لا دليل على اختصاص الفقيه، أو خصوص الولي من الفقهاء، بملء الفراغ التشريعي، وهو مساحة الواقع باستثناء ما ورد فيه دليل شرعي صريح في مورده، هذا ما انتهت إليه الأدلة. ولا مانع من مشاركته بصفته فقيهاً متخصصاً، بعيداً عن منطق الوصاية. فمنطقة الفراغ إذاً تلك المساحة التي يتولى فيها الشعب مباشرة أو من خلال تمثيل نيابي، تشريع القوانين والأنظمة لتنظيم حياته، بعيداً عن أية ولاية سوى مصالحه ومصالح مجتمعه، شريطة التزام المشرّع بمقتضيات الحكمة وبمبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، وفي إطار القيم الأخلاقية. وحينما يشك بوجود حكم شرعي في أي مسألة من مسائل منطقة الفراغ، فالأصل هو البراءة، على أساس “قبح العقاب بلا بيان”، كما هو مقرر عند علماء أصول الفقه. (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[1]. ويقصد بالرسول الحجة الموجبة للتكليف. هذا وفقاً للمنطق الأصولي، وإلا لا معنى للسؤال في منطقة الفراغ ولا معنى لإجراء الأصل الأولي، سواء البراءة أو الاحتياط. ولا داع لوصفها بالإباحة. بمعنى أدق أن الأصل عدم التشريع ما لم يرد فيه نص شرعي. فيكون التشريع السماوي استثناء، والأصل مسؤولية الإنسان مباشرة عن نفسه وشؤونه القانونية والتنظيمية.
إن تكاليف الشريعة واضحة بيّنة لمن يلتزم بها، وهي كل ما اشتملت عليه آيات الأحكام، شريطة فعليتها. وماعدا ذلك فالناس أحرار، لا ولاية لأحد عليهم سوى ولاية الأمة أو الشعب على نفسه. هذا لمن يريد التمسك بالشريعة وآراء الفقهاء، فإن الأصل الأولي عند جملة منهم هو البراءة العقلية. في مقابل من يتمسك بالاحتياط كأصل أولي عند الشك بالحكم المجهول، ثم تأتي البراءة الشرعية لتلغي الاحتياط[2]. فهناك مسلكان، مسلك “قبح العقاب بلا بيان، ومسلك “حق الطاعة”. وأما بالنسبة للعقل بعيداً عن الفقهاء والأصوليين، فالأصل عنده حرية الإنسان. ومن حقه ملء الفراغ التشريعي لتنظيم حياته. وبالتالي فإن الأصول العقلية والشرعية تفضي للبراءة في الأحكام المجهولة، وهي منطقة الفراغ. أو بشكل أوضح تلك المساحة التي ليس للشارع فيها حكم محدد، وقد تركها للإنسان يتخذ ما يراه مناسباً وفقاً للعدالة وعدم الظلم، والسعة والرحمة، والمساواة. ولو كان للشارع وهو في مقام التشريع حكم لبيّنه ضمن آيات الكتاب، ومن حق الفقيه حينئذٍ التصدي لبيانه. لكن لم يبيّن، فلا مؤاخذة في وضع قوانين لصالح المجتمع والدولة. وبالتالي لا دليل على احتكار الفقيه التشريع في منطقة الفراغ التشريعي، غير أن الفقه التقليدي بالذات يعيش رهاب الحرية، ويخشى تحمل المسؤولية، ويشعر بسعادة عارمة في عبوديته. لقد عاش الإنسان ردحاً طويلاً من الزمن يتصدى لتنظيم حياته بنفسه، وقد أرسى أعرافاً وتقاليد لضبط سلوك الفرد والمجتمع، حتى وهو يعيش حياة بدائية: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ)[3]. وبعد مجيء