ملخص:
يمثّل مصطلح “دين” -بوصفه مصطلحا خِطابيّا[1]– ركنا محوريا ولكن مهملا من ملامح الفكر الإسلاميّ منذ القرن التاسع عشر. فقد استعمل المفكرون العرب المسلمون بدءا بمحمّد عبده (تـ1905) وصولا إلى المفكّرين الجدد من أمثال نصر حامد أبو زيد (تـ2010)، مصطلح الدين باعتباره مصطلحا نقديّا، قصد إنشاء نقد للتقليد وللحداثة، واستراتيجيّة للتجديد. وقد تتسنّى لنا مقارنة هذا الخطاب بالدراسات الدينية منذ القرن التاسع عشر، والتي استعملت أيضا الدين من أجل إنشاء منظور يتناول تاريخ البشر الدينيّ. وفي هذه المساهمة، فإنّني أعتبر أنّ التقليديْن الفكريّيْن اللذين وظّفا الدين-أعني التقليديْن الكانطيّ والإسلاميّ الحديث-إنما يتميزان بأسلوبين مختلفين في النظر إلى العالم والذات و”الآخر” ووضع الحداثة السياسيّ. وبدلا من توظيف اتجاهات الفكر الغربيّ المهيمن لتقييم الفكر الإسلاميّ الحديث، فإنّني أوظّف هذا الفكر الإسلاميّ ذاته لأسلّط النظر على الاتجاهات المميزة للفكر الغربيّ. ولئن انطلقت من الفكر الإسلامي الحديث، فإنني في الحقيقة أرمي إلى التحقيق في كلا الفكرين الغربي والإسلامي، انطلاقا من موقف كلّ واحد منهما من الآخر.
الكلمات المفاتيح: الدراسات الإسلاميّة، التحديث الإسلاميّ، الإصلاح الإسلاميّ، الدراسات الدينيّة، الدين، طلال أسد، ما-بعد-الاستعماريّ، لا-استعماريّ[2].
Abstract:
The term ‘religion’ as a discursive term occupies a dominant, but neglected feature of Muslim intellectual reflections since the 19th century. Intellectuals from Muḥammad ʿAbduh (he died in 1905) to recent scholars like Naṣr Ḥāmid Abū Zayd (he died in 2010) have used religion as a critical term to develop a critique of tradition and modernity, and a strategy for renewal. This discourse may be compared with the study of religion since the 19th century that has also used religion to develop a perspective on the religious history of human kind. In this contribution, I argue that the two intellectual traditions that have employed religion–Kantian and the modern Islamic–point to very different ways of relating to the world, to the self and the ‘other’, and to the political condition of modernity. Rather than using the hegemonic Western tradition to make a judgment on the modern Islamic, I use the latter to point to the former’s peculiar proclivities. Using the modern tradition among Muslim intellectuals, I invite an inquiry into both from each other’s positions.
Keywords: Islamic studies, Islamic modernism, Islamic reform, religious studies, religion, Talal Asad, postcolonial, decolonial.
1- مقدّمة:
لقد صارت الجامعات في إفريقيا الجنوبيّة وفي غيرها من بلاد العالم مدعوّة إلى مراجعة الأسس الاستعماريّة والإمبرياليّة التي تقوم عليها اختصاصاتها ومناهجها. وإذ اتّخذ الباحثون مصطلح “لا-استعماريّ” بوصفه ضديدا لمصطلحيْ “استعماريّ” و “ما بعد-استعماريّ”، فقد دعوْا إلى التخلّص من فرضيّات الفكر الغربيّ وممارساته وقيمه (غروسفوغال (Grosfoguel) 2011؛ ناكاتا (Nakata) وناكاتا وكيش وبولت (Nakata, Keech&Bolt) 2012؛ مينيولو (Mignolo) 2007). إنّ مساهمات المفكرين الما-بعد-الاستعماريّين من أمثال إدوارد سعيد وجياتري سبيفاك (Giyatri Spivak) وبارتا شاترجي (Partha Chatterjee) وكثيرين غيرهم، كانت معترفا بها، بل وقد أشيد أحيانا بردودها النقديّة على الجذور الاستعماريّة التي قامت عليها العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. ورغم ذلك، فقد ظلّت هذه المساهمات متّهمة بعدم انقلابها الكلّيّ على الهيكل الإبستيمولوجيّ الاستعماريّ. فعموما، اِتُّهم المفكرون الما-بعد-الاستعماريّون بتوظيف أسس ومصطلحات غربيّة لتفكيك النصوص المهيمنة على فكرهم. ويظلّ فوكو (Foucault) ودرّيدا (Derrida) وغرامشي (Gramsci) رائدين في هذه الاتّجاهات النقديّة (غروسفوغال (Grosfoguel) 2011؛ مينيولو (Mignolo) 2007). ورغم ذلك، فقد ظلوا-على نحو ما-أسيرين للفكر الغربيّ المهيمن.
إنّ هذه الإدانة الموجهة إلى المفكرين الما-بعد-الاستعماريّين لا يمكن أن تكون مطلقة. فإذا نظرنا عن كثب في تاريخ الحركات الفكريّة المناهضة للاستعمار، توصلنا إلى فكرة قد لا تخطر لنا ببال. فقد لا تحتاج الدراسات المهتمّة بهذه النصوص الما-بعد الاستعمارية المبكّرة إلى أن تظل أسيرة الفكر الاستعماريّ المهيمن، بل لعلها أحوج إلى الانطلاق من حركات المقاومة والبناء الفكريّة التي بنت تاريخا فكريّا مختلفا غربي الجذور. فأن نردّ كلّ النصوص المناهضة للاستعمار إلى حقل الفكر الغربي المستعمِر، من شأنه أن يمحو مساهمة الطرف المستعمَر المغلوب وقيمتَه. إنّ تجاهلا من هذا القبيل يؤكد من جديد ممارسة استعماريّة عميقة، وهي أنّ المستعمَر لا يجدر به أن يتكلّم، مثلما تذكّرنا بذلك سبيفاك[3]. فهذا الاتجاه الفكري يعتبر أنّ المفكرين الذين كانت مشاريعهم تتراوح بين العالميْن الاستعماريّ والما-بعد-الاستعماريّ، إنّما كانوا فقط يعيدون إنتاج مقولات الفكر الغربي. فإذا جعلنا موضوع درسنا حركات المقاومة السابقة، سواء أكانت فكريّة أم غير فكرية، وضعنا كلا من المستعمِر والمستعمَر في قلب هذه اللحظة اللا-استعماريّة.
