تل زيوان:
في العام 1975 كنت في الصف العاشر، في السادسة عشرة من عمري، في الصيف عملت في مزارع الدولة، ككاتب براتب 223 ليرة سورية على أساس الكفاءة.
كنت أستيقظ صباحًا في الرابعة والنصف، وألتحق بمعسكر الفتوة في الساعة الخامسة، في مدرسة العروبة في القامشلي.
بمجرد أن ينتهي الدوام ظهرًا، أذهب إلى البيت لأكل القليل من الطعام، وأتجه مباشرة إلى محطة تل زيوان التي تبعد عن بيتنا حوالي خمسة كيلو مترات، إلى العمل، أكون هناك في الثانية ظهرًا إلى العاشرة ليلًا.
مهمتنا كانت استلام شاحنات مملوءة بشوالات القمح، نعدهم ونوقع على ايصالات الاستلام بانتظار الشاحنة القادمة.
كل شيء كان للدولة، الشاحنات، الأرض، القمح والشغل.
كان بصحبتي مجموعة من الشباب في مثل عمري في ذاك الوقت، موظفين مؤقتين، كل واحد كان يعمل في موقع، بيد أننا نلتقي في مكتب واحد نجتمع معًا في بعض الأوقات، ومسؤولنا كان اسمه آراكيل.
عندما كان يهل الليل، كنت أصعد فوق ستوكات أو تلال من أكياس القمح أو كما يسمى في محافظتنا بشوالات الحبوب المملوءة قمحًا، وأجلس هناك فوقهم تحت ضوء القمر، وكان يأتي ويجلس إلى جانبي صديقي الجميل طعمة العلي، كان ناصريًا وكنت شيوعيًا، كنّا نتحدث في السياسة والأدب والفن والمدرسة والحياة والمسرح والغناء، والصراع العربي الإسرائيلي.
ويبدأ طعمة في الغناء يوميًا تقريبًا، بصوت شجي أخاذ لفريد الأطرش، بذلك النغم الصافي، والنسيم عليل يحن علينا، يهب نبالته وصفاءه، ويدغدغنا، ونحن ندغدغ الوجود برقته ووداعته. والحياة نجوم ساهرة جميلة لطيفة تضحك لنا وتغني معنا.
صوت طعمة كان جميلًا شجيًا كصوت فريد، كأغنية يا ليمونة يا حياتي يا رفيقة ذكرياتي، وأول همسة، والربيع، وأياك، لحن الخلود، حبينا، أشرد مع هذا الصوت، أصفق مع أجنحة الخيال عن الحب، أتخيل الحبيبة وهي بالقرب مني، مع صوت طعمة العلي النبيل الرائع كنت أرتقي إلى السماء والنجوم.
قبل سنوات تواصلنا أنا وطعمة، وفي كل اتصال، كان بيننا ذلك الصوت وتلك الذكريات التي تأخذ نفسها بنفسها وتتسلق الذاكرة، وتمسك الذات من العروق وتعيدني إلى تلك الربوع.
المصادفة الغريبة أنه انتقل إلى الضيعة الذي عاش فيها جدي، وفي تلك الضعية، ولدت بالمصادفة، وزرتها مرات عديدة في فترة طفولتي المبكرة.
الصديق النبيل طعمة، أشكر القدر أنك رافقتني في ذلك الزمن الرقيق الناعم الجميل، الذي غاب ولن يعود.
كنت قديسًا في ثوب إنسان، يا لروعتك يا صديقي النبيل، ويا لروعة تلك الأيام!
الرحمة على ترابك يا طعمة، لقد رحلت باكرًا، الوداع.
عرق بطة سوداء:
نادى علي أبو ليفون:
– آرام، تعال إلى عند عمك كارو، كيفك حالك ومدرستك؟
– أنا بخير يا أبو ليفون. كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح.
– هل تستطيع أن تجلب لي من السوق سوداية؟
قلت له:
– تكرم عيونك يا أبو ليفون.
أعطاني ليرة سورية ثمن السوداية وركضت إلى السوق بأقصى سرعة.
دخلت محل ابو سيلفانا، حبيبتي الصغيرة، وأنا ألهث من الركض السريع.
كنت في العاشرة من العمر، وفي ذهني أنني أسلم على الحبيبة بدلًا من أبيها. كان طويل القامة، وسيمًا ولطيف المعشر.
– أبو جاك أريد منك تعطيني صودا
نظر إلي بتأمل عميق، وأنا أردد في نفسي، ماذا يريد مني؟ هل علم أنني أحب ابنته؟ في الحقيقة خفت منه. هل سيضربني؟
– هل تريد صودا أم سوداية؟
في الحقيقة وقفت أمامه والخجل يغمر قلبي وعقلي، قلت:
– وما الفرق بينهما؟
– الفرق كبير جدًا. كيلو الصودا بعشرين قرشًا، بينما السوداية ب 90 قرشًا.
– أعطني بليرة سورية صودا.
مسك كيسًا كبيرًا من الورق وبدأ يملأه بالصودا، قال:
– سيكون ثقيلًا عليك حمله. ما زلت صغيرًا.
في الحقيقة حزنت كثيرًا عندما نعتني بكلمة” صغير” وأنا أظن نفسي كبيرًا.
– لا مشكلة، املأه.
ملأ في الكيس خمسة كيلوات صودا.
حملت الكيس بصعوبة وسرت مشيًا على الأقدام إلى البيت ووصلته بصعوبة بالغة.
ما أن دخلت الحوش حتى استقبلني أبو ليفون والضحك يتطاير من على فمه ويغطي الحيطان وسقف السماء.
– ما هذا يا آرام؟
– صودا؟
– كنت أريد قنينة عرق بطة سوداء.
وغرق في الضحك مرة ثانية وسط استغرابي، قلت:
– وهل اسمها بطة سودا؟
– نعم.
حملت الكيس لأعود به إلى البائع.
– دعه. يلعن أبو يلعن المصاري. سنستخدمه في الغسيل. ولا يهمك، خذ ليرة أخرى واجلب لي بطة سودا، سعرها تسعون قرشًا، وضع الباقي في جيبك.
هكذا كانت حياتي، أمشي يوميًا مرات كثيرة إلى السوق.
عين حمزة:
مدينة رأس العين قصيدة متجذرة في لعبة الريح.
كان والدي مسكونًا بحب الطبيعة والأرض، يحملنا في الصباحات الصيفية الباكرة المنعشة إلى هناك، إلى مصب الحياة، إلى الينابيع.
يوقظنا من النوم، عندما تكون أجنحة السماء غافية. نضع كل مستلزمات الرحلة الصباحية في السيارة، طاولة، جبس، بطيخ بلدي، جبن بلدي، خبز تنور تحضره والدتي قبل مساء، خبز من الفرن، زيتون، مربى مشمش، مربى ورد، تين أو قرع، كرز.
قبل الساعة الخامسة صباحًا ننطلق، عندما يكون الناس نيامًا أثناء العطلة. أي، يوم الجمعة.
يتحاشى والدي الذهاب عبر وسط المدينة، الشارع الوحيد في رأس العين، الذي يمر عليه جميع الناس ويقسمها إلى قسمين. ويوزع السكان على بقية الأحياء، فنمر، بعيدًا عن عيون الناس حتى لا يستفز المخبرين أو البعثيين الذين كانوا عيون النظام على الشاردة والواردة، وحتى لا يقولوا إن هناك سيارة للدولة فيها أطفال وامرأة. ويستخدمها الموظف للحاجات الخاصة والشخصية. بالرغم من أن والدي كان يطلب إذنًا من رئيس المصلحة قبل الذهاب بهذا المشوار بيوم واحد، لمسافة تقدر، بأقل من ثلاثة كيلومترات.
ننطلق من البيت مسافة مائتي متر باتجاه الغرب، ثم ندور نحو اليسار، نمر عبر الثكنة الفرنسية القديمة المتموضعة فوق تلة أو مرتفع عن الأرض مسافة بضع مئات من الأمتار ندخل فجًا إلى أن نصل إلى الملعب البلدي المكشوف، فنعبر المطحنة إلى أن نصل إلى الينابيع.
كانت الحياة بسيطة جدًا في ذلك الزمن في الستينيات، معجونة بالشهقة الجميلة، فتمر كدعابة أو حلم ملون يناجي طيف السماء. في هذا المكان، ترقص بحار المياه العذبة فوق طبقة التراب النائمة، كفاكهة على غصن أخضر. هذا الماء البللوري يمتد كجذر على الأرض وأشجارها، وفوقه تسطع غمائم السحر وشبابيك الشَّمْس وغابة الحياة.
المكان عذب، ساحر، ولا سحر أجمل من ينابيع رأس العين في العالم كله.
مع الأسف كنا نملك أجمل بقعة في هذا العالم. زينة من الطبيعة البكر، وهبتها لنا على طبق من صفصاف. وضيعناها إلى الأبد.
عندما نصل إلى نبع عين رياض، يوقف والدي السيارة في مكان مظلل بالأشجار، بعيدًا عن العيون.
ننزل، وندخل غابة صغيرة عبر ممر مملوء بالأشجار مسافة بضع أمتار. على امتداد البصر، ماء وينابيع وشجر ونسيم عليل. أخذنا أقرب مكان لنا. عين حمزة. نبع دائري، قطره أقل من أربعة أمتار، ينساب منه الماء كشعر صبية جميلة في مقتبل العمر. على الضفة نفرش الطاولة، أو في وسط الماء الرقراق، نجلس على الكراسي أو نفرش بطانية ونجلس على الأرض المعشبة. تقشر أختي وأمي البطيخ والخيار، وتحضران الفطور. أنزل إلى الماء برفقة والدي نسبح، العمق لا يتجاوز المتر. عندما أقف أحس بالرمال تدغدع رجلي وأصابعي. ترقص الرمال الناعمة المدورة تحت تأثير أندفاع الماء من شهوة الأرض، كطفل ولد للتو. ينسحب الماء من جسد الأرض، ويسير فوقها كغطاء من ورد. ويستمر إلى ما نهاية، كنبض وعطاء.
كنت أرى قدمي مكسورة بفعل الماء، والأسماك تلعب بأصابعي، وأرى الماء الصافي العذب يلعب بمسامات الصباح الباكر، يضخ الحياة في شرايين الحياة، ويحتمي في هذا العري الكوني المملوء بالضوء بالضوء ولعبة الحياة.
لم أكتف بهذا النبع، أقول لوالدي:
– أريد أن أذهب إلى نبع رياض، إنها على بعد ستة أمتار. هناك النبع أوسع وأعمق، مفتوح على نبع آخر، أريد أن أسبح في فضاء أكبر.
ينهرني بكلام قاسٍ:
– أنت طفل عجول تحب التنقل من مكان لآخر، لا تستطيع البقاء في مكان واحد. ما الفرق بين هذا النبع وذاك؟ نريدك أن تبقى معنا، مع أمك وأخيك وأخواتك. لماذا تحب أن تتميز عنا؟
– لقد سبحت سابقًا هناك مرات كثيرة. لا أحب هذا النبع، فهو صغير ولا يفي بإمكاناتي كسباح ماهر.
– هذا هراء، النبع هو النبع، وإذا أخذتك إلى نبع عين حصان ستطلب عين الزرقاء، وإذا أخذت إلى عين عروس، ستطلب عين الكبريت، عين بانوس، قطينة. المشكلة فيك وليس في النبع. لا أسمح لك أن تتركنا وتذهب وحدك.
ألا يكفي أنك تقضي معظم أوقاتك بين كرة القدم والسباحة في الينابيع؟ نفطر هنا، ونتمتع بالصفاء والجمال، حيث العصافير والبلابل والطيور تغرد طوال الوقت؟
ارغمني على القبول، قلت لنفسي:
– الحياة هنا صافية نقية هادئة.
الحقيقة أن بلادنا كانت جميلة في هذه الفترة، الناس بسطاء، قبل العام 1970، لم تتلوث بالطائفية أو الانتماءات المذهبية.
ركبنا السيارة ومررنا بجوار بقية الينابيع التي لا تعد ولا تحصى. ربما مئات أو أقل أو أكثر. الماء في كل مكان، والماء جارٌ للماء، يغني له، يغازله، يتزاوجان، وينجبانِ أطفالًا.
وصلنا إلى نبع عين سيروب، كانت العمة سيران، أم سيروب، على علاقة قرابة مع والدي. لم تكن تعرف العربية، بل تتحدث الأَرْمَنية والكردية. استقبلتنا بابتسامة مشرقة، ورحبت بنا. جلسنا تحت الأشجار، وكانت الشمس قد خرجت من حلمها، ومخبئها وأخذت ترمي بسيول أفراحها علينا.
أخذتنا إلى شجرة عالية قالت لوالدي:
– هل لديك المقدرة على هز هذه الشجرة؟
وأشارت إلى شجرة المشمش.
قال لها والدي:
– بالطبع أستطيع.
في هذه اللحظات اقترب كثير من الأطفال لجني بعض حبات المشمش أو للصعود إلى أعلى أغصان الأشجار المثمرة.
كانت سيران، امرأة مسنة، تركض وراءهم وتشتمهم بأقدح العبارات، بلغة عربية ركيكة، مضحكة. ويتخلل الشتائم، شتم لنفسها أيضًا، أكثر من شتمها للأطفال، الذين كانوا يهربون منها، ويضحكون عليها.
صعد والدي إلى أعلى الشجرة. وصعدتُ وراءه، بعد أن فرشت والدتي بطانية على الأرض. هز والدي الشجرة. وانتقلنا إلى شجرة أخرى. امتلأ المكان بالمشمش، ووضعنا الجنى في السيارة بكميات كثيرة.
قال لها والدي:
– يجب أنت نتوقف. من المؤسف أن لا ننتقل إلى بقية الأشجار، إن نترك هذا المحصول الوفير يتعفن أو يموت على ظله أو على الأرض
قالت سيران:
– أريد أن أتخلص من المشمش الباقي على الأشجار. الأَطْفال يسببون لي الإزعاج. ارمِ المشمشَ، أرجوك. أريد أن تتعرى الأشجار من الثمار حتى لا يكسروا الأغصان، هؤلاء الأَطْفال أشرار، ولا أريدهم أن يدخلوا إلى حقلي في غيابي أو إلى نبع الماء الخاص بي.
والدي ابن الحكومة:
بالرغم من أن والدي كان معتدًا بنفسه مثل أغلب الرجال الشرقيين، يخلق لنفسه وهمًا ويستند عليه، ليبدو مميزًا، له مكانة لا تتوفر عند غيره.
إنه موظف في دائرة حكومية برتبة سائق سيارة، يعني ابن الحكومة، وهذه الوظيفة كانت تمد صاحبها بإحساس مختلف في تلك الأيام.
إحساس مختلط بين الفوقية والدونية؛ لهذا كان يرى نفسه مهمًا وتقع على عاتقه مهمة الحفاظ على مصالح الدولة والوطن.
في الحقيقة إن الأيديولوجية تمنح الإنسان إحساسًا بالتفوق الوهمي المؤقتِ إلى أن يفضحها الواقع ويعريها من كذبها وخداعها.
عمليًا، هي حالة هروب من الحقائق على الأرض والتحليق في أوهام الحسابات الخاطئة.
والتاريخ كله لم يعط للناس الذين تأدلجوا إلا عظَمة قاسية، سرعان ما يعود المرء إلى الغرق في حقائق الواقع القاسية. ربما دعاية البعث مدت والدي باحساس جميل بالمستقبل، بأن مجيئها كان مهمًا، بل كانَ لصالح البشر، فأمن بنجاحهم في تحقيق ذاته الشخصية، كرامة وعيش كريم وحرية، كان فرحًا، تغمره السعادة والأمل والحياة.
وكان يردد في مرات كثيرة:
– سينتصر الجياع المشردون المسحوقون.
بيد أنه كان يبحث في نهاية كل شهر، عن بضع ليراتٍ ليدفع ثمن بنطال أو قميص ليستر جسد أحد أطفاله من البرد أو الحر أو لدفع ديون الطعام ومصاريف المدرسة وإيجار البيت.
وكان يحتار كيف يهرب من الالتزامات المتراكمة عليه. بيد أنه كان يبقى مرحًا، يطلق النكات الجميلة، ويدخن من أجل تسجية الوقت.
وكان عاشقًا للمرأة التي تزوجها، أمي، التي ملأت حياته ويومه بالسعادة والفرح. ولا أعتقد أنه استطاع أن يرى الدنيا إلا من خلال عينيها.
ولكن حبه لها تبلور على شكل مأساة لنا. ففي كل عام أو عامين لدينا فم جديد، طفل جديد، يرميه في جوف هذه الحياة والأسرة، أخ أو أخت، ويبرر كلامه بابتسامة عريضة:
– الله أعطانا هذا المولود الجديد، ذكرًا أو أنثى لافرق. المهم أن والدتكم قامت بالسلامة.
انظر إليه وأقول في سري:
– المهم أن ترضي رغباتك، ولا يهمك إلا نفسك.
يأخذنا مسافات طويلة سيرًا على الأقدام إلى أن نصل إلى ذلك النبع العملاق، عين حصان الذي يمتد على مساحة كبيرة، نجلس بجواره، نشرب الشاي أو المتة أو نتغذى.
إحدى المرات كنت جالسًا في السوق مع أولاد من عمري، مر والدي بالسيارة، وكالعادة لم يرَني، وكنت أستغل ضعف بصره في هذه الغاية، فأهرب من أسئلته:
– لماذا أنت هنا؟ أذهب إلى البيت، كن إلى جانب أمك وإخواتك، لا تتركهم وحدهم.
إحدى المرات رآني أحد المهندسين الزراعيين، زميله في الوظيفة الجالس إلى جانب والدي في السيارة، أشار إلي. أوقف والدي السيارة وقال لي:
– اصعد.
ركبت بجانب المهندس في الوسط بينه وبين والدي، فمضى الأخير يتكلم معي ويمازحني. وتركت لنفسي حرية الحديث دون تقييد.
سألني:
– هل تحب إسرائيل؟
– لا، لا أحب إسرائيل.
قال ممازحًا، وأشار إلى والدي:
– والدك يحب إسرائيل.
قلت:
– والدي لا يحب إسرائيل، بل يكرهها.
سألني:
– إذًا، والدك، من يحب؟
قلت:
– والدي شيوعي، ويحب الشيوعيين.
ساد صمت مؤلم. كأن طنجرة ماء مغلي حط على رأسيهما. ارتبكا وصمتا.
قلت في نفسي:
– لماذا خافا من هذه الكلمة؟ ماذا حدث؟
وضعني أبي عند محطة البنزين القريبة من البيت، ومضى ليوصل المهندس إلى بيته. وعندما عدت للبيت رأيته جالسًا على كرسي خشبي عتيق، حزينًا، يأسًا، منكس الرأس والجدع حتى يكاد يصل رأسه إلى ركبته، بجانب شجرة الكينا، والغيم يتسيد السماء والوديان. وما إن راني حتى بادر بالكلام ولكنه بلع ريقه عدة مرات. السيجارة بيده ترتجف مع اهتزاز أصابعه، بادرني بالقول:
– آرام، تعال، اجلس.
جلست أمامه مستغربًا من هذا التوتر الذي يسود البيت والأسرة.
قلت في نفسي:
– ماذا حدث حتى تغير مجرى سير أسرتنا؟ لماذا هذا الانطواء والصمت المتوتر؟
مر فوقنا رف من الطيور المهاجرة ذات استغاثاتٍ مؤلمة، ففي أصواتها بحة حزينة، ورنين حنين وهروب وقلق، ووداع أرض ولقاء أرض. وكانت تندب وتضحك. استيقظت على صوت يسأل:
– كيف علمت أنني شيوعي؟
بلعت ريقي، ونسيت صوت الطيور، وغابت السماء في هذه اللحظات العابرة إلى المجهول، قلت:
– ماذا يعني شيوعي؟ ماذا تعني بكلامك؟
– أنت مَن قال عني هذا الكلام وعليك أن تجيبني.
– لا أعرف.
– هل تعرف أبعاد كلامك؟
– لا، لا أعرف
انطويت على نفسي كقنفذ مريض، ولم أتذكر اللحظة التي كنت فيها معه ومع المهندس شعبان في السيارة.
ازدادت دقات قلبي من الخوف من المشهد الحزين المخيم على والدي والبيت.
أضحى مظهر والدي كالصنم المجوف، أصفر اللون كالشمع ينحت بدقة أزاميل الزمن، كي أستطيع أن أرسم راهنية هذه اللحظة.
تشوه وجه والدي خلال دقائق، استطالت شعرات دقنه، وتغير كل شيء فيه في هذا الوقت، فقال:
– إذًا، لماذا نطقت هذه الكلمة؟ ما هي الدوافع من وراء كلامك؟ مَن علمك أن تنطق بههذه الكلمة أمام الآخرين؟
– لا أحد.
– إذا؟
– أنت تفتح الراديو كل يوم وتسمع الأخبار، وأسمع كلمة شيوعي، اشتراكي، إسرائيل. خمنت أنك اشتراكي، شيوعي. أردت أن أقول اشتراكي لكن لساني نطق بكلمة شيوعي، هذا كل ما في الأمر.
– خمنت، هذا كل ما في الأمر؟
– نعم.
– هل تعلم إذا بلّغ أو وشى هذا الرجل عني للحكومة سيضعونني في السجن، شهرين وربما سنة، وسيسرحونني من وظيفتي؟ وقتها سنأكل الخراء أنا وأنت وإخوتك؟
تنفس بعمق وقلق وأضاف:
– هل يرضيك هذا التصرف؟
تدخلت والدتي في الحديث، قالت:
– تماسك يا رجل ماذا دهاك؟ إنه طفل صغير ولا أعتقد أن المهندس شعبان، زميلك في العمل، سيصل به الأمر أن يبلغ عنك. ليس معقولًا أن يلام طفل صغير على كلامه. لا تخف، وابقَ هادئًا.
بقي والدي مهمومًا تلك الليلة، لم ينم. يدخن ويفكر وينظر إلى الشارع عبر الشبابيك خائفًا أن تأتي دورية المباحث وتقبض عليه.
الحقيقة، لم يكن القمع في سوريا بتلك الدرجة التي أصبحنا عليها في زمن حافظ الأَسد. ربما شكل القمع الذي كان قائمًا، كان الخطوة الأولى لتكريس الجولة الأولى، كانت تأسيسًا للمرحلة السوداء القادمة.
أمي:
صور كثيرة تتزاحم أمامي في هذه اللحظات مترافقة مع مشاعر غريبة تأخذ بيدي إلى البعيد.
مشاعر ليست جديدة علي، إنما تنوس في ذاكرتي بين الحين والآخر، فأبعدها مرات وأشرد معها مرات. هي ساكنة معي بشكل دائم، بيد أني أطمرها حتى تبقى في وادي الخلاء الذاتي إلى أن يحين زمنها.
أقول لنفسي:
– أتركها الآن، سيأتي الوقت الذي ستخرجها من مخبئك وتنثرها في الفضاء لتتحول إلى كائن حي يغني ويعلن بوحه القديم للزمن القادم.
في تلك الليلة ركبنا مع والدي السيارة، انطلقنا من الحسكة إلى القامشبي، بعدها اتجهنا إلى قرية دبانة، مكان إقامة جدي وجدتي وعمتي بعروسته. كانت هذه السيارة، الشاحنة الشيفرولية ذات اللون الفستقي الفاتح موديل عام 1958، دلوعته الجميلة، عاشقته، جلسنا بصحبة أهله، تناولنا القليل من الطعام، واتجهنا نحو الشرق بعد أخذ الآذن منهم ولعودة إليهم.
في الطريق الترابي الصعب، والليل ليلكي، قال لنا:
– سنذهب إلى قرية اسكندرونة، إلى بيت جدكم لأمكم، وسنقضي بعض الوقت من الليل هناك وتعود لدبانة.
كان هذا في العام 1963.
كانت والدتي امرأة جميلة جدًا في صباها، بيضاء اللون، متوسطة القامة، وجهها مثل التفاح في أول قطافه، بيد أنها كانت
عنيدة وقوية ومحافظة جدًا. بمعنى أنها تقليدية جدًا. كانت محور تفكير والدي وعقله وحياته، فعشقها لدرجة الجنون، غيور على أنفاسها الذي كان يخرج من صدرها.
لم أكتشف هذه الغيرة المجنونة، والعشق العميق لوالدتي إلا عندما وصلتُ إلى منتصف الشباب.
في مساء ذلك الصيف الجميل والليل في أوله ينسج خيوطه السمراء الناعمة ليحولها إلى فراشة ملونة تنسج خيوطها فوق فراش السماء.
الإضاءة المنبعثة من مصابيح الشاحنة تبدد السواد الذي يلفنا ويفتح لنا بوابات السهوب ومسارات الليل ومساربه وسره، ويشق لنا انحناءات المكان ليفتحه.
الطَّريق ترابي متراقص غير محدد الأبعاد، رسمته حركة الناس والعربات التي تجرها الدواب كالبغال أو الخيول والحمير وبعض السَّيّارات العابرة من تل حميس إلى القامشلي وبالعكس.
سارت الشاحنة التي يقودها والدي إلى الأمام دون أن أدري كيف تسير هذه الآلة في هذا الليل الغريب الذي لا يعرف حدود المكان. مضت تلتف وتنحني وتتمايل كالعروس في أول زفتها على الهودج.
كنت أقول لنفسي:
– كيف يعرف والدي هذا الطَّريق المتعرج في هذا الليل المعتم الذي لا حدود له؟
أمد نظري في الخلاء الذي تفتحه مصابيح الشاحنة فلا أرى إلا الصمت المختلط بلون الطبيعة والأرض. كانت أختي التي تصغرني بسنتين جالسة في حضن أمي تنظر مثلي إلى الطَّريق، مستغربة مستعذبة عذوبة النسيم الذي يهب علينا صافيًا، رقيقاً مثل وجه أبناء الجزيرة المترامية الأطراف، في يدها الصغيرة باقة ورود برية جمعتها والدتي من الأرض والسماء وفي اليد الأخرى عدة شموع بيضاء لتزين ليل أبويها في هذا الزمن الهارب، قالت وقتها:
– سنغني هناك، ننثر الورد ونشعل الشمع ونطوف حول بيت أبي، جدكم.
كل شيء كان مثيراً لي :
إطلالات الصمت في وهاد الصمت، شروقات الصيف ومساءات الليل، ومحاولة اكتشاف المكان الذي يمتد إلى لا نهاية في جماله، حيث الخلاء الصافي وامتداد الأصقاع المغرية المجهولة، النائمة وراء هذا الكم الهائل من الفراغ والعذوبة.
كان بيت جدي لأبي مثل قبلة الشَّمْس، بابه يشبه محراب الكنائس العتيقة ومفتوح الأبعاد. يمكنك أن تراه من كل الاتجاهات. بابه يعانق الشَّمْس في الصباحات، ويعتقها عند غروبه. شبابيكه صغيرة لخوف جدي أن يهرب ضوء القنديل من بين ثناياه.
هناك في غرب دبانة تنام المدرسة الترابية للقرية إلى جوار بيت عائلة فارس:
فارس، إنه علامة من علامات القدر، بيته إلى جوار شجرة التوت الخضراء الوارفة الظلال، تتمايل مثل ضفاف نهر جار. شجرة وحيدة كأنها فتاة دون عشيق. ما إن أمشي عشرين مترًا نحو الغرب حتى أصل إلى البئر الوحيد للقرية.
قالوا لي:
– احذر. كثير من الأطفال سقطوا فيه عندما هموا في استجرار الماء منه.
ربما ذاكرتي العجوز تسترق بضع مشاهد مما كان:
– جسد الطِّفْل ينزف عندما سقط في البئر وأصيب بجروح عميقة في كل مكان منه، الرأس والأطراف، ومات بعضهم.
كنت أستمتع بصوت اللقلق في ربيع دبانة، يبني عشه فوق منارة صغيرة بجانب بيت جدي. يأتي مرات كثيرة من صوب رافد نهر الجغجغ الذي يحدد حدود دبانة، حاملًا في جعبته زوادة لأطفاله ونسله. أصوات صغاره عذبة، مشوقة. أقف مذهولًا من منقاره الاحمر الطويل. اللقلقة تزداد عندما تأتي والدتهم من بحار الأراضي البعيدة، محملة بالطعام، من ديدان وأفاعٍ، تدسها في أفواههم السوداء الجميلة. وما إن تبدأ الحياة في تغيير جلدها حتى يرحل الصغار بصحبة الكبار إلى بلاد الدفء والشمس في الجهة الأخرى من العالم، بيد أنهم كانوا يكنون لنا المودة والحب ويمنحوننا الأمل والوعود بالعودة إلينا في ربيع السنة القادمة.
لا أعرف لماذ اختار أحد اللقالق الجريحة أن يضرب أختي أنجيل بمنقاره، ربما علم أنها غريبة عن المكان، بيد أن صراخها كان موجعًا. لم يرمِ أهل القرية الملامة على اللقلق، ولم يأذوه. أخذه جدي في حضنه وذهب به إلى بيته، عالجه بأدويته الطبيعية، كما أنه عالج جرح أختي أنجيل المصابة من منقاره.
كنت أنتقل مع مجموعة من صبية الضيعة باتجاه ضيعة حربة، نعبر الجسر الخشبي الذي بناه الفلاحون حتى يستطيعوا المرور عليه مع دوابهم، الكثيرة كالأغنام والأبقار ووالراعي وحمار الراعي.
الفرع الصغير لنهر الجغجغ يمر سريعًا من الجهة الغربية. كثيرة هي المرات التي يجف في الربيع والصيف لأن دولة تركيا تقطعه، تحرمنا نحن السُّوريين من مائه، لكن سرعان ما يعود إلى سابق عهده في الخريف.
إحدى المرات كنت جالسًا برفقة والدتي في منزل الحاج منصور، مالك الضيعة بحضور ابنته عرنة. اندلق كأس الشاي الساخن على فخذي الأيسر، رحت أصرخ وأبكي وأنط وأرقص من الوجع. ولأنني مندفع، متهور أتحرك دون ضوابط أو قيود مثل أي طفل شرقي مملوء بالنشاط والحيوية والطاقة، لم أتوقف ثانية واحدة عن الصراخ، ومن دون مراعاة للحرج الذي سببته للعائلة المضيفة ولأمي. صبوا الماء البارد على فخذي. وعندما عدت لبيت جدي وضع عليه صفار البيض وبعض الأعشاب والدواء الأحمر كالشراب، وكان يبدل الأدوية على المكان المحروق بين الحين والأخر.
وإحدى المرات كنا جالسين في بيت الحاج منصور بالقرب من مجرى الرافد، سمعت حركة على الأرض كالزلزال، أرض نهر الجغجغ الجاف اهتز وصرخ بوجع، واهتزت، معه أركان البيت. حدث على أثره تحت ملمح ووقع بصري صوت الماء قادمًا كالهدير الجارح جاريًا بسرعة كهارب من نفسه. بدأ حضوره طاغيًا إذ فرش الأرض وملأ الفجوات والشقوق وتابع مد ذراعيه في مجراه وكأنه يعرفه منذ أزمان موغلة في القدم.
وعندما عبرنا الجسر الخشبي، دخلنا في سواقي حقول القمح والشعير. رأينا الجرار الزراعي من نوع فورسن، صغير الحجم لكنه قوي جدًا، ووراءه قاطرة عليها مجموعة من الفلاحين يغنون بحزن شديد وعلى ظهر كل واحد منهم معوله.
السهوب وحدها التي تتكلم وتفتح ذراعيها للحياة والعشب الأخضر يعانق شروق الشمس في الصباح وغروبها في المساء.
كنت أسْتغربُ الحجم الكبير للطائرة المدنية عندما تحط رحالها أو تقلع من مطار القامشلي في مواجهة دبانة العظيمة.
بوصولنا إلى بيت جدي لأمي في ضيعة اسكندرونة التي تبعد عن دبانة بضع كيلومترات. كان الليل قد غدا عروس في كامل زينتها وجمالها وهياجها، وعندما ههمنا بالنزول من السيارة، بدا السكون مخيمًا على كل شيء. حتى حيوانات البراري البعيدة بقيت صامتة، خاشعة، تهوى النوم والرقاد في ظلال النسيم العليل.
كانت والدتي كالفراشة تتمايل رقة ونعومة وخجل، تمد خطواتها القصيرة الى الأمام وفي عينيها دمعة حزينة لأنها وقفت ضد إرادة والدها وتزوجت والدي الفقير.
أنزل والدي أختي التي تكبرني بسنة ثم أخذ بيدي ويد أختي الأصغر مني بسنتين ومشينا بضع خطوات بصعوبة. بعض القناديل الفاترة تأخذنا إلى وميضها، إلى بعض من بريقها.
لا أعرف مناسبة مجيئنا في زيارة لهذا المكان، بيد أن والدي المتبختر بنفسه وشاحنته قادنا أمامه إلى بيت جدي لأمي.
صوت كلاب الضيعة ملأت الفضاء ضحكًا على فرح مجيئنا،، وسرحتْ بعيونها نحونا وكأننا في مضافة القدر، بيد أنها لم تتحركْ.
وقفنا أمام باب الحوش، طرق والدي الباب فخرج علينا صوتٌ يسأل:
– من القادم؟
وما إن عرفونا، حتى فتحوا الباب بسرعة. قابلتنا والدة أمي بالترحاب وأدخلتنا إلى مكان مكوث جدي العجوز المريض. أخذنا في أحضانه، عانقنا، وأجلسنا بجانبه، ومضى يداعب شعري ووجهي ويمازحني. كانت أنفاس الغنم النائم في الإسطبل والحوش واضحة. مد جدي يده في العتمة تحت ضوء فتيل الزيت الخافت إلى ثياب أختي الصغيرة الجديدة ذات الألوان الفاتحة البيضاء والصفراء والحمراء والنهدي وراح يثني على جمالها وينظر إلى حذائها الأبيض، ثم قال لها:
– من أين هذه الثياب الحلوة يا ابنتي الصغيرة، يا حبيبتي.
– ماما اشترتهم لي من السوق عندما كنا في مدينة الحسكة.
– هل تذهبين إلى المدرسة يا صغيرتي؟
– نعم يا جدي، أنا وأخي وأختي نمسك أيدينا في أيدي بعضنا ونمشي في الشارع. أحيانًا نرى الشرطة واقفين على طرفي الجسر، يقولون لنا:
– ممنوع التجول! ويمنعوننا من المشي والسير إلى المدرسة.
– لماذا يا صغيرتي؟
– يبحثون عن السياسيين.
– ولماذا السياسيون؟
– لا أعرف.
يبدو أن الانقلاب الجديد حول البلاد إلى سجن كبير. العسكر سيطروا على الدولة والمجتمع.
تدخلت والدتي في محاولة تغيير مسار الحديث لأنها تكره السياسة:
– للقمر سحره في هذا الوقت من الليل، أليس كذلك؟
مد جدي يده فوق شعري وراح يكلم والدي:
– ماذا تفعل هذه الأيام؟
– لقد حصلت على وظيفة لدى الحكومة براب مغرٍ، قدره 180 ليرة سورية في الشهر.
– الله! إنه مبلغ كبير.
رأيت السعادة في عينيّ والدي، والإحساس بالتفوق والنجاح.
سهرنا تلك الليلة هناك، شربنا الشاي وتعشينا. لقد غمرنا جدي وجدتي بالحنان والحب. وأغدقا علينا هالات الفرح عبر الترحاب الرقيق والحديث الدافئ. على عكس بيت جدي لأبي الذين كانوا قساة في طبعهم وسلوكهم وممارسة حياتهم وأفراحهم. لكن علاقتي بهم كانت أكثر، وتواجدي بينهم كانت أوفر، لأن إسكندرونة كانت على مشارف أن تنتهي أن تبقى ضيعة.
عندما كان يمر بائع البوظة ويتوقف في دبانة، أركض إلى القن، يدخل في أنفي رائحة التبن الرطب والدرق، أبحث عن بيضة طازجة لأبادلها بقرن من البوظة.
وعندما أرى الدجاجة فوق البيوض، أهرب منها قبل أن تهجم علي. تكون في هذه اللحظة شرسة قاسية لا تعرف الرحمة أو الشفقة، بل تقاتل كاللبوة.
رأيت جدي لأمي مرة واحدة. ربما كنت في الثالثة أو الرابعة أو الخامسة من العمر. لا أتذكر أي شيء عنه. لقد توفي في وقت مبكر.
جلبت أمي معها الكثير من البخور والشموع، من الكنيسة القديمة قبل مجيئنا إلى هنا. قالت لي:
– تعال نقطف الورود والزهور من هذا السهل، ومن على منحنى ذاك الجبل، ننظم عدة باقات جميلة، نضع إحداها فوق الكنيسة المهجورة، لم تصلها يد الحكومة، وباقة فوق حجر الكبير. سنشعل الشموع، وننثر عليه البخور، ونضع أخرى تحت أقدام الأشجار، لتبقى معانقة استمرار هذه الحياة.
بدأت الشَّمْس تلوح لنا، ونحن ننظر إليها بفرح، قلت لأمي:
– ما أجمل الشَّمْس! إنها وحي الحياة، رمز لذة هذا الكون.
نظرت إلي باستغراب، فتحت عيناها على وسع، حضنتني وقبلتني، قالت:
– من أين لك هذا الكلام الغريب يا ولدي؟ لقد كبرت! يبدو أنك أضحيت غريبًا.
قلت:
– كلما كبر الإنسان في العمر، كلما ازداد غربة. ما قلتِه عين الحقيقة: إن الإنسان هو الكائن الوحيد الغريب.
غاب والدي عدة أيام قضاها في مدينة القامشلي. وعندما عاد، قال لي:
– سأذهب في جولة تمتد لأيام، يجب أن أقود السيارة مسافة 1500 كيلو متر على الطَّريق المعبد، لقد غير ملك اللاندروفر، الميكانيكي فاسيكن أرويان، قمصان المحرك، لهذا يجب أن لا أضغط على المحرك في أراضي الجزيرة الوعرة.
وأضاف:
– هل تأتي معي في هذه الجولة اللطيفة، لقد أصبحت في العاشرة وتستطيع أن تقرر كالرجال الناضجين، ما رأيك؟
ودون تردد قلت له:
– بالطبع، ولمَ لا؟
– سنأخذ إذنًا من والدتك وإخواتك ونمضي على بركة الشَّمْس والهواء والمطر.
– والمدرسة.
– آه، أعرف. أنت في الصف الخامس الابتدائي، أليس كذلك؟ سأتكلم مع المدير، لن يخيب ظننّا. ثلاثة أيام أو أربعة ونعود. سنختار يوم السبت بعد الظهر والأحد عطلة، سنغيب بضع أيام، فلا مشكلة. نتسلى معًا.
– من أين سنبدأ؟
– ما رأيك أن ننطلق من هنا، من رأس العين، فنذهب باتجاه الحسكة نشتري منها بضع سندويشات، وعلبة جبن فرنجي وخبز ثم نتجه إلى القامشلي. وإذا تعبنا، نذهب إلى ضيعة دبانة، إلى بيت جدك ننام هناك وفي الصباح نكمل طريقنا إلى المالكية.
هذا ما كنت أرغب به وأتمناه، فجاء إلي على طبق من ذهب. رحلة مجانية وطويلة ومتعة مفتوحة وسرور لا قيد عليه. ولم أسأل والدي:
– كيف سنسير على الأرض الموحلة فيما إذا احتاج الأمر إلى ذلك، والمحرك خرج من التصليح ويحتاج إلى راحة، خوفًا من أن يغير رأيه، في انتهازية قذرة مني.
في شتاء العام 1968 انطلقنا أنا ووالدي في سيارة اللاندروفر موديل العام 1964 في تجوال في مدن محافظة الحسكة.
لم يكن في السيارة تدفئة، كما هو حال السَّيّارات الحديثة في هذه الأيام أو غيرها، قلت لوالدي:
– أشعر أن البرد سيأكل لحمي ودمي وعظامي وبقية أوصالي.
قال:
– لا تخف، بعد قليل سيغمرك الدفء.
ودعنا شوارع رأس العين المملوءة بالحفر والجورة الكبيرة والصغيرة. مررنا بجانب الجامع الكبير في مدينة رأس العين ومستوصف المدينة، وبيت صديق والدي المزارع سركيس كشيشيان، وسرنا باتجاه طريق قرية السفح – الحسكة.
صادفنا القليل من السيارات على هذا الطريق المعبد بعد مسيرة عشرة كيلو مترات، مررنا فوق جسر نهر الجرجب الجاف، النهر الذي تقطعه الدولة التركية عنّا وتحرمنا من مياهه. نهر كبير بغزارة الخابور، وعلى وسع امتداد ضفتيه وعرضه.
اقتربنا من قرية السفح، فأصبح على يميننا، الضيعة الكبيرة التي يسكنها أو يقطنها الشيشان.
شيشان رأس العين جاءوا من روسيا على أثر حروبهم الاستقلالية في القرن التاسع عشر. والذين فظعوا بالأَرْمَن في فترة الإبادة التي قامت بها الدولة الطورانية، العثمانية. كانوا مقاولي تصفية الأَرْمَن بحقد دفين. في الحقيقة، لقد فرغوا شحنة العقدة الدونية، ومرارة الذل والقهر الذي مارسه الروس عليهم، بالأَرْمَن. كانوا يقتلون النساء والأطفال بشهوة القاتل المحترف، ويمثلوا بالنساء شر تمثيل.
يقول المثل:
– لا تخف إلا من الضعيف، والضربة القاسية لا تأتي إلا من الضعيف، ولا يَقتل إلا الضعيف!
وفي الحقيقة، إنهم منطوون على أنفسهم، منغلقون، لا يتزوجون إلا من بعضهم، لعدم ثقتهم بالآخرين، أو خوفًا من الانقراض.
كنت مستمتعًا بهذه الرحلة الطويلة، بحرية اختيار الطريق في أرجاء المحافظة، برفقة والدي:
ذلك الرجل الهادئ، والدي، المنفتح على الحياة والناس، المرن في التعامل معنا في البيت. لم يرفع صوته يومًا من الأيام علينا كأطفال. كما لم يشتم أي واحد منّا، ولم يقل كلمة نابية. يجلس مع أمي برفقتنا، بجانب راديو الترانزيستور الصغير والوحيد نوع شارب. وكل يوم، في المساء، يطلب من أخي هاكوب وأختي زوفيك أن يغنيا لنا أغاني أرمنية تعلماها من المدرسة. وفي نهاية الحفل، يقبض كل واحد منهما فرنكًا واحدًا.
هل كان راهبًا، قديسًا؟ سألته مرة:؟
– من أين جاء لك كل هذا اللطفُ، وهدوءُ صوتِك وحركتك وتصرفاتك، وأنت ابن الضيعة، وحضرتك تعرف أنهم يتميزون بأصواتهم العالية؟
ضحك بهدوء، وأجاب:
– كما تعلم، لقد عشت في قصر أصفر ونجار مدة طويلة من الزمن، منذ كنت طفلًا صغيرًا لا يقوى على رفض الشروط التي تفرض عليه. هناك، في هذا القصر الفاخر المطل على نهر الخابور ونبع قطينة يوجد إتيكيت، قواعد في التعامل مع الناس، عبر الكلام والأكل والشرب، إنها ثقافة الأستقراطية، التي كانت سائدة في فترة الاستعمار الفرنسي وبعده قبل أن يأتي الانقلاب العسكري الذي جلب معه أولاد الفلاحين، واستدركَ:
– ليس العيب في الفلاحين، وإنما في العقلية التي تعيش في الماضي وتفتقر إلى العقل المدني وأعتقد، أن الدولة الأمريكية شبيهة بهذا العقل، لذا دعمته.
في ظل هذه العائلة، أصفر ونجار، المزارعين الأستقراطيين كنا نخضع لهذه القواعد والضوابط التقليدية لا يمكن خرقها أو تغييرها في حياة هذه العائلات العريقة والتقليدية.
أنا تغيرت كثيرًا، ومع مرور الأيام أصبح هذا نهجًا في حياتي. الصوت العالي معيب. وتعلمت أن أبقى صامتًا مدة طويلة جدًا، لأن الثرثرة مكلفة كثيرًا، بل مدمرة.
وعندما كان يستيقظ من النوم صباحًا، يجلس وحيدًا بصمت أقرب إلى السكون، إلى حين حلول وقت ذهابه إلى العمل. يحضر القهوة لنفسه على البابور ويشربها بهدوء تام.
كنا نتحاور معًا، نتكلم عن الحياة وتطوراتها. وكل صباح يضع لنا برنامج من إذاعة دمشق اسمه: مرحبًا يا صباح لمخلص الورار وفريال الأحمد، نسمع فيروز وبعض الأمثلة التي تبثها ههذ الإذاعة.
بعد صمت طويل، قال:
– لن نمر إلى بيت خالك في الحسكة، سنتأخر، سندخل المدينة من خارجها. عندما نصل إلى قرية تل حجر، سنتبضع بعض المواد الضرورية، ثم ننطلق إلى القامشلي، ونتابع سيرنا، ما رأيك؟
– أتفق معك.
السماء ملبدة بالغيوم، ورحلة مفتوحة في أرجاء الجزيرة السُّورية المترامية الأطراف دون تحديد أبعادها، لطفل صغير في العاشرة من عمره شيئًا يساوي كنوز الزمان.
كنت أحب ركوب السيارة والسفر من مدينة إلى أخرى ومن بيئة إلى أخرى. شيء لا يمكن تخيله أو التعبير عنه بسهولة.
زخات المطر لا تتوقف وتيرتها ثم تنهمر بغزارة، ثم تهدأ مرات، وثم تتوقف مرات وتهطل بغزارة.
اشترينا علبتي جبنة فرنجية وخبز، وعملنا سندويشات على عجل، وتابعنا.
قال لي والدي وهو يقود اللاندروفر:
– خذ سندويشة لك، وواحدة لي. لنأكل على مهل ونسير على بركة الله. نحن أحرار في التجوال في أراضي محافظ الحسكة السورية الواسع.
الأرض عارية في الشتاء، حبلى ببذار القمح والشعير. إنهما في جوف الأرض، ينتظران الوقت لينموا.
بعد ساعة، وصلنا إلى مشارف مطار القامشلي، طائرات معطلة، جاثية على الأرض. قال لي والدي:
– سنتابع سيرنا إلى المالكية، نعبر القحطانية ثم نعود أدراجنا لنبحث عن مكان ننام فيه. سنذهب إلى بيت جدك، بيد أن الطريق موحل إلى هناك، ساحاول أن لا نتعب السيارة لأنها في مرحلة روداج أو ترويض.
سنروضها في هذه الفترة إلى أن نعود ونرى المكان المناسب.
عبرنا القامشلي، ووصلنا إلى حدود المالكية، سرنا من رأس العين إلى الحسكة تسعين كيلو متر، ومن الحسكة إلى القامشلي مسافة تسعين كيلومترًا ومن القامشلي إلى المالكية بحدود المئة كيلو متر.
خلال سيرنا وقفنا ونزلنا في استراحة أو مقهى لنأكل شيئًا ونشرب كأسًا من الشاي.
وما إن حطينا رحالنا وجلسنا بضعة دقائق حتى لمح والدي سيارة مسرعة جدًا. قال لي:
– ابقَ هنا، سألحق بتلك السيارة. لقد استعار مني سائقها دولاب من سيارتي قبل ثلاثة أشهر، وأريد أن أستعيده منه الآن.
بعد لحظات غاب والدي بعد أن مضى مسرعًا:. وبعد جلوس خرجت من المقهى ووقفت أنظر إلى الطريق العام في الاتجاه الذي سار عليه والدي. قلت في نفسي:
– لماذا تركني هنا ورحل بسرعة؟ هل هي حجة ليتركني وحيدًا ويذهب وحده؟
ثم توالت علي الأفكار السوداوية عندما تأخر مدة ساعة أو أكثر وهي بمثابة دهر بالنسبة إلى طفل صغير. وبعد ساعة ونصف عاد، فرآني في قمة القهر واليائس. قال:
– لم يكن ذلك السائق الذي استعار الدولاب. سيكون لي درسًا معه بعد اليوم، لن أعير أي إنسان شيئًا لي. الدولاب ملك الدولة، وربما يغرمونني ثمنه.
عدنا إلى مدينة القامشلي عند حلول الظلام. أكلنا سندويشة فلافل مملوءة بالبندورة. قال لي:
– ما رأيك نذهب إلى مدينة عامودا؟
– عامودا؟ من تعرف هناك؟
– خالتك أخت أمك مقيمة في عامودا. سنذهب إليهم، وتتعرف عليهم. وإذا تأخرنا، يمكننا أن ننزل في بيت أحد أخوتنا الأكراد على الطريق العام، أعرف الكثير منهم مقيمون هنا في هذه المكان على الضفة اليمنى واليسرى.
– كما ترى وتشاء. أرغب في رؤية خالتي وأولادها، لم أسمع سابقًا أن لي خالة في هذه المدينة، كما لم أرها سابقًا في الحسكة أو القامشلي كما لم تأت إلى بيتنا ولم نزرها في بيتها.
– سنرى. المواصلات بيننا صعبة، والطريق إلى مدينة عامودا له خصوصية، فهو بعيد عن خط سيرنا.
تابعنا سيرنا.
كان الليل مدلهمًا. أشار والدي إلى القرى. قال:
– هذه القرية للآغا الفلاني، وتلك للآغا فلان، وهذه الضيعة للمختار فلان، وتلك للمختار فلان. وتكلم معي
عن كل الأحداث التي مرت بها كل قرية، والدي موسوعة من المعرفة الشفهية لوضع الجزيرة السورية وناسها وتضاريس أرضها ومياهها.
سرنا مسافة ثلاثين كيلومتر إلى أن وصلنا إلى عامودا.
ما إن نزلنا، ودق الباب، وفتح، حتى بدأت هالات الترحيب والتقبيل بي والاستغراب، والدهشة، لأنهم لأول مرة يروني.
قضينا ليلتنا هناك، تعشينا، سهرنا وضحكنا طويلًا.
كانت الوجوه بشوشة، مرحبة. طوال الوقت كانوا يضحكون. استغربت أن لي خالة، ولم أرها، ولم أزرها. رأيت أولادها، بناتها وزوجها. عائلة مستورة، تعمل بكد وجد لتعيل نفسها.
عين الزرقاء:
في الصيف، كنت أذهب مرات كثيرة إلى عين الزرقا، برفقة أصدقائي، تمو ومعمو وقيس وأولاد عبد الرحمن باشا. كان النبع مزنرًا في الأعلى، مقصفه تحته. نمشي خطوات قصيرة لا تتعدى بضعة أمتار، ننزل الدرج، ونشاهد العمال، ونشم رائحة العرق، بطة بيضاء، يتناثر في الهواء ويرقص.
عندما كنت أرى انعكاس أشعة الشَّمْس على الماء، يأخذني الحنين إلى الحنين، إلى السماء، إلى تجليات القدر، ومكامن الجمال.
جمال يأخذ بيدك، ويرحل بك إلى البعيد. جمال بلوري اللون والسحر، يرفعك من جناحيك، ويشعشع. ويغرز النور والضوء في ذاكرتك، ويضعك في إبداعات الوجود. انظر إلى انعكاس السماء على الزمن، كيف يتكئ انقسام الجنون على بعضه. وتنفتح الألوان على سحرها. ويرقص قلبي على قلبي ويسرح بي، يحولني إلى طائر، عاشق للأرض، للماء والطبيعة والحياة. النبع شيء من ظلال الوجود والجنون والجلال. إنه مجد الوجود، حجه؟ حلم يتداخل في الحلم. طفح من باطن الأرض وجلدها. وينبثق من ذاكرتها، ويضعها في مصاف الآلهة والنجوم والحقيقة.
لم يسمحوا لنا أن نسبح، نتأمل، نحن الأطفال الصغار، العشاق، رسل الفرح، المولودين من رحم الجوهر. الراغبين في دخول جوف الماء والتعمد برسله ورسائله. نقف على حافة الاستغراب، كاستغراب الوجود للوجود، نرى أسماك الشبوط الطويل والبوري، تتمايل مع تمايل لون الشمس وانقسامها، وانعكاسها على بعضها.
نزلنا إلى تحت، المكان الذي ينثر الماء من النبع، وينهمر في الماء. خرج الماء الصافي من جوف وحط رحاله في المجرى والفروع التي تذهب به إلى الخابور.
سبحنا هناك، في المكان الضيق، تحت الشلال، ضحكنا وغنينا.
في هذا المكان كانت ترمى بقايا قناني العرق المكسور، وأغطية المياه الغازية وبعض النفايات.
كنا نسبح وننتقل من مكان إلى آخر. أحسست بوخزة وبألمِ اصطدام رجلي اليسرى بشيء حاد. رفعت قدمي، فرأيت دمًا قانئًا يلون الماء. خرجت من الحوض الضيق، لأسد الجرح العميق في منتصف راحة قدمي.
خرج الأطفال معي، ومضوا يساعدوني، محاولين إيقاف النزيف. جاء بعض العمال القريبين منّا، وتضامنوا معي، وجلبوا قطعة شاش كبيرة،فربطوا قدمي، بيد أن النزف لم يتوقف، بل بقي الجرح مفتوحًا وكأن لعنة ما حطت علي.
كنت ألعب كرة القدم بقدمي اليسرى، المكان الذي أضرب فيه الكرة. وتحول إلى وجع ونزف. عرجت مع أصدقائي إلى البيت مسافة كيلو مترين. وبقي الدم نازفًا، والجرح مفتوحًا.
بكت والدتي مطولًا، وعنفتني كثيرًا على لجاجتي، وحيويتي.
في اليوم الثاني أخذني والدي إلى الطبيب. ضمدها جيدًا، وأعطاني مضادًا حيويًا، إبر بنسلين، كلف الأمر ثلاثة عشرة ليرة ونصف الليرة، كلها على بعضها مع معاينة الطبيب.
بيت حاجو:
أراضيالجزيرة السورية، محافظ الحسكة، مستوية وسهولها خضراء كالبحر، وأنهارها كالسماء. منذرة نفسها للخصب والجمال.
في الربيع، في ستينيات القرن الماضي، كانت الأرض ترقص بالتقائها بالسماء، وبينهما رعشة ومودة وتواصل. وعلى الامتداد المفتوح لهذه الأرض العذراء الخيرة العذبة ينتشر الورد البري، وزهور متعددة مشكلة من اللون الأحمر القاني، كشقائق النعمان وإلى جواره ينتشر الحبق ورائحة النعناع البري.
توقفت السيارة الحكومية ذات الرقم، 3450، سائقها والدي مع ثلاث موظفين، لجنة من مؤسسة الإصلاح الزِّراعيّ في قرية تابعة للقحطانية عند بيت المزارع أو الإِقْطاعي حاجو تمامًا.
كان حاجو وأسرته ينتمون إلى إحدى العشائر الكردية الكبيرة في تركيا ومدعومة من قبل السلطنة العثمانية قبل مجيء كمال اتاتورك إلى السلطة.
وعندما قامت الثورة الكردية الدينية في تلك البلاد، بقيادة الشيخ سعيد بيران في العام 1926 أخذت السلطة التركية قرارًا بتصفيات الأغوات والبيكوات الكرد وزعماء العشائر والأتباع، فهرب حاجو من المشنقة والتجأ إلى سوريا مع عدد كبير من عشيرته وجلهم من الكرد واتباعهم من المسيحيين واستقر به المقام في القحطانية.
كان هذا الرجل متسامحًا مع أفراد عشيرته خاصة مع المسيحيين وحاميهم من اعتداء الآخرين عليهم.
استقر في ناحية القحطانية التي تتوسط مدينتي المالكية والقامشلي، وبعد وصوله إليها استولى على عشرات الآلاف من الدونمات من الأراضي الخصبة وضمها إلى نفسه، لتتحول إلى ملكية خاصة به وبأسرته.
وهذه الأراضي الواسعة، الخصبة، كانت أميرية، أي تابعة للدولة السُّورية الحديثة في فترة الانتداب الفرنسي لسوريا.
في الحقيقة لم يكن هناك عدد كبير من السكان في هذه الجزيرة السُّورية سوى العرب الرحل في بداية القرن العشرين، ولم تكن العشائر العربية تزرع الأرض في وقتها، ربما من العرب الرحل، البدو. ومن جاء منهم من تركيا، اشترى بعض الأراضي ببعض القروش، وشجع الفرنسيون زراعة الأراضي، وخاصة من استصلح الأرض أو مدها بالأقنية المائية كما فعلها عائلة الأخوة، المزارع أصفر ونجار.
كنت مع والدي في إحدى تلك الجولات عندما بدأت لجنة الإصْلاح الّزِراعيّ في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين بوضع يدها على الأرض.
كنت في المضافة ذاتها، عمري لم يكن يتجاوز السبع سنين، عندما خيم الصمت المطبق على الجميع.
قدموا ضيافة لا زالت في ذاكرتي، تفاح أحمر وأصفر، وموز وبرتقال. كل واحد له أربع قطع في صحن. الطَّريقة التي قدموا بها الفواكه كانت مختلفة عن بقية الضيع التي زرتها مع والدي.
سألته بعد أن خرجنا وبقينا وحدنا:
– ماذا حدث هنا؟
– موظفو الدولة، اللجنة القادمة من دمشق، موظفو الإصْلاح الّزِراعيّ كتبوا على الورق المساحات التي سيستولون عليها من الأراضي التي بحوزة حاجو. لديه أراض كثيرة في الأماكن الكثيرة المحيطة بمدينة القحطانية أو التي كانت تسمى”القبور البيض”
– ولماذا هذا الصمت المخيم على الجميع وكأنهم في حفلة عزاء، أو وليمة ألم ووجع؟
– وماذا تريد أن يفعلوا؟ أراضيهم ستؤخذ منهم اليوم عنوة.
– لماذا لم يعترضوا؟ لماذا بقيت عائلة حاجو صامتة؟لماذا لم تقاوم أو تبدي أي رفض؟
– ستكون النتائج كارثية عليهم، إذا حاولوا التمرد على قرارات الدولة، خاصة أن حاجو هارب من المشنقة.
كانت اللاندروفر القوية تغريني جدًا. كنت أقول لوالدي:
“كلما سنحت لك الفرصة أتمنى أن تأخذني معك”
في الحقيقة لم يكن يبخل علي.
كان يأتي إلى مدرستي (مدرسة اللواء الخاصة للأرمن الأورثوذكس في مدينة الحسكة) ويطلب من المدير الأستاذ آرام أن أرافقه.
أذكر مشهد مجيء المدير عندما كان يأتي ويأخذني من يدي من الصف الثالث الابتدائي بعد أخذ الإذن من المعلم الموجود بكل لطف ورقة ويسلمني لأبي.
وقتها كنت أطير، أركض كسعدان بري، لاصل إلى السيارة وأركب في المقعد الخلفي.
ننطلق برفقة الموظفين إلى القامشلي، الطًّريق الوحيد الذي يربط القامشلي بالمالكية ببقية المناطق أو النواحي في الجزيرة السُّورية.
عرجنا في طريق عودتنا إلى تل معروف ودخلنا بيت الشيخ الديني معصوم الخزنوي. في المضافة جلسنا وعندما قدموا لنا الغذاء، حميس لحم خاروف تحته خبز ساج وفوقه سمن عربي نقي.
جلست بجانب والدي نتوسط الشيخ علاء الدين الخزنوي وصديقه القادم من تركيا وهو شيخ آخر من الشيوخ الأكراد ربما اسمه حسرت، وقتها طلب والدي الإذن منهما أن ينهض ليجلس في مكان آخر:
قال لهما:
أنتم شيوخ معتبرين ولكما مكانتكما الدينية واعتباركم ولا يصح أن اتوسطكم، سآخذ ابني ونجلس في مكان آخر.
أجلسه الشيخان في مكانه وقالا له:
– لا يصح هذا يا أخي. اجلس بيننا، كلنا بشر، هذا لا يجوز أن تقوم من مكانك.
وعندما جلسنا، مضى الشيخ يقطع اللحم ويضعه أمامنا مما زرع في نفوسنا الخجل من هذه البادرة اللطيفة والجميلة.
وعندما بدأت اللجنة في أخذ أرض الشيخ لتوزيعها على الفلاحين، رفضوا أخذ الأرض رفضًا قاطعًا بحجة أن الشيخ ممثل الله والرسول ولا يحق لهم أخذ هذه الأراضي عنوة لأنها ملك الله والشيخ.
وقتها تدخل الشيخ قائلًا:
– خذوا الأراضي قبل أن يوزعوها على قرى أخرى كقرية تل شعير وقرية حلوة وغيرهما.
بيد أن فلاحي تل معروف وقراها لم يأخذوا الأرض، لم يقبلوا بها بحجة أن هذا حرام وستقع عليهم لعنة الله وروسوله والشيخ، مما اضطر اللجنة إلى القيام بتوزيعها على فلاحي القرى المجاورة أو البعيدة قليلًا.
الشيخ عجيل:
مرات كثيرة كنت أذهب إلى بيت عمتي في مدينة القامشلي، إلى الحي الوسطى قبل رحيلهم النهائي من سوريا واستقرارهم في أرمينيا في الأعوام 1964 و1965 و1966.
أتذكر تلك الأماكن الجميلة، حارات القامشلي الجديدة، بيوتها الترابية، ابن عمتي أوهانيس وجوزيف، وأولاد عمتي الأخرى في قرية الشيخ عجيل، زافين وسيروب وهوسيب وابراهام.
لم أرهم جميعهم إلى اليوم.
الأرض مثل الأحلام، تسترجع الإحساس الكامل بالحياة والحرية، وتدفع القلب أن يتعرى أمام الضوء.
كل شيء يبقى مضطرمًا تحت وسادة الحياة إلى أن يتفجر مثل ينبوع يتغذى بماء المطر.
كان بيت عمتي في الشيخ عجيل ساحرًا بالنسبة إلي، يطل على الشمال أو الشرق، مبني من اللِّبن، وفيه حوش عربي.
أتذكر كيف كان زوج عمتي يجلب ثورًا ويجبره على منازلة البقرة مرات كثيرة. كنت أضحك من هذا المشهد المثير، هروب الأنثى وتمنعها واستسلامها في نهاية المطاف لذكرها. وعلى مسافة قصيرة كان التنور في الضفة الثانية من مجرى أحد روافد نهر الجغجغ. نقطع مسافة بضع أمتار، نعبر الجسر الخشبي الصغير، فوقه طين محشو بالتبن. وإلى جانب الجسر كان التنور المذكور قابعًا، تخبز عليه عمتي خبزها وعلى سقف السقيفة الصغيرة كانت تجفف البطيخ التنوري ذي اللون الفستقي والأخضر والأصفر والبندورة وبقية الخضار كالقرع والخيار والقثاء والشمام وبذور دوار الشمس.
وكان لديهم عربة يجرها بغلان. وفي العصرونية نركبها برفقة هوسيب، الطالب في الإعداديّة في مدينة القامشلي، ومعنا زوج عمتي. وما إن نصل إلى الحقل حتى نرى أكوامًا أكوامًا صغيرة من البطيخ التنوري والخيار والعجور والجبس المقطوف مكومين على الأطراف داخل الحقل ذاته، فننزل ونملأ العربة الصغيرة بهذه الفواكه أو الخضار الرائعة وننقلها إلى مكان آخر لنجمعها معًا.
رائحة الأرض تكون ممزوجة براحة البطيخ وبقية الخضار المنعشة، يمكنك أن تشم هذه الرائحة الفواحة على بعض مئات الأمتار.
كم كانت لذيذة تلك الرائحة! تذللت مرات كثيرة لابن عمتي زافين أن يسمح لي أن أقود العربة.
من النادر أنهم كانوا يسمحون لي أمسك مقود العربة لصغر سني.
وأذكر رائحة الجلد الذي كان يلتف حول مؤخرة البغال الممزوج برائحتهم، وكنت أرى كيف تفتح مؤخرتهم ليخرج منها البراز.
أذكر تلك السلاحف الصغيرة بأعداد كثيرة موجودين في البرك، كنا نخرجهم من هذه البرك في الضفة الأخرى من بيت عمتي بجانب بساتين العنب والتين، نلعب معهم بقسوة وكأنها كانت آلات لا روح لها، فلا تتوجع أو تتألم، نضربها بالحجر أو نقلبها بأرجلنا على ظهرها، أو بأغصان الشجر. اليوم أخجل من هذا الفعل الشرير.
الطِّفْل ابن بيئته، لا يعرف ما هو الصح أو الغلط، إن العنف هو مسؤولية الأسرة والمدرسة والدولة والمجتمع كله، يجب تعليم الطِّفْل أن يصبح صديق الحيوانات والبيئة وأخًا لهم أن يزرع فيه قيم المحبة والتعاون والرفق بكل الموجودات في الحياة.
إنها أيام للذكرى القريبة والبعيدة، لذاكرة وطن كان جميلًا!
– – –
يجب أن نكمل عن الشيخ عجيل
مجلة أسامة:
بالصدفة حصلت على مجلة أسامة للأطفال الصغار، رأيت صور مذهلة، وقفت أنظر إلى إبداع سرفانتس الخالد، بطله دون كيشوته الطويل القامة كالعصا على حصانه، وبيده رمح طويل، وإلى جانبه وبرفقته رجل قصير القامة، شكله مضحك جدًا، راكب على حماره وحائر، صديقه سانشو. لنقل كلاهما كان حائرًا.
ورحت في ضحك طويل طويل مع سخرية من هذا التناقض، تناقض الشخصيتين الغريبتين، شيء ما في داخلي تفجر من هذه الصور الغريبة لهذين الرجلين.
قرأت النص بسرعة شديدة، ورحت أبحث عن الأعداد السابقة لهذه المجلة.
التقيت بصديقي هاييك في باحة المدرسة في مدينة رأس العين، قلت له:
– هاييك هل تعرف مجلة اسمها أسامة؟
رد علي:
– بالطبع أعرفها، وقرأت أعدادها السابقة.
– آه، هل أنت جاد بكلامك؟ ألديك أعداد سابقة؟
– نعم، ولمَأكذب عليك؟
– هل تستطيع إعارتها لي لأقرأها؟
– بالطبع أستطيع، لا تخف يا آرام، لدي جميع الأعداد السابقة للمجلة ومحتفظ بهم في بيتنا، لكنها بحاجة إلى بعض الترميم. تعال غدًّا لزيارة بيتنا، فتراها كلها، وإذا أعجبتك، يمكنك أن تأخذها كلها معكَ وتقرأها.
طرت من الفرح لهذا الخبر، ورحت أجهز نفسي لهذه الزيارة. لكن عبارةَ:
“هناك أعداد مبعثرة أو ممزقة، سنحاول معًا أن نجمع الأَوراق الصالحة ونلصقها وننظم القصص وفق التواريخ”
أخافتني، فقلت لنفسي:
– ربما هناك بعض الأعداد أو بعض القصص ضائعة منها.
وقلت لنفسي:
– هاييك يتعامل مع المجلة كأنها شيء نافل لا قيمة له، بينما عقلي وروحي في حالة شغف، وخوف شديد على ضياع أية ورقة.
كل يوم أمر من السوق، تبقى عيناي مسلطتين على الجدار الخشبي لمكتبة الوزان في وسط الشارع الرئيسي لمدينة رأس العين، عسى أن يأتي العدد الجديد للمجلة من أجل متابعة القصص التي كتبت في الأعداد السابقة.
ولأننا كنا في زمن الكتاب والمجلة والإذاعة قبل مجيء التلفزيون، كنت أرى هذا المنبر الجميل للطفل متعة ما بعدها متعة.
كان سعر المجلة خمسة وعشرين قرشًا، عمليًا كانت غالية الثمن في ذلك الوقت، ولكني كنت أوفره، فأضع الفرنك فوق الفرنك لأشتريها.
قرأت جميع الأعداد التي أخذتها من هاييك، وبقى هذا الطِّفْل في ذاكرتي قامة كبيرة إلى اليوم.
مجلة أسامة نقلتني نقلة نوعية إلى عالم القراءة. ولما بدأت طفولتي تهرب مني، بدأت اقرأ الأدب العالمي بعد سنة من لقائي الحميمي مع مجلتي، أصبحت عاشقًا له، وعلمت فيما بعد أن أغلبه أدب الرجال، يتحدث من موقع الرجل، فتوته، قوته الجنسية، رجولته، فوقيته، حروبه وفتوحاته وأحلامه ورغباته.
ولإن الرجل يقرأ للرجل، يظن أن الرجل هو هذا القوي، المثقف، المفكر، الكاتب والمناضل والمقاتل، والباحث، والرومانسي، والغازي لأجساد النساء، العاشق الجميل، يعرف كيف يروض المرأة ويصل إلى عشها، وكيف يداعب خيالها وجسدها، ونهديها، والزغب النابت على عانتها، وردفيها القويين المتناسقين، وصدرها العارم، وكيف حين تخضع له، تتحول إلى كتلة لحم لذيذ بين ساعديه، ساعديه القويين، فترتخي وتمنحه ما يريد، فيأخذ، وكيف لا، وهو العطشان لهذا الشبق القابع فيه في الوصول إليها.
لم نعرف المرأة في الرواية، شخصيتها، قدرتها، أحلامه، اأفكارها، رغباتها، ماذا تريد من الرجل، كيف تنظر إليه، كيف تريده.
أكاد أقول إن الرجل لا يعرف المرأة إلا من خلال رغبته في مجامعتها. وأغلب الروائيات يغلب عليهن الخجل في التعبير عن رغباتهن، ويتعاملن مع أجسادهن على أنه مجرد إرضاء للرجل. ولا يستطعنَ أن يعبّرْنَ بصدق عن مكنونات أنفسهنَّ حتى في الفراش مع الشَّريك.
الرواية هي التعبير الأدق عن الشخصية.
عندما يقدم إنسان ما في بلادنا، على كتابة رواية ما، سيجد أن أهم عنصر في الرواية هو المرأة، بيد أن هذه المرأة محجوبة عن الرجل في الشارع، الكافتيريا، المكان العام.
وممنوع الاقتراب منها الا شرعًا أي أن تكون أخته أو أمه أو زوجته أو ابنته.
كل شيء في حياتنا يمشي ويتحرك ويسير في السر، العمل السياسي، العلاقات العاطفية، ويتخلل هذه السرية الكذب والغش والخداع والنصب والاحتيال وغيره من القذارات.
العلاقة العلنية مع المرأة ممنوع، لهذا نقول:
– كيف يمكن لروائي أن يكتب عمله عنها:
التقينا، مشينا، دخلنا مطعم، تغذينا أو شربنا القهوة أو الشاي في المقهى أو في جلسة عامة أو خاصة؟
كيف يمكن للرواية أن تكون طبيعية، والحياة التي نعيشها مختلة، مخاتله، ترزح تحت ثقل الماضي، يقرر متن الحدث كله؟
هل نتمايع، عندما نكتب، نمارس التورية كما نمارسها في الحياة، نكذب على أنفسنا وعلى قارئنا، نلتف على الحقيقة؟
هل نلغي المرأة؟
عمليًا هي ملغاة من التداول العلني، نراها كنكرة، كشيء محجوب، كشيء نستطيع أن نلتقي بها في السر.
نراها كغنيمة حرب، مكسب ذكوري، أداة جسد، بمجرد أن نقترب منها، ينتصب عضونا، يتقدمنا قبل أن نتقدم منها
هل ما نكتبه عنها حقيقي؟ هل نحبها؟ أم نحب العضو الذي فيها، أو بشكل أصح، هل نحبها أم نحب الأنثى الذي فيها؟
وهذا ينطبق هذا على المرأة أيضًا.
هل يمكن إلغاء المرأة، الموسيقى، الغناء؟ هل يمكن إلغاء الرغبات، الجنس، الحب؟
لمن جاءت الكآبة؟ ولماذا؟ لماذا يحب الدين الكآبة ويكره الفرح، وهل هناك أحلى وأجمل من فرح الحب ولقاء الحبيب بالحبيب؟
اعتقد أن البلاد الشرقية عامة، والإسلامية خاصة، لا يمكنها إنتاج الأعمال الإبداعية العظيمة، لأن المرأة فيها غائبة، هي النبات والماء والشمس والزرع للحياة، فكيف نفرح دون زوادة.
حقيقة، أشعر بالميوعة، بالخنث عندما أكتب رواية ما، واتحايل على الواقع، عندما أقول:
التقيت بالحبيبة في المطعم، وحولي الناس يضحكون أو يقهقهون، كيف تستوي الرواية بالكذب والغش؟
في أعمال ألف ليلة وليلة، المرأة أهم عنصر في العمل الفني، ولكنها المرأة الأقل مستوى من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية،. يستخدم الراوي الجاريات، السبايا، الرقاصات، القادمات من الخارج، من البلدان المهزومة عسكريًا، المستباحات، المباعات في سوق النخاسة، عازفات العود في بيوت الملوك والتجار وعلية القوم.
الحرائر في الليل، يحررن شبق الملوك الجنسي والدوني، والإذلال الساكن في أعماقهم.
في هذا الليل السعيد أو الكاذب، يتحرر هؤلاء الملوك والديايثة من أنفسهم، من تبعات المجتمع، يتعرون من كذبهم على أنفسهم، يمارسون الجنس على حقيقته، وبفنية عالية، بحنكة، وتكون الجارية متقنة عملها، ترفع مستوى الأوركانزم عند السيد، تتساوى العاهرة مع العاهر في الوصال الجنسي المبتذل، المسبق الصنع، المتقن بحرفية عالية، كونه عدة الشغل للوصول للنشوة.
بصدق، أشعر بالفقر الثقافي والجمالي والإنساني في داخلي، أنا داخل السور أو السجن أو القيد الاجتماعي والثقافي الذي سور حياتي، حياتنا، مشاعرنا أفراحنا.
عدونا الأول، والأهم هو الثقافة الماضية، هي التي تمسك اللجام، تقيدنا، تمنع عنا التنفس والعيش تحت الشمس.
سأعود مرة أخرى إلى تلك المرحلة المبكرة من انتقالي إلى عالم المراهقة.
لم أشارك أحدًا في قراءة المجلة لعدم اهتمام أبي وأمي وأخوتي، ولم يكن هناك متعلمين يهتمون بما أفكر أو أعمل، وفي تلك الفترة كنت كتومًا منضبطًا، أنانيًا إلى حد كبير، أعرف مصلحتي الخاصة على أتم وجه، لا أتحدث مع الناس عن دواخلي، أقبض على سري بسرية تمامة، وأحدد هدفي كالنسر الجارح بدقة شديدة وأذهب إليه لأملكه مِن دون أن أشارك الآخرين برغباتي أو قناعاتي، ربما كنت أرى أن ما أفكر به لا قيمة له في ذهن الآخرين في ظل التهميش الذي كنت أعاني منه في وسط مستبد لا يرى سوى نفسه.
الطِّفْل أكبر كائن يعاني من عدم احترام الموجودين في محيطه له، يُضرب دائمًا من قِبَل الأكبر منه سنًا، محتقر من قبل المعلم، من البائع، من صاحب السينما، من بائع السندويشة أو المشبك، ينظرون إليه ككائن ناقص أو عاجز، غبي أو شيء عابر. ونادرًا من يحسسه أن له مكانة أو قيمة، إذ لا يوجد من يسمع صوته، ولأنه صغير في وسط لا يريد أن يعرف ماذا يجول في أعماق هذا الكائن الجبار، المملوء بالأحلام والأماني.
وكمية الإذلال التي يتلقاها لا تعد ولا تحصى:
– تعال إلى هناك يا غبي، يا حمار، أنت لا تفهم، رأسك ككيس التبن.
ويُتفَل عليه ويُهان بسبب ودون سبب.
يشعر الطِّفْل في بلادنا أنه كتلة زائدة عن اللازم.
الضغط الهائل الذي تعرض ويتعرض له الطفل في بلادنا، يفككه إلى أجزاء، يشوشه، يفتته، يحوله إلى كائن مسكين، خانع، يمشي في الشارع أو إلى المدرسة يلتفت حوله وكأنه مذنب، كأنه عمل عملة وسخة.
دائما يتعرض للتنبيه، للاحتقار والاذلال والتعنيف والتنمر. يمشي وكأنه حامل كفنه على رأسه وسائر إلى المقصلة، إلى موته.
يتعرض للتنمر، للأذى النفسي والجسدي، يشعروه، مقصر في كل شيء، أنه مذنب لأنه لم يذهب إلى المعبد، لأنه لم يصلي، لأنه غير مهذب، لأنه لم يدرس، لأنه لم يحمل أخوه الصغير، لأنه يبكي أو لا يقوم بواجبات البيت، لأنه لم يتحول إلى نسخة كربونية عن الأبوين.
يريدونه خاروفًا مرات وأسدًا مرات، يريدونه كائن منتف، دون صوت أو حضور عندما يرغبون، وناجحًا ورائعًا عندما يريدون.
إنه تحت الوصية، الأخر يفكر بدلًا عنه، بالنيابة عنه كأنه دون شخصية، دون وجود أو قيمة معنوية.
عندما كنّا في مرحلة الطفولة، كانوا يزرعون في عقولنا يوميًا أن النيك عيب، حرام، عار وشنار، بل جريمة يستوجب عليها فاعلها الصغير الإذلال والاحتقار والضرب.
وعيب أن تقترب البنت من الولد، لأن هذا خط أحمر، والحب جريمة.
كنّا نعتقد أن الأهل لا غرائز لهم، وأنهم ينامون إلى جوار بعضهم لحمايتنا من الذئاب القاتلة، لكن لم يكن يخطر في بالنا أن هؤلاء الأهل كانت عيونهم حمراء طوال الليل من النشوة، من الوهج والشرار والنار المنبعث من مناطقهم المشتعلة، بل كانوا يستمتعون الليل كله ببعضهما، وتبقى رؤوسهم مخدرة به إلى حين مجيء الأطفائية، وتخمد الحريق.
سيلفانا:
عندما أحببت الطِّفْلة سيلفانا، كلانا أنا وهي كنّا في العاشرة، بيد أني لم أتجرأ أن أخبر والدي أو والدتي أو الأصدقاء، إذ كنت أخاف من البوح، فأتألم بصمت من حب موجع من طرف واحد.
كنت أعتقد أن الحب جريمة، عار يستوجب الضرب والإهانة والتحقير، ولم يكن هناك ثقافة تنزل إلى مستوى الصغير ليعرفوا معاناته وآلامه.
يكبر الطِّفْل هامشيًا، فيضطر للنهوض وحده، يرمم نفسه بعيدًا عن أي صوت عاقل، في ظل الأوامر والنواهي والنصائح التي لا تتوقف أبدًا، يشعر أنه يمشي فوق السكاكين المذببة تطعنه في كل مكان من جسده.
مع هذا كنت أتمرد وأفعل وأنفذ رغباتي بالسر، أسخر من بساطة أبي وأمي، كنت أراهما غبيَّيْنِ رغم قوة جسديْهِما
وتعلمنا، أنا وجيلي، كيف نحافظ على أنفسنا بالخداع والكذب، بأن نمشي في الطّريق بأقل الخسائر للحفاظ على بقائنا، يسيِّرنا العقل الواعي من دون وعي منّا.
يعاني الطِّفْل العربي من عدة انفصالات لا رابط بينهم، تربط هذه الانفصالات بالقمع، بالإذلال، وفي ذهنه مجموعة أوامر قاسية يجب الخضوع لها.
الحوش العربي:
كان في وسط الحوش الذي نعيش فيه بئر الماء نشرب منه، وحوله مصطبة إسمنتية عالية الحواف بارتفاع أربعين سنتمتر، كنا ننام عليها في الصيف، لكن أبو ليفون، صاحب الحوش كسرها من جهة منزلنا تحت حجة أنه يخاف أن نقع فيه.
حزنَّا كثيرًا من هذا التصرف الأحمق، خسرنا مكانًا جميلًا للنوم عليه في الصيف الحار، وخرب المنظر العام للحوش والمصطبة، لكن والدي استطاع أن يحول هذا الفراغ البشع إلى مكان جميل.
كان يستيقظ باكرًا كل يوم ويشعل البابور، ويجهز المتة أو القهوة ثم يوقظ والدتي ويشربا معًا قبل ذهابه إلى العمل.
لقد عرش المكان المكسور بالورد من الأسفل إلى السطح عبر الخيطان،وزرع المصطبة التي كسرها أبو ليفون حول البئر بأنواع كثيرة من الورد والزهور:
أصفر، أحمر، نهدي، بنفسجي، برتقالي وأبيض، يسحب الماء من البئر بالدلو ويسقي هذه الزينة المبهجة أمام المنزل والباب.
من يدخل الحوش يرَى المكان ضاحكًا، يغني،يرقص، ويطير من السعادة.
ويجلسُ والدي ووالدتي تحت صفوف الورد والزهور بعد السقاية بعد أن يرشهم بالماء. فيضع والدي راديو الشارب بجانبه فيستمعا إلى إذاعة دمشق، فيسمع فيروز من خلال برنامج (مرحبًا يا صباح) المملوءة بالعبارات والجمل التي لها معاني جميلة، أو الأخبار من إذاعة لندن أو إسرائيل أو القاهرة.
نبقى نيامًا بعض الأحيان أنا وأخوتي، وأَحيانًا نشرب المتة معهم. كانت المتة غالية في ذلك الوقت،وسعرها 110 قروش، يعني أكثر من سعر ثلاثة كيلو خبز.
في العام 1967، كنا منهمكين في تأسيس نادٍ لنا هو نادي كرة القدم. جلبنا صورًا للاعبين العمالقة في ذلك الزمن من الجرائد: كاللاعب المصري علي أبو جريشة، ومن الاتحاد السوفييتي ليف ياشين ومن البرازيل بيليه ومن البرتغل ازوبيو ومن المجر بوشكاش وبدأنا لصقهم على الحيطان الترابية لبيت عائلة أحد الأطفال أو اللاعبين الصغار مثلي.
جاء هذا الطفل من المطبخ حاملًا قطعة خبز وجبنه، وقال بفرح وسعادة:
– يا شباب اسمعوا ماذا أقول، لقد أسقط جيشنا 95 طائرة ميراج، هكذا قالت الإذاعة، الأناشيد الحماسية تملأ الفضاء، لقد انتصرنا على إسرائيل.
طبعًا علينا أن نفرح، فقد تمَّت أدلجتنا منذ الصف الثاني والثالث الابتدائي، وأصبحنا جنودًا تحت السلاح من دون أن نمسك قطعة سلاح، بعدها لم نتابع ما حدث، انتصرنا وانتهى الأمرُ.
ولم يعد مهمًا أن نسمع الأناشيد العسكرية التي كانت تقذف الحمم والحماس في أفئدتنا الطازجة أو لا.
والأغاني تقول بذاك الصوت الحماسي:
“ميراج طيارك هرب مهزوم من نسور العرب”.
كنّا نلصق الصور بفرح ونضحك ويغمرنا شعور عامر بالنصر. وسلموا والدي بارودة سنوبال، وبدأ الكثير يحفرون الخنادق استعدادًا للمعارك الأخرى.
كنت أرى همة الرجال يحفرون الخنادق بالمعاول اليدوية ويغنون، بينما العرق الغزير في ذلك الصيف الحار يتصبب من جباههم وصدورهم.
في الحقيقة لم أكن أعرف أو أدرك سبب حفر الخنادق التي لم يتجاوز عمقها المتر في مدينة تبعد آلاف الكيلو مترات عن إسرائيل وعلى بعد مئتي متر من تركيا.
في الحقيقة لم يستمر الحفر إلا بضع ساعات أو أقل، ربما ساعتين أو ثلاثة.
رأيت وجه والدي متلبدًا. لم يتكلم، ولم يقل شيئًا. وضع البارودة في السيارة، ووضع لفحة بيضاء على رقبته وودعنا.
قالت لنا والدتي بينما الدموع تنهمر من عينيها:
– لقد ذهب والدكم إلى الجبهة. إنه سائق، وهناك سيحتاجون لكل شيء، السيارة واحدة من هذه الأشياء. تذكروا أن والدكم لديه شهادة عمومية.
في ذلك الزمن كان السائق سلطانًا له وزن. والموظف الحكومي مهما كان شأنه يعتبر ابن الحكومة وله مكانته. لم تمض بضع ساعات حتى عاد والدي والحزن يأكله كما كان لحظة ذهابه، قال:
– ما إن ملأت السيارة بالبنزين، ومعي بقية الموظفين للذهاب إلى الجبهة حتى جاءت برقية من القيادة يقولون فيها أن نعود أدراجنا. لقد انتهى كل شيء. في الحقيقة لم أسمع بالهزيمة، لم يقلها لي أي إنسان إلى وقت متأخر من طفولتي. سمعت بالنصر، وبقيت منتشيًا بذلك النصر الكاذب.
إننا انتصرنا وكسرنا العدو وهزمنا طائراته، ولصغر سني، لم أربط الأحداث ببعضها. لم يكن في المحافظة بث تلفزيوني أو هاتف أو أية وسيلة أخرى للمعرفة. وكان أبي يحتكر الراديو الترانسيتورالشارب وكأنه حقيبة مطهِّر الأولاد، يحملها معه أينما ذهب.
ولم أسمع في المدرسة أو من الطلاب الأَرْمَن ما حدث، ولم يقلها المدير أو المعلمين. وربما خاف والدي أن يحدثني عن المصيبة التي حلت بالعرب والمنطقة. وربما مخافة أن يتلفظ لساني بكلام لا تحمد عقباه. الفاجعة سمعتها بعد زمن آخر،بعد أن دقت الهزيمة في أسفلنا، ودخلت كخازوق في أسفلنا وخرجت من رؤوسنا، ووصل المهزوم إلى السلطة.
كنت أفضل لاعب في كرة القدم بين زملائي وأصدقائي. أستطيع أن أسدد الكرة في المكان الذي أريد بقدمي اليسرى. كنت أعسرَ وماهرًا جدًا في مراوغة الكرة ونقلها من مكان لمكان، لخفة وزني ورشاقة جسمي وحركتي السريعة التي تشبه المكوك.
وكان الجميع يريدون أن أكون بينهم في فريقهم، وخاصة أولاد الباشات الذين اشتروا أحدث الأحذية الرياضية والكنزات التي جلبت لهم خصيصًا من مدينة حلب. وكانوا يحبون النادي الأهلي السوري، الفريق الذي كان يرتدي القميص ذو اللون الأَحْمَر الذي تحول أسمه إلى الاتحاد في زمن عائلة الأَسد.
بينما أنا بقيت على حبي لنادي الحسكة الذي لم أره منذ العام 1967 إلى العام 1979 في أكثر فتراته ذلًّا.
الكراج:
منذ كنت في الخامسة من العمر كنت شغوفًا بالميكانيك، كهرباء السَّيّارات ولحام الاكسيجين. وصدف أن والدي
كان يعمل في المناجير، وهي ضيعة صغيرة في العام 1963 تابعة لمصلحة الإِصْلاح الزِّراعيّ بعد أن تم
الاستيلاء على أراضي أصفر ونجار وترزي باشي ومعمار باشي من قبل حكومة الوحدة في تلك الضيعة.
كان هناك كراج كبير فيه عشرات العمال الفنيين يعملون فيه، أغلبهم جاءوا من مدينة الحسكة أو رأس العين للعمل فيه.
كان رئيس الورشة رجل أرمني اسمه المعلم أفاك، وهو خبير في كل ما يتعلق بالسَّيّارات. بدين جدًا يصل وزنه حسب تقديري إلى مئة وعشرين كيلو غرام. كان بنطاله واسعًا كما بقية ثيابه، العمل شغله الشاغل، وكانَ دقيقًا، متفانيًا، جديًا لأبعد الحدود، وصارمًا، وعازبًا، ولا يضحك أبدًا.
كنت أذهب إلى الكراج، المصلحة، كما كانوا يرددون الأسم، وأطلب مساعدة الجميع ليسمحوا لي بالعمل. وكانوا يضحكون علي. وكل واحد يرسلني إلى غيره. وأَحيانًا كان الحارس فواز يطردني من الباب الرئيسي. لكني كنت أحاول جاهدًا أن أدخل. أذهب إلى المعلم أرتين، معلم الكهرباء، أقول له:
– أريد أن أشتغل يا معلم، الله يوفقك. أحب العمل.
يضحك ثم يشير بيده:
– اذهب إلى المعلم سيروب، وسوفَ يساعدك، وهذا الأخير كان يرسلني إلى المعلم أحمد، معلم الميكانيك.
كنت مولعًا بصنع العربات ذات الدولابين، من الحديد المبروم، عشرة ميلم. كان بعض المعلمين يلف الحديد على شكل دائرة ويلحمها ويربطها بمحور، ثم بمحور عمودي، ويدهنها باللون الأخضر. وصنعوا لنا طاولة من الحديد المحلزن فوقها صفيحة من الحديد بسماكة 2 مم. بقيت في بيتنا إلى فترة خروجي من السجن امتد إلى الأربعين سنة.
الأن لا أعرف مصيرها
عندما طردني الحارس فواز من الباب حزنت حزنًا شديدًا، فقلت، لوالدي:
– ماذا أفعل مع هذا الحارس؟ إنه يطردني دائمًا. وكل واحد يريد أن يتخلص مني، بماذا تنصحني؟
قال:
– اذهب إلى المدير فوزات، واشرح له حكايتك، وسوف يصدق قضيتك ويساعدك. قل له:
– ” أريد أن أشتغل”. وسيحترمك ويقبل بك
كان عمري خمس أعوام.
في اليوم التالي، ذهبت إلى مكتبه، فتحت باب الغربول، الشبك حتى لا يسمح بدخول البعوض، ثم دخلت غرفته الباردة صيفًا، رأيته جالسًا وراء طاولة جميلة عليها أقلام وورق، نظر إلي باستغراب، بصمت.
قال لي:
– من أنت؟
قلت له:
– أستاذ، الحارس فواز لا يسمح لي بالدخول إلى المصلحة. أريد أن أعمل!
حدق في عيني مليًا. لم يبتسم، لم يقل كلمة واحدة، بقي رابط الجأش، لم يسخر أو يستهزئ، بل مسك القلم والورقة وكتب عليه:
– لا يسمح لهذا الطِّفْل الصغير بدخول الكراج.
قال لي:
– اذهب إليه وأعطه هذه الورقة وسيسمح لك بالدخول.
ركضت إلى الحارس فواز ماسكًا الورقة بالمقلوب، والسعادة لا تسعني.
قلت له:
– فواز، تفضل. هذه الورقة من المدير، اسمح لي بالدخول والعمل.
مسك فواز الورقة بالمقلوب هو الآخر، ونظر إليها، ثم قال:
– الآن شغلك صح، تفضل ادخل إلى المصلحة، الآن حملت المسؤولية عني.
سمعت من والدي بعد عدة أيام يتكلم مع بقية العمال أن فواز أيضًا لا يعرف القراءة والكتابة. لكنه بمجرد أن رأى الرسالة وتوقيع المدير سمح لي بالدخول.
ووالدي أيضًا لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وربما أغلب العمال لم يكن يعرفون القراءة والكتابة في تلك الفترة.
وكنت أحضر في الليل برامج محو الأمية للعمال المتعبين بعد يوم شاق من العمل، يذهبون إلى مدرسة القرية ليتعلموا من معلم المدرسة فك الحرف والقراءة والكتابة.
كنت أعرف القليل من القراءة والكتابة تعلمتها في الروضة، وكنت في ذلك الوقت قد بدأت في دخول المدرسة، الصف الأول.
أثناء الدراسة، والليل قائم، كنت أدور في الصف مع العمال، أراهم لا يعرفون مسك القلم ولا يخطون الحرف، ينادون علي أن أذهب إليهم لأعلمهم كيف يمسكون القلم. كل واحد يمسكني من قميصي، يشدني نحوه، يسألني ما هذا الحرف، ما هذه الكلمة، كيف تكتب، وأَحيانًا يطلبون مني أن أكتب الحرف بالنيابة عنهم.
وقتها كنت أشعر أنني طاووس كبير، أكبر من أبي وهؤلاء الأميين المساكين الغلابة.
من ذلك المرتفع العالي كنت أقف أنظر إلى الخابور بذهول أقرب إلى السحر، أراه ماشيًا، حاملًا جسده على ضفاف ذاته، يسبح مرات ويجلس مرات، ومرات يسهر تحت ضوء القمر، يغني ويعزف، وإلى جانبه أولاده وزوجته.
وأحيانًا كثيرة يزوره جيرانه وأقرباءه.
إحدى المرات دعاني إلى حفلة عشاء على ضفاف نبع قريب منه، وكان برفقته صديق وسيم له.
عندما اقتربت من المكان المحدد، شممت رائحة شواء، وعدد كبير من الناس الجالسين على مرتفع يشاهدونه يتحرك بخفة وسعادة وحيويه، يجلب الفحم، ويدك الاسياخ في قطع اللحم، وفي يده الأخرى كأس عرق بطة بيضاء، يشرب ويرفع الكأس ويبتسم ويأكل بمتعة شديدة.
ثم أخرج من حقيبته مجموعة من الأسماك، أخرجها من ماءه، ووضعها ثم دكهم في الأسياخ، كانت الرائحة اللذيذة تنطلق إلى عنان السماء، قال لي:
– تعال أنت وأصحابك، تعالوا كلوا ما تبقى من جسدي ودمي، اليوم أنا هنا وغدًا راحل إلى البعيد، ربما أعود وربما سأغيب إلى الأبد.
قلت له:
– هذا قدرك يا خابور، قدر من يعيش بين أقوام لا يحترمون حضور كائن جميل مثلك، ولا يحافظون عليك وعلى قيمك الثمينة.
قرية دبانة:
وضعني مرة والدي على الطَّريق العام ومضى إلى عمله برفقة الموظفين باتجاه ناحية تل حميس وتل كوجك.
قال لي:
– اذهب إلى الضيعة. تعرفها. أنت رجل، أنت في السابعة من العمر، لا تحتاج إلى مرافقتي، فلدي عمل ومسؤولية. ابق في بيت جدك عدة أيام وعندما أعود من رحلتي سآخذك معي إلى الحسكة. لقد أغلقت المدارس أبوابها منذ أيام. جلبتك معي حتى تلتقي بجدك وجدتك. لا تبق مدة طويلة تحت الشَّمْس اللافحة،فغيابي لن يطول، مجرد أيام وأعود.
قلت له:
– لا تتأخر، الملل سيأكل قلبي. الضيعة لا يوجد فيها وسائل تسلية.
لم يكن الطَّريق العام يبعد عن بيت جدي سوى مائتي متر. رأيت الغبار يتصاعد من وراء دواليب سيارة والدي أثناء ذهابه. وأكملت طريقي.
وبمجرد أن دخلت حدود القرية حتى هرع الأَطْفال الذين في مثل سني في الاقترب مني ورحبوا بي. مشينا في حقل مفتوح الأبعاد. قال لي أحد الأَطْفال:
– هذا الحقل عائد لجدك.
كان الوقت ظهرًا. رأيت ثمار البطيخ والجبس ناضجًا. هكذا خمنت. قطفت عدة ثمار وحملتهم معي وركضت برفقة الأَطْفال.
رميت الجبسة على الأرض كأي طفل غر ومسكت لبها لأكله، كانت بيضاء اللون مرة الطعم. علمت فيما بعد أنها لم تنضج بعد. حذرني أطفال الضيعة، بيد أني لم أصغ لهم. رأيت جدتي جالسة برفقة نساء الضيعة. رأيت الشرر يتطاير من عينيها عندما رأت القطاف في يدي. انبرت قائلة بلغة فيها من الغضب ما يهد الجبال:
– لماذا قطفت هذه الثمار وهي لم تنضج بعد؟ أنت طفل شرير لا تخاف الله. تقطف الثمار وهي في حضن السماء!
كانت تنظر إلي شزرًا، عابسة الوجه، لون عينها الأزرق ووجهها الأبيض تلونا بلون اقرب إلى الكحلي من الغضب. رأيت الحزن يأكل قلبها وروحها. لم ترحب بي، ولم تقل الحمد لله على السلامة، قالت:
– من أين جئت؟ من جاء بك إلى هنا؟
– من الحسكة. لقد رماني والدي على الطَّريق العام وذهب.
لم تتكلم، ولم تقل المزيد. التفتت إلى بقية النساء دون أن تعرني أي اهتمام بعد ذلك. غمغمت. قالت كلمات غامضة لم أفهم مضمونها. وتركتني لشأني.
مضيت برفقة الأَطْفال مسافة بضعة مئات من الأَمتار باتجاه طريق ترابي يتجه نحو مدينة القامشلي.
عبرنا رافد نهر الجغجغ ومشينا فوق الجسر الخشبي. قطعنا بضعة مئات من الأَمتار إلى أن وصلنا إلى أراضي الحاج منصور العاكوب من قبيلة.
كان المحرك الديزل يعمل ويخرج الماء من جوف الأرض ويرميها في بركة عالية، تسمى”حاووز” أو مسبح صغير.
نزلنا في الماء البارد كالثلج وسبحنا. كانت حقول القطن مفروشة أمام العيون العطشى، والمحرك لا يرحم، يعمل ويقذف المياه الجوفية من جوف الأرض. إنه يشفط الماء من باطن الأرض ويقذفها في حقل القطن.
المحرك يدور والقشاط الواصل بآلة متحركة تدور معه، مرتبطة بأعماق البئر يستجر ما يراه من ماء أمامه، والتربة البكر تشرب. والقطن يشرب الماء بشراهة، والشَّمْس تشرب وتبدد ذلك الكائن الجميل في الفضاء دون رحمة أو شفقة. حتى تخضر العيدان وتتحول إلى أبواغ وقطن وحطب، وتتملح الأرض وتتصحر التربة وتموت الأشجار والحياة والحيوانات والماء.
إننا أمام قدر يصنعه الإنسان ويقوده بيده وأسنانه إلى الخراب. وكان هناك حقل للبندورة. والرطوبة تعم على ذلك المكان.
خرجنا من الماء وأسناننا تصطك في بعضها من البرد. بقينا مدة طويلة تحت قسوة الشَّمْس الحارقة حتى نتزود من طاقتها ببعض الحرارة.
ارتدينا ثيابنا ووقفنا بضع لحظات تحت ظلال الأشجار. كانت رائحة البندورة منعشة طرية ولطيفة، ورائحة الأغصان الخضراء الرطبة مرفقة مع رائحة البندورة المعلقة فوق صدر الشتلة الخضراء.
ركبت حمارًا كان واقفًا بالقرب من المكان. وشاركني بقية الأَطْفال. وعدنا معًا. ضحكنا وركضنا.
كانوا يتقنون اللغة الكردية ويتحدثون بها. بيد أني لم أكن أفهم عليهم، ففي مدينة الحسكة في تلك الفترة كانت اللغة العربية هي السائدة.
كنت أتحدث الأَرْمَنية في ذلك الوقت بطلاقة مع أخواتي ومع بقية التلاميذ في المدرسة. أما في الشارع، فكان هناك لغات أخرى لم أكن أفهمها أو لا أعرف التحدث بها كالآشوريّة والسّريانية.
ولم أكن أحب اللغات منذ كنت طفلًا.
أمواج من الصور تأتي إلى ذاكرتي تلعب بحواسي. صور وراء صور، كبيرة وصغيرة لا تنفك تستيقظ من غفوتها، بيد أنها تبقى مستقرة في جوف ذاكرتي.
هناك طفل صغير لا يكبر، يحبو في داخلي، يلعب بي. لا يتركني أرتاح للحظات. له حياته وألعابه وعالمه وفرحه وجنونه وهوسه في اكتشاف الأماكن والأشكال والألوان والأبعاد حسب تصوراته ومعرفته.
جئت إلى الضيعة في سيارة والدي، اللاندروفر، الذي كان متجهًا من القامشلي إلى تل حميس، لغرض يخص مديرية الإصلاح الزراعي كما ذكرت سابقًا، الذي يسكن في قرية دبانة. تلك القرية كنت أراها مثل قنديل لا ضوء فيه، تعيش في وسط البراري الواسعة، أو كفناء ضيق مقيم على الضفاف في ظل الصمت. تملأ عينيها الحسرة واللوعة والنعاس. قرية نائية، يكتنفها التكرار.
وتمر الأيام عبرها كسطوة الزمن البليد.
هناك كان جدي مقيمًا برفقة جدتي وعمتي.
جاء قادمًا من قرية سعرت في الأَناضُول/ محافظة باتمان حاليًا في تركيا/. جاء هاربًا من الذل والقهر والموت، ومن الإبادة التي قام بها الأتراك بأبناء دولتهم.
بمجرد أن اقتربنا من حدود القرية، رماني والدي على الطَّريق الترابي، وانصرف عني، لأبقى عند جدي، الرجل العجوز الذي تجاوز المئة، مدة يومين أو أكثر.
كان المكان ضيقًا علي رغم وسعه، الفراغ في كل مكان، أطفال الضيعة لا يماثلونني بشيء، لا يعرفون لعبة كرة القدم، لا يذهبون إلى السينما، لا يلعبون مثلما ألعب.
كانت دبانة قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها المائتي نسمة، والأراضي المحيطة بها تابعة للشيخ الحاج منصور من شيوخ قبيلة طيء العربية الكبيرة التي لها امتدادات تصل إلى العراق والحجاز ومصر والشام والبحرين والكويت.
وأصبحت انتفاعًا لسكان الضيعة بعد مجيء الإصْلاح الزِّراعيّ.
وقتها، حاز جدي على قطعة أرض صغيرة كانتفاع أو حيازة يزرعها بالجبس والبطيخ والخيار في فصل الصيف والقمح في فصل الشتاء، وكان أجنبيًا في الهوية إلى أن مات.
بيته كان في خط العشرة الذي أخذته الدولة في العام 1971 وعوضته بأرض أخرى في قرية اسمها صافيا، لكنه توفي قبل أن يرحل عن دبانة.
كان مجبّرًا عربيًا، يرمم الكسور ويعالج الناس بالطب العربي.
في هذ العمر، حوالي المئة سنة، كان يخرج إلى البراري العذبة باحثًا عن الأعشاب التي يداوي بها الجروح أو الأمراض الجلدية أو الكسور.
يخلط الأعشاب وفق مواصفات ومقاسات( أوزانٍ) يعرفها في ذهنه، يمزجها ويخرج منها الدواء الذي يبحث عنه. ويتقصده الكثير من النَّاس من أماكن مختلفة من البلاد. وعندما كان يشفي المرضى كانوا يقولون له:
– يا عم ماذا تأمرنا؟ كم من المال تريد؟
– دخان.
– هل تريد كروز دخان حمراء، شرق، البترا؟
– لا، أريد دخان فلت، دخان لف؟
وكان يضيف:
– بل أريد شيئًا آخر. إنني أعمل لله وأحب مساعدة الناس؛ لذا أريد المكافأة من الله.
– هذا لا يجوز يا عم.
– أنا لا أتعامل بالمال السائل. أريد دخان فلت لا غير. الحمد لله لدينا عدة رؤوس من الأغنام وبقرتين. وهي تفي وتوفي بحاجتنا من سمن ولبن وصوف، ولدينا الكثير من الدجاج والبيض البلدي والمواد الأساسية لحياتنا.
– كيف وصلت إلى سوريا ولما لم يقتلك الأَتراك؟
قالوا لي:
– قتلك لا يكلفنا سوى ضربة خنجر أو طعنة سيف أو رصاصة. لكننا بحاجة لك. أنت بناء بيوت، نجار، مصلح للمحراث اليدوي الذي نستخدمه للفلاحة،كما أنك تصلح حوافر الخيل، ومجبر الكسور وطبيب عربي.
أبقوا على حياتي لحاجتهم. وكانت إرادة الله ساهرة على بقائي. سألته؟
– إرادة الله أم حاجتهم لك؟
– لقد وهبني الله موهبة العمل والعقل. هذا كان كافيًا لي. هذه الموهبة انقذت حياتي.
أَحيانًا كثيرة كان يسألني:
– والدك يقبض مئة وثمانين ليرة في الشهر، إنه مبلغ هائل، أين يذهب بها؟ ماذا تفعلون بهذه الكمية الكبيرة من النقود؟
لم أكن أعرف الجواب. كنت صغيرًا ولم يكن لدي القدرة على معرفة ما يدور في عقل جدي. كنَّا ندفع إيجار البيت، وأقساط المدرسة، وأقلام ودفاتر وثياب وطعام. جدي لم يكن يعرف حياة المدينة والمدنية ومستلزماتها. بيد أنه كان يكره المراحيض الخاصة والعيش في الأماكن المكتظة بالناس.
كنت أقف إلى جانبه مرات كثيرة. لم أره يربت على رأسي أو يحضنني أو يقبلني. ولم تفعل جدتي الشيء ذاته. كانوا يحبون أولاد عماتي أكثر. لم يكن هذا الأمر يضايقني أبدًا، بل كنت أراه شيئًا مألوفًا.
قال لي مرة:
– أريدك أن تبقى معي يا ولدي. هذه الأرض ستبقى لك من بعدي، وسيكون لك هذا البيت والأغنام والبقر والدجاج. الأرض تعطي الخير والبركة للإنسان وتهبه محبة الله وبركته. والدك رجل لا يعرف الله. إنه كافر يقود سيارة من حديد. الحديد خطر على الإنسان والحيوان. تعال وخذ الأرض وافلحها وازرعها، بدلًا من أن تعمل في المستقبل مثل والدك في الحديد.
– يا جدي، أريد الذهاب إلى المدرسة. الحياة هنا قاسية. لا تأكلون بميعاد، ونهاركم كله فوضى. إنني أستيقظ كل صباح وأذهب برفقة أخواتي إلى المدرسة صباحًا. نفطر قبل أن نذهب، وعندما نعود يكون الغذاء جاهزًا، نرجع بعد الظهر إلى المدرسة. ألتقي بالكثير من الأصدقاء في باحة المدرسة في مدينة الحسكة ونلعب كرة القدم والغميضة. المدرسة جميلة جدًا، والمعلمات يلبسن أجمل الثياب العصرية. إنكم تعيشون حياة مختلفة عن حياتنا. أذهب إلى السينما. وفي سيارة والدي أزور مدنًا كثيرةً، وأرى أريافًا، أنهارًا وينابيع.
– العمل في الحديد حرام يا ابني. إنه ضد إرادة الله. والدك رجل عاق. تركنا والتحق بالعمل عند الآخرين. قلت له مرات كثيرة:
– “تعال، اعمل لدينا، ساعدنا. لكنه فضل أنانيته علينا. إنه يحب المدينة ونساء المدينة. إنه ليس منّا”
في البيت كنت أسأل والدي:
– أحب أن أعمل لدى جدي في الأرض. إنه يريد مني أن أبقى معه. أن أترك المدرسة.
– دعك منه. إنه لا يعرف ماذا يقول، وعلاقته بالحياة لا تتعدى الضيعة البائسة التي يقطنها.
دبانة تبعد عن مدينة القامشلي أربعة كيلومترات نقطعها مرات كثيرة مشيًا على الأقدام، ومرات كثيرة تقف لنا السَّيّارات العابرة وتحملنا بين دفتيها.
في الستينيات، كنا، والدي ووالدتي وأخي وثلاثة من أخواتي البنات في زيارة للضيعة. مرض أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام. كان الفصل شتاءً، ولم يكن هناك مواصلات. والوحل يملأ الطَّريق الترابي الذي شقته السَّيّارات العابرة عبر الزمن. واشتد عليه السعال ولم نعد نعرف ماذا نفعل. بكى أبي وبكت أمي وعمتي.
وبكيت أنا أيضًا.
وكانت مدفأة الجلة تشتعل، وتبث شجونها، والفوضى تعم المكان. جهز بعض الجيران عربة يجرها بغلان وركب والدي ووالدتي عليها وسارا في حضن الزمن الطويل. بقي أخي يشهق بقايا أنفاسه على وقع حوافر البغال وعجلات العربة التي تغوص في الوحل.
وما إن مضوا بضع مئات من الأَمتار حتى غرست العربة في الوحل عميقًا، ولم تعد تتحرك. نزل والدي والحوذي ودفعا العربة بينما الأخيرة تخرج من فج لتقع في آخر، والحزن لفافة تغلف قلب أمي من القهر لفقدان أخي.
وصلوا إلى عيادة الدكتور خاجيك رشدوني في مدينة القامشلي. بعد فحصه، حقنه الطبيب بأربعة عشرة إبرة، في النهاية قال لهم:
– ” خذوه لا شفاء له”.
أخذوا أخي الصغير الذي لم يكن يتجاوز السنة الأولى من عمره أو أكثر قليلًا إلى بيت عمتي، وضعوه على المصطبة الخشبية في انتظار وفاته، وقتها كنت في الخامسة أو السادسة من العمر أبكي من القهر برفقة أختيَّ،قالوا لنا بعد أن عادوا إلى الضيعة:
– لقد كان لون بشرة أخيك أزرق كالكحل ويشهق بصعوبة وحشرجة.
وكنا نبكي جميعنا، انبرت امرأة بين الحضور، قالت:
– لماذا لا نشرح ظهر الطِّفْل، لعل وعسى يتنفس؟
جلبوا الشفرة وشرحوا الظهر، أدخلوا الشفرة بحدود النصف سم في الجلد، بدأ يخرج الدم الأسود الغامق من ظهره، توقفت الحشرجة، وساد الصمت ثقيلًا على الجميع، ثم بكى الصغير وأخذ يتنفس.
أكثر ما كان يبهجني في ذلك الوقت في قرية دبانة هو وقت الغروب. عندما كانت الشَّمْس تطوي جناحيها لتنام وتتحول الجمرة إلى بقايا رماد، ويغيب الضوء خلف تلال الذاكرة والزمن. أرى نفسي عصفورًا نائمًا على حدود الأفق. تبقى عيناي عالقتان على عودة القطيع إلى الحظيرة. أرى من بعيد الغبار العالق بين الأرض والفضاء في رحلة العودة.
ما أن يقترب القطيع حتى يبدأ صوت ثغاء الأغنام يتصاعد.
تركض الأغنام بلهفة الملهوف إلى البيت، وتقترب من جدي وجدتي. كان القطيع يعرف البيت وأهل البيت، بل كأنهم الأَطْفال المشتاقين لأسرههم.
تبدأ عمتي أو جدتي بحلبهم. كأن الغنم يكون متعبًا من هذا الحمل. وما إن تفرغ الضروع حتى أرى وأشاهد الفرح بعيونها وهي تبحث عن طريق الزريبة لتنام فيها.
ويتحول الحليب إلى لبن في الصباح.
كنت أستيقظ مرات كثيرة على أصوات عمتي وجدتي في الصباحات الباكرة، قبل أن يشقشق الضوء ويفتح عينيه، تعملان بهمة ونشاط،لديهما قربة من الجلد تضعان فيها الحليب ويخضانها فترة طويلة من الزمن.
كانت أصواتهما عالية جدًا، عندما تتحدثان. وأَحيانًا كثيرة تتشاجران دون سبب. في هذه اللحظات أبقى في الفراش قلقًا من توترهما وصراخهما الذي لم أر له سببًا مقنعًا. وتسخنان الماء على نار الجلة بأدوات بدائية جدًا. حتى المغرفة كانت مصنوعة من القرع المفرغ، المجفف، له يد تحملان الماء فيه وتنقلانه من الحوض الحار إلى الوعاء الكبير فيه يتم غسل الثياب.
كنت أشم رائحة “التايد” صابون الغسيل والماء المغلي والهواء الطلق عندما تبدأ الشَّمس في الصعود واللعب في جنبات السماء.
لم يكن جدي أو جدتي أو عمتي يحسنون القراءة والكتابة. كانوا أميين مثل بقية أهل الضيعة وبقية القرى في ريف الجزيرة السُّورية في ذلك الوقت.
كان جدي مفتول الشاربين، متوسط القامة،فيه انحناء الظهر بفعل عامل الزمن لجسد الإنسان. يستيقظ باكرًا على الصوت الصارخ الصادر من عمتي وجدتي، يقول لهما:
– لماذا تتشاجران؟ ماذا حصل لكما والشَّمس لم تمتلئ بعد من عتمة الحزن والصمت؟ خفضا أصواتكما، لماذا تصرخان من عند باب الصباح؟
ولا تردان عليه.
كانت المرأتان قاسيتين لا تعملان له حسابًا، ربما لكبر سنه. مثلهنَّ مثل بقية نساء القرية، لم تهذبهنَّ الحضارة المدنية المزيفة، إذ كن أحرارًا في ممارستهن لحياتهن من دون خوف أو رد فعل من أي كائن. قويات، صلبات التكوين في مواجهة قسوة الواقع. يعملن في الأرض، يجلبن الماء من البئر البعيد، يحلبن المواشي، وفي الضحى يجلبن روث الأبقار ويقطعهن ويضعنه في إطار دائري ثم يتركونه تحت الشَّمس الحارة الحارقة إلى أن يجف ويتحول إلى وقود في التنور أو المدفأة في الشتاء.
يبقى جدي في مكانه، يضع عمامته البيضاء فوق رأسه ويجلس القرفصاء يدخن وحيدًا، ينظر إلى الفضاء المفتوح عبر الباب أو النافذة. ويكش الذباب الذي يملأ البيت والفناء المجاور للمنزل. ربما يتناول كسرة خبز من الرغيف السميك الذي عجنته عمتي وخبزته قبل وقت الغروب بساعة على التنور. وبجوارها كلبهم الكبير، يجلس بقربها ويحرك ذيله نحو اليمين واليسار.
كان قطر الرغيف الواحد حوالي ثلاثين سم وسماكته ثلاثة سنتمترات.
كانوا أنقياء إلى نقي العظام في صراخهم وشتائمهم، في أوجاعهم، في كلماتهم وشهيق أنفاسهم. لم يكن يعرفوا الزيف أو ممارسة الكذب أو اللف والدروان. كلماتهم كانت مباشرة، خشنة، واضحة، قاسية، عنيفة مثل أغلب أبناء أهل الريف في الأَناضُول في علاقاتهم مع بعضهم أو مع الآخرين، يتبادلون الأحاديث بصوت عالي، دون مجاملة أو رقة أو لين.
كان البيت يطل على الشمال يجاوره على اليمين بشكل طولاني عدة بيوت فارغة، لأن أهلها سافروا عبر قوافل الرحيل مع الذين رحلوا إلى أرمينيا في أعوام /1964/، /1965/ وتركوا كل شيء وراءهم، الفراغ والصمت والغربة، والحسرة لمن تبقى في دهاليز الهواجس والترقب. وإلى اليسار كان هناك غرفة بُنِيَتْ لتكون إسطبلًا للحيوانات كالأبقار والأغنام والخيول. لكن أبي أخذها قبل أن تقطنها تلك الحيوانات وسكن فيها مدة قصيرة من الزمن أثناء فقدانه للعمل وعدم قدرته على الإقامة في المدينة. كان زمن البطالة، والتعتير ككل مراحل سوريا.
في ذلك البيت البسيط ولدت كما تلد الحيوانات، قالت لي والدتي فيما بعد:
– بمجرد أن أحسست بالطلق رأيتك قد خرجت إلى الحياة قبل أن تأتي عمتك أو غيرها لمساعدتي في ولادتك. لم تعذبني أثناء الولادة ولكنك عوضتها فيما بعد أثناء حياتك وسجنك.
وأردفت:
– أنت في منتهى القسوة يا ولدي. ليس في قلبك رحمة أو شفقة على أي إنسان. أنت قاسٍ على نفسك أيضًا.
ويردف والدي ويقول:
– إنه ذئب، ابن البراري.
أقول لهما:
– السجن قلم أظافري وكسرني، وخرب أشياء كثيرة جميلة كانت مسكونة في أعماقي، لم يبق مني إلا صورتي الأخرى، شكلي المخفي وراء ذلك الكائن الآخر،لا تغرّكما ملامحي أو شكلي، فوراء ألفاظي النائمة ماتت أجزاء كثيرة من تكويني. هذا شكلي الجديد، إنكما لا تعرفانه.
والقرية كما ذكرت آنفًا تقع في منطقة ما يسمى خط العشرة. ففي نهاية الستينيات صدر قرار من الدولة بأخذ الأرض من أهل الضيعة وإعطائها للناس القادمين من الرقة من أبناء ريف محافظة الرقة، أو ما يسمى عرب الغمر الذين فقدوا أراضيهم أثناء بناء سد الفرات.
قالت الدولة لأهل الضيعة:
– سنأخذ منكم هذه الأراضي ونعطيكم غيرها في القرية القريبة منكم، قرية صافية، ستنتقلون من هنا وتمكثون هناك. لم يقبل أهل القرية هذا العرض ولم تتراجع الدولة عن قراراها. ونفذ القرار في العام 1972 في زمن حافظ الأَسد. وخسر جميع أهل قرية جدي، دبانة أراضيهم ولم يذهبوا إلى صافية، ولم تعوض لهم الدولة أي شيء على حد علمي. ومات جدي في العام ذاته وقطعنا جذورنا مع ذلك المكان، ولم أعد أعرف أي شيء عنها.
جدي مرة ثانية:
قالت لي جدتي في ذلك الزمن الراحل:
– جدك رجل غريب الأطوار، إنه مجنون، مجنون بحق.
كنت أنظر إلى عينيها الزرقاوين، ووجهها الأبيض النقي، وملامحها القاسية.
أضافت:
– هل رأيت في حياتك رجلًا عاقلًا يركض وراء الأعشاب في البراري مثل السَّعْدان؟
وأضافت:
– كما تعرف، هناك ملايين الأنواع والأشكال. كيف لإنسان عجوز في مثل عمره أن يحصل على جزء يسير منها؟
وأضافت:
لو أنه يلتفت إلى بيته ويرقع حذاءه، أفضل بكثير من خدمة الناس.
قال لها:
– يا سيران، وهذا اسم جدتي، تحدثنا كثيرًا في هذا الموضوع، ابقَّ مع أغنامك وأبقارك ودجاجاتك، هذا أفضل بكثير من التحدث بهذا الكلام. ثم أنت لا تعرفين بماذا أفكر، ولا تعرفين أي شيء عن علاقة اللذة ومعنى اللذة والفرح. أنت امرأة كئيبة؛ لهذا لا يمكنك رؤية الجمال، وما وراء الجمال، أو في الورد والعطر والزهر والأعشاب.
ثم التفت إلي، ومن ثم إلى أمي الواقفة بالقرب من التنور إلى جانب جدتي وعمتي، اللتين كانتا تخبزان، وحرارة النار تغطي الماء والعجين.
وتابع حديثه لوحده، بصوت خافت جدًا، بيد أنه كان مسموعًا لي:
– اللذة كامنة في الجوهر، في جوهر الوجود، في الآخر وغير المكتشف.
وأضاف:
-الإبداع لذة. من لم يصل إلى لذة الاكتشاف لا يعرف الحياة ولا أي شيء عن هذا العالم، ولا يعرف ما معنى الحياة. إنه جاهل.
وقال:
– الكائن يركض ليل نهار وراء تلك اللذة المفتقدة، البعيدة، النائمة في المجهول. يقطع المسافات الطويلة من أجل الوصول إليها.
الجمال هو السر غير المقتطف، وفي السر، هناك يختبئ الكون.
هذه اللذة الهاربة قابعة في الذاكرة البعيدة، وفيها تكمن الحقيقة، هي التي تجعل الإنسان فراشة هائمة تموت في بحثها عن الضوء.
زفر زفرة موجعة وتابع:
– الخلود في اللذة وبالعكس، في الغموض؛ لهذا تراه يركض وراء السر القابع في الأزل.
قلت لجدي:
– لماذا توشوش وحدك كأنك خائف من جدتي وأمي وعمتي؟ سمعت حديثك كله.
نظر إلي بطريقة مواربة وغريبة، وعلى وجهه علامات التوتر والاضطراب، وشفتاه ترتجفان.
ثم تابعت كلامي:
– بصراحة لم أفهم أحجياتك يا جدي. لم أعد أعرف أي شيء عنك. أنت إنسان غريب الأطوار، في كلامك وحياتك وطريقة عيشك.
وكما قالت جدتي: أنت عصي على الفهم والمعرفة.
وقلت له:
– كنت أظن أن الأعشاب مجرد فرح في الهواء الطلق، فتبين لي أنه سر الله في الطبيعة. وأنها فلسفة وعلم وأخلاق وطب وانتماء.
رأيت بؤبؤي عينيه يتسعان عندما سمع كلامي. اقترب مني وضمني بلهفة.
قال:
– يكفي أنك فهمتني يا بني. صحيح أنك لا زلت صغيرًا، بيد أنك سري الحقيقي. أنت تهمني أكثر من أي إنسان في هذا العالم. أما جدتك، فهي نموذج قديم لا يصلح لأي زمن.
وقال:
-هذا العالم مملكة عظيمة ينبغي الحرص عليه، علينا إنقاذه من التمزق والضياع. نحتاج إلى روح نقية، لإخراجه من عالم السطو والظلام.
فيضان نهر الخابور:
كان هناك وزارتان في ستينيات القرن الماضي، وزارة الزراعة، ووزارة الإصْلاح الِزّراعيّ اللتان اندمجتا في نهاية العام 1965، وأصبح الاسم الجديد:
– وزارة الزراعة والإصْلاح الِزّراعيّ.
في عام 1964 و1965، وعام 1966 وجزء من عام 1967 كنا نسكن في مدينة الحسكة، الحي العسكري.
لم يكن عدد سكان المدينة كبيرًا، ربما عشرون ألفًا.
كان فيها القليل من الأَرْمَن، والقليل من الآشوريين قادمين من الريف، من على ضفاف الخابور وقد عملوا في المدينة، والقليل من السّريان والعرب.
الكثير من المواطنين قدموا من دير الزور والميادين واستقروا في الحسكة.
كانت مدينة الحسكة بسيطة وهادئة. ونهر الخابور غزيرًا، دافقًا يسرح في الأرض وضفافها ويمرح. بينما نهر الجغجق الذي ينبع من تركيا ويدخل الأراضي السُّورية في مدينة القامشلي ويمر في أراضي الجزيرة ليصل ويصب في الخابور بالقرب من مدينة الحسكة.
يبقى هذا النهر المسكين تحت رحمة الأَتراك. يجري طبيعيًا في الخريف والشتاء والربيع ويقطع في فصل الصيف. أصبح مثل اليتيم على باب اللئيم.
في فترة جفافه يتحول إلى شبه مستنقع، وتكثر الأوساخ فيه وحوله.
في ذلك الربيع، /1965/ الذي أطل الفيضان الهادر على المدينة وأرضها وسهولها وغطى سهوبها بالورود والزهور والحشائش الطبيعية. ورقص الفرح والهواء النقي في أفيائها.
وبدأ الخابور كعادته يطوف، ويرمي بجماله على الزمن. ويحمر ماءه ويمتلئ بالطمي والتراب وبقايا نبات الزل، وبقايا الأشجار المكسورة.
اتفق والدي وجارنا ابن محمد صالح الدلي أن يذهبا إلى الصيد، بينما الخابور في مخاضه ودفقه وهيجانه.
ذهبا إلى المخلط، التقاء نهر الجغجغ بنهر الخابور، ورميا سنارتيهما في الماء، وانتظرا نفحة الفرح من عكرة الماء.
قال والدي:
– لدي طفلان توأمان، ربما وجههما يفتح الخير علي.
وكان له ما أريد. جلب والدي سمكتين كبيرتين، طول الواحدة بحدود المتر والأخرى ب75 سم.
عدنا من المدرسة، أنا وأخواتي، ورأينا السمكتان الكبيرتان في البيت الصغير، بيتنا.
طبخ والدي على رأس السمك مرق بندورة وبصل. وضحكنا في ذلك البيت الصغير، بالإيجار عشرين ليرة في الشهر بمساحة لا تتجاوز ال12 متر مربع وحمام مشترك مع بقية الجيران. بينما راتب والدي لم يكن يتجاوز ال 180 ليرة سورية. ولم يكن يثبتوا أي إنسان في الوظيفة إلا بعد مضي أربعة أعوام على خدمته المتواصلة في دوائر الدولة في ذلك الحين.
كثيرة هي المرات التي كنت أذهب مع والدي في سيارة اللاندروفر التابعة لوزارة الإِصْلاح الِزّراعيّ إلى ريف المحافظة ومدنها.
عندما بدأ توزيع الأراضي على الفلاحين، رأيت القرويين كيف يحملون السيارة عن الأرض من الفرح والغبطة.
كل قرية كنّا نذهب إليها كانت الخراف تنحر أمام مقدمة السيارة، فتصبغ الأبواب بالدم. كنت لا أعرف شيئًا، وما يحدث. ولكن دموع الشيوخ والنساء كان غزيرًا. لم يصدقوا أنهم سيكونون أصحاب أرض وأملاك من دون أن يقدموا ثمنًا لذلك.
في تلك الأعوام، جزأت الدولة الملكيات الكبيرة إلى ملكيات صغيرة، وبدأ تفتيت الأرض وانكمش العطاء وخرب المردود، وانتهى زمن المزارعين الكبار وبدأ زمن المخابرات.
شجرة الكينا:
شجرة الكينا في الحوش الذي كنا نسكن فيه، كانت الأكبر حجمًا وطولًا وعمرًا في مدينة رأس العين. شجرة دائمة الخضرة في الصيف والشتاء، طرية، مرنة، لطيفة وعطوفة القلب والروح في بقية الفصول. كنا نجلس تحتها في الصيف نتبرد، إذ تمنحنا الظل والرطوبة. ومرات كثيرة أتسلقها بواسطة الأغصان المعرشة، أجلس فوق، في الأعلى، أراقب ما يجري حولي، يصحبني لهاث من ضيق التنفس. وأستيقظ مرات كثيرة على صراخ أمي العالي:
– انزل بسرعة. ستقع وتتكسر.
تقف أمي عند الجدع، تولول وتتضرع لله أن يرفق بي ويمنحني العقل والمرونة حتى أرد على توسلاتها.
كنت متمردًا، رافضًا لكل شيء. لم يكن في ذهني شكل الرفض بيد أني كنت عنيدًا، صلبًا منذ نعومة أظفاري. لم يحرك بكاء أمي أي شيء في داخلي، إذ أفعل ما يمليه علي عقلي.
في الشتاء تكون الكينا مأوى للطيور المهاجرة أو الجريحة الواقفِة فوقها، المستريحةِ من عناء السفر الطويل. وكان بعضها وخاصة الزرازير، يسقط أرضَا بردًا أو تعبًا.
وكنت أنتظِرُ بفارغ الصبر سقوط أحدها، اسمع استغاثته الحزينة عندما يقترب من الأرض. لم أكن أمهله الوقت حتى يلتقط أنفاسه حتى أجهز عليه، ليتحول إلى طعام على مائدتنا، فكنتُ كل يوم أحصل على ثلاثة أو أربعة منها. وأَحيانًا أستيقظ من النوم وأركض وراء أحدها حتى أمسكه.
كانت الكينا سمتًا، نبراسًا وملتقى طرق الترحال.
طوال الليل كنّا نسمع صوت الطيور الراحلة المهاجرة من الشمال إلى الجنوب طلبًا للدفء.
كان ذلك زمن الطيش واستبدال الأزمنة والتاريخ.
مر زمن طويل على ذلك الزمن، زمن لا نهائي خلف وراءه الكوارث والكوابيس، لم نتمكن فيه من إدراك ما يدور حولنا إلا إلى وقت متأخر، إلى أن رأينا أنفسنا فاقدي الصوت، تغطي الدماء رؤوسنا.
كل يوم أحد كنت أستيقظ في السابعة من النوم، وأذهب برفقة أختي أنجيل ولوسين إلى كنيسة الأَرْمَن الأرتذوكس. ألبس القميص الأبيض الطويل مثل بقية الأَطْفال، ونصطف بجانب بعضنا في المحراب إلى أن يأتي المصلون ويبدأ القداس.
الحقيقة لم أكن أذهب رغبة في الصلاة، إنما خوفًا من جنون القسيس كيفورك. كان رجلًا قاسيًا ومزاجيًا ولا يمكن للمرء أن يتنبأ بردات فعله بشكل دقيق. عندما تمتلئ الكنيسة بالمصلين يبقى الأسبوع كله منشرح الصدر ولا يسأل عن غيابنا في يوم الأحد. أما إذا كانت فارغة، فالويل والثبور. يحمل العصا ويضربنا بمنتهى القسوة، يذكرنا بمأساة أجدادناالأَرْمَن، الإبادة التي تعرضوا لها على يد الأتراك. وأَحيانًا كان يضرب رأسه على الحائط حزنًا وقهرًا أو يشد شعره كالمجانين.
وفي حال تواجدي في الكنيسة، كنت أبقى شاردًا طوال الوقت، أنتظِرُ صلوات الخاتمة بفارغ الصبر.
كنت موجودًا بين الناس جسدًا لكن قلبي وعقلي في مكان آخر تمامًا. أحس نفسي في جنازة، والموتى فوق أكتافي يركضون إلى التراب.
بلدية مدينة رأس العين:
في ذلك العام/ 1969/ بدأت بلدية رأس العين بحفر الشوارع لتمديد مجاري المياه المالحة تحت الأرض. جلبوا حفارة /باكر/ وحيدة. ومضوا يمدون القساطل وملحقاتها من الاسبستوس.
أكثر ما أثار اهتمامي هو وجود أكوام من العظام والجماجم البشرية تحت الأرض، على مسافة لا تتعدى العشرين أو الثلاثين سنتمتر من سطح الأرض.
كنا ننام في غرفة تطل على الشارع على مسافة متر ونصف المتر، بالقرب من تموضع العظام البشرية المكومة. رائحة التربة كانت رائحة عظام، ورائحة الشارع أيضًا. جماجم بالآلاف، سواعد، عظام الفخذ، أصابع اليد، أسنان، مكومة فوق بعضها البعض، وكأن هذه العظام وصلت إلينا نتيجة معركة كبيرة جَرَتْ على هذه الأرض أو مجزرة حدثت في زمن ما.
أستطيع القول إِن مدينة رأس العين متموضعة أو نائمة على تلال من العظام ليس أولها ضاحية الخرابات القائمة في شرقي المدينة على مقربة من سكة القطار، أو في المكان الذي نسكنه على مسافة لا تتجاوز بضع مئات من الأمتار من الحدود التركية.
كنت، مع بقية الأَطْفال من عمري نسير مع الحفارة /الباكر/ نتحرك مع دلوه أينما ذهب. العظام المفتتة ترمى على الجانبين من الشارع.
كنت أقول لنفسي:
– عظام من هذه؟ من هم هؤلاء الضحايا؟ لماذا لم يذكر كتب التاريخ شيئًا عنهم؟ أم أن ذاكرة بلادنا ميتة؟
مرات كثيرة كنت أقف مع تمو ومعمو الباشات فوق العظام، ونتحدث عن الأموات. كنت أسْتغربُ هذا الكم الهائل من المخزون الثقافي في عقولهم عن الموت وعذاب القبر ومجيء عزرائيل وجبرائيل وبيدهما العصا،ويفرزان المؤمنين عن الكفار.
كنت أَتَساءَل:
لماذا هذه الثقافة المخيفة محشوة في عقول أطفال مثلي؟ ولمصلحة مَن يتم استثمار هذا الخوف الرباني؟
وعندما كبرتُ، علمت أن هذه الثقافة توارثها الناس عبر أئمة دجالين ليس لهم هم إلا تخويف الناس ليبقوا خاضعين، صاغرين لإرادة رجال السياسة ورجال الدين المنافقين.
سألت أبي مرة عن عذاب القبر، فقال:
– هذا كلام فارغ، لم يأت إنسان من بين الأموات، أو حدثنا عن أوجاعه.
وأردف:
– من مات فات. لا تعطِ أذنك لهذه الخرافة الفارغة.
كان الملاكون الكبار، نساءهم وأبناءهم، صغارًا وكبارًا، ذكورًا وإناثًا قد تركوا البلاد وهربوا باجسادهم وكأنهم فص ملح وذاب.
تركوا كل شيء وراءهم، بيوتهم، أملاكهم، الخطط والبرامج الطويلة لاستثمار البلاد وتنشيط دورتها الاقتصادية، بعد أن صادرتها دولة البعث.
وكأن السلطة الجديدة كانت في حالة حرب معهم. وهكذا، دفعة واحدة وبجرة قلم حدثَ تغيير جذري في الملكية وتوزيعها وبعثرتها وتشظيها إلى قطع صغيرة لتسهيل هضم القوى التي حازت على الأرض كانتفاع أو حيازة دون سند ملكية أو ضمان بعدم أخذها مرة ثانية.
لم يكن لدى القوى القديمة القدرة على الرفض أو الاعتراض لهشاشة قواها أو تمثيلها السياسي.
وهكذا تبرز الأيام موحشة، متعبة. لقد زرع العسكر الخوف والرعب في طول البلاد وعرضها. لا أعرف مشاعر الذين تخلوا عن أراضيهم تحت سطوة القوة، عن حياتهم ونبض العيش في مكان وجودهم. لكن ما أعرفه أنهم خسروا بضربة واحدة كل شيء وإلى الأبد. ومن دون تعويض.
عودة أبو ليفون:
عندما عاد أبو ليفون من السخنة القريبة من منطقة تدمر برفقة زوجته وأولاده إلى مدينة رأس العين، ولم يكن في حوزته شَرْوَى نَقِيرٍ. عاد فقيرًا، معدمًا. أولاده يتكلمون اللغة البدوية مثل أهل قرية السخنة.
لم يدخلوا المدرسة، لم يتعلموا. عادوا مثل أشباه البشر. وخلال أول موسم حصاد، نهض أبو ليفون مرة ثانية.
استأَجَرَ حصادة وجرار كيز ومضى يعمل.
كان موسم العام 1968 غنيًا، الأمطار في شتاء ذلك العام كان غزيرًا، تفجرت الينابيع التي جفت، خاصة النبع الذي كان تحت قصر المزارع حبيب مريمو.
تحول ماؤه إلى شلال هادر، واندفع كنهر بغزارة عالية ومضى يشق طريقه. وتهدمت الكثير من البيوت الترابية وفاض الخابور وعاد نبع قطينة القديم بالقرب من قصر المزراع اصفر ونجار إلى سابق عهده. وكأن الحياة اشتعلت وعادت إلى سابق عهدها، قبل الوحدة الظالمة بين سوريا ومصر.
توردت وجنتا أبو ليفون وزوجته بعد عودة الحياة لهما مع تدفق المال، وعادت السعادة إلى ليفون وانترانيك وسيروب وانجيل وزوفيك. ومضى الأب يضع العرق الأبيض، البطة البيضاء أمامه على الطاولة و يشرب كالثور الهائج من أول المساء إلى ما بعد منتصف الليل بساعات.
كان يشرب كل يوم ليتر عرق بطة بيضاء أو أكثر، بينما تعمل أم ليفون على خدمته من بداية السهرة إلى حين انطفائه. تضع مخلل اللفت الحامض والشوندر، زيتون أسود محمض، لحم مشوي، لحم مقلي بالسمن العربي، سلطة أرمنية، بابا غنوج، شقف كبد مشوي، شرحات.
ويبدأ التحليق مع أول كأس.
بانتقالنا من الحسكة إلى رأس العين في 17 نيسان من العام 1967 تغير الكثير لدي. فالناس في مدينة الحسكة كانوا أقرب إلى المدنية من رأس العين، الأخيرة يغلب عليها الطابع الريفي في السلوك والممارسة.
وفي هذا العام خسرت أهم موهبة لدي هي كرة القدم.
قلت لوالدي بينما الشاحنة نوع مان حمراء على الباب لنقلنا من الحسكة إلى رأس العين:
– الرجاء أن تؤجل رحيلنا إلى الغد. أريد أن أحضر مباراة كرة القدم بين نادي الخابور ونادي الحسكة، بين الأزرق والأَحْمَر بمناسبة عيد الجلاء.
قال:
– ليس لدينا الوقت الكافي للبقاء هنا. لقد استعرنا الشاحنة من الدولة ليوم واحد، ولا أستطيع البقاء للغد.
لقد بقيت هذه الحادثة مغروسة في أعماقي.
كانت القطة ازنيف زينة الحوش، تجول في أرجائه بالطول والعرض،تتمختر كملك. تعيش بيننا، تجلس في البيت وتنام فيه وتنعم بالحرارة والدفء والأمان. وما إن تسمع صوت محرك السيارة قادم من بعيد حتى تنفش نفسها، تتمطى غنجًا، وتقف بالقرب من باب الحوش الذي يصل إلى عدة أمتار.
قبل أن يدخل أبي بالسيارة إلى الكراج لينزل، تصعد أزنيف إلى المقدمة وتصعد إلى أن تقترب من كتف أبي وتجلس عليه. يمسكها ويحضنها ويضمها إلى صدره، ويداعب وبرها، فترتخي، وتموء. وتصعد مرة ثانية فوق كتفه ويمشي بها إلى البيت. يعطيني المفتاح ويقول لي:
– أدخل السيارة إلى الكراج.
وأفرح لهذا النبل الذي يغمرني به أبي، أن أقود السيارة بضع أمتار في مكان ضيق وصعب. في هذه اللحظات أتحول إلى ديك منفوش الريش.
لم يكن في رأس العين الكثير من السَّيّارات الصغيرة، لكن الشاحنات الكبيرة كانت تملأ الساحة القريبة من بيتنا، فموسم الحبوب يكون في منتصف الصيف، والقطن في منتصف الخريف. تأتي هذه الشاحنات بالمئات من حلب واللاذقية ودمشق وحمص وحماه لنقل هذا القطن إلى المحالج والقمح إلى الموانئ. وتنتعش المدينة في المواسم.
تنتج الجزيرة الحبوب على مختلف أنواعها:
الشعير والقمح والذرة والعدس.
ترقص الأرض البكر بالعطايا وتجود بالخير والبركة، ويفيض المكان بالخضروات والفاكهة: البندورة والخيار والكوسا والباذنجان والفليفلة، والتين، والتفاح، والرمان والعنب.
آه، كانت أيام غنية بكل شيء، اللحم رخيص، الكيلو بليرتين ونصف الليرة، والخبز باثنينِ وثلاثين قرشًا ونصف القرش، والجبن وفير، والسمن بلدي، والأرض خضراء مفتوحة الجبين على الفرح.
كان ليتر البنزين العادي باثنينِ وثلاثين قرشًا ونصف القرش، والبنزين الممتاز بخمسة وثلاثين قرشًا. عندما كان يعود أبي من العمل في نهاية النهار كان الصندوق الخلفي لسيارة اللاندروفر مملوءًا بالخيار والبندورة والقثة والعجور،والبطيخ التنوري والجبس الأَحْمَر. وأَحيانًا كان يجلب معه العنب أو التين أو الرمان.
في موسم البندورة نشتري حوالي أربعمائة كيلو غرام للتموين في الشتاء سعر الكيلو باثنينِ وثلاثين قرش ونصف القرش. نتعاون جميعنا، أنا وأمي وأبي وأخواتي، نعصر البندورة ونضع العصير في الدلول ونرفعه على السطح ونتركه إلى أن يجف.
وكانت أمي تصنع مربى المشمش والتين ومربى الورد والقرع. وتموِّن الجبن البلدي والعدس والبرغل والشعيرية، وتجفف الباذنجان للمحشي والمسقعة، والباميا والفاصوليا الخضراء.
كنت أدرس في مدرسة الشهداء للأرمن الارتذوكس. نقطع الطّريق مشيًا على الأقدام، بحدود ربع ساعة. كانت مساحة المدرسة كبيرة جدًا، ثلاثمائة 300 متر طول بمئة متر عرض، في الجهة الشرقية تتموضع المدرسة وفي الجهة الغربية الكنيسة. وما تبقى كان يزرعه القسيس كيفورك بالأشجار: سرو، صنوبر، ورد.
كانت المعلمات يطلبن منا الخروج إلى الطبيعة في فصل الربيع. نجلس على الحشيش بالقرب الكنيسة. نسمع الدرس وأَحيانًا يطلب منا القسيس أن نسقي الأشجار أو نحفر ممرات للماء.
لا أعرف لماذا وضعوا حاجزًا بين المدرسة والكنيسة بالبلوك بحيث أصبحت المدرسة ضيقة جدًا، وباحة الكنيسة واسعة جدًا. لم أعرف الحكمة من ذلك. لكن اعتقادي يقول إن دولة البعث أرادت التضييق على القوميات الأخرى كالأَرْمَن والسّريان وغيرهم.
عندما كان يثمل أبو ليفون وتدب النشوة في أنفاسه، تصعد الحكايات الغافية إلى حضن ذاكرته. نجلس حوله، حول المائدة، في الأمسيات والمساءات الباردة، أنا وأبي وأمي وأخواتي، وأولاده وبناته وزوجته، ويبدأ التحليق. يقول لي:
– اشرب
سقاني من من ذلك الإله الأبيض، عرق بطة بيضا، شفة أو شفتين، ثم يغرس في فميمن ذلك المخلل الطيب من اللفت والزيتون المحمض المفلفل.
يستحضر التاريخ، مثل كل القوميين، ويحلق، فيسرد الحكايات عن حياة الأبطال الأَرْمَن، تفانيهم المقدس، نكرانهم للذات وكأنهم آلات وضفت للقضية:
كانترانيك باشا، كيفورك باشا، وزوجته صوصيه. حملهم للراية دفاعًا عن أبناء جلدتهم ضد العدو التركي.
قال أحد المرات:
– كان الأَتراك يشترط أحدهم على الآخر على سيكارة واحدة، أن يشق بطن المرأة الأَرْمَنية الحامل، إن كان المولود ذكرًا أم أنثى؟ وعندما يفعلون ذلك، يضحكون بسخرية، بعد أن يقتلوا المرأة وطفلها الذي لم يكتمل بعد.
كنا نصمت كالأموات، كان والدي يبكي مرات، بينما أبو ليفون يبقى رابط الجاش، لا تنزل الدمعة من عينيه حتى لا يبدو ضعيفًا أمام أولاده وزوجته.
وفي ال24 من نيسان من كل عام، تزدان الكنيسة الأرمنية بالجماجم البشرية، وتبدأ رحلة البكاء على الأحبة والخلان الذين قُتلوا على يد الأَتراك، أخوتهم في الوطن الواحد.
لم أكن أعي شيئًا، لكن مشاهد الجماجم والعظام كانت تخيفني جدًا. أحاول الهرب، لكن عصا القسيس كيفورك وقسوته كانت تجبرني على البقاء. كنت أكره حضور الكنيسة سواء في هذه المناسبة أو غيرها من المناسبات لأنها تحرمني من لعبة كرة القدم.
ودائما مدير المدرسة كان بين الكلمة والأخرى يقول لنا:
– يا ابني أنا مدير المدرسة.
لم يكن عدد تلاميذ المدرسة- بما فيها الروضة والحضانة- يتجاوزون الستين طالبًا. وأغلب المعلمات لم يكملنَ تعليمهنَّ الإعدادي.
إحدى المرات، جهزت المدرسة شاحنة للذهاب في نزهة إلى قرية تل حلف. حمل كل طالب زواته معه: بيض مسلوق، مرتديلا وخبز أو ما شابه ذلك من مآكولات –
وكان فصل الربيع ضاحكًا كعادته في بلادنا. لم تكن تبعد تل حلف عن رأس العين سوى بضع كيلو مترات، ربما أربعة.
ركبا الشاحنة، وركب المدير سيارة أحد أباء التلاميذ مع زوجته وأولاده، والمعلمات في سيارة أخرى وسرنا على بركة الريح الهادئة.
افترشنا الطبيعة، عشبها الأخضر بجوار نهر الخابور وآثاره وأوابده التاريخية. كانت الطبيعة بكرًا في ذلك الزمن. وتل حلف عبارة عن تلة عارية، منبوشة من قبل الإنكليز عن الآثار المدفونة إلى أن فرغوا كل ما في داخلها.
كان الجسر العسكري التركي لا يبعد عن الجسر السُّوري سوى مائتي متر. وكنا نخاف من همجية الجندي التركي أن يطلق الرصاص علينا كما كان متداولًا والذي كان محتملًا جدًا لتكراره المستمر.
جلسنا في الجهة الموازية لرأس العين، وغفت التلة التاريخية إلى جورانا، تغني ووتضح، وتشير إلى زمن مضى.
كان من عادة المدرسة أن تأخذنا في مثل هذه النزهات من أجل التمتع بالطبيعة وضياء الشَّمْس.
كان المدير قلقًا، خائفًا علينا. ويدور من مكان إلى آخر يلقي علينا نظرته الأبوية والتأكد من أننا موجودين، وبخير.
في ذلك اليوم شرب كثيرًا من الحليب الأبيض، بطة بيضة، برفقة زوجته والمعلمات. وربما أخذته النشوة، وحلق. ولكن بالاتجاه المعاكس. بان الغضب عليه كثيرًا. وضرب أكثر من طالب لأنهم لم يلتزموا بالهدوء، وكنت أحدهم. وخاف أن نذهبوا إلى جوار النهر أو نقع فيه. وفي الطرف الآخر، الضفة الآخرى، كان هناك نبع صغير مثل جميع ينابيع الخابور يسبحوا فيه الناس.
في نهاية النهار، لم تأت الشاحنة لتأخذنا. وحدث هرج ومرج وخوف. والمدير الغاضب كان يضرب أخماس في أسداس، ولا يعرف ماذا يفعل. وبدأت الشَّمْس تضم جناحيها استعدادًا للرحيل غير عابئة بالمدير وبنا.
أمرنا أن نصطف الواحد إلى جانب الآخر، واليد باليد، ومضينا نمشي إلى البيت قبل حلول المساء.
المدير في السيارة برفقة زوجته وأبناءه الصغار وعينه تدور حول التلاميذ. ولم يكن في ذلك الوقت سرافيس أو باصات خاصة أو عامة لصغر مساحة المدينة. وتمر بعض السيارات الصغيرة الخاصة، يمد السائقون أعناقهم من النوافذ:
– حرام أن تتركوا هؤلاء الصغار يمشون هذه المسافة الطويلة.
العم نازار:
كان العم نازار قصير القامة، مربوعًا. ودائمًا شعره ممشط ومدفوع إلى الوراء وملمع بالبريانطين/ الجيل بتسميات عصرنا/. ويعمل كآذن للمدرسة.
يبيعنا شوكولا نوع سامي محشو بالبندق والراحة والبسكويت والنوكا والسكاكر نوع/ ناشد إخوان/.
كنا ننتظر أن نأخذ مبلغ فرنك أو فرنكين من أبي حتى نشتري من بسطة العم نازار الصغيرة التي لا يتجاوز حجم مدخراتها أكثر من خمس ليرات، خاصة الراحة والبسكويت، نضع الأولى في الثانية ونأكلها. بهذه الأشياء البسيطة والعم لا يبخل علينا، لكن كل شيء بثمنه.
عندما كان المدير مشغولًا أو المعلمات، يطلب من العم نازار أن يجلس معنا يسلينا بقصصه، وحتى لا نشاغب أو نصرخ أو نلعب الكرة ونرميها على الشبابيك.
ما أن يدخل الصف حتى يعم الصمت بيننا بالمطلق.
هذا الرجل كان لديه قدرة هائلة على سرد القصص والحكايات بلغة عربية جذابة وقدرة عجيبة على سرد الحكايات الشعبية التاريخية والخرفات والأساطير، منها ممو وزين على سبيل المثال.
مرات كثيرة كنا نبكي عندما يصل بالحكاية عند عقدة غريبة، كافتراق عزيز أو الحبيبة أو الحبيب أو موت أمير شاب أو أميرة شابة أو حصان مخلص. مرات يتوقف، عند رنين جرس المدرسة، بينما القصة في منتصفها يقول:
– سنتوقف هنا وفي المرة القادمة سنكمل.
ينتابني حزن عميق على عدم إكمال الحكاية وخاصة هناك حكايات بقيت دون إكمال.
كان يقول لنا:
– لدي 350 حكاية. وكل حكاية تحتاج إلى ساعات حتى أنهيها.
مرات كثيرة كنت أضع رأسي على الوسادة ليلًا وأذهب بعيدًا مع الحكاية التي لم تكتمل، أسرح وأتوه وأحلم في البعيد البعيد. بنتابني أرق شديد، لا أنام مدة طويلة تمتد إلى أربع ساعات، أحلم أحلامًا غريبة. كأنني في عالم ليس من هذا العالم. أخلق شخصيات وأنهي وأضع نهايات من صنع بنات أفكاري.
أحلم أن يأتي العم نازار إلى بيتنا ونجلس معه ليكمل لي كل قصة غير مكتملة. بقي قلبي الصغير متلهفًا، مسكونًا عند فم العم نازار، عند المكان الذي لم ينهه. لقد سبب لي هذا الرجل آلامًا نفسية عميقة مع الزمن من دون أن يدري. وأستغرب من هدوئه عندما كان يبيعنا الشوكولا دون أن يتفوه بحرف واحد عن الحكاية.
كنا في حضرته كالرهبان البوذيين في محراب بوذا. أنا ونورما وكربيس وهاسميك ومانوشاك وكيفورك وهاييك ومحمد حاج كنعو وأختي أنجيل،كنا عشرة أطفال في الصف.
إحدى المرات شتمه والدي لسبب لا اتذكره، لم يجب، لكن تلك الشتيمة بقيت كجرح عميق في قلبي، ولمت والدي بصمت من أسلوبه القاسي مع الرجل.
كنت أقول في نفسي:
– والدي إنسان غشيم لا يعرف مكانة العم نازار في قلبي.
أذكر ثلاث عائلات كبيرة في رأس العين: الباشات، الرزة، شلاح.
لقد همش قانون الإِصْلاح الزِّراعيّ الكثير من المزارعين الكبار باستيلائه على أراضيهم وتوزيعها على القرويين والعمال الزراعيين.
كان بعض الأطفال، أصدقائي يقول مرات كثيرة:
– كنا نمسك المئة ليرة ونلفها مثل السيكارة ونحرقها، أما اليوم فإن مصروفي الصباحي لا يتجاوز ال75 قرشًا وفي المساء 50 قرشًا.
راحت تلك الأيام الذي كنا فيها سادة هذا البلد. وقريتنا أم الصون تشهد بملكيتنا لها ولمن يجاورها، آه.. لو يفتح شباك القدر بابه مرة ثانية ويعيد الزمن إلى الوراء وتعود أراضينا لنا.
في الصيف، كنت أقف مع تمو ومعمو وقيس ومحمود وأحمد تحت قبة السماء وعيوننا نحو الأعلى.
قال أحدهم:
– لو نجمتا القدر تتقابلان وتطلبان منا ما نريد، سنقول لهما أن تعيد لنا ما أخذ منا من أراض.
في المساء كنت أقول لوالدي هذا الكلام، يضحك كثيرًا حتى كان يقع على الأرض. قال:
– قصتهم مثل ذلك الرجل الذي أضاع مسلة بين ثنايا شقوق الأرض، وضع أذنه على الأرض وقال:
– “إنني أسمع صوت المسلة وهي تدخل الأرض”.
وبعد سبعة أعوام عاد إلى المكان ذاته ووضع أذنه، وقال الجملة ذاتها. وقال، إنهم يحلمون، ولن يتخلى العمال والفلاحون عن أراضيهم ويعطوها للتنابل.
عندما قام حافظ الأَسد بانقلابه الظالم رأيت الفرحة على وجوه أصدقائي، ولسان حالهم يقول:
– حافظ الأَسد رجلنا، إنه يميني، سيعيد لنا الأرض، والتاريخ والزمن إلى الوراء. سيقضي على هؤلاء الذين أخذوا أرضنا وثروتنا.
لم أكن أعرف كلمة يميني أو يساري في ذلك الوقت. سألت والدي عن معنى هذا الكلام لكنه لم يجب!
كانت سيارة أحد الباشات، نوع ديزوتو، ملونة بالأخضر والأبيض على الضفة اليسرى من الشارع واقفة طوال وجودنا في رأس العين، حوالي أربع سنوات، لكنها لم تتحرك سنتمتر واحد. لم يكن لديه ثمن البنزين ليملأ الخزان. ولكنه كان معتدًا بنفسه إلى أبعد الحدود. يخجل من العمل اليدوي، مع هذا لم يعمل مثل بقية الناس. اعتمد مثل غيره من المزارعين على تاريخهم وبعض المدخرات القديمة لمصروفهم اليومي.
كان هناك مصاهرة بين عبد الرزاق باشا المبتسم دائمًا وزوجته الشيشانية من بيت الرزة العابسة دائمًا.
وكان لدى بيت الباشات بعض العبيد، بقوا على دونيتهم واحتقارهم لأنفسهم، وعبوديتهم لأسيادهم.
أذكر مرات كثيرة كانوا يصفعون العبيد على وجوههم، وكانوا يتقبلون الأمر بطيبةِ خاطر، وكأنه أمر الله أن يطيعوا أولياءهم
أذكر أن خلافًا حدث بين أولاد الرزة الشيشانية وأحد أبناء الباشات. مسكت العبدة ذاك الطِّفْل وكنت معهما الذي كان أكبر مني بسنتين واتجهوا إلى بيت الرزة القريب من وسط المدينة، وبعد ملاسنة بينها وبين والد أحدهم
قال لها:
– اذهبي من هنا، نحن أغنى منكم. أنتم لا شيء، فقراء.
وراحت المرأة تبكي بحرقة لهذا الكلام الجارح. وعندما عادت أدراجها سألتها أم صديقي:
– ماذا حدث؟
– قالوا إنهم أغنى منكم
كلاهما لم يكن يملك مالًا، ووضعهما كان في الحضيض.
والأكثر غرابة أن أولاد الرزة والشيشان بالعموم كانوا منغلقين على أنفسهم ومتعصبين دينيًا ولا يتزوجون إلا من بعضهم وتكثر بينهم الأمراض الوراثية وخاصة السل.
ويسكن أغلبهم في قرية السفح على طريق رأس العين – الحسكة..
الذهاب إلى الحصاد:
في الصباح الباكر، بحدود الساعة الخامسة، أيقظتني ام ليفون من النوم. جاءت إلى فراشي بالقرب من البئر، الذي يتساوى مع الأرض في المستوى ذاته مع بقية أخوتي. كانت الشَّمْس خجولة، نائمة تحت دفة ستائر الكون، ملفوفة بلونها المخملي المعجون ببعض باقات الورد متناثرة هناك وهناك، ناعمة ورشيقة. قالت:
– انهض. لقد رحلوا. تستطيع أن تلحق بهم.
كنا ننام على المصطبة بجوار البئر عندما كان أبو ليفون وعائلته في السخنة، لكن بمجيئه لم يرض وجودنا هناك.
إحدى المرات، والصيف يرصع بنجومه، كنت مستلقيًا في الفراش ونتهيأ للنوم مع بقية أخواتي. بينما كان أبو ليفون قد أثقل بالشرب.
رأيت عينيه كعين حيوان مفترس، وجائع، مملوء بالحمرة، ويقطر السم منهما. والصمت يلف النجوم والقمر وأبو ليفون في حالة هياج. لم أكن أعلم ما به، لكنني رأيته يضرب زوجته دون رحمة أو شفقة، وهي خاضعة مثل أرنب مستسلم لأنياب ذئب كاسر أطبق الخناق عليها. لم تصرخ أو تبكي، إنما تتلقى الضربات ككائن خانع، بالرغم من أنها كانت أطول منه بعشرين سنتمر.
صدمني المشهد، عندما وقع عينيه في عيني وعين زوجته. بقي متماسكًا صامتًا، يطبق على لحم المسكينة. كنت أسند وجهي بأصابعي العشرة، وأتابع المشهد مع بقية أخوتي. نبرني أبي، قال:
– لا تنظر إليه. الرجل في بيته، ليس من حقك أن تتلصلص عليه. وقبل أن أدير وجهي كان أبو ليفون قد أغلق الباب، بل صفقه بقوة شديدة.
في تلك السنة من العام 1969 كسر أبو ليفون المصطبة من جهتنا. قال:
– أخاف أن يقع الأَطْفال أثناء النوم في البئر. إن يتعرش أحدهم جدار البئر ويسقط فيه.
حزنا جدًا على خسارة المكان.
في النهار كنا نجلس عليه وفي المساء نرشه بالماء، ونأكل البطيخ التنوري أو الجبس والجبن البلدي، وعندما يحل الليل ننام عليه. ومرات كثيرة كانت والدتي تغسل صوف اللحف والفرش والمخدات أو نعصر البندورة أو غيرها من الأشياء، بيد أن والدي المحب للورد لم يمهل المكان وقتًا حتى حوله إلى جنينة غناء جميلة، يلعب الورد في أفيائها.
في ذلك العام، في الثلث الثالث من شهر آيار، قالت لي أم ليفون، والابتسامة تزين وجهها:
– هل تحب الذهاب مع الشباب إلى الحصاد؟
– يا ريت يا أم ليفون. في قلبي ونفسي شوق لهذه الرحلة.
تدخلت أمي في الحديث:
– إنه صغير على العمل الصعب، البراري والليل، والشَّمْس الحارقة في هذا الصيف، والليل المعتم في أرض الحصاد.
بكيت بمرارة. قلت لأمي:
– سأذهب مهما حدث.
ومثل أغلب العائلات العادية يتمرد الأَطْفال على قرارات الأهل، وخاصة إن والدي شجعني على ذلك. قال:
– أريده أن يصبح رجلًا، يتحمل المسؤولية من هذه اللحظة.
ردت والدتي:
– دع المسؤولية الآن جانبًا. إنه طفل صغير وجسده لا يقوى على المتاعب، فهو لم يبلغ الحادية عشرة من العمر بعد. هل جننت يا رجل أن ترسل طفلًا بهذا العمر إلى مكان غريب، مع الرجال السائقين والعتالين والحمالين؟
ماذا سيفعل هناك؟ من سيطبخ له، ماذا سيأكل، ومن سيحممه. ومع من سيلعب؟ إن ملازمة الكبار بهذا العمر خطأ كبير.
– أنت تظنيه صغيرًا. إنه رجل، وثقتي به كبيرة.
– قبل أيام نجح إلى الصف السادس. دعه مع كتبه ودفاتره وأحلامه. لا تشوه طفولته. ليبق مع أخواته البنات، ويساعدني في شراء الحاجيات من السوق وخاصة أنك تخرج في الصباح وتعود في الليل. إنه يشتري لنا الخضروات والخبز واللحم وبقية مستلزمات البيت. ويبقى عونًا لنا في كل شيء.
مثل الذئب وقفت على قدمي، وأخذت ثيابي وركضت وراءهم.
كانت الحصادة، نوع كلينير، سوداء اللون مع الرمادي. لم تكن المسافة التي قطعوها سوى بضع عشرات من الأَمتار.
كانوا يسيرون على مهل، وعينا انترانيك تراقب خروجي من حوش البيت. ركبت في المؤخرة للحصادة، في المكان الذي تخرج منه شوالات القمح. بقيت جالسًا عند الأسفل، في المكان القريب من الأرض، وسط صراخ انترانيك والعم عزو والخياط ابراهيم، وهدير المحرك الذي يصم الآذان.
– تعال، اجلس بالقرب منّا.
لم يكن الشارع معبدًا، إنما مرشوشًا ببقايا مقالع. عبرنا بيت جارنا العم نعوم، عائلة مسيحية على علاقة جيرة ومودة مع أهلي، وعلى علاقة صداقة مع المغني الكردي محمود عبد العزيز الذي لحن وكتب أغنية / روشه روشه روشنه/.
أذكر ملامحه، شاب في مقتبل العمر، فيه حول بسيط، ومتوسط الطول ونحيف الجسم، وكان يتردد عليهم كثيرًا كونه كان صديق ابنهما الكبير، ثم عبرنا بيت عائلة رجل أرمني منطوٍ على نفسه، ولا أعرف اسمه.
وصلنا إلى تقاطع الشارع الذي يربط المحطة بسوق المدينة، التففنا إلى اليسار مسافة مئة متر باتجاه السوق، محطة البنزين على اليسار، صاحبها رجل أرمني غني لديه وكالة بيع قطع تبديل للسيارات والجرارات والحصادات. ملأنا الخزان بالكاز، على غير عادة الحصادات التي تسير على الديزل. في مواجهتنا كان محل اللحام أو القصاب عبد االكريم، الذي نشتري منه اللحم، وندفع له ثمنه في نهاية الشهر. ثم اتجهنا نحو اليمين باتجاه طريق تل حلف، المبروكة أو الرقة غير اُلمَعَبَّد.
كان الهواء عليلًا، والسماء فراشة صافية، ترقص العصافير فيه وتغني، وشهر آيار سارح، ترشقنا النسمات العذبة. وهدير المحرك كان ثقيلًا إلى حد كبير.
عبرنا بيت صديقي طوني ابن الحلاق هاكوب، الذي كان في صفي في المدرسة، ولم أكن أطيقه على الإطلاق لكثرة كذبه وميوعته وبدانته، ثم عبرنا محطة البتزين، التي صادرتها الدولة، وكانت ملكيتها تعود للمزارع حبيب مريمو. ثم انفتح الفضاء أمامنا، وتلاقى الأفق بين السماء بالأرض.
وبدأت الرتابة والملل على وقع سير الحصادة البطيء، تمشي كأنها سلحفاة.
وبدأت الحرارة ترتفع أثناء سيرنا إلى وصلنا جسر تل حلف، شاهدت بقايا نهر، بقايا ماء، قادم من تركيا ويصب في الخابور. وعلى بعد مئة من الجسر العسكري للقطار، المكان الذي ينقسم على بعضه، الشمال هو لتركيا أما الجنوب فهو لنا، لوطني وبلدي سوريا.
على اليمين، على مبعدة بضع كيلومترات كان قصر أصفر ونجار الذي صادرته دولة الإصْلاح الزّرِاعيّ، الذي شمع باللون الأَحْمَر، الفارغ من الناس، ولم يسمح بالسكن فيه في هذه المرحلة لترفه وجماله/ بعد استقرار النظام العسكري في سوريا تحول إلى استراحة المحافظ في فترة حافظ الأَسد، ثم استراحة لرئيس المخابرات العسكرية في محافظ الحسكة، محمد منصورة، الذي حكم محافظة الحسكة بالخداع وشراء الذمم مثل سيده وتاج رأسه حافظ الأسد الفاسد، ولم يبق أمامنا أي شيء نتكئ عليه بعد أن ودعنا تل حلف.
في منتصف الأربعينيات جلب أصفر ونجار شاحنات ماك لفلاحة الأرض من رأس العين، مبروكة إلى حدود الرقة.
لم تف الجرارات بالغرض، لهذا كانت الشاحنات أقوى واسرع وتستطيع أن تجر الكثير من السكك التي تحمل الرؤوس المذببة وتحفر في عمق التربة وتخرجها لتعانق الشَّمْس.
كان يزرع مساحات هائلة من القمح والشعير يقدر بمئات الآلاف من الدونمات. استورد أحدث الآلات الحديثة من حصادات وجرارات وسيارات لخدمة العمل الزراعي. وجلب أفضل الخبراء بالزراعة والصناعة من الخارج والداخل وبدأ يضع الأسس الحديثة لزراعة الرز والسقاية بالرش. بل حول الأرض إلى عروس تنتظر يوم زفافها. القصر مقره، ومكان تمركز العمل.
في الحقيقة، كان لديه طموح كبير أن يحول الجزيرة السُّورية إلى قطعة من الجنة لوفرة أراضيها الخصبة ووفرة المياه والخيرات، ووجود يد عاملة جاهزة للعطاء.
في ذروة هذا العطاء جاءت الوحدة السورية المصرية بقراراتها السياسية الارتجالية، قرارات فوقية مصاغة من العسكر الذين لا يفهمون التنظيم والتخطيط.
قاموا هؤلاء العسكر بالاستيلاء على أراضي المزارعين تحت حجة محاربة الإقْطاع.
في الحقيقة لم تتشكل في سوريا طبقة اجتماعية سياسية اسمها الإقْطاع. التسمية جاءت مجازية، سوقية في التنفيذ من دون حرمة لصاحب المشروع أو التجربة أو الغاية من هذا التصرف.
ولم يدركوا أبعاد هذا القرار، ولم يستشيروا خبراء في هذا المجال ولم يطلعوا على تجارب الآخرين إن كانت فاشلة أو ناجحة وكأن بناء الأوطان لعبة أطفال نلعبها وقت ما نريد. كانوا يتعاملون مع المجتمع كأرقام عابرة.
أخت الأرض تفتح ذراعيها لاستقبال الحصادة، بينما عيناي حائرتان تتجولان في المدى المفتوح، تبحثان عن السنابل الجافة.
كنتُّ سعيدًا بما سيحمله لي الغد من مفاجآت سارة، فرحًا بالطبيعة والفضاء المفتوح. أكثر الالتفاف يمينًا ويسارًا لأرى أكبر قدر من الجمال. إنها لحالة غريبة أن يختار المرء في الحادية عشرة من عمره أن يكون في العراء بصحبة رجال وحصادة خرساء.
سيطر صوت المحرك على صوت أنفاسنا، وفرق بيننا ومنع عنا التواصل أو الحديث.
كانت سنابل القمح على طول المدى طرية، ناعمة تتمايل مع النسيم صابغة الطبيعة بلونها كأنها في ليلة زفافها. التففنا إلى اليسار، مضت الحصادة في طريقها تقطع المسافات.
الحصاد:
بعد أن توقفت الحصادة عن العمل جمعنا كل ما بعثرناه ووضعناها فوق هذه الآلة السوداء وجلسنا فوقها كالقطط الحائرة. كنت الحلقة الصغيرة، الضعيفة في المعادلة، كل دقيقة وأخرى:
– آرام، أنا عطشان، اجلب لي كأس ماء، اذهب ونظف ذلك المكان، احمل هذا الكيس وضعه هناك. ابتعد من هون واجلس بعيدًا عنا.
أسباب عطل الحصادة أنت. لولا مجيئك معنا لما تعطلت الحصادة. منذ أن ركبتَ هذه الآلة لم نر منها الخير. اللعنة على الساعة التي رأيناك فيها. أنت ملعون الوالدين، لعنتهم حلت علينا وجلبت لنا سوء الطالع. صورتك، شكلك، منظر وجهك القبيح خرب الحصادة ومنع المحرك من الدوران.
كان أنترانيك الأسوأ في السلوك، كيف لا وقد خرج من أسرة مريضة، الأب مستبد، ظالم. يضرب أولاده وزوجته بسبب أو دونه. يشتمهم، يسبهم، يلعنهم، ويحقرهم بين الفينة والأخرى. ولم يتجرأ أي واحد منهم أن يعترض على قراراته مهما كانت، بالرغم من أن طول والدهم لم يكن يتجاوز المئة والخمسين سنتمتر، الا أن أولاده الشباب كانوا يرجفون أمامه. وفي حضوره كانوا يتحولون إلى فئران صغيرة ترتعد فرائصها من الخوف والخضوع.
أنترانيك يتكلم معي بطرف أنفه، بفوقية واحتقار. لم أكن أفهم في ذلك الوقت سبب تصرفه الغريب معي. ربما كان عمره في ذلك الوقت يقارب العشرين عامًا. متكبر، قليل الكلام، جلف وخشن ولم يكمل دراساته. ربما وصل للصف الثاني أو الثالث الابتدائي وربما لأن التعليم كان محتقرًا بينهم لهذا لم يكمل أي واحد في العائلة دراسته ولم يصل أي واحد منهم في الدراسة إلى الصف الخامس الابتدائي.
البخيل في المشاعر لا يستطيع أن يعيش حرًا أو على سجيته. إنه أسير، ظالم لنفسه ولحبيبه، يعيش في سجنه خائفًا من نفسه على نفسه.
إن البخيل لا يستطيع التواصل المعنوي والعقلي والروحي مع الآخرين، وتغيب عنه الحميمية والإلفة والعطاء المتبادل.
إنه كائن أعزل، ميت من الداخل، يعيش الحرمان والخوف على ذاته في حال انفتح على ذاته أو على الآخرين. يخاف أن تنهار هيبته ومكانته.
الحر، هو الذي يعيش في الضوء دون خوف من العتمة، وأغلب المكافحين من أجل الحرية كرماء محبين لأنفسهم وللآخرين.
هناك مشكلة نفسية لهذا النوع من البشر، يعود منشؤه إلى التنشئة أو نتيجة التجارب الفاشلة في العلاقات، لهذا يفضل أن يكون بعيدًا عن الآخرين للحفاظ على النرجسية المرضية أو على القوقعة التي يعاني منها ومستمتع بها، كشيء مازوخي بائس.
كان أنترانيك عاشقًا للأفلام والأغاني الهندية. في بيته عشرات إن لم يكن مئات الأسطوانات السوداء الدائرية المغلفة والمنظمة. وعندما يريد أن يسمع يضع الأسطوانة فوق تلك الآلة الموسيقية القديمة التي تسمى الغرامافون. كنا نراه يجلس وحيدًا في البيت، يغلق الباب على نفسه ويسمع أغاني الفنان الهندي شامي كابور أو راجي كابور. وأَحيانًا كثيرة كان يغني معهم. ولم يترك فيلمًا هنديًا لم يذهب إليه. عاشق لجميع الممثلين الهنود:
بسواجيت، راجندر كابور، سيرابانوا، راجي كابور وشامي كابور، وافتتن بفيلم جينكلي إلى حد الجنون.
وكنت أسمع كثيرًا عن هذا الفيلم وأتحين الفرصة لحضوره، بيد أني لم أره إلى اليوم.
كانت الأهرام السينما الوحيدة في رأس العين. صاحبها هرم بذاته. لم يكن يضحك للرغيف السخن كما يقول المثل. قليل الكلام، يقف أمام باب السينما، ولا يسمح لنا بالاقتراب من الباب أو التلصلص على أي فيلم.
هناك أفلام كثيرة بقيت حسرة في قلبي وروحي لأنني لم أستطع أن أراها. أبكي مرات كثيرة أن يعطيني أبي نصف ليرة من أجل قطع التذكرة والذهاب إلى السينما. هذا المسكين الخلوق العاقل، والدي، المؤدب جدًا المحترم لنفسه وللآخرين، القليل الكلام الرجل الذي كان يملأ مكانه في كل مكان يجلس فيه، لم يكن يثرثر أو يخون نفسه في أي موقع، ربما لم أر في حياتي كلها إنسانًا مبجلًا مثله، لم يكن لديه المال. يقول لي:
– يا ابني، ليس في جيبي فرنك واحد لأعطيك حتى تذهب.
أبكي، أتعرش بالباب، بشجرة الكينا العملاقة، بدلو البئر. أضرب الأرض برجلي، أصرخ كأي طفل أناني، أقول له:
– أريد أن أرى الفيلم. أريد أن اذهب إلى السينما. الفيلم جميل جدًا. أرجوك. أصدقائي عند باب الحوش ينتظرونني لأذهب معهم.
– والله العظيم يا ابني ليس في جيبي قرش واحد. اذهب وفتش، فإن رأيت أي شيء خذه.
وتموت الحسرة في قلبي كما ولدت. لا أتصالح مع الحرمان ولا أطفئ الرغبة. أذهب إلى عند باب السينما. أصطدم بوجه أبو الياس القبيح صاحب السينما. أَحيانًا يشدني من أذني ويبعدني عن الباب.
مرات كثيرة كنت أقول في نفسي:
– لو أن والدي يملك هذا البناء لكنت شاهدت جميع الأفلام التي تعرض في السينما.
كنت أعشق السينما، والممثلين العالميين مثل عشقي لكرة القدم. أجمع صور اللاعبين والممثلين من هنا وهناك. ولا أترك أي شيء للقدر. عقلي يعمل مثل الكومبيوتر. يبحث عن الرغبات الدفينة التي يحرضها عقلي وروحي ورغباتي ونزواتي.
الرغبات التي تتولد في داخلي كانت المحرك لي، أما الوعي فلم أكن أسيطر عليه أو أعرف له مكانًا.
اللاوعي، الرغبات الحقيقة التي تتشكل في داخلي تقودني. وأنا أطيعها واسير وراءها. وتصطدم بقسوة الواقع الصادم الذي يصطدمني ويفتت أشياء جميلة نابتة في أعماقي. تتحول الرغبات إلى مكبوتات، تنمو وتكبر في شراييني. وتبدأ النفس تبحث عن مخارج للتصالح والكذب. ترسم نوعًا من التوافق الكاذب بين الرغبة والحرمان. ففي روح وعقل الطِّفْل، خط سير في اتجاه واحد، أن يحقق أكبر قدر ممكن من النزوع نحو تحقيق ما يريده بأقصى درجات الوصول إلى الحاجة.
في الصيف، من على سطح البيت أرى تقافز الصور القادمة من السينما. لا شيء واضح على الإِطلاق. أبقى معلقًا مدة طويلة في مكاني علني أرى مشهدًا ما؛ لكن هيات. أمّل أو أتعب. أشياء جميلة بقيت في ذاكرتي لم تمت بعد. ذاك الطِّفْل العاشق للحياة يرغب ويرغب ولا يرتوي من الحاجات والرغبات المجنونة النائمة في أعماقه. لم أستطع أن أدفن الجمال والعشق لكرة القدم والسينما إلا بعد الضغط الشديد المترافق مع العنف والحرمان المتواصل.
كان والدي يشركني في مسؤولية البيت مذ كنت صغيرًا. وكلمة ليس في جيبي قرش واحد خالدة في ذاكرتي. ودائمًا أحسه يرمي المسؤولية على الآخرين:
الله، القدر، الحمل الثقيل الذي يرزح تحته. يقول لي مرات كثيرة:
– لدي ثمانية أطفال، والراتب لا يكفي للإيجار والأكل والشرب والمدرسة.
الإشباع إن لم يكن ذاتيًا، منك وفيك، فإن كل كنوز الدنيا لن تملأ عينك.
الإشباع حالة نفسية وروحية وعقلية لها علاقة بتكوينك النفسي كله، إذا لم تكن أنت هو أنت، فإن العالم كله لن يملأ الفراغ الساكن في داخلك البارد.
حرارتك تأخذها من نفسك، الآخر محرض، بيد أنه لا يمدك بالشغف المفتقد إذا لم يكن من ذاتك.
كل شيء يبدأ منك وينتهي فيك.
إن لم يكن لديك إشباع في الحب، فالحبيب لن يمدك به، أنت الصانع والمعلم والجلاد لذاتك، حاورها، أكتب عنها وقيمها واعرف أين تضع قدمك حتى تسير في الاتجاه الصحيح.
والطَّريق هو أنت أولًا وأخيرًا.
شخصيتك المهزوزة لا علاقة للآخر بها، إنها منك وفيك، أكسرها واطوها بين جناحيك وسيطر على مسارها حتى لا تتحكم بك وتحولك إلى مهزلة.
المهازل حولنا كثيرة فلا تكن واحدًا منهم!
في ذلك الزمن لم يكن يسمح للموظف العمل في وظيفتين. القوانين كانت صارمة، ومن المعيب جدًا أن يرتشي المرء. عندما يسرح امرؤ ما من الوظيفة لأسباب تتعلق بالنزاهة أو العمل كالرشوة أو الاختلاس كان يعتبر محتقرًا من قبل الناس، بل منبوذًا.
ولم تكن الدولة تسمح بالتسيب أو السرقة من المال العام. كان الإنسان في بلدي لديه معايير أخلاقية مختلفة عما ساد في زمن حافظ الأَسد.
ولم يكن هناك تلك السلطة الجائرة كما هي اليوم أو قبل نصف قرن. ولم نكن نعرف رجل الأمن أو المخابرات/ المباحث/. وكان ممنوع منعًا باتًا أن يصرح رجل الأمن عن نفسه. ولم تكن الدولة عدوة المجتمع أو تمارس سلطتها على الإنسان في الشاردة والواردة مثلما هي عليها اليوم.
أشار مرة والدي إلى رجل يمشي في الشارع مطأطئ الرأس، قال لي:
– انظر إلى هذا الرجل. لقد خرج من السجن بسبب الرشوة. إنه محتقر بين الناس. أصبح مكروهًا. بل تحول إلى منبوذ بين الناس لسابع جد. وضعه سيء، الله يكون بعونه.
وقال لي مرة في إشارة لرجل واقف بجانب سيارة:
– هذا رجل حزبي. القلائل من الناس يحملون هذا الصفة. الحزبي عليه واجبات أكثر من الحقوق. ولا يسمح للعشائري أو الإقْطاعي – كما كان يسمون في ذلك الوقت – أو الغني بالدخول إليه.
لم نكن نسمع عن مختلس أو شرطي يرتشي أو موظف يسرق، أعتقد كان يوجد مختلس ومرتشي ولكنه لم يكن نهجًا كما فعله حافظ الأَسد الوسخ.
لم تتلوث الذمم، ولم تتوسخ النفوس ولم يمت الضمير، ولم تتغير المعايير الأخلاقية لمجتمعتنا.
كان لنا عدو واحد اسمه إسرائيل، وكل واحد كان يتكلم بالعشائرية أو القبلية يسجن. ولم نكن نعرف شيء اسمه طائفة أو كلمة مسلم أو مسيحي أو يهودي.
لم تتغول الدولة، وتتحول إلى وحش يفتك بنا إلا بعد دخول جيش حافظ الأَسد إلى لبنان. قبل ذلك، كان الجيش السُّوري منضبطاً إلى حد كبير، لا رشوة أو تسيب أو اختلاس فيه كما هو عليه فيما بعد.
عندما أتكلم بهذه الطَّريقة عن الفترة السابقة على مجيء حافظ الأَسد، أقصد أن الدولة لم يكن لديها نهج تخريب المجتمع.
اقتربنا من أرض مزروعة بالشعير، ثم توقفنا في مكان فارغ تمامًا من الأشجار والبشر والحيوانات.
قال أنترانيك الجالس خلف مقود الحصادة، ثم التفت نحونا:
– لقد وصلنا إلى موقع العمل. بيد أننا سنحتاج إلى عدة أيام لنحصد هذه القطعة.
ثم نزل من الحصادة، وتبعه بقية الرجال. مد يده إلى باقة من السنابل، قال:
– سننتظر بضع أيام، لنفطر الأن ونرتاح ونرى ماذا سنفعل. الأن السنابل رطبة، علّ الشمس تسرع بجفاف سنابل القمح والشعير.
نزلت من على الحصادة، رحت أركض فرحًا مثل أي مهر صغير مقبل على الدنيا، مذهول ومبهور بجمال الطبيعة الصفراء على امتداد الفضاء وسط صمت مطبق. ودرت حول الحصادة فرحًا بالمكان، بعيدًا عن المدينة والحياة الروتينية.
كنت أرغب أن أرى شيئًا جديدًا، أن أبتعد عن الأماكن المغلقة أن اسرح في الفضاء الواسع بين الأفق وتلال السماء.
مددت نظرت، رأيت الأرض مستوية كالكف، مثل جميع أراضينا في هذه البقعة من وطننا الجميل. كل شيء يشدني إلى المكان، ةلدي الرغبة في الاكتشاف، هذا جعل قلبي تواقًا لمعرفة المزيد.
مشيت عشرين خطوة إلى الأمام باتجاه الغرب رأيت طائرين بلون السنابل طارا في السماء الورقاء. صرخت بملءِ الصوت:
– سرب قطا قطا، انظروا… انظروا. انظر يا عم عزو، أنترانيك، إبراهيم. الطيور صفراء، مكتنزة اللحم، وعلى أجنحتها الجميلة لون السنابل وبقع التراب.
لم يكن الرجال مهتمين بالطيور والطبيعة، ولم يفكروا كما كنت أفكر. مشغولين بالحصاد والعمل، ومتأففون من ارتفاع الحرارة، خاصة عزو الذي كان أكبرنا سنًا.
رأيت صخرة سوداء بحجمي في مكان قريب من مكان وقوفنا. ذهبت لاستطلع، فرأيت أرنب نائم تحت ظلها. ما أن حس بوجودي حتى فز وفر هاربًا مثل الريح. وسرب قطا طار تاركًا بيضه على الأرض. كان المشهد في غاية الجمال والروعة. قلت:
– كيف يفعل هذا القطا، أن يضع بيضه على الأرض المزروعة بالقمح ويفر، يا له من كائن غبي أن يرمي نسلة لما هب ودب
فرشنا على الأرض طعامنا، زيتون وجبنه بلدية وباقسمة/ خبز مجفف يصنع خصيصًا للتحمل الطويل، وفي جميع الفصول والأوقات الطويلة جدًا/
وجمعنا بعض عيدان السنابل وأشعلنا نارًا وطبخنا شايًا. كان الطعام طيب المذاق، لم أكل مثله طوال الحياة، ربما لأنه جاء بعد جوع، أو لأن البراري تضفي على الطعام رقة الهواء النقي.
لم يكن مع الحصادة بيك آب يخدم العمل. ولم يجلبوا الجيب /الويلس/ لافتقادهم للمال لشراء البنزين أو قطع الغيار. وأبو ليفون متوجع من سلوك وممارسات ووضع ابنه ليفون الذي ذهب العام السابق إلى حلب لشراء الدواليب للجرار نوع الكيز 500.
ليفون هرب بالمال ولم يعد إلى هذه الساعة التي كنا فيها في الفلاة. وبدلًا من أن يجلب الدواليب لخدمة موسم الفلاحة 1968- 1969 أخذ المال، 800 ليرة، كان مبلغًا كبيرًا في ذلك الوقت وهرب بهم إلى البرازيل.
غابت أخباره، وضربت أمه أخماس في أسداس خوفًا على ابنها البكر، وبقيت تنتظره ثمانية أشهر أو أكثر، ربما أكثر من سنة، بيد أن ذلك كان هباء منثورا.
كان موسم العام 1969 سيئًا. أمطار الشتاء قليلة، والأرض البعل تعتمد على ماء المطر ورحمة السماء والطبيعة.
والفلاح فقير، غير قادر على العطاء. لقد منحته حكومة الوحدة سابقًا والبعث لاحقًا أرضًا صغيرة تحتاج إلى مستلزمات كثيرة لإقلاع الموسم أو الإنتاج؛ كحفر بئر ماء، أو شراء محرك ديزل لاستجرار الماء، والقساطل وأدوات التوصيل. كما أن الفلاح يحتاج إلى جرار لفلاحة الأرض وركشها وبذارها وفي نهاية الموسم يحتاج إلى حصادة لحصد الموسم.
ولأنه فقير، بل معدم واتكالي، ترك كل شيء للقدر
لقد أعاد نظام البعث بأسلوبه الفوقي الارتجالي الزراعة إلى أشكال جديدة للإنتاج، فأصبح أشبه بالسوق السوداء، لقد حول الزراعة إلى شكل جديد من العمل قائم على الانتهازية والارتزاق.
وحتى يتخلص من إحراجه، لجأ الفلاح إلى المزارع قال له:
– أيها المزارع، لقد منحتني الدولة أرضًا صغيرة، مئة دونم، مئتين أو ثلاثمائة، ليس لدي الإمكانات واللوازم للفلاحة والسقاية والبذار، أنت تقوم بكل هذه الخدمات ونتبادل المحصول بالنصف.
رد عليه المزارع:
– تكرم يا صديقي، لك 45 بالمئة ولي 55 بالمئة. أنا سأشتغل وأعمل وأركض، أنت ماذا ستفعل يا فلاح؟
– في الشتاء لن أفعل شيئًا، سأجلس بالقرب من المدفأة وأدخن. وستصنع لي زوجتي الشاي وتطبخ لي الطعام وفي نهاية كل موسم، إما أتزوج امرأة آخرى أو أقتل خصمًا. لقد منحني الإصْلاح الزِّراعيّ أرضًا لاعيش عالة على المجتمع، والاتكال على الله.
حقًا إنها لطريقة غريبة أن يشكل نظام البعث جيشًا من المتسلقين والأجراء لا هم لهم ولا غم سوى أن يراقبوا السماء ويتضرعوا إليها أن تمنحهم ماء من السماء حتى يبقوا أمنين في بيوتهم ومرتاحين من هم البحث عن عمل أو لقمة خبز فيها تعب.
ارتفعت الحرارة أكثر، واقترب الوقت من الحادية عشرة صباحًا. لم تكن قافلتنا مزودة بمستلزمات العمل الميداني المتكامل مثل بقية قوافل العمل/ تسمى مصلحة/ في البراري، كالجادر أو الخيمة التي تحمينا من الحر والبرد والحيوانات.
كنا أربعة، انترانيك والعم عزة سائقا للحصادة وإبراهيم الخياط، الذي في عينيه القليل من الحول ونقطة بيضاء على الطرف.
كنا نحمل الطعام معنا كمونة، من رأس العين للمصلحة لمدة عشرة أيام، علب سردين، علب طون، خبز الباقسمة. لكن في بقية المصالح كان لديهم خيمة، طباخ، تنحر الخراف وترسل السيارة إلى رأس العين وتجلب الكوسا أو الباذنجان أو البطاطا أو البندورة أو غيرها.
مهمة الطباخ أن يجهز الطعام للسائقين القادمين من العمل الشاق في قيادة الحصادة أو ما كان يسمى الخدمة أو الذين كانوا الذاهبين إلى الخدمة الذي تقدم لكل سائق أو خياط وجبة طعام كل ستة ساعات عمل.
وهو الذي يوقظهم، السائقين والخياطين من نومهم ويجهز لهم طعامًا سواء بعد منتصف الليل أو أوله أو عند انبلاج الصبح.
بحضور ابو ليفون.
قال:
– إحدى المرات كنت على سفر بالجيب الويلس في براري الجزيرة العذبة. والدنيا برد ومطر، والغيم الأسود يغطي السماء والأرض، والعتمة المدلهمة تغلف الأرض من كل حدب وصوب، والعاصفة الهوجاء المعوجة تمد عنقها وتزرعه في لبي وعنقي، تعصرني وتنتشلني من مكاني لترميني في مكان آخر.
ضيعت الأبعاد، فلم أعد أعرف الشرق من الغرب. في هذه اللحظة صقيع العالم كله حط رحاله علي في ذلك اليوم البائس.
وأضاف:
– رأيت شيئًا لم يكن في الحسبان!
نظرت باتجاه أحد الرجال، رأيته فاغر الفم واللسان والعينين، ينظر بهوس صوب أبو ليفون قبل أن يقول:
– ماذا رأيت عمي أبو ليفون.
في الحقيقة كانت جميع العيون فاغرة، والأجساد مرتخية والعقول متجهة صوب الكلمات القادمة من عتالين وسائقين وخياطين وبقية الدراويش والبسطاء نحو أبو ليفون، وأبو ليفون منتشٍ بهذه الجمعة الذين يمدون ألسنتهم ويسمعون كلماته، الدرر الفارغة التي يلفظها، بينما الآلة، الحصادة بعيدة تقص السنابل وتملأ الأكياس بالحبوب.
قال:
– رأيت ثلاثَ قطط سوداء اللون!
– قطط في الليل؟ في البراري؟
– ثلاث قطط في البراري، ترقص أمامي وتلوح. كلما كنت أدعس على نابض البنزين وأدفع السيارة نحو المزيد من السرعة، أرى القطط تزداد سرعة. لم أرها تبللت بماء المطر، بل كان وبرها جافًا. لم أر ماء المطر لا يقترب منها على الإِطلاق.
– هل خفت يا عمي أبو ليفون؟
– عمك أبو ليفون لا يخاف ابدًا، هكذا رد كارو، أبو ليفون.
– هل قلت بسم الله الرحمن الرحيم؟
– لم أقل أي شيء. كما تعرف أنا مسيحي. لم أرسم علامة الصليب، كما لم أتلُ ترنيمة أبانا الذي في السماوات.
ثم ضرب يده على صدره بقوة شديدة حتى كاد يمزقه، وأضاف:
– القلب حديد، لا يخاف من الغيوم السود والقطط السود. إنها عبارة عن حيوانات صغيرة ترقص أمامي، ثم لمَ الخوف؟
وتجرأ أحدهم وطرح سؤالًا”
– وماذا فعلت بعد ذلك، ألم تغرس السيارة في الطين والوحل؟
أجاب ابو ليفون بثقة تامة:
– قلت لك معي الجيب الويلس، إنه حصاني الأسود. إنه يتحدى الجبال والوديان والوحل. علقت ووضعت الدبل كير، ولم أتركه يقف، بل أبقيت على السرعة ذاتها. دهست القطط، وسرت بعون الله تعالى، بيد أنها قفزت وخرجتْ من تحت الدواليب وعادتْ للجلوس في منتصف الطَّريق الموحل.
فم آخر فاغر قال:
– الله يوفقك يا أبو ليفون أكمل حديثك الشائق، الممتع والجذاب، الرائع والمخيف.
– وكنت كلما دهستها، أراها تعود وتقف أمامي. كانت جنًّا أرسلها الله لي في تلك الليلة الليلاء ليمتحن أيماني. لقد نجحت. الله يعرف أنني أعبده وأقدسه، لهذا تابعت سيري على بركة الله.
أضاف آخر:
– يقولون يا عمي أبو ليفون إن الجن يخاف من الحديد، هل هذا الكلام صحيح؟
– هذا الكلام صحيح، بيد أن الدواليب تبعد قوة الحديد لهذا يخرج الجان للإنس.
– وماذا بعد؟
– وعندما وصلت إلى طريق شبه معبد، أوقفت الجيب ونزلت منه، والتفت نحو اليمين واليسار لم أر أي شيء. كان المطر يتساقط الهوينى، والعاصفة تبددت، والحياة عادت للاسترخاء والتمدد. أخرجت علبة السجائر وعمرت لفافة واحدة، ودخنت على مهل. استنشقت المزيد من الهواء النظيف ثم عدت للمقود، وما إن أدرت المحرك، حتى عادت القطط مرة ثانية، بيد أني لم أبال بها، بل تعاملت مع الموضوع كشيء عادي تمامًا.
كانت أنفاس الرجال مشدودة، يسمعون لكل كلمة بدقة شديدة. وبين الفينة والأخرى أسمع شهقة وجع أو أنة أو كلمة آه.
هناك شيء ما يدغدغ هؤلاء في حديث أبو ليفون الذي ملك لبهم وعقلهم.
كنت أسمع هذا الحديث والرعب يملأ كياني وقلبي. دقات قلبي كانت تزداد مع كل كلمة يخطها فم أبو ليفون. كنت أقول لنفسي:
– قطط سوداء في الليل؟ إنه رجل قوي، جبار هذا الرجل القصير صاحب العينين الواسعتين أن يدهسها، ولا يخاف.
عندما عدنا إلى رأس العين، قلت لوالدي حديث أبو ليفون.
قال لي:
– إنه كذاب. هذه أحاديث فارغة. لم ير قطًّا قط. إنه جبان وكذاب. لا تسمع لمثل هذه الأحاديث الخرافية. لا يوجد جن أو أشياء لا مرئية. لقد عملت في البراري في الصيف والشتاء وسمعت مثل هذه الكلام الفارغ من الكثير من الناس، بيد أني لم أر أي شيء.
كنت أقود الجرار في الأماكن البعيدة عن المدينة، في البراري غير المأهولة. وتحت ضربات المطر والبرد والليل الثقيل والعتمة المدلهمة، وحدي، أفلح الأرض، وورائي سكة متعددة الرؤوس تشق الأرض. العتمة وحدها كانت كافية أن تجعل أقوى رجل في العالم يخر خضوعًا من الخوف. لم أر ما هو غريب أو خارج المألوف.
رأيت الكثير من الذئاب والضباع والثعالب والأفاعي، لكنها بمجرد أن ترى الجرار تولي الأدبار. فلحت في جنوب الرد، على حدود تركيا والعراق وسوريا وفي الرقة، وفي جوار الخابور وفي عمق مبروكة ما بين الجزيرة والرقة. خفت مرات كثيرة. الخوف من المجهول شيء طبيعي، هذا الخوف هو الذي يدفع الإنسان إلى التخيل واختراع كائنات غير حقيقة كالجن أو غيرها.
ثم مج سيجارته وأخذ مصاصة المتة وشربها، وقال لي:
– يا آرام، أنت رجل قوي جدًا، فابق كما أعرفك، أما أبو ليفون، فرجل جبان يضرب زوجته وأولاده ويهرب من واجباته الأسرية ويشرب العرق.
إنه لا يستطيع النوم، يبقى سهرانًا طوال الليل يشرب حتى يتعب ويستسلم للنوم.
اتذكر انني في المصلحة، مكان العمل، كنت أغسل الصحون والكاسات يوميًا، وأدخل في الجملونات، في مؤخرة الحصادة بيدي مفك البراغي، ولاوية أو حديدة كبيرة بطول ستين سنتمتر وعرض خمسة سنتمتر. وهذه الجمالونات مثل الشفرات الحادة مسنونة الرؤوس تمتلئ بالقش والسنابل التي لم تستطع الحصادة هرسها أو هضمها فتبقى عالقة، وتعطل افراز القمح عن السنابل.
أبدأ بالمفك وأتبعها باللاوية ثم أدفع القش للخروج من الجملونات، كومة وراء أخرى.
إحدى المرات كنت أنظف الجملون، وإذ أحدهم بدأ بتشغيل المحرك. صرخت من الخوف بملء صوتي وتعربشت بالشفرات قبل أن يدور المحرك دورته الكاملة. ورميت نفسي من مؤخرة الحصادة بينما قدمايَ بقيتا عالقتين ورأسي مدلى إلى الأسفل. كنت أصرخ وأبكي. وما إن توقف المحرك، حتى حملني أحدهم وأخرجني، فقلت لهم:
– ألا تعلمون أنني أنظف وأقشط السنابل العالقة والقش في المؤخرة؟ لماذا فعلتم بي هكذا؟
بلا مبالاة قال أنترانيك:
– كنا نمزح معك. لم نكن نريد أن نشغل المحرك. لقد أدرناه دورة صغيرة حتى نرى ردة فعلك.
قلت له:
– انظر كيف تمزق فخذي، هل هذا مزاح؟ اصعد إلى المكان الذي كنت فيه مدة عشرة دقائق. سأراك كيف ستتصبب من العرق، بل ستبول على نفسك من الخوف.
– اخرس. سد فمك ولا تطِل لسانك. هل فهمت؟
– لا، لم أفهم.
– أنت واحد منحوس.
– المنحوس هو أنت وأبوك. هل فهمت؟ مصلحتكم فاشلة، وأنتم فاشلون يا أهل السخنة.
كان العم عزو والخياط ابراهيم واقفين لا يتكلمان.
وخيمت قبل بضع أيام بالقرب من حصادتنا، حصادة حمراء نوع عنتر أو انترناشيول. الجميع تحدث بصوت واحد:
حصادة جديدة منافسة لنا، حديثة الصنع، سيأخذون الموسم كله وسنبقى وراء هذه الحصادة القديمة التي تتحرك ببطء شديد.
كانت الغيرة بادية على الوجوده المكسورة الحزينة، الفاقدة للحيلة والهمة. ثم ترك كل شيء بعد أن فضوا أيديهم من النجاح.
ثم تركوا كل شيء وعادوا لمحاربتي، تطوع أحدهم، قال:
– أنت مخطئ يا آرام، خوفك المبالغ به كان الدافع وراء رميك لنفسك من مؤخرة الحصادة.
اعتقد أن كلام هؤلاء الرجال كان تماهيًا مع أنترانيك، تمسيح جوخ.
قلت لهم:
– من الآن وصاعِدًا لن أصعد إلى مؤخرة الحصادة، إلا ومفتاح المحرك في جيبي، وإلا لن أصعد، هل فهمتم؟
قال أحدهم:
– صاير بطل يا آرام.
قلت له:
– تركت البطولة لك ولأبيكَ. شرِّف، اصعد بدلًا عني إن كنت رجلًا!
السيارة الأمريكية كرايزلر
جاء أبو ليفون بعد أسبوع من جلوسنا في العراء من دون أي تواصل مع العالم الخارجي. بالرغم من قصر قامته، وصلعته اللامعة، فإن لحضوره نكهة غريبة. ي، يشعرك هذا الرجل بالونس والثقة، فهو رجل خبير بكل شيء، باستثناء النوازع الشخصية التي لها علاقة بتكوينه النفسي. قال:
– لماذا أنتم هنا، ماذا حدث لكم لا تعملون؟ لماذا الحصاد واقفة؟
قال ابنه انترانيك:
– نحن على هذه الحالة منذ أسبوع. لقد تعطل المحرك.
– تعطل المحرك، كيف؟
لم يتكلم، لم يقل كلمة أخرى.
أضاف انترانيك:
– ليس ذنبنا أن نجلس دون عمل. ولم يكن هناك مواصلات تربطنا بالمدينة. ولم يكن هناك طرق معبدة تربط الرقة برأس العين. ولم يكن هناك طريق معبد إلى مسافة عشرين كيلو متر.
جاء أبو ليفون مع أحد أبناء الباشات، في سيارة كرايزلر طويلة لها لونين، الأخضر والأبيض، سيارة جميلة فارهة، لها هيبة أو مهيبة.
وكنت أحلم واتمنى أن أركب مثل هذا النوع من السَّيّارات السريعة، سرعتها أكثر من 240 كيلو متر في الساعة. وبصحبتهما كان سيروب ابن أبو ليفون الذي يكبرني بثلاثة أعوام.
صعد إلى أعلى سطح الحصادة نوع كلينير، قال:
أعطني مفتاح 14 – – 15.
قال له انترانيك:
– حاولنا أن نصلحها بيد أننا لم نستطع.
لم يتكلم. لم يقل شيئًا. بعد نصف ساعة دار المحرك. قال:
– القليل من الأوساخ العالقة في مصفاة الكاز. يمكنكم أن تبدأوا العمل.
ثم ذهب بصحبة الذين جاء معهم.
في الربع الأخير من شهر آيار، والشَّمْس، تبدأ في التصاعد وتفتت الحجر والصخر، الحرارة لأفحة في النهار بعد الساعة التاسعة صباحًا. والمنطقة التي نعمل بها بعيدة عن الأنهار والينابيع، والأرض مفروشة باللون الأسود، لون شعر الشعير وحاجباه.
دبت الحياة في أوصالنا، ومضت الحصادة تعمل دون كلل. وبدأت سعادتي تتأجج وروحي ترقص فرحًا. وتتدفق رغبة وهيجانًا في معرفة المزيد، أن اكتشف الأرض والسماء وجنيات هذا الآلة المجنونة التي تفرم السنابل، وتقصهم وتبلعهم في جوفها وترميهم حبات شعير أو قمح.
أصعد إلى أعلى سطح الحصادة، أجلس إلى جانب السائق، أمد نظري فأرى الأرض مائدة تحتي. ويرقص السراب في الأفق أمامي، أرى هول التعرجات التي تمدها خطوط السنابل الجافة. وتزداد المسافات بعدًا على بعد، إلى أن تصل إلى ما لا نهاية.
أريد أن ألتهم كل ما يقع تحت عيني. الفضاء المفتوح يغريني ويبهج خاطري، ويحررني من القيود وجدران المدرسة المغلقة ويجعل روحي طليقة. ورغم الجفاف والحرارة والبعد عن أهلي، إلا أنني سعيدًا، بل في غاية السعادة، أن أعيش بعيدًا عن المدينة، أن اكتشف السماء العارية والأرض العارية والمكان العاري، وأن أدق أبواب السماء والشَّمْس لأعرف ماذا وراء هذا الكوكب الذي يحملنا بصحبته وصحبة رجال لا علاقة لهم بالعلم والمعرفة، بشر منتوفين مرقعين، خارج الحضارة وفي داخلها.
تجري الأيام في تلك الأوقات هادئة وديعة بسيطة. المجتمع وهذا الوطن متماسك، ربما الجهل عامل وحدة وترابط. لا حوادث تذكر. في داخل عقل كل سوري وقلبها أن نتحرر من الوجود الإسرائيلي على أرضنا، وأن يستعيد الشعب الفلسطيني أرضه وحقوقه.
كنت أرى الحياة بعين الطِّفْل، جميلة، مملوءة بالأمل. وفي داخلي تمرد ورغبة بالبحث والاكتشاف في بيئة منفتحة على حسابات مفتوحة.
لم نكن في أيامنا نعرف الانغلاق أو التطرف أو الانكماش النفسي أو العقلي. ولم أر ما يلوح في الأفق عن عداوة بين الناس. فالجار للجار، والمسلم أخ للمسيحي أو اليهودي، والعربي للكردي وكانت الدكتاتورية طازجة، لم تترسخ جذورها في قيعان المجتمع. وشعاراتها البراقة، تستقطب الكثير من أصحاب الدخل المحدود. خاصة بعد أن استفاد الكثير من العمال والفلاحين بمكاسب التأميم والإِصْلاح الزِّراعيّ.
لقد رحلت عماتي إلى أرمينيا في العام 1965 وجميع أقرباء أبي، وبقي جدي وأبي وبعض الأقرباء المتناثرين هنا وهناك، وصلتنا مع أقرباء والدتي كانت قليلة بسبب البعد. ولم أكن أحب بيت خالي في الحسكة لأن زوجته مريضة، منحنية الظهر طوال الوقت ومزاجها سوداوي وثرثارة. وابنها الذي يقاربني بالعمر لم يكن على مسافة قريبة مني في المزاج والتفكير.
كنت أحب كرة القدم إلى درجة الجنون، بينما هو لا يطيقها. كان وحيد والديه، مدللًا، بينما أنا لم أكن أعرف ما هو الدلال، ولم أعشه.
أحب الخشونة في الحياة والحركة، وأمارس لعبة كرة القدم بمنتهى الجدية. أركض كالرهوان طوال الوقت، وأسدد الكرة في الزوايا القاتلة، أتفنن في خداع حارس المرمى، وأستمتع، بنظرات الناس المندهشة بما أقوم به.
الحصادة تعمل، عنين صوتها يصل إلى عنان السماء. أجلس إلى جانب السائق العم عزو:
– انتبه، الطبلية في الجهة اليسرى اصطدمت بالأرض، ستحمل الأتربة والبحص، ستكسر المسننات وتتعطل الحصادة.
بروح قلقة ويدين راجفتين يصرخ، بينما إحدى يديه تبحث عن النابض الذي يرفع الطبلية التي تحمل السنابل وتدسها في جوف الحصادة:
– أين؟
– إلى اليسار.
– آه، مزبوط.
يرفع العم عزو الطبلية ويشرد. لم يكن يحب العمل. وربما لم تكن قيادة الحصادة من أساسات مهنته واهتمامه.
كنت أسْتغرب أن يكون هناك إنسان في العالم يكره العمل في المواسم، والحرية. الحصاد متعة وعمل ومكسب. كنت يقظًا، متلهفًا، في أعماقي رغبة أن يطول الوقت لأبقى في هذا المكان.
أرى المساحات المزروعة قليلة، رغم أنها كانت كثيرة وتملأ الفضاء والسماء.
أنتقل إلى الجهة الأخرى، إلى جانب الخياط، أرى كيف تمتلئ الأكياس بالحبوب. يغني الخياط إبراهيم بحزن مرات ويخيط ويضحك مرات. وبعد أن تمتلئ يدفعها لتنزل عبر مخرج خاص أملس إلى حين تتجمع عدة أكياس، ثم يفتح السدادة ويفرغها. يتحرك مثل المكوك، يخيط، يفتح السدادت، يدفعها لتنزل على الأرض.
يمتلئ المكان إلى حيث يرقد الفضاء برعاة الغنم. بحار من القطعان تجوب الأرض بحثًا عن العلف والطعام، تجزّ ما تبقى من القش والسنابل الجافةالفارغة وتجترها. والنساء الريفيات يركضن وراء الحصادة ليجمعن القش ليكون غذاءً لمواشيهن.
بعد ستة أيام من الحصاد ليلًا نهارًا انتهى الشعير، وأصبح حبات سوداء في الأكياس المملوءة.
انتقلنا إلى منطقة أخرى لنحصد القمح. كل قطعة في الحصادة يهتز، والسماء جافة وحرارة الطبيعة تزداد سخونة والهواء حارق، والعرق يتصبب من عروق الرجال وأوردتهم، وتنفتح الحياة على ثنائية قمح، شعير، وأرض صفراء وملونة.
كما قلت سابقًا، لم يكن لدينا خيمة. نخيم تحتها، لهذا كنّا نخيم تحت صهريج الماء. نهرب من الحرارة اللافحة، نلجأ إلى الظل.
عاد أبو ليفون بصحبة سيروب ومعه خيمة. فرشناها بالقرب من قرية تعود لأحد الباشات، لا أعرف اسمه ولا أعرف اسم الضيعة.
وكما هو معروف أن القرى في الجزيرة السُّورية تتألف من بضع بيوت وفي أحسن الحالات تتألف من عشرين بيتًا.
وجوه الرجال شاحبة، وأمزجتهم متقلبة، لا يعرف المرء ردات فعلهم. وغربة عميقة في عيونهم، التأفف والإرباك جزء من جدلية تكوينهم النفسي. ينفعل أحدهم دون سبب يذكر، وأَحيانًا يصرخون، وأخرى يكونون لطفاء، مرنين طيبي المعشر.
في المحصلة لا يوجد انضباط في سلوكهم. أعزو ذلك لبعدهم عن عائلاتهم، وعدم التصالح مع الواقع أو عدم الانسجام مع العمل أو إلى أنهم لا يحبون العمل من أساسه.
ففي مجتمعاتنا يحب المرء الجلوس، والتحدث في كل شيء من دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن زبدة الكلام وأبعاده وإلى أين يأخذ المرء.
ثقافة أغلبهم شعبية، مستندة إلى إرث ثقافي قديم يتكلون عليه ويعتمدون عليه في تسيير حياتهم. القصص الخرافية التي نسجها خيال الإنسان الأولي من الواقع عبر قرون عديدة خلت، الإرث الذي وصل إلينا عبر الزمن، أصبح عبئًا علينا، أحاديث شفهية تتناقلها الأجيال، جيل وراء جيل.
أَحيانًا كثيرة يضرب النعاس عيون العم عزو، يسترخي على المقود وينام، بينما الحصادة تخط طريقها. أصرخ به:
– انتبه.
يستيقظ كالملسوع، ويعدل مكانه ويقول:
– لست نائمًا، إنني أقود الآلة بشكل جيد.
أقول:
– هل لك أن تعطيني دورة واحدة.
بتردد، يقول:
– عشر دقائق، لا غير.
أقود الحصادة وذهني منفتح على عشق الحياة وجمالها، وعقلي يعمل بكل طاقته. طفل لا يعرف ما معنى التعب، ولا يعرف معنى تعب الحياة. والحياة لم تتعبه بعد، فيراها أحلام وردية جميلة، أمل متجدد أن يقتني دراجة هوائية، كرة قدم جميلة، ثياب جديدة وحذاء جديد.
اتابع حبي لقيادة الحصادة، تفاخري بنفسي في زمن الستينيّات، زمن البساطة والهدوء، بينما عينا العم عزو تجوب الأفق، مخافة أن يأتي انترانيك أو أبو ليفون ويرون المشهد.
السنابل قصيرة، فنضطر أن ننزل حوض الحصادة أو الطلبية أكثر إلى أن تصل إلى مسافة قريبة جدًا من الأرض. وأَحيانًا كثيرة تصطدم بالأرض، لقصر قامة السنبلة، المحصلة لنتاج موسم رديء، لأن ماء المطر كان قليلًا هذا الموسم، وأن انحسار الماء عن سقاية النبات جعله غير مكتمل العطاء.
عندما وصلنا إلى مشارف القرية، قال لي العم عزو:
– هناك فتيات جميلات صغيرات السن، فرفورات، لعوبات، ضحوكات، يركضن وراء الحصادة. اطردهن بأسرع ما يمكن.
لم أكن أعلم أنه يريد من هذه الغواية، غواية وغاية:
– إن أعبث بهن، بجمالهن، ليستنشق هذا العزو عبق الأنثى ورطوبة رائحتهن من خلل تعويمهن وإظاهر رشاقتهن من خلالي.
نزلت من الحصادة مزودًا بطاقة إيجابية قوية وغنية، وشحنة مملوءة بالكلمات الآمرة، كلمات محمولة ومخزنة في عقلي.
وثقت من قدرتي على تمثيل دور الرجل الحريص على العمل. اقتربت منهن. أعمارهن لا تزيد عن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، قلت لهن:
– اذهبْنَ من هنا، لا تلممْنَ القش، يلا، امشينَ من هنا بسرعة.
كنت في الحادية عشرة من العمر. وبراءة الأَطْفال زاودتي في الصراخ أو الزعيق. لم أدر شيئًا. وخلال لحظات قليلة رأيت أيدي الفتيات تلتف حول وجهي ورأسي بين قُبَل وحضن وضحك وفرح.
لقد خطفنني مسافة بعيدة، بينما الحصادة تسير برتابتها الأبدية، والعم عزو يضحك والخياط يضحك، والرغبات القاتلة تسبح وترقص في وجوه العاملين ووجوه الفتيات.
قلن لي:
– ستبقى معنا، لن تذهب بعد اليوم إلى والديك.
وكن سعيدات، أصوات ضحكهن تملأ الفضاء رعشات فوق رعشات، وتتمازج مع رعشة هذا الحياة الجميلة.
كانت صدورهن الناهدة، تلتصقن بصدري الصغير، وصوت موائهن في أذني، وأنا أصرخ بهن:
– اتركنَني وشأني، من شان الله، لأذهب إلى الحصادة.
فيبتعدْنَ عني قليلًا، ثم يعدن، أعود لأقول لهن:
– ابتعدنَ عن هنا.
وتحول المشهد إلى أشبه بتمثيلية، مأسور وراغبات صاعدة. وتداخلت البراءة بالشهوة. يداي الصغيرتان تدفعانهن بعيدًا وتحاولان الهرب، وعشرات الأيدي تمسك بي.
وأفواه تقبلني، ويتصارعن للوصول إلى أي مكان في جسدي الصغير.
وصوت العم عزو وإبراهيم ينسجان دمائهم في دمي، ويتحسران:
– نيالك يا سيد آرام. يا ليتنا كنّا مكانك، إنهن يحببنك، ليتهن يحضنوننا كما يحضنوك، ويمسكن بنا مثلما يمسكن بك.
ابقَ بينهن، إنهن عطرات عذراوات.
قلت لهما بينما يداي تتحركان في الهواء:
– لا أريد حبهن. قولوا لهن أن يتركنني وشأني.
كان ذلك الطِّفْل الصغير لا يدرك مرامي اللعبة، ولا غواية الجسد، ولا تراشق صوت الهوى وهو يداعب الهوى وهياجه.
كان ذلك الغريق يسبح في بحر لم ينضج، في بحر لم تتلاطم أمواجه بعد.
لم يكن يعرف السباحة، لهذا بحث عن قارب أو قشة يستند عليها، ليعلو فوق السطح خوفًا من سطوة الماء وهيبته.
جدف بكلتا يديه ورجليه لينقذ نفسه، وعلى تلك الضفاف كان يجثو الزمن والمراكب العاجزة عن الإبحار. كأنه كان يلوح بيده للشمس العاجزة أن ترفق به، تقوده إلى شاطى السلامة، لأن العجز يسعى لبلوغ أقصى مراميه.
نزل إلى البر رشيقًا ناعمًا كالنسمة الصباحية، مزودًا بالقدرة على إحقاق الحق، وطرد الجمال من بيئة الجمال، أن يبعثر الفتيات في ظل الفضاء المفتوح على ريف مدينة رأس العين على مسافة قريبة من الحدود التركية، أن يحرر الأرض من أصحاب الأرض وأن يحقق الحق.
وتحقق عندما امتدت الأيدي الرقيقة الناعمة، والنهود الدافئة المرتعشة تستجدي بأبواب السماء.
جاء العم الزوبع، أحد عمال الباشات، عبد من عبيدهم، بوجهه العابس الشديد القسوة، لا ترى في عينيه أي مكان للفرح، ولا أمل في المساومة، صرخ بهن بصوت عالي وبوجه صارم وفي منتهى الحقد:
– امشينَ من هناك. اتركنَ الطِّفْل إلى حال سبيله. لماذا تمسكنَ به، ولا تتركنَهُ يعود أدراجه إلى عمله؟
هذا الزوبع رافقنا طوال مدة عملنا، كان حارسًا، حاميًا، عندما كنّا نقترب من القرية، حتى لا يتعرض لنا أي راعٍ أو أي فرد من القرية ممن يرغبون في جمع القش بالإجبار.
رأيت الخجل والمرارة ارتسمت على وجوه الفتيات. وبقلوب كسيرة مكسورة تركنني ومشينَ بعيدًا باتجاه الضيعة دون أن يرفعن رؤوسهن.
عندما صعدت إلى الحصادة، زفرت زفرة عميقة رافقه حزن شديد، وكأنني خرجت من السجن للتو.
قلت وأنا أتأفف
-لقد مزقْنَ ثيابي. إنهن لا يخجلن.
قال لي إبراهيم:
– كنَّ يمزحن معك، يلعبن، كنَّ فرحات بك. لماذا حاولت الهرب يا جبان؟
قلت:
– لا أريد اللعب مع البنات.
هذه الجملة، كان صوت أمي الصارخ في أذني، الثقافة المحمولة على ظهر التاريخ، التي زرعته والدتي المحافظة في بيتنا، أعطت النتائج المراد منها، كانت تقول لي بالرغم من أن المدرسة التي كنت أدرس فيها مملوءة بالفتيات:
– لا تلعب مع البنات، بل العب مع الأولاد.
كنا نلعب لعبة الخطة معًا، ألعاب الزمن القديم، والحجر مجر، الغميضة، الكعوب، بيد أن كلام والدتي فعل فعله بي. تم تقسم علاقتي بالآخرين من ذلك الوقت.
قالت لي إحدى المرات:
– ابق عاقلًا يا ولدي حتى تقبل بك النساء، كن مهذبًا معهن، مسايرًا لهن، وإلا سيهجرنك!
نفذت وصيتها بدقة، فهربت كل الفتيات مني. لا أعرف أي شيطان أو مارد نبت في عقلها أن تمنع طفلًا من اللعب مع الفتيات.
استطيع أن أعزو ذلك إلى الثقافة السائدة في المنطقة، حيث يتم تقسيم المجتمع بحرفية عالية، ذكر- أنثى. وما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان/ الجنس/ بينهما.
شعرت بنشوة الانتصار عندما رحلتْ تلك الفتيات، انتصر ذلك الطِّفْل الذي تصرف مثلما لقنته أمه، وانتصر ذلك الإملاء السخيف التافه.
لم أعر هؤلاء الفتيات أي اهتمام، لم أهتم لأصواتهن الحزينة، وحاجتهن للقش. ولم يشغل بالي الجفاف الذي ملأ أنفاسهن الجميلة.
أذكر وقاحة العم الزوبع، العبد، ووجهه الكريه، وعصاه التي كان يتكئ عليها وثوبه الطويل وخضوعه الكامل لكل سيد يوجهه.
حزنت على أحلامهن التي نخرها الواقع وحاك منه القلق والذعر والخوف والركض وراء حياة مجهولة.
كنت مزهوًا بنفسي، بعودة البطل القادم من ساحة المعركة منتصرًا على الفقراء من أمثالي.
لم يسمحوا لي أن أخرج في الليل. قال لي أنترانيك ابن كارو، أبو ليفون:
– بعد الساعة السابعة عليك أن تلزم الخيمة. إذا رأيتك خارج الخيمة في الليل سأضربك. تتعشى وتنام في الساعة التاسعة، هل فهمت؟
– نعم.
وكنت أنفذ وصيته بالحرف، لوجهه العابس وصرامته، وكنت أخاف منه خوفًا شديدًا أن يضربني. كنت أتجنبه،
وأتجنب لسانه الوقح، وسخريته مني، ومن طفولتي بالرغم من أنه أراد أن أذهب معهم. إنه إنسان متعالٍ، متكبر، لا يضحك أبدًا. يطلق سهامه القاسية، دون أي رادع إنساني.
إن الذي أبقاني في رحلة الحصاد هو حبي الشديد للمغامرة، أن أشتغل، أركض في البراري السُّورية العذبة، أن اكتشف وطني الجميل.
أحب قيادة السيارة الويلس، والجرار والحصادة، أن أقود الدراجة العادية والنارية، أن أمسك طيور القطا والأرانب البرية، أركض بين جنبات القش والسنابل، أن أركب الحصان وأدور به في تلك الأَصقاع العظيمة المركونة على هذا الكوكب.
الطفولة تعني الفرح، تعني الاكتشاف، تعني التوحد بين الذات الحرة والطبيعة الحرة، بين الانفتاح والحرية والأمل ومحاولة القبض عليهم.
عندما كنت أعود من السرفيس- كما كان يقال- أو الخدمة، ألبس الجلباب وأجلس بين الرجال. أسمع قصصهم الفارغة، حكاياتهم المجوفة عن النساء والأولاد والعمل والمواسم والجفاف وقلة مردوده.
كانوا مهمومين، يزفرون، يتأففون، الحزن يملأ وجودهم، كلامهم قليل، ربما لم يكن لديهم شيئُ يقولونه، يشردون في صمتهم.
باختصار شديد كانت خلية العمل فاشلة، لا طباخ فيها كما هي العادة في بقية الخلايا من أجل إعداد الطعام للسائقين وخياطي الشوالات أو الأكياس المملوءة بالقمح أو الشعير.
يخيطون أعلى الشوال المملوء بالقمح، ويدفعه عبر الممر الذي على الجانب اليسار من الحصادة، وذلك بعد أن يكتمل العدد، يفتح الباب من الأسفل هيدروليكيًا، فتنزل الشوالات على الأرض.
وفي حال وجود حصادة واحدة أو حصادتين أو أكثر، على الطباخ أن يوقظ السائق والخياط عندما يحين وقت الخدمة، هذا واجبه بالإضافة إلى عمله في طبخ الطعام، كالفاصوليا الخضراء أو البيضاء او الكوسا أو الباذنجان مع المرقة الحمراء وإلى جانبهم الرز أو البرغل.
يجب أن يتم ترفيه العمال بالطعام والفواكه، وإغداق التقدير والاحترام لهم حتى لا يتركوا العمل قبل انتهائه.
والمعضلة الكبرى أن الحصادة نوع كلينبر، إنتاج العام 1957 كانت قديمة ومستواها الإنتاجي متدنٍ على خلاف بقية المصالح أو خلايا العمل، حيث كان الكثير من المزارعين الأغنياء والمقتدرين ماديًا، يشترون حصادات جديدة، وبتقنيات متطورة وبإنتاجية عالية جدًا.
في الفترة الأخيرة من عمر الموسم القصير الذي يمتد إلى الشهر أو الشهر والنصف الشهر، تعمل الحصادة ليلًا نهارًا من دون انقطاع، كل وردية فيها ثماني ساعات متواصلة، يكون على متنها سائق وخياط، وسيارة الجيب الويلس تخدمهم لتلبية مطالبهم أثناء تبديل الخدمة أو في حالة عطل الحصادة.
في هذه الفترة الأخيرة من عمر الموسم أصبح لدينا جرار كيز 500، وحصادة حمراء نوع عنتر، بالإضافة إلى حصادتنا السوداء، نوع كلينير، وقاطرة لحمل أكياس القمح إلى مركز التجميع مقابل تجمعنا في الهواء الطلق.
وأصبح لدينا تلال من الأكياس المملوءة بالقمح المفروش في العراء.
كنت أنط على الأكياس، أركض فوقهم، ألعب أو أجلس لوحدي من دون أطفال في مثل سني، أمتع نظري من لون السماء أثناء الغروب أو الفجر. ولم يسمحوا لي بالذهاب إلى الضيعة القريبة جدًا مّنا. لا أعرف لماذا، ولم يسمحوا لأي كائن دخولها.
الحياة في هذه الفترة كلها حركة ونشاط في هذه المحافظة الزراعية، محافظة الحسكة التي تعتمد على كل أنواع المحاصيل الزراعية سواء كان سقيًا أو بعل، الذي يقارب مساحتها أربعة وعشرين ألف كيلو متر مربع.
يبدأ العمل في النصف الثاني من أيار إلى منتصف تموز كحد أقصى، يتحرك الموسم ويدب النشاط في جميع خلايا المحاصيل الزراعي، الحصاد في حالة تأهب، وتغدو الحياة كلها نشاط وحركة ليلًا نهارًا، لا يوجد مكان للتنبلة أو الكسل، وفي كل خلية عمل يتوجد معلم أو مشرف على الحصادة لإدارتها ميكانيكيًا وإصلاحها إذا تعطلت أو التدخل إذا تطلب العمل، ويفترض وجود معلم كهرباء جاهز لإصلاح أي خلل يحدث أو يخل بسير العمل في هذه الفترة المهمة.
أتعشى علبة ساردين أو التونة مع الباقسمة، وهو نوع من الخبز المحمص الخاص للأكل بهذه المواسم، ثم أنام.
إحدى المرات ركبت على الجرار إلى جانب سيروب، الأبن الثالث لكارو، ابو ليفون الذي كان يسوقه ووراء الجرار قاطرة فارغة، وصلنا إلى مكان بعيد لا عن مركز تواجدنا، كان هناك عتالين بانتظارنا، حملنا القاطرة ثلاثة أطنان من القمح المملوء بالشوالات:”الشوال، كيس من الخيش يعبأ فيه حب القمح أو الشعير أو الدقيق أو نحوه”.
الوقت يقترب من الغروب. قال لي سيروب:
– قبل الساعة الثامنة سنكون هناك.
قلت له:
– إذا تأخرنا سيعاقبنا أنترانيك. أنت تعرفه.
قال:
– لا تخف، أخذت إِذنًا منه لقد ملأنا ربع القاطرة وسنرى ما نراه ونعود.
وكان معنا ثلاثة عتالين يحملون ما يرونه أمامهم في طريق العودة. كل مئة متر ثلاثة أكياس قمح ونتابع سيرنا.
عندما قطعنا المسافة في المكان المطلوب عبر طريق العودة، تعطل الجرار.
حاول سيروب معلم الكهرباء للسَّيّارات وميكانيكها، رغم صغر سنه الذي لم يكن قد بلغ الخامسة عشرة، أن يصلحه. لكنه لم يستطع.
توقفت الحصادة وطاقمها بالقرب منا للحظات ليعرفوا ماذا حدث، بيد أنهم ثم تابعوا سيرهم حتى لا يضيعوا المزيد من الوقت.
وقت الحصادة في الموسم ثمين للغاية جدًا لا يمكث العبث فيه حتى لو كان ثانية واحدة.
وبدأ الليل يخيم علينا، سألني سيروب:
– هل تعرف الطَّريق؟
– أي طَّريق؟
– مكان تموضع المصلحة أو خلية العمل.
– أعرف المكان. إنه بعيد للغاية، لماذا؟
– هل تخاف من عتمة الليل؟
هنا خرج صوت والدي من حضن عقلي وفجر كلماته في وجه سيروب:
– أنا أخو الليل، صديقه. لقد طاوعته بيدي. لم يسبق لي أن خفت أبدًا وخاصة في الليل، وبعد .
– هل لك أن تذهب إلى المصلحة، فتقول لأنترانيك أن يرسل لنا عدة التصليح لكي نصلح الجرار؟ هل تستطيع؟
– بالطبع أستطيع. ولمَ لا!.
وما إن مشيت مئة متر حتى هلّ الخوف علي من كل مكان، وراح يمسكني من عنقي.
جاء صوت والدي مرة ثانية وبقوة:
– لا تخف من أي شيء يصادفك في الحياة. لا تخف من الليل والعتمة لأنه كائن عادي مثله مثل النهار. لا يوجد شيء مخيف سوى في الرأس، لا يوجد أي شيء خارج قوانين الطبيعة.
صوتان يرقصان في ذهني بينما قدمايَ تصطدمان ببعصهما، تتلاحقان بالقفز والنط والركض. أركض والتفت من الخوف من العتمة المدلهمة.
لم أر ضوء سيارة أو قنديل زيت أو قمرًا سارحًا. كل شيء كان أسود اللون وصامت. أركض بكل ما أوتيت من قوة ورشاقة، ألهث من الركض والخوف، بيد أني لم أعرف إلى أين سأذهب أو إلى أين أتجه.
لمت نفسي مرات كثيرة على الخيانة التي قمت بها لنفسي، لأنني، قدمت نفسي في صورة لا تعكس حقيقة حقيقتي. تذكرت كلمات أصدقائي أولاد الباشات عن الموت وعصة القبر، جنيات أبو ليفون، عظام الموتى على بعد متر من مكان نومي في البيت، منطقة الخرابات والفجوات تحت الأرض في رأس العين، الثكنة التي بناها الفرنسيون، على امتداد المكان
صوت والدي وثقتي به منحاني السيطرة على نفسي، صوته يقول لي:
– لا تخف من أي شيء. أنت رجل البيت. أنت رجل قوي وشجاع.
هذه الكلمات منحتني الثقة بالنفس وجعلتني أتماسك وأبحث عن طريق يوصلني إلى المصلحة.
قلت لنفسي:
– كيف يفعل سيروب بي هكذا؟ لماذا لم يذهب هو؟ بالتأكيد كان خائفً؛ لذا حملني المسؤولية حتى يتنصل منها.
الليل يحاصرني من كل حدب وصوب. مرات أقع على الأرض، تصطدم قدمايَ بكتلة ترابية صلبة أو حفرة صغيرة لا أراهما.
الكثير من الأشواك علقت بين أصابع يدي ورجلي. أقع مرات، فأنهض وأركض، أصفر مرات من فمي، وأصرخ مرات، والليل لم يكن حنونًا، بل قاسيًا ومخيفًا على طفل صغير في الحادية عشرو من العمر.
غنيت بصوت عالي، التفت إلى اليمين والشمال إلى الخلف والأمام، لكن لم أر إلا العتمة المدلهمة، اصطدمت كثيرًا بكتل من الأتربة المرتفعة عن الأرض وهويتُ في المنخفضات الضيقة. ولمتُ نفسي على المصيبة التي وضعت بها نفسي في مكان خطر، لا سلاح معي ولا قوة تحميني.
و أكثر شيء كان يخيفني أن أضيع في البراري المفتوحة على البراري، أو يعترض طريقي ضبع أو ذئب أو حيوان كبير لا أقوى على الهرب منه.
الصحيح أنني كنت قويًا، صلبًا، بيد أن الامتحان هو المحدد لقدرة الفرد أو ضعفه.
وعلمنا والدي ووالدتي على حب جميع الناس، عرب وأكراد وأرمن وسريان وأشوريون وغيرهم، مسيحيين ومسلمين وغيرهم من الأديان.
تعلمت في البيت حب سوريا.
وعشقت سوريا منذ نعومة أظفاري بكل ما فيها دون قيد أو فيتو على أي كائن.
هذا الجميل الذي زرع في البيت منحني الحرية والقدرة على التمييز. وزرع في نفسي قيم الاعتدال والحب دون أن أفكر في المردود المادي أو المعنوي. ودفعتني هذه التربية للعطش للحرية، للحب، للإنسان والخير والجمال.
سمعت أصواتًا وشيئًا أشبه بالهمس مررها الليل الصامت إلى ذهني وأذني. سرت نحوها بحذر شديد. مشيت على رؤوس أصابعي لأعرف ما تكون، قلت في نفسي:
– ربما يكون صوت ابن أوى أو أرنب بري أو ثعلب عابر.
اصطدمت بتلال الأكياس، بالحاجز. قلت في نفسي:
– يبدو أن الأَقدار أخذتني إلى المكان الصحيح. مشيت قليلًا وبحذر أيضًا إلى أن علمت أن المصلحة مصلحتنا. ولم أضع. اقتربت منهم، قلت لأنترانيك:
– الجرار معطل في البرية. عليك أن تذهب لجلبه.
– كيف جئت إلى هنا؟
– مشيًا على الأقدام.
– ألم تخف؟
– لا، لا. الرجل لا يخاف. عيب هذا الكلام.
ضحك وسخر. قال:
– أكيد عملتها بثيابك.
قلت له:
– ليس علي إلا الجلباب. لم ألبس ثيابًا داخلية.
نظر إلي باستهزاء ولم يعلق أو يرمي المزيد من الكلمات.
دخلت في عدة أكياس فارغة، شوالات، شوال داخل شوال، أصبح كاللحاف، وصنعت لنفسي وسادة من عدة أكياس، ووضعت رأسي عليهم ونمت على الأرض.
بعد عدة أيام رأيت أبو ليفون يناديني، قال:
– آرام، تعال إلى عند عمك ابو ليفون.
وابتسامة عريضة على وجهه. وأضاف:
– سينزل البيك آب إلى مدينة رأس العين بعد قليل ويعود غداً صباحًا. هل تذهب إلى البيت، تتحمم وتغير ثيابك وتعود؟
قلت له:
– أخاف أن تعود السيارة وتتركني في رأس العين.
– لا، لا، لا تحف. ستعود مع السائق. وصيتي له أن تعودا معًا، لن ينساك.
عندما عدت بثيابي الوسخة وبشعري المغبر وحذائي المملوء بالتراب والغبار.، رأيت مدينة رأس العين كما هي، بهدوئها المعتاد، بناسها الذين يمارسون حياتهم الطبيعية. أحسست بشيء غير طبيعي، إن وجودي في المكان مثل عدمه.
عندما نزلت من السيارة رأيت أختي أنجيل ولوسين أمام باب البيت في ثياب بيضاء منقطة بالأَحْمَر والأزرق، ألوان زاهية ونظيفة مثل ورق الورد.
كانتا أنيقتين، جميلتينِ، بيضاوينِ، زهرتين صغيرتين. نظرت إليهما، ثم نظرت إلى نفسي، إلى شكلي المخيف. لم تعرفاني، بل نظرتا إلي بارتياب. وما إن حدقتا أكثر في وجهي، ودققتا النظر فيّ حتى ارتمتا علي تبكيان.
كان الفارق كبيرًا بيني وبينهما.
دخلنا البيت. وما إن رأتني والدتي حتى مسكتني من يدي وأدخلتني الحمام.
تحممت ولبست ثيابًا نظيفة. وأكلت طعامًا شهيًا، رز وفاصولياء خضراء لم أذق أطيب منهما في حياتي. قلت لأمي:
– سأذهب إلى السوق، سأستأجر دراجة هوائية، الساعة بستين قرشًا، وسأزور صديقي كربيس وندور معًا في شوارع المدينة.
– لن تذهب من البيت. ستبقى معنا. هذا ليس عدلًا أن تأتي للحظات ثم تتركنا لتذهب إلى بيت صديقك.
– سأذهب، أرجوك. كنت في البرية مدة طويلة جدًّا من الزمن. نعم، طويلة جدًا لطفل في مثل عمري.
اشتقت لكربيس وكيفورك ومحمد علي كنعو، وتمو ومعمو، وقيس ولبقية أصدقائي، ولكرة القدم والسينما.
سألتني أمي:
– هل أعطاك أبو ليفون نقودًا؟
– لا، لم يعطني
– لماذا لم تطلب منه؟
– خفت أن لا يعيدني إلى العمل. أحب هذا العمل، البراري حلوة وممتعة، وكل شيء مفتوح على الجمال والحرية. أقود الحصادة والجرار والجيب، ألعب، أركض.
في ضيعة تل كيفجي على نهر الخابور
كنت في الرابعة من العمر. أذكر وشوشاته ينقر ذرات كياني وعقلي يقول لي:
– انظر إنه نهر الخابور، الإله الخصب الطيب الرقيق، يمر على سرير قرية تل كيفجي كامرأة حسناء جميلة، ممشوقة القوام والقد.
انظر إلى خصرها النحيف، الأملس كيف يتمايل ويرقص. يمر بكامل زينته وهياجه ووهجه وجماله فوق أرض الجزيرة السورية. إنه الوجود ما بعده وجود.
أمد أصبعي الصغير وأشير:
هناك على الطرف الأيسر يستيقظ فحل وحش جارف ينتظره على الطرف الآخر، محركات الكاتربيلار، التي تقتل الأرض والماء والطبيعة والسماء دون رحمة أو شفقة. كل عنفة، قضيب ذكوري فحل بقطر خمسين سنتمتر وطوله مئات الأَمتار يستجر الماء من هذا الخابور ورحمه.
وقفت بجانب أختّي أنجيل ولوسين، معنا لوح صابون غار كبير، أخذته منهما وجعلته يرقص بين أصابع يدي الصغيرتين.
حاولت أن أمرر ذلك الصابون اللعين الذي انزلق من يدي.
وكنت واقفًا إلى جوار جرف بجانب بيارة ضيقة لمنع الأعشاب من الدخول إلى جوف العنفات. وهناك شبك معدني مسنود بألواح خشبية طولانية يمرر الماء، وليحافظ على قوة وسطوة نقاءه، لتمريره ليصل إلى المحرك.
المكان مغلق على شكل مستطيل، مملوء بالماء، تنام في جوفه القساطل لتمرير الماء عبرها إلى حقول القطن العطشى.
شعرت بالدوار. ودون شعور مني، سقطت في الماء في الطرف الجانبي من النهر العظيم، بينما المحركات الثقيلة تدور وتملأ الفضاء ضجيجًا ووجعًا. في هذه اللحظة التي سقطت فيها في الماء أصبحت سجينًا بين أربع جهات محاطًا بالماء. وكل محرك يجرني إليه ويدفعني إلى جوف القساطل في أسفل المستطيل.
استغاثت أختي أنجيل وبكت، وتبعتها أختي لوسين، بيد أن الماء والمحرك لم يسمعا. وذهب صراخهما في اللاشيء. رفعت يداي في الهواء وصرخت وبكيت. كان أبي نائمًا تحت ظلال الأشجار والرطوبة وصوت المحركات. وإلى جواره إلى مسافة قصيرة أمي تغط هي الأخرى في النوم تحت سقف السماء وبكاء الخابور.
جاءت طفلة في مثل أعمارنا، خمسة أو أربعة سنوات، اسمها زكية. وبكل ثقة استندت على القضبان الخشبية الرفيعة سماكتها لا تتجاوز الثلاث سنتمترات ومسكت يدي وبهدوء سحبتني إلى الضفة. بينما أختاي ما زالتا تبكيان وتصرخان وتولولان وأيديهما في الهواء الطلق تسبحان.
استيقظ والدي مذعورًا وركض عبر الكيش وحملني وأخذني إلى الضفة البعيد عن النهر. كنت أبكي. ومضى يزجرني، قال لي:
– لماذا تذهب إلى هذا المكان؟ لقد قلت لك آلاف المرات انتبه، الخابور بقدر ما هو رحوم هو قاسٍ وشرير.
كان بيتنا في تلك القرية الآشورية على شكل مخروط أسطواني. في الأسفل دائرة واسعة، وفي الأعلى دائرة صغيرة مثل خيم الهنود الحمر، وله نافذتان مزروعتان في الجدار. وهما عبارة عن بلور مغروس في الجدار لا يتحرك، وضع من أجل إدخال الضوء، ثم يمتد ليصبح بشكل مخروط في الأعلى.
في تلك القرية الجميلة كان يأتينا العنب في سلال والتين أيضًا. يقول لنا أحدهم بلغة عربية مكسرة:
– خذ هذه السلة من العنب يا أخي. حقول الكروم كثيرة والثمار كثيرة، مملوءة بالعنب والتين والمكان، ضيق والسوق أيضًا، غير مهيأ. كلوه أو خمروه، نريد من يأكل.
كانت المواسم فائضة. جلبوا لأنفسهم محرك للكهرباء مثل جميع قرى الخابور في المكان الذي استوطنه الآشوريون في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين على سفوح أرض الخابور.
الاخضرار يملأ كل مكان في ضيعهم أو قراهم. يعملون بهمة ونشاط ولديهم خبرة كبيرة في الزراعة، ولديهم جلد على العمل والإنتاج.
أكاد أقول إنهم لا يعرفون إلا شيئًا في الحياة إلا العمل، والعمل فقط. الآشوريون شعب نشيط وحيوي وخادم أمين للأرض والحياة.
سلال العنب أذكرها جيدًا. رائحة الفاكهة عندما تخرج من أيديهم الحنونة كانت طيبة المذاق، طرية مثل الأرض والنهر في بلدنا.
الإنسان في بلدنا كان مجدًا، عرشًا في بساطته، في حميمية الناس وهيبتهم، وفي طهارة أرواحهم ونقاء قلوبهم. مملوءة رأفة وقناعة وحبًا دون تسويق أو تزييف.
كنت مفتتنًا بذلك المكان. عيناي تمتلئان حنانًا بصدى صوت الخابور وروحه الوديعة.
عشقت الجزيرة السُّورية حتى الثمالة: عشبها، رائحة النعناع البري.، وهذه الأرض الطافحة بالحميمية والأمل والفرح.
وكان أهل الخابور يزرعون أشجار المشمش والتفاح والدراق والعنب والتين، والخوخ والإجاص، ويصدرون القمح والشعير بمئات الأَطنان، والقطن.
كنت أمر مع والدي في السيارة في فترة الستينيات من الحسكة إلى المناجير أو إلى رأس العين أو بالعكس ونرى أضواء المصابيح تشع وتنثر الضوء في الليل الجميل على طول الشريط الذي ينام عليه الخابور، ويمتد إلى مئات الكيلومترات.
لم تكن قبضة السلطة قد ترسخت واستوت على المكان في هذه الأوقات. كان وضع الناس مرحرحًا. المياه وفيرة، والكهرباء، كلاهما، الماء والكهرباء، لا تنقطعان لا في الصيف ولا في الشتاء.
في تلك القرية الوديعة تعلمت اللغة الأشوريّة بشكل كامل، ونسيت اللغتين العربية والأَرْمَنية.
عشنا هناك تسعة أشهر. ارتويت من الخضرة والرطوبة والمرح. وما إن عدنا إلى مدينة الحسكة حتى نسيت هذه اللغة الجميلة بعد شهر من خروجنا منها.
الرحمة على سوريا وشعبها وآمل أن تعود كريمة معطاءة مضيافة كما كانت.
الروضة:
دخلت الروضة والحضانة في مدرسة اللواء الخاصة في مدينة الحسكة، وكان عمري في الثلاث سنوات، مبهورًا من ألوان الكراسي والطاولات:
الأصفر، الأَحْمَر الأزرق والأخضر والنهدي، هذا المكان وأدوات المكان والمعلمات لا يزالون في ذاكرتي، ووجوه الأَطْفال النضرة،و الهدوء الذي يلف المدينة.
كنا نخرج من البيت، يدي في يد أختي أنجيل ولوسين، نمشي في الشوارع خائفين من الغجر واليهود بالرغم من عدم وجود هذين العنصرين في الحسكة.
كان يقال إن خطف الأَطْفال كان سائدًا، بيد أني غير متأكد من هذه الأقوال، ربما لنبقى تحت نظر الأهل.
عندما كنا تمشي في الشارع، كنّا نحتمي برجل ماش في الشارع على أنه من أقربائنا، نخاف من الرجال الذين يلبسون ثيابًا ملفتة للنظر، ونمشي في الأماكن المكتظة بالناس.
لم أكن أدري لماذا كان الناس يزرعون في عقول الأَطْفال هذا الخوف غير المبرر له في ذلك الوقت.
كنت أسمع:
– لقد سرقوا طفلًا، ومصوا دمه ورموا جثته في الشارع، ليحولوا ذلك اللون الأَحْمَر الذي خرج منه إلى عجين وخبز يأكلوه في صلواتهم.
أعتقد أن في هذا الكلام مبالغة كبيرة، أو لنقل كذب غير مبرر، ربما كان لنشر الكراهية.
ونبقى في المدرسة من الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر. وفي استراحة الساعة الثانية عشرة إلا ربع يغلقون الباب علينا من خارج باحة المدرسة حتى لا نخرج إلى الشارع. ونبقى إلى الساعة الواحدة والنصف إلى حين مجيء المعلمين والمعلمات بعد الغذاء.
كانت والدتي تضع سندويشة حلاوة أو دبس أو زعتر أو جبنة في حقائبنا التي صنعتها من معطفها الأَحْمَر لقلة ذات اليد. قسمتها إلى عدة قطع وخيطتها بالإبرة والخيط، وكنّا نحمل تلك الحقيبة كخرج على أكتافنا.
ما أصعب أن يشعر الطِّفْل الصغير بعجز والديه وضعفهم أمامه.
لم يستطع والدي مرات كثيرة أن يشتري لنا صداري المدرسة ذي اللون الأزرق. وأحيانا كثيرة كانت المدرسة تعيدنا إلى البيت لتنفيذ القرار بضرورة اللباس الموحد. وأحيانًا نرجع إلى البيت لعدم قدرة الأهل على دفع الأقساط الشهرية للمدرسة، فتتدخل الطائفة الأَرْمَنية وتتبنى الحمل، وتأخذ على عاتقها مصاريف الطلاب الفقراء والمحتاجين.
من الواجب على الأهل أن يدركوا أن الطِّفْل كائن نبيل حساس جدًا، فيه كل الخير، وعلينا أن نزرع في قلبه حب الحياة والطبيعة والآخر، وأن نخلق منه كائنًا قويًا، ناضج التكوين حتى يشعر بغيره، محبًا للخير ومنتميًا للإنسان بدلًا من الانتماء إلى الوهم.
حتى جدران المدرسة، روائح الحيطان والمعلمات والمقاعد ما زالوا في أنفي. أميزها بدقة في ذاكرتي. الباحة الجميلة، غرفة الآذن، الكنيسة المغلقة لعدم توفر قسيس. وأحيانًا يأتي في أوقات متقطعة، يبقى شهرًا أو شهرين، ثم يذهب إلى القامشلي وخاصة المطران انترانيك بجلبابه الأسود، وعشقه لسوريا والوطن السُّوري.
على تلك الأرض لعبنا كرة القدم، اساسًا لم أكن مبدعًا إلا بهذه اللعبة.
ذلك المطران الوسيم كان يبدو، وربما حقيقة أنه كان عاشقًا للموسيقا والأناشيد الوطنية السائدة في الستينيات، عشق لأرض سوريا، كان يغني لنا ويتمايل بجسده ونردد وراءه بصفاء قلب وروح، في أعوام منتصف الستينيّات وقبلها، ولم يكن وقتها هناك اسم دكتاتور قد حل محل الوطن.
وكانت المدرسة قد زرعت في قلوبنا حب سوريا والحرية.
عندما كنا نلعب كنت أحس بوجودي في هذه البقعة من الحياة، تحت فضاء السماء العالية وروح العالم الذي يغني معي، مع الرياضة والركض والفرح. مع كل خطوة يمدها الإنسان عبر الرياضة يخلق في داخله فرح مفتوح على السعادة. يحس بتلك النسمات الجميلة تلعب في داخله. ويروض ذلك الوحش الكائن فيه، يحرره ويطلقه للحياة الحرة.
وتجبرنا المدرسة على ارتداء ثياب الرياضة: الخفافة الصينية البيضاء والشورت الأسود والقميص الأبيض وأسوأ الأوقات عندما أكون في الحصة الدراسية، أي بين الجدران المغلقة كالسجن.
قطاف القطن:
استملكت دولة البعث الكثير من الأراضي الزراعية الخصبة في محافظة الحسكة وأعطتها لمؤسسة اسمها مزارع الدولة، فتحولت إلى مزارع جديد برعاية موظفيها الجدد.
هذا المستثمر، مزارع الدولة، كان يفلح الأرض ويبذرها، يزرعها بالقمح أو الشعير وفي نهاية الموسم يحصدها أو يجني القطن. ولهذه الدولة الهجينة، جمعيات تعاونية، وإرشاد زراعي، واتحاد للفلاحين، ومصرف زراعي.
ومن تلك الأراضي، القصر الذي ذكرناه، الذين بنته عائلة أصفر ونجار وما يحيط به من مساحات شاسعة.
وبما أنني كنت مغرمًا بالسينما قال لي أبي:
– هذه الليلة هناك فيلم في القرية القريبة من نبع عين قطينة بالقرب من نبع عين كبريت عن الزراعة والإرشاد الزراعي. هل تأتي معنا؟
لم أكن أحب الزراعة أو الفلاحة أو الحديث عنهما.
قلت في نفسي:
– أذهب إلى آرام مع والدك، أنت تحب ركوب السيارات والدراجات النارية والعادية. هناك، في القرية ستمارس هوايات كثيرة ربما لا تتوفر لك في المدينة لقلة ذات اليد.
قلت له على الفور:
– أتمنى أن تأخذني معك.
في الحقيقة، كنت ألح عليه مرات كثيرة أن يأخذني معه في رحلاته الكثيرة في أراضي الجزيرة السُّورية. وفي داخلي رغبة كبيرة أن نسافر من مكان إلى مكان دون توقف.
ركبنا اللاندروفر، المهندسين الزراعيين من الأمام، والمراقبين الزراعيين في الخلف وأنا إلى جوارهم.
انطلقت السيارة، عبرنا تل حلف الفارغة من الناس، القصر على اليسار. أرض تل حلف، تقبع على تلة تاريخية عريقة سكنها الأموريون والآراميون قبل آلاف السنين.
وسرنا بضع مئات من الأمتار، التففنا إلى اليسار بضع كيلومترات. لا أذكر اسم القرية التي وصلنا إليها. وما إن نزلنا، حتى اتجهنا إلى تجمع كبير من الفلاحين.
رأيت دراجة عادية دون قفل أو فرامل أو رفاريف. باختصار دراجة عادية بدولابين. أمسكت بها وركبتها، ثم قدتها كما يقود المرء حمارًا ودرت بها حول القرية المكونة من عدة بيوت تربية، خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الثلاثين دقيقة رميتها في المكان الذي أخذته منه.
رأيت دراجة نارية نوع سمسم زرقاء اللون ركبتها، وقدتها مسافة طويلة مستمتعًا بالهواء الطلق وقيادة الدراجة والحرية المطلقة كطفل لا يتجاوز العاشرة من العمر،ثم عدت أدراجي إلى المكان ذاته، بينما أطفال القرية ينظرون إلي باستغراب من دون أن يتكلموا.
الفلاحون الذين تجمعوا جاءوا من عدة قرى ليسمعوا للمحاضرة عن الزراعة قدمها أحد المهندسيين الزراعين، وعن أنواع الأدوية المستخدمة في رش المبيدات، نوعية الحشرات الموجودة لكل نبات ونوع الدواء.
أحضرت الدولة سيارة، بيك – آب خضراء اللون وبيضاء محملة بجهاز السينما.
جلس الفلاحون البسطاء على الأرض العارية على شكل حلقة دائرية كبيرة. وضعوا وعاءًا كبيرًا فيه ماء في وسط الحلقة، في وسط القرية.
كنت جالسًا بجانب أبي بعد أن انتهيت من قيادة الدراجة العادية والنارية، أسمع ما يدور حولي. أصابني الملل والقرف من الحديث عن الزراعة والأسمدة والأدوية واللقاحات التي تعطى للمزروعات.
بقيت منتظرًا بفارغ الصبر مثل غيري لرؤية مشاهد السينما. لم يكن يهمني نوعية الفيلم أو عن ماذا يتكلم. اهتمامي كان منصبًا على رؤية أفلام السينما ولا شيء آخر. قلت لوالدي:
– أنا عطشان جدًا. أريد أن أشرب.
قال لي:
– هناك الماء.
وأشار إليه.
وقفت، ثم اتجهت إلى الماء. وبعد أن ارتويت هممت بالعودة إلى مكاني، وإذ بصوت يقول:
– ابن أخوي، اسقني كاسًا من فضلك.
ملأت الكأس وذهبت صوب المتكلم وقدمته له. ثم جهزت نفسي لأعود أدراجي إلى مكاني. وإذ بصوت آخر:
– ابن أخوي، اسقني كأسًا من فضلك.
ملأت الكأس وذهبت صوب المتكلم وقدمته له.
وهكذا.
ما إن أنتهي من أحدهم حتى أسمع غيره يطلب مني الماء.
تركت المكان ولم أبال بأصوات الناس الذين يطالبون بالماء واتجهت ناحية والدي لأجلس.
زجرني والدي، قال:
– عيب أن تفعل هكذا، الناس عطشانة، من المعيب أن تتركهم وتأتي لتجلس.
قلت له:
– جميع الجالسين يريدون أن يشربوا. هل أبقى طوال الوقت واقفًا أقدم الماء؟
قال، يقول المثل:
– صغير القوم خادمهم. ليس عيبًا أن تخدم الأخوة. عد من حيث أتيت.
رحت أقدم الماء لكل إنسان يطلب أن أسقيه إلى أن فرغ الوعاء أو الجرن الكبير. واستعانوا بغيره، وأكملت مهمتي إلى النهاية.
حضرنا فيلمًا عن القطن، كيف يقطف ويوضع في الشاحنات، عن تنظيم الجمعيات التعاونية في الاتحاد السوفييتي، عن البروبغندا الفارغة والنجاحات الخلبية.
من اللقطات الأولى للفيلم أصابني الملل، وبصعوبة اشتغلت آلة السينما الموضوعة داخل السيارة من الخلف، صور دون صوت. مجرد صور، والمهندس بالقرب من الجدار بيده عصا يشرح الخطوات التي يسقط عليها الفيلم.
قلت في نفسي:
إنه فيلم سخيف، لم أستفد من مجيئي إلى هنا شيئًا باستثناء أنني ركبت الدراجات، ومن وقتها كرهت هذا النوع من السيارات الحاملة للآلات التي لم أرغب أن أحضرها منذ ذلك اليوم.
في خريف ذلك العام، 1968، قال لنا مدير مدرسة الشهداء للأرمن الارثوذكس في رأس العين شدهان عطفة:
– بعد قليل ستأتي شاحنة وتقف بالقرب من باب المدرسة. على الجميع أن يستعدوا للذهاب من أجل قطاف القطن.
كنت في الصف الخامس الابتدائي.
جاءت الشاحنة وصعدنا إلى مؤخرتها. طلاب الصف الرابع والخامس والسادس. مثل الصيصان الصغيرة بقينا معلقين بأوتادها بانتظار السفر إلى المكان المطلوب.
لم نكن نعرف أي شيء عن القطن والقطاف والأرض. كنا تلاميذ في المدرسة. من عادة الكثير، الغاليبة من التلاميذ أنهم لا يفطرون عندما يخرجون من البيت. كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحًا. بقينا مدة ساعة في صندوق الشاحنة الخلفي، يقررون بالنيابة عنا ماذا سيفعلون. وكنا لا نعرف ماذا يحدث.
سارت الشاحنة عبر الشارع الرئيسي، تجاوزنا مدرسة السّريان، الفرن، مقهى أبو كوكو، انحدرت الشاحنة عبر نزلة قوية، ونحن نتمايل مع حركة وإيقاع الشاحنة. لاح لنا الملعب البلدي العاري تمامًا من العشب والمقاعد والسور باستثناء العوارض المعدنية كالمشانق.
التففنا إلى اليسار، سرنا بشارع مدير المنطقة، مصلحة الزراعة والإصْلاح الزِّراعيّ.
رأيت والدي يغسل سيارته اللاندروفر، كالعادة. اقتربنا من ثانوية ابن خلدون. توقفنا للحظات. وقف طلاب المرحلة الإعداديّة والثانوية ينظرون إلينا باستغراب.
سألونا:
– إلى أين أنتم ذاهبون؟ لماذا أنتم في الشاحنة.
– لا نعرف. يقولون، علينا أن نذهب إلى حقول القطن ونقطفه.
– أنتم صغار السن، لا تعرفون كيف تقطفونه. يا للجنون.
سرنا باتجاه طريق السفح – مدينة الحسكة، بضع كيلومترات على الطَّريق الدولي من الدرجة الخامسة، مالت الشاحنة باتجاه اليمين. وسارت عبر طريق ترابي. الشاحنة تتمايل، ونحن نتمايل مع تمايلها. لا أعرف اسم المكان. بيد أننا قطعنا مسافة طويلة عبر الأراضي الزراعية. وعندما وصلنا رأينا مدير مزارعة الدولة المهندس حسن نحاس ينتظرنا.
نزلنا من السيارة متعبين، منهكين من الهز، بصدرياتنا المدرسية. أوقفونا الواحد إلى جانب الأخر. قالوا لنا:
– لا يوجد عمال في المنطقة القريبة والمجاورة لحقول القطن، لهذا استعنا بكم. نأمل أن تساعدوننا في قطافه.
قلت لهم:
– نحن جياع، لم نفطر إلى الآن، الساعة قاربت أن تصل إلى الحادية عشرة ظهرًا.
رد حسن نحاس:
– ستذهب السيارة بعد قليل إلى رأس العين وتشتري لكم خبزًا ومعلبات سردين وتون ومرتديلا ولحم معلب. وأضاف:
المهم يا شباب نريد همتكم:
أن تعملوا بهمة ونشاط وبعد ساعة ستأكلون أطيب أنواع الطعام.
وضعونا بجانب بعضنا على أنساق، أن يستلم كل واحد خط وينظف جوزات القطن الأبيض بالكامل. ثم يضعه في كيس معلق برقبته. وعندما يمتلئ الكيس ننقله ونضعه في كيس كبير. هناك، يقف رجل قصير القامة بالقرب منه اسمه كلش” يبدو أنه يزيدي” له شوارب عريضة وكبيرة، لكنه بمنتهى اللطف واللباقة، بيد أنه لا يعرف العربية بشكل جيد.
وطلبوا منا أن نبعد الأَوراق العالقة بالجوزات، وأن لا نخلطهم مع عرائس القطن المجني.
الشَّمْس ساطعة كما هو معروف في فصل الخريف. والهواء لطيف والطبيعة جميلة، تنعش الروح والجسد. احسست بجمال الحياة والحرية بوجود الناس ووجوههم اللطيفة. وجوه الموظفين الضاحكة، يهرعون لخدمتنا. وعند حلول الساعة الواحدة جاء البيك – آب شيفروليه بالطعام. كنا في منتهى التعب والجوع والعطش.
طلاب مدرستنا على طرف، والمدارس الأخرى في الجهة الثانية القريبة منا. نسمع أصوات الأَطْفال القريبين من أعمارنا يغنون بصوت عذب. غنوا الكثير من المواويل والعتابا والميجنا. بينما كنّا نقطف بصمت، دون غناء. ولغتنا أرمنية في المدرسة وغير مفهومة لغيرنا، ولا يمكن لنا أن نغني مثلهم،بهذه الرقة والقدرة.
بقينا على هذا المنوال أكثر من ثلاثة أسابيع. نخرج صباحًا ونعود ليلًا. وعندما حان وقت انتهاء قطف القطن ذلك العام، جمعونا جميعنا، جميع المدارس. لعبنا معًا. ثم جلسنا على الأرض. أطفال المدارس الحكومية وغيرها، غنوا لناظم الغزالي وصباح فخري، وأغاني بدوية.
أحسست في تلك اللحظة بالغربة، بأننا معزولين. بأن المدرسة الخاصة، النوع الواحد قاتل لحيوية الإنسان وروحه.
لم نكن نعرف الغناء العربي، بل كنا أشبه بالخرس، نتفرج على المدارس الحكومية المختلطة كأننا لم نعد نعرف أنفسنا. صحيح أن ثيابنا أميز وشكلنا أقرب للنعومة، بيد أن الطرف الآخر كان يتمتع بالحيوية والنشاط والانفتاح والحرية.
كان هناك طفل يغني كالعندليب. وقفت أنظر إليه مسحورًا خجلًا من نفسي لأنني لا أعرف الغناء مثله.
وكانوا يصفقون معه ويرددون وراءه، وكنّا نقلدهم ونصفق معهم.
السفينة على نهر الخابور:
المناجير تلك الضيعة الصغيرة المنفصلة عن بقية الضيع جذريًا بكل شيء، سكانها من الحضر في محيط ريفي كبير. جاءوا من رأس العين والقامشلي والحسكة وعاموا وديريك والدرباسية بحثًا عن عمل لدى الدولة التي كانت توفر للعمال الأمان والراتب الثابت والعمل الثابت. جميعهم كانوا حرفيون، أصحاب مهن حديثة، ميكانيك، كهرباء سيارات، صواج، لحام.
تدخل السيارة إلى الكراج مهترئة وتخرج كالعروس في يوم زفافها.
جميع سكانها جدد، عدد قليل من بيوتها يلتف حول الكراج أو المصلحة كما كانوا يطلقون عليها، ويمتد فراغ طويل يصل إلى ثلاثين مترًا. هناك كان يقع بيتنا، بيت أرسين، وبيدروس ويوسف وإلى مسافة عشرة أمتار بنيت المدرسة الابتدائية من اللبن فيها معلم واحد اسمه حسن جاء من الساحل السُّوِري ليدرس أبناء المناجير، والقرى البعيدة والقريبة.
في تلك الفترة دخلت المدرسة، بضع شهور، ثم انتقلنا إلى الحسكة.
كان لدينا كتاب في الفصل الأول اسمه دادا دادا، وفي الفصل الثاني كتاب آخر اسمه طارا طارا. قلت لأمي:
– لدينا درس أسمه، /ز/ ،/زير/، /وز، زر/، /أزيز/. أريد أن تقرأي لي.
قالت:
– لا أعرف القراءة والكتابة.
بكيت كثيرًا ذلك اليوم، فقلت لها:
– لدي واجب غدًا، المعلم سيسمع لنا الدرس، أريد أن تقرأي لي.
قالت:
– والله العظيم لا أعرف يا ابني.
ثم التفت إلى أختي انجيل التي كانت تحمل أخي الصغير الرضيع هاكوب. والتي درست معي في الحضانة في مدرسة الأَرْمَن قبل أن ننتقل إلى المناجير، كانت تتمتع بالذكاء والفطنة وتكبرني بسنة.
– علمي أخيك الدرس.
وضعت أخي الصغير في حضنها وأشارت إلى صورة لطفل صغيرفي صفحة الكتاب، طار طار، يحمل خيطًا في رأسه زنبور. وقالت لي:
– تعال لأعلمك، اقرأ معي. /ز/ زر، زير، زائر.
بمجرد أن نطقت أول الحرفين. قلت لها:
– توقفي عن القراءة. أنت تعلمينني غلط. المعلم شرح لنا الدرس بطريقة مختلفة.
قالت:
– أنا اقرأ ما هو مكتوب في الصفحة.
غضبت ذلك اليوم كثيرًا. ولم يكن في الجوار من يعرف القراءة والكتابة. كانت الأرض قاحلة. جميع العمال كانوا أميين لا يحسنون القراءة والكتابة، وكانوا يضحكون طوال الوقت، وفي مختلف الأوقات، وبقيت حائرًا في ذلك اليوم لا أعرف ماذا أفعل.
في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة، وبعد أن سمّع لنا المعلم حسن حسين الدرس، وعلم أنني لا أحسن القراءة، قال لي:
– عليكم، أنت، وأنت، وأنتم. أربعة أطفال في عمر السادسة. عليكم أن ترفعوا أيديكم عاليًا في الهواء، قفوا على رجل واحدة ووجوهكم على الحائط.
وأضاف:
أنكم سجناء، محبوسون خلال فترة الاستراحة، أي مدة ربع ساعة.
كنت في منتهى الحزن والألم. وسمعت بكلمة السجن، محبوس، قفزت إلى ذاكرتي صورة والدي الذي كان يقف خلف القضبان في السابق.
وبقيت تلك الصورة النمطية في ذهني قاسية، مؤلمة.
لقد منع الشرطة أن أحضنه. بقي بضع أيام وخرج. ضحكته الصفراء، الحزينة كانت مرسومة أمامي لا تخفيها العين العادية، فما البال بالإنسان الثاقب النظر، كطفل.
بمجرد أن أغلق المعلم الباب وراءه، صعدت على المقاعد وأصبحت بالقرب من النافذة. التفت إلى بقية التلاميذ رأيتهم ينفذون تعليمات المعلم بدقة واحترام. الأيدي مرفرفة في الهواء كعيدان القصب الجاف والأرجل النحيفة بالكاد تستطيع أن تحملهم.
كانوا صادقين، وديعين في الخامسة من العمر. ووجوههم الجميلة باتجاه السبورة والظهر يعانق بقية الضوء القادم من الشَّمْس. لم يخطر في بالهم أنني سأهرب أو أنني لن أقف معهم. كانوا خائفين يرجفون كسنابل الربيع الخضراء في بداية الربيع. والمسافة بين الخارج، الحرية، والمدرسة والسجن باب صغير. لم يتجرأ أي طفل فتحه والخروج منه. بقوا واقفين خاضعين كطيور الأقفاص.
وقفت أنظر إلى الشَّمْس الساطعة، رأيت بيتنا واقفًا كعادته. وأمي تهتم بالبيت والأَطْفال الصغار الذين هم إخوتي.
التفت حولي ثم قفزت من النافذة وهربت. ذهبت إلى البيت باكيًا. سألتني والدتي:
– لماذا تبكي؟ لماذا خرجت من المدرسة؟ لماذا عدت إلى البيت؟
– لقد سجنني المعلم حسن، وطلب مني أن أرفع رجلي في الهواء، وأبقى على رجل واحدة ووجهي للجدار. سأترك المدرسة، لا أحبها، وأكره المعلم، والحيطان والجدران والأسوار. إنه إنسان كريه، لا أحبه ولا أحب المدرسة.
– لا تبك. هل سجن غيرك؟
– نعم، إنهم في السجن، وقوفًا، ينفذون العقوبة بإخلاص وتقدير.
– إنهم أطفال صغار يا ابني. لا تلمهم. الخطأ يتحمله المعلم. إنهم كالعصافير، ولدوا احرارًا ولا يعرفون القيد. لقد بدأها هذا المعلم دون تقدير لأبعاد تصرفه وسلوكه. عليك أن لا تخاف أو تستسلم. عليك أن لا تكره المدرسة.
مسكتني من يدي وأخذتني إلى المعلم وقالت له:
– العاقل لا يفعل مع الطِّفْل هكذا، لا يسجنه. لقد دمرته يا استاذ حسن، كسرته، لقد كرهته بالمدرسة والعلم. أنت تعلم تمام العلم، أن الأَطْفال مثل العود الأخضر يحتاج إلى الرعاية والاهتمام وليس إلى زرع الجراح في عقولهم. عليك أن تصالحه، وتأخذ بخاطره وإلا سيكره الحياة، ويكرهك ويكره المدرسة وكل شيء جميل في الحياة.
لم أتصالح معه. وبقي المعلم بالنسبة لي بمثابة سجان. وبقيت المدرسة في ذاكرتي عبارة عن سجن يحطم إنسانيتي ويقزم روحي. كنت أذهب إلى المدرسة مثلما يذهب المحكوم إلى تنفيذ حكمه، فأتمارض مرات كثيرة، ولا أطيق الجلوس بين أربعة حيطان.
لا أحب المعلم مهما كان لطيفًا. بالرغم أن معلمات مدرسة اللواء الخاصة للأرمن الأرتذوكس كنّ جميلات جدًا. ويلبسن ثيابًا من أحدث الموديلات الباريسية، ويصففن شعرهن على الموضة الدارجة في تلك الأيام، السد العالي. تنانيرهن القصيرة، السيقان الجميلة الرشيقة، الأقراط أو الحلق، البلوزات الحفر، يبرزن اللحم تحت الإبط وكانت تفوح منهن روائح العطر النسائي الفواح.
مرات كثيرة كنت أنظر إلى أناقتهن، أحمر الشفاه، الكعب العالي. وأسْتغربُ كيف كنَّ يستطعن الوقوف على مسمار صغير في أسفلِ الحذاء، وكيف يستطيع حملهن. كل يوم كن يلبسن لونًا مختلفًا عن اليوم السابق، ويتمايلن أثناء المشي.
كان هناك طالب اسمه أفرام، وأمه معلمة اللغة الأَرْمَنية، وأبوه لديه وكالة ساعات جوفيال، كنت أحسده على هذه النعمة، أقول في قلبي ونفسي:
– لديه من يعلمه الدرس، أمه معلمة، هناك من يهتم به ويحميه من الضرب.
بيد أن أمه كانت أقسى عليه من بقية المعلمين.
أكثر أوقات الفرح لي كانت عندما يدق المدير الباب ويستأذن:
– آنسة هاسميك، ممكن أن أخذ آرام.
– تفضل.
أرى والدي في الإدارة ينتظرني مبتسمًا، يمسك يدي ونمشي في فناء المدرسة، نعبر دورة المياه، ندور قليلًا على البلاط المخطط، نودع الكنيسة وغرفة الآذن، نصل إلى السيارة. أنط في صندوقها. وأسافر معه في جوالات ضمن محافظة الحسكة.
في تلك الفترة.
بعد مجيء البعث إلى السلطة، منعت الدولة الكثير من المواد التي كانت تدرس باللغة الأَرْمَنية كالحساب والجغرافيا والتاريخ وغيرهم، وأبقت على الديانة والقراءة والنحو. وتعلمنا مثل بقية الطلاب في مدارس الحكومة التاريخ العربي والإسلامي.
وفي عام 1969 أرادت الدولة إلغاء جميع المدارس الخاصة للطوائف المسيحية كالأَرْمَن والسّريان وغيرهم،
بيد أن الأَرْمَن في مدينة القامشلي أضربوا واعتصموا ضد هذا القرار، قالوا:
– نحن جئنا ضيوف إلى بلادكم. ونريد الرحيل إلى بلادنا. لقد أغلقتم الطَّريق علينا للسفر إلى أرمينيا. نشكر هذا البلد على حسن الضيافة ونريد المحافظة على لغتنا. لا نريد أن نذوب في لغة شعب آخر. لدينا القراءة والديانة والنحو، وبقية المواد باللغة العربية. ماذا يضيركم من هذه المواد؟ اللغة إغناء للبلد والوطن. وجميع الدول الراقية تشجع مضيفيها على تعلم لغتهم الأم. لماذا لا تشجعون بقية القوميات على تعلم لغتهم الأم فتعلم الإنسان للغتين يقوي مداركه ويفتح ذهنه ويقلل من الانغلاق والتعصب ويفتح الآفاق لوطن رحب يتسع الجميع.
تراجعت الدولة عن قرارها وأبقت المدارس الخاصة.
فوق ذلك المرتفع العالي في المناجير، كنت كالنسر الجارح أمتشق سهام نظري وأحلق إلى البعيد، أرى الخابور ينبسط تحتي ويرمي مجاديفه فوق السماء.
مرات كثيرة كنت أتنقل مع والدي في الشاحنة الجميلة ذات اللون الفستقي الخلاب من المناجير إلى بقية مدن وقرى محافظ الحسكة.
اللون وحده كان يضفي على نفسي طقسًا غريبًا مملوءًا بالصفاء والاسترخاء والهياج في نفس الوقت، من الهدوء إلى الارتقاء في أعالي النفس، والشعور بالراحة والصفاء والتساؤل.
كابينة السيارة كان واسعًا، نوع شيفرولية، تتحرك وتتناعم بين مدن محافظ الحسكة وقراها.
وقتها كنت صغيرًا، وكنت أظن أن الحياة مسافة مفتوحة على الريح، لا يحدها أفق أو سماء، وأن المكان يسع الزمن كله ويمتد إلى اللانهاية.
وكنت أرقص وأضحك دون ضحك، وأغني دون غناء، وأفرح فرحًا غامرًا ينبع من الروح والقلب والعقل.
كنت أطير مع طيور الزرازير والحجل، وثغاء الغنم، وأغاني الفلاحين، وأتابع بسعادة بالغة عبور الثعالب والذئاب والغزلان والأرانب ليلًا من ضفة الطَّريق إلى الضفة الأخرى.
عندما كبرت في السن، واكتسبت وعيًا مختلفًا، طلقت الوعي الطبيعي، ودخلت في تحولات أخرى، علمت أننا ندور في دائرة مغلقة، وقتها، حزنت حزنًا موجعًا، بل شعرت باليأس، أن الأماكن ضيقة ومحدودة، وهناك خطوط علينا مراعاتها ولا نتخطاها، بل ندور فيها وحولها.
المناجير، ذلك المكان الجميل الذي ينتصب فوق الأرض ويلوح للخابور بنهديه وضلوعه. كم أحببت ذلك المكان الذي كنت أقف على السفح تحت دفق خلجات الشَّمْس والنجوم، رافعًا رأسي بزهو نحو الفرح. وأرى امتداد الأرض المنبسطة تحت قامتي القصيرة والصغيرة، والقارب يمشي مع التيار فوقه رجل بيده عصا يوجه مسار طريقه.
من هناك، من فوق ذلك المرتفع العالي كنت أرى السفينة الكبيرة التي تحمل السَّيّارات من ضفة إلى أخرى وبالعكس.
إحدى المرات جلب أحد الرجال شاحنة من الجبس أو البطيخ الأحمر، وأراد أن ينقلها إلى الضفة الثانية من أجل بيعها للناس في المناجير.
لم تستطع السفينة حمل الشاحنة والحمولة، لهذا اضطر إلى وضعها هناك، على الأرض بجانب الخابور.
كان من عادتي، مع بعض الأَطْفال أن نذهب إلى جوار الخابور لنسلم عليه ونعقد علاقة حب وصداقة بيننا.
مثل الصقر سمرت نظري على ما يحدث. نزلت إلى الأسفل وسرت بجوار الخابور مسافة مئتي متر، يحدني من اليمين الجبل، ومن اليسار النهر العظيم، وصلت إلى غرفة المحركات العملاقة التي بناها المزارع أو كما كانوا يسمونه الاقطاعي ترزي باشي ووضع فيها المحركات العملاقة لاستجرار الماء وضخها في عمق الأراضي الزراعية الخصبة لتمتد إلى عشرات الكيلومترات.
وصلت إلى السفينة رأيت خوشابا ذلك الرجل النحيف، الأعرج، القصير القامة، والضعيف البنية يصرخ بأعلى صوته علينا على الضفة الثانية من الخابور، والمسافة بيننا وبينه حوالي الثلاثين مترًا. قال:
– يا شباب، أرجوكم، أريد مساعدتكم.
قلت له:
– ماذا تريد يا خوشابا؟
– هل لكم أن تركبوا السفينة وتأتوا إلى عندي؟
ومن عادتنا كأطفال، أن نركب السفينة وننتقل إلى الضفة الأخرى. نستغبي جهل أمهاتنا بمكاننا. وقتها كنت في عمر السادسة.
تكون السفينة مربوطة بحلقة معدنية مغروسة في الأرض. نحرر الجنزير ونربطه بحلقة في السفينة ونركبها فتسير بقوة دفع التيار إلى الجهة الأخرى. وصلنا إلى مكان وقوف خوشابا أمام تلة الجبس الممدود على الأرض. قال:
– إذا ساعدتموني في نقل هذه الحمولة إلى الضفة الثانية سأعطي كل واحد منكم جبسة واحدة.
طرنا من الفرح. قلنا له:
– بأمان الله، اتفقنا.
كنا أربعة أطفال. رحنا نحمل الجبس، حبة وراء حبة ونضعها فوق ظهر السفينة. وما إن تمتلئ. حتى ننقلها إلى الضفة الأخرى.
بقيت الجبسة التي وعدني بها خوشابا مرسومة أمام نظري. سآخذ ثمن أتعابي. نسيت الوقت والزمن، أمي، البيت وأخواتي. غابت الشَّمْس وحلقت النجوم في السماء ونحن منهمكون بالعمل والواجب والأتفاق، ونحن على ما عليه نحن. نحمل ونملأ وننقل ونفرغ. وخوشابا الأناني يحثنا على المزيد من الجهد عبر كلمات وعبارات جميلة ومشجعة:
– بطل يا هاكوب. رائع وقوي أنت يا آرام. الجبسة التي حملتها يا سيمون كبيرة وثقيلة، ولا يمكن لرجل قوي مثلك أن يحملها.
تحول رأسي إلى كتلة كبيرة من الجبس، استيقظ الغرور والتكبر والفخر مبكرًا في ذاتي البسيطة، ولم أعد أرى أمامي إلا كلمات خوشابا المعبرة.
تحت السكينة، وهدوء الليل تسير السفينة مختالة بصوتها الرتيب، يضربها الماء بنعومة. صوتها الرقيق يأتيني نهنهة. أرى الخابور جميلًا، مخيفًا، قويًا. في الليل له هيبة الوجود وأسرار الكون. يندفع الماء نحو السفينة بقوة ثم يميل رأسه جانبًا. أرى فيه صورة أمي وأبي والناس والغموض. قرابة الساعة العاشرة ليلًا جاءنا رجل لا أعرفه، مسكني من يدي بغضب ومسك يد هاكوب باليد الأخرى، قال لنا زاجرًا:
– أنتم هنا، وأمهاتكم يبكين ويندبن حظهن العاثر على فقدانكم.
في طريق العودة أخذ هاكوب معه جبسة، بيد أني مذهولًا منبهرًا من تلك اليد الخشنة ومشهد وجوده الغريب والغامض، تركني في حيرة، لهذا لم آخذ أي شيء، فبقيت يدي بيد الرجل كأن صاعقة ضربتني.
وكان يجرني جرًا بسرعة البرق قال:
– ربما أمك رمت نفسها في النهر. علينا الإسراع بالعودة قبل أن تنتحر حزنًا عليك. إنها تمشي كالسكرانة على ضفاف الخابور، تولول وتلوح له، تناجيه وتطلب منه السماح والمغفرة.
تحولت البيوت كلها إلى غابة أحزان. وليل الخابور كما تعلم صامت. إنها لا تهدأ. عيناها مغرورقتان بالدموع، متورمتان، وشعرها منفوش كالمجانين، ولا يوجد من يستطيع أن يهدئ خاطرها.
وصلت البيت فرأيت الكآبة والحزن مسلطًا على أمي والجيران وأخواتي يبكون ويندبون. وما أن راوني حتى جاءوا إلي، عيونهم مغرورقة بالدموع والأسى. حضنوني وقبلوني ووقفوا أمامي مذهولين. وما إن اقتربت أمي مني حتى انهالت علي بالضرب والصفع:
– يا حيوان، يا ظالم أربع ساعات وأنا واقفة على فم النهر العظيم، أبكي، أراه يسير بصمت، أتحدث معه، أقول:
– يا خابور، لماذا أخذت ابني مني؟ لماذا لم تحترم العشرة والجيرة والأخوة بيننا؟
ولم تتوقف عن البكاء، بل أضافت:
– أليس في قلبك رحمة يا آرام؟كيف ذهبت إلى السفينة ولم تقل لي؟ ألا تخاف أن تقع في النهر أو تنقلب السفينة عليكم رأسا على عقب.
كانت تضربني وتحضنني، تشتمني وتمدحني، تبكي وتضحك. كانت المشاعر مختلطة ومتداخلة. قلت لها:
– لقد وعدني خوشابا بجبسة. إذا نقلنا الحمولة كلها سيعطيننا حقنا لهذا بقيت هناك إلى أن أنتهي. على المرء أن يحترم وعوده وكلمته، وألا يتراجع. لقد اتفقنا أن ننقل الحمولة مقابل جبسة، ومن المعيب أن أنكث بوعدي.
– وهل تعتقد أن خوشابا رجل طبيعي؟
– بالطبع، فالرجل لم يجبرنا على عقد الاتفاق بالقوة. عرض علينا غرضه ونحن وافقنا.
– أنت طائش لا تبالي بأهلك، أنا وأبيك وأخوتك. لا يهمك إلا نفسك. تتفق، وتمارس قناعتك على حسابنا، على حساب مشاعرنا وأحاسيسنا، حزننا وفرحنا. الله لا يعطيك العافية يا عاق.
– لست عاقًا.
– لسانك طويل، وأحاسيسك ميتة، لا بارك الله فيك
كانت والدتي غاضبة جدًا ولم تتصالح مع الحدث. وتعتقد أن النهر كائن جبار يختزن في داخله كل كنوز الخير والشر والبشر. وأنه دائم السهر على افتراس الناس خاصة الأَطْفال، وإنه متجدد وحيوي لا يشيخ أو يكبر أو يموت. خلوده دائم ومستمر. في أعماقه حياة أخرى لكائنات أخرى كثيرة، على أهبة الانتظار للافتراس. أنياب هذه الكائنات الجوفية مشرعة ومفتوحة على مصراعيها ليشد كل من يقع بين براثنيه إلى الأسفل، ليأكله. وتعتقد والدتي أنَّ ليله مرعب يمشي على سطحه الغول والكائنات اللامرئية. يسهرون على حماية النهر، ويحافظون على هيبته وسلطته وقوة جريانه، ويمكن للمرء أن يحس بهم أثناء الليل أو المشي بجانبه.
أحس أن ثقافة المنطقة كلها كامنة في عقل والدتي. وتعبر عنها ببساطتها وحسها وفي عقلها الباطني. وتختزن فيه تراكمات تاريخ الناس وأفكارهم الميثولوجية، وسلوكهم وخوفهم أو فرحهم أو قرابين وجودهم.
والخابور روح الحياة والوجود. عالم غامض قائم بذاته ومتجدد، يحمل فرحنا وخوفنا ولهاثنا ويحطها في ماضينا وحاضرنا. إنه وطن الحنين إلى الحنين.
إحدى المرات، أراد معلم كهرباء السَّيّارات أرتين في الورشة أو الكراج أن يتحدى الخابور، فعامَ على الماء ومضى في العمق بزهو، مفتخرًا بقوته وبأسه نحو جزيرة تتوسط الخابور. ولم تمض إلا دقائق حتى سمعنا صراخه يملأ السماء.
قال:
– النجدة، إنني أغرق، الخابور يشدني نحو الأسفل. روحه، صفصافه واشنياته يشدوني إلى قاعه. الرجاء منكم أن تأتوا وتخلصوني.
كان يصرخ ويولول ويرفع يديه إلى الأعلى وينزل إلى الأسفل.
انطلق كثير من الرجال نحوه. غاصوا في العمق وراحوا يفكون الحبال الخضراء الملتفة حول رجليه إلى أن تحرر بالكامل.
لم يكن والدي موجودًا في المناجير. كان يقود شاحنة فستقية اللون نوع شيفروليه جميلة جدًا. ينقل على ظهر صندوقها الجرارات سواء من الجنزير أو الدواليب من المناجير إلى الزهيرية في المالكية أو بالعكس.
ثانوية ابن خلدون:
أصبحت في الصف السابع وانتقلت إلى ثانوية ابن خلدون المجاورة للدائرة التي يعمل بها والدي.
هذه الثانوية، فتحت لي آفاقًا جديدة على الحياة، ووسعت مداركي. وأحسست أنني كبرت عشرات السنين دفعة واحدة.
كانت الإعداديّة والثانوية تابعتين لإدارة واحدة، لكن في مدرستين متجاورتين.
لأول مرة أحسست بالحرية والسعادة. تحررت من عبء الذهاب إلى الكنيسة وسيطرة القسيس كيفورك وهَوَسه وقسوته وحبه للقومية الأَرْمَنية والدين المسيحي.
بالمجمل، تحررت من الدين والقومية بضربة واحدة، وفي بضع أيام. أصبح لي أصدقاء في المدرسة من جميع القوميات والأديان: أرمن، سريان، أكراد، أشوريين، شيشان، عرب. الجميع سواسية، لا فرق بيننا. والدولة لا تميز بين زيد أو عبيد داخل المدرسة. كنّا جميعنا أبناء وطن واحد في ذلك الوقت. وكل مدرس كنت اعتبره باقة ورد عطرة. وأتحين الفرصة لمجيء مدرس اللغة العربية، الاستاذ بيجو، بحكاياته الجميلة، وقصصه المشوقة والشيقة.
ودائمًا لديه أفكار جديدة تغني عقل الطالب وفكره. من خلاله عرفت طه حسين، العقاد، المازني، وكثيرًا من
شعراء المهجر، وأدباء النهضة العربية. كنت أنتظِرُه بشغف لأعرف الكثير عن حياة الأدباء والكتاب. وكان يقص علينا القصص البوليسية. وعن أبي نواس وابن الرومي وطرائفهم، عن شكسبير وسرفانتس وهوميروس.
واستغربت أن لكل مادة دراسية مدرسًا خاصًّا بالمادة، بمجرد أن ينتهي وقته يخرج ليأتي مدرس آخر.
كان لدينا مدرس للغة الإنكليزية والاجتماعيات والرسم والرياضة والعلوم والديانة والرياضيات وغيرها من المواد. وجميع المدرسين أكفاء، خريجوا الجامعات ومختصون في موادهم. هذا الشيء لم يكن متوفرًا في المدرسة الخاصة. ولأول قرأت عن تاريخ المنطقة قبل المسيح، الفراعنة، الأنباط، الآكاديين، والبابليين والآشوريين والفرس والرومان واليونان، والإسكندر وكليوبترا، وانطونيو.
كنّا، الطلاب، نلتقي ونتحدث مع بعضنا وكأننا رجال كبار في السن.
إن المدرسة العامة للدولة تلغي الحواجز بين أبناء الوطن الواحد، وتوحد مشاعرهم وأفكارهم وتربطهم ببعضهم من دون أن يحس المرء بأن هذا ابن فلان أو علان. ولم تكن المدرسة تسمح بالتمايز بين الناس من باب ديني أو قومي أو طائفي، غني أو فقير. ولم أشعر يومًا أن هذا الطالب مختلف عني في أي شيء.
قلت لوالدي:
– يجب علي أن أشتري كتبًا للدراسة.
قال:
– أليست الكتب بالمجان؟
– هذا في المرحلة الابتدائية. أنا الآن في المرحلة الإعداديّة، وعلي شراء الكتب من حسابي.
– كم ثمن هذه الكتب يا ترى؟
– حوالي ستة وثلاثون ليرة، إلى الأربعين.
– إنه مبلغ كبير. من أين لي أن أدبرها لك!
– لا أعرف. الحياة تمشي من دون توقف، وكل يوم يمرأخسر فيها كثيرًا إن لم أؤمن الكتب.
– سأحاول أن أدبر الأمر.
بعد يومين قال لي والدي إنه تحدث مع مدير المدرسة ووعده أن يمنحني كتبًا بالمجان على حساب اتحاد طلبة سورية.
وفي اليوم التالي جاء طالب إلى الصف العاشر برفقة زملاء له. وما إن دق الباب وفتح له حتى سأل:
– من اسمه آرام؟
– أنا.
– نحن أعضاء في اتحاد طلبة سورية في رأس العين. اسمك عندنا، وبمجرد أن تصلنا الكتب سنعطيك حاجتك. ما هي الكتب التي تحتاج إليها؟
– جميع الكتب.
– هذا كثير جدًا، لا نستطيع أن نؤمن لك جميع الكتب. لدينا الكثير من الطلاب المحتاجين. على كل حال سنرى ما يمكننا أن نفعله.
ثم سمعت صوتًا يتكلم بثقة:
– اعتمد علي سأحاول أن أدبر الأمر.
ثم التفت إلى بقية الطلاب وسألهم:
– من يحتاج إلى الكتب الدراسية التي يمكن لاتحاد الطلبة تأمينها لهم؟
رفع كثير من الطلاب أصابعهم، فتم تدوَّين الأسماء.
بعد شهرين من هذا التاريخ لم يستطع الاتحاد تأمين الكتب لنا. وكل يوم يطلب المدرسون منّا تقديم الواجبات الدراسية. ودائما أهرب من الجواب واحيل الأمر إلى اتحاد الطلبة، إلى أن تكلم معي طفل في مثل عمري بالصدفة، لم أعد أذكر اسمه، قال:
– هل تريد شراء مجموعة كتب الصف السابع؟
– بالطبع أريد. أين، ومن يبيع؟
– فتاة من أقربائي، انتقلت إلى الصف الثامن.
– هل لنا أن نراها؟
– بالطبع.
تواعدنا عند الساعة الرابعة بعد الظهر أن نلتقي عند باب بيتها. ما إن وصلت حتى قرع الجرس. خرجت فتاة جميلة، أنيقة، من بيتها بالقرب من شارع تصليح السَّيّارات وسينما الأهرام، السينما الوحيد في هذه المدينة، وذلك في شهر أكتوبر من العام 1970. قدمت نفسها بكل ثقة بالنفس والاحترام:
– ماري.
– آرام
جلسنا عند مصطبة باب بيتها، فقالت لي:
– هل تريد الكتب؟
– نعم.
– س- أحضرها لك في الحال.
عادت برفقة مجموعة كاملة من الكتب مجلدة بورق أزرق غامق، وعليه جلاتين، نايلون شفاف.
وعلى كل كتاب ورقة مثل الطابع، بيضاء اللون عليها اسمها واسم المادة. في الحقيقة ذهلت للأناقة والترتيب والنظافة التي كانت عليها الكتب. بالإضافة إلى أناقة الفتاة وترتيبها. نظرت إليها وإلى نفسي، إلى فوضويتي وتمردي وثيابي الشبيهة بالأسمال. أحسست بالفارق الثقافي والمادي والحياتي بينها وبيني. شعرت بالخجل من رقتها ونعومتها وطريقة حديثها، وخشونتي وبؤسي. سألتها:
– ما هو سعرها؟
– عشرة ليرات.
قلت في نفسي:
– كتب بهذه الأناقة والجمال بعشرة ليرات، يا لي من فتى محظوظ وسعيد جدًا. إنني أتعامل مع فتاة مثل غيمة في حدود السماء.
وقلت لنفسي:
– لماذا أشحذ من اتحاد الطلبة، وأكسر نفسي لهم وأبقى دون كتب مدة شهرين؟ ولماذا خسرت شهرين من الدراسة عبر وعود كاذبة؟
وقلت لها:
– عشر ليرات كثيرة علي؟ هل لك أن تنزلي السعر؟ لقد فاتنا الفصل الأول، وموعود بكتب جديدة.
– أستطيع. ما هو المبلغ الذي تستطيع أن تدفعه؟
– ثمانية ليرات.
قالت:
– اتفقنا. ثماني ليرات.
استغربت من هذه الثقة بالنفس التي كانت تتمتع بها هذه الفتاة التي كانت في مثل عمري أن تقرر بالنيابة عن أهلها الأغنياء هذا المبلغ كبير.
حزنت على نفسي الهاربة، وفي لحظة انكسار قلت:
– كثير من العائلات الغنية يتعاملون مع أبنائهم عبر الحوار ويزرعون في عقولهم الأمان وحب الحياة، فتنمو في نفوسهم الثقة بالنفس. عدد أفراد العائلة الواحدة لا يتجاوز الأربعة، طفلان وأم وأب. أما العائلات الشوربة التي تنجب عشرة أطفال أو أكثر فمصير أولادهم الشارع أو الضياع أو الشحاذة أو الفشل.
قلت لها:
– هل لي أن آخذ هذه الكتب اليوم. وسأخبر والدي بالموضوع وأعطيك النقود غدًا؟
– خذها، واجلب المال عندما يتوفر لديك.
استأجرت دراجة عادية من السوق ب 60 قرشًا في الساعة، ووضعت عليها الكتب وسرت وكأنني أحمل كنزًا. كتب نظيفة وجميلة ومرتبة، ومن فتاة أنيقة وجميلة وجذابة. ذهبت إلى البيت، وقلت لوالدي:
– سعرها ثماني ليرات. أريد منك أن لا تخجلني أمام الفتاة، رجاءً. أما موضوع اتحاد الطلبة، فشغلهم روتيني وفارغ، وسنبقى منتظرين مجيء كتبهم مدة طويلة جدًا.
أريد أن ألحق بالفصل الأول والامتحانات قبل أن يشارف على الانتهاء. ربما أرسب في حال قصرت بالواجب.
قال والدي:
– ثماني ليرات؟ إنه مبلغ زهيد. سأستدين هذا الملبغ من زميلي في العمل. ما تستاهل أن نكسر أنفسنا للآخرين من أجل ثماني ليرات. غدًا سأجلب لك المبلغ.
وفي اليوم التالي، لم يكذب والدي وعده. جلب المبلغ وأعطاني إياه. وكنت في قرارة نفسي متشوقًا أن أرى الفتاة، ماري مرة ثانية.
ذهبت إلى بيتها، وقرعت الجرس بكل ثقة، طلبتها، فخرجت. وكنت قد لبست طقمي المخطط الذي اشتراه والدي لي بعد مساومات طويلة بثمانية وعشرين ليرة، بيد أن الفتاة لم تبال بثيابي وأناقتي ولم تهتم لمظهري، بل أخذت المبلغ من يدي مع ابتسامة لطيفة، ثم ودعتني، ودخلت البيت.
بقيت وحدي في الشارع خائبًا. التفت نحو اليمين واليسار، ثم دفعت قدمي للمشي، لاعنًا الفقر والحاجة والأهل غير المسؤولين عن مشاعر أولادهم وأحاسيسهم وما يعانونه من مشاكل على الصعيد النفسي والروحي.
في هذه الفترة، بعد أيام أو عشرين يومًا من شراء الكتب، دخل علينا أحد أفراد اتحاد الطلبة، قال:
– البلاد في حالة تحول جذري، نريد همتكم يا رجال، أن تقفوا مع الشرعية. القوى الانعزالية تريد إعادة الحزب والبلاد إلى الوراء. الحزب في حالة صراع، يقوده رئيس الجمهورية الرفيق نور الدين الأتاسي والأمين العام للحزب الرفيق صلاح جديد ضد رجل أمريكا في بلادنا، وزير الدفاع حافظ الأَسد.
ثم طلبوا منا أن نذهب إلى البيت إلى إشعار آخر. قالوا:
– ستعودون عندما ينتهي الحزب من تصفية هذه الزمر العفنة.
لقد وقف الحزب والدولة وجزء من قطاعات الجيش إلى جانب الرئيس نور الدين الأتاسي وصلاح جديد. وكانت جميع منظمات الحزب: اتحاد الفلاحين، العمال، الطلبة والنساء، وغيرهم، وكوادره إلى جانب القيادة السياسية ضد مشروع وزير الدفاع حافظ الأَسد.
أغلقت المدارس ثلاثة أيام، وانقطعت الأخبار. وفي اليوم الرابع، عاد الجميع إلى عمله ودوامه وكأن شيئًا لم يكن. والتحقت جميع المنظمات المعارضة لوزير الدفاع، ووقفت إلى جانبه دون أي تبرير لموقفهم المخجل والمعيب.
حتى أولئك الذين أخبرونا عن خيانة حافظ الأَسد للوطن، بائع الجولان، هم أنفسهم بلعوا كلامهم مثل أي جرو صغير لا يقوى على رفض أوامر سيده.
في طريق العودة إلى البيت قال أولاد بعض المزارعين:
– إن حافظ الأَسد رجلنا، رجل المزارعين، وهو سيعيد الزمن إلى الوراء، ويلغي التأميم والإِصْلاح الزِّراعيّ.
بيد أن الواقع كان مختلفًا. وبينت لنا الأيام أن مشروع حافظ الأَسد كان مختلفًا تمامًاعن حسابات الجميع!
الرحيل من رأس العين إلى القامشلي:
في الثاني من كانون الأول، ديسمبر، العام 1970 قررنا الرحيل إلى مدينة القامشلي. استأجرت والدتي بيتًا لنا في الحارة الوسطى بمبلغ ستين ليرة سورية في الشهر. بينما راتب والدي كان بحدود ال210 ليرة، ويضاف إليها أذن السفر بحدود مائة ليرة، أو مائة وخمسون ليرة.
جلب والدي الشاحنة الحمراء ذاتها نوع مان، وضعنا عفش البيت البسيط، لحف، وفرش، ووسائد، وصحون وكأسات، وبابور وسحاحير وطاولة حديد صناعة يدوية، لعائلة كبيرة مؤلفة من أب وأم وثمانية أطفال.
كان الوقت مساءً، بحدود الساعة السابعة. جلس والدي ووالدتي وأختي الرضيعة سيلفا في كابين الشاحنة، وإلى جانبهم السائق، وجلسنا أنا وبقية أخواتي في الصندوق الخلفي.
أثناء مرورنا في الشارع العام سمعت بعض أصحاب المحلات يصرخون:
– الأَطْفال سيموتون من البرد. حرام عليكم أن تفعلوا بهم هكذا. عليكم أن تجلبوا المزيد من الأغطية وتفرشوها فوقهم.
في الحقيقة استغربت من كلام هؤلاء الغيورين. قلت في نفسي:
– لا يوجد برد، لماذا ينصحون والدي أن يغطينا؟
الحقيقة، أثناء مرورنا عبر الشارع الرئيس لمدينة رأس العين، كان الطقس طبيعيًا، بيد أنه تحول إلى زمهرير بمجرد أن قطعنا عدة كيلومترات خارج المدينة. لقد فرش والداي الفرش تحتنا ووضعوا اللحف فوقنا، لكن مع سرعة السيارة بدأ البرد يأخذ أبعاده.
وضعت أختي الصغيرة، عمرها عامين ونصف في حضني، ورحت أدفئها. وكل دقيقة وأخرى أسألها
– هل تشعرين بالبرد؟
بفرح طفولي تضحك وتقول:
– لا.
كان الهواء يرفع اللحف إلى الأعلى. ويتسلل البرد القارس إلى مفاصلنا جميعًا. وحاولنا أنا وأختي أنجيل ولوسين أن نشدهم نحونا حتى ندفئ أجسادنا الصغيرة وأجساد أخواتنا الأصغر. وكلما توغل الليل في العمق، ازداد البرد قسوة.
لم يكن هناك حدود للبرد. يدخل دون استئذان في ممراتنا دون خجل أو وجل. وعقلي ويداي يرسمان المشهد بمرارة وتسأل:
– أما آن لهذا الليل من نهاية. ومتى سنصل؟ كنَّا كأننا في أرجوحة الوقت نتمايل بتمايل الشاحنة.
كنت أخاف على أخوتي الصغار، صونيا وأرشلوس وهاكوب وزوفيك. أريد أن أضمهم، أحضنهم وأحميهم. أحس بالمسؤولية عنهم. أن آخذ خوفهم وأضعه في قلبي، وأكون نبراسًا أو جسرًا لهم لينتقلوا عليه إلى الضفة الثانية، نسيت نفسي وأنا ابن الثانية عشرة من العمر، ووضعته جانبًا، وأصبح جلّ اهتمامي أن نصل إلى وجهتنا.
لم تتوقف الشاحنة. أصبح الوضع بداية مختلطة، خارج قدرتنا على تخطيها. ولم يكن بيدنا أن نصرخ أو نبكي أو نوقف الزمن، والليل غراب أسود أو قنديل مطفأ.
قطعنا مسافة مائة وتسعين كيلومترًا في تلك الليلة القاسية إلى أن وصلنا إلى مدينة القامشلي. كانت الساعة بحدود الحادية عشرة ليلًا.
توقفت السيارة أمام باب حوش عربي. نزل والدي ووالدتي ومعهم أختي الرضيعة والسائق انطون. دقا الباب، بيد أن لا من مجيب. دقا ثانية وثالثة. الباب ملون بالزيرقون، الأحمر المطفي. بقينا في أعلى الشاحنة. تكلم معي والدي، قال:
– كيفكم؟
– بخير.
– هل بردتم؟
– بالطبع بردنا. الغطاء واللحف لم يكونا كافيين. كنت أشد اللحف بكل ما لدي من قوة حتى لا تطير في الهواء. وأنتم لم تلتفتوا إلى الوراء.
جاء صاحب البيت، العم لحدو أبو حنا، وزوجته وردة من السهرة، ومعه أخته مارين. فتح الباب ورحب بنا. قالوا:
– تفضلوا!
استغرب العم لحدو وزوجته من العدد الكبير للأطفال، بيد أنهما لم يتكلما. قالت وردة، أم حنا:
– الله يخلي لكم أولادكم. نحن أيضًا لدينا خمسة أولاد، ومعنا حماتي ومارين أخت زوجي وأخوها يعقوب. وجارنا الآخر، أبو جورج لديه ثلاثة، وغازار لديه خمسة. سألت والدتي:
– لديكم حمام واحد؟
– حمام واحد ومرحاض واحد مشترك لجميع الجيران، ولا يوجد مطبخ.
وبدأت حياتنا في هذا البيت الترابي الجميل، وامتدت إلى سبعة أعوام.
كان بيتنا غرفتين، واحدة لروميو وجولييت، أي أبي وأمي وأختي الرضيعة، والأخرى لنا جميعًا. ننام الواحد إلى جانب الآخر على الأرض.
كان بيتنا يقع في الحي الوسطى، شارع دجلة رقم الدار /198/ بالقرب من الدكتور البلغاري وثانوية القادسية للبنات وعلى مسافة قصيرة من الحمام وحارة اليهود.
بعد ثلاثة أيام عثر لي والدي على معقد في ثانوية عربستان التي تقع على مسافة خمسين مترًا من مقر الأمن السياسي، المكان الذي اعتقلت فيه.
كانت المدرسة بعيدة جدًا عن البيت. والدوام يبدأ الساعة الثانية عشرة ظهرًا. وعدد الحصص خمسة. وننصرف الساعة الخامسة وخمسة دقائق. وبسرعة اندمجت بالمجتمع الجديد.
تعرفت على الطلاب الذين في مثل عمري، سمير عروب، جمال زيدان، سمير كرم وأفرام يوسف، ويوسف يوسف، وجاك جوخجي، وبشير حديد، وبهرم بهرم، وبهرم حسين وعبد الرحمن عبد القادر وغيرهم.
ولدينا الكثير من المعلمين الدمثي الأخلاق والروح كأفرام غريب للرسم وعيسى موسى للرياضيات وألبير عجرم للانكليزي ونصار نصر للاجتماعيات وغيرهم.
كانت مدينة القامشلي كبيرة نسبيًا وشوارعها واسعة ومتقاطعة أفقيًا وشاقوليًا، بيد أن البيوت عبارة عن أحواش عربي، وداخله بيوت ترابية من اللبن والوحل والقش. من النادر أن يرى المرء بيتًا وفق الطرازات الهندسية الحديثة باستثناء بيوت المزارعين القدامى كصاروخان ومعمار باشي واصفر ونجار أو المحلات الكبيرة والأبنية الحكومة والمدارس.
السوق بني من قبل الفرنسيين سواء القريب من الحي الوسطى، بالقرب من الجامع الكبير أو محلات السينما.
في القامشلي هناك سوق للخضار، سوق للحم الغنم، سوق للحم العجل، الدواجن، الدراجات الآلية، الدراجات العادية. سوق للخياطين ولبياعي الأقمشة، الصناعة، سوق لبيع الحمام والصياغة والذهب.
يتمركز في الحارة الوسطى عدد كبير من السّريان والأَرْمَن، وحارة قدور بك يتمركز فيها الكثير من الكرد والآشوريين، وحارة البشيرية يتمركز فيها الكثير من الأَرْمَن الذين يتحدثون باللغة الكردية، وزنود للعرب وحارة اليهود التي يتمركز في سوق الذهب. وهناك طائفة لا أدري ماذا أسميهم يقال عنهم المحلمية في حي يسمى، قناة سويس، يتكلمون بلغة خليط من العربي والكردي، وغيرهم، بيد أن الجميع يتواصلون باللغة العربية، والكثير يتكلم اللغة الكردية بطلاقة تامة، والكثير من السّريان يتكلمون لغتهم، والأَرْمَن كذلك والآشوريون والكلدان والداغستانيين وغيرهم.
كانت العلاقات قائمة وفق نسيج اجتماعي ذي طابع ريفي.
لم يكن بين الناس حواجز أو انقسام. والعلاقات هي ودية، خوش بوش، أي إن العلاقات بين الناس مفتوحة على بعضها.
ففي الصف الواحد يجلس الكردي إلى جانب العربي أو السّرياني أو الأَرْمَني أو غيره. ولم تكن القومية أو الانتماء الديني عائقًا بين الناس. والسلطة ككيان متمركز حول ذاته وحد الهم الاجتماعي في هم واحد هو الغول المعيشي والإنساني والوطني.
ففي ثانوية عربستان الجميلة التقيت بأصدقاء قمة في الأخلاق، هدية من السماء والنجوم. أصدقاء فرشوا لي خطوتي الأولى في الحياة والثقافة والمعرفة، معهم بدأ الطريق يتشعب وينفتح على وسع.
كان سمير عروب نبيهًا، لامع الذكاء، وسيمُا وراقيًا، أصله من مدينة حمص، والده من كوادر الاتحاد الاشتراكي، محبًا للقراءة والعلم. وسلوك سمير الراقي ترك أثره الكبير في نفسي إلى اليوم ولم التق به منذ أن انتقلت إلى ثانوية العروبة، وكان هذا الانتقال الأسوا في حياتي، اسوأ قرار، تركت أجمل الأصدقاء، براءة وطفولة واحترام وتقدير، وتعرفت على أصدقاء جدد كوانيس أرو، أرمني ولكنه كان كائن مراوغًا، فنانًا بالكذب.
والمرحوم جمال زيدان، كان صديقي الرائع، وبيته كان بجانب بيت سمير عروب، ووالده كان من كوادر حزب البعث، له مكانته في البلد. أذكر كيف كان المدرسون والموجهون يسألونه عن والده كثيرًا. ويكنون له عميق الاحترام. وسمير كرم، هو أيضًا من حمص، الإنسان المنفتح بلباقة على الآخر. وكان عريفًا على الصف، وغنيًا.، وأثناء ذهابه إلى حمص في أثناء العطلة الصيفية انتمى إلى اتحاد الشباب الديمقراطي الشيوعي. وعبد الرحمن، الشاب الكردي، الشيوعي، الرقيق والطيب وصاحب الابتسامة الدائمة.
علاقتي بهؤلاء الأَطْفال لونت مسيرة حياتي بالجمال. كنّا في الصف السابع، أي: الأول الإعدادي.
أخذت رواية سقوط باريس لإيليا إيرنبورغ من سمير عروب، والبؤساء من ملك يوسف. وراح عقلي ينفتح على الحياة والآخر.
قرأت الأساطير، وولعت بها جدًا، خاصة الرومانية. ورواية بائعة الخبز. وفي الصيف قرأت رواية الأم لمكسيم غوركي. عبر هذه الرواية تأدلجت بالكامل. وكأن آلة ركبت في دماغي وفوقه ومضى يوجه طريقي.
هذه الرواية تفرض نفسها بقوة على الإنسان وتقزم شخصيته لتحوله إلى نسخة أو ظل، مسخ، صورة نمطية من شخصية بافل خاصة إذا كان طفلًا.
لقد قرأت هذا العمل في العام 1971 بيد أني ما زلت أتذكرها بقوة. وهي حاضرة في ذهني بقوة. وربما احتجت إلى نضال كثيف ومعمق حتى اتخلص من هذه الشخصية التي اسمها بافل، المناضل المأدلج، المسخر لتنفيذ غاية، هدف سام.
المناضل، الإنسان الذي نسي نفسه إنه إنسان. نسي الحب، العشق، المرأة، الإنسان، وأحب الحزب، بل عشقه فوق حبه للطبيعة وكائناتها وإنسانها. ومضى يمشي في طريقه كأنه آلة مبرمجة، موجه بأهداف سامية. منزوع الغرائز والحاجات الإنسانية.
كنت أقضي وقتي بعد الانصراف من المدرسة في حارة سمير عروب وجمال زيدان وسمير كرم. كانوا جيران، وكانت بيوتهم على مسافة قصيرة من الملعب البلدي، بجانب شركة كاتربيلار. ومن هذه الحارة إلى امتداد ضيعة حلكو كانت الأرض فارغة تمامًا. أرض بور، تزرع بالمزروعات الشتوية البعلية كالقمح والشعير.
كان هناك ثانوية العروبة، الملعب البلدي، قبور السّريان الكاثوليك إلى حلكو فارغة تمامًا.
وكان بيننا في الصف السابع الكثير من الأَطْفال المتزوجين ولديهم أطفال، ذهلت عندما سأل المعلم الطِّفْل الطويل القامة، اسمه أحمد سليمان:
– هل أنت متزوج؟
– نعم يا أستاذ. أنا متزوج
– هل لديك أطفال؟
– لدي طفل واحد.
ويدون المدرس اسم الطالب ووضعه العائلي وكأنه حدث عادي.
كان حي قدور بك هي أساس مدينة القامشلي. منها خرجت بقية الأحياء. أول من سكن فيها كانوا اليهود، ثم فقراء الأَرْمَن القادمون من الأَناضُول التركية.
جاءوا كبقايا بشر سنحت لهم الأَقدار أن يصلوا. بقايا صور يشبه من يسمى إنسان، استغفلوا الجلاد المغمور بالدم ورائحته وهيجانه وعمائه، وعدم قدرته اللحظية في التمييز بين المقتول الآن، وفي الزمن الآتي.
قسم كبير منهم بنوا قرى واشتغلوا عمال زراعيين أو فلاحين إلى أن لأح لهم أمل بالهجرة إلى أرمينيا اختياريًا في أعوام 1948 وفي العام 1964 و1965، 1966، وانتقال ما تبقى منهم إلى الحي الوسطى، اشتروا الكثير من الأراضي العامرة بالكروم، والكثير الباقي منهم فتح محلات الميكانيك والكهرباء والساعات وقطع غيار السيارات والتصوير
لقد أحببت مدينة القامشلي بأحيائها الجميلة وبساطة الناس. مدينة أقرب إلى الريف بعاداته وتقاليده وتواصله في العلاقات العامة، أقرب للعشائرية والقبلية.
تجلس العائلات أمام الباب الرئيس للحوش المطل على الشارع في العصرونية، يفصفصوا البزر أو بذور الجبس والبطيخ والقرع ودوار الشمس أويتحادثوا مع بعضهم، نساء ورجالًا، وبجوارهم أولادهم يلعبون الكرة أو الكل أو البرامات الخشبية أو أفلام السينما الصغيرة المقصوصة والمرمية في الشارع، ألعاب النصف الثاني من القرن العشرين.
في القامشلي تحررت من سطوة أمي ورقابتها لي وطلباتها التي لم تتوقف في مدينة رأس العين، وأوامرها:
– اذهب إلى السوق، اجلب بندورة وخيار ولحمة وخبز.
وبعد أن أعود:
اذهب إلى السوق، اجلب لي زراق غسيل رأس بقرة.
– لا يوجد زراق رأس بقرة. من أين أشتريه؟
– يوجد في السوق، دَوّرِ كويس.
– لكني بحثت في كل مكان، في جميع المحلات والدكاكين.
– لم تبحث بشكل جيد. لا تعد إلى البيت إن لم تجلب معك رأس بقرة. وفي طريقك اجلب لي برش الغسيل وتايت سار. ولا تنسَ اللبن. خذ معك الإِبْريق حتى تملأه.
– لقد تعبت من الذهاب والإِياب اليوم، لقد ذهبت عشر مرات إلى السوق اليوم.
– هذا عملك، وهل لديك عمل أخر؟ اذهب بسرعة. عصا غلي الماء في يدي ووعاء الغلي فوق الموقد، البابور. أنت تعرف ماذا سأفعل بك. عليك أن تعود بسرعة ومعك الحاجات التي ذكرتها. ولا تَعُد بدونها.
وأمشي مطرق الرأس، أقول لنفسي، من أين سأجلب لها زراق لتبييض الثياب أثناء الغلي، رأس بقرة؟
وفي طريق عودتي أجلب لها زراق رأس حمار.
– رجعه! رأس الحمار لا ينفع. اذهب بسرعة وإلا؟
– نحتاج إلى بندورة جيدة، ناضجة، تذكر اللبن يجب أن يكون لبن غنم. إخوتك جياع، دبر خبز مهما كلف الأمر.
هذا النوع من القمع جريمة بحق الطفل ابن الثانية عشرة من العمر، لأم سادية لا تعرف الرحمة، القمع المعنوي اسوأ من القمع الجسدي، كلاهما يقزمان عقل الإنسان ويشلانه.
وأذهب مشيًا على الأقدام كل يوم عدة مرات، أقطع خلال هذه المسافة بضع كيلومترات لجلب حاجيات البيت لإطعام أهل البيت. وعلي أن ألعب كرة القدم وأذهب إلى المدرسة وأدرس.
لم يكن السيد، راع البيت، والدي يملك المال لشراء دراجة عادي لي للتسوق، وحضرته كان سائقًا وسيارته في حوش البيت، لكنه لم يكلف نفسه الذهاب إلى السوق وجلب الحاجات اللأزمة لأسرته الكبيرة، الذي انجبها بسبب حبه لنفسه.
بينما القامشلي مدينة ريفية مكتملة تمامًا. الخضار على العربات تمر من وسط الشارع، من جانب البيت. كل شيء مؤمن. عربة تذهب وعربة تعود. وأصوات الباعة يهز السماء قبل الأرض.
تشتري والدتي كل شيء من ربطة النعناع والبقدونس إلى التفاح أو العنب أو الخيار والبيض واللبن والجبن والدجاج والديك الحبش. والسمان واللحام على مسافة بضع عشرات من الأمتار. حتى الكلل أو البرامات أو الخبز على مسافة قصيرة. باختصار كل شيء في متناول اليد. حتى الخياطين لديهم دكاكين في الحارات.
أذكر في ذلك الوقت رجلًا كرديًا يبيع البيض في سلة من القش، ويدور في الشوارع، ويبدو أنه لم يكن يعرف التحدث باللغة العربية، يصيح أثناء المشي:
– للبيض بيض، للبيض بيض، لكن بلهجة مكسرة “للبيد بيد”.
كنا نضحك عليه ونستهزء به، من لهجته، ونمشي وراءه ونقول له:
– ليش للبيد بيد يا عم؟ قل:”بيض… بيض”، يكفي!
وكانَ ينظر إلينا باستغرب، بيد أنه لا يرد ويكمل جملته الشهيرة” للبيد بيد” أو للبيض بيض.
في جوار بيت سمير عروب مدرسة ابتدائية كنا نتسلق سورها وندخل إلى الباحة. نلعب كرة السلة يوميًا تقريبًا في فصل الربيع بعد خروجنا من المدرسة. بقى بينهم في محيط بيتهم إلى أن يهل الليل. أما في الصباح فإنني أخرج من البيت باكرًا، معي حقيبتي المدرسة، وأتجه إلى إعدادية زكي الأرسوزي المطلة على شارع القوتلي. ووراء. المدرسة تمامًا ملعب صغير لنا نحن الأَطْفال نلعب كرة القدم وإلى جواره بيت النائب العام، أو نمشي قليلًا إلى الأمام، ووراء المشتل على نسق ثانوية عربستان، مكان فارغ أيضًا، نجعله ملعبًا لنا، فنلعب هناك إلى حين اقتراب موعد الدوام.
في الخريف والشتاء نخرج من المدرسة ليلًا، في الساعة الخامسة وخمس دقائق.
لم يكن في ثانوية عربستان إلا عدد قليل من الطلاب من الحارة الوسطى. نمشي أنا والصديق ملك يوسف كل يوم من الصباح ونعود إلى البيت في الساعة السادسة إلا ربع.
نمشي في شارع الجسرين، نمتع عيوننا بمشاهد المحلات، السَّيّارات، والناس، والإضاءات المجانية الجميلة النابعة من المحلات العامة، وندخل إلى المكتبات الخاصة كمكتبة أنيس مديواية أو نسلم على الأصدقاء والمعارف.
الاستفتاء:
وقفت أمام باب خشبي عتيق لدكان صغير في حارتنا في مدينة القامشلي، لونه أخضر.
وضعت يدي حول خصري، متأملًا، يغمرني الفخر والاعتداد بالنفس أمام صورة الرئيس في أعلى صفحة ورقية للإعلانات، هو ضمنها، وتحته تمامًا دائرتان، إحداهما باللون الأَحْمَر والأخرى باللون الأسود. ويشير اللون الأَحْمَر إلى كلمة، هل أنت موافق، أما الأخرى، ذات اللون الأسود فتشير: هل أنت غير موافق؟
كنت وقتها أقل من الثالثة عشرة من العمر بخمسة أشهر.
في هذه اللحظة دبّ فيّ الحماس، فدخلت إلى الدكان، وطلبت من صاحبه قلمًا لأعبر عن رأيي في هذه الورقة الملصقة على الباب، ولأضع إشارة على إحدى الدائرتين.
زجرني العم حنا صاحب الدكان الصغير، قال لي:
– انقِلِعْ من هنا.
وقفت مبهوتًا أنظر إليه:
– ولماذا هذا الكلام الثقيل يا عم؟ أريد أن أعبر عن قناعتي كما تشير هذه الورقة.
– اذهب إلى شغلك، هذه الورقة ليست لك أو للعب.
– من قال لك إنني ألعب. أريد أن أدلي بصوتي، فلماذا تمنعني من إبداء الرأي؟
– لا زلت صغيرًا على هذا الأمر. ثم الناس لا يصوتون على أبواب الدكاكين العتيقة. عليك الذهاب إلى المركز، والإدلاء بصوت هناك.
– وأين هو المركز؟ أريد الذهاب إليه الآن.
– الساعة الآن تشير إلى السادسة بعد الظهر، وكما تعلم، فإن أغلب دوائر الدولة أغلقت أبوابها الآن.
– إذا ذهبت غدًا، هل سيسمحون لي بالتصويت؟
– لا أعتقد. امشِ من هنا، هذا التصويت ليس لك.
لا أعرف لماذا تعرش الحماس إلى عقلي في هذه اللحظة؟
فأنا لم أكن أعرف أي شيء عن الرئيس، سوى أنه الرئيس الجديد لسوريا، وجاء بعد انقلاب أبيض. ولم أكن أعرف أسم أي رئيس سوري سابق، ولم أكن أعرف ماذا يعني انقلاب عسكري أو غيره، وكنا نكرر ما كان يتداوله الكثير من الأطفال أمامي.
كما لم أكن أعرف ماذا يعني الرئيس لنا كسوريين، ولا الفارق بين الاستفتاء، والانتخاب، ولا لماذا أردت أن أعبر عن رأيي؟
ربما شعرت في هذه اللحظة أنني ودعت فترة الطفولة، وأصبحت رجلًا يحسب له ألف حساب، حسب اعتقادي في ذلك الوقت.
وربما العاطفة الفائضة عن الحاجة هي السبب. وربما لأن تفكيرنا مشكل من عدة عواطف متناقضة. وربما أصبح لي مكانة وقدرة في السيطرة على قراري أو هكذا كنت أخمن، لهذا شعرت أنني أستطيع أن أصوت بالرفض أو القبول لأعلى منصب في البلاد.
منذ طفولتي المبكرة كنت أشعر بالتهميش، مثل أي طفل في بلادنا، إنني من دون صوت، ومن دون إنسان يسمع صوتي.
ظننت للوهلة الأولى أنني خطفت الزمن، وتحولت بين لحظة وأخرى إلى كائن آخر. لهذا لم يكن يهمني زجر صاحب الدكان حنا. وظننت أن التصويت يجب أن يكون على الأبواب الخشبية الخضراء العتيقة.
بالنسبة لي في ذلك الوقت ليس مهمًا من هو صاحب الصورة، وماذا يعني. كنت أعني نفسي في هذا الوقت الميت.
دخلت إلى البيت رأيت إخوتي وأمي إلى جانب مدفأة المازوت متحلقين حولها، في حالة صمت مطبق، كل واحد في يده كتابه يقرأ أو يكتب، وإلى جوارهم القطة رورو تشخر.
قلت لأمي:
– غدًا سأذهب إلى المركز لأصوت للرئيس.
ضحكت والدتي حتى كادت تقع على ظهرها من شدة السخرية مني:
– ماذا قلت لي؟
– أريد أن أصوت. أنا جاد جدًا لماذا تضحكين.
– بلا تصويت بلا بطيخ. اذهب وبدل ثيابك، وتعال لتأكل لقمة من الطعام الذي جهزته لك. ليس وقته هذا الكلام الفارغ.
– لماذا تسخرين مني؟ لماذا تتعاملين معي على أني طفل صغير؟
– ماذا تعرف عن الرئيس؟
– لا شيء. لكن المناسبة جميلة أن أصوت للرئيس الذي نراه في الجرائد والمجلات.
– تريد أن تصوت وأنت لا تعرف السياسة وأبعادها، ولا تعرف لماذا وُضِعَ رئيسًا، ولماذا، هذا الاستفتاء ولمصلحة من؟
– كلامك منطقي يا أمي، بيد أن السؤال يقول:
” لماذا أعترضُ عليه أو أوافق”؟
– أنت من يريد أن يصوت وليس أنا.
– صورته يا أمي تشير إلى البراءة والطيبة. الرئيس يريد رضا الناس.
ضحكت أمي مرة ثانية في ظل العيون المفتوحة على وسع من قبل إخواتي الصغار. كل واحد منهم مال برأسه وعينيه إلى زواية أفقية وعمودية مختلفة، يتابعون حديثنا من دون أن يفهموا شيئًا.
– قلت لي صورته بريئة؟ وهل رؤساء الدول أبرياء؟ هل سمعت بإنسان يقفز إلى أعلى منصب في الدولة، وبريء؟
طويت نفسي على نفسي خجلًا، وأخذت الملعقة ومضيت أكل الطعام بصمت من دون أن أرفع رأسي.
في تلك الفترة كانت الحياة السياسية العالمية في حالة انتقالات كثيرة:
انفتاح الصين على العالم الخارجي، المناوشات العالمية كما هي العادة، الحرب بين الهند والباكستان، الحرب الأمريكية على فيتنام، الاتحاد السوفييتي في قمة مجده وقوته كما كنّا نعتقد، الحلم بالوحدة العربية، خسارة مصر والعرب لقامة سياسية كبيرة كعبد الناصر الذي مات في ظروف غامضة، ومجيء الرئيس أنور السادات، وحديث المعلمين الغني بالثقافة والمعرفة والحماس لتحرير الأرض والإنسان من العبودية.
كنت أسمع وأتابع وأتفاعل، بيد أن التعرش على السياسة في مرحلة مبكرة جدًا خطر على الطِّفْل وعواطفه وتفكيره.
وفي هذه الفترة المبكرة من طفولتي، جلبوا لنا ورقة من الورق المقوى، لونها أبيض خالص عليها صورة الرئيس ووزع علينا:
– طلب انتساب لاتحاد شبيبة الثورة التابع للبعث، لمن يريد ويرغب؟
في هذه اللحظة أيضًا شعرت بالفخر والحماس والعاطفة الجياشة أن ألبي نداء من يعمل لي مكانة وقيمة ويحس بمكانتي بين الناس، أن أكون شيئًا مهمًا يشار إليه بالبنان.
قلت لحامل الورق:
– أنا موافق ودون تردد.
– أنت موافق؟
– نعم.
– هل قرأت ماذا يوجد في الورقة؟
– ليس مهمًا قراءة مضمونها. المهم أنكم تريدون ذلك.
– اكتب اسمك وسنك ووقع.
وقعت بكل سرور، والفرح يغمرني من رأسي إلى أخمص قدمي. وبعد انتهاء الحصة قال لي صديقي سمير:
– لماذا وقعت ودخلت منظمة سياسية تابعة لحزب النظام السياسي؟
– ماذا تعني منظمة سياسية، وماذا يعني حزب حاكم؟
– أنت الذي وقع وليس أنا. كان الواجب أن تسأل والدك أو أصدقاءك أو أحد المقربين منك قبل أن توقع.
ركضت إلى الطِّفْل الآخر، صديقي في الصف الذي كان في مثل عمري، وكان عريف الصف، قلت له:
– جمال يا أخي جمال، أريد أن آخذ طلب الانتساب الذي قدمته، لا أريد أن أصبح في منظمة سياسية، هذا كل ما في الأمر.
– لماذا؟ لماذا ندمت على ذلك؟
– سمير نصحني بذلك.
نادى جمال على سمير، وقال له:
– لماذا تحرضه ضد الانتساب؟ هذا لا يجوز! يجب عليك أن لا تتدخل في هذا الموضوع وإلا سأخبر موجِّهَ المدرسة بذلك ويرفعك فلقة ممتازة.
نظرا إلي، سمير وجمال، كل واحد بعين وزاوية عين. ونظرت إلى نفسي بخجل.
قلت لنفسي:
– أنا هكذا دائمًا، أتسرع في اتّخاذ القرارات المصيرية من دون تفكير أو تروٍّ.
أول جريدة سرية في حياتي:
إحدى المرات طلبت مني أمي أن أذهب إلى اللحام لأجلب نصف كيلو لحم. لم أكذب خبرًا. وقفت إلى جانب الطاولة، داخل الملحمة. وبجانبي امرأة. كانت تتكلم في السياسة، حول الوضع المعيشي. ودون تحضير مسبق انخرطت في الحديث. تكلمت عن شح الخبز في الأفران، عدم وجود بيوت فارغة للإيجار، الرواتب القليلة. كان المستمع شابًا كرديًا اسمه محمد، ابو خالد. وقف يصيغ السمع لحديثي. قال:
– لقد خرجت المرأة الأن! هل يمكننا أن نتحدث؟ هل لديك مانع؟
– بالطبع لا. ولماذا؟ في ماذا سنتحدث؟
– لدي موضوع أريد أن اطرحه عليك.
– موضوع؟ بماذا يتعلق هذا الموضوع؟
– عندما نلتقي سأقول لك.
– أين يمكننا أن نلتقي؟
– هل يمكننا أن نلتقي في المشتل.
– في المشتل؟ لماذا؟ يمكنك أن تتكلم هنا. لماذا تريديني ان أقطع مسافة طويلة للتحدث هناك. هنا، الوقت متسع للحديث.
– في المشتل أفضل.
في الحقيقة خفت من اصرار ابو خالد. أنا طفل في الثالثة عشرة من العمر أو أقل بقليل. وأبو خالد رجل كبير، في الثلاثين. قلت له:
– لا استطيع المجيء إلى المشتل. عليك أن توضح لي ماذا تريد مني قبل أي شيء آخر.
– لدي شيء سري، جريدة للحزب الشيوعي السوري، أريدك أن تقرأها.
– جريدة؟ سرية؟ حزب شيوعي؟ ولماذا أنا؟
تذكرت على الفور، مدرس التربية الوطنية حين تحدث دون مقدمات. وبطريقة استعراضية، قال:
– لو ذهبت إلى البيت، وقلت لوالدي أنني شيوعي سيقتلني.
– لماذا يا استاذ؟ لماذا سيقتلك؟ ماذا يعني شيوعي؟
– إنهم كفار، لا يؤمنون بالله. لهذا اخترت البعث. الله أولا ثم البعث.
بقيت هذه الكلمة في ذهني، وجلجلت مرة ثانية. تذكرت خوف والدي الكبير من هذه الكلمة، السجن، الله. بافل بطل رواية الأم. واليوم أبو خالد.
وافقت. أن نلتقي في المشتل. كانت هناك أحداث خطيرة في المنطقة مثلما هي دائمًا. الانقلاب في السوادن، هاشم العطا، الشفيع احمد الشيخ، عبد الخالق محجوب. عام الحسم الذي طرحه السادات في ذلك العام. تربع حافظ الأسد على الكرسي بعد أن بسط سيطرته على كل مقدرات البلاد ومسك بيده كل صغيرة وكبيرة.
الضخ الاعلامي، البروبوغندا التي كانت تمارسها السلطة السوفيتية. حالة الفوضى التي اجتاحت المنطقة بعد غياب جمال عبد الناصر، الحرب الهندية الباكستانية وانقسام هذه الأخيرة إلى دولتين. واشتداد الصراع في فيتنام ضد الولايات المتحدة. الغزل الامريكي الصيني، والخلاف الصيني السوفيتي. كان العالم في صراع منضبط، بعد خروج الكثير من الدول المحتلة من ربقة السيطرة العسكرية ونيلها حريتها السياسية.
واستلم حافظ الاسد البلاد على طبق من ذهب دون أن يطلق رصاصة واحدة.
ومضى يعهر ويكشف عن الغموض الذي تربع عليه. والتموضع الحقيقي لتكوينه النفسي والعقلي والسياسي. لقد صعد مثل البرق في سلم الحكم، من رتبة نقيب في العام 1963 إلى رتبة لواء في العام 1966 ثم فريق بعد الهزيمة المجلجلة في التاريخ الحديث التي غيرت موازين القوى على الصعيد الدولي.
الحرب الخاطفة التي جرت في العام 1967 كشفت عمق الخراب في المنظومة التي كانت تتدعي أنها اشتراكية. وعرت تلك القوى الهشة التي تنطحت في الدفاع عن الشعوب المقهورة. وكشفت عن عمق الارتباط بين حكومات الاستقلال في العالم الثالث والغرب.
مضى حافظ الأسد يحفر، ويكرس وجوده الشخصي في الحكم عبر تقريب أبناء عائلته، طائفته، ويمد الجسور ليرسي الانقسام الاجتماعي والاقتصادي بحرفية عالية ودقة في التخطيط الاخطبوطي لتمزيق ما يمكن تمزيقه.
منذ العام 1971 بدأنا نسمع اللهجة الساحلية في الشارع. ونسمع من يقول بصوت عالي وواضح:
– أنا من فرع الأمن السياسي. أنا من فرع أمن الدولة. أنا من الشرطة العسكرية.
وازداد عدد رجال الأمن في كل الأقسام المدنية والعسكرية. وأصبحوا ينتشرون كالفطريات في الشوارع. وبدأت أجهزة الأمن بكل فروعها تتوسع أفقيًا وعمودًا وتمد أذرعها في كل مكان. تشتري هذا وتقرب ذاك. وأصبح الإغراء بالتقرب من السلطة عبر البوابة الخلفية مغريًا للكثير من النفوس الضعيفة. وتسلل الاخطبوط الأمني بين الناس:
بدأوا بنشر الإشاعات. وبرمي الفتن. وشيعوا الخوف والشك بين المواطنين. وبدأ الجار يشك بجاره، والأخ بأخيه. وأصبح التكلم باللهجة العلوية يمنح الحماية للبعض ويشعره بالتفوق. ومضى الكثير يقلد هذه اللهجة ليحس بالقوة والأمان. وتدفق المال السياسي الخليجي للبلاد ودخلت الطفرة المالية في حياة الناس. ومضى حافظ الأسد يقرب الفاسدين واللصوص وقطاع الطرق من سلطته. يشتري هذا ويبيع ذاك. ويمنح كل حرامي عفو وراء عفو ليعوم الخراب ويرسي معيارا جديدا لحياة السوريين القادمة. وكأن هناك من يرشده أو يخطط له طريق سيره. ومضى الإعلام السلطوي ينفخ في حافظ الاسد عبر توجيه حثيث منه. ليرفعه إلى مصاف الآلهة والرسل. وبدأ يقدم نفسه على أنه منقذ سوريا، ورجل دولة ومخلص.
كنا نتابع التطورات في بلدنا عبر جرائد النظام، البعث والثورة، والصحف كالطليعة السورية وجيش الشعب والفرسان.
بدأ حافظ الأسد يتغلغل بهدوء، بشكل مدروس دون أن يستفز مشاعر الناس أو يخذلها. افرج عن أغلب السجناء السياسيين، وتقرب من الأحزاب السياسية التقليدية ووعد الناس بجبهة وطنية تقدمية، ومجلس للشعب تمثله أحزاب سياسية مفصلة على مقاس نظامه وإدارة محلية. وفي السر نشر المخبرين بين هذه الأحزاب التي تعمل معه. واشترى الكثير من القيادات مما جعله يحول قيادات تاريخية إلى مسخ كخالد بكداش وعبد الغني قنوت وفايز اسماعيل وغيرهم.
إن تسليط الضوء على أغلب بلدان العالم الثلث يمنحنا القدرة على معرفة الحقيقة لتشابه توزيع الأدوار على الجميع. ودائمًا هناك أقلية مسحوقة، مهمشة معدومة، جاءت إلى السلطة عبر الانقلاب. وبعد ذلك انقلب حالها، وبين ليلة وضحاها تحولت من أقلية مسحوقة إلى أقلية مسيطرة بقوة السلطة، تمسك المجتمع كله عبر بوابة القوة والغول الأمني. ومضت تلك الأقلية السلطوية، تعمل دون كلل أو ملل لامتلاك البلاد والعباد. وأصبح لديها قدرات خيالية في اللعب على تناقضات المجتمع.
وهناك تشابه بين موبوتوا الكونغو، وعراق صدام حسين، وزعماء تشاد، وقذافي ليبيا، ونميري السوادن أو البشير أو تشيلي أو اندونيسيا. وما أن رفعت الولايات المتحدة الغطاء السياسي عن البعض منهم حتى ذابوا كالملح كموبوتو سيسيكو في الكونغو وسوهارتو في اندونيسيا وبينوشيه في تشيلي.
ذهبت إلى المشتل، رأيت محمد أبو خالد برفقة رجل آخر. اعتذر من صديقه. واقترب مني. أخذني إلى جنب وتكلم معي بصوت منخفض:
– هذه جريدة الحزب الشيوعي السوري، نضال الشعب، وجريدة، في سبيل الأرض.
– قلت لي سابقًا؟ الا تخاف أن يسجنوك؟
– خذها الأن. اقرأها، وسنتكلم عن مضمونها فيما بعد!
مسكت الجريدة خائفًا.
كان هناك صوت الضحايا في ذاكرتي، يصرخون في أقبية عبد الناصر وعبد الحميد السراج والبعث. صوت والدي المرعوب. وقفت حائرًا، ممزقًا، بين القبول والرفض. الرغبة والفضول في المعرفة والنتائج المترتبة على أخذها. نظرت حولي. كان الناس مشغولين بأنفسهم. رجال بصحبة نساءهم وأطفالهم. العشاق يتهامسون حرقة، يتبادلون النظرات المملوءة بالشوق والرغبة المبطنة. ورغبتي أن لا أكون في اللحظة والزمن ذاته. أن أعرف ولا أعرف. قبل أن أمشي، قال:
– خبيهم. لا تترك أي إنسان يعرف شيئًا عنهم، أبوك أو أمك أو أخوتك.
-اطمئن. أبي وأمي لا يعرفون القراءة والكتابة. لا أحد لديه الفضول ليعرف ما بداخل هذه الورقة العجوز.
وضعتها في عبي ومشيت. وكأني محمل بالمتفجرات أو فعلت شيئا معيبًا يضر بالمجتمع والبلاد.