثر السلوك الاستهلاكي في كل وجوه حياتنا الأخرى على غرار العمل والحياة الأسرية. كلنا اليوم واقعٌ تحت ضغط أن نستهلك أكثر، وعلى الطريق نصير أنفسنا سلعًا في أسواق الاستهلاك والعمل، ويتغلغل الشكل السلعي ويعيد تشكيل أبعاد الحياة الاجتماعية المستثناة حتى ذلك الحين من منطقه إلى حد تصبح معه الذاتية نفسها سلعة تُشترى وتُباع في السوق بوصفها جمالاً ونظافة واستقلالًا ذاتيَّا. ويحتاج الاستهلاك إلى مزيد من المال الذي يؤدي إلى تمدية حتى الحب يحتاج إلى سلع تُستهلك، ومال يُنفق حتى يُكتسب ويستمر. هذا العالم الاستهلاكي عالم سائل متغير بالساعة أو ربما بالدقيقة. ونحن مطالبون دائما أن نجاري ونستمر. فإن توقفت تركك الزمن، وسارت القافلة وأنت واقف. اللهاث، إذن، من مظاهر العصر الحديث[92]. ويتحول السعي النهم نحو التسوق أيًّا كان شكله إلى نوع من الإدمان، ولكنه إدمان يُضمر دوافع خفية، فعندما يجري الناس وراء السوق ومختلف تجليات المجتمع الاستهلاكي، فإنهم يحاولون – كما يقول باومان- “أن يفروا من الهم والكرب الذي يسمى عدم الأمان، وأن يتحرروا من مخاوف الخطأ أو التهاون والإهمال، وأن يكونوا واثقين بأنفسهم ومطمئنين”[93].
إن الاستهلاك، في رأي باومان، طريقة في الحياة تتدفق مع مد وجزر الحداثة السائلة. وترتبط حرية الاختيار من بين السلع المختلفة ببحث منبت الصلات والجذور عن سلعة دون الالتزام بقيم معينة[94]. “ويقوم المجتمع الاستهلاكي الحديث بتوليد الحاجات بشكل مستمر، ويحوَّل كل شيء قديم لشيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات”[95]. و”يتسم المجتمع الاستهلاكي الذي تعزز وتضخم مع الرأسمالية ومسار التفريد مع الحداثة بكثرة الفرص، فهناك فرص وخيارات كبيرة أمام الفرد في هذا المجتمع. وتؤثر كثرة الفرص والخيارات سلبًا على الفرد من عدة نواحي، فهو يُدخله في حالة من عدم الانتهاء، وعدم الاكتمال، واللايقين، والقلق جراء عدم تحققه باللذة الخالصة التي يرجوها”[96].
وتكمن في نقطة الالتقاء بين الهوية والاستهلاك، سمة رئيسة من سمات عصرنا، وذلك لأن “المجتمع المعاصر يرتبط بأفراده بوصفهم مستهلكين بصفة أولية، ويشملهم بكونهم منتجين بصفة ثانوية وجزئياً. وحتى نحقق معايير السواء، ونحظى بالاعتراف كأفراد محترمين في المجتمع يجب أن نستجيب سريعاً وبكفاءة لإغراءات سوق السلع الاستهلاكية.
لقد صار الاستهلاك أو القدرة على الاستهلاك معيار السواء والمكانة، وهو معيار يخرقه الفقراء والعاطلون. ويفضي ذلك إلى تمييز الفقراء والعاطلين ووسمهم بأنهم غير أسوياء، وبالتالي فإن كفاءة الاستهلاك، لا العمل أو الوظيفة، صارت هي المعيار. إن الفقراء اليوم (أي من يمثلون مشكلة للآخرين) هم، أولاً وقبل كل شيء، مستهلكين، لا عاطلين، وهم يُعرَّفون ويُحددون بصفة أساسية بناءً على حقيقة كونهم مستهلكين سيئين: الواقع أنّ الالتزامات الاجتماعية الأساسية، التي لا يمتثلون إليها، تتلخّص في أن يكونوا مشترين نشطاء وفاعلين للسلع والخدمات التي يعرضها السوق. ويعنى ذلك أنه إذا كان الاستهلاك في الأزمنة الحديثة يؤدي وظيفة ثانوية تقارن بالإنتاج، فإنه في العالم المعاصر يحدد قدرة الشخص على الاستهلاك تكامله الاجتماعي في مجتمع لم يعد مقصوراً على السياق المحلى، أو المجال الكلى للوجود اليومي، ولكن في مجتمع ماكرو يتطلب شروط قبول معينة ومحددة، ويمثل القبول مسؤوليّة الفرد الذي يفضل، في سبيل بناء فرديته، أن يستثمر موارده المادية المتاحة لشراء الوسائل الملائمة للتصنيف، والتحديث، والولوج إلى قائمة البارزين المهمين.