إنّني في هذه المساهمة، أعيد النظر في التيار الدينيّ المسمّى بـ “التجديد” أو بـ “النهضة”، والذي انبثق في القرن التاسع عشر، في مجتمعات إسلاميّة مختلفة. وأعتقد أن هذا التيار قد انقلب إلى مشروع فكريّ متواصل يرمي إلى إعادة البناء، وإلى خلق خطاب فكريّ إسلامي جديد يربط بين الماضي والحاضر. ويركز هذا المقال على الخطاب الدينيّ الذي يعتبر أنّه قد كان بناء خلّاقا للتجديد، لما حمله من إعادة تعريف للدين، ولمراجعه اللغويّة. وإذ أنطلق من أعمال كل من محمّد عبده ونصر حامد أبو زيد، فإنّني أعتبر أنّ إعادة البناء الفكريّة هذه قد انبنت على خطاب ديني بامتياز. ذلك أنه خطاب يسبر أغوار جوهر الدين ووظائفه، ومعناه، ومكانه في الحياة العامّة والخاصّة، وأحيانا اختلافه عمّا هو علمانيّ. لقد كان الخطاب الإصلاحيّ الإسلاميّ محاولة لإعادة التفكير في أصل الدين ومعناه ووظائفه ولغته، بالنسبة إلى الإسلام وإلى المسلمين. وعلاوة على ذلك، فإنّ مرتكزات هذا الخطاب الفكريّة والسياسيّة تُمْكِن إنارة جوانب مفيدة منها عبر مقارنتها بمقابلها الغربيّ الذي كان في تلك المرحلة في طور الانبثاق بأوروبا: وهذا المقابل الغربي هو ما صار يُشار إليه منذ ذلك الوقت بـ “الدراسات الدينيّة” أو “تاريخ الأديان” أو “الأديان المقارنة” أو أحيانا “علم الدين”.
2- الدراسات الدينيّة من زوايا النظر الما–بعد-الحداثيّة والما-بعد-الاستعماريّة:
لكي أدّقق النظر في هذا التجديد الدينيّ بما هو خطاب فكريّ، فإنّني أودّ أن أتطرّق إلى خطاب الدراسات الدينيّة الذي صار موضع نقد منذ الربع الأخير من القرن العشرين. فعلى غرار مباحث أخرى في الإنسانيّات والعلوم الاجتماعيّة، خضعت دراسة الأديان لنقد ما-بعد-حداثيّ وما-بعد-استعماريّ، تعلّق بأصولها ومناهجها وأهدافها. فقد ركّز البعض على الاتجاهات الموجهة للدراسات الدينية، في حين ركّز آخرون على ما تنطوي عليه تلك الدراسات من تواطؤ إمبرياليّ استعماريّ. وقد تأسّست زوايا النظر النقديّة هذه على تفكيك ميشال فوكو للمشروع الحداثيّ[4]. وقد زعزع أصحاب هذا الاتجاه أسس مبحث الدراسات الدينيّة، عبر تحويله إلى موضوع للتحليل. فبعد أن كان “علم” دراسة الأديان في السابق موظفا لدراسة اتجاه فكري ديني ما مثل التحديث الإسلاميّ، صارت له اليوم نفس المكانة التي قد يحتلها أي اتجاه فكري ديني آخر، باعتبار تحوله إلى خطاب قد يكون هو نفسه موضوعا للتمحيص والتحليل.
وقد برز جوناتان سميث (Jonathan Smith) في هذا السياق باعتباره من المفكرين الأوائل الذين تصدوا لهذا المبحث بالنقد. وكانت بعض ملاحظاته الأولى تسائل أنطولوجيا المقدّس والدنيويّ اللذين يفترضهما هذا المبحث. فإذ كان علماء الدين يعتبرون أنّ المقدّس والدنيويّ هما موجودان في العالم المسكون بالتقاليد الدينيّة، فقد زعم سميث أنّ كليهما إنّما خلقا من المعتقدات الدينيّة والنصوص والممارسات (سميث، 1978: 97). وفي الوقت الذي كان فيه إلياد (Eliade) يكشف عن الآليات المتحكّمة في المقدّس والدنيويّ، كان سميث يشير إلى أنهما إنما انبثقا من رحم الممارسات. فعلى سبيل المثال، لم يكن الطقس سبيلا لملاقاة أمر مقدّس موجود، بل إنّه يمثّل خلق مجال مراقَب، تكون فيه متغيّرات … الحياة العاديّة مشتّتة، تحديدا لأنّها يُشعَر بها كما لو كانت حاضرة وفاعلة على نحو عارم. إنّ الطقس هو وسيلة تحسين الأسلوب الذي تميل الأشياء إلى أن تكون عليه في التوتّر الواعي، إلى الأسلوب الذي تكون عليه الأشياء، بحيث يكون ذلك التحسين المطقسن[5] مسجّلا في الحياة العاديّة، غير مراقب، مسارا للأشياء (سميث 1980: 63).
لقد كان الطقس يسمح بالتمييز بين ما هو كائن وما يفترض أن يكون. غير أن سميث كان يعتبر أنه “ليس ثمّة شيء مقدّس أو دنيويّ بطبيعته. فليست هذه أصنافا جوهريّة، بل هي أصناف ذات طبيعة مقاميّة أو علائقيّة، إنها حدود متحرّكة تتغيّر حسب الخارطة المستعملة. فليس ثمّة شيء مقدّس في حدّ ذاته، بل ثمّة أشياء تصير مقدّسة ضمن علاقة ما” (سميث 1982: 55).
ويستعمل سميث بنىً ما بعد-حداثية مستلهمة من دي سوسير (De Saussure)، ليشير إلى الصلة الاعتباطيّة بين الدالّ (الطقس، الدين، إلخ) ومدلوله (المقدّس). وقد كانت تلك الدوالّ عبارة عن سيرورات ومنتجات اجتماعيّة وثقافيّة. وبهذا أمكنه القول إن الأديان إنما هي منخرطة في نظام الأشياء على نحو خلاق. لقد كانت هذه مرحلة قصيرة، وأدّت إلى إعادة النظر في الدور الذي يلعبه الدين في الدراسات الدينية. وقد اعتبر سميث أنّ مقولة “الدين” قد وقع اختراعها للاستجابة لحاجة ما. وبهذا انخرطت دراسة الأديان في بناء خطابي محوره مقولة الدين:
ليس “الدين” مصطلحا أصليّا؛ إنّه مصطلح استنبطه بعض العلماء خدمة لأغراضهم الفكريّة، وبالتالي فتحديده موكول إليهم. وهو مفهوم من درجة ثانية، أو لنقل إنه مفهوم هجين، يتمثل دوره في تأسيس أفق معرفيّ محدد، في نفس الدور الذي يقوم به مفهوم “اللغة” في اللسانيّات، أو مفهوم “الثقافة” في الأنثروبولوجيا (سميث 1998: 269).
إن “فكرة” الدين ليست أفلاطونيّة، بل هي مقولة متخيّلة، مستنبطة، استعملها علماء الدين لتحديد الظواهر وتأويلها. وليس “الدين” حقيقة كامنة لها بنية، ووظيفة، وجوهر، تنتظر أن يقع اكتشافها. فالقول بأنّ لفظا كهذا يحيل على حقيقة ما، غامضة أو مثاليّة، إنّما هو قول غير صائب. وقد مثّل هذا النقد هجمة تفكيكيّة على مشروع دراسات الأديان التي كانت ترمي إلى تمثيل أديان معينة، وإلى تمثيل ظاهرة الدين على الوجه الأعمّ.
