1- تقديم:
يُعَدُّ الدّكتور عبدالصّمد الدّيالمي، من أبرز علماء الاجتماع في المغرب الرّاهن، ومن القلائل الذين لهم مشروعٌ فكريّ واضح المعالم، حيث اهتمّ في الأوّل برصد وتشخيص المسألة الجنسانيّة في المغرب، ومع مرور الزّمن وتراكم الخبرة، أصبح مشروعا طموحا يسعى إلى تحقيقه في العالم العربي والإسلامي عامّة، نظرا للمحدّدات الحضارية والثقافيّة والدّينية واللّغويّة التي تتقاسمها دوله. وهذا ما حاول بلورته في نظريّته الموسومة بـ (الانتقال الجنسي)، والتي تقوم على مفارقة تميّز الجنسانيّة قبل الزوجيّة والجنسانيّة البغائيّة والجنسانيّة المثليّة، وكلّها تعبيرات عن الانفجار الجنسي، أي عن انفجار الوحدة بين المعايير الجنسيّة والسّلوكات الجنسيّة، والمفارقةُ تكمن في التّناقض بين المعايير الجنسيّة الدّينية وبين الممارسات والسّلوكات الجنسيّة المُعَلْمَنَةِ. ذلك أن الشّباب المغربي والعربي أصبح يبدع استراتيجيّات خاصّة للالتفاف على قيود التّحريم الدّيني، والتّجريم القانوني، والمنع المجتمعي.
ولم يكتف الدّيالمي بجعل المسألة الجنسانيّة مجرّد مسألة سوسيولوجيّة، وإنّما تبنّاها كقضيّة اجتماعيّة لأنّ الجنسانيّة اللّاقانونيّة في العالم العربي الإسلامي تسعى لتصبح حقّا من حقوق الإنسان.
أصبح غنيّا عن البيان بأنّ الدّيالمي يدافع عن الجنسانيّة قبل الزّوجيّة والخارجة عن إطار الزّواج، انطلاقا من قناعات علميّة تجد تعبيرها الأساسي في القيَم الحداثية والعلمانيّة، فقناعاته الحداثيّة مسنودة بنتائج وخلاصات دراساته السّوسيولوجيّة، الميدانيّة[1] والنظريّة[2]، التي تفنّد طروحات التيّارات النّكوصيّة التي تقارب السّلوكات الجنسانيّة للأفراد من مرجعيّة تقليديّة تقوم على قراءات مذهبيّة، وبالخصوص على قراءة حرفيّة للنّصوص الدينيّة[3].
ويُعتبر هذا النصّ الذي نقدّم له ونترجمه في هذه الورقة لَبِنَةً أساسيّة تستكمل موقف الدّيالمي حول هذه القضيّة، والتي لا تُخفي انتصارها لكونيّة حقوق الإنسان، لا كحقوق ومُثُلٍ عليا مجرّدة فقط، وإنّما كذلك كواقع اجتماعي، وكمطالب آنيّة تفرض نفسها على الدّولة وعلى المجتمع. وفي الواقع، هذا النصّ هو تعليق يتضمّن ملاحظتيْن، الأولى موجَّهة للفيلسوف المغربي علي بنمخلوفAli BENMAKHLOUF*، والثّانية موجّهة لمكتب اليونسكو بالرّباط والمجلس الوطني لحقوق الإنسان(CNDH)، اللّذين أعدّا، بشراكة، دليل التّربية على حقوق الانسان، ونظّما حفل تقديمه يوم 17 دجنبر 2015، والذي حضره الدّيالمي بصفته ضيفا مستمعا. وهاتان الملاحظتان تتضمّنان فكرة أساسيّة تتمثّل في أنّ “حقوق الانسان ليست موضوع إيمان، بل هي قيمةٌ أساسيّة يتربّى عليها الشّباب”.