الإسلام لم يلغ الرسول جميع الأعراف والتقاليد، خاصة في المجال الأخلاقي: “وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. كل ما فعله الإسلام صحح مسارات العلاقات والأنظمة، وقام بترشيد الوعي، كي يسترد الفرد عقله، ويواصل حياته وفق بوصلة قيمية وأخلاقية، من وحي العقل العملي ومدركاته. لذا لم يسمح القرآن بتمدد الشريعة خارج حدودها، ليتحمل الإنسان مسؤولية خلافة الأرض وإعمارها في ضوء مبادئ العدالة وعدم الظلم والجور: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[4]. وبالفعل نهى عن كثرة السؤال، ليحد من مشاعر العجز الداخلي، ورهاب المسؤولية الحياتية. وبين بشكل واضح وصريح أن حدود التشريع تنتهي بمضامين آيات الأحكام، ولم يمنح صلاحيات تشريعية لأحد بشكل صرح واضح، ولم يكلف أحداً بملء منطقة الفراغ التشريعي. وبشكل أدق، لم يجعل ولاية تشريعية للنبي فضلا عن غيره، وآيات الكتاب تشهد في تحديد مسؤولياته، وتقدم الحديث مفصلا. وثم آيات تؤكد حدود التشريع، وعدم السماح بتمدد التشريع:
– (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[5]. بهذه الآية تعرف مساحة المحرمات التي تتناقلها كتب الفقه وليس لها جذر قرآني، سوى روايات لا يمكن الجزم بصحة صدورها، تعد عندهم حجة لحجية مطلق السُنة النبوية.. يفهم من الآية هناك من استفسر عن حرمة شيء، فأعطت الآية ضابطة في التحريم، وما عداها فهو مباح. والآية ضمن آيات رسمت لنا حدود الشريعة والأحكام، وأعطت ضابطة كلية مفادها: “المحرم ما نصت الشريعة على حرمته”، ولازمها أن يتحمل الإنسان مسؤولية الواقع وضروراته. وطالما أكدت أن دور الدين ترشيد الوعي، وتبقى الأصالة للعقل وما حباه الله من قدرات خارقة، وأمامنا التقدم الحضاري الهائل، رغم تحفظنا على بعض تشريعاته.
– (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ). فكل ما عدا تشريعات الشريعة فهو حلال ومباح، فتشمل الإباحة بامتدادها منطقة الفراغ، فنحكم على كل ما نشك بحرمته بالحلية، مشمول بالإباحة اللاإقتضائية. بل وحتى الإباحة الإقتضائية، فإن مفادها وجود ملاكات أن تبقى منطقة الفراغ مباحة، قابلة للتشريع من قبل الإنسان، لتواكب تشريعاته النسبية تطورات الواقع وضروراته.
– (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)[6]. فهي أحكام محددة، فيكون الأصل الإباحة إلا مادل الدليل على حرمتها.
– (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)[7]. مما يؤكد اقتصار الولايتين التكوينية والتشريعية على الله تعالى. ولا يجوز لأحد أن ينسب له ما لم تصّرح به الآيات. وهنا مكمن الخطر حينما ينسب الفرد فتاوى وأحكام الفقيه لله، ويتعامل معها بقدسية، وهي مجرد آراء اجتهادية، ووجهات نظر فقهية، تختلف من فقيه لغيره، ومن واقع لآخر، ومن عصر لعصر.
– (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)[8].