فبالنسبة إلى كابس (Capps)، كان إيمانويل كانط (Immanuel Kant) هو الذي ألقى بذور هذا المشروع الحداثيّ حين اقترح تمييزا مبدئيّا بين الأديان الطبيعيّة والأديان الموحاة. فالدين الموحى هو الدين الممثّل في التوراة وفي نصوص دينيّة أخرى مماثلة، في حين أنّ الدين الطبيعيّ هو الدين الذي يكون مثاليا، فكون جذوره ضاربة في الأخلاق. إنّ الأديان التاريخيّة تعكس-بدرجات متفاوتة-هذا النومينون[6] الكانطيّ الذي يُعتبر مثاليا (كابس 1995: 7). وفي القرن التاسع عشر، بلغت دراسة الأديان درجة من النضج باستعمال رجال الدين البروتستانت الليبيراليّين وكذلك مناوئيهم لهذا الأنموذج الكانطيّ في دراسة الأديان في التاريخ والمجتمع. أمّا أولئك المتمسكون أكثر بالمسيحيّة، فقد وجدوا أن دينهم يتناسب مع النومينون المتعلّق بالدين الطبيعيّ الذي وضعه كانط. لقد تحوّل الدين الطبيعيّ كما بلوره كانط إلى مسيحيّة مرفوعة إلى درجة المثاليّة، أو إلى دين مرفوع إلى درجة المثاليّة. وقد بلغت هذه النزعة أوجها مع ميرسيا إلياد (Mircea Eliade) في القرن العشرين (كابس 1995: 117-146).
أمّا أولئك الذين لم يكن لهم ميل إلى علوم الدين، فقد تناولوا قضية الدين باعتماد مجموعة مختلفة من الأسئلة. فقد اتّبعوا الأسئلة الوظائفيّة المتعلقة بأثر الأديان، وبلغتها المميّزة، وتبعاتها في السياسة والاقتصاد (كابس 1995: 158، 209)، ولكنّهم كانوا دوما يبحثون عن النماذج العليا والأنساق المتواترة التي تميّز الطقوس والأساطير والمعتقدات. وسواء أتعلّق الأمر بنماذج فيبر (Weber) المثاليّة، أم بالأساليب الجماليّة التي هيمنت على هذا المبحث منذ وقت وجيز، فإنّ مفهوما ضمنيّا للدين (نومينونا) ذا نماذج عليا وأنماط مميّزة لم يكن قد تشكل بعد. لقد أخذت صعوبة تجسيد فكرة النومينون الكانطيّ في التزايد، ولكنّها مثلت خلفية لهذا الاتجاه الفكري. وليس من باب الصدفة أنّ “مجلة الجمعيّة العالميّة لدراسة الأديان” (Journal of the International Association for the Study of Religions) التي تأسّست عام 1954، كانت تسمّى نومان (Numen)، وتعني هذه العبارة “قوّة أو تأثيرا روحيّين غالبا ما يقع تحديدهما بشيء طبيعيّ أو ظاهرة أو مكان ” (ماريام-قاموس وابستار 2018) (Merriam–Webster Dictionary 2018). إنّ اسم المجلّة ذاتَه يدحض فرضيّة المبحث العميقة. ففي نقد لهذا التاريخ مختلف إلى حد ما، يعتبر مورفي (Murphy) أنّ دراسة الدين كانت تتبع تحقيق الروح الهيغلي (مورفي 2014:#9548). وسواء أكانت دراسة الدين يمكن أن يُتَعقّب فيها أثر كانط كما يدعو إلى ذلك كابس، أم هيغل، فإنّ حجّة جوناتان سميث المتمثّلة في أنّ الدين بوصفه مقولة أو مفهوما عامّين، وقع استنباطهما واعتمادهما استجابةً لمتطلبات هذا المبحث، إنّما هي أمر واضح. إنّ نزعة سميث النقديّة مثلت وسيلة للتذكير بروح كانط وهيغل في مؤلَّفات علماء الدين الذين ظهروا في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وعلى غرار منجزات حداثيّة أخرى، فإنّ الدين قد أنتجه خيال علماء الحداثة الخصبُ. ولكن في حالة دراسة الأديان، كانت روح هذه النزعة النقديّة في هذه الدراسات موجّهة بصفة خاصة ضدّ النزعات العقائديّة الثاوية في هذا المبحث. وقد وظّفت أفكار سميث النقديّة لإماطة القناع عن علم العقيدة هذا، ولكن دون الاعتراف دوما بجذورها الحداثيّة الكانطيّة أو الهيغليّة. وفي بعض المباحث، صارت علوم العقيدة القديمة والجديدة هي الهدف من الدرس. وهكذا، تجنب التصور الغربيّ الحديث للدين النقد المباشر. وقد برز دونالد فيبه (Donald Wiebe) و روسال ماك كاتشيون (Russel McCutcheon) ضمن هذا الاتجاه في البحث. فقد ركّز فيبه اهتمامه على علم العقيدة الذي يقوّض مبحث دراسة الدين-بدءا ببعض أبرز مؤسّسيها وصولا إلى روّادها المعاصرين (فيبه 1991؛ 1994أ؛ 1994ب). وهو يلمع أحيانا بشيء من الحنين إلى أنّ مؤسّسي هذا المبحث الأوائل قد وقع الانقلاب عليهم على يد علماء دين منغلقين قوّضوا أسس المبحث العلميّة. ويتبع ماك كاتشيون منهجا مماثلا في التفكير، مركّزا اهتمامه على فكرة أنّ علم عقيدة من هذا القبيل إنّما وجد سبيله إلى هذا المبحث عبر التركيز على أنّ الدين هو أمر فريد ولا يمكن أن يتمّ تفسيره بواسطة وقائع اجتماعيّة أو وجوه تنمويّة أخرى (ماك كاتشيون 1995: 302؛ 1997). فلم يكن أحد من هذين العالمين يعتدّ بالبعد النقديّ الما-بعد-الحداثيّ المسلّط على الفلسفة الوضعيّة وعلى الحداثة، ولم يكن أحد منهما يسائل بجدّيّة مكانة هذا الاختصاص ومدى هيمنته في الدول الغربيّة العلمانيّة. وحتّى في بعض المناسبات القليلة التي أقرّ فيها ماك كاتشيان بأنّ المفردات المستعملة في الأديان إنّما يعود أصلها إلى الغرب وإلى المسيحيّة، فإنّه يتجاهل هذه النقطة الهامّة (ماك كاتشيون 1995: 300). ولئن التزم فيبه وماك كاتشيون بتقديم أطر تفسيريّة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، فإنّهما قد قدّما فكرة خاطئة بناء على مفهوم الغائيّة، مفادها أنّ العلماء الغربيّين وغير الغربيّين قد يحقّقون بعض التحرر وبعض التبصّر في هذا المجال.