2- النّصّ الأصلي:
تنصّ »الفقرة الخامسة «من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنّ » شعوب الأمم المتّحدة قد أعادت في الميثاق تأكيد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسيّة، وبكرامة الإنسان وقيمته، وبتساوي الرّجال والنّساء في الحقوق، وحزمت أمرها على النّهوض بالتّقدّم الاجتماعي وبتحسين مستويات الحياة في جوٍّ من الحرية أفسح « . في رأيي، إنّ استعمال مفهوم الإيمان واضح كاستعارة أو مجاز بسيط من قِبل الشّعوب. فالإيمان هنا مفصول عن مضمونه الدّيني ليدلّ بكلّ بساطة عن الثّقة في شيء غير دينيّ، وهو أمر غامض بالفعل، خاصّة أنّه يجمع بين سجلّيْن متغايريْن. لذلك لا يمكن تعزيز هذا الأمر من لدن مواطن[4] عليه احترام الدّقّة المفاهيميّة.
إنّ جعل حقوق الإنسان موضوع إيمان فعل خطير يكاد يعني أنّ حقوق الانسان غير قابلة للإثبات، بديهيّة لا يتمّ تصديقها إلّا بفضل الإيمان. على إثر ذلك، تُحوّل حقوق الإنسان إلى نوع من الدّين المدني الكوني، دين يسعى إلى أن يحلّ محلّ جميع الأديان الأخرى. وهذا الموقف يؤدّي في حالة المغرب إلى هذيان شعبيّ، أي أنّه يثير جدلا وتوترات، بل عنفا. المجتمع الدّيمقراطي لا يقوم على الإيمان (مهما كان) لأنّ الإيمان متعدّد ولا يمكن أن يعلوَ أيّ ايمان على غيره. لهذا السّبب، فعالميّة حقوق الإنسان لا تتأتّى، أو لا تنشأ من حقيقة أنّها موضوع إيمان، أي غير قابلة للإثبات، بل على العكس يمكن الوصول إليها ودعمها من قِبل أدلّة وحجج علميّة (وخاصّة ميدانيّة). فعقلانيّتها تفرض نفسها على كلّ إنسان يتمتّع بحسّ سليم، فذلك الشّيء “هو الأفضل قسمة في العالم”. لذلك، فَمِنَ التّناقض التّأكيد على أنّ حقوق الإنسان موضوع إيمان وفي نفس الوقت على أنّها نظام عامّ: فالإيمان، مهما كان، يمنع العقل من أن يصير نظامًا عامًا. فحقوق الإنسان لا يمكن أن تكون إيمانا وعقلا في الآن نفسه. إنّها “السّبب” الوحيد والموحّد الذي يتعارض مع الإيمان التعدّدي “للذّات” الجمعيّة.
يبدو لي أنّ إحدى المهامّ المشترَكة هي تعزيز التّفكير العقلاني في المغرب، انطلاقا من المنشور المتعلّق بحقوق الإنسان[5] على أساس الأسئلة التّالية:
- إلى أيّ حدّ يَحترم الدّستور والقوانين والإجراءات القضائيّة الجيل الأوّل من حقوق الإنسان، المتعلّق بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، للمواطنات والمواطنين المغاربة؟ على سبيل المثال، الحقّ في الحرّية الدّينية والمساواة بين الجنسيْن في الحقوق. ما هي نقاط القوّة والضّعف، والفُرَص والعوائق بشأن الجيل الأوّل لحقوق الإنسان؟
- إلى أيّ حد يَحترم الدّستور والقوانين والإجراءات القضائيّة الجيل الثّاني، والمتعلّق بالحقوق الاجتماعيّة والاقتصادية[6] للمواطنين المغاربة؟ على سبيل المثال الحقّ في التّعليم والشّغل، الحقّ في التّغطية الاجتماعيّة… ما هي نقاط القوّة والضّعف، والفُرَص والعوائق بشأن الجيل الثّاني لحقوق الإنسان؟
- إلى أيّ حدّ يَحترم الدّستور والقوانين والإجراءات القضائيّة الجيل الثّالث، المتعلّق بالحقوق الجنسيّة والإنجابيّة للمواطنين المغاربة؟ على سبيل المثال، الحقّ في الممارسات الجنسيّة الرّضائيّة (بغضّ النّظر عن نوع التّشريع المعمول به في نظام الزّواج)، والحقّ في الحماية من الأمراض المنقولة جنسيّا، وداء فقدان المناعة/ الإيدز، وضدّ الحمل غير المرغوب فيه… ما هي نقاط القوّة والضّعف، والفُرَص والعوائق بشأن الجيل الثّالث لحقوق الإنسان؟
- إلى أي حدّ يَحترم الدّستور، القوانين والاجراءات القضائيّة الجيل الرّابع من حقوق الإنسان، والمتعلّق بالحقوق البيئيّة، للمواطنات والمواطنين المغاربة؟ على سبيل المثال، الحقّ في الماء، الحقّ في الصّرف الصّحّي… ما هي نقاط القوّة والضّعف، والفرص والعوائق بشأن الجيل الرّابع لحقوق الإنسان؟
انطلاقا من هذه التّساؤلات الأربعة الكبرى، والمحترِمة للمنشور الخاصّ بحقوق الإنسان، يمكننا تكوين رؤية متكاملة عن الاستجابة المغربيّة للضّرورة العقلانيّة لحقوق الإنسان، ومعرفة إلى أيّ حدّ تكون الاستجابة كافية أو غير كافية، مع احترام التّرابط أو عدم قابليّة التّجزئة بين الأجيال الأربعة المذكورة أعلاه.
بناء على هذه المعاينة التّشخيصيّة، سيكون من الممكن بعد ذلك إنجاز دليل (ملائم) للتّربية على حقوق الإنسان موجّها للمدرّبين الذين من المفترض فيهم أن يقوموا بتربية الشّباب وتثقيفه في هذا المجال. الدّليل مكوَّن من أربعة أجزاء، وكلّ جزء خاصّ بجيل من الأجيال الأربعة. دليل يتضمّن أكثر من عشرين مرتكزا بيداغوجيّا، خمسة منها لكلّ جيل من حقوق الإنسان، لتفادي التّركيز على الحقوق المدنيّة والسّياسيّة من جهة، ومن جهة أخرى، إخفاء بعض من الحقوق الأخرى التي يقال عنها أنهّا حقوق مزعجة. يجب الانطلاق من معاينة مفادها أنّ جميع حقوق الإنسان مزعجة لكلّ نظام سياسيّ يرفض أن يتحوّل بطريقة نسقيّة الى نظام ديمقراطي.
في هذا الصّدد، نشير إلى أنّ الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة، باعتبارها من حقوق الإنسان، التي تهمّ أكثر فئة الشّباب، من سنّ 15 إلى 16 سنة. هذه الحقوق هي الأكثر حظًّا لتحفيز وتعبئة الشّباب، وجعلهم أكثر حساسيّة أو ميْلا لحقوق الإنسان بشكل عامّ.
يجب أن يتيح الدّليل للمدرّبين إمكانيّة تعريف الشّباب بأنّ حقوق الإنسان قد ساهمت في بلورتها الفلسفةُ والعلومُ الاجتماعيّة، وأنّه ينبغي ترسيخها كلّها من طرف القوانين الوطنيّة. وينبغي ألّا تصير إيمانًا بل قناعة عقلانيّة راسخة من المعقول تبنّيها، قناعة ينبغي الدّفاع عنها بشغف من أجل تحقيق العيش المشترك والكرامة للجميع.
من حقوق الإنسان التي تسمح بالعيش المشترك الكريم، الحقّ في الحرّيّة الدينيّة. والواقع أنّ المادّة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنصّ على أنّ لكلّ شخص حقّا في حرّيّة الفكر والوجدان والدّين، ويشمل هذا الحقّ حرّيّته في تغيير دينه أو معتقده، وحرّيّته في إظهار دينه أو معتقَده بالتّعبّد وإقامة الشّعائر والممارسة والتّعليم بمفرده أو جماعةً أمام الملأ أو على حِدَةٍ. بل هو حرّ في تغيير دينه أو ألّا يكون له دين. وجميع الأفراد متساوون بغضّ النّظر عن مواقفهم من الدّين (الأديان). وهذا بالذّات هو ما يُلزم كلّ فرد باحترام الآخر سواء كان متديّنا أو غير متديّن، الأمر الذي يحميه من كلّ دغمائيّة وتعصّب.
بإقامة الحرّيّة الدّينيّة (على المساواة) كحقّ أساسيّ، تكون حقوق الإنسان في آن واحد حرّة ومحترمة لجميع الأديان، ولكلّ إيمان، وبالتّالي تدلّ على سموّها وتفوّقها على كلّ ديانة.
[1] – انظر مثلا: عبدالصّمد الدّيالمي، المعرفة والجنس: من الحداثة إلى التّراث، مطبعة النّجاح الجديدة- الدّار البيضاء، الطّبعة الثّانية، 2010.
عبدالصّمد الدّيالمي، المدينة الإسلاميّة والأصوليّة والإرهاب: مقاربة جنسانيّة، رابطة العقلانيّين العرب/ دار السّاقي- بيروت، 2008.
عبد الصّمد الدّيالمي، الانتقال الجنسي في المغرب: نحو الحقّ في الجنس، في النّسب، وفي الإجهاض، دار الأمان- الرّباط، 2015.
[2] – انظر مثلا: عبدالصّمد الدّيالمي، المرأة والجنس في المغرب، دار النّشر المغربيّة- الدّار البيضاء، 1985.
Abdessamad Dialmy, Jeunesse, Sida et Islam, Casablanca, Eddif, 2000.
Abdessamad Dialmy, Logement, sexualité et islam, Eddif, Casablanca, 1995
Abdessamad Dialmy, Ville sexualité et islamisme, édition, Onze, 2018
Abdessamad Dialmy, Transition sexuelle : Entre genre et islamisme, L’Harmattan, 2017
[3] – محمّد الدّحاني، الحرّيّات الفرديّة في المغرب من منظور عبدالصّمد الدّيالمي، منشور على موقع مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، انظر الرّابط: t.ly/h8OD (شوهد يوم 10 شتنبر 2021).
* فيلسوف مغربي متخصّص في المنطق والفلسفة الاسلاميّة.
[4] – الدّيالمي يقصد هنا علي بنمخلوف الذي استعمل مفهوم الإيمان بالدّلالة الدّينيّة أثناء مداخلته لمناقشة دليل التّربية على حقوق الانسان، الأمر الذي أزعج الدّيالمي، لأنّ مفهوم الإيمان الموجود في الفقرة الخامسة من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واضح بحيث استعمل كاستعارة لا تحمل أبدا الدّلالة الدّينية لمفهوم الإيمان، خاصّة وأنّ علي بنمخلوف فيلسوف من المفترض فيه أن يلتزم الصّرامة والدّقّة المفاهيميّة. وهذا ما وجدناه في النّسخة الأوليّة لهذا النّصّ قبل أن يعدّله وينشره الدّيالمي في كتابه المشار إليه في التّوثيق أعلاه.
[5] – المقصود بالمنشور هو “دليل التربية على حقوق الإنسان « المُعدّ بشراكة بين مكتب اليونسكو بالرّباط والمجلس الوطني لحقوق الإنسان (CNDH)، في دجنبر سنة 2015.
[6]– ملاحظة: الجيل الثاني يشمل حتّى الحقوق الثقافيّة إضافة إلى الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة
المصادر والمراجع:
العربيّة:
- الدّيالمي، عبدالصّمد، المعرفة والجنس: من الحداثة إلى التّراث، مطبعة النّجاح الجديدة- الدّار البيضاء، الطّبعة الثّانية، 2010.
- الدّيالمي، عبدالصّمد، المدينة الاسلاميّة والأصوليّة والإرهاب: مقاربة جنسانيّة، رابطة العقلانيّين العرب/دار السّاقي- بيروت، 2008
- الدّيالمي، عبدالصّمد، المرأة والجنس في المغرب، دار النّشر المغربيّة- الدّار البيضاء، 1985.
- الدّيالمي، عبدالصّمد، الانتقال الجنسي في المغرب: نحو الحقّ في الجنس، في النّسب، وفي الإجهاض، دار الأمن- الرّباط، 2015.
- الدّحاني، محمّد ، الحرّيّات الفرديّة في المغرب من منظور عبدالصّمد الدّيالمي، منشور على موقع مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، انظر الرّابط: ly/h8OD(يوم 10 شتنبر 2021).
الفرنسيّة:
- Dialmy Abdessamad, Jeunesse, Sida et Islam, Casablanca, Eddif, 2000.
- Dialmy Abdessamad, Logement, sexualité et islam, Eddif, Casablanca, 1995
- Dialmy Abdessamad, Ville sexualité et islamisme, édition, Onze, 2018
- Dialmy Abdessamad, Transition sexuelle : Entre genre et islamisme, L’Harmattan, 2017