ملخّص:
نهدف من خلال هذا المقال إلى مناقشة العلاقة بين الحرية والقانون من داخل فلسفة الحق عند هيجل، انطلاقا من فكرة أساس لديه وهي أن الإنسان لا يحيى وجودا حرا إلا من خلال الامتثال لقوانين الجماعة التي ينتمي إليها. تستوجب مقاربة سؤال الحرية عند هيجل في البدء الوقوف عند المجتمع المدني الذي يعتبر مكتسبا لعصر الحداثة، ومجالا لتحقق الحرية الفردية. لكن هذا المجتمع، رغم كونه يعكس روح الحداثة القائمة على مبدأ الحرية، فهو يتميز بطابعه المحدود والمتناقض خصوصا ما يتعلق بالحرية وإمكان تحققها. فآليات الضرورة التي تحكم المجتمع المدني ستجعل تمثل الأفراد للحرية متناقضا، فالفرد يعتقد أنه حرّ لكنه في الحقيقة محكوم ببنيات تتجاوزه، فالفعل الإنساني هنا تحدده عوامل أخرى مستقلة عن الإرادة الحرة للفرد. سيصبح الحديث عن الحرية ممكنا عندما يعي كلّ فرد بأن مصلحته الخاصة تتعلق بمصلحة أشمل وهي المصلحة العامة، عندما سيتجه الفرد إلى إشباع مصالحه الجزئية الخاصة، ويحقق في الآن نفسه إرادة الكلي ويسعى إليه. بمعنى آخر إن الفرد لا يحقق حريته إلا بوصفه مواطنا عليه الامتثال لقوانين الدولة، شريطة أن تعبر هذه القوانين عن وجوده الخاص، وإلا سيصبح من حقه مقاومتها ورفض الانصياع لها في أفق مراجعتها أو تغييرها.
الكلمات المفاتيح: هيجل – الحرية – القانون – المجتمع المدني – الدولة – حق المقاومة.
Abstract:
My aim in this article is to discuss the relationship between freedom and law in Hegel’s philosophy of right, starting from the Hegelian idea that man can only live a free existence by conforming to the laws of the community to which he belongs. Hegel’s idea of freedom will first require a look at civil society as an achievement of modernity and insofar as it is the space conducive to the realisation of individual freedom. However, if this society reflects the spirit of modernity based on the principle of freedom, it is characterised by its limited and contradictory character, especially with regard to the possibility of realising freedom. If we examine the mechanisms of necessity that govern civil society, we will see that these mechanisms make the individual’s representation of freedom contradictory, because the individual believes himself to be free, but he is, in fact, governed by structures that go beyond him, and human action is ultimately determined by conditions that are independent of the individual’s free choice. To speak of freedom in Hegel’s terms will be possible when each individual recognises that his own interest is linked to a wider interest, which is the common good, when he satisfies his own partial interests and at the same time achieves and seeks the will of the universal. In other words, the individual obtains his freedom only as a citizen who must conform to the laws of the State, on condition that these laws express his own existence, otherwise, he will have the right to resist them and refuse to obey them on the horizon of their revision or modification.
Keywords: Hegel – freedom – law – civil society – the state – the right of resistance.
1- مقدمة:
يحيلنا سؤال الحرية في فلسفة الحق عند هيجل على فكرة أساس وهي أن من بين الأشياء التي تحدد الكائن الإنساني هو الوجود مع الأخرين، وجود تنبثق داخله اختيارات واتجاهات تتقاطع فيما بينها على أساس التفاعل بين الذوات. تنبثق الحريّة داخل هذا الفضاء باعتبارها اختيارات ذاتية، لكنها محكومة بشرط التعايش مع الاختيارات الذاتية للأفراد الآخرين؛ فالحديث عن الحرية لا يكون خارج مجال التفاعل بين الذوات، وخارج ما يكون مشتركا بينهم، والمشترك هنا ليس سوى القانون الذي يقرره هؤلاء لأنفسهم.
تتعلق الحرية بالقانون الّذي يمثل شرطا لازما لتحققها؛ فالإنسان يمتلك استعدادا للحرية، ولا يحيا وجودا حرا إلا من خلال الامتثال للقانون الذي هو نتاج للفاعلية البشرية. في هذا السياق، يبرز هيجل محدودية التصور الذي يجعل من القانون شرا ومن سيادة القوانين حالة من الانحلال والظلم، يقول “يظن بعض الأشخاص أن القوانين ما هي إلا شرّ ومعصية. فبالنسبة إليهم أن تحكم أو أن تكون محكوما بفضل الحب الطبيعي أو بفضل الحق الإلهي أو بفضل حيازة لقب النبالة الوراثي، يمثل الحالة الأصليّة للأشياء التي وحدها أسست على الايمان والثقة، على العكس من ذلك، فسيادة القوانين لا تدل في نظرهم سوى على حالة من الانحلال والظلم”[1]. ويؤكد في المقابل أن القانون ليس شرا بل علاقة جوهرية تحكم وجود الكائنات وتعبر عن الاستعداد الحر عند الإنسان، يقول هيجل في هذا الصدد” يظهر أن هؤلاء الأشخاص (أولئك الذين يجعلون من القانون شرا) يجهلون وضعا معينا وهو أن النجوم والحيوانات محكومة بالقوانين […] لكن هذه القوانين مع ذلك لا تعدو أن تكون داخلية، ليست من أجل ذاتها، وليس بوصفها قوانين وضعت بقصد منها. لكن الانسان له وجود مختلف لكونه قادر أن يضع لنفسه قوانين يعرف علة وجودها ولا يخضع لقوانين لا يعترف بمدى عدالتها”[2].
إن الإنسان مثله مثل باقي الموجودات، محكوم في وجوده بالقوانين، لكن ما يجعله يسمو على هذه الموجودات هو كونه كائنا حرا يمتلك استعدادا ذاتيا للحرية ويسعى الى تحقيق هذه الحرية موضوعيا. ارتباط الحرية بالذاتي والموضوعي يجعل من الإنسان الكائن الوحيد الذي يضع وجوده تحت سيادة القوانين التي ينشئها بنفسه وفق غايات يكون على معرفة بها، كما يمتلك في ألان نفسه الخاصية الأخلاقية التي تجعله يرفض الخضوع للقوانين التي لا تطابق تصوره لما هو خير وما هو عدل. إن القوانين في هذا السياق ليست شرا يتعارض مع ماهية الإنسان، بل هي من صميم هذه الماهية مادامت تعبر عن الحرية.
يتأطّر ارتباط الحرية بالقانون عند هيجل ضمن إشكالية محورية في فلسفة الحق وهي الإشكالية المتعلقة بالحرية وإمكان تحققها. تبرز معالم هذه الإشكالية من خلال التمييز الذي يقيمه هيجل بين ” الحرية المدنية civil liberty والحرية السياسية Political freedom […] من خلال اللجوء إلى التمييز المبتكر والأصيل بين المجتمع المدني والدولة “[3]. والهدف من هذا التمييز هو “تبرير النظام السياسي الحديث بمفهوم مزدوج للحرية: الحرية المدنية/الحرية السياسية liberty/freedom. يعترف هيجل بالحرية الفردية الحديثة باعتبارها السمة المميزة للعيش الليبرالي في الدولة كمجتمع مدني ويصف هذه الحرية بأنها “حرية ذاتية”، ويعترف بالحاجة إلى شكل خاص من الحرية يتجاوز الحرية الفردية المتاحة في المجتمع المدني ويحتفظ بها في الوقت نفسه “[4]. بهذا المعنى لا ينبغي في نظر هيجل، خلافا لما يذهب إليه الليبراليون، اختزال الحرية في إطار التفاعلات التي تحكم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع المدني حيث يسعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته الخاصة وممارسة حريته الفردية، هذه الحرية في نظره تبقى أساسية لكنها لا تأخذ كامل معناها إلا عندما تتحول الى حرية سياسية. يضعنا هذا التصور أمام فكرة أساس عند هيجل وهي احتواء الحرية السياسية للحرية المدنية على اعتبار أن ما يحدد المجتمع المدني “مفهوميا وواقعيا هو كونه لا يوجد منفصلا عن الدولة الحديثة”[5]. فالدولة عند هيجل تمثل الأساس الحقيقي للمجتمع المدني وليس العكس، فهي التي أرادت “خلق المجتمع المدني بوصفه عالم اجتماعي -اقتصادي حيث تحقق الجزئية الفردية إشباعها في جوانبها المتعددة.”[6]. بمعنى أنه مع بزوغ عصر الحداثة سيبرز مجال خاص ومستقل يعبر عن الحرية الفردية ويجسدها وهو المجتمع المدني، لكن يبقى هذا التجسيد متعلقا بوجود الدولة حيث تصل الحرية الى تحققها الفعلي.