إنّ هذه الروح المناهضة للعقيدة تستحقّ تفكيرا نقديّا نظرا إلى مكانتها الخطابيّة في الدراسات الدينيّة. وذلك أنّدراسة الدين حافظت على صلة مميّزة بعلم العقيدة، ولا سيّما بعلم العقيدة المسيحيّ. وقد ظهر هذا المبحث في أوروبا، بين أسوار جامعات دينية، وحاول دون جدوى أن يتحرر منها دون جدوى. فقد بقي الظلّ العقديّ يخيّم عليه على نحو عميق، بل ولعلّه بقي متخفيا في الدراسات النقديّة التي كانت تعلن مناوءتها له. وعلاوة على فيبه وماك كاتشيون اللذين بقيا حريصين على حماية حدود هذا المبحث النابذ للاجتياح العقديّ، فلنا أن نقارن فكرة جوناتان سميث القائلة بأنّ الدين ليس مقولة أصليّة فينا، بفكرة مماثلة كان ويلفريد سميث (Wilfred Smith) أوّل من جاء بها في دراسته للدين قبل عشرين سنة، وهو الذي لا تخفى اهتماماته المسيحيّة العقديّة على أحد. يعتبر ويلفريد سميث في كتابه الذي لقي صدى كبيرا (بالإنجليزيّة) “معنى الدين ونهايته” أنّ الدين باعتباره موضوعا مجسَّدا للدرس، فإنّه يحسن استبعاده لفائدة التديّن (سميث 1962). ومثل جوناتان سميث، يرى هو أيضا أنّ الدين إنّما كان اختراعا جاءت به الدراسات الدينية، بيد أنّه يعتقد بناء على الأسس العقائديّة أنّ هذا المصطلح قد حرم العلماء من فهم التجربة العميقة التي يعيشها الأشخاص المتديّنون. وبالنسبة إلى ويلفريد سميث، فإن التديّن هو معطى حقيقيّ جدير بالاهتمام العلميّ. ولم يكن يعتمد منهجا ما-بعد-حداثيّا، بل منهجا عقائديّا هو مدين فيه لبول تيلليش (Paul Tillich) وربّما لكانط والبروتستانتيّة (انظر كابس 1995: 289). إنّ جوهر الدين لا يكمن في تقليد ما، بل في إحساس ما أو تجربة معيشة. ويرفض جوناتان سميث كذلك حقيقة الدين، ولكنّه يعتقد أنّه كان اختراعا مفيدا لعلماء الدين. إنّ هذا التقارب الشديد بين رجل دين بروتستانتيّ وباحث ناقد ليس مصادفة كما يبدو عليه الأمر.
وحريّ بنا أن نميّز بين سميث الما-بعد-الحداثيّ والعقائديّ، والعلماء الما-بعد-الاستعماريّين الذين اعترفوا أيضا باختراع الدين على أنّه مقولة تحليليّة، ولكنّهم ذهبوا شوطا أبعد إذ بيّنوا كيف أنّ هذه المقولة كانت متأصّلة في تاريخ الغرب. وقد كانت لطلال أسد الصدارة في هذا الاتّجاه. فهو إذ يتتبّع نشوء الدين، يبيّن كيف أنّ الدين بوصفه ممارسة ومقولة قد وقع نقله بعد مرور فترة معيّنة إلى مجال الكنيسة والفكر القضائيّ الغربيّ والدراسة الأكاديميّة المتعلقة بالأديان (أسد 1993). وفي كتاب لاحق له، يلفت النظر إلى البناء الخطابي الذي يميز كل ما هو علمانيّ. وهنا يبيّن أسد كيف أنّ فكرة الدين في خطاب الدولة الحديثة هي فكرة ضروريّة لوضع إطار علماني وأخلاقي. فالدين والعلمانيّة إنما وقع خلقهما معا في المدرسة وفي الدولة الحديثتين: “لقد كان الدين جزءا من إعادة تشكيل أزمنة وفضاءات عمليّة، وإعادة صياغةٍ للمعارف وللقوى العمليّة، ولسلوك ذاتيّ، وللحساسيّات، والاحتياجات، ولكل ما يُتوقع من الحداثة” (أسد 2001 ب: 221).
فأسد يشير إلى قوّة الدين الخطابيّة في المجتمعات الغربيّة، وعلى العكس من جوناتان سميث ومن ويلفريد سميث، فإنّه يصرف اهتمامه إلى الدور الذي قد لعبه هذا المبحث في تاريخ أوروبا. إنّ نظرة أسد النقديّة الثاقبة إلى سياسات الدول الحديثة في تشكيل الدين قد استدل عليها في أعمال أخرى استعماريّة وما-بعد-استعماريّة (دراسلير ومانداير (Dressler & Mandair) 2011؛ دوبويسون وسايرز (Dubuisson & Sayers) 2003؛ كينغ (King) 1999)[7].
وفي جامعة كايب تاون (Cape Town) مضى دافيد تشايداستر (David Chidester) شوطا أبعد مما بلغته المدرسة والتاريخ الغربيان. ففي عدد من الكتب التي ألفها، بيّن كيف أنّ الدين بوصفه مصطلحا إنّما وقعت إعادة إنتاجه في البنى التي أسّستها الدولة الحديثة والدولة الحديثة الما-بعد-الاستعماريّة. وقد بيّن كيف أنّ تعريفات كهذه كانت موظّفة في المجالين الاستعماري الإمبريالي السابقين. فقد كانت النظريّات التي صاغها العلماء من أجل فهم الأديان، تطبّق في مشاريع ترمي إلى إخضاع الآخر وحتى إلى تصفيته عرقيا. فلم تكن أنظمة تصنيف الذات و”الآخر” دوالّ حياديّة، بل كانت مطبّقة بعنف ووحشيّة في حروب استعماريّة هدفها الغزو والاحتلال (تشايدستر 2004؛ 1996؛ 2014). فقد يكون الدين بوصفه مصطلحا قد وقع اختراعه فعلا على يد علماء، غير أنّه لم يكن منفصلا انفصالا تامّا عن ملامح التاريخ السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة التي كان العلماء يشتغلون ضمنها.
إن هذه المراجعة المختصرة تبين لنا أنّ لدراسة الأديان تاريخا في المشروع التنويريّ، وأنه كان لها تركيز خاصّ على تجديد علم العقيدة الليبيراليّ والبروتستانتيّ المسيحيّ، أو حتى اختراعه. فهذا المنهج المتسم بنزعة علمانيّة أكبر في دراسة الأديان، والذي يسلّط الاهتمام على المناويل والأطر الحافّة بالشأن الدينيّ، لم يبتعد ابتعادا مفرطا عن جذوره الكانطيّة والهيغليّة (يشذّ عن هذا مورفي 2014؛ راشكه (Raschke) 2012). فدون شك، كانت دراسة الأديان متضافرة مع علم العقيدة المسيحيّ، وكان لا بد من استئصال هذا التضافر: وهو ما مثّل أحد وجوه هذا المبحث. وعلاوة على هذا، فقد ازدهر هذا المبحث عبر تمثيل “الآخر” الذي اندمج مع المصالح الوطنيّة والاستعماريّة. لقد كانت كلّ هذه العوامل جزءا ممّا ادُّعِي أنّه حياديّ، أو ممّا يسمّيه سترانسكي (Strenski)-منذ سنة 2015-في كتابه الذي تمّت مراجعته، “فضولا” يتعلّق بالدين، وبعناصره، وبآثاره (سترانسكي 2015: 171). وقد أماطت المعارف الما-بعد-الحداثيّة والما-بعد-الاستعماريّة اللثام عن هذا الفضول.