كل هذا وغيره يؤكد عدم وجود دليل على اختصاص الفقيه أو الولي من الفقهاء بملء منطقة الفراغ التشريعي، وتبقى منطقة مباحة، يتصدى الخبراء لملئها، وفقاً لمصالح شعوبهم وأوطانهم وفي إطار القيم الأخلاقية الأعم من القيم الدينية. وبالتالي لا دليل على ما ذهب إليه السيد محمد باقر الصدر، كما تقدم: (.. وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف). وهذا لا دليل عليه. إذ أمضت الشريعة الإسلامية البيع والشراء، واستثنت الربا وبيع النسيء، ارتكازا لملاكاتها القائمة على التراضي، لذا لا تجد أحكاماً قرآنية تفصيلية تخص أحكام البيع والشراء مقارنة بأحكام العبادات مثلا. فملاكات التجارة ملاكات متغيّرة فاكتفت الشريعة بالتراضي لتمريرها وإمضائها. وليس التجارة فقط، فالمجتمع العربي رغم حكومة العنف والقوة لكن تضبط حركته مختلف التشريعات، بعضها ديني، وهناك قبَلي وأخلاقي، وعرفي، وتجاري، وتجاور وعلاقات، وحرب وسلام وديات وقضاء، وغير ذلك، فالإسلام لم يلغها جميعها، بل أمضى بعضها، وهذّب الأخرى، وأعاد توازن ثالثة على أساس العدالة ومنع الظلم. وأضاف ما رآه ضرورة لحفظ توزان المجتمع واستتباب الأمن والسلام، كالمطالبة بأربعة شهود شرطا لثبوت الزنا، وإقامة الحد. فلا يمكن للخالق أن يشرع لواقع متحرك تشريعات مطلقة، فربط فعليتها بفعلية موضوعاتها. وقد راعى مهمة الإنسان ودوره، وضرورة الاعتماد على نفسه. وأمامنا القوانين المدنية الحديثة، التي خلقت أجواء آمنة، وحياة اجتماعية مستقرة وفقاً لمركزية العدل، وهذا شاهد على كفاءة الإنسان تشريعا. بينما تعصف بأحكام الفقهاء جملة إشكالات لا يمكنهم تجاوزها بفعل القواعد الأصولية التي أسسوها وفرضوها سلطة توجه وعيهم الفقهي[9]. وأيضا أهملت الشريعة السياسة، سوى مبادئ تصلح أن تكون أُطرا لمختلف التشريعات، ولم يتطرق القرآن لأهم مواضيعها. أعني الخلافة، التي تسببت في تشتت الأمة فيما بعد. ولم نقرأ شيئا عن شروطها، ومسؤولياتها. وبالتالي، ملء منطقة الفراغ التشريعي تقع على عاتق المجتمع، يتدبرها وفقاً لمصالحه، وما يحقق أمنه واستقراره، شريطة عدم تعارض تلك القوانين والأنظمة مع ثوابت الشريعة (وهي مبادئ التشريع: العدالة وعدم الظلم. السعة والرحمة، المساواة)، مادام المجتمع مسلما، ملتزما بأحكامها. والمجالس النيابية والتشريعية ضمن مؤسسات الدولة الحديثة هي الممثل الوحيد اليوم. وحينئذٍ تستمد القوانين الوضعية شرعيتها من الشعب، ومن قدرتها على أداء وظيفتها. ولا ولاية إلا ولاية الأمة على نفسها[10].
نعود لمواصلة البحث في مفاد الفرضية المتقدمة: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائياً، بل أن تشريعها يجري وفقاً لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته). وهي مبادئ عقلائية، يحتكم لها الخبراء والمشرعون وفقهاء القانون، من يتصف منهم بالحكمة والعقلانية والموضوعية، ويركن للعدل والرحمة ونظرة المساواة، بعيداً عن التحيّز والظلم والجور. ولا يمكنهم ذلك ما لم يحيطوا بالواقع وضروراته، ويحددوا ملاكات الحكم من مصالح ومفاسد. وعندما يترافع الخصوم أمام المحاكم، سواء الشعبية أو الرسمية، يترافعون لإحقاق الحق وإقامة العدالة وتسوية الخلافات، انطلاقا من تلك المرتكزات. أي يترافعون على أساس قبلياتهم عن الحكم وما يتصف به الحاكم من صفات العدالة وإحقاق الحق أي مبادئ التشريع. وهكذا الحال بالنسبة للأنظمة والقوانين، فإن ما تضمره من مصالح لتنظيم المجتمع والسلطة، هي المبرر لالتزام الناس بها، لذا يعترضون عندما لا تحقق غاياتها، ويصفونها بالظلم وعدم العدل. فتلك المبادئ مبادئ عقلانية بعرف العقلاء، وقد تم الاستدلال عليها بمجموعة آيات قرآنية كما تقدم وسيأتي. وعندما أكد الخطاب القرآني عليها، فهو تأكيد على قضايا مرتكزة لدى العقلاء والحكماء. وعندما يؤكد على العدل في الحكم فإنه مأخوذ في تشريعات الشريعة لا محال، وعندما تؤخذ المبادئ بنظر الاعتبار فهي ناظرة للواقع وضروراته، وللفرد وحاجاته، وللمجتمع ومتطلباته، فيأتي التشريع ليُرسي العدالة والأمن والاستقرار ويحق الحق ويعطي كل ذي حق حقه، ضمن ظرفه الزماني والمكاني. المهم أن تشريعه كان وفقاً لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع، ووفقاً لهذة المقتضيات يجب إعادة النظر في فعلية الحكم عندما يتغير الواقع. وبنفس المنطق ينبري المشرّع لملء الفراغ التشريعي، مع مراعاة الواقع وضروراته، والالتزام بمبادئ التشريع وفق ذات المقتضيات. فأحكام الشريعة ليست قضايا ميتافيزيقية أو غرائبية، ولا تقع ضمن اللامفكر فيه، سوى النظرة البعيدة ضمن هدف الخلق وحركة الوجود، وهذا لا يشمل جميع الأحكام. وأيضا هي ليست تشريعات ارتجالية، ولا هي طلاسم وألغاز يتعذر فقهها وإدراك فلسفتها. بل هي تشريعات قامت على مبادئ وملاكات. أي قامت على قيم اعتبارية، لها دلالتها وسلطتها، وتقع ضمن مرتكزات الوسط الثقافي الذي يرتهن له تأويل الوحي. وبدونها لا يستوي التأويل، ولا يحقق مداه التشريعي. وما على الفقيه سوى الخروج من منهج استنباط الحكم المتداول إلى منهج آخر، لإدراك فلسفة الحكم وتاريخه وخلفياته الاجتماعية والمبادئ التي ارتكز لها، والمنطق الذي حدد مساره. فعندما تقول الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)[11]. فهي تشترط النظافة في إقامة الصلاة، وحنيئذٍ سيغني غسل الجسد كاملا عنه، بينما لا يقول بذلك إلا قلة من الفقهاء، باستثناء غُسل الجنابي، فهو يكفي عن الوضوء. وكان استاذنا وهو يشرح موضوع الوضوء في إحدى مقررات الفقه، خلال مراحل الدارسة، قبل قرابة أربعين عاما، يضفي معان روحية ونورانية. يرفض أي تفسير مادي ظاهري لهذه العبادة، فينفعل خلال شرحه، ليعبر عن شيء هو لا يعرفه!!!.
الفقه التقليدي السائد يتشبث بقدسية الأحكام بالمعنى الدوغمائي، ويرفض مراجعة ملاكاتها ومدى فعليتها، بدعوى ميتافيزيقيتها، وتعذر معرفة عللها، وما يبدو علة وسببا لتشريع الحكم لا يعدو كونه حكمة. وهذا غير صحيح، فعندما يأمر القرآن بالعدل فهو لا يؤسس له، بل يؤكد على مرتكز عقلائي، سائد في جميع المجتمعات في مقابل الظلم والعدوان. مادام العدل صفة نفسانية من مقولة الكيف، يتصف أو لا يتصف بها الإنسان. فجاء الإسلام وأكد عليه. وبالتالي، فهي قيم عرفية ومرتكزات عقلائية، يمكن إدراكها وتحديد ملاكات الحكم في ضوئها. ولو كان يقصد معنى آخر لمفهوم العدل، كان ينبغي بيانه، لكن لم يفعل.
تأسيسا على ما تقدم، يمكن اعتبار التشريعات القرآنية نماذج عملية لتشريع الأحكام، وفقاً لتلك المبادئ، شريطة إدراك مرتكزاتها ومقاصد تشريعها. بمعنى أدق يمكن الارتكاز لتلك المبادئ التي قامت عليها تشريعات الشريعة، لملء الفراغ التشريعي، بعيداً عن قدسيتها بالمعنى الدوغمائي، كي تتكيف مع الواقع وحاجاته. وبهذا الصدد يمكن تأسيس قواعد أصولية تساعد على تشريع أحكام تمثل وجهة نظر فقهية، يكون فيها القياس والذوق الفقهي أدوات ماضية. لأنك تبغي توظيف مبادئ التشريع لملء الفراغ التشريعي، دون نسبتها للشريعة. فالمشرّع بصدد أحكام لتنظيم حياة الناس في مساحة الفراغ التشريعي وبإمكانه الارتكاز لمبادئ التشريع وفق مقتضيات الحكمة. ولا ريب في ذلك، إنما الخطر في نسبة أحكامه للشريعة، فينقاد لها المكلّف مدفوعا بالطاعة والانقياد على أمل إحراز مرضاة الله، كما توحي فتاوى الفقهاء بذلك[12].
***
ماجد الغرباوي – كاتب وباحث
مراجع المقالة :
[1] – سورة الإسراء، الآية: 15.
[2] – انظر مثلا، محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، مصدر سابق، ك1، ح1، ص 140.
[3] – سورة البقرة، الآية: 213.
[4] – سورة الأحزاب، الآية: 72.
[5] – سورة الأنعام، الآية: 145.
[6] – سورة الأنعام، الآية: 151.
[7] – سورة النحل، الآية: 116.
[8] – سورة البقرة، الآية: 179.
[9] – الغرباوي، ماجد، الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص 166.
[10] – شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام،دار الثقافة، 1992، ص 431.
[11] – سورة المائدة، الآية: 6.
[12] – للتفصيل، أنظر: الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في التشريع.. نحو منهج لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2024م. سيما الصفحات 70 – 80.
1 تعليق
انعكاسات ولاية الفقيه على العلاقات العربية
يعتبر الإمام الخميني و نظامه أول من شرع في الترويج لمبدأ ولاية الفقيه، من أجل أن تبقى الثورة الإسلامية حبيسة الحدود الإيرانية ، و خلقت إيران ما أطلق عليه بـ: ” تثوير الإسلام” كتوجه إيديولوجي، و كان هذا التوجه الإيديولوجي يملك تأثيرا في المناطق التي تثق في رجل الدين، و تستمد منه الشرعية أكثر من الأنظمة الحاكمة، لأن الخطاب الديني آنذاك دخل في متن اللعبة السياسية، و الأمثلة كثيرة ذكرها بعض المؤرخين، منها واقعة احتلال الحرم المكي في أوائل 1980 عندما قام شخص يدعى “جهيمان العتيبي” في محاولة منه تغيير نظام الحكم في السعودية و الإعلان عن قدوم المهدي المنتظر و هو المقابل السّنى لعودة الإمام الغائب في المذهب الشيعي، و طبعت العديد من الدول العربية مثل مصر النموذج الإيراني الذي عبر عن الإسلام الثوري، وبداية من القرن العشرين شهد العالم العربي و الإسلامي جدلا كبيرا للصراع السني الشيعي، حول المسالة السياسية و أولوية الفقيه، و وضع الخميني شروط أهلية الفقيه بالولاية، و تولد عن هدا الصراع ما سمي بـ: “فقه التكفير” عند جماعات الإسلام السياسي في مصر، تونس و في الجزائر و البحرين و سوريا بدرجات متفاوتة، و الخلاف حول “المرجعية الدينية” بين السنة و الشيعة و التي احتدم الصراع حولها بين حوزة النجف في العراق و حوزة قم في إيران.