الحديث عن الحرية إذن يقتضي استحضار مفهوميها المدني والسياسي من داخل التقابل الذي يقيمه هيجل بين المجتمع المدني والدولة في أفق بلورة مفهوم الحرية في علاقته بالامتثال للقانون. في هذا السياق ستكون مقاربتنا لمفهوم الحرية موجهة بالإشكالية التالية:
يمتلك الإنسان من منظور فلسفة الحق عند هيجل طبيعة خاصة قوامها الحرية المشروطة بالامتثال للقانون، فما طبيعة هذه الحرية كما يتصورها هيجل؟ هل ينبغي اختزال الحرية في حدود الامتثال للقانون السياسي؟ وإذا كان الأمر كذلك فمتى يكون هذا القانون تمثيلا للحرية ومتى يكون نفيا لها؟ بصيغة أخرى يمكن التساؤل عن ماذا يمكنني فعله؟ ما هو الواجب الذي يفترض مني أداؤه؟ متى يكون أداء هذا الواجب تأكيدا للحرية ومتى يكون نفيا لها؟ ما موقع كل من القانون في صورته الوضعية العينية من جهة والوعي الأخلاقي في صورته الذاتية الخالصة من جهة أخرى في توجيه الفعل لدى الفرد وتحديد ما هو حق وما هو خير؟
2- المجتمع المدني وحدود الحرية:
يتعلق الأمر بخصوص المجتمع المدني بمجال خاص يحكمه منطق الفردانية والبحث عن المصلحة الخاصة، إنه مجال الحرية الفردية الذي يعد أحد مكتسبات الحداثة وجوهرها. لا يمثل هذا المجال في نظر هيجل تهديدا لوحدة المجتمع، بل عكس ذلك فهو تجسيد لروح العصر الحديث، أي تجسيد لمبدأ الحرية الذي لم يعد حكرا على فئة دون أخرى. في هذا السياق ستكون كل محاولة لإضعاف هذا المجال بمثابة تهديد مباشر للنظام الاجتماعي والسياسي الذي يعكس روح الحداثة. إن المجتمع المدني، وكما يسعى هيجل إلى تحديده، يتميز “بطابعه الضروري والأساسي” وفي الآن نفسه “بخاصيته الخارجية والنسبية”، وبالتالي الطابع المحدود والمتناقض الذي يميزه خصوصا على مستوى الحرية وتحققها.
يقف هيجل خلال الفقرتين 182و183 من كتاب مبادئ فلسفة الحق عند مبدأي المجتمع المدني:
يتعلق المبدأ الأول بالشخص في وجوده العيني، أي في وجوده الجزئي الخاص، حيث يكون غاية بالنسبة إلى نفسه، فهو يتحدد هنا كمجموعة من الحاجات، كمزيج بين الضرورة الطبيعية والهوى الفردي. أما المبدأ الثاني فيتعلق بصورة الكلية التي تلعب دور الوسيط التي من خلالها يشبع الفرد حاجاته.
بخصوص المبدأ الأول، نجد أن الشخص في وجوده العيني يظهر وكأنه ليس له من تحديد آخر سوى كونه منتجا ومستهلكا، فهو هنا كأنه مفصول عن كل سياق تاريخي وروحي، فهو محدد ذاتيا فقط بمجموعة من الرغبات والميولات، وحريته مجردة وصورية لا تحيل إلاّ على الهوى الفردي libre arbitre. يحيل هنا الهوى الفردي على الإنسان من حيث كونه يستطيع أن يفعل ما يشاء، وهذا في الحقيقة ما يدعوه بادئ الرأي بالحرية. لكن هل يستطيع الإنسان فعلا أن يفعل ما يشاء؟ الجواب عند هيجل سيكون بالسلب، لأننا نستطيع أن نريد كل شيء، أي نستطيع أن نوجه إرادتنا نحو أشياء عدة، لكن يتحتم علينا في الأخير أن نقرر بخصوص جانب محدد فقط من مضمون الإرادة الحرة. يصبح من خلال ذلك الهوى الفردي بوصفه حرية متناقضا مادام ما تقرره الذات لا يكون معبرا عن المضمون الكلي للإرادة الحرة واختياراتها. في هذا المستوى سنبقى في حدود ما يتصوره أنصار النزعة الحتمية، فهم يقولون بأن “فعل الاختيار ليس محددا بالحرية، التي تبقى مجرد لفظ، ومجرد مطلب نظري غير قابل للتحقق، أو لنقل مجرد وهم، فما يحدد هذا الفعل هو معطى خارجي أو داخلي. يتجلى المعطى الخارجي في الشروط الاجتماعية التي تحدد الإنسان، أما المعطى الداخلي فيتجلى في الشروط البيولوجية، الوراثة…”[7] هذا الاعتراض على إمكان الحرية يبقى صحيحا بالنسبة للهوى الفردي، لأن الحرية بهذا المعنى تتضمن في ذاتها تناقضات تعيق إمكان تحققها، وينتج عن ذلك تعليق كل إمكانية للمبادرة، ويصبح الفعل الإنساني محددا بعوامل أخرى غير الحرية، بمعنى تحدده شروط مستقلة عن الإرادة الحرة للفرد.
أما بخصوص صورة الكلية التي تلعب دور الوسيط بين الفرد وإشباع حاجاته، نجد هيجل يحيل على المجتمع المدني حيث “كل فرد فيه هو غاية نفسه، وكل شيء آخر هو لا شيء بالنسبة له، غير أنه لا يستطيع أن يبلغ المجال الذي تقع فيه غاياته من دون العلاقة بالأخرين، ومن ثمة فهؤلاء هم وسائل لتحقيق غاية الفرد الجزئي”.[8] نجد من خلال ذلك أن الأفراد في سعيهم إلى تحقيق غاياتهم يقيمون “نظاما من الاعتماد المتبادل”، من خلاله يحققون مصالحهم الخاصة. يسمي هيجل هذا النظام بالدولة الخارجية، أي الدولة كما يراها الفهم والتي تقوم على أساس الحاجة؛ فوحدة الجزئي والكلي وحدة خارجية لا واعية محكومة بنسق الضرورة فقط، “ففي المجتمع المدني أتحرك من الخارج (ولهذا يسميه هيجل بالدولة الخارجية، أو دولة الفهم، أو عالم التفاعل بين الأفراد). مدفوعا بضغط خارجي من الظروف المحيطة بي، ومن هنا فإن الحرية التي تبدو أمام عيني ليست حرية حقيقية إنها ضغط أو قسر أو ضرورة لأن ما يحركني ويوجه نشاطي هو النظام الاجتماعي السائد والأوضاع الاقتصادية القائمة”[9]. يتحدث هيجل في هذا السياق عن الدولة الخارجية أو دولة الحاجة والفهم لأن الوحدة المتحصلة ليست بعد وحدة فعلية التي تستوجبها الدولة بمعناها الحق. فنسق الارتباط المتبادل ليس سوى وسيلة وليس غاية لإرادة مشتركة. فدولة الفهم “ليست تجمعا عضويا بل مجرد آلة؛ فوجود الشعب هنا لا يتوافق مع صورة الجسم العضوي، ولا مع تلك الثروة الحية لجماعة ما، إنه مجرد كثرة من الذرات […] عناصره ما هي إلا جواهر توجد في تعارض مطلق”[10]. إنها بتعبير آخر ما نسميه بالمجتمع المدني الذي يتوحد فيه الأفراد انطلاقا من الوعي بكون مصلحة كل فرد تتعلق بمصلحة الأفراد الأخرين، فالفرد هنا لا يحترم القانون الذي تجسده التعاقدات، ولا يتعاون مع الأخرين إلا بغرض إشباع مصالحه الخاصة. المجتمع المدني إذن هو الدولة ولكن في معنى خاص وهو كونها مجرد وسيلة تحكمها التعاقدات التي يقيمها الأفراد فيما بينهم في سبيل ضمان الوحدة بينهم، على أساس أن يحقق كل فرد مصلحته الخاصة في انسجام مع مصلحة الأفراد الأخرين، والوحدة التي تجمع هؤلاء ليست وحدة سياسية بل وحدة على شاكلة الاتحاد الذي يكون فقط من أجل المصلحة الفردية الخاصة. فما هو جوهري في المجتمع المدني هو الفرد والمصلحة الخاصة أما الدولة فما هي إلا شيء عرضي يخضع لأهواء الأفراد.
يمثل المجتمع المدني المجال الخاص بالهوى الفردي، فمن خلاله سيبرز المبدأ الذي ميز الاقتصاد الليبرالي الحديث وهو “دعه يعمل Laisser Faire، دعه يمر Laisser Passer”، فكل فرد إلا وهو حر في أن يقرر لنفسه السبل التي تضمن له شروط بقائه، لكن كل فرد هو كذلك عبد لآليات الانتاج والاستهلاك، بمعنى محكوم بقانون الحتمية، هذا القانون الذي يجعل الهوى الفردي متناقض في ذاته، فالفرد يزعم أنه حر لكنه في الحقيقة محكوم ببنيات تتجاوزه، يعتقد أنه حر وهو يسعى لمصلحته الخاصة “لأنه لا يسعى لتحقيق شيء سوى ذاته أو هكذا يعتقد المذهب الفردي، ولكنك لو تأملت هذا النظام قليلا لوجدت أن كل فرد يضغط عليه الآخرون من الخارج، وأن النظام الاجتماعي والاقتصادي يحدد مجال الفعل لكل منهم ومن ثم يوجه نشاط كل منهم”[11].
يبقى الهوى الفردي في حدود الطبيعة مادام لا يبحث سوى عن إشباع رغبات جزئية. لكن الرغبات ليست مجرد معطيات مباشرة، فهي تتضمن في ذاتها إمكان التحول من الجزئي نحو الكلي، فهي التي تخرج الإنسان من وجوده المباشر، وتمنحه باعثا للفعل الذاتي، وتمكنه من الفعل داخل المجتمع ومن ثمة تحقيق غاية كليّة. لكن إشباع الرغبات لا يحقق هذه الغاية الكلية إلاّ إذا تجاوز كونه إشباعا مباشرا، ولتحقيق ذلك لابد من وسيط وهو الشغل، حيث تبرز الفاعليّة الإنسانيّة الموجهة نحو الكلي، بمعنى خلق واقع، فلا يكون الإشباع الفردي ممكنا إلا عبر تحقيق غاية كلية “فالشغل التزام، وليس مجرد حياة مباشرة كحياة الرغبات، في الشغل ينبغي الخضوع لقواعد والمشاركة داخل جماعة[12]، إنه وسيلة لتربية الإنسان على الحرية، الحرية الحقة وليس مجرد الهوى الفردي، وسيلة للتربية “لأنه يحول انتباه الأفراد من الإرضاء الفردي والسلبي وجعلهم يشاركون في إرضاء كلي”[13] من خلال الشغل يحقق الأفراد وعيهم بجودهم الكلي، فوجود الفرد يتعلق بوجود الاخرين، ومن خلال ذلك يصبح هؤلاء قادرين على أن يصبحوا مواطنين أحرار في الدولة الحديثة، عبر وسيط وهو الجماعات المهنية les corporations.
