ملخّص:
كما هو معلوم، لم يعد التّعليم في وقتنا الحاضر، خاضعًا لرؤية تقليديّة توظّف آليّات وأدوات بسيطة، بل استطاع أن يواكب -إلى حدّ ما- الثّورة التّكنولوجيّة والعلميّة، وما صاحبها من تجديد في المناهج والمقرّرات، وطرق التّدريس، وأساليب التّربية. وقد شكّل تفشّي وباء كوفيد 19 وانعكاساته على التّعليم؛ تحدّيًا كبيرًا لتوطيد وترسيخ المواكبة الرّقميّة في ميدان التّعليم، لأنّ عددًا من الطّلبة والمتعلّمين أصبحوا محرومين من متابعة الدّروس الحضوريّة، تفاديًا ودرءًا لانتشار العدوى. وأمام هذا الوضع اضطرّت الأنظمة المؤسّساتيّة إلى اعتماد نمط “التّعليم عن بعد” بشكل رسميّ يضمن الاستمراريّة البيداغوجيّة.
ويُعرّف التّعليم عن بعد بكونه عمليّة نقل المعرفة إلى المتعلّم عبر جهاز معلوماتيّ رقميّ، حيث يكون المتعلّم بعيدًا أو منفصلا عن الأستاذ. وفي هذا السّياق تُستخدم التّكنولوجيا من أجل سدّ الفجوة بين الطّرفين بما يحاكي الاتّصال الذي يحدث وجهًا لوجه. إنّ التّعليم عن بعد يمثّل إذن تفاعلات تعليميّة تتأسّس على: المحتوى، الفضاء، المهارات، الإلقاء، والانسجام…، وقد كانت الدّعوة إلى تعليم مندمج فعّال راجعة إلى حقب سابقة، يقول “ساطع الحصري”: «يجب على كلّ فرد أن يواصل التّعليم بوسائل متنوّعة، وأساليب شتّى..
إنّ التّطوّرات التي تطرأ على الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، من جرّاء انتشار وسائل الحضارة الحديثة وشمولها جميع أنحاء البلاد، تُوسّع التّفكير في نمط يضمن تفاعل المتعلّمين وأسرهم».
الكلمات المفاتيح: التّعليم عن بعد، التّكنولوجيا، التّقويم، التّقييم، المهارات.
Abstract:
As we know, education today is no longer subject to a traditional vision that uses simple mechanisms and tools. On the contrary, it has been able, to a certain extent, to keep pace with the technological and scientific revolution and the innovation that accompanies it in programs, courses, teaching methods and teaching methods. The outbreak of the Covid-19 epidemic has shaped and its repercussions on education; Consolidating and implementing digital support in the field of education constitutes a major challenge, because a certain number of students and learners have been deprived of taking face-to-face courses, in order to avoid and prevent the spread of infection. In this situation, institutional systems have been forced to adopt the “distance education” model officially, guaranteeing educational continuity.
Distance education is known as the process of transferring knowledge to the learner through a digital information device, where the learner is distant or separated from the teacher, and technology is used in this regard in order to bridge the gap between the two parties in a manner that simulates face- to- face communication.
Therefore, distance education represents educational interactions based on: content, space, skills, delivery and harmony…, and the call for effective integrated education goes back to earlier eras. Satia Al-Husari says: “Every individual must continue their education by various means and various methods». The development staking place in social and economic life, due to the diffusion of the means of modern civilization and their penetration throughout the country, broaden the reflection on a model which ensures the interaction of learners and their families.
Keywords: distance education, technology, assessment, evaluation, skills.
1- مقدمة:
يطرح التّعليم عن بعد إمكانات واسعة من التّفكير، والتّحليل، في المناهج والمقرّرات، وتأويل المعارف. ويعدّ طرحًا تربويًا إشكاليًا، فرضه سياق عامّ تمثّل في انتشار وباء كوفيد 19، وبشكل مفاجئ كرّس عودة المجتمعات لمفهوم الأوبئة والأمراض. وقد أعلنت وزارة الصّحّة عن أوّل حالة في المغرب بتاريخ 02 مارس 2020 وما خلّفه من تأثيرات كبيرة على الإنسان، والبنية السّوسيو ثقافيّة، والسّياسيّة. الأمر الذي فتح المجال للشّركاء في التّعليم من أجل بلورة جهاز مفاهيميّ يواكب هذه الفكرة، ويحتضنها، لفسح المجال أمام المتعلّمين والطّلاّب، لاستكمال دروسهم التي توقّفت تخوّفًا من استفحال الجائحة. وأمام هذا الوضع اضطرّت الأنظمة المؤسّساتيّة إلى اعتماد نمط “التّعليم عن بعد” بشكل رسميّ يضمن الاستمراريّة البيداغوجيّة، وعدم فكّ الارتباط بين المتعلّم والمؤسّسة التّعليميّة.
2- التّعليم عن بعد: السّياق والأبعاد:
يُعرَّف التّعليم عن بعد بكونه عمليّة نقل المعرفة إلى المتعلّم عبر جهاز معلوماتيّ رقميّ، حيث يكون المتعلّم بعيدًا أو منفصلا عن الأستاذ، وتُستخدم التّكنولوجيا في هذا الصّدد من أجل سدّ الفجوة بين الطّرفين بما يحاكي الاتّصال الذي يحدث وجهًا لوجه. إذن فالتّعليم عن بعد يمثّل تفاعلات تعليميّة متنوّعة ومختلفة تستحضر النّفسيّ والحركيّ والذّهنيّ والمعلوماتيّ.
وقد شكّلت أزمة “كوفيد 19 ” فرصة لتقييم هذا التّفكير، الذي راكم خبرات متعدّدة. وهكذا مثّلت هذه المرحلة انتقالاً من وضع حضوريّ إلى وضع افتراضيّ رقميّ ينتج شكلا آخر من سلطة المعرفة، ويعلن ميلادًا جديدًا لعلاقة جديدة بين الطّالب/ المتعلّم والأستاذ؛ علاقة تقوم على نسق مغاير، فاجأ البعض، ورحّب به البعض الآخر. وفي ظلّ الفوارق الاجتماعيّة، والتّقنيّة، والمادّية، والثّقافيّة، والمعلوماتيّة، فرضت هذه الأزمة نظامًا تعليميًا متفاوتًا غير موزّع بشكل عادل ومنصف. لذلك أصبحت الحاجةُ ملحّةً، والشّرطُ ضروريًا ولازمًا لتوفير وضعيّة تعليميّة ملائمة تناسب تطوّر الحالة الوبائيّة، وتساير التّقدّم التّكنولوجيّ المتعلّق بتقنيّات الاتّصال، وتضمن تكافؤًا للفرص بين المتعلّمين، ولا تنعكس سلبًا على زمن التّعلّمات خصوصًا وأنّ المغرب قد خاض تجربة “التّعليم عن بعد” رسميًّا في الجامعات، وبالتّناوب في المؤسّسات التّعليميّة.
