ملخص:
تشهد المؤسّسات الجامعيّة المتخصّصة في العلوم الشّرعيّة حراكا كبيرا يتعلّق بتطوير مناهجها وطرق تدريس محتويات هذه العلوم، ومحاولة جعلها أكثر ارتباطا بقضايا المجتمع والإنسان المعاصر ضمن سياق منهجيّ جديد يأخذ بعين الاعتبار البعد التّداوليّ للعلوم وأساسا نتائجها الوظيفيّة، أي ربط المجهودات التّعليميّة والبحثيّة بمبادئ الفعل والعمل، وإحداث التّطوير والإسهام في حركة التّحوّل الاجتماعيّ على جميع الأصعدة، بما يؤكّد وعي السّاهرين على هذه المؤسّسات الجامعيّة بأنّ التّحصيل المعرفيّ لا يتمثّل فقط في إكساب الطّلبة مجموعة المعارف الضّروريّة، بل يتعدّاها إلى كيفيّة الاستفادة والإفادة من حصيلة ما تلقّوه على امتداد مسارهم الدّراسيّ.
وتحاول هذه الورقة العلميّة أن تركّز على النّظر في المقاصد المختلفة منهجيّا ووظيفيّا وعمليّا في مسألة تاريخ الأديان بالتّركيز على وجوه الاستفادة منه والانطلاق من خلاله نحو المساهمة الجديّة في التّفاعل الحاصل اليوم حول هذه المسألة بالذّات.
الكلمات المفاتيح: تاريخ الأديان – الشّهرستاني – النّموذج العلميّ – الوظيفيّة – الأبعاد العمليّة.
Abstract:
University institutions specializing in Shari’a sciences have a great mobility related to the development of their curricula and methods of teaching the contents of these sciences and trying to make it more relevant to the issues of today’s society and humankind in a new methodological context that takes into account the deliberative dimension of science and basically its functional outcomes, That is, linking educational and research efforts to the principles of action and action, developing and contributing to social transformation at all levels; This confirms the awareness of the masters of these university institutions that cognitive attainment is not only to provide students with the necessary set of knowledge. but rather how to take advantage of the results of what they have received along their course of study.
This scientific paper attempts to focus on systematically, functionally and practically looking at different purposes on the issue of the history of religions by focusing on its utilization and moving towards a meaningful contribution to today’s interaction on this issue.
Keywords: history of religions – months – scientific – functional model – practical dimensions.
1- المقدّمة:
تراهن جميع المؤسّسات التّعليميّة في سائر بلاد العالم على تمكين طلبتها من معرفة تساعدهم على اكتشاف الحقّ وأساليبه، والعمل على الاستفادة منه خصوصا في واقعنا الحاليّ الّذي بدأت تسيطر عليه قيم النّجاعة ومبادئ التّقدّم، وضمان أشكال التّطوّر ضمن رؤية شاملة تربط العلم والتّعلّم بالأهداف الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، أي تجعل من المنتج العلميّ يتجاوز بعده النّظريّ والتّراكميّ، ليأخذ في اعتباره الأبعاد الوظيفيّة الّتي أصبحت تمثّل مدار المجتمع الرّاهن.
ولا تكاد مؤسّسات التّعليم العالي المهتمّة بتدريس العلوم الشّرعيّة في البلاد العربيّة والإسلاميّة تشذّ عن هذا المنحى، بل لقد أصبح المشرفون عليها والمشتغلون فيها على درجة كبيرة من الوعي بضرورة أن تكون برامجها وموادها التّعليميّة في علاقة مباشرة بحقول الاستفادة المختلفة، وقد نتج هذا الوعي عن حالات التّفاعل مع مؤسّسات التّعليم العالي في العالم اليوم، الّتي بدأت تهيّئ لنموذج تعليميّ يقوم على تحيين المعارف وربطها بالسّياقات التّاريخيّة والعمليّة.
وهو أمر نلمسه بوضوح في مختلف مشاريع الإصلاح الّتي عرفتها جامعات العالم العربيّ والإسلاميّ منذ النّصف الثّاني من القرن الماضي واستمرّت حثيثة حتّى اليوم[1]، ولا سيما في تلك المؤسّسات الّتي تضطلع بمهمّة تدريس مختلف العلوم الشّرعيّة مركّزة على ضرورة ربطها بمناهج تأخذ بعين الاعتبار تعزيز الهويّة العربيّة الإسلاميّة من ناحية، والكشف عن مجموع العلائق بين محتويات هذه العلوم وموضوعاتها وبين مشاريع التّطوير والتّحديث والمساهمة الفاعلة في الإنتاج الحضاريّ الإنسانيّ[2].
إنّ تدريس تاريخ الأديان يمثّل اليوم أحد أهمّ مناشط الجامعات العربيّة والإسلاميّة، ويعتبر جزءا مهمّا لتقييم مدى تكوين الطّلاب انطلاقا من تعرّفهم على العقائد المختلفة والشّرائع الكثيرة ومقارنتها في ما بينها من ناحية، وبينها وبين الإسلام كرسالة جامعة وخاتمة من جهة أخرى، وقد بدأ تدريس هذه المادّة مبكّرا لا سيما في “جامعة الزّيتونة” بتونس أو “مؤسّسة الأزهر” بمصر، وكانت الغاية الأساسيّة مرتبطة جوهريًّا بتمكين الطّلبة من وعي بأهميّة الظّاهرة الدّينيّة وارتباطها بفطرة الإنسان، إلى جانب دفعهم نحو تبيّن العناصر المشتركة بين عقائد الإسلام وشرائعه، وبين ما هو موجود عند الشّعوب الأخرى سواء كانوا من أهل الكتاب أو من أصحاب الدّيانات الوضعيّة.
وفي الحقيقة لم يكن البعد الوظيفيّ لهذه المادّة حاضرا أو واضحا، فلقد غلبت على مناهج التّدريس أساليب المقارنة الّتي يراد من خلالها إثبات أنّ الدّين هو الإسلام، وأنّ ما يوجد لدى الآخرين ليس سوى تجارب لم تعد مقبولة إمّا لكونها قد حرّفت أو لأنّها تتعارض مع الملّة الإسلاميّة[3]، والأكيد أنّه لابدّ من تدقيق دلالة الوظيفيّة ومعانيها حتّى ندرك مختلف الأبعاد الّتي ترتبط بها أو تقود إليها، عندما يتّصل الأمر بــ”علم تاريخ الأديان” تحديدا كواحد من فروع العلوم الّتي يتلقّاها الطّلبة في الجامعات الّتي تختصّ بتدريس العلوم الشّرعيّة.
إنّ الوظيفيّة في معناها المباشر هي القدرة على جعل المحتوى المدرّس مرتبطا بتحقيق هدف أو غاية، منها ما يكون نظريّا ذا علاقة بتطوير البحث، ومنها ما يكون عمليّا مرتبطا أساسا بالنّتائج القيميّة المرجو ترسيخها على صعيد الممارسة والواقع، إذ عادة ما يطرح السّؤال حول الفائدة من هذا الحقل العلميّ أو ذاك، وأهمّ التّبعات المرتبطة به.
إنّ الحديث عن الوظيفيّة يرتبط في الأصل بمسلّمة(قناعة) ضمنيّة مفادها أنه لا معنى لحشو الأدمغة بالمعطيات والمعلومات من دون أن يكون ذلك منعكسا على الوسائل والآليات، الّتي عندما تنسّق بشكل سليم تؤدّي إلى غايات منشودة، وهذا يعني أنّ سؤال الوظيفيّة هو دائما سؤال الفعل والتّطبيق والممارسة والسّلوك، إذ ما نريده من تعليمنا هو أن يكون الأداة الّتي من خلالها يكتشف الطّلاب المشكلات، ويدركون الحلول الممكنة للتّغلّب على التّحدّيات الّتي تطرحها هذه المشكلات.
والتّركيز على “علم تاريخ الأديان” ووظيفته الممكنة، يرتبط أساسا بوعينا بأهمّيته كواحد من مجالات المعرفة الّتي يمكن أن تلعب اليوم وظيفة إتيقيّة مهمّة، وهي التّأسيس لوعي مشترك قوامه التّفاعل بين ديانات الشّعوب المختلفة، والتّأسيس لأرضيّة حوار بينها والذهاب نحو حالة من التّسامح يقتضيها التّديّن ذاته، من حيث هو تجربة روحيّة تنبني على قيم التّطهير والتّزكية، وتقارب النّاس ومنع أشكال الصّراع والعنف والاحتراب بينهم.
وعلى هذا الأساس سوف ننظر في هذه المسألة بالاعتماد على تمشٍ منهجي يأخذ بعين الاعتبار ما شهدته السّاحة العلميّة من تحوّلات، أفضت في مجموعها إلى تغيير مفهوم العلم والتّأكيد على انفتاحه على الممارسة والمشروع والغاية والوظيفة الّتي من أجلها يكون، والانطلاق من قراءة تحليليّة لتصوّر “الشّهرستانيّ” لماهية “علم تاريخ الأديان” ومقاصده الأساسيّة، من أجل الوصول إلى بلورة موقف جديد يجعل من هذا العلم مناسبة لإنجاز وظيفة الانفتاح على قضايا المجتمع الإسلاميّ المعاصر وسبل معالجتها من زاوية تاريخيّة واستقرائيّة ونقديّة، منتهين إلى مجموعة من الاستخلاصات الّتي نراها ضروريّة لتعزيز الأبعاد الوظيفيّة لــ “علم تاريخ الأديان” كموضوع للتّعلّم الجامعيّ.
2- في المفهوم الجديد للعلم أو في التّحول من التّفسير إلى الغايات:
يرتبط تاريخ العلم ومسيرته بما يطلق عليه “ألكسندر كويري” مفهوم الثّورات الّتي تعبّر دائما عن تحوّلات عميقة في مبادئ العلوم ونتائجها وافتراضاتها وأبعادها[4]، وزاد “توماس كون” في تدعيم هذه الفكرة من خلال بحثه في “بنية الثّورات العلميّة”، والّذي قاده إلى أنّه كلّما حدث تغيّر في براديغمات النّظرة للعالم، كلّما حصل تحوّل في مجال العلم وموضوعاته، حيث يتزحزح العلم السّائد بفعل المعارضات العديدة له، وينشأ علم جديد بأسس وغايات مستحدثة[5].
ومن هذا المنطلق لا يمكن الإقرار بصورة واحدة للمعرفة العلميّة، بل لابدّ من الوعي بصورها المتعدّدة والمختلفة، حيث تمّ تجاوز ذلك الموقف الوضعيّ والكلاسيكيّ السّائد، الّذي كان يرى في العلم نشاطا تجريبيّا عقلانيّا قوامه التّفسير وغايته الأساسيّة المعرفة بالقوانين الثّابتة الّتي تنظّم العالم من أجل التّحكم فيه، بما يفيدنا أنّ التّصوّر الوضعيّ ظلّ يربط وظيفة العلم بالكشف عن الحقيقة، الّتي ندركها بواسطة آليات الاختبار والتّجربة ونصوغها بلغة الرّياضيات ضمن ما نسمّيه النّظريّة[6].
لقد ساد هذا التّصوّر الوضعيّ لزمن طويل وبدأ بعد ذلك بالتّراجع تحت تأثير النّقد الواسع الّذي استهدف نموذج التّفسير، وبدأ بصياغة رؤية جديدة تجعل من البحث العلميّ مفتوحا على غايات الباحثين وأهدافهم ومشاريعهم، حيث أصبحت العلاقة ثلاثيّة(ذات/موضوع/مشروع) عوضا عن العلاقة الثّنائيّة(ذات/موضوع)، وهو ما أدّى إلى فسح المجال أمام حرّية الباحثين، وتحديد مقاصدهم من وراء ما ينتجونه من بحوث وما يضعونه من اهتمامات.
وعليه أصبحت وظيفة العلم تنزع نحو ما هو عمليّ وتطبيقيّ ارتباطا بطبيعة المجتمع الجديد، الّذي أصبح يراوده هاجس النّجاعة والمنفعة وإحداث التّطوير، وعليه لم تعد البحوث العلميّة تقوم على ذلك البعد التّراكميّ أو على ذلك النّهج المرتبط بآليات اكتشاف الحقيقة، بقدر ما أصبحت تتغيّا الأهداف الماديّة المباشرة، والذّهاب نحو الفعل والممارسة بما يعني أنّ الرّهان الأساسيّ للعلوم في مختلف مجالاتها أصبح إنشاء الحقيقة لا مجرّد اكتشافها، وتوسيع دائرة النّموذج المعرفيّ ليضيف إلى التّفسير الغايات القراريّة والتّصنيعيّة، وكذلك الغايات المرتبطة بالمستقبليّات، ولهذا يولد اليوم موقف علميّ جديد لا تهمّه المعرفة في حدّ ذاتها بقدر ما تهمّه أبعادها الوظيفيّة[7].
والمؤكّد أنّ تخلّي العلم تدريجيّا عن نموذج التّفسير واتّجاهه نحو الغايات والتّأويل، يرتبط أساسا بمحاولات العقلانيّة الغربيّة للتّخلّص من ثقل التّجريبيّة الفجّة الّتي حصرت دور العلماء في الرّصد والمراقبة والتّسجيل، إذ لابدّ أن يدخل العلم مغامرة التّفكير ويتّجه نحو مجالات أوسع تساعده تماما على الخروج من أزمته المتمثّلة في حصر أهدافه ووظائفه في المجال النّظريّ، وعدم التّركيز على فضاءات القيم والممارسة، واكتشاف المعنى الّذي يبقى كما يرى “هايدغير” مثلا أحد المطالب الأساسيّة للعقل البشريّ[8].
وهكذا نتبيّن أنّ العلم قد شهد تحوّلا عميقا في طبيعته كنشاط عقلانيّ وفي مهامه كمبحث يرتبط أساسا بتحقيق مجموعة من الغايات، وكأسلوب يتحدّد من جهة علاقته بالأبعاد الوظيفيّة، وهو ما هيّأ لما يمكن تسميته برجّة واسعة خلخلت المبادئ والأسس الكلاسيكيّة وعوّضتها بإحداثيّات وقواعد جديدة[9].
3- الأبعاد المنهجيّة والوظيفيّة والعمليّة لدرس تاريخ الأديان: الشّهرستانيّ منطلقا:
لقد بيّنا سابقا كيف أنّ علميّة أيّ علم لم تعد مرتبطة فقط بالمعارف الّتي ينتجها بقدر ما أصبحت متّصلة بالنّتائج الّتي يريد الوصول إليها، فالطلّاب في الجامعات الّتي تهتم بتدريس العلوم الشّرعيّة عادة ما يرافقهم السّؤال المتعلّق بأيّ فائدة تحصل لهم من وراء امتلاكهم لهذه المعارف أو تلك، ومثل هذه القناعة هي الّتي تجعل الباحثين والمدرّسين يوجّهون مادّتهم البحثيّة والعلميّة مباشرة نحو الاستجابة لرغبة المتعلّمين.
وعلى هذا الأساس لابدّ لمدرّس مادّة تاريخ الأديان أن يضع نصب عينيه إشباع هذه الحاجة والوصول بطلّابه إلى إدراك الغايات العمليّة من وراء ما يتعلّمونه، ولهذا نريد أن نقدّم في هذا المستوى تصوّرا يحقّق كلّ هذه الأهداف انطلاقا من صياغة جديدة لمحتوى درس تاريخ الأديان، وانطلاقا من “الشّهرستانيّ” أوّل من أسّس بشكل واضح ودقيق القواعد الأساسيّة للتّعاطي مع مقالات وعقائد ونظم الإيمان عند الشّعوب والأمم السّابقة[10].
إنّ الاعتماد على “الشّهرستانيّ” يبرّر من النّاحية المنهجيّة بغاية إطلاع الطلّاب على كيفيّة تعامل الفضاء المعرفيّ الإسلاميّ مع الآخر والمختلف من الناحية العقائديّة، ذلك أنّ الفهم الّذي نريد تأسيسه في أذهان المتعلّمين يقوم في الجوهر على آليّة التّعرّف والتّحليل والاطّلاع قبل الحكم والتّقييم.
وهذا يفيدنا في أنّ درس تاريخ الأديان لا يجب أن يغرق في التّاريخانيّة، الّتي تجعل العقل مشدودا إلى التّفاصيل وبعيدا عن وجوه الاستفادة إنّنا ندرس اليوم “الشّهرستانيّ” مؤكّدين على راهنيّته، وعلى كونه مازال حاضرا بيننا في زمن تتصاعد فيه موجات العنف والإقصاء وديكتاتوريّة الحقيقة[11]، فالغاية المثلى الّتي نتشوّقها وبها يتحقّق مقصد الوظيفيّة، إنّما هي بالأساس اكتشاف ما في تراثنا الفكريّ من معالم البناء والتّجديد من خلال دمج المتنوّع والمتعدّد والذّهاب إلى وحدة تقتضيها كونيّة القواعد والضّرورات العقليّة[12].
إنّ إعادة النّظر في درس تاريخ الأديان والتّركيز على غاياته العمليّة انطلاقا من العودة لـــ”الشّهرستانيّ” يقتضي أن نكتشف ما وراء بحوثه في الظّاهرة الدّينيّة وتطوّرها وانتشارها، كتأكيد على ارتباطها بفطرة الإنسان وهويّته المتّصلة بالانفتاح على المقدّس كأحد ثوابت المشترك الإنسانيّ، فاعتبار “الشّهرستانيّ” راهنا يرتبط بقدرة الطلّاب على تبيّن الغاية الأساسيّة من وراء التّأريخ للدّين والتّأكيد على كونه أحد مقوّمات الحياة الإنسانيّة الآهلة بالإيتيقيّ والأخلاقيّ والقيميّ.
فالحديث عن الملل المختلفة والنّحل المتعدّدة يخفي ضمنيّا أنّ الرّجل كان يريد التّأكيد على أنّ الإنسانيّة عبر مسارها الطّويل كانت تتلمّس الدّرب المؤدّي للتّوحيد الكامل كما جاء به الإسلام. وتلك هي المقاصد الوظيفيّة الّتي علينا أن نعمل عليها ونجعل من المتعلّمين يدركونها، ليصلوا إلى امتلاك الحجّة الكافية على أنّ الإنسان يولد على الفطرة، وأنّ الدّين مسار ينتهي بالإسلام من جهة كونه هذه العقيدة الجامعة الّتي لا تلغي التّجارب الأولى في التّعرّف على الله وإنّما تدعمها وتثريها وتوجّهها.
فعلى درس تاريخ الأديان أن يكون مطبوعا بمنهج “الشّهرستانيّ” الّذي يمكن أن نسمّيه أسلوب القسمة والتّفريق، أي التّعرّف على بداية نشأة العقائد وارتباطها بغاية أساسيّة هي مزيد دعم علاقة الإنسان بالخالق، والتّقدّم على درب استيضاح ما يمكن لهذه العلاقة أن تثمره وتحقّقه. وهذا ما يجعلنا نؤكّد على راهنيّة “الشّهرستانيّ” الّذي منه نتعلّم ونساعد المتعلّمين على فنّ التّحاور مع المخالف وجلبه إلى دائرة الإسلام دون عنف أو فرض موافقة، اعتمادا على المبدإ القرآنيّ:﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ (فصّلت: 34)، وهو الضّمان الحقيقيّ لتجنّب كلّ فعل عنيف وكلّ أشكال التّطرّف وكلّ حالة عناد لا تسمح بفهم المغاير كما يفهم نفسه، إذ من أهمّ الأبعاد الوظيفيّة لدرس تاريخ الأديان كما نتلمسه من مقاربة “الشّهرستاني” هو التّقيّد بأسلوب هادئ للدّعوة، يأخذ بعين الاعتبار تقديم البرهان والدّليل ومخاطبة الآخر بأسلوب بعيد عن الإقصاء، واستنادا إلى تلك المعياريّة الّتي ضبطها القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النّحل:125)[13].
وعلى هذا الأساس لم يكن “الشّهرستاني” في نظرنا إلّا واحدا من أعلام الفكر الإسلاميّ الأكثر وعيا بتبعات البحوث العلميّة ونتائجها العمليّة ومقاصدها الوظيفيّة، إذ البحث في عقائد الملل وأشكال إيمان النّحل المختلفة يرتبط بالتّأسيس لوعي إسلاميّ، ينفتح على الأشكال المختلفة للاعتقاد وينظر إليها من زاوية بحثيّة مجرّدة لا يُسقط عليها الباحث ثقافته ومكوّناتها الأخلاقيّة والدّينيّة والمذهبيّة.
وهو أمر نريد من الجامعات الإسلاميّة اليوم أن تعتني به،أي أن تحيي في نفوس طلّابها القدرة على أن يكونوا محايدين في مواقفهم، راسخين في الآن نفسه في منبتهم، منتهجين آليّة الانفتاح المثمر الّذي يغذّي العقل وينشّط مداركه ضمن حالة تواصليّة برهانيّة، تستعيض عن كلّ أشكال العنف والمغالبة بالطّرق الحواريّة الّتي تنفذ إلى وعي الآخر، وتحرص على فهمه[14].
4- تاريخ الأديان وقضايا المجتمع الإسلاميّ المعاصر:
ثابر المهتمّون بتاريخ الأديان كثيرا من أجل علميّته وانفصاله تماما عن الموجّهات الدّينيّة والفلسفيّة والسّياسيّة، وخاضوا من أجل ذلك صراعا مطوّلا مع تحدّيات بدت صعبة في البداية، لكنّها سرعان ما اختفت بفعل تلك الإرادة الصّلبة للباحثين، الّذين حرصوا على إتمام علميّة هذا العلم سواء على مستوى الموضوعات المدروسة أو المناهج المعتمدة، وتحوّل هذا العلم إلى موضوع للتّمدرس والتّعلّم في جامعات العالم ومنها جامعاتنا العربيّة والإسلاميّة، وظلّت غاياته غير واضحة حيث تراوحت بين مجرّد المقارنة والوصف التّاريخيّ وبين التّأسيس لقراءة عقلانيّة تأخذ بعين الاعتبار أهمّية التّديّن كواحد من الأنشطة الإنسانيّة وكتعبير عن معالم الكلّيات البشريّة.
وإذا كان علم تاريخ الأديان قد تطوّر في الغرب الّذي أولاه عناية مكثّفة في سياق سعيه القديم المتجدّد للاطّلاع على تجارب الشّعوب ومعالمها الثّقافيّة والحضاريّة، فإنّه يمثّل اليوم أحد المشاغل الأساسيّة للباحثين والمدرّسين والطلّاب في مجتمعنا العربيّ الإسلاميّ، وأصبح من أهمّ المناشط الّتي اتّصلت بالتّعلّم مثلما ارتبطت بالحوار ومشاريع البحث وقضايا التّداول في الملتقيات والنّدوات العلميّة.
وما يهمّنا ونحن بصدد التّأكيد على مكانة “علم تاريخ الأديان” هو كيف يمكننا أن نستثمره في فهم قضايا مجتمعنا الرّاهنة، وخاصّة منها تلك المتّصلة بوسائل وطرق الدّعوة للإسلام ونشره في العالم، وما تقتضيه هذه الدّعوة من ضرورة التّعرّف على تجارب الشّعوب الدّينيّة الأخرى، للكشف عن مدى قربها والتقائها بمضامين النّظرة أو الرّؤية الإسلاميّة للإنسان والعالم وسلّم القيم، إذ أهمّ ما تواجهه مجتمعاتنا المعاصرة هو كيف يمكن أن نتّصل بالمؤمنين بالعقائد المختلفة، ونقيم معهم حوارا هادفا من شأنه تبادل الاعتراف وتحقيق التّعارف.
وهذا أمر يوكل اليوم إلى المؤسّسات الجامعيّة المختصّة في العلوم الشّرعيّة، الّتي عليها إعداد “قادة رأي” أو ما نسمّيهم “دعاة”، يمتلكون في الآن نفسه القدرة على إدراك هويّة الآخر الدّينيّة وأسسها، ويساعدونه على الخروج من ضيقها إلى اتّساعها، انطلاقا من الجمع بين “الأنا” و”النحن” (عباد الله) فمثل هذا التّوسيع للإنّية الدّينيّة، وعدم اقتصارها على الالتحاف برموز مخصوصة، هو ما يساعد على إعادة فهم التّديّن كحالة فعل صالح وكقناعة بجزاء يأتي في المستقبل، فالقضيّة الأولى المطروحة على المجتمع الإسلاميّ اليوم هي كيف يحافظ على دوره وكيف يؤدّي أمانة الدّعوة، انطلاقا من الدّفع في اتّجاه المشترك بين الأديان والشّرائع من دون إكراه أو ضغط، امتثالا للقاعدة القرآنيّة:﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾(الغاشية: 21-22)[15].
والحقيقة أنّ ما يطرح على مجتمعنا الإسلاميّ المعاصر من قضايا إنّما يتّصل تحديدا بالبحث عن أفضل الطّرق والمسالك الّتي توصل إلى الهدف المتمثّل في إقناع النّاس بكونيّة عالميّة الإسلام، وأنّه ليس كما يعتقد البعض دينا إثنيًّا أو عرقيًّا، ومثل هذا المقصد لا يمكن أن يتحقّق إلّا عندما نجابه الآخر بالأدلّة، الّتي انطلاقا منها يدرك أنّ الرّسالة الإسلاميّة لم تكن في نهاية المطاف إلا استكمالا لمسارات إيمانيّة وتوحيديّة، بدأت مع ظهور الإنسان في العالم، وأنّ ما نالها من التّحريف كان مرتبطا بغايات غير دينيّة وغير أخلاقيّة تعلّقت في الغالب برهانات المصلحة والمنفعة الّتي اقتضت التّغيير الأصليّ وتطويعه، وعلم تاريخ الأديان في هذا المستوى يساعدنا على إثبات أنّ النّاس جميعا باختلاف عقائدهم انطلقوا موحّدين مؤمنين بأّنهم عباد لله، وأنّهم يسترشدون بهديه، وأنّ الرّسل جميعا يأخذون من مشكاة واحدة هي مشكاة الحقّ الإلهيّ، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق إلّا حين نسمح لطلّابنا والباحثين في جامعتنا الإسلاميّة بأن يوجّهوا أعمالهم وقراءاتهم للآخر نحو تلك المجالات المضيئة، الّتي فيها ندرك أنّنا لا نختلف في الأصل وإنّما تتباين أشكال تواصلنا مع المقدّس[16].
والأكيد أنّ المجتمع الإسلاميّ تطرح عليه أيضا قضيّة التّحوّل إلى نموذج يؤسّس لقاعدة الحوار والتّسامح، وهذا يتطلّب وضع شروط إمكان هذا النّموذج المقتضيّة ضرورة توسيع دائرة الانفتاح على “علم تاريخ الأديان”، الّذي يساعد المسلم اليوم على أن يقف إلى جانب أصحاب الدّيانات الأخرى لا قبالتهم أو في موقع التّعارض معهم، إذ ما هو أساسيّ في نموذج التّسامح هذا هو الإقرار والقناعة المرتبطة بالإيمان بجميع الرّسالات وجميع الرّسل دون استثناء أو تفضيل مصداقا لقوله تعالى:﴿ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285)، ومثل هذه القناعة تجعل من التّسامح مع الغير أمرا ضروريّا ومدعوًا إليه قد يصل مرتبة الواجب أو المقتضى الإيتيقيّ.
فالمسلم هو من آمن كما آمن الآخرون وهو من اتّبع نفس الطّريق الّذي سلكه السّابقون الفارق الوحيد هو بالأساس زمنيّ أو تاريخيّ، وهو الملحظ الّذي على الباحثين في تاريخ الأديان من المسلمين اليوم أن يؤكّدوا عليه من نوح عليه السّلام إلى الآن، بما يعني أنّ نموذج التّسامح الإسلاميّ لابدّ أنّ يكون واعيا بأنّنا نعبّر عن حالة من اكتمال بدأه البشر منذ أن تمّ الإعلان عن نزول آدم إلى الأرض، المجسّم في قوله تعالى:﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة: 38)، وهذا النّموذج يجمع بين عموميّة الهدي الإلهيّ الّذي في داخله تنوّع التّجارب الدّينيّة، ووحدة مصدر هذا الهدي المتمثّل في رسائل الله إلى عباده، وفي مشترك المقال الّذي يتحقّق في اكتمال سعادة البشر:﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[17].
واستنادا إلى كلّ ما سبق يمكننا أن نؤكّد على نحو من الحذر المشوب بالثّقة أنّ علم تاريخ الأديان هو الباب الّذي منه ندخل عالم الآخر، ونستكشفه وندرك وجوه تقاربنا معه ونصوغ من خلاله أشكالا من الحلول أو ضروبا من التّعاطي مع قضايا مجتمعنا المعاصر، دون أن نفقد هذا التّوازن الّذي يجعلنا راسخين في فضائنا الإسلاميّ دونما استعلاء أو مفاضلة ودونما استرخاء في أداء واجب الدّعوة ودونما انتماء إلى دوائر العنف، الّتي حرّمها الله بمقتضى تكريم الإنسان والسّماح له باختيار معتقده ودينه وتحمّل مسؤوليّته أمام ميزان العدالة المقدّسة التي تجمع بين مبدأين مبدأ العمل ومبدأ الإنصاف حسب الجهد والنيّة والقصد، مصداقا لقوله تعالى:﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾(النّجم: 39) وقوله سبحانه:﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46).
5- الخاتمة:
لقد قادنا البحث في الأبعاد الوظيفيّة لتدريس علم تاريخ الأديان في الجامعات العربيّة والإسلاميّة المختصّة في العلوم الشّرعيّة إلى التّأكيد على ضرورته، لا فقط من الجهة المعرفيّة أي من جهة الاطّلاع بل أيضا من النّاحية المنهجيّة الّتي رأيناها من خلال اعتبارنا الشّهرستاني نموذجا راهنا يعزّز لدينا الثّقة بأنّه مثل ما كان للمسلمين جرأة وسبق في تناول تاريخ المعتقدات وتطوّر المذاهب، فإنّ بإمكانهم أيضا اليوم أن يؤسّسوا لأنفسهم موقعا مهمّا في سياق هذا العلم وأن يساعدوا على إثرائه مقالة ومقصدا ما دامت لهم الإمكانيّات الفكريّة والهيكليّة والمؤسساتيّة، المرتبطة بوجود جامعة إسلاميّة تشهد الآن أشكالا مختلفة من التّطوّر الّذي يظهر في مستويات من الاستفادة ممّا يحصل في جامعات أخرى في العالم بفعل ما تهيّأ اليوم من أدوات الاتّصال والانفتاح السّريعة والنّاجعة.
ولقد كان تركيزنا على الأبعاد الوظيفيّة مرتبطا بوعينا بما يحصل من تغيّرات حاسمة في بنية العلوم وأنظمتها ورهاناتها وخاصّة بعد أن أصبحت الصّلاحيّة (ربط العلم بالغايات والمنفعة) مبدأ أساسيّا يستند إليه العلماء إلى جانب مبدأ المطابقة (ربط العلم بالحقيقة) الّتي من خلالها يتجّلى تلازم العقل مع الواقع[18].
فما يتمّ الترّكيز عليه اليوم هو معايير نجاح كلّ علم في الاستجابة لحاجات الإنسان ومطالبه وطموحاته، وهو ما أردنا الإشارة إليه حينما يتّصل الأمر بتدريس “علم تاريخ الأديان”، حيث أكّدنا على أنّ تُصاحب مهمّة تعليمه مهمّة أخرى هي دفع المتعلّمين إلى استثمار نتائجه سواء في جهودهم البحثيّة المستقبليّة، أو في بناء مواقفهم والدّفاع عن أطروحاتهم، أو في الاضطلاع بمهّمة الدّعوة ونشر الدّين والتّفاعل مع الآخرين، إذ ما على الجامعات الإسلاميّة أن تنجزه هو أن تنشئ جيلا جديدا من المفكّرين الّذين تكون لهم الكفاءة الضّروريّة والمقدرة الأساسيّة على حمل أمانة كونيّة الرّسالة الإسلاميّة، ودعوة النّاس إليها، من خلال الحجّة الكافية والبرهان العقلانيّ المستند إلى نتائج العلوم بعيدا عن كلّ أشكال المغالبة والعنف الّذي يمكن أن يستغل راهنا في اتّهام الإسلام بالإرهاب، أو مصادرته لحقّ الاختلاف، أو الالتزام بعقيدة أخرى، أو في أدنى الحالات اتّهام المسلمين بأنّهم يحرّفون تعاليم دينهم الّتي جاءت صريحة في التّأكيد على حرّية المعتقد واختيار أشكال العبادة، فأهمّ وظيفة يمكن لــ “علم تاريخ الأديان” أن يحقّقها هي إبطال هذه الاتّهامات والردّ عليها بأسلوب حواريّ هادئ، أو بمسار دعويّ ترافقه الحجّة ويدعّمه الدّليل.
وما يمكن التّأكيد عليه في نهاية هذا البحث هو ما نعتبره ثوابت أساسيّة نريد تلخيصها في النّقاط التّالية:
– ضرورة أن تعيد الجامعات العربيّة والإسلاميّة نظرها في الأبعاد الوظيفيّة والعمليّة لتدريس تاريخ الأديان، لتتجاوز ذلك التّصوّر الّذي يجعل منه مجرّد مناسبة تاريخيّة واستقرائيّة ووصفيّة، والتّقدّم به نحو أن يكون مناسبة لتأسيس وعي جديد بأهّميّة الاستفادة من نتائجه الحاصلة واستثمار ذلك في آليات نشر الإسلام والدّعوة إليه.
– أهمّية علم تاريخ الأديان من جهة علاقته بقضايا المجتمع الإسلاميّ المعاصر، واعتباره أحد المنظومات المعرفيّة الّتي تساعد على تقديم الحلول الممكنة، لتجاوز مختلف التّحديّات المطروحة على الفكر الإسلاميّ من جهة مساهمته في تطوير وسائله في التّعريف بقيم الإسلام وعقائده وتوجّهاته، والمشاركة الفاعلة في إقامة حوار حقيقيّ بين الأديان يقوم على مقاصد الفهم والتّفاعل وتجنّب ما من شأنه أن يقود إلى العنف والاحتراب.
– التّخلّي نهائيّا عن ذلك التّصوّر التّقليديّ للعلم باعتباره حالة من المراكمة والاستيعاب والتّعلّم وأشكال الاستقبال، والنّظر إليه أيضا كمسيرة غايتها تحقيق النّتائج وإنتاج الحلول انطلاقا من التّركيز على الأبعاد العمليّة والمشاريع الّتي يمكن تحقيقها على المدى المتوسّط والبعيد، وجعل العلم يضطلع بمجموعة من الوظائف لعلّ أبرزها إيقاظ الوعي ودفعه نحو التّخلّص من كلّ أشكال التّعصّب والدّوغمائيّة وأساليب فرض الموافقة.
– دعوة المشرفين على الجامعات العربيّة والإسلاميّة المهتمّة بالعلوم الشّرعيّة إلى توحيد مسالك تدريسها وضبط أهمّ مقاصدها، والاتّجاه أكثر نحو تعزيز أبعادها الوظيفيّة من خلال عقد لقاءات مشتركة وندوات علميّة تكون مناسبة لتوحيد الجهود والارتفاع بمردوديّة تدريس هذه المحتويات، وشدّها أكثر إلى قضايا المجتمع الإسلاميّ المعاصر، وتجذير انخراطه في العصر تأثّرا و تأثيرا، وحوارا وتفاعلا يظهر إضافاته ويعزّز من طبيعة معقوليته المبنيّة على الإنتاج والمساهمة والتّخلّي عن مبدأ الاستهلاك والتّقبّل السّلبيّ.
قائمة المصادر والمراجع:
العربيّة والمعرّبة:
- ابن جاب الله حمادي: تحوّلات العلم الفيزيائيّ ومولد العصر الحديث، منشورات المجمع التّونسيّ للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، تونس، 1986م.
- حرب علي: حديث النّهايات فتوحات العولمة ومآزق الهويّة، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، المغرب، ط.2، 2004م.
- ريكور بول: “الذّات عينها كآخر”، ترجمة وتحقيق “جورج زناتي”، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، لبنان، ط.1، 2005م.
- ريكور بول: صراع التّأويلات، دراسات هيرمينوطيقيّة، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتّحدة، ط.1، طرابلس، لبنان، 2005م.
- كون توماس: بنية الثّورات العلميّة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت لبنان، ط.1، 2007م.
- هوسرل إدموند: أزمة العلوم الأوروبيّة والفينومينولوجيا التّرانسندنتاليّة: مدخل إلى الفلسفة الفيومينولوجيّة، ترجمة إسماعيل المصدّق، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، لبنان، ط.1، 2008م.
الأجنبيّة:
- Aristote : Ethique De Nicomaque, Traduit Par Jull Tricot, Edition Vrin, 1984.
- Habermas : Morale et communication éd. Flammarion, 1986.
- Nouvel Pascal: enquête sur le concept de modèle. Éd. VRIN.2022.
- Paul Feyrabend :Contre La Méthode .Ed: seuil. Paris.1979.
- Rene Thom : Paraboles Et Catastrophes .Ed. PUF 1998.
[1]– بعد نيل عدد من الدّول الإسلاميّة لاستقلالها، تعاظمت الحاجة إلى إنشاء نموذج مدنيّ واجتماعيّ ومعرفيّ يدعم هذا التّحرّر، فكان لمشاريع الإصلاح في مجالات التّعليم بمراحله المختلفة أهمّية بالغة، تجلّت في الإسراع بإعادة النّظر في المحتويات والبرامج ارتباطا بما حصل من تطوّرات منهجيّة تعلّقت بمقاصد التّعلّم وغاياته، ومدى ارتباطها بإنجاز تقدّم يسهم في الرّفع من المستويات المتّصلة باستثمار نتائج البيداغوجيات الجديدة، وكان لزاما على المشرفين على المؤسّسات التّعليميّة الجامعيّة خاصّة أن يواكبوا كلّ معالم التّحديث، وهو أمر انعكس على مضامين ومقاصد كلّ مساعي التّطوير الّتي شهدتها الجامعة الزّيتونيّة بتونس والأزهر بمصر والقرويين بالمغرب، الّتي انفتحت كلّها على وسائل التّدريس الجديدة وأقحمت موضوعات لم تكن ذات حضور في السّابق وأبرزها قضايا تاريخ الأديان ونتائجه المختلفة.
[2]– بدأت الجامعات الإسلاميّة بالتّخلّي عن الطرق التّقليديّة القائمة على المراكمة والتّرسيخ، وبدأت بالتّوجّه نحو بناء تعلّميات جديدة تربط بين المحتويات المدرّسة وبين نتائجها الوظيفيّة، خاصّة بعد أن ارتبطت مهام هذه الجامعات بتخريج دفعات من المدرّسين والدّعاة، من أجل حسن تكوينها لأداء أدوارهم الّتي يقتضيها واقع المجتمع الجديد وفي مقدّمتها ترسيخ الهويّة الإسلاميّة، والدّفع في اتّجاه الاضطلاع بمهمّات المساهمة في سياقات الإصلاح الدّينيّ من خلال دعم قدرات الخريجين على توطين الوعي الإسلاميّ فكرا وقيما وممارسة.
[3]– في أغلب الجامعات الإسلاميّة مثلا كانت مادّة مقارنة الأديان المقرّرة تعتمد بالأساس على مجموعة من المؤلّفات ذات الصّبغة التّاريخيّة الّتي تنتصر للعقائد الإسلاميّة ببيان أنّها الأوثق والأقرب إلى فطرة الإنسان، وتمّ الاعتماد على بعض المؤلّفات الّتي تنهض بهذا الدّور دونما تفكير جديّ في ترسيخ الوعي المقارن الّذي يساعد الطّلاب على اكتشاف الأبعاد العمليّة لهذه المادّة.
[4]– يمكن العودة هنا إلى مؤلَّفَيْهِ المعروفين: “دراسات جاليليّة” و”دراسات نيوتونيّة”، واللّذين وضّح من خلالهما حصول قطيعة بين النّموذج الأرسطيّ والبطليموسيّ السّابق والنّموذج العلميّ الحديث، مركّزا على الطّابع الّذي ميّز انفصال العلوم عن الغايات وتركيزها على النّظر في القوانين المنظّمة للعالم.
[5]– اُنظر هنا: كتاب “توماس كون” : بنية الثّورات العلميّة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت لبنان، ط.1، 2007م، ص.205 وما بعدها.
[6]– اُنظر كتاب: تحوّلات العلم الفيزيائيّ ومولد العصر الحديث لحمادي بن جاب الله، منشورات المجمع التّونسيّ للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، تونس، 1986م.
[7]– يمكن العودة هنا إلى مختلف التّصوّرات الجديدة حول ما يسمّى بالنّمذجة العلميّة، انطلاقا من المواقف الّتي ساقها كلّ من “روني توم” و”باسكال نوفال” وخاصّة “فايراباند”، وهي قراءات ساعدت على فهم المعاني الجديدة للخطاب العلميّ، الّذي بات مشدودا إلى الأبعاد الوظيفيّة وعلاقة البحوث بمجالات الفعل المختلفة، سواء على الصّعيد السّياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو حتّى العسكريّ. انظر:
– Paul. Feyrabend: Contre La Méthode .Ed: seuil. Paris.1979 .Pp : 20-28
– Rene.Thom: Paraboles Et Catastrophes. Ed. PUF 1998. Pp : 120-130
– Nouvel. Pascal: enquête sur le concept de modèle. ed. VRIN.2022. Pp 190-196
[8]– في كتابه الّذي خصّصه لبحث واقع العلوم وضعف تأثيرها يكشف “هوسرل” عن أنّ أزمة العلوم إنّما تعود إلى إقصائها لمطلب الغايات والمقاصد، وارتباطها فقط بعمليّات التّفسير الّذي يقود إلى الكشف عن قوانين العالم معتبرا أنّ استبعاد سؤال “لماذا” من دائرة العلم يقلّص من خصائصه الوظيفيّة، ويحوّله إلى نوع من الدّراسة الوصفيّة غير القادرة على الاستجابة لما تريده الإنسانيّة من العلوم. اُنظر هنا كتاب: أزمة العلوم الأوروبيّة والفينومينولوجيا التّرانسندنتاليّة: مدخل إلى الفلسفة الفيومينولوجيّة، ترجمة إسماعيل المصدّق، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، لبنان، ط.1، 2008م.
[9]– استعرنا لفظ الرجّة من الفيلسوف الفرنسيّ “بول ريكور”، الّذي اعتبر أنّ الحديث أو الجديد عادة ما يدفع إلى المراجعات العميقة بل وأحيانا إلى إعادة البناء، معتبرا أنّ هذا الأمر يعدّ سمّة مميّزة للفلسفة كما للعلم. اُنظر هنا كتابه: صراع التّأويلات، دراسات هيرمينوطيقيّة، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي ط.1، طرابلس، لبنان، 2005م، دار الكتاب الجديد المتّحدة ص190-192.
[10]– قد يوجد من سبق “الشّهرستانيّ” في هذا المجال ولكنّنا نعتبر أنّ بداية التّأسيس لهذا المبحث على قواعد منهجيّة وعلى غايات واضحة، كانت مع صاحب كتاب “الملل والنّحل” ولهذا اتّخذناه نموذجا مثالا لمبحثنا هذا.
[11]– استعرنا لفظ ديكتاتوريّة الحقيقة من “علي حرب” الّذي يركّز على المعنى الجديد للهويّة باعتبارها الفعل والإبداع، أو ما نحسن إخراجه عن أنفسنا وما نريد إبلاغه للآخر من جهة أنّنا نمثّل طرفا في التّأسيس، وجزءا من جهود التّفاعل. اُنظر كتابه “حديث النّهايات فتوحات العولمة ومآزق الهويّة، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، المغرب، ط.2، 2004م.
[12]– قامت الحداثة الغربيّة على الإعلاء من قيمة العقل واعتبرته المبدأ الّذي به ومن خلاله يحقّق الإنسان إنسانيّته وأكّدت على أنّه (العقل) حسّ سليم وجوهر مُنِحَ للكائن البشريّ دون أيّ استثناءات وذهبت (الحداثة الغربيّة) إلى اعتباره محكوما بمجموعة من القواعد الّتي إن اعتمدت أدّت دائما إلى الحقّ والعلم والسّعادة، يمكن العودة هنا إلى مؤلّفات ديكارت وخاصّة منها: “مبادئ الفلسفة” و”حديث الطّريقة”.
[13]– ما نريد التّأسيس له هو أنّ نجعل من درس تاريخ الأديان مناسبة لاستثمار إنتاج المسلمين في هذا الشّأن، والتّوقّف عند رحابة النّظر واتّساع مجال القيم عندهم حين يتّصل الأمر بمعرفة الآخر والولوج إلى مجاله الخاصّ، إذ ما يبقى راهنا من “الشّهرستاني” اليوم هو ما يسمّيه “بول ريكور” : بــ”مبدأ التّماسف”، أي ما يطلق عليه “الحياد والموضوعيّة” وعدم تدخّل إيديولوجيا الباحث في النّظر لموضوعاته، حيث يتعلّم الطلّاب كيف يفكّكون إشكاليّة حضور الدّينيّ وارتباطه المكثّف بحياتنا، من دون أن يسقطوا في أحكام القيمة أو المسلّمات غير المبنيّة على الأدلّة والبراهين. اُنظر خاصّة مقدّمة كتاب “بول ريكور”: “الذّات عينها كآخر”، ترجمة وتحقيق “جورج زناتي” المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، لبنان، ط.1، 2005م، ص47-48.
[14]– من خلال أعماله الّتي اتّصلت بأهمّية ما يسمّيه “الحداثة التّواصليّة” يكشف “هابرماس” عن أنّ الهويّة هي حصيلة فعل تواصليّ، وأنّ العقل البشريّ غارق في الحوار وأنّ الحقيقة ليست مطلقا منجزا فرديّا بقدر ما هي وليدة التّفاعل والنّقاش والجدل، إذ لابدّ أن يدرك الإنسان أنّه واحد من الّذين يبنون اليقين لا الضّامن له. يمكن هنا مراجعة كتابه:
Habermas : Morale et communication éd. Flammarion, 1986
[15]– من تذكير بالمشترك ومبدأ المخلوقيّة والأصل الواحد، فقائد الرّأي المسلم هو الّذي يُذَكِّرُ ولا يسيطر ونموذجه في ذلك الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
[16]– نحن نزعم أنّ القرآن الكريم قد لفت إلى أهمّية التّعرف على الآخر، والدّفع باتّجاه تقليص دوائر الخلاف معه من جهة اعتباره جزءا من الدّعوة الكونيّة الّتي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تبلغ كافة العقول والأذهان، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة:﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: 64)، وفيها اضطلاع الرّسول ومن بعده أمّته بمهمّة التّجميع والالتقاء على صعيد واحد من أجل ما ينفع النّاس، وعلى الباحثين المسلمين في تاريخ الأديان أن ينتبهوا إلى هذا الأمر الإرشاديّ الّذي يؤسّس لعلاقة بينذاتيّة بين المؤمنين مهما كانت شرائعهم.
[17]– تعرّف السّعادة لدى الفلاسفة أو الباحثين في قضايا الأخلاق والخير بأنّها حالة نفسيّة يكون عليها الكائن البشريّ مترتبة على الخلو من الآلام والعذابات والأحزان، فالسّعيد هو الّذي يمتلك القدرة على تجنّب مداخل القلق والتّوتّر، والّذي يستند إلى رؤية ومنظومة قيميّة تجعل منه مستقرًّا في الذّهن وواعيا بنتائج أفعاله يمكن العودة هنا إلى كتاب الأخلاق إلى نيخوماخوس لأرسطو.
-Aristote : Ethique De Nicomaque, Traduit Par Jull Tricot, Edition Vrin, 1984.
[18]– استند النّموذج العلميّ والكلاسيكيّ إلى ما يسمّيه “باشلار” منطق الاكتشاف، الّذي يرتبط أساسا بغاية الوصول إلى الحقيقة المتمثّلة في النّظام الثّابت، الّذي يحكم الظّواهر من خلال آليات التّجريب، ثمّ صياغة النّظريّة بواسطة لغة الرّياضيات، وقد ساد هذا الاعتقاد كثيرا حتّى تمكّن العلماء من إنتاج تصوّر آخر لمهام العلم لم يعد يحصل في الكشف عن القواعد الثّابتة الّتي تتحكّم في حركة العالم، وإنّما في تقديم الحلول لما يعيشه الإنسان من مشكلات، وهو ما قاده إلى التّحرّر من سلطة مطابقة القول العلميّ لما هو كائن، والدّفع باتّجاه التّأويل والفهم، أي السّماح للذّات العارفة بأن تحقّق مشروعها دون أن تتوقّف عند عمليّات الوصف والتّسجيل الّتي سيطرت بشكل كبير على الأذهان حين ردت العلم إلى عقلانيّة تجريبيّة فجّة. اُنظر هنا تصوّرات كلّ من “روني توم” و “باسكال نوفال” (مرجعين مذكورين سابقا).