مجمل القول هو إن الشخص العيني، من حيث هو عضو في المجتمع المدني، ليس له من غاية سوى ذاته، لكنه لا يستطيع أن يدفع بهذا الغاية نحو التحقق إلا من خلال الآخرين، أي بمعونة الكلي الذي يتعلق به الفرد على وجه الضرورة وبرابطة خارجية وصورية، ويمثل هذا الكلي خطوة أساس نحو الحرية الحقة التي تتحقق لدى الأفراد حين يتحقق لديهم الوعي بكونهم مواطنين داخل الدولة. سينبعث هذا الوعي من داخل تناقضات المجتمع المدني، فإذا كانت المصلحة الخاصة هي ما يحكم علاقات الأفراد داخل هذا المجتمع، فإنه سيترتب عنها العديد من التناقضات ستكون مرحلة أساس في بلورة مفهوم الدولة من حيث طبيعتها الجوهرية “فعندما تهيمن الحرية في صورتها الجزئية الخاصة l’arbitraire (الليبرالية المطلقة) فإنها بذلك تحمل في ذاتها أسباب اندحارها”[14]، بمعنى أسباب التحول من المجتمع المدني الى الدولة في معناها الحصري، حيث يصل المجتمع الى الوعي بتناقضاته ويحقق من ثمة وحدة عضوية بين مختلف الأجزاء المكونة له، وحدة يدرك من خلالها الفرد بأن مصيره هو” أن يحيى حياة كلية”. ماهية هذه الدولة (وهي الدولة الحديثة) كما يقول هيجل هي ” اتحاد الكلي بالحرية الكاملة لما هو جزئي وبرفاه الأفراد، ينبغي إذن لمصلحة كلّ من الأسرة والمجتمع المدني أن تجد تحققها في الدولة”[15]. إن الدولة بهذا المعنى هي التحقق الفعلي للحرية، أي تلك الحرية التي تكون ممكنة عندما يشبع الفرد مصالحه الذاتية مثلما كان يشبعها في الأسرة والمجتمع المدني، وعندما يحقق في الآن نفسه إرادة الكلي ويسعى إليه. في هذا السياق فالدولة ليست مجرد دولة خارجية مثلما هو الأمر في المجتمع المدني، ليست مجرد شيء خارجي مستقل عن وجود الأفراد، إنها وحدة الكلي والجزئي، أي الوحدة التي يصير فيها ما هو جزئي متضمنا في الكلي “فالعبور من الهوى الفردي الى الإرادة الحرة يجسد لحظة تحقق العقل من خلال الاحتفاظ والتجاوز”[16] (وهي لحظة تحقق الحرية بمعناها الحق عند هيجل). هذا الربط بين الحرية والعقل لا يعني أن تحقق الحرية يقوم على استبعاد الرغبات والانفعالات والميول “بل ينبغي فسح المجال أمامها كي تتطور بكيفية حرة librement. من خلال هذا التطور الحر سيتم الإحساس بعدم كفاية الجزئي وستبرز قوة الكلي والفكر”. إذا لم يحصل هذا التطابق، وهو وحدة الجزئي والكلي من داخل قاعدة الاحتفاظ والتجاوز التي يجسدها قانون الدولة، ستصبح هذه الأخيرة بتعبير هيجل “معلقة في الهواء”، بمعنى لن تكون سوى الدولة الخارجية التي تجسدت في المجتمع المدني.
3- الحرية وواجب الامتثال للقانون:
تتيح الدولة من حيث طبيعتها الجوهرية للفرد أن يحيى حياة كليّة من خلال إرادة الكليّ، إنها الدولة “بوصفها العضوية الحية القائمة بذاتها، هي الدستور أو القانون الداخلي”[17]، إنها عبارة عن جسم حي تتوزع من خلاله حقوق الأفراد وواجباتهم، أفراد من حيث هم مواطنين يكون وجودهم شبيها بأعضاء الجسم التي لا يمكنها أن تحقق وجودها الحي (الذي هو الحرية بالنسبة للأفراد) إلا في ارتباطها به عضويا. من هنا فالمواطن لا يحقق حريته، أي وجوده الخاص، إلا في ارتباطه بإرادة الكل، أي في خضوعه للقوانين التي تسنها الدولة، فهو عندما يطيع القانون فهو لا يخضع سوى لإرادته ” فعلى الأفراد واجبات تجاه الدولة بمقدار ما لهم من حقوق”[18].
يكمن جوهر الدولة في القانون، وحرية الأفراد تكمن في الخضوع لهذا القانون وكأنه طبيعة ثانية بالنسبة لهم، فالفرد لا يحقق حريته إلا عندما يتحقق لديه الوعي بكونه مواطنا داخل دولة ذات قوانين عليه الخضوع لها، قوانين لا ينبغي النظر إليها وكأنها أوامر تقيد الحرية بل باعتبارها شرطا لتحققها. إن القوانين كما يقول هيجل “ليست شيئا غريبا عن الذات بل، على العكس، إن الذات تشهد عليها بوصفها ماهيتها الخاصة، بمعنى الماهية التي تشعر فيها الذات بذاتيتها”. إن القوانين عند هيجل كما يقول فليب سوال Philippe Soual “تحرر الذات من الهوى الطبيعي وتسموا بها الى الحرية الأخلاقية الحقة، تلك الحرية المؤسسة على الحق الطبيعي والمعبر عنها في القوانين”[19]. هذه الفكرة لا تختلف عما نجده عند جون لوك عندما يؤكد أن “القانون، في مفهومه الحق، ليس وضعا لحدود بقدر ما هو توجيه للفاعل الحر والذكي نحو مصلحته الخاصة […] غاية القانون لا تقوم على الإلغاء أو الإكراه وإنما في المحافظة على الحرية وتنميتها […] فحيث لا وجود للقانون فلا وجود للحرية”[20].
تمثل الدولة بقوانينها ومؤسساتها الجوهر الأخلاقي الذي من خلاله تتحدد الواجبات والحقوق. يرتبط الأفراد بهذا الجوهر مثلما ترتبط الأعراض بالجوهر، فهو يجسد إرادة الأفراد وحريتهم، كما يجسد القوة التي تعلو على الأفراد وتكون ملزمة لهم جميعا “فسواء وجد الفرد أو لم يوجد فذلك لا يمس النظام الأخلاقي الموضوعي، فهذا النظام هو وحده الدائم وهو القوة التي تنظم حياة الأفراد”[21]. هذه القوة وإن كانت تقوم على سلطة الإلزام، فهو إلزام ينبع من القانون “الذي يلزمني، من حيث المبدأ، بالحرية في كل لحظة من لحظاتها، إلزام يقوم على التحرر من الذاتية اللامحددة ومن طبيعانية الهوى الفردي “[22].
يتعلق الوجود الأخلاقي للفرد بهذا النظام الأخلاقي الموضوعي، الذي تجسده مؤسسات الدولة وقوانينها، فإمكانية الفعل وأداء الواجب لن يكون ممكنا بالنسبة إلى هيجل إلا عندما ننظر إلى الفرد بصفته مواطنا يؤدي واجبه احتراما للقانون، فهذا الأخير يمثل نظام ما هو حق وما هو خير، وبالتالي فكل حديث عن الأخلاق لا ينفّصل عن إطار أشمل يستوعبها وهو القانون. في هذا المستوى نجد لدى هيجل تصورا مختلفا عن كانط، الّذي ينظر إلى الأخلاق من زاوية العقل العملي الذي يمكن من خلاله تصور مجتمع “تغيب فيه وساطة القوانين الوضعية والمؤسسات والرموز الدينية المألوفة، مجتمع يصبح فيه الشخص الأخلاقي مشرعا وفي الوقت ذاته ذاتا خاضعة لهذا التشريع. تلك هي مملكة الحرية التي يسميها أيضا المملكة الأخلاقية”[23]، في هذا السياق يؤكد كانط ” أننا نكون أعضاء مشرعين داخل مملكة أخلاقية ممكنة بواسطة الحرية يعرضها علينا العقل العملي كموضوع جدير بالاحترام، لكننا أيضا نكون رعايا أي خاضعين لتشريعنا ذاك”[24]. مرجعية الأخلاق عند كانط تبقى مرجعية عقلية خالصة، هذا الأمر سيكون منطلقا لهيجل في نقده لكانط، إذ أن هذا الأخير في نظر هيجل لم يمنح للأفراد موجها عمليا للسلوك، فما يحتاجه هؤلاء هو نظام أخلاقي موضوعي موجه لما هو حق وما هو خير. يتعلق هذا النقد بنظرية كانط حول الأمر القطعي نظرا لطابعه الصوري، رغم أن نقد هيجل لا يعني رفضا كليا لهذه النظرية؛ ففي الفقرة 135 من كتاب مبادئ فلسفة الحق نجد لدى هيجل إشادة بالمفهوم الكانطي للحرية من حيث كونها تحيل على التحديد الذاتي autodétermination كشرط للإلزام، لكنه يعيب على كانط كونه لم يربط نظريته بمجال العرف Sittlichkeit[25] مما جعلها نظرية صورية فارغة. إنها بتعبير أكسيل هونيث Axel Honneth تلك النظرية حيث يكون القانون الأخلاقي في “عمى السياق aveugle au contexte”[26]. يفيد هذا الأمر، من منظور هيجل، أن الفرد يوجد دائما في سياق محدد، أي في بيئة اجتماعية ومؤسساتية محددة، تقوم على مجموعة من المعايير: أخلاقية، قانونية، دينية. هذا السياق يمثل إطارا موجها للفرد في أدائه لفعل معين، على عكس الأمر القطعي الذي إذا ربطنا به قدرة الفرد على الفعل، فإننا سنضع هذا الأخير أمام محدد فارغ. إن فمعايير الفعل عند هيجل ليست معطاة قبليا بل معطاة موضوعيا في عالم العرف بمؤسساته المختلفة، ولا يتعلق الأمر هنا بنزعة كونية مطلقة ذات صلاحية تتجاوز حدود الزمان والمكان، بل يتعلق بإطار موضوعي مشروط بالوضع التاريخي والجغرافي وروح الشعب. إن هذا السياق، إذن، من حيث كونه يحيل على النظام الأخلاقي الموضوعي يمثل الإطار الذي يمكن أن تتحقق فيه الحرية، رغم ما يستلزمه ذلك من خضوع وطاعة للقانون قد يظهر وكأنه نوع من العبودية الطوعية. في غياب هذا النظام الموضوعي يجد الفرد نفسه أمام تجربة قلق أخلاقي، ومثل هذه التجربة تولد في نظر هيجل” حنينا لنظام موضوعي ينحدر فيه الكائن الإنساني بنفسه طواعية الى مرتبة العبودية والخضوع الكامل بغرض الإفلات من عذاب الخواء والسلب”[27].