أمام هذا الوضع فُرض على المجتمعات التّربويّة الانتقال من وضع حضوريّ إلى وضع افتراضيّ يستحضر الإمكانات التي تتيحها الرّقمنة والتّكنولوجيا، وضع افتراضيّ من شأنه أن يعيد المتعلّم إلى أجواء الدّروس والمعرفة، بالقدر الذي كان متوفّرًا ومتاحًا، مع استحضار كلّ الجوانب السّيكولوجيّة و المهاراتيّة، والحياتيّة، لأجل نموذج تربويّ يُخلِّق الحياة المدرسيّة، ويعزّز مكتسباتها، وينمّي دور الأستاذ والمتعلّم. إنّنا نؤمن كثيرا بأنّ التّعليم غاية كبرى للمجتمعات، وهو الوحيد الكفيل بصناعة الفرد وتهيئته إلى مواجهة التّحدّيات والصّعاب، وليس هناك تعليم دون تربية. فالتّربية في الأعراف الفلسفيّة والأخلاقيّة نمط من السّلوكات المتضافرة، يستوجب حضورها، وتكريسها ممارسة وفعلا، لأنّها المنظّمة لأفعال الشّخص. ولمّا كان قطاع التربية – وما یزال – یشكّل حجر الأساس لتقدّم المجتمعات، فإنّ الضّرورة دعت إلى التّجديد في المعرفة، والبحث العلميّ خاصّة مع انتشار العولمة، ونموّ صناعات جدیدة. ومن ثمَّ فإنَّ الاستثمار في عملیّة التعليم -بشقّیھا الأكادیميّ والمھنيّ- ھو استثمار بشريّ؛ أيّ “صناعة متعلّم” بمواصفات العصر التي تقتضي البعد عن الجمود القائم على التلقين، والانتقال إلى حیویّة التّعلّم القائم على الاكتشاف والتّقصّي والتحليل والاستنتاج، وصولًا إلى التّعامل مع المشكلات وحلّھا.
إنّ أيَّ شكلٍ من أشكال التعليم متمحورٌ حول المتعلّم نفسه، وھذا یحتّم التنویع في مصادر المعرفة وأشكالھا، وتوظیف أحدث ما توصّلت إلیه التكنولوجيا في ھذا المجال نفسه، ولعلّ موضوع التّعلّم و”التعلیم عن بعد” أفضل ما توصّلت إليه السّياسات التّعليميّة، حیث استفادت من تطوّر التقنیّة وتوظیفھا في المجال التعلیميّ، فغدت فرص التّعلّم متوفّرة للجمیع، وفْقَ طرائق وأسالیب جدیدة تلبّي الاحتیاجات المتزایدة بخطوات سریعة. مع الإشارة إلى أنّ نجاح العملیّة التعلیمیّة مرتبط بعناصرَ ثلاثةٍ تشكّل المثلّث التعلیميّ وھي: “المعلّم، والمتعلّم، والمعرفة (المعلومة)”، وھذا یتضمّن اختیار طرائق واستراتیجیّات التدریس، والوسائل والأدوات المناسبة، إضافة إلى أدوات التقییم. ھذه العناصر الثّلاثة توفّر بین المعلّم matter والحوار dialogue مكوّنين رئیسیين من مكوّنات التعلیم عن بعد وهما: المحتوى التعلیميّ والمتعلّم الذي من شأنه تحسین نواتج التعلّم من خلال الأنشطة المختلفة ومن خلال عملیّات التقییم المستمرّ[1].
استنادا إلى ذلك، سنحاول أن نتحدّث عن التّعليم عن بعد بما ينسجم مع التّصوّر الذي يقفز إلى أذهان المتخصّصين. وكما يتبادر إلى ذهن مختلف الشّركاء في العمليّة التّعلميّة، فإنّ كلمة “عن بعد” طرحت نفسها بقوّة، في عصر “كورونا”. وبقدر جفائها اللّفظيّ، تكون مودّتها المعنويّة، ودلالتها التّعبيريّة. لكن متى يتحقّق ذلك؟ ومتى يصبح البعد قريبًا؟ ومتى يُعدّ الحوار خلاَّقًا؟ ومتى يتحوّل اللّقاء إلى متعة؟
الملاحظ في هذه الإشكالات الأنطولوجيّة والمعرفيّة أنّها تلقي بظلالها على هذا المفهوم وتكرّس أزمة كبيرة مع المصطلح. وبالعودة إلى تعريف المفهوم، فإنّ التّعليم عن بعد يمثّل حلقة معرفيّة عبر جهاز معلوماتيّ وسيط، طرفاه المتعلّم/ الطّالب والأستاذ، وتتأسّس على: المحتوى، الفضاء وعوالمه، استحضار المهارات، طريقة الإلقاء، وتحقيق الانسجام. في ظلّ هذه الشّروط والمحتويات أصبحنا نتحدّث عن مُلابسات هذه المعرفة الرّقميّة، كما نتحدّث عن شروط إنتاج الخطاب وتحقيقه، حيث أنّه يتضمّن معنى الجملة أو الكلمة التي اشترك فيها المرسل والمرسل إليه، إنّه نظام نسقيّ يشرح البعد الدّلاليّ للّفظ، «بحضور متكلّم واعٍ بكونه الذّات المنتجة للخطاب، ومخاطَب حاضر مباشرة أو غير ذلك، إنّه نتاج مشترك بين المتكلّم والمتلقّي، والمخاطِب والمخاطَب، والكاتب والقارئ. وفي لعبة التّحولات هذه، يصبح إنتاج الخطابات ممكنًا، وليست هذه اللّعبة إلاّ وجها من أوجه التّفاعلات التي يتكوّن منها ما بِه يكون الإنسان إنسانا، وهو الفعل الاجتماعيّ»[2] باعتباره مجموعة من الأنساق التي يفترض فيها بالضّرورة وجود هويّات فرديّة وجماعيّة متنوّعة منها الثّقافيّ والسّياسيّ والتّاريخيّ، حيث نصطدم هنا بأفق نصّيٍ أهمّ ضوابطه ما يصطلح عليه في أبجديّات الدّرس البلاغيّ باستراتيجيّات الإقناع « التي تكتسب اسمها من هدف الخطاب.