وهكذا يتنحى استهلاك الضرورات الأساسية أمام ابتياع منتجات التكنولوجيا المتقدمة، والملابس، ومواد التجميل. وتهدف هذه المنتجات إلى تحديث الجسد بما يتفق مع الحد الأدنى المطلوب لأن تكون “بالداخل أو ضمن”، أي لأن تكتسب مكانة اجتماعية لا تميز، وإن كانت تدمج، كلّ الأفراد الذين بدوا قادرين على تحديث ذواتهم، بغض النظر عن القدرة الإنتاجية الاجتماعية، والدور الذي يؤديه كل شخص. واليوم يبدو الاستهلاك نشاطاً يجيز ويقر، أو هو على حد تعبير باومان طريقة لقياس قدرة الشخص – في المجتمع السائل – على أن يكون فرداً[97].
وتأسيساً على هذا المفهوم، إنبنت أفكار باومان عن الفرد والمجتمع، والتي اتّخذت مسارين، الأول يتجسد في فكرة مؤداها أنه في المجتمع السائل يسير انتزاع الهوية جنباً إلى جنب مع الولاء والامتثال لقواعد مجتمع المستهلكين الذي توجهه سياسات السوق العالمي: فأن نكون أفرادًا يكافئ أن نكون مستهلكين. أما المسار الثاني فيتعدى هذا التفكير، ويدمج الفرد في المنتجات، إذ تكتسب العلاقة بين الفرد والذات، وبين الفرد والآخرين، معنى جديدًا، يرتكز على تحول أنثروبولوجي حقيقي anthropological metamorphosis، أن نكون مستهلكين أو مُستهلكين تصبح في الحقيقة المحددات العامة للفرد الذي يخضع لتأثير عملية إبطال التنشئة الاجتماعية، التي بدأت بالعولمة، وبلغت الآن أحد أكثر مراحلها حرجاً وتطرفاً[98].
واليوم تُجرّد الجماعة، والتنظيم الاجتماعي من مهامه التقليدية: فلم يعودوا أبعادا لهوية الذات ولا قادرين على توفير مجموعة من المعايير والقواعد، ويصير الفرد وحدة منعزلة تبحث دومًا عن أشكال جديدة للتنشئة الاجتماعية، والتي بدلاً من أن توفر الأمن والرفاهية والسعادة، تزيد من الفجوة بين الإنسان والذات، وبين الإنسان والآخر، إنه نسق اجتماعي – برغم خضوعه لوسائل مبتكرة ومتجددة بصورة متزايدة للاتصال بالآخرين، والتفاعل معهم – يولد عدم الارتياح والوحدة، وذلك بصفة أساسية لأنه ابن الفردية المتصلة بالشبكة، والتي “تمثل نموذجاً اجتماعياً، وليس مجموعة من الأفراد المنعزلين”[99].
وتتآكل بعنف الأطر التقليدية والجمعية لتشكيل الهوية التي استمرت في تقييد وكبح اللعب الحر لتشكيل الهوية الشخصية خلال حقبة الحداثة الثقيلة، ومع هذا التآكل حدث انحسار متميز في السلطة التنظيمية لمجموعات الدور المرتكزة على الطبقة، والنوع، والعرقية، والدين، والتي مازالت فاعلة بدرجة كبيرة خلال حقبة الحداثة الثقيلة، تاركة الأفراد أحرارًا بصورة غير مسبوقة في صياغة مسارات حياتهم الخاصة. لقد تحرر أفراد الحداثية الخفيفة، وتخلصوا من الموارد المقيدة، والمحققة للاستقرار لأشكال الجمعية الملزمة. ولا يعني ذلك اختفاء الجمعية وتلاشيها من الحياة الاجتماعية في العقود الأخيرة، ولكن يعني أن وظيفتها قد تغيرت بصورة واضحة. إذن، تشتد وتقوى الديناميات الفردية للحياة الحديثة الخفيفة، وتتقلص الأشكال الجمعية للخبرة[100].
ويتمثل الدور، بالغ الأهمية، الذي تؤديه الإنترنت في تشكيل العلاقات الاجتماعية في إسهامه في بناء نموذج جديد للمجتمعية sociability يرتكز على الفردية. وتدريجيًا، تنتظم أعداد هائلة من البشر في شبكات اجتماعية تتواصل عن طريق الكمبيوتر. وهكذا فإنه ليس الإنترنت هو ما يخلق نموذجاً للفردية الشبكية، ولكن تطور الإنترنت هو الذي يقدم الدعم المادي الكاف لنشر الفردية في الشبكة باعتبارها الشكل السائد للتنشئة على الخط، وهذا الشكل الجديد ينشأ كقالب لتحديث الهوية يتطلبه العالم الكوني حتى يكون الفرد مُتضمناً، ذلك أن الحاجة إلى التضمين لا تعدو أن تكون إرثاً من هجران الشعور الأصيل بالانتماء. والحقيقة أن الانتماء يتسم بأنه شعور إنساني طبيعي، ومكبوت اليوم. ويتجلى هذا الشعور في أشكال بديلة للتجمع الاجتماعي social aggregation والتي تمثل محاولة لإشباع الحاجة الإنسانية الطبيعية للمخالطة الاجتماعية[101].
ويرى مانويل كاستلز Castells أن ما بعد الحداثة، ثم ما بعد – ما بعد الحداثة والحداثة السائلة، تجسد ظهور “مجتمع الشبكة”، الذي تُستبدل فيه الأنساق المفتوحة للتنظيم، والمستندة على ما أطلق عليه “شبكة الشبكات”، بالعلاقات المباشرة والثابتة. ويقرر بيك Beck “أننا نعيش في عصر صار فيه الإنجاز الفردي تياراً قوياً في المجتمع الحديث، كما أُجهضت مصادر الهوية الجمعية والمعنى الكامن في المجتمعات – الأسرة، الدولة القومية، العرقية، الطبقة – وما عادت تحقق الأمن الشخصي أو التكامل الاجتماعي”[102].
واقع الحال أن المجتمع الاستهلاكي لا يُجمّع، على أي حال، لكنه يفرّق، إذ يحول الجماعات إلى وحدات منعزلة، تربطها صلات ضعيفة واهية وممزقة مفتتة، حيث يتبلور الأفراد بين البحث عن ذات وفوضى تخلقها اللاذات، وتبقى فكرة المجتمع حيَّة في فكرة الاتجاهات الشائعة التي يتعين إتباعها، حيث توجه الجماعات إلى البحث عن هذه “السعادة”، وهو البحث الذي يخط آثاره فاعلون خارجيون، ويمثل ذلك في رأى باومان إعادة نظر ومراجعة لفكرة “التضامن الآلي” عند دوركايم، الذي تميزه سماته عن التضامن العضوي[103].
إن فردية الفرد وتفرده حل محلها تدفق حاجات جماعة معينة – والتي تبدو الآن كسرب swarm. ويعيَّن باومان، في التمييز بين “السرب” و”الجماعة”، التغيرات الجذرية التي تؤثر في الفرد والمجتمع في الواقع السائل – الاستهلاكي، حيث يميل السرب إلى إزاحة واستبدال الجماعة، وقادتها، وهيراركيتها، ونظامها القَلِق. إن السرب يتجمع وينتشر ويتفرق، ويتجمع مرة أخرى، من مناسبة إلى أخرى، يحدث ذلك كل مرة حتمًا بلا سبب، وتجتذبه أهداف متغيرة. وتمثل القوة المغرية للأهداف المتحركة قاعدة كافية لتنظيم الحركات، ويكفي ذلك لاعتبار أية أوامر وفروض من أعلى غير ضرورية وغير مجدية. وفى الواقع لا تبدو الأسراب أثناء الحركة أعلى أو أدنى: وحده اتجاه التحليق اللحظي هو الذي يضع وحدات السرب في مركز القائد أو الأتباع. إذن، حتى الهيراركيات التقليدية التي تولد النظام تتحلل وتذوب وتصير نواة مصونة يمكن أن يجد الفرد ذاته بداخلها، يوجه رغباته الخاصة. يعني ذلك أن كل فرصة لتجميع البشر تخفق.
إذن، يعتبر الفرد وحدة سريعة خاطفة تتألف من سرب عابر، وموجهة بتيار عابر، ويمثل ذلك بعدًا مخصّبًا ومُعبأ بأمن موهوم يحققه اختيار حر وأمثل، بما أنه اختيار عدد كبير من الأفراد. والاختيار هو ما يتجمع أو يُجمع في عالم سائل، وذلك بما أن هذه الفضاءات يعاد التفكير فيها وتصميمها وفقا لقوانين معينة قادرة على تشكيل المجتمعات المحلية التي يوجد فيها الفرد المستهلك، ويشبع الإحساس بالانتماء، وتبدو مراكز التسوق خلايا لأسراب باومان، باعتبارها تعرض المجتمع المتخيل من الناحية المثالية: مكان حيث يتجمع الغرض من الشراء.
وهكذا يتحقق الشعور بالانتماء، وكون الفرد جزءًا من المجتمع المحلي. وتمثل المشاركة أحد الطرق التي من خلالها يصبح الاستهلاك نشاطًا أساسيًّا يقوم به الإنسان المعاصر، وبخاصة مبدأ تضمين الذات أو إقصائها أو استبعادها. ويمثل الاستهلاك طريقة بديلة للتجمع الاجتماعي تستبدل الشعور بالانتماء بالحاجة إلى التضمين. وتستبعد هذه العملية من لا يمتلكون الوسائل المناسبة لأداء هذا النشاط، لذلك يعيشون في عزلة. وفي لعبة المظاهر وأشكال إعادة الإنتاج تلك، تُفسح الجماعة مجالاً للسرب الذي يفقد، في هذه الدوامة أو في غمرة الاندفاع الجمعي، شعوره الأصيل بالانتماء الذي يجعل من كل إنسان عضوًا في المجتمع، الذي فيه تؤدى الثنائية الطبيعية للذات: حيوان له شخصية تشكلت بتأثير التنشئة الاجتماعية، وحدة من الغريزة والعقل، من الذات والعالم[104].
5- خاتمة:
تتسرب سمات الكريولية والتهجين إلى الثقافة المعاصرة نتيجة انفتاح الحدود الثقافية وتحولها إلى حدود نفيذة. رأينا كذلك أن باومان Bauman يستخدم مفهوم السيولة Liquid ليشير إلى أن أبنية الماضي الاجتماعية المتينة والثقيلة قد أصبحت أخف، وأكثر انتشارا وحراكًا. ويعبر هذا المفهوم عن الوضع الراهن للحداثية حيث تتدفق أشياء عدة، وتلك هي السمة المميزة للعالم الاجتماعي المعاصر، الذي صار من اليسير فيه اختراق الروابط والعلاقات بل والتخلي عنها[105].
وتتميز الحداثية السائلة بسرعة الزوال وعدم اليقين وعدم ثبات كافة الأشكال “الاجتماعية”[106]. وتجعل التكنولوجيا أو التوسط التكنولوجي صورة الحياة – أي الثقافة، وهي فكرة طرحها فيتجنشتين Wittgenstein، وترتكز على ما يطلق عليه المنظرون الفرنسيون، من أمثال موس وليوتار، الرابطة الاجتماعية – ثقافة عن بعد، ويجعل العلاقات مشتتة، وكثيفة وممتدة: “مضغوطة ومتباعدة في آن “. وقد صار هذا الانضغاط والامتداد المكاني ممكنًا بفضل التوسط التكنولوجي، واُستبدلت الرابطة الاتصالية بالرابطة الاجتماعية، المتأسسة في النظم والتنظيمات[107].
ويعبر مصطلح الثقافات المسافرة والمرتحلة عن واقع عالمنا المعاصر، فهو يحمل كل معاني المقارنة والتجاور والتقارب بين الثقافات والفاعلين والأنواع والسلالات[108]. ويقرر جيمس كليفورد أن الثقافة أو الهويات الثقافية المعاصرة يصعب تصورها وفهمها بلغة مصطلحات “المكان”، ويفضل أن يتم ذلك بلغة مصطلح السفر والارتحال، بما يعنى أنّ البشر والثقافات تسافر وترتحل. وقد فاقمت العولمة المميزة لنهاية الحداثة أو الحداثة المتأخرة من أهمية مجاز السفر والارتحال، على اعتبار أن السياقات والموجودات المحلية عرضة اليوم إلى تأثيرات أخرى بعيدة قد تؤدي إلى إنتاج تجانس وتماثل كوني نتيجة للتدفقات الثقافية الكونية التي يحبذ فهمها في إطار فكرة الفوضى والتشظي فيما يعرف “بثقافة الفوضى”[109].
[1]– Spivak Gayatri Chakravorty, Culture Alive, Theory, Culture & Society, 23 (2–3), 2006, p. (359).
[2]– Friedman Jonathan, Culture and Global Systems, Theory, Culture & Society, 23(2–3), 2006, p. (404).
[3]– Kiefer Christie W., Doing health anthropology: research methods for community assessment and change, New York, Springer, 2007, p. (3).
[4]– Bantz, C. R., Understanding organizations: interpreting organizational communication cultures, Columbia, University of South Carolina, 1993, p. (25).
[5]– Tutton Elizabeth, Seers Kate and Langstaff Debbie, Professional nursing culture on a trauma unit: experiences of patients and staff, Journal of Advanced Nursing, 61 (2), 2008, p. (146).
[6]– Zhao Dingxin, Theorizing the role of culture in social movements: Illustrated by protests and contentions in modern China, Social Movement Studies, Vol. 9, No. 1, January, 2010, 33 – 50., pp. (34 – 35).
[7]– Soysal Levent, Introduction: Triumph of culture, troubles of anthropology, Focaal-European Journal of Anthropology, vol. 55, 2009, p. (4).
[8]– Kumar Krishan, From post-industrial to postmodern society: new theories of the contemporary world, Oxford, Blackwell, 1995, pp. (115 – 117).
[9]– Kuper Adam, Culture, Identity and the Project of a Cosmopolitan Anthropology, Man, Vol. 29, n. (3), 1999, p. (538).
[10]– Duranti A., Linguistic Anthropology, Cambridge, Cambridge University Press, 1997, p.(23).
[11]– آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص (13).
[12]– Friedman Jonathan, Culture and Global Systems, p. (405).
[13]– أحمد زايد، عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية، عالم الفكر، العدد (1)، المجد (32)، 2003، ص (28).
[14]– Wright Susan, The Politicization of Culture, Anthropology Today, vol. 14, N. (1), February, 1998, p. (7).
[15]– Weiner A. B., Culture and Our Discontents – Forum, American Anthropologist, Vol. 97 (1), 1995, p. (15).
[16]– Strinati, Dominic, An introduction to theories of popular culture, London, Routledge, 2004, p. (211).
[17]– Tehranian Majid, Where is The New World Order? At The End of History or a Clash of Civilization, Quoted in, Vincent Richard, C. (eds.), Towards Equity in Global Communication: Mac Bride Update, New Jersey, Hampton Press, Inc., 1999, p. (30).
– Bishop, R., Postmodernism, In, Levinson David, Ember Melvin (eds.), Encyclopedia of Cultural Anthropology, Henry Holt and Company, New York, 1996, Vol. (3). P. (993).
[18]– Harris O., Temporalities of Tradition: Reflections on a Changing Anthropology, Quoted in, Hubinger Vaclav, Grasping the Changing World – Anthropological Concepts in the Postmodern Era, London, Routledge, 1996, p. (1).
[19]– Fischer Michael M. J., Worlding Cyberspace: Toward a Critical Ethnography in Time, Space and Theory, Quoted In, Marcus George E., Critical Anthropology Now, Unexpected Contexts, Shifting Constituencies, Changing Agendas, School of American Research Press, 1991, p. (74).
[20]– Lewellen Ted C., Groping Toward Globalization: In Search of An Anthropology without Boundaries, Reviews in Anthropology, Vol. (31), 2002b, p. (76).
[21]– Lewellen Ted C., The Anthropology Of Globalization – Cultural Anthropology Enters The 21st Century, London, Bergins Garvey, 2002a, pp. (22 – 23).
[22]– يقرر ما بعد الحداثيون أن عالم ما بعد الحداثة هو عالم بينصي، وهنا يطرح جاك دريدا فكرة “بينصية الحياة الثقافية”. ويعني ذلك عند أنصار ما بعد الحداثة أن أي شيء يرتبط بكل شيء آخر. على اعتبار أن البينصية هي علاقة داخلية متبادلة متمازجة ومعقدة. وأن البينصي هو أيضا حوار لا نهائي بين النصوص دون توقع الوصول إلى نقطة اتفاق والتقاء. والعالم من منظور المتشككين من أنصار ما بعد الحداثة بالغ التعقيد والفوضوية ومتداخل بحيث بات من المستحيل فك الخيوط التي تربط كل هذه التفاعلات أو طرح رأي محدد حول اتجاه أو مقدار القوى الموجودة حولنا:
See: Rosenau, P.M., Postmodernism and the Social Sciences, Insights, Inroads and Intrusions, Princeton, Princeton University Press, 1992.
[23]– Storey John, Cultural theory and popular culture: an introduction, London, Pearson, 2009, p. (203).
[24]– Beynon John & Dunkerley David (eds.) , Globalization – The Reader, London, the Athlone Press, 2000, p. (16).
[25]– Turner B. S., Theories of Modernity and Postmodernity, Quoted in, Beynon J. & Dunkerley D. (eds.), Globalization Reader, London, Athlone Press, 2000, pp. (110 – 111).
[26]– توماس هيلاند اريكسون، مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية، ترجمة محيي الدين عبد الغني، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2012، ص (43).
[27]– Cohen Robin, Creolization, in, Ritzer George, Blackwell encyclopedia of sociology, Oxford, Blackwell Publishing, 2007, p. (817).
[28]– توماس هيلاند اريكسون، مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية، ص (47).
[29]– Cohen Robin, Creolization, p. (817).
[30]– Ibid., pp. (817 – 818).
[31]– Ibid., p. (818).
[32]– نسبة إلى جزيرة Martinique، وهي جزيرة فرنسية تقع في البحر الكاريبي، عاصمتها فورت – دي – فرانس، ويبلغ عدد سكانها 399000 حسب تعداد 2007.
[33]– Ibid., p. (818).
[34]– توماس هيلاند اريكسون، مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية، ص (341، 353).
[35]– Mintz Sidney W., The Localization of Anthropological Practice, Critique of Anthropology, Vol. 18 (2), 1998, p. (120).
– Françoise Vèrges, Post colonial Challenges, Quoted in, Gane, N., The Future of Social Theory, London, Continuum, 2004, pp. (197 – 199).
[36]– Barker Chris, Cultural studies: theory and practice, London , sage, 2008, p. (163).
[37]– Cohen Robin, Creolization, p. (817).
[38]– Pieterse Jan Nederveen, Hybridity, in, Ritzer, George, Blackwell encyclopedia of sociology, Oxford, Blackwell Publishing, 2007, p. (2191).
[39]– Ibid., p. (2190).
[40]– Barker Chris, Cultural studies: theory and practice, pp. (257 – 258).
[41]– Ibid., p. (258).
[42]– Ibid., p. (161).
[43]– Ibid., pp. (161 – 162).
[44]– Pieterse Jan Nederveen, hybridity, p. (2188).
[45]– Ibid., p. (2190).
[46]– Pieterse Jan Nederveen, hybridity, p. (2190 – 2191).
[47]– Smythe Luke, Modernism post – postmodernism: art in the era of light modernity, Modernism/modernity, Vol. 22, Number 2, April 2015: 365 – 379, p. (367).
[48]– زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللايقين، ترجمة حجاج أبو الخير، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017، ص (12).
[49]– Smythe Luke, Modernism post – postmodernism: art in the era of light modernity, p. (367 – 368).
[50]– زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللايقين، ص (25).
[51]– نفس المرجع، ص (25 – 26).
[52]– http://altagreer.ws
[53]– Ibid.
[54]– Palese Emma, Zygmunt Bauman: individual and society in the liquid modernity, Springer Plus (a Springer open journal) , 2: 191, 2013, p. (1).
[55]– Lee Raymond L. M., Bauman, liquid modernity and dilemmas of development, Thesis Eleven, Number 83, November, 2005: 61 – 77, p. (61).
[56]– Ibid., p. (62).
[57]– Ibid., p. (62).
[58]– Ibid., pp. (62 – 63).
[59]– Ibid., p. (66).
[60]– Bauman Zygmunt, Liquid modernity, Cambridge, Polity Press, 2000, pp. (2 – 3).
[61]– زيجمونت باومان، مقدمة الطبعة العربية لكتابه الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016، ص (23، 26).
[62]– Palese Emma, Zygmunt Bauman: individual and society in the liquid modernity, p. (1).
[63]– Lee Raymond L. M., Bauman, liquid modernity and dilemmas of development, p. (63).
[64]– Ibid., pp. (63).
[65]– Ibid., pp. (63 – 64).
[66]– http://altagreer.
[67]– Lee Raymond L. M., Bauman, liquid modernity and dilemmas of development, p. (65).
[68]– Ibid, p. (66).
[69]– Bauman Zygmunt, Liquid modernity, pp. (128 – 129).
[70]– Lee Raymond L. M., Bauman, liquid modernity and dilemmas of development, p. (66).
[71]– Bauman Zygmunt, Liquid modernity, pp. (6 – 7).
[72]– Ibid., pp. (8 -9).
[73]– Ibid., pp. (10 -11).
[74]– Lee Raymond L. M., Bauman, liquid modernity and dilemmas of development, p. (67).
[75]– Bauman Zygmunt, Liquid modernity, p. (6).
[76]– آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص (15).
[77]– زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللايقين، ص (13).
[78]– نفس المرجع، ص (13).
[79]– Bauman Zygmunt, Liquid modernity, pp. (14, 163).
[80]– زيجمونت باومان، الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016، ص (16، 20).
[81]– زيجمونت باومان، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ترجمة سعد البازعي، وبثينة إبراهيم، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، كلمة، 2016، ص (30 – 31، 36).
[82]– زيجمونت باومان، الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ص (27).
[83]– http://altagreer.
[84]– Bauman Zygmunt, Liquid Sociality, p. (35).
[85]– Beck Ulrich, The cosmopolitan turn, Quoted in, Gane N., The future of social theory, London, Continuum, 2004, p. (153).
[86]– Jones J. Social capital, London, Routledge, 2003, pp. (88 – 93).
[87]– Ibid., pp. (102, 105 – 106).
[88]– Bauman Zygmunt, Liquid sociality, pp. (31, 34).
[89]– Palese Emma, Zygmunt Bauman: individual and society in the liquid modernity, p. (1).
[90]– Ibid., (1 – 2).
[91]– Ibid., p. (1 – 2).
[92]– زيجمونت باومان، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص (86 – 87).
[93]– http://altagreer.
[94]– Lee Raymond L. M., Bauman, liquid modernity and dilemmas of development, p. (71 – 72).
[95]– زيجمونت باومان، الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ص (15).
[96]– http://altagreer.
[97]– Palese Emma, Zygmunt Bauman: individual and society in the liquid modernity, p. (2).
[98]– Ibid, p. (3).
[99]– Ibid, p. (3).
[100]– Smythe Luke, Modernism post-postmodernism: art in the era of light modernity, p. (370).
[101]– Ibid., pp. (2-3).
[102]– Jones J. Social Capital, p. (91).
[103]– Ibid., p. (3).
[104]– Ibid., p. (3).
[105]– Bauman Zygmunt, Liquid sociality, Quoted in, Gane, N., The future of social theory, London, Continuum, 2004, pp. (19 – 23).
[106]– Ibid., p. (29 – 31).
[107]– Lash Scott, Information is a Live, Quoted in, Gane N., The Future of Social Theory, London, Continuum, 2004, pp. (100 – 102).
[108]– Clifford James, Routes, travel and translation in the late twentieth century, Harvard University Press, 1997, p. (39).
[109]– Barker C., Television, globalization and cultural identities, Philadelphia, Open University, 1999, p. (37).
المراجع:
المراجع العربية:
- أحمد زايد، عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية، عالم الفكر، العدد (1)، المجد (32)، 2003.
- آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011.
- توماس هيلاند اريكسون، مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية، ترجمة محيي الدين عبد الغني، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2012.
- زيجمونت باومان، مقدمة الطبعة العربية لكتابه الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر،بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016.
- زيجمونت باومان، الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016.
- زيجمونت باومان، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ترجمة سعد البازعي، وبثينة إبراهيم، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، كلمة، 2016.
- زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللايقين، ترجمة حجاج أبو الخير، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017.
المراجع الأجنبية:
- Bantz, C. R., Understanding organizations: interpreting organizational communication cultures, Columbia, University of South Carolina, 1993.
- Bauman Zygmunt, Liquid modernity, Cambridge, Polity Press, 2000.
- Bauman Zygmunt, Liquid sociality, Quoted in, Gane, N., The future of social theory, London, Continuum, 2004.
- Barker C., Television, globalization and cultural identities, Philadelphia, Open University, 1999.
- Barker Chris, Cultural studies: theory and practice, London, sage, 2008.
- Beck Ulrich, The cosmopolitan turn, Quoted in, Gane N., The future of social theory, London, Continuum, 2004.
- Bishop, R., Postmodernism, In, Levinson David, Ember Melvin (eds.), Encyclopedia of Cultural Anthropology, Henry Holt and Company, New York, 1996, Vol. (3).
- Clifford James, Routes, travel and translation in the late twentieth century, Harvard University Press, 1997.
- Cohen Robin, Creolization, in, Ritzer George, Blackwell encyclopedia of sociology, Oxford, Blackwell Publishing, 2007.
- Duranti A., Linguistic anthropology, Cambridge, Cambridge University Press, 1997.
- Fischer Michael M. J., Worlding cyberspace: Toward a critical ethnography in time, space and theory, Quoted In, Marcus George E., Critical Anthropology Now, Unexpected Contexts, Shifting Constituencies, Changing Agendas, School of American Research Press, 1991.
- Françoise Vèrges, Post colonial challenges, Quoted in, Gane, N., The Future of Social Theory, London, Continuum, 2004.
- Friedman Jonathan, Culture and global systems, Theory, Culture & Society, 23(2–3), 2006.
- Harris O., Temporalities of tradition: Reflections on a changing anthropology, Quoted in, Hubinger Vaclav, Grasping the Changing World – Anthropological Concepts in the Postmodern Era, London, Routledge, 1996.
- Jones J. Social capital, London, Routledge, 2003.
- Kumar Krishan, From post-industrial to postmodern society: new theories of the contemporary world, Oxford, Blackwell, 1995.
- Kiefer Christie W., Doing health anthropology: research methods for community assessment and change, New York, Springer, 2007.
- Kuper Adam, Culture, Identity and the project of a cosmopolitan anthropology, Man, Vol. 29, n. (3), 1999.
- Lash Scott, Information is alive, Quoted in, Gane N., The Future of Social Theory, London, Continuum, 2004.
- Lee Raymond L. M., Bauman, liquid modernity and dilemmas of development, Thesis Eleven, Number 83, November, 2005: 61 – 77, p. (61).
- Lewellen Ted C., The anthropology of globalization – Cultural anthropology enters the 21st century, London, Bergins Garvey, 2002a.
- Lewellen Ted C., Groping toward globalization: In search of an anthropology without boundaries, Reviews in Anthropology, Vol. (31), 2002b.
- Mintz Sidney W., The localization of anthropological practice, Critique of Anthropology, Vol. 18 (2), 1998.
- Palese Emma, Zygmunt Bauman: individual and society in the liquid modernity, Springer Plus (a Springer open journal), 2: 191, 2013.
- Pieterse Jan Nederveen, Hybridity, in, Ritzer George, Blackwell encyclopedia of sociology, Oxford, Blackwell Publishing, 2007.
- Rosenau, P.M., Postmodernism and the Social Sciences, Insights, Inroads and Intrusions, Princeton, Princeton University Press, 1992.
- Smythe Luke, Modernism post – postmodernism: art in the era of light modernity, Modernism/modernity, Vol. 22, Number 2, April 2015: 365 – 379.
- Soysal Levent, Introduction: Triumph of culture, troubles of anthropology, Focaal-European Journal of Anthropology, vol. 55, 2009.
- Spivak Gayatri Chakravorty, Culture alive, Theory, Culture & Society, 23 (2–3), 2006.
- Storey John, Cultural theory and popular culture: an introduction, London, Pearson, 2009.- Beynon John & Dunkerley David (eds.), Globalization – The Reader, London, the Athlone Press, 2000.
- Strinati, Dominic, An introduction to theories of popular culture, London, Routledge, 2004.
- Tehranian Majid, Where is the new world order? At the end of history or a clash of civilization, Quoted in, Vincent Richard, C. (eds.), Towards Equity in Global Communication: Mac Bride Update, New Jersey, Hampton Press, Inc., 1999.
- Turner B. S., Theories of modernity and postmodernity, Quoted in, Beynon J. & Dunkerley D. (eds.), Globalization Reader, London, Athlone Press, 2000.
- Tutton Elizabeth, Seers Kate and Langstaff Debbie, Professional nursing culture on a trauma unit: experiences of patients and staff, Journal of Advanced Nursing, 61 (2), 2008.
- Zhao Dingxin, Theorizing the role of culture in social movements: Illustrated by protests and contentions in modern China, Social Movement Studies, Vol. 9, No. 1, January, 2010, 33 – 50.
- Weiner A. B., Culture and our discontents – Forum, American Anthropologist, Vol. 97 (1), 1995.
- Wright Susan, The politicization of culture, Anthropology Today, vol. 14, N. (1), February, 1998.
1 تعليق
استفدت كثيرا من هذه الدراسة الموثقة علميا. فقط الإحالات غير منصوص عليها حتى نتبين قول المرجع من قول الدارس.