ومع هذه الخلفيّة المعرفيّة، يكون من العسير استعمال مصطلحات هذا المبحث ومناهجه بدون أي نقد، وبدون قدر كبير من الاحتراز. ففي مقال عنوانه (بالإنجليزيّة) “ما وراء الدراسات الدينيّة؟”، يقترح تشايدستر موقفا هيغليّا متعلّقا بـ “الأوفهيبونغ” (Aufhebung) بما هو “إلغاء وإبقاء، حذف وتحويل” (تشايدستر 2017: 75). وعوض البقاء في إساره وفي إسار أسلاف آخرين ألمان وغربيّين عامة، فإنّني أقترح أن نبدأ النظر في دراسة الأديان باعتبارها خطابا يندرج في سياقات ثقافيّة وتاريخيّة وسياسيّة أخرى. فحريّ بنا أن نلتفت بجدّيّة أكبر إلى دراسة الدين من منطلق أفضل هو زاوية نظر الطرف المستعمَر، بدلا من حصر أنفسنا في إعادة صياغة الخطاب الغالب لا الاكتفاء بتجويده، وذلك من أجل مواصلة إسباغ الموضوعيّة على حركات وظواهر دينيّة في أصقاع أخرى من العالم. وفي هذا المقال، فإني أبدأ بالتقليد الخطابيّ الذي استهلّه المفكّرون المسلمون، لأبين كيف أنّهم قد أسسوا مبحثا محوره الدين، ولكن بأهداف ونتائج مختلفة.
3- ما هو التحديث الإسلاميّ أو الإصلاح الإسلاميّ؟:
قبل صعود الأصوليّة والتّطرّف، كانت النظرة العلميّة منحصرة في الاهتمام بتطوّر ما كان يسمى عامة بالتحديث الإسلاميّ. وثمّة بعض الدراسات السوسيولوجيّة المتعمّقة التي أجريت حول صعود هذا التحديث الإسلامي وبروزه بين جماعات جديدة أنتجها الاستعمار والرأسماليّة. وتشمل هذه الدراسات أعمال كلّ من شولتسه (Schulze) وأباظة وموادال (Moaddel) وفايسمان (Weissmann) الذين اعتمدوا مقاربة فيباريّة كلاسيكيّة تربط بين وجوه التطوّر الدينيّة والمجموعات الاجتماعيّة الجديدة (فايسمان 2001؛ شولتسه 2000؛ موادال 2001، موادال وتلطّف (Talattof) 2000). إنّ اهتمامي يتعلّق بالأفكار التي وقع إنتاجها في نطاق التحديث الإسلامي، وبمساهمتها في خطاب فكريّ إسلامي. فالتحديث الإسلاميّ-بما هو حركة فكريّة-لم يُعتدَّ به اعتدادا كبيرا. وعلى غرار ما خلص إليه مسعود وسالفاتوري (Salvatore)، كانت المعرفة الغربيّة في الغالب تحوم “حول المحور الرئيسيّ المتعلّق بالعجز المتأصّل في الإسلام عن التأقلم (…) مع الحداثة” (مسعود وسالفاتوري 2009: 50). ورغم هذا، فمنذ الثمانينيّات أخذت أعمال طلال أسد تفتح مجالا للنظر في الطبيعة الخطابية التي تميز الدين عامة والإسلام خاصة. غير أنّ تطبيق مقاربة خطابية على الأعمال الفكريّة الإسلاميّة لم يكن متناسقا. فقد وظف أسد وأولئك الذين حذوا حذوه فكرة التقليد الخطابي لتسليط الضوء على الاختلاف بين الخطاب الإسلاميّ والخطاب الحداثيّ العلمانيّ الغربيّ. وقد كانت أعمالهم توحي بمنطق مزدوج ثابت، يتميّز باعتبار أنّ التحديث الإسلاميّ لا ينتمي إلى أي خطاب إسلاميّ، وهذا أمر مؤسف. وثمّة أيضا مفكرون آخرون استعملوا أفكار أسد الثاقبة للإشارة إلى التحوّلات التي حصلت في نطاق الخطاب الإسلاميّ، وكانوا بالتالي أكثر قبولا للتحديث الإسلاميّ. إنّ بين القراءتين اختلافا جليّا، يتعلّق بتحديدهما لخطاب فكريّ إسلاميّ حديث، وتمثيلهما له.
وقد حدّد كلّ من محمود وهيرشكند (Hirschkind) ما تمكن تسميته بقراءة أسد، التي اعتبرت التحديث الإسلاميّ اجتياحا إمبرياليّا ثقافيّا غربيّا. وفي دراساتهما التي لقيت صدى واسعا عن الحركات السلفيّة، قاما بتمثيل الخطابات الإسلاميّة على أنّها أطاريح مناقضة للخطابات الغربيّة في ما يخصّ الذات والأخلاق (هيرشكند 2006؛ محمود 2005). وتعتبر محمود أنّ الحراك النسائي في المساجد بمصر لا تمكن دراسته انطلاقا من مسلّمات إطار كانطيّ متعلّق بالحريّة والوكالة. وإذ توظّف فكرة التقاليد الأخلاقيّة المتجسّدة، فإنّها تبيّن كيف أنّ التقوى تمّ صقلها وتنميتها دون أن تكون ثمّة حاجة إلى الحريّة والوكالة والاختيار، ولا أية ضرورة لها. وهي ترفض خاصة فكرة قراءة المقاومة في ممارسات النساء الدينيّة، كما يذهب إلى ذلك عديد المفكّرين النسويّين (محمود 2005: 23؛ الجنديّ1981؛ ماكليود (Macleod) 1991). وينتهج هيرشكند منهجا مماثلا في تحديد الممارسات الأخلاقيّة عبر الاستماع إلى الخطب الشعبيّة ودراستها من خلال الأشرطة التسجيلية والمحطات الإذاعيّة. وهو أيضا يحدّد خطابا أخلاقيّا يقوم على التعامل مع الذات والاستماع إليها وإصلاحها. ولئن كان ثمّة قدر من الوكالة مقبول في الخطاب الذي حدّده هيرشكند، فإنّه يستخلص أيضا أنّ حركة التقوى لم تكن “مجرّد تحوّل تحديثيّ يرمي إلى تحقيق شكل من التدين العقلانيّ ذي سمة فرديّة متزايدة، ولا توظيفا للدين من أجل توطيد ثقافة وطنيّة” (هيرشكند 2001: 4). إنّه يعتقد أنّ هذا الخطاب “يحتاج إلى أن يتمّ تحليله في نطاق اعتماد مخصوص للفضائل الشخصية والسياسية، ضمن خطاب إسلاميّ معاصر” (هيرشكند 2001: 4). إنّه لمن الجليّ أنّ كلاّ من محمود وهيرشكند يميلان إلى اعتماد مصطلحات داخليّة (محلّيّة) لتمثيل خطاب إسلاميّ فريد، ليس خطابا غربيا.