وتختلف الاستراتيجيّات التي تسهم في ذلك من ناحيّة العلاقة بين طرفي الخطاب، أو من ناحيّة تجسيدها لشكل الخطاب اللّغويّ، كما تختلف الآليّات والأدوات اللّغويّة، وذلك لاختلاف الحقول التي يمارس المرسل فيها الإقناع مثل الحقل العلميّ، أو الاجتماعيّ، أو السّياسيّ. وينبني فعل الإقناع وتوجيهه دومًا على افتراضات سابقة بشأن عناصر السّياق خصوصا المرسل إليه، والخطابات السّابقة، والخطابات المتوقّعة. فقد جعل “أوليفير وبول” الوظيفة الإقناعيّة من وظائف البلاغة، بالإضافة إلى الوظيفة التّأويليّة، والوظيفة الكشفيّة، والوظيفة التّربويّة [… ] وتستعمل استراتيجيّة الإقناع من أجل تحقيق أهداف المرسل النّفعيّة»[3].
وفي إطار هذه الاستراتيجيّة الحجاجيّة نتحدّث كذلك عن مفهوم التّواصل في سياقاته اللّسانيّة والنّظريّة، وكيف يصبح السَّنن (le code) شرطًا ضروريًّا للفهم والإدراك، «فالسّنن في التّواصل اللّغويّ يستند على عدد من الفونيمات والمورفيمات في لغة طبيعيّة، حيث يمثّلان قواعد تأليف خاصّة بنظام محدّد […] ويتمظهر السّنن على شكل رسالة تنقل أخبارًا بين المتكلّمين، ذلك أنّ عمليّة الإخبار تستلزم إعطاء شكلٍ للرّسالة بواسطة السّنن الذي يؤمّن وضوح الرّسالة وتحقّق الأخبار»[4]. في إطار هذه العلاقة بتنا نتساءل عن درجات التّواصل وهل تحقّق فعلا؟
إن “التّعليمَ عن بعد” بقدر ما طرح تفاوتًا رقميًا طرح أزمةً تواصليّة، والمتأمّل في الوضع الوبائيّ يحيلنا على درس كبير في الحياة، يُسائل المنظومة الأخلاقيّة والاجتماعيّة. وعلى هذا الأساس كان علينا خلق بدايات جديدة ونظام حديث لواقع فرض نفسه، وكنّا أمام رؤية يجب أن يتضافر فيها الإنسانيّ بالعلميّ؛ رؤية استباقيّة للإكراهات المحتملة، ورؤية ماضويّة تستحضر البعد الرّقميّ للتّعليم ما بعد الميثاق الوطنيّ، وتكرّس ضمن القانون الإطار الأخير[5] الذي يعتبر التّعلّم مدى الحياة أهمّ مرتكزاته لأنّه «كلّ نشاط يتمّ في أيّ لحظة من لحظات الحياة بهدف تطوير المعارف أو المهارات أو القدرات أو الكفايات في إطار مشروع شخصيّ أو مهنيّ أو مجتمعيّ»[6].
3- صدمة التّعليم عن بعد أو الدّهشة المعرفيّة:
لقد أظھرت جائحة كورونا تفاوتًا في الأنظمة التعليمیّة في كثیر من الدّول، ممّا ضاعف من عامل الضّغط النّفسيّ على الأھل والمتعلّمین على حدّ سواء، ولم یعد التعليم متوفّراً للجمیع بشكل عادل ومتساوٍ، فضلا عن المتعلّمین من ذوي الصّعوبات التعليمیّة والاحتیاجات الخاصّة، حیث لم تلحقھم أیّة برامج على الصّعید الرّسميّ للدّول في متابعة التعليم عن بعد[7]. فكيف برز هذا المفهوم؟
كما هو معلوم يعدّ التّعليم عن بعد حدثًا ابستمولوجيًا بارزًا أفرزته وضعيّة وبائيّة مستجدّة، خلق صدمة ودهشة اجتمع فيها السّوسيولوجيّ بالمادّيّ والسّيكيولوجيّ، فجاز لنا أن نسمّي هذه الفترة بصدمة التّعليم عن بعد، وبقدر ما تحمل الكلمة من ارتجاج معرفيّ فلسفيّ كم تبلور في الأدبيات والتّاريخ، فإنّها تحمل أيضا زخمًا نفسيًا هائلا، إذا نحن استعرنا مجال علم النّفس.
لقد اهتزّ العالم بوجود وباء خطير يفتك بالكبار قبل الصّغار، وتجنّدت كلّ المنظّمات والقوى السّياسيّة لحصر الوباء، والتّحكّم فيه، وكان رهان الاستمراريّة البيداغوجيّة، والمحافظة على زمن التعلّمات، من أهمّ ما أرّق المسؤولين عن قطاع التّعليم، فكان التّفكير في نمط يحفظ للمتعلّم نصيبه من التعلّمات، ويضمن استكمال المناهج والبرامج التّربويّة، التي توقّفت قبيل نهاية السّنة الدّراسيّة. لقد شكّلت الجائحة تغييرا جذريًا في التّفكير، وخلخلت درجات الوعي حول التّعليم وآفاقه، خصوصا أمام ارتباك الأسر والمؤسّسات ومختلف الشّركاء، رغم إدماج التّكنولوجيا في التّعليم منذ العشريّة الأولى كما تجلّى في مختلف المذكّرات المؤطّرة[8].
وكانت الغاية من وراء هذا الإصلاح، التّأسيس لمدرسة مفعمة بالحياة، بفضل نهج تربويّ نشيط، يجاوز التّلقّي السّلبيّ، والعمل الفرديّ، إلى اعتماد التّعلّم الذّاتيّ، والقدرة على الحوار والمشاركة في الاجتهاد الجماعيّ، كما جاء في الميثاق الوطنيّ للتّربية والتّكوين ( 1999).
إنّ التّأسيس لمدرسة مفعمة، حيويّة، ونشيطة، تستحضر القيم والمهارات لن يتحقّق لها ذلك، دون الاستثمار في المتعلّم، استثمار ينشد البعد القيمي في شخصيّة المتعلّم/ الطّالب، ويدافع عن حقّه في التّفكير النّقديّ، والقدرة على التّفاعل، والانخراط في الإشكالات المعرفيّة والحياتيّة. كلّ هذه الغايات والأهداف وضعت دور التّعليم على المحكّ؛ أمام وباء مفاجئ استلزم الكثير من التّحضير واليقظة. وبالنّظر إلى سيرورة الفكر التّربوي، نجده متّصلا بالماضي، «شأنه شأن الفكر على وجه العموم، كائن حيّ، متّصل بالوجود، لا يبدأ من نقطة الصّفر، وإنّما هو وليد مراحل أخرى سابقة، وهو قياسًا على ذلك مولّد مراحل أخرى تالية، ممّا يجعل من الحتميّ على الباحث في أيّ فترة من فتراته أن يقف وقفة -مهما قصرت- أمام الميراث السّابق عليها، وسعيا وراء تتبّع خيوطه العامّة»[9].
لذلك فالحاجة ملحّة إلى نمط تعليميّ يواكب الحالة الرّاهنة المستجدّة التي فرضها وباء كوفيد 19، وتمثّلت في تعلّم ذاتيّ يدمج التّعلم عن بعد، علما أنّ الدّعوة إليه كانت قديمة وبالتّحديد منذ القرن السّابع عشر حين كان التّعامل مع الطّلبة والتّلاميذ عبر النّشرات البريديّة. «لم یبدأ التعليم عن بعد في العصر الحدیث، بل یمتدّ لأكثر من مائتي عام، وكانتِ البدایة عام 1729 على ید ‘ Caleb Phlips’’، الذي كان یقدّم دروسًا أسبوعیّة عبر صحیفة “بوسطن جازیت . (Correspondence Class) واستُخدِم الرادیو لھذا الغرض عام 1922، حیث بدأت جامعة بنسلفانیا العریقة في تقدیم عدد من المقرّرات عبر جھاز الرادیو، ثمّ أجھزة التلفزة، إذ أطلقت جامعة ستانفورد بمبادرة عام 1968 أسمتھاInstructional Television Network the Stanford لتقدیم مقرّرات لطلّاب الھندسة عبر قناة تلفزیونیةّ»[10]. كما أنّ الدّعوة إلى تعليم مندمج، واكبت الفكر التّربويّ لعلماء التّربية في العالم العربيّ، يقول ساطع الحصري: «يجب على كلّ فرد أن يواصل التّعليم بوسائل متنوّعة وأساليب شتّى. وإنّ التّطوّرات التي تطرأ على الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، من جرّاء انتشار وسائل الحضارة الحديثة وتغلغلها، في جميع أنحاء البلاد، توسّع التّفكير في نمط يضمن تفاعل المتعلّمين وأسرهم»[11].
هكذا نكون أمام دعوات قديمة، وممارسات سابقة، لتوظيف التّعليم عن بعد كإجراء مواكب لنمط حضوريّ، أمّا الآن فنحن أمام وضع يفرض استعمال الرقمنة فرضًا واجبًا، فهل لنا أن نسائل السّياق الذي تشكّلت فيه تلك الدّعوات؟ أم نسائل مختلف الذّهنيّات والعقليّات التي انساقت وراء تعليم رقميّ دون أجرأته، وتطويره ومواكبته؟ هل نبحث عن رؤية استباقيّة؟ أم هل نؤمن بثنائيّة الحقّ والواجب، فنحاسب ضميرنا؟ هذه إشكالات عميقة، فرضها سياق تشكّل كورونا، كما فرضتها تلك الصّدمة التي تحدّثنا عنها، فلطالما عُدَّ «التّعليم صنعة من الصّنائع، بتعبير “ابن خلدون” وفنّا من الفنون العمليّة التي يمكن أن يقف الإنسان فيها عند حدّ العلم، بل لا بدّ من الممارسة والتّدريب حتّى يكتسب المهارة المطلوبة.
والتّعليم عندما يتجاوز مجرّد العلم إلى (الفنّ) و(المهارة)، تتّضح إمكاناته في التّغيير والتّطوير، وفي هذا الصّدد يقول “ابن خلدون”: التّعليم للعلم من جملة الصّنائع، وذلك أنّ الحذق في العلم والتّفنّن فيه والاستيلاء عليه، إنّما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة، لم يكن الحذق في ذلك المتناول حاصلا، وهذه الملكة هي غير الفهم والوعي».[12] من خلال ارتباط ملكة الحذق بجودة التّعليم، ينطلق “ابن خلدون” بشكل مبكّر من مفهوم عامّ في المقاربات المعرفيّة والتّربويّة، إنّه مفهوم الكفايات التّواصليّة وما ينتج عنها من انسجام في الخطاب، وتوافق في السّلوك، كما أنّ هذه الملكة الفكريّة توظّف بشكل جيّد نظريّة الذكاءات المتعدّدة للمتعلّم، والمقاربة الفارقيّة، كما تستفزّ الكفاية المرجعيّة للأستاذ والمتمثّلة في إعداده القبليّ الذي يعدّ به درسه؛ إعدادٌ يستحضر قوّة الذّهن والفكر، والإيديولوجيا. هكذا نجد أنفسنا أمام سياق عامّ فرض التّعليم عن بعد كاستراتيجيّة ضروريّة، وأمام وضعيّة –مشكّلة؛ أي كيف نمارس ملكة الحذق في توجيه المتعلّمين نحو فكرة النّجاح، «ومنحهم فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهّلهم للاندماج في الحياة العمليّة، وفرصة مواصلة التّعلّم، كلّما استوفوا الشّروط والكفايات المطلوبة، وفرصة إظهار النّبوغ كلّما أهّلتهم قدراتهم، واجتهادهم»[13].
4- التّعليم عن بعد والرّهان الصّعب:
لقد بات شركاء العمليّة التّعليميّة أمام تحدّيين؛ أحدهما الاقتناع والإقناع بتوظيف واستخدام نمط التّعليم عن بعد توظيفًا كلّيًا، وثانيهما وهو الأخطر كيف يتمّ تحقيق الكفايات والأهداف والغايات التّربويّة من أجل لحظة بعيدة المدى تتمثّل في تأهيل المتعلّم لتدبير مشكلات عصره الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة، ولحظة قريبة ستسائل المتعلّم في رصيده المعرفيّ وتعلّماته السّابقة؟ إنّها لحظة التّقييم؛ باعتباره عمليّة منهجيّة لجمع وتحليل وتفسير المعلومات لتحديد مدى تحقيق التّلاميذ للأهداف التّعليميّة. كما ستسائل القرار نفسه، في محاولة كذلك لتقييمه، وتحديد مخرجاته، وفي جميع الحالات هناك ارتباط عضويّ بينهما، ارتباط مؤسّساتيّ يقوم على علاقة سببيّة محورها المتعلّم/ الطّالب، كما تقوم على علاقة المصالحة بين الذّات والآخر، في شكل تقابليّ، فالمتعلّم يحرص على الاجتهاد، والأستاذ يبذل ما في وسعه لتقديم معرفة جديدة رقميّة ووسائطيّة تعتمد الوسائل التّكنولوجيّة المتاحة، وأثناء هذه العلاقة يحضر بقوّة الجانب السّيكولوجيّ والإنسانيّ، فتتوطّد وتعضد بعدا قيميًا أخلاقيًا وتعيد إلى الواقع الثّقة التي فُقدت بين المتعلّم والأستاذ. هذا ما لاحظناه وعايشنا تجربته بعد إعلان المغرب لتوقّف الدّراسة الحضوريّة منذ 16 مارس 2020، ويعدّ منشأ هذه العلاقة السّيكولوجيّة من النّظريّة الأخلاقيّة كما تبلورت مع “ابن خلدون”، و”الفارابي”، و”إيميل دوركايم” و”باروخ سبينوزا” و”إيمانويل كانط”، فالأخلاق هي القيام بالواجب، «وما الواجب إلاّ القيام بعمل يفرض عليك، على أنّ ذلك لا يمنع من قيام مشكلات يتعيّن على الضّمير الخلقيّ البثّ فيها»[14]، وما المشكلات سوى الظّروف التي واكبت وأنتجت هذا النّمط من التّعليم، وأهمّها مشكل التّقنية، وضعف الكفاءة المعلوماتيّة عند العديد من المتعلّمين والأساتذة. لقد طرحت فكرة التّعامل مع المتعلّم “عن بعد” إكراهًا قويًا، جعل الأسر في حيرة وتساؤل كبيرين، ومردّ ذلك إلى كون علاقتهم بالرقمنة لا تتعدّى تصفّح الهاتف أو الحاسوب، لذلك فالمتأمّل في الوضع الذي صاحب إقرار التّعليم عن بعد كخيار ضروريّ، أحال الجميع على درس كبير في الحياة، يُساجل المنظومة الأخلاقيّة والاجتماعيّة؛ مساجلة نقديّة معرفيّة، ولكنّ الحرص الإنسانيّ تدخّل بقوّة، وتوطّدت بذلك علاقة المتعلّم بالأستاذ، فتمّ استحضار الجانب الأخلاقيّ، الذي قلّل من هول صدمة كورونا وتداعيّاتها، فاجتمع الكلّ حول شاشة الحاسوب أو الهاتف، من أجل لحظة تعلُّم تنقد المقرّرات والمناهج التي كانت مبرمجة؛ من التّأخر، وعدم إتمامها، وأثناء هذه العملية تحقّق ما سمّاه “إيميل دوركايم” بأمانة الضّمير، حيث يستطيع التّربويّ أن يجمع كلّ المعلومات التي يضعها العلم تحت تصرّفه في كلّ لحظة من الزّمن ليسترشد بها في عمله[15].
لقد تأثّر التّعليم بلحظة راهنيّة مستجدّة، وكما هو معلوم، فإنّ النّظر إلى الواقع، يجعلنا متأكّدين أنّ أحداثًا كثيرة أسهمت في تشكيله، وهي أحداث غير منفصلة عن المعيش اليوميّ للفرد والمجتمع، ولهذا «فإنّ النّمط الثّقافيّ السّائد في المجتمع هو الذي يحدّد للتّربية أهدافها، ويرسم لها سياستها، ويشكّل أساليبها وممارستها، ويصوغ مادّتها ويقرّر بنيتها، ويبني إطارها»[16].
وإذا كنّا تحدّثنا بشيء من التّفاؤل حول علاقة “التّعليم عن بعد” بمختلف الشّركاء، فإنّنا لا ننكر صعوبته المُشكّلة للبناء النّسقيّ للإنسان عامّة، والمتحكّمة في ذهنيّات تقليديّة لا تؤمن بالتّجديد والابتكار، وتنكر كلّ محاولة للإصلاح. وبما أنّنا أمام أمر محقّق وكائن، فإنّه يحقّ لنا أن نطرح إشكالا كبيرا؛ هل يمكن اعتبار التّعليم عن بعد مكمّلاً وموازيًا للتّعليم الحضوريّ؟ وليس نافيا له؟ وكيف يمكن أن يسهم هذا النّمط التّعليميّ في ضمان بيداغوجيّة متكافئة وجذّابة؟ وسيكون هذا الإشكال مدخلا للمحور الموالي.
حينما تمّ اعتبار أنّ التّعليم يدخل ضمن الأولويّات المهمّة لإصلاح الفرد والمجتمع، وأنّ الاهتمام به يمثّل اهتمامًا بالمتعلّم وتأهيله لنموذج بشريّ تنمويّ، وضعت الوزارة الوصيّة على القطاع برنامجًا بعيد المدى يبلور خطّة الإصلاح، منذ تقرير المجلس الأعلى سنة 2008 الذي وقف على إخلالات كثيرة في المنظومة التّربويّة، ولم تكن تدرك حينها وضعيّة استثنائيّة وبائيّة صادمة، لكنّ الحرص على إدماج التّكنولوجيا في التّعليم، كانت الدّعوة إليه واضحة من خلال المحور الثّالث ضمن المحاور الأساسيّة التي تنشد تحسين أداء المدرسة المتمثّل في «تحسين جودة التّربية والتّكوين عبر استهداف المناهج، والإيقاعات المدرسيّة والبيداغوجيّة، وإتقان اللّغات وتنويعها، واستخدام التّكنولوجيا الحديثة للمعلومات والتّواصل، وتشجيع التّميز والبحث والعلميّ»[17]، من هذا المنطلق كان التّفكير ملازمًا ومصاحبًا للرّؤية العامّة، ومضاعفًا يستحضر البعد التّربويّ والعلميّ، رغم محدوديّة الأفق، انطلاقا من الإكراهات والإخلالات التي تعرفها المدرسة المغربيّة.
لقد «ظلّت محدوديّة جودة التّربية والتّكوين الاختلال البارز للمدرسة بمختلف مكوّناتها، لذلك يشكّل الرّفع من مقوّمات الجودة لدى الفاعلين التّربويّين، وفي المناهج والبرامج والتّكوينات، وفي حكمة المدرسة، وفي البحث العلميّ، أفقًا حاسما لتجديد المدرسة المغربيّة، وضمان جاذبيّتها وجدواها. ومن هذا المنطلق، يتعيّن العمل، في المدى القريب على بناء نموذج مرجعيّ وطنيّ للجودة، يتمّ إغناؤه بشكل تدريجيّ ومتواصل، من خلال مؤشّرات متقاسمة وقابلة للملاحظة، وشفّافة لدى الجميع»[18].
إنّ علاقة المدرسة بالمجتمع علاقة متوّترة منذ القدم. وقد بَسَطَ هذا التّوتّر أكثر وزاد من حدّته، ضعف التّواصل الرّقميّ بين مختلف الأطراف في زمن البحث عن توطيد تعليم اصطلح عليه بـ “البعيد”، يفرّق شركاء القسم، ويجمعهم حول الحاسوب أو الهاتف عبر تقنيّة التّناظر المرئيّ أو الصّوتيّ.
إنّ “البعد” مصطلح له من الدّلالات ما يكفي للبحث في معناه اللّفظيّ، ومشاكلة نجاعته المعرفيّة، واستمراريّته وضمان فعاليّته، لقد عمّق “التّعليم عن بعد” جراح الأسر والمتعلّمين، وخلق فجوة رقميّة كبيرة، كما عمّق الهوّة بين الذّات والعالم، وباتت علاقة منافرة بينهما واضحة، لعلّها تصير إلى علاقة مصالحة، يبنيها الأستاذ، ويُسهم فيها المتعلّم. وإذا كان “بيير بورديو” و”جان كلود باسرون” يُقرّان «بأنّ كامل منطق مؤسّسة مدرسيّة تأسّست على عمل بيداغوجيّ من نمط تقليديّ، ويضمن على الأقلّ عصمة الأستاذ، وهو الذي يعبّر عن نفسه في إيديولوجيا الأستاذيّة التي تقضي بأنّ الطّلاّب ليس من التّعلم في شيء»[19]، فإنّ المدرسة الحديثة استطاعت أن تتجاوز الرّؤية التّقليديّة، واستطاعت أن تساير المناهج الحديثة والعلوم المعرفيّة المتطوّرة، وإن لم تستطع بلورتها على أرضيّة الواقع، لكنّ الفكرة قائمة، تحتاج فقط إلى بذل الكثير من الجهود حتّى ينخرط فيها الجميع، ومن أهمّ ما يمكن التّوقّف عنده هو تحدّي رهان “التّعليم عن بعد”.
5- سُلطة التّعليم عن بعد:
يحكي المفكّر العربيّ “محمّد عابد الجابري” في كتابه أضواء على مشكلات التّعليم في المغرب عن تبعيّة التّعليم المغربيّ للنّظام الفرنسيّ منذ عهد الحماية في 1912، وإن كان الكتاب طبع في السّبعينات من القرن الماضي[20]، فإنّ النّظر إلى أفكاره تكشف بأنّ الرّجل يتحدّث عن رأي يقينيّ رغم أنّ تلك الفترة تشهد بازدهار تعليميّ وتربويّ، ولا ننكر أنّ المغرب قد خاض مراحل عسيرة للتّغلّب على إخفاقات وإخلالات المنظومة التّعليميّة، كما لا ننكر أنّ تلك المحاولات تخلّلتها بعض العيوب المنهجيّة سواء في التّخطيط أو التّنفيذ، ويمكن لنا أن نتحدّث عن البرنامج الاستعجاليّ مثلا أو المقاربة بالإدماج، أو العمل بالرّوائز… كلّ هذه المحاولات، عرَّت جوانب أخرى في التّعليم يمكن أن نعلنها بقوّة ومسؤوليّة كبيرة، إذ أنّ الأمر يتعلّق بالموارد البشريّة، لأنّ الاستثمار في الرّأسمال اللاّمادّي لم يكن بالمستوى المطلوب، ومازالت المنظومة تعاني في هذا الجانب، بسبب سيادة أزمة الثّقة بين المدرسة والمجتمع؛ وهي الفكرة نفسها لـ ـ”محمّد عابد الجابري”.
إنّ الاستثمار في الرّأسمال البشريّ خليق بنموذج تربويّ يتغلّب على الصّعاب، ويتحدّى الرّهانات، إذ تشكّل الموارد البشريّة الرّكيزة الأساس لكلّ تنمية، فنحن مطالبون كلّ من موقعه داخل منظومة التّربية والتّكوين، بالإسهام في تطوير أدائها وتنمية درجة فاعليّتها عبر مساءلة الضّمير ومراجعة الذّوات، ولن يتمّ هذا الأمر إلاّ باستحضار مقاربة تربويّة وإداريّة تراعي الدّور التّشاركيّ عبر رؤية شاملة تتّسم بروح القيادة والعمل الجماعيّ المرتبط بتحسين وتجويد العلاقة مع الموارد البشريّة متعلّمين وأطرا[21]، قيادة تأخذ في عين الاعتبار جميع مكوّنات المجتمع لضمان بلوغ الأهداف المنشودة؛ قيادة مرتبطة بالبيئة والموارد المتاحة وفق استراتيجيّة محدّدة[22]. إنّنا أمام وضع ليس بالهيّن، وأهمّ رهاناته تحقيق تعليم مندمج أساسه الرقمنة، وآليّاته الوسائل التّكنولوجيّة المتاحة، لبناء مدرسة يافعة متجدّدة تستخدم الرّقميّ والتّكنولوجيّ، باعتباره سلطة معرفيّة حديثة؛ سلطة تشكّلت عبر أنساق خطابيّة تربويّة وسياسيّة، سلطة يكتسبها من المجتمع ومؤسّساته التي تتولّى مهّمة إعداد شروط إنتاجه وتداوله. ولهذا وسمه ميشيل فوكو بــ “النّظام” لأنّه يرى أنّ إنتاج الخطاب في كلّ المجتمعات إنتاج مراقب، منتق ومنظّم، بواسطة عدد من الإجراءات التي تلتقي في هدف واحد وهو مراقبته وتنظيمه والتّحكّم في سلطته والسّيطرة على مخاطره.[23]
يتّضح إذن أنّ “التّعليم عن بعد” خطاب تربويّ وسلطة معرفيّة يجب التّماهي معها، وإعلان الانسجام مع مرتكزاتها، رغم أنّه خطاب متعسّف أحيانًا، وقاسٍ أحايين أخرى، بسبب هيمنة الصّورة وتداعيّاتها البصريّة والدّلاليّة، إلاّ أنّه يَعِد بأفكار جديدة، ويتيح إمكاناتِ واسعةٍ للتّواصل، ويفتح المجال لممارسة تربويّة تضع المتلقّي موضعًا نفسيًا مريحًا؛ لا تفرض عليه التّنقّل. لكن وبمشاكلة ومساجلة معرفيّة مع هذا النّمط، تبيّن لنا أنّ الكثير متذمّر من سلطته المتعسّفة، ولانعدام شروط إنتاج خطاب متكامل، فمن خلال استبيانات[24] قامت بها الوزارة ووجّهتها لهيئة التّدريس اجتمع الأساتذة حول فكرة واحدة وهي أنّ “التّعليم عن بعد” خلق فجوة معرفيّة وتربويّة بين التّطبيق والممارسة، ولعلّ هذه القناعة تجسّدت من خلال الواقع الذي فرضته أزمة كورونا، ومن خلال تجربة هذا النّمط التّعليميّ، وعلى إثر هذه القناعة تقدّمت هيئة التّدريس بمقترحات عمليّة، تغني هذه التّجربة ولا تقلّل من أهمّيتها؛ وأهمّها خضوع كلّ الشّركاء لتكوينات مستمرّة، خصوصًا حول استعمال المنصّات الرّقميّة التي تتميّز بخوارزميّات بصريّة معقّدة “كمنصة teams” مع توفير عدّة رقميّة مناسبة. وقد أثبتت تجربة ميدانيّة جامعيّة[25] إكراهات كثيرة، وفتورا نسبيًا من طرف بعض الطّلاّب، حيث يفضّلون منصّة رقميّة على أخرى نظراً لسهولة الولوج إليها، هذه الازدواجيّة أنتجت سؤالا كبيراً يتمثّل في مدى تحقيق التّفاعليّة مع المعطى الرّقميّ، «باعتبارها الخاصّية الأكثر تمييزا للأعمال الرّقميّة، تدخل ضمن البرنامج، وتتمثّل في قدرته على إحداث نشاط مادّي لدى القارئ وعلى التّجاوب مع هذا النّشاط، إنّها قدرة تمنح للقارئ، وإكراه يخضع البرنامج.
يمنح العمل القارئ قدرة التّأثير في تركيب العلامات المقترحة للقراءة، ويفرض على البرنامج أن يتجاوب مع بعض المعلومات التي يقدّمها القارئ»[26]. كما أنّ المعياريّة في التّعامل مع المنصّات الرّقميّة تطرح إشكالا كبيرا يتعلّق بقدرة البحث العلميّ الأكاديميّ على تحقيق أهدافه وغاياته، وتأهيل الطّلاّب الجامعيين إلى سوق الشّغل، أو سوق المعرفة من أجل عرض سلعتهم والمحاججة بشأنها، والدّفاع عنها في المحافل العلميّة.
6- الخاتمة:
لقد غيّر “التّعليم عن بعد” بشكل دالّ العلاقة بين المتعلّم والنّص الرّقميّ، علاقة ترابطيّة بصريّة أنتجت المعنى بشكل يقوم أساسًا على الصّورة. من هذا المنطلق يمكننا أن نعود للإشكاليّة التي صاحبتنا عبر هذا التّحليل، والمتعلّقة بسؤال مركزي؛ هل يمكن للتّعليم عن بعد أن يشكّل قطيعة معرفيّة مع التّعليم الحضوريّ؟ هل هو مكمّل له؟ أم هو عبارة عن ملامح تسعى لتشكيل نظام تربويّ جديد؟
لقد رأينا كيف أنّ “التّعليم عن بعد” جسّد مرحلة حاسمة في تاريخ التّعليم بالمغرب، وعبر ربوع العالم كلّه؛ ارتبطت بوباء مستجدّ، غيَّر موازين القوى للدّول، نال من الرّفض والسّخط بقدر ما ناله من الاستحسان والقبول، هذا التّوطيد القسريّ لهذا النّمط لا يمكن لنا إغفال دواعيه غير المباشرة والمتمثّلة في سياسات رأسماليّة قد تذهب بجوهر العمليّة التّربويّة من بعدها الإنسانيّ إلى بعدها المادّي، وأثناء هذا الانتقال تضيع المفاهيم، وتتكاثر التّأويلات، ونعود إلى نقطة البداية لتتضارب المصالح والأهداف مرّة أخرى، فالتّعليم قضيّة إنسانيّة سواء كان حضوريًا أو عن بعد، والعمل على تجويده والارتقاء بمناهجه مسؤوليّة الجميع؛ الاقتصاديّون، والسّياسيّون، والمربّون، والمجتمع المدنيّ. لقد حقّقت الأزمة الصّحّية المتعلّقة بوباء كورونا مكتسبات قيّمة، من خلال توطيد التّعليم عن بعد؛ الكلّي والجزئيّ المتمثّل في صيغة التّناوب بين الحضوريّ والرّقميّ. لقد شهدنا استقرارًا على مستوى المؤسّسات وانضباطًا في السّلوك من طرف المتعلّمين، وظروفًا مريحة يشتغل فيها الطّاقم التّربويّ والإداريّ.
إنّ مرونة “التّعليم عن بعد” وسلاسته تجعلنا نكرّر طرح الإشكاليّة التي انطلقنا منها، حيث تظلّ مفتوحة على أفق متطوّر وبعيد ومستجدّات قد تحدث في أيّ وقت، ولعلّنا نجزم بأنّ ترسيم التّكنولوجيا الرّقميّة سيكون من أولويّات المقرّرات الدّراسيّة والمناهج التّربويّة، كما نجزم بأنّ “التّعليم عن بعد” سيكون موازيًا للتّعليم الحضوريّ الذي لا يمكن لنا أن نتجاوزه نظرًا لكونه يوظّف جانبًا مهمًّا من التعلّمات المتعلّقة بمفهوم أنشطة الحياة التّربويّة المدرسيّة.
قائمة المصادر والمراجع:
المراجع باللّغة العربيّة:
- بورديو (بيير) وباسرون (جان كلود): إعادة الإنتاج في سبيل نظريّة عامّة لنسق التّعليم، ترجمة ماهر تريمش، مركز دراسات الوحدة العربيّة، لبنان، ط1، نوفمبر 2007.
- بوطز (فيليب): ما الأدب الرّقميّ؟ ترجمة محمّد أسليم، مجلّة علامات، المغرب، العدد 35.
- التّعليم عن بعد مفهومه، أدواتُه واستراتيجيّاتُه، دليل لصانعي السّياسات في التّعليم الأكاديميّ والمهنيّ والتّقنيّ، نشر سنة 2020 من قبل منظّمة الأمم المتّحدة للتّربیة والتعليم والثّقافة، الیونسكو، https://en.unesco.org/sites/default/files/policy-breif-distance-learning-f-1.pdf
- تقرير المجلس الأعلى للتّعليم السّنويّ، 2008، حالة منظومة التّربية والتّكوين وآفاقها.
- الحصري (ساطع): دروس في أصول التّدريس، ج1، الأصول العامّة، بيروت 1953.
- حيمر (عبد السّلام): في سيوسيولوجيا الخطاب، من سوسيولوجيا التّمثّلات إلى سوسيولوجيا الفعل، الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، بيروت، لبنان، ط1، نوفمبر 2008.
- دوركايم (إيميل): التّربية الأخلاقيّة، ترجمة أحمد بدوي، المشروع القومي للتّرجمة، عدد 1886، القاهرة، 2015.
- السّورطي (يزيد عيسى): السّلطويّة في التّربية العربيّة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد، 362، أبريل 2009.
- الشّهري (عبد الهادي بن ظافر): استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغويّة تداوليّة، دار الكتاب الجديد، بيروت، لبنان، ط1،
- علي (سعيد إسماعيل): الفكر التّربويّ الحديث، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثّقافة والآداب والعلوم، الكويت، عدد 113، مايو، 1987.
- الغزالي (عبد القادر ): اللّسانيّات ونظريّة التّواصل، دار الحوار للنّشر ، سوريا، ط1، 2003.
- القانون الإطار رقم 51.17 المتعلّق بمنظومة التّربية والتّكوين والبحث العلميّ، فاتح غشت 2019.
- اللّحية (الحسن): الميثاق الوطنيّ للتّربية والتّكوين، شروح وتعليقات، مجموعة دلائل الامتحانات المهنيّة، دار الحرف للنّشر والتّوزيع، القنيطرة، ط1، 2003.
- المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلميّ، من أجل مدرسة الجودة والارتقاء والإنصاف، رؤية استراتيجيّة للإصلاح 2015-2030.
- المذكّرة الوزاريّة رقم 66 بتاريخ 28 أبريل 2011، في شأن استعمال الموارد الرّقميّة في التّعلّمات.
- ملف رقميّ بصيغة Eexel حول تقييم التّعليم عن بعد، استبيان خاصّ بهيئة التّدريس، الأكاديميّة الجهويّة للتّربية والتّكوين لجهة طنجة تطوان الحسيمة، ماي 2020.
المراجع باللّغة الأجنبيّة:
- https://www.weka.fr/administration-locale/dossier-pratique/diriger-un-etablissement-scolaire-dt87/piloter-le-bien-etre-dans-l-etablissement-10954/
- De Ketele, J. -G. (2007). La qualité et le pilotage du système éducatif .Québec: presses de l’univrsité du Québec.
[1]– التّعليم عن بعد: مفهومه، أدواتُه واستراتيجيّاتُه، دليل لصانعي السّياسات في التّعليم الأكاديميّ والمهنيّ والتّقنيّ، نشر 2020 من قبل منظّمة الأمم المتّحدة للتّربیة والتعليم والثّقافة، الیونسكو، https://en.unesco.org/sites/default/files/policy-breif-distance-learning-f-1.pdf، تاريخ الزّيارة 15 أفريل 2021، و27 ماي 2021، ص11.
[2]– انظر عبد السلام حيمر: في سيوسيولوجيا الخطاب، من سوسيولوجيا التّمثّلات إلى سوسيولوجيا الفعل، الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، بيروت- لبنان، ط1، نوفمبر 2008، ص24-25.
[3]– عبد الهادي بن ظافر الشّهري: استراتيجيّات الخطاب، مقاربة لغويّة تداوليّة، دار الكتاب الجديد، بيروت- لبنان، ط1، 2004، ص 444–445.
[4]– عبد القادر الغزالي: اللّسانيّات ونظريّة التّواصل، دار الحوار للنّشر، سوريا 2003، ط1، ص24-25.
[5]– القانون الإطار رقم 51.17 المتعلّق بمنظومة التّربية والتّكوين والبحث العلميّ، صادقت لجنة التّعليم والشّؤون الثّقافيّة والاجتماعيّة بمجلس المستشارين، يوم الخميس فاتح غشت 2019، بالأغلبيّة المطلقة على مشروع القانون الإطار رقم 51.17 المتعلّق بمنظومة التّربية والتّكوين والبحث العلميّ.
[6]– المرجع نفسه ص5.
[7]– انظر، التّعليم عن بعد: مفهومه، أدواتُه واستراتيجيّاتُه، مرجع سابق، ص4.
[8]– المذكّرة الوزاريّة رقم 66 بتاريخ 28 أفريل 2011، في شأن استعمال الموارد الرّقميّة في التعلّمات، وقد نصّت هذه المراسلة على تفعيل بنود البرنامج الاستعجاليّ الذي جعل من بين أولويّاته الارتقاء بجودة التعلّمات باستعمال تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات كأداة ديداكتيكيّة تساهم في إنماء الكفايات المنشودة لكلّ مادّة دراسيّة، ص1.
[9]– سعيد إسماعيل علي: الفكر التّربويّ الحديث، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثّقافة والآداب والعلوم، الكويت، عدد 113، مايو، 1987، ص9.
[10]– التّعليم عن بعد: مفهومه، أدواتُه واستراتيجيّاتُه، دليل لصانعي السّياسات في التّعليم الأكاديميّ والمهنيّ والتّقنيّ، مرجع سابق، ص15.
[11]– دروس في أصول التّدريس: ج1، الأصول العامّة، بيروت 1953.
[12]– سعيد إسماعيل علي: الفكر التّربويّ الحديث، مرجع سابق، ص15.
[13]– الحسن اللّحية: الميثاق الوطنيّ للتّربية والتّكوين، شروح وتعليقات، مجموعة دلائل الامتحانات المهنيّة، دار الحرف للنّشر والتّوزيع، القنيطرة، ط1، 2003، ص16-17.
[14]– إيميل دوركايم: التّربية الأخلاقيّة، ترجمة أحمد بدوي، المشروع القومي للتّرجمة، عدد 1886، السّنة 2015، القاهرة، ص25.
[15]– إيميل دوركايم: التّربية الأخلاقيّة،مرجع سابق، ص3.
[16]– يزيد عيسى السّورطي: السّلطويّة في التّربية العربيّة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 362، أفريل 2009، ص136.
[17]– تقرير المجلس الأعلى للتّعليم السّنويّ، 2008، حالة منظومة التّربية والتّكوين وآفاقها، ص8.
[18]– من أجل مدرسة الجودة والارتقاء والإنصاف، رؤية استراتيجيّة للإصلاح 2015-2030، المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلميّ، ص24.
[19]– إعادة الإنتاج في سبيل نظريّة عامّة لنسق التّعليم، ترجمة ماهر تريمش، مركز دراسات الوحدة العربيّة، لبنان، ط1، نوفمبر 2007، ص239.
[20]– يرجع إلى الكتاب، دار النّشر المغربيّ، الدّار البيضاء، ط1، 1973.
[21]-https://www.weka.fr/administration-locale/dossier-pratique/diriger-un-etablissement-scolaire-dt87/piloter-le-bien-etre-dans-l-etablissement-10954/
[22]– De Ketele, J. -G. (2007). La qualité et le pilotage du système éducatif .Québec: presses de l’université du Québec.
[23]– انظر عبد السّلام حيمر: في سوسيولوجيا الخطاب، مرجع سابق، ص228.
[24]– ملف رقميّ حول تقييم التّعليم عن بعد، استبيان خاصّ بهيئة التّدريس، الأكاديميّة الجهويّة للتّربية والتّكوين لجهة طنجة تطوان الحسيمة، ماي 2020، شمل هذا الاستبيان هيئة التّدريس، حيث تكلّفت الإدارة التّربويّة للمؤسّسات بالتّواصل معهم، وركّز الاستبيان، على أربعة محاور أساسيّة: مقوّمات التّعليم عن بعد، ممارسة مهمّة التّعليم عن بعد، مدى الارتياح تجاه عمليّة التّعليم عن بعد، اقتراحات.
[25]– عبد المجيب رحمون: محاضرات مادّة البحث والإعلاميّات ” عن بعد”، ماستر الكتابة النّسائيّة، كلّية الآداب بتطوان، الدّورة الخريفيّة 2020-2021.
[26]– فيليب بوطز: ما الأدب الرّقميّ؟ ترجمة محمّد أسليم، مجلّة علامات، المغرب، العدد 35، ص104- 105.