يتجسد النظام الأخلاقي الموضوعي في عالم العرف الذي من خلاله يكتسب الأفراد هوية أخلاقية هي عبارة عن استعداد أخلاقي يترجم في صورة سلوك اجتماعي وهو أداء الواجب وفقا للقانون، من خلالها يدرك الفرد “الكلي من حيث هو الغاية التي تحرك سلوكه […] كما انه يعرف أن كرامته، وكذا بقاء غاياته الجزئية، يكون على أساس هذا الكلي نفسه”[28]. عبر هذه الهوية إذن يشارك الفرد في الحياة الأخلاقية للجماعة من خلال ما يتخذه من قرارات أخلاقية تحدد واجباته، ومن خلال ما يعكسه في سلوكه من قيم تحظى باعتراف الجماعة، تلك القيم التي توجه السلوك وتقومه في الآن نفسه.
ينشأ هذا الاستعداد الأخلاقي لدى الفرد من خلال التربية التي يكمن دورها في أن تجعل من الفرد عضوا في المجتمع، يؤدي واجبه في صورة سلوكات تكون عبارة عن عادات موافقة للعرف السائد الذي تجسده القوانين. فوظيفة التربية هي أن تجعل الطفل يتجاوز ميوله الطبيعية وأن يكتسب ميولات واتجاهات تصبح بالنسبة له عبارة عن طبيعة ثانية، من خلالها يصبح الفرد على معرفة بما هو حق وبما هو خير ويوجه سلوكه وفق ما يجب فعله، فالتربية كما يقول هيجل هي “فن صناعة الرجال من الناحية الأخلاقية، تفحص الإنسان من حيث هو كائن طبيعي، وتريه الطريق الى ميلاد جديد، بمعنى الطريق الى تغيير طبيعته الأولى الى طبيعة ثانية روحية، وذلك بالشكل الذي يجعل من هذه الطبيعة الروحية عادة بالنسبة له”[29]. من خلال التربية يصبح الفرد في علاقة عضوية مع الكل الذي ينتمي إليه، تصبح إرادته متوافقة مع إرادة الدولة. هذا التوافق يعبر عنه القانون من حيث هو تجسيد خارجي لإرادة الدولة وتمثيل داخلي لإرادة الفرد من حيث هو طبيعة ثانية له.
عندما يصبح سلوك الفرد مترسخا كطبيعة ثانية، عندما يمارسه الفرد وكأنه عادة، يصبح سلوكا فاضلا “فعندما يقوم الفرد بسلوك أخلاقي في هذه المناسبة أو تلك، فإن هذا السلوك لا يكون سلوكا فاضلا إلا عندما يصبح عنصرا راسخا في شخصيته”[30]، بمعنى أن الفرد يصير فاضلا حينما ينعكس النظام الأخلاقي في شخصيته ويكون متأصلا فيها، أي عندما تتداخل شخصيته مع القيم الأخلاقية ذات السلطة في الحياة المشتركة بين الناس. تتعلق الفضيلة إذن حسب هيجل بمدى قدرة الفعل الأخلاقي على أن يعكس القيم والعادات التي تحظى بالقبول داخل المجتمع وكأنها طبيعة ثانية بالنسبة للأفراد، فالفضيلة هي توافق السلوك مع العرف السائد، هي أداء الواجب وفق ما يتوقع كل فرد أن يلاحظه، إنها بمعنى آخر توافق السلوك مع ما يستوجبه القانون، يتعلق الأمر هنا بما يمكن أن نسميه بالاستقامة القانونية التي هي الوجه الأخر لما ندعوه بالفضيلة حسب تصور هيجل والذي يختلف بشكل صريح عما نجده لدى كانط الذي يرفض ربط الفضيلة بالقوانين السياسية معتبرا في المقابل أنها تتعلق فقط بالموقف الأخلاقي، فالفضيلة في نظره “لا تقوم على الاستقامة القانونية، بل على القصد الداخلي. فقد يكون شخص ما مواطنا صالحا، كما تكون أفعاله متميزة بالاستقامة القانونية. لكن ذلك لا يجعل منه إنسانا فاضلا. لذلك، يجب ألا نندفع ونستنتج خيرية القصد انطلاقا من الأفعال الخارجية وحدها ومن استقامتها القانونية. فمن يفي بوعوده خوفا من العقاب أو من ضرر يلحقه […] يقوم بكل تأكيد بفعل حسن في ذاته. لكن هل يطبق هذا الإنسان القانون؟ لن يكون الجواب إلا مزدوجا: فهو يطبق القانون فعلا. لكن ليس بشكل أخلاقي. وهكذا، حينما ندرك الضرورة الأخلاقية لفعل أخلاقي، فإننا نلاحظ أنه بمقدورنا القيام بهذا الفعل إما بمعنى قانوني أو أخلاقي. في الحالة الأولى، يكون الفعل مطابقا للقانون دون أن يطابق القصد الداخلي. لذلك، نقول إن القوانين لازالت تنقصها الأخلاقية”[31].
تتحقق الفضيلة عندما يمتلك الفرد استعدادا أخلاقيا لأداء السلوك من حيث هو عادة، ويفترض هذا الاستعداد الإحالة على إرادة موضوعية يمثلها عالم العرف الذي تجسده الدولة بمؤسساتها وقوانينها، كما يفترض الإحالة على إرادة الفرد وما يتعلق بها من قصد ومسؤولية.
يحيل القصد على المضمون الذي يحققه الفعل، أي الباعث على القيام بفعل ما وما يمنحه طابعه الأخلاقي والاجتماعي، فالفعل لا يكون أخلاقيا ما لم يكشف عما تنويه الذات في فعلها. يتعلق القصد بوجود اهتمام شخصي والسعي الى تحقيقه، إنه اللحظة التي تبرز فيها الغايات الشخصية التي هي أساس الحرية الذاتية والمبدأ الذي يقوم عليه المجتمع المدني. لكن الفرد في قصده لغايات خاصة وسعيه الى تحقيقها ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار توافق غاياته مع غايات الأخرين، بمعنى أن يكون تحقيق غاياته وفق مبادئ الحق والعدالة. في هذا السياق يرفض هيجل أن تترتب عن القصد أفعال مخالفة لهذه المبادئ، فليس مقبولا تبرير الأفعال الخاطئة انطلاقا من وجود نية أخلاقية خيرة، يقول هيجل في هذا الصدد “هناك حكمة خبيثة pernicieuse لها صدى في عصرنا تريد أن تجد مبررا لما يسمى بالنية الأخلاقية الكامنة خلف الأفعال المخالفة للحق”[32]. فلو قام شخص ما بسرقة الجلد، كما فعل القديس كربين saint Crépin، ليصنع أحذية للفقراء فسيكون سلوكه “أخلاقي ومخالف للحق، وبالتالي يفتقد الصلاحية”[33]، بمعنى أن الفعل لا يحدده القصد فقط بل توافقه مع ما هو حق، فالأساس الذي يقوم عليه العالم الحديث هو احترام القانون، فلا مجال هنا للقديسين والأبطال الذين يتميزون بقدرات خارقة تمنحهم مكانة أخلاقية اعتبارية وتجعل سلوكهم خارج إطار المسؤولية القانونية ” فالقديس كربين saint Crépin، الذي كان يسرق الجلد ليصنع أحذية للفقراء، سينتهي به الأمر اليوم في السجن: فذاك الذي كان في العصر الوسيط بطلا من منظور الأخلاق، سيكون مصيره، في العالم الحديث، إخضاع فعله لقوة القانون ومعاملته كلص”[34]. إن النوايا الأخلاقية ما هي إلا الوجه الآخر لما نسميه بالأوامر الأخلاقية، كالأمر الذي يوجب علينا مثلا مساعدة الفقراء، لكن هذه الأوامر تبقى فقط في حدود “ما يجب أن يكون، وليس لها أي وجود واقعي فعلي، ليست بالتحديد قوانين، هي مجرد أوامر”[35]، والأمر الأخلاقي يتميز بعرضيته، فحتى لو افترضنا خيرية الإرادة عند الفرد فليس هناك ما يمنع من أن يتحول القصد الأخلاقي الخير الى نقيضه. يرفض هيجل الأمر الأخلاقي الذي يوجب مساعدة الفقراء مادام أن الفعل يتنافى مع القانون ولو أن القصد فيه خير (حالة القديس كربين مثلا)، ومبرر هذا الرفض هو كون أداء الواجب يفترض وجود فقراء، لكنه في نفس الوقت يفترض القضاء على الفقر وهذا أمر متناقض في ذاته لأنه لن يكون هناك أداء للواجب في صورته الكونية الذي يوجب علينا مساعدة الفقراء، في هذا السياق يقول هيجل” إذا كان من الضروري الإبقاء على الفقر لكي تكون هناك إمكانية لأداء الواجب المتعلق بمساعدة الفقراء، فإن هذا الإبقاء في حد ذاته يتعارض مباشرة مع أداء الواجب”[36]. للخروج من هذا الاحراج النظري يجب تجاوز الموقف الأخلاقي، أي الانتقال من موقف الأخلاق الذاتية الى الوجود الموضوعي الذي تجسده الحياة الأخلاقية داخل الدولة، فعوض الحديث عن الأمر الأخلاقي الذي يوجب مساعدة الفقراء يجب أن نتحدث عن نظام أخلاقي لا يترك أي مجال للفقر، وبالتالي لأي أمر يوجب إعانة الفقراء. ففشل المؤسسات السياسية هو الذي يعطي إمكانية للموقف الأخلاقي لكي يأخذ موقعا في وعي الأفراد، بحيث يعمل على “بعث نوع من الارتياح في مجال التفاوتات المنتجة للفقر داخل المجتمع المدني”[37].
يكون الفعل أخلاقيا مادام يعكس غاية الفعل التي تجعل الفاعل مسؤولا عن فعله، فأنا أكون مسؤولا عن الفعل بقدر ما يعكس الغرض الذي كنت أسعى إليه. فإذا أدى الفعل الذي قمت به الى نتائج معينة ليست جزءا من القصد الموجه للفعل أو كنت أجهلها عندما شرعت في الفعل فإنني لا أستطيع أن أدعي أنّها من صميم الفعل الذي أتحمل مسؤوليته. فكي يكون الفرد مسؤولا عن فعل قام به لابد أن يكون هو صاحبه، أي صادرا عن إرادته التي تعرف أن الفعل فعلها، يكون مسؤولا عن الفعل بمقدار ما تكون النتائج جزءا من الغايات التي يضعها لنفسه والتي تمثل العلة المباشرة لحدوث تلك النتائج. تفترض المسؤولية وجود علاقة سببية بين غايات الفعل ونتائجه، ويفترض في تلك الغايات “حق الإرادة ألا تعترف في فعلها إلا ما تعرفه حول الافتراضات المسبقة للفعل”[38]، لذلك لا نعتبر الأطفال والمجانين مسؤولين عن أفعالهم، كما لا نتهم أوديب بقتل والده لأنه لم يكن على معرفة به عندما قتله. كما يفترض أنّ النتائج تعكس نية الفاعل وإرادته أما إذا كان الأمر بخلاف ذلك فلا مجال للحديث عن المسؤولية مثلما يحصل أن يكون من نتائج الفعل “ما هو مفروض من الخارج ويضاف بكيفية عرضية، ولا يرتبط على الإطلاق بطبيعة الفعل نفسه”[39].
يحيلنا كلّ من القصد والمسؤولية على إرادة الفرد التي من خلالها يتحدد ما يمكن أداءه من واجبات، فالفرد عندما يؤدي واجبه فهو يؤديه عن قصد ووعي بالفعل الذي يفعله ويتحمل مسؤولية هذا الفعل. أداء الواجب بهذا المعنى عند هيجل لا يختلف عمّا نجده عند كانط، الفرق بينهما يتجلّى في كون مضمون الفعل الأخلاقي عند هيجل، أي ما يجب فعله لا يحدده العقل الأخلاقي العملي كما هو الأمر عند كانط، بل تحدده الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، أي قوانين هذه الجماعة التي اتخذت شكل عادات مترسخة في إرادة الأفراد.
4- الحرية وحق المقاومة:
يتبين أن الذات لا تشرع لنفسها ما يمكن فعله إلا انطلاقا ممّا هو محدد سلفا في عالم العرف، فهل يفيد ذلك احتواء ما هو كلّي لما هو ذاتي بالشكل الذي تنتفي معه كلّ إمكانية لاستقلالية الوعي الأخلاقي الفردي؟
للإجابة عن هذا السؤال نعود إلى افتراض أساس ينطلق منه هيجل وهو أن الفرد لا يكون سلوكه فاضلا ولا يحقق حريته إلا في وسط اجتماعي يكون نظامه الأخلاقي عقلانيا، صحيحا ومشروعا، بمعنى داخل دولة تكون قوانينها صالحة، في هذا السياق يشير هيجل إلى سؤال طرحه أحد الأباء على فيلسوف فيتاغوري بخصوص أفضل طريقة ممكنة لتربية ابنه، تربية أخلاقية فأجابه الفيلسوف الفيتاغوري “اجعله منه مواطنا في دولة ذات قوانين صالحة”[40]، فالمواطن الصالح إذن هو من يؤدي واجبه وفقا لقوانين صالحة، لكن ماذا لو كانت هذه القوانين غير صالحة لا تجسد ذلك الخير الحي الذي يعبر عن رغبات الناس وآمالهم واستعداداتهم الأخلاقية والروحية؟ هنا نجد هيجل يعتبر أن الوعي الأخلاقي الذاتي يصبح هو ملاذ الأفراد عندما تصبح الحياة الأخلاقية الموضوعية لا تلبي تطلعات الناس الى الحرية ولا تجسد لهم معاني الحق والخير. العودة الى الوعي الأخلاقي واعتباره المصدر الوحيد للتشريع الأخلاقي يفرض نفسه في كلّ المرات التي يجد فيها الفرد أن المعايير الموجهة للسلوك داخل البيئة الاجتماعية، تبدو فاقدة لطابع المعقولية. هنا نكون أمام أزمة، فيصبح الشكل الوحيد لتحقيق الحرية هو أخذ مسافة عن كلّ المعايير الموجودة، وتعليق صلاحيتها الاجتماعية، والتوجه إلى داخل الذات، وانطلاقا منها تحديد ما هو حق وما هو خير “ذلك أن ما هو حق وخير في الواقع الفعلي وفي الأعراف لم يعد يستجيب لوجود الإرادة على الشكل الأفضل”[41].
يحيلنا هيجل على شخصيات جسدت هذا التوق إلى الحرية ومواجهة النظام الأخلاقي الموضوعي، ونقف بهذا الصدد عند شخصيتين تنتميان الى العالم الثقافي للإغريق وهما: أنتكون (عالم التراجيديا) وسقراط (عالم الفلسفة).
يبرز هيجل أن التراجيديا تقابل لحظة تاريخية من لحظات المدينة اليونانية القديمة، وهي تلك اللحظة التي بدأ فيها الفساد يعمل عمله في صميم الحياة اليونانية، وبدأت تبرز للعيان بوادر عدم التوافق بين القوانين الأخلاقية والقوانين السياسية. ستتحطم تلك الوحدة الأصلية التي كانت تجمع بين المدينة والأسرة، بين الفردي والكلي. من قلب التراجيديا إذن سينبعث مبدأ الذاتية الفردية، والتراجيديا هنا تتمثل في قيام إرادتين أو وعيين ذاتيين، كل واحد منهما يتمسك بقانونه الخاص ويعمل على إنكار قانون الآخر. فالوعي الذاتي حين يعمل فهو يجد نفسه مضطرا للتخلي عن عالم الكلي من أجل النزول إلى عالم الجزئي، إن الفعل الذي يجسد هذا الوعي “تحريك للساكن، وتحقيق في الخارج لما كان في البدء محبوسا داخل دائرة الإمكان، وربط لما هو لاشعوري بما هو شعوري، أو لما هو غير موجود بما هو موجود”.[42] سيدب الخلاف بين الكلي والفردي، بين القانون البشري والقانون الإلهي عندما بدأ الفعل الأخلاقي في صورته الفردية يعبر عن نفسه داخل الكلي في مواجهة القانون البشري الذي هو القانون الوضعي للمدينة، وستكون قصة الصراع بين أنتيجون Antigone وكريون Créon أحسن تعبير عن هذا الخلاف بين القانون البشري والقانون الإلهي، فما يصفه هيجل من خلال القانونيين هو طبيعة المدينة القديمة ثم اندحار هذه المدينة والتعبير عن ذلك من خلال التراجيديا القديمة. يحدثنا هيجل عن هذا الصراع في فينومينولوجيا الروح في فصل يطلق عليه “الفعل الأخلاقي بين المعرفة البشرية والمعرفة الإلهية أو بين الخطيئة والمصير” سيبين من خلاله أن الفعل الأخلاقي سيكون سببا في إشاعة الاضطراب في نظام المدينة القديمة، سيكون هذا الفعل هو الوجه المعبر عن التعارض بين الأسرة والجماعة، بين قانونين مختلفين. فقد تجرأت أنتيجون على مخالفة أمر كريون، فإذا كان هذا الأخير، وهو بشر، لا يخشى الأمر الإلهي فإن أنتيجون ترى من جهتها أنه كيف يمكن لها أن تخشى أمر بشر طاغية. يقول كريون “إذن أنت تجرأت على تجاوز القانون الذي أنا أصدرته”[43]، وترد أنتيجون “نعم، فليس زيوس هو الذي أصدره […] كلا ليست هذه هي القوانين التي سنتها الالهة للناس ولم أعتقد أن أوامر الحظر التي تصدرها أنت هي من القوة بحيث تسمح لكائن فان بأن يتخطى قوانين أخرى، قوانين غير مكتوبة، لا تتزعزع، قوانين سنتها الآلهة”[44].
إن قراءة هيجل لقصة الصراع بين كريون وأنتيجون يكشف أنه إذا كان الفرد في المدينة اليونانية لا يملك أي وجود خاص فإنه من خلال هذه القصة سيعمد الى معارضة الجماعة والتمرد على الكلي، يظهر ذلك من خلال أنتيجون التي تحدت كريون ورفضت الانصياع لأوامره، فنحن هنا بإزاء أولى صور الصراع بين الفردي والكلي أو بين القانون الأخلاقي والقانون السياسي.
بخصوص سقراط يقول هيجل “إنه فقط في الأزمنة التي يكون فيها الوجود الفعلي وجودا فارغا، يشوبه غياب المعنى وعدم التماسك، يكون مسموحا للفرد، الذي غادر الوجود الحي لما هو فعلي، بأن يعانق الوجود الحي لما هو داخلي. فسقراط سيظهر في زمن فساد الديمقراطية الأثينية: سيعمل على تفكيك ما هو كائن وسيلجأ الى داخل ذاته بغرض أن يبحث فيها عن الحق والخير” يمثل هنا سقراط نموذجا حيا لبروز مبدأ الحرية الذاتية من داخل الحياة الأخلاقية الكلية التي بدأت تدب فيها ملامح تفككها انطلاقا مما عبر عنه هيجل هنا ب “فساد الديمقراطية الأثينية”، حيث بدأت الميول والمصالح الفردية تطغى على روح الجماعة وعلى الطابع الكلي لفعل أفرادها. إن حالة سقراط هنا لا تمثل حالة فردية خالصة، بل تجسد لحظة التعبير عن تراجيديا أثينا، لحظة الصراع بين قوتين: الأولى “يجسدها الحق الإلهي، العادة، الفضيلة، الدين، إرادة أن يحيى الإنسان حياة حرة من خلال الخضوع لقوانين بلاده، إنه ما يمكن أن نسميه بالحرية الموضوعية، أي الأخلاقية الواقعية”. القوة الثانية هي الحرية الذاتية “هي العقل في تلقائيته، الوعي من حيث قدرته على معرفة الخير ومعرفة الشر”.
ما قام به سقراط هو أنه أرجع حقيقة ما هو موضوعي إلى الوعي، إلى الذات المفكرة. ففي مقابل تلك الأخلاقية التلقائية التي جسدتها أنتيجون حيث الحقيقة والواجب أمور مباشرة لا تحتاج الى وسائط للكشف عنها، نجد لدى سقراط منظورا آخر للحقيقة والأخلاق من حيث هي نتاج للفكر، فوساطته أساسية في النموذج الذي يعبر عنه مبدأ الحرية الذاتية عند سقراط. المبدأ الذي يميز فلسفته حسب هيجل هو أنه “ينبغي على الإنسان أن يجد في ذاته وجهته، غايته، الغائية النهائية للعالم، الحقيقة…”[45]. قد نجد تقاربا بين سقراط والسفسطائيين من حيث العودة الى الذات وإتاحة اتخاذ القرار انطلاقا من سلطة الوعي لكن هذا التقارب لا ينفي اختلاف جذريا بينهما يتجلى في كون الحقيقة عند سقراط تتعالى على ما هو جزئي وعن المصالح والميول؛ فغاية فلسفته هي أن تؤسس لصورة الفعل الفردي من حيث هي صورة فعل له صلاحية كلية. وأن تعبر عن “اتجاه المرء للنظر الى داخل نفسه […] والى أن يعرف ويحدد من الداخل ما هو حق وما هو خير”[46].
تبرز هذه النزعة الأخلاقية الذاتية عندما يكون الحق والخير، اللذان يتجسدان في عالم العرف، لا يحققان المبادئ التي تتطلع إليها إرادة أفاضل الناس (سقراط مثلا)، أي عندما تجد هذه الإرادة نفسها أمام واجبات لا تتوافق مع ما تتطلع إليه بخصوص ما هو حق وما هو خير. في هذه الحالة فهي “تعود الى ذاتها، إلى حياتها الداخلية لكي تبحث عن ذلك الانسجام الذي فقدته في الواقع الفعلي”[47]. يكشف هذا الأمر عن منظور معين لفلسفة التاريخ عند هيجل، فلسفة تربط بين دينامية الفكر والتقدم التاريخي، فالسمة التي تميز تاريخ العالم هي “التطور الضروري انطلاقا من فكرة حرية الروح وحدها”[48]، في هذا السياق يتحدث هيجل عن قابلية الاكتمال وتربية الجنس البشري، ولا يكون ذلك إلا من خلال العودة الى الذات “فأولئك الذين يؤكدون فكرة قابلية الاكتمال هذه قد تنبأوا بشيء عن طبيعة الروح، شيء يقول إن طبيعتها هي أن يكون قانون وجودها مبدأ اعرف نفسك بنفسك وأن تكوِّن، من خلال إدراكها لما هي عليه، صورة أعلى من تلك التي تشكل وجودها”[49] يعبر هذا القول عن ذلك المبدأ السقراطي “اعرف نفسك” الذي هو لحظة العودة الى الذات، لحظة الفهم والتجاوز “فإكمال الفهم في مرحلة معينة هو في الوقت نفسه رفض لهذه المرحلة وتجاوز لها الى مرحلة أعلى”[50]، فالكلمة الأخيرة تكون بالعودة الى الذات التي تصنع اليقين النهائي. والتي يمكن لكل فرد أن يحققها في ذاته، فهو يمتلك القدرة على إدراك معنى الحق والخير، ومن ثمة فهو قادر على أن يصدر حكما أخلاقيا على النظام القائم بحسب ما إذا كان يحقق الحرية أم لا. والحرية لا تعني نفس الشيء في مختلف المراحل التاريخية، فكل عصر إلا وله مفهومه للحرية، والدولة لا تبنى إلا على أساس الاعتراف بهذه الحرية. هكذا نجد في العالم الحديث منظورا خاصا للحرية فهي من جهة تحيل على المساواة بين الناس، لذلك يمثل هذا العالم في نظر هيجل أعلى مرحلة في تحقق الحرية، وبالتالي يكون كل وعي حقيقي ما هو إلا وعي بهذه الحرية التي تقوم على المساواة (كل الناس أحرار)، ومن جهة أخرى فهي تلك الحرية التي بموجبها ” لا يلزم أن تكون التحديدات الأخلاقية والدينية تستلزم طاعة الفرد من حيث هي قوانين وتعليمات لسلطة خارجية فحسب، بل يلزم أن تجد لدى الفرد قبولا لها وإقرارا بها في قلبه واستعداده الداخلي ووعيه الأخلاقي”[51]. لقد أصبح مبدأ الحرية في العصر الحديث محددا للأمور المتعلقة بالوجود الكلي للأفراد، تلك الأمور التي لم تعد “تستمد سلطتها من القوة، وإنما تستمدها في حد أدنى من العادة والعرف الأخلاقي وبقوة أعلى من التعقل وتقديم الحجج”[52].
إن الوعي الأخلاقي لدى الفرد يمكن أن يكون ملاذا لتحقيق الانسجام الذي فقده الفرد في الحياة الواقعية، كما يمكن أن يكون عاملا في كلّ إصلاح أو تغيير سياسي، غير أن هذه الإمكانية أصبحت في العصر الحديث تفترض معيارية تبرر اختيارات الأفراد وتوجه أحكامهم. هذه المعيارية هي نتاج التاريخ من حيث هو تاريخ الوعي بالحرية التي أصبحت مبدأ متحققا في العصر الحديث على أساس المساواة، وفي صورة حقوق ذاتية صاحبت نشأة المجتمع الحديث وعبرت عنها الثورة الفرنسية. نجد هذه المعيارية لدى هيجل متجسدة داخل ما يسميه بالحق المجرد، معيارية تتميز بكونيتها نظرا إلى معقوليتها “فداخل معمارية المذهب الخاص بالروح الموضوعي (فلسفة الحق) نجد أن نظرية الحق المجرد أو الصوري (اللحظة الأولى داخل هذا المجموع)، هو ما يقابل الحق الطبيعي بالمعنى المتحصل من الفكر الحديث؛ إنها نظرية تحدد المقومات القبلية المجردة، التي هي من طبيعة لازمنية intemporel، وتكون أساسا لكل نظام اجتماعي مفترض”[53]، فالطابع المجرد للحق هنا هو ما يسمح بإعطائه قيمة معيارية “مادام يحدد مجموعة من المبادئ ذات الصلاحية وغير المشروطة بوضعيات معينة أو بسياق تاريخي محدد”[54]. تتقابل هذه المعيارية مع الخصوصية والنسبية التي تميز القوانين الوضعية وتشكل إطارا معياريا لمشروعية لهذه الأخيرة. فكيف تتحدد معالم هذه العلاقة بين معيارية الحق المجرد ونسبية القانون الوضعي؟
تتميز القوانين الوضعية بالتنوع والاختلاف، فما هو حق وخير في مجتمع معين يختلف عما هو حق وما هو خير في مجتمع آخر، فكل جوانب الدستور والتشريع والعلاقات الأخلاقية تنبع من الكل الذي هو روح الشعب وليس لها أي وجود قبلي. في هذا السياق نجد هيجل يستحضر مونتسكيو ليؤكد على أهمية السياق التاريخي والثقافي لأمة ما في بلورة منظومتها الأخلاقية والقانونية، بخصوص ذلك يقول هيجل “فقد نادى مونتسكيو بوجهة نظر تاريخية صحيحة تعبر عن موقف فلسفي أصيل، وأعني بها وجهة النظر القائلة بأن التشريع سواء في مجاله العام أو حالاته الجزئية الخاصة ينبغي ألا يعالج على أنه شيء معزول ومجرد وإنما على أنه لحظة معتمدة على الكل، ترتبط بجميع الخصائص الأخرى التي تشكل شخصية أمة ما وعصر ما، وإذا ما ارتبطت القوانين المختلفة على هذا النحو فإنها ستكتسب معناها الحقيقي، وبالتالي يكون لها ما يبررها”[55]. يتبين من هذا القول إن الدستور ومنظومة القوانين ليست منظومة مجردة وليست تعبيرا عن إرادة شخص أو مجموعة أشخاص بل تجسيد لإرادة الشعب وتعبير عن قيمه العليا وخصوصيته التاريخية والثقافية، لكنها في الآن نفسه منظومة لا تمتلك قوة الحق ما لم يكن الأفراد يرون فيها تعبيرا عن حريتهم وما لم يكونوا على استعداد للتضحية بأنفسهم من أجلها. فمعيار المشروعية لهذه المنظومة أو تلك، لم يعد يتعلق في جوهره سوى بتجسيد مبدأ الحرية في صورة مجموعة من الحقوق الذاتية التي ميزت نشأة المجتمع الحديث، فإذا كانت الدولة وقوانينها لا تظهر للفرد إلا “كقوة خارجية تتجاوزه، حيث لا يتحقق الاعتراف اللازم به كذات، فبإمكانه التمرد عليها..”[56]. يمكن أن نتبين هذا الأمر مثلا في تفسير هيجل للثورة الفرنسية، حيث يبين أن المطالب السياسية التي كانت تحرك الثوار الفرنسيين لها أساس اقتصادي “فالصورة المعممة للبورجوازي، والتطور الذي عرفه المجتمع الاقتصادي هي التي أفرزت التحولات الاجتماعية نهاية القرن الثامن عشر”[57] ، فتحطيم الإقطاع من طرف البورجوازية هو نتيجة لضرورة اقتصادية، “ففي اللحظة التي تم فيها تعميم نظام الملكية الخاصة، ستظهر طبقة، وهي البورجوازية، التي ستعمل على معارضة الحكم المنبثق عن النظام المطلق للمجتمع الإقطاعي القديم. كان على الدولة أن تستجيب لمطالب هذه الطبقة بمنحها حقوقا سياسية، وأن تعمل على تحويل المجتمع بالكيفية التي تعطي إمكانية لتأسيسه على الوجود الحر للأفراد […] عندما رفضت ذلك واختارت أن تحافظ على نظام لم تكن فيه للحق أية صلاحية، سيتم إسقاطها من خلال الثورة وإحلال دولة أخرى محلها”. تصبح آلية التغيير ضرورة ملحة عندما تكون القوانين لا تواكب التحولات الاجتماعية والاقتصادية “فهيجل بإدراكه لحاجة المجتمع للتحول من أجل تلبية متطلبات العدالة لدى المواطنين، يخالف إدموند بورك Edmund Burke، ويعترف بمشروعية المتطلبات الأخلاقية التي دافع عنها كل من روسو وكانط”. إن ما يميز هيجل مقارنة ببورك هو كونه “أدرك الدلالة الإيجابية للثورة، وبالخصوص ضرورة إعادة النظر في القوانين وتغييرها حتى تتلاءم مع التطور الاقتصادي والاجتماعي”.
تكمن مشروعية القانون إذن في مدى توافقه مع المبادئ الكلية للعقل، وهي مبادئ الحق المجرد التي تقوم على مبدأ أساسي وهو “كن شخصا واحترم الأخرين من حيث هم أشخاص”[58]، ويترتب عنه أن الإنسان شخص وبالتالي لا يمكن أن يعامل كشيء، فهو ليس موضوعا طبيعيا “وإنما روح وبما أنه روح فهو أساسا حر”[59]، ومن ثمة لا يمكن امتلاكه ومعاملته كعبد، فحق الاستعباد في نظر هيجل يقوم على “وجهة النظر التي تكمن في النظر الى الإنسان كوجود في الطبيعة être-de nature، وفق وجود لا يتناسب مع مفهومه”[60]، والمفهوم هنا يحيل على الروح والروح يحيل على الحرية. ويتعلق بالمبدأ السابق مبدأ آخر وهو حق الملكية، فالمرء لا يحقق وجوده كشخص ما لم يحترم حقه في تملك الأشياء، فالوجود الحر للشخص يتحقق بتملك الأشياء، أي عندما “يعطي هذا الأخير لنفسه مجالا خارجيا لحريته”[61].
إن ما يسعى إليه هيجل هو أن تكون مبادئ الحق المجرد (وهي مبادئ الحق الطبيعي) متحققة في القانون السائد في مجتمع بعينه، فكلّ مجتمع يمكنه أن يترجم هذه المبادئ في دستوره وقوانينه بكيفية مختلفة عن مجتمع آخر. لكن إذا حصل وكانت هذه القوانين لا تتوافق مع مبادئ الحق الطبيعي فإن الأفراد بإمكانهم أن يحدسوا ذلك في وعيهم الأخلاقي الذاتي، وبالتالي يمكن لهذا الحدس أن يكون سبيلا نحو المطالبة بالإصلاح أو التغيير. آخذين بعين الاعتبار أن الوعي الأخلاقي عند الفرد في عصر الحداثة ما هو إلا انعكاس لروح هذه الحداثة نفسها، “فنظام الحق، من حيث هو مجرد ولازمني، يمكن اعتباره نتاج لفاعلية التاريخ في تشكيل الحرية في ذاتها”[62]، فالتاريخ هو تاريخ الوعي بالحرية، ومن ثمة فهو تاريخ التحقق الفعلي للمبادئ المجردة للحق، والتي ليست في النهاية سوى مبادئ إمكان الحرية، “إن نقطة انطلاق التاريخ، مبدؤه المتعالي، هو اعتراف الإنسان بإنسانية الإنسان. وهذا لا يعني بتاتا اختفاء كل أشكال الهيمنة، ولكن يعطينا إمكانية ثابتة لرفضها”[63].
5- خاتمة:
لا تنفصل الحرية عند هيجل عن شمول القانون، فما هو حق وما هو واجب يحدده القانون، وليس افتراض نظرية أخلاقية تأملية تنظر إلى الفرد على أساس أنه يمتلك إطارا قبليا يمثل شرط إمكان لما يصدر عنه من أفعال، فرد يحدد نفسه بنفسه ويتحمل مسؤولية ما يختاره وما يشرعه. إن ما هو خير، وما هو حق، وما هو واجب سيصبح في نظر هيجل موجها بقانون الدولة الذي ينبغي على كل واحد معرفته والإقرار به، فالواجب هو ما تأمر به الدولة، وليس الضمير من حيث هو ملكة إصدار الأحكام الأخلاقية. فعوض الأخلاق بالمعنى الكانطي يقترح هيجل إطارا مرجعيا موضوعيا للفعل الإنساني هو عالم العرف الذي يلعب فيه القانون دورا محوريا، إذ سيكون عبارة عن طبيعة ثانية يصبح من خلالها الواجب “كما لو أنه صادر عن غريزة”، فالطبيعة الأخلاقية للفرد حسب هيجل لا تتجسد في قدرة الفرد على أن يشرع لنفسه قانون الفعل بل أن يستدمج في داخله ذلك الصوت الخارجي الذي شرعته الدولة والمتمثل في القانون.
يمثل القانون إذن إطارا مرجعيا للفعل الإنساني، وشرطا لإمكان الحرية التي لا تأخذ كامل دلالتها عند هيجل إلا من داخل ثنائية الحق والواجب، والارتباط الموضوعي بينهما الذي يجسده الامتثال للقانون. فمن خلال هذا الامتثال تتوحد الإرادة الذاتية مع الإرادة الموضوعية، ويصبح أداء الواجب مطابقا لمطلب الحق. فمن الواضح أنه عندما أطلب حقا أحقق من خلاله حريتي ووجودي الخاص والمستقل أكون في الآن نفسه ملزما بالامتثال للقانون، ومن ثمة أداء الواجب الذي يقابل ما أطلبه من حق. فالحرية تكمن في توازن الحقوق والواجبات من داخل قاعدة الامتثال للقانون، وهو توازن يمكن اعتباره مقياسا لعدالة الدولة، ولدرجة انخراط الفرد في الكلي (مواطنة الفرد). فقوانين الدولة لا تحقق الحرية ولا تكون عادلة إذا كانت تقرر من الواجبات أكثر مما تعطي من الحقوق، والأفراد لا يحققون مطلب المواطنة والانخراط في الكلي إذا كان سعيهم تحكمه أنانية خالصة ويطلبون من الحقوق أكثر مما يؤدون من واجبات. في الحالتين يكون إحداث التوازن المطلوب، إما بمراجعة قانون الدولة حتى يتوافق مع مطلب الحرية، أو بتقويم سلوك الفرد وتوجيهه نحو ممارسة المواطنة الفاعلة التي تستجيب لمطلب الحياة الكلية والعيش المشترك.
لائحة المصادر والمراجع:
- إمام عبد الفتاح إمام، دراسات في الفلسفة السياسية عند هيجل، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2007.
- بدوي، عبد الرحمن، تراجيديات سوفقليس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996.
- منصف، عبد الحق، الأخلاق والسياسة، إفريقيا الشرق، 2010.
- Fleischmann, Eugène, la philosophie politique de Hegel, Gallimard, 1992.
- HEGEL, G.W. Friedrich, Principes de la philosophie du droit, édition critique établie par Jean-François Kervégan, PUF, 2eme édition Quadrige, 2013.
- Hegel, G.W. Friedrich, Encyclopédie des sciences philosophiques en abrégé, traduit par Bernard Bourgeois, librairie philosophique J. Vrin, Paris, 2018.
- Hegel, W. Friedrich, Le Droit naturel, Traduit de l’allemand Préfacé et Annoté par André Kaan, Edition Gallimard, 1972.
- Hegel, G.W. Friedrich, leçons sur la philosophie de l’histoire, traduction par J. Gibelin, J. Vrin, 1963.
- Hegel, G.W. Friedrich, La Phénoménologie de l’Esprit, Traduction de Jean Hyppolite, Tome2, Edition Aubier Montaigne, 1941.
- HEGEL, G.W. Friedrich, La Différence entre les systèmes philosophiques de Fichte et de Schelling, Bernard Gilson, librairie philosophique J. VRIN, Paris, 1986.
- Hegel, G.W. Friedrich, Leçons sur l’histoire de la Philosophie, Tome 2 (la philosophie grecque des sophistes aux socratiques), Traduction et Notes par Pierre Garniron, J. Vrin, Paris, 1971.
- Honneth, Axel, Les pathologies de la liberté une réactualisation de la philosophie du droit de Hegel, Traduit de l’allemand par Franck Fischbach, Edition la Découverte, Paris, 2008.
- Hyppolite, Jean, Genèse et Structure de la Phénoménologie de l’Esprit de Hegel, tome2, Edition Montaigne, Paris, 1946.
- Kant, Emmanuel, Critique de la raison pratique, traduit de l’allemand par Luc Ferry et Heinz Wismann, édition Gallimard, 1985.
- Kervégan, Jean-François, L’Effectif et le Rationnel : Hegel et l’Esprit Objectif, Vrin, 2007.
- Lécrivain, André, Hegel et l’éthicité : commentaire de la troisième partie des Principes de la philosophie du droit, Vrin, Paris, 2001.
- Locke, John, Traité du gouvernement civil, traduction de David Mazel, Flammarion, Paris, 1992.
- Losurdo, Domenico, Tension morale et primat de la politique chez Hegel, traduction Didier RENAULT et Jacques Texier, in Actuel Marx : Ethique et politique, n°10, Presses Universitaires de France, 1991.
- Soual, Philippe, le sens de l’Etat : commentaire de la philosophie du droit de Hegel, éditions de l’institut de philosophie, Louvain-la-Neuve, 2006.
- Soual, Philippe, droit et loi dans l’Etat Hégélien, in Hegel et le droit naturel moderne, coordination J. L. VIEILLARD-BARON et Y.C. ZARKA, Libraire Philosophique J. Vrin, Paris, 2006.
- Suter, Jean-François, tradition et révolution, in Hegel-Studien, Beiheft 1, H. BOUVIER u.CO. VERLAG, BONN, 1964.
- ZÖLLER, GÜNTER, Liberty and Freedom: Hegel on Civil Society and the Political State, in Studia Hegeliana, VIII, 2022.
[1]– Hegel, Encyclopédie des sciences philosophiques en abrégé, traduit par Bernard Bourgeois, librairie philosophique J. Vrin, Paris, 2018, §529, P.542.
[2]– Ibid, P.542.
[3]– Gunter Zoller, Liberty and Freedom: Hegel on Civil Society and the Political State, in Studia Hegeliana, vol. VIII, 2022, P.15.
[4]– Ibid, P.17.
[5]– Jean-François Kervégan, L’Effectif et le Rationnel : Hegel et l’Esprit Objectif, Vrin, 2007, P.70.
[6]– Philippe Soual, le sens de l’Etat: commentaire de la philosophie du droit de Hegel, éditions de l’institut de philosophie, Louvain-la-Neuve, 2006, P.340.
[7]– Eugène Fleischmann, la philosophie politique de Hegel, Gallimard, 1992, P.36.
[8]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, édition critique établie par Jean-François Kervégan, PUF, 2eme édition Quadrige, 2013, addition au §182, P.678.
[9]– إمام عبد الفتاح إمام، دراسات في الفلسفة السياسية عند هيجل، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2007، ص222.
[10]– Hegel, La Différence entre les systèmes philosophiques de Fichte et de Schelling, trad. Bernard Gilson, librairie philosophique J. VRIN, Paris, 1986, P.161.
[11]– إمام عبد الفتاح إمام، دراسات في الفلسفة السياسية عند هيجل، مرجع سبق ذكره، ص221.
[12]– Eugène Fleischmann, la philosophie politique de Hegel, op.cit., p.42.
[13]– Ibid., P.42.
[14]– Ibid., P.44.
[15]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op. cit.., addition au §260, P.704.
[16]– Eugène Fleischmann, la philosophie politique de Hegel, op.cit., P.44.
[17]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., §259, P.430.
[18]– Ibid., §261, P.432.
[19]– Philippe Soual, droit et loi dans l’Etat Hégélien, in Hegel et le droit naturel moderne, coordination J. L. Vieillard-Baron et Y.C. Zarka, Libraire Philosophique J. Vrin, Paris, 2006, P.46.
[20]– Locke, Traité du gouvernement civil, traduction de David Mazel, Flammarion, Paris, 1992, p.184-185.
[21]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., addition au §145, P.663.
[22]– Philippe Soual, droit et loi dans l’Etat Hégélien, op.cit., P.49.
[23]– عبد الحق منصف، الأخلاق والسياسة، إفريقيا الشرق، 2010، ص184.
[24]– Emmanuel Kant, Critique de la raison pratique, traduit de l’allemand par Luc Ferry et Heinz Wismann, édition Gallimard, 1985, P.118.
[25]– Sittlichkeit هو مصطلح هيجلي أصيل، ومفهوم محوري في فلسفة الحق عند هيجل وعنوان الجزء الثالث من كتاب “مبادئ فلسفة الحق” الذي يتضمن بين ثناياه المكونات الثلاثة: الأسرة، المجتمع المدني والدولة. يطرح هذا المفهوم صعوبات على مستوى الترجمة، والدليل على ذلك هو تباين الترجمات التي اقترحت له. في اللغة الإنجليزية نجد ترجمات مختلفة: «objective ethics» ,«social ethics», « ethical life ». نفس الشيء نجده في الترجمات الفرنسية: André Kaan سيترجمه ب morale objective، Jean-François Kervégan سيقترح ترجمته ب L’éthicité، Jean-Pierre Lefebvre أعطاه مقابلا وهو «la vie social et les bonnes mœurs»، أما Jean-Louis Vieillard –Baron فاقترح ترجمته ب «les mœurs». نفس الأمر ينطبق على الترجمات العربية فعبد الرحمن بدوي في كتابه ” فلسفة القانون والسياسة عند هيجل” سيقترح ترجمة هذا المفهوم ب ” الحياة الأخلاقية”، أما إمام عبد الفتاح إمام في ترجمته لكتاب ” أصول فلسفة الحق” فسيترجمه ب «الحياة الأخلاقية” و”الأخلاق الاجتماعية “.
اخترنا هنا ترجمة Sittlichkeit بالعرف وهي الترجمة التي اقترحها الدكتور عز العرب لحكيم بناني في مقالة له بعنوان: “السلطة والتدوين والعقاب” التي نشرت في كتاب: الكتابة والسلطة، إشراف وتنسيق، عبد الله بريمي، سعيد كريمي، البشير التهالي، دار كنوز، عمان، 2015، ص.75. اختيارنا لهذه الترجمة يرجع الى كون مفهوم Sittlichkeit يجسد نوعا من المعيارية التي هي من صميم حياة الأعراف الاجتماعية والتي تشرط مجالات الأخلاق والقانون.
[26]– Axel Honneth, Les pathologies de la liberté une réactualisation de la philosophie du droit de Hegel, Traduit de l’allemand par Franck Fischbach, Edition la Découverte, Paris, 2008, P.73.
[27]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., addition au §141, P.661.
[28]– Ibid., §152, P.323.
[29]– Ibid., addition au §151, P.665.
[30]– Ibid., addition au §150, P.664.
[31]– عبد الحق منصف، الأخلاق والسياسة، مرجع سبق ذكره، ص.444.
[32]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., §126, P.279.
[33]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., add§126, P.649.
[34]– Domenico Losurdo, Tension morale et primat de la politique chez Hegel, traduction Didier Renault et Jacques Texier, in Actuel Marx : Ethique et politique, n°10, 1991, Presses Universitaires de France, P.53.
[35]– Ibid., P.54.
[36]– Hegel, Le Droit naturel, Traduit de l’allemand Préfacé et Annoté par André Kaan, Edition Gallimard, 1972, P.96.
[37]– Domenico Losurdo, Tension morale et primat de la politique chez Hegel, op.cit., P.57.
[38]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., §117, P.269.
[39]– Ibid., §118, P.270.
[40]– Ibid., §153, P.324.
[41]– Axel Honneth, Les pathologies de la liberté une réactualisation de la philosophie du droit de Hegel, op.cit., P.76.
[42]– Hegel, La Phénoménologie de l’Esprit, Traduction de Jean Hyppolite, Tome2, Edition Aubier Montaigne, 1941, P.36.
[43]– عبد الرحمن بدوي، تراجيديات سوفقليس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996، ص.175.
[44]– المرجع نفسه، ص.175.
[45]– Hegel, Leçons sur l’histoire de la Philosophie, Tome 2 (la philosophie grecque des sophistes aux socratiques) ، Traduction et Notes par Pierre Garniron, J. Vrin, Paris, 1971, P.275.
[46]– Ibid., P.281.
[47]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., §138, P.293.
[48]– Ibid., §342, P.543.
[49]– Ibid., §343. P.544.
[50]– Ibid., §343. P.544.
[51]– Hegel, Encyclopedie des sciences philosophiques en abrege, op.cit., §503, P.529.
[52]– hegel, principes de la philosophie du droit, op.cit., addition au §316, P.732.
[53] – Jean-François Kervegan, l’effectif et le rationnel, op.cit., P.105.
[54]– ibid, P.106.
[55]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., §3, P.142.
[56]– Jean-François Suter, tradition et révolution, in Hegel-Studien, Beiheft 1, H. Bouvier U. Co. Verlag, Bonn, 1964, P.321.
[57]– Ibid., P.321.
[58]– Hegel, Principes de la philosophie du droit, op.cit., §36, P.183.
[59]– Ibid., §57, P.205.
[60]– Ibid., §57, P.205.
[61]– Ibid., §41, P.188.
[62]– Jean-François Kervégan, L’Effectif et le Rationnel, op.cit., P.107.
[63]– Ibid., P.110.