ويمكن الإطناب أكثر في الحديث عن تمثيل محمود وهيرشكند للخطاب الإسلاميّ، غير أنّي وجدت أنّه من الأجدى أن أركّز على تمثيلهما للتحديث الإسلاميّ. ففي عمل لمحمود يُعتدّ به كثيرا، فإنّها تصف التحديث الإسلامي الذي حمل لواءه أبو زيد وأستاذه حسن حنفي بأنّه ليس سوى صدى للهيمنة الأمريكيّة الإمبرياليّة (محمود 2006: 337). وقبل ذلك بكثير، حاول هيرشكند إجراء تحليل لعمل أبو زيد بالمقارنة مع خصومه الإسلاميّين تحت عنوان بالغ الدلالة هو (بالإنجليزية) “الهيرمينوطيقا أو البدعة”. وإذ وظّف هيرشكند خطاب منتقدي أبو زيد الإسلاميّين باعتباره هو المعيار في دراسته، فقد خلص إلى أنّ أفكار أبو زيد هي إنتاج هيمنة فكريّة غربيّة (هيرشكند 1995). وقد يجد المرء أصداء لهذا الحكم في ما يُطلق على بعض المفكرين من أنهم تحديثيّون مسلمون في بعض البحوث التي كتبها أسد حول الخطابات الإسلاميّة الحديثة. ففي كتابه الرائد الذي عنوانه (بالإنجليزية) “وجوه نشوء الدين: مبحث القوّة وأسبابها في المسيحيّة والإسلام”، فإنّه يناقش الانتقادات الموجّهة إلى الحكومة السعوديّة حين استدعت الجيوش الأمريكيّة لحماية المملكة خلال حرب الخليج سنة 1992. ويخصّ بالذكر العلماء الشبّان الذين استعملوا خطاب “النصيحة” لتوجيه “نقد إصلاحيّ أخلاقيّ” إلى الملك (أسد 1993: 214). وبما أنّ “النصيحة” هي وعظ صوتيّ، فقد كانت جزءا من “التقليد الإسلاميّ” ومثّلت “الأرضيّة التي يقوم عليها هذا الضرب من التفكير” (أسد 1993: 236). ويذكر أسد أيضا أولئك الذين يسميهم بالمفكرين الحديثين ذوي التربية الغربيّة الذين عارضوا الحكومة في قرارها ذاك، وعبّروا عن قلقهم–سرّا أو علانية-لبعض الأمراء. غير أنّ أسد يضيف أنّهم “لا يصفون نقدهم بمصطلحات مثل مصطلح “النصيحة” الإسلاميّ” (أسد 1993: 222 الهامش45). فيبدو إذن أنّه لا يهتم إلا بعلماء الدين باعتبارهم مساهمين في خطاب إسلاميّ ما، متجاهلين الدور التاريخيّ الذي نهض به المفكّرون غير الدينيّين من أمثال الشعراء والكتّاب والمتصوّفة والفلاسفة، الذين تصرّفوا بوصفهم نصحاء للخلفاء والسلاطين والزعماء العسكريّين. وفي عمل آخر حول تغيّر الشريعة في المحاكم الشرعيّة المصريّة، يناقش أسد دور التحديثيّين الإسلاميّين أمثال محمد عبده وأحمد صفوت في إعادة التشكيل هذه. وسأتناول عبده بالنقاش لاحقا. ويعرّف أسد صفوت على أنّه “محام تدرّب على يد بريطانيّين، ومناصر لإصلاح الشريعة، نظر إلى القرآن-مثله مثل غيره من المفكّرين الفكتوريّين النشوئيّين-على أنّه نصّ دينيّ عفا عليه الزمن، يخلط بين الأحكام الأخلاقيّة والقانونيّة. وهي أحكام يجب أن تحدّد دلالاتِها غائيّةٌ تاريخيّةٌ ما” (أسد 2001 أ: 10). إنّ نعت صفوت على هذا النحو يضعه خارج الخطاب الإسلاميّ كما يرسم أسد حدوده. أمّا عبده-من منظور أسد-فلم يتمحّض ليكون علمانيّا بسبب تأثّره المبكّر بالتصوّف. ولكن، وبشكل عامّ، يقرّ أسد بمساهمة المسلمين التحديثيّين فقط في دعمهم “للسياسات العلمانيّة” ومساهمتهم فيها. إنّ تمثّل الخطاب الإسلاميّ هذا يضمن شرعية القول بأصالة الأفكار التحديثيّة الإسلاميّة، لفائدة الخطابات الإسلامويّة والتَّقَوِيَّة التي حافظت على إطار عقائديّ بدا أنّه يتّصل بالماضي ويعارض الغرب. وبالرغم من احتراز أسد الصريح الذي مفاده أنّ تلك الأصوات المنشقّة يحسن ألاّ يقع تجاهلها في دراسة الإسلام، فإنّ هذا تحديدا هو ما قام به هو وقراؤه (أسد 1986: 16).
ويمكن أن نقرأ أعمال أسد قراءة مختلفة، مستفيدين خاصة من مقاله الذي كان له صدى كبير، والذي يقول فيه: “إنّ أنثروبولوجيا معينة موضوعها الإسلام، يجب أن تسعى إلى فهم الظروف التاريخيّة التي تمكّن من إنتاج تقاليد خطابية محدّدة والحفاظ عليها، أو تغييرها، وإلى جهود أهل الممارسة لتحقيق الانسجام المرجوّ” (أسد 1986: 17؛ والإبراز هو من عندنا). وإذ يحيل أرماندو سالفاتوري أيضا على أسد، فإنّه يعتقد أنّ مشروعا إسلاميّا حديثا يجمع كلاّ من التحديثيّين والإسلاميّين، قد تمّ إنتاجه بالتحاور مع محاورين غربيّين. إنّه يدعو إلى حداثة إسلاميّة توازي الحداثة الأوروبيّة وتتقاطع معها (سالفاتوري 1997). وفي عديد الأعمال المنشورة، استلهم دجون بوون (John Bowen) أعمال طلال أسد لإنجاز دراسته للخطابات الإسلاميّة في السياقات المحلّيّة (إندونيسيا وفرنسا)، وفي التقائها بالحداثة (بوون 1987؛ 1989؛ 1993؛ 2001؛ 2004). وإذ تعمل سميرة الحاج على مشاريع محمّد بن عبد الوهّاب الإصلاحيّة في القرن الثامن عشر، وعلى مشاريع محمد عبده الإصلاحيّة فيما بين القرنين التاسع عشر والعشرين، فإنّها تقتدي بأسد وتبيّن تغيّر الخطاب الإسلاميّ الإحيائيّ والإصلاحيّ (الحاج 2009). إنها تبيّن أنّ عبده-على عكس ابن عبد الوهّاب-يضع أسس حداثة إسلاميّة ملتزمة بإطارها الخطابيّ التاريخيّ. وفي دراسة لسلوى إسماعيل خصّصتها للتيّارات الأكثر محافظة بمصر في نهاية القرن العشرين، فإنّها تولي اهتماما كبيرا للخطاب الإسلاميّ المستنير بالسياسة وبالمصالح الطبقيّة (سلوى 2003). إنّ كلّ هذه الدراسات لم تُقْصِ المساهمات التحديثيّة في خطاب المسلمين عن الدين، وهو خطاب منفتح على التغيّر.
لقد كان لأسد دور كبير في فتح الباب أمام نقد ما-بعد-حداثيّ في سياق دراسة الإسلام. فهو يقدّم نافذة تمكّن من التعامل مع التحديث الإسلاميّ، لا باعتباره موضوعا للدرس، بل باعتباره تقليدا خطابيا في حدّ ذاته. ومع هذا، فثمّة اختلاف في قراءة أسد بين أولئك الذين يثمّنون دور التحديثيّين الإسلاميّين ضمن خطاب إسلاميّ، وأولئك الذين يرونهم متطفّلين غرباء، رفضوا أسس الخطاب وجوهره. فأسد نفسه والذين حذوا حذوه، يمثّلون خطابا إسلاميّا هو بمثابة الأطروحة النقيضة لخطاب الحداثة الغربيّ. بيد أنّ ثمّة علماء يقدّرون تاريخ الإسلام الطويل، ويحاولون تحديد الحداثة الإسلاميّة على أنّها أسلوب في التفكير أو استجابة مجسّدة في تاريخ الإسلام (انظر فول (Voll) 1983؛1982؛ هويبنك (Hoebink) 1998). وهؤلاء أيضا يولون عناية خاصّة للتحوّل في الخطاب الإسلاميّ.
4- التحديث الإسلاميّ باعتباره خطابا فكريّا:
إنني أدعو إلى أن نتجاوز وهم الالتحام بين الإسلام والحداثة، علّنا نحسن تقييم عمل المسلمين التحديثيّين الفكريَّ. فالتحديث الإسلاميّ ليس مجرّد تبنّ غير نقديّ ولا واع لبعض الأفكار الغربيّة الحديثة، التي أثّرت في فكر أولئك الذين قرؤوا أعمالا غربية أو درسوا في الغرب، أو حتّى التقوا ببعض المفكّرين الغربيّين. فهم بشكل تلقائيّ أو واع، يبتدعون تعريفات ومقولات تتعلّق بالدين وبالشأن الدينيّ، يتمّ فيما بعد تطبيقها على الإسلام والمسلمين في الماضي والحاضر. إنّهم يقومون بما يعتقد العلماء الاجتماعيّون أنّه اختصاصهم الحصريّ.
وعلى غرار مفكّرين ما-بعد-استعماريّين آخرين، يتساءل أسد عن وجاهة استعمال الاستعارات النمطيّة والنظريّات التي تمّ استحداثها في دراسة الإسلام في الأنثروبولوجيا.
إنّ مفهومنا للدين يحدّد نوع الأسئلة التي نتصوّر أنّها قابلة لأن تطرح وأنّها تستحقّ الطرح. ولكن ما أقلّ الأنثروبولوجيّين المتخصّصين في الإسلام، والذين يولون هذه المسألة عناية جادّة. فهم بدلا عن ذلك غالبا ما يستندون دونما تمييز إلى أفكار مستقاة من كتابات علماء اجتماع عظام (من أمثال ماركس وفيبر ودوركايم) من أجل وصف وجوه تشكّل الإسلام، فلا تكون النتيجة دوما مجدية (أسد 1986: 12).
وفي سياق لاحق من المقال السابق، فإنّه يلحّ أكثر على هذه المسألة، إذ يبيّن ما هي الحجة الأبرز في دراسة التقليد الإسلامي:
وفي تمثيل المستشرقين وعلماء الأنثربولوجيا للتقليد الإسلاميّ، فإنّهم غالبا ما يهمّشون مكانة الجدل والتفكير اللذين يميّزان الممارسات التقليديّة. فعلى وجه العموم، يقع اعتبار أن الجدل هو الدليل على أنّ “التقاليد في أزمة”… غير أنّ وجوه التناقض هذه والمعادلات هي نفسها عمل دافع تاريخيّ، يبين في التعارض الإيديولوجيّ الذي يقدّمه إدموند بوركه (Edmund Burke) بين “التقليد” و”العقل”، وهو تعارض أقامه المنظّرون المحافظون الذين اقتدوا به، فأُدخِل إلى حقل السوسيولوجيا على يد فيبر (أسد 1986: 16).
ويطلب أسد من علماء الإسلام وعلماء الدين على وجه العموم أن يتحلّوا بالنقد الذاتيّ فيما يتعلّق بالمصطلحات المستقاة من المسيحيّة ومن تاريخ الغرب. فلهذه المصطلحات تاريخ خاصّ يحسن ألاّ يقع تطبيقه بشكل غير نقديّ على ثقافات وتقاليد أخرى. وهو يطلب من علماء الأنثروبولوجيا وتحديدا من العلماء المنتمين إلى المدارس الغربيّة، أن يكونوا واعين بتعريفات الدين التي يتبنّوْنها ثمّ يستعملونها لتقديم تمثُّلات معينة. فأسد يخاطب علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع عامّة، طالبا منهم أن يكونوا أكثر حذرا فيما يقدّمونه من تقييم وتمثيل. وفي مراجعة للأعمال الهامّة التي تتطرّق إلى المصدر الغربيّ الذي أخذت منه مصطلحات مجال دراسة الأديان، يقرّ ماك كاتشيون (McCutcheon) بوجود هذا المشكل الذي طرحه أسد ونينيان سمارت (Ninian Smart). فعلى غرار أغلب النقاد، فإنّ ماك كاتشيون عاجز عن التحرر من حدود المدرسة الغربيّة (ماك ماتشيون 1995: 290؛ 300).
وجليّة الأمر أنّ التحديثيّين المسلمين منذ القرن التاسع عشر، قاموا بابتكار مفاهيم وتعريفها من أجل التحليل والتصنيف وإصدار الأحكام. وما حصل أنّهم استعملوا نفس المصطلحات المستعملة في الدراسات الدينية الأكاديميّة الغربيّة. والعديد من الباحثين في الإسلام الذين يتبنّون بوعيهم الذاتيّ تعريفا للدين-كما ينصح أسد بذلك-وجدوا مفكّرين مسلمين يقومون بالشيء نفسه. ولذلك فقد وعَوْا بأنّ المفكّرين المسلمين استعملوا الدين من أجل تأسيس تقليد معرفي محوره التحديث الإسلاميّ وتطويره، أو لما أفضّل أن أسمّيه التجديد الإسلاميّ. إنّ الإقرار بهذا الجهد المعرفيّ للمفكّرين المسلمين يدعونا إلى أن نعترف بوجود خطاب ديني في أوساط المصلحين المسلمين، الذين غالبا ما تقع دراستهم بوصفهم مجرّد مواضيع للتحليل. فبدلا من مجرّد تعريف التحديثيّين المسلمين بأنّهم مجرد مفكرين حديثين محدودين، تشوب أعمالَهم الهُجنةُ بين الإسلام والغرب، أو بأنهم أهل بدعة، فإنّني أهتمّ بهم بوصفهم مبدعين ومساهمين في خطاب ديني معين.
وفيما عدا علماء من أمثال سالفاتوري (Salvatore) (1997) وكارول كيرستن (CaroolKersten) (2001)، فإنّ أغلب الدراسات المتعلّقة بالإسلام تتجاهل العمل النقدي الذاتي الذي أنجزه عدد من المفكرين المسلمين. إنّ خطابا عن الإصلاح الإسلاميّ مصدره التأمّلات والابتكارات المتعلّقة بالدين وبالشأن الديني بوصفهما بناءات خطابية، من شأنه أن يساعد مبدعيه على إنتاج موضوعات سياسيّة ودينيّة جديدة، وعلى انتقاد التقاليد القائمة، ورسم ملامح جديدة للمستقبل. فهو خطاب يستفيد من الأفكار المتعلّقة بالدين وبالإصلاح، والتي تعود إلى ما قبل الحداثة. ذلك أن لفظيْ “الدين” و”الأديان” موجودان في تاريخ الإسلام الفكريّ، وقد تمّت مناقشتهما باستفاضة في الأعمال الدينيّة والفلسفيّة والصوفيّة السابقة للعصر الحديث. ولكن، منذ القرن التاسع عشر، تمّت إعادة تعريف الدين والتفكير فيه، وصار يقوم بدور بنّاء في النقاشات والمجادلات الدائرة في أوساط الباحثين والمفكرين المسلمين.
5- الإصلاح الإسلاميّ الحديث: خطاب محوره الدين:
بودّي أن أقدّم مساهمتين تتنزلان ضمن هذا الخطاب الفكريّ. تأتي الأولى من القرن التاسع عشر في المناظرة بين جمال الدين الأفغانيّ ومحمّد عبده من جهة أولى، وإرنست رينان (Ernest Renan) ووزير خارجية فرنسيّ هو غابريال هانوتو (Gabriel Honotaux) من جهة ثانية. ويُعتَبر الأفغانيّ وعبده هما مؤسّسا التيّار الإصلاحيّ، إذ يمتدّ أثرهما الفكري وتأثيرهما حتّى القرن العشرين. وإذ سأركّز فقط على كتابات عبده في هذه المناظرة، فإنّني سأبيّن كيف أنّه يوظّف الدين بوصفه مصطلحا خطابيا لتحديد الإسلام، وانتقاد الممارسات الاستعماريّة، ولتخيّل مستقبل مختلف للمصريّين وللمسلمين. ويأتي الأنموذج الثاني الذي أعتمده من عمل نصر حامد أبو زيد، إذ سأبيّن كيف أنّه يستعمل مقولة الدين لنقد الخطاب الدينيّ ولصياغة أسلوب جديد في قراءة القرآن.
لقد وُلد عبده في عائلة ريفيّة بمصر السفلى سنة 1849، وكان في صباه يتوق إلى شيء أفضل من التربية التقليديّة التي تلقّاها في طنطا. فوجّهه أحد عمومته نحو التصوّف ثمّ نحو العلوم الحديثة التي بدأت تزدهر في تلك الفترة. وكان لزيارة الأفغاني لمصر سنة 1872 أثر شخصيّ وفكريّ عميق في عبده. ففي كتابه الأوّل الذي ألّفه سنة 1874، والموسوم بـ “رسالة الواردات”، نجده يصف الأفغانيَّ بأنّه معلّمه الروحيّ. وقد أتمّ دراسته في الأزهر واضطلع بمنصب مدرّس لمدّة وجيزة. وسرعان ما انخرط في التقلّبات السياسيّة في تلك الفترة. ولمّا وقع الاشتباه في تورّطه في ثورة أحمد عرابي باشا المناهضةِ للاستعمار (1879-1882)، نُفي عن مصر. وقد أمضى عبده مدّة وجيزة من حياته في باريس مع الأفغانيّ، حيث كوّنا جمعيّة اسمها “العروة الوثقى” ونشرا جريدة تحمل الاسم عينه. ولم تدم الجمعيّة ولا الجريدة مدّة طويلة، فاتّجه عبده بعد فترة وجيزة إلى بيروت لمواصلة عمل مرتبط بشكل أكثر مباشرة بالتعليم والقانون. وقد ألقى سلسلة من المحاضرات حول علم العقيدة تمّ نشرها لاحقا تحت عنوان “رسالة التوحيد” (عبده 1368). وفي سنة 1889، سُمح لعبده بالعودة إلى القاهرة، وأُسندت إليه عدّة مناصب قضائيّة وتعليميّة مهمّة. ويبدو أنّ نزعته الإصلاحيّة واعتداله نالا إعجاب خديوي مصر ومراقبيه البريطانيّين. وقد كرّس عبده نفسه لإصلاح التعليم والدين والقضاء، حتّى وفاته سنة 1905. ويبدو أنّه قد تصالح مع السلطة الاستعماريّة ولكنّه ظلّ متمسّكا برفض الحكم الأجنبيّ. وفي سنة 1897، قدم العالم الدمشقيّ الشهير، المعجب بعبده والأفغانيّ، محمّد رشيد رضا إلى القاهرة، من أجل تأسيس مجلّة متخصّصة في الفكر الإصلاحيّ الإسلاميّ. وفعلا، فقد بدأت المجلّة الموسومة بـ “المنار” بالصدور سنة 1898 وتواصلت حتّى سنة 1940. وكانت المقالات الصادرة في الأعداد الأولى في أغلبها لعبده. فوضعت كتاباته المتنوّعة الأساس الفكريّ للإصلاح الإسلاميّ.
يحدّد عبده الدين بأنّه أمر فطريّ، وبأنّه صفة بشريّة يصعب محوها من التركيبة والتجربة الإنسانيّتان: “إنّ الدين وضع إلهيّ، ومعلّمه والداعي إليه البشرُ” (عبده 2011: 8)[8].
“وكأنّ الإنسان في نشأته لوح صقيل وأوّل ما يخطّ فيه رسم الدين، ثمّ ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده وما يطرأ على النفوس من غيره فإنّما هو نادر شاذّ حتّى الصفات، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال” (عبده 2011: 8).
فالدين إذن فطريّ وتجريبيّ معا. وهو ممنوح من الله ولكن يمارسه البشر بوصفه تجربةً على نحو بالغ العمق. وفي تصنيف عبده، لا يستحقّ أثر الدين السلبيّ الدائم أيّ عناء، وهو يضيف سمتين أخريين للدين يبدو أنّهما متأتّيتان مباشرة من علم العقيدة الإسلاميّ، فيقول: “تتلقّاه العقول عن المبشّرين والمنذرين فهو منسوب لمن يختصّهم الله بالوحي” (عبده 2011: 8) “وإنّما إرسال الأنبياء (…) هو أحد متمّمات الوجود البشريّ، وهو من بين احتياجاته الهامّة للاستمرار في الوجود” (عبده 1368: 10794).
ويلعب الفكر والأنبياء دورا هامّا في تكوّن الدين وديمومته: فهما حسب عبده يؤكّدان قيمة الدين.
ولا يمكن لأسس الدين في الخلق والتجربة والنبوّة والعقل أن تنفصل عن قيمته الاجتماعيّة. فالعقل والدين-حين يترافقان-ينتجان التقدّم.
إنّ الدين هو الشيء الذي من خلاله ينشر العقل المعرفة، ويمتدّ على مدى العالم؛ ويبلغ السماوات العلى؛ (فهو يساعد العقل) على التأمّل في آيات الله، وعلى اكتشاف أسرار خليقته؛ أو على استخلاص أحكامه. وإنّما كلّ العلوم هي مراع للأذهان لكي تجني منها ما تشتهي، ولكي تبلغ المتعة إلى الحدّ الذي تبتغيه. ولكن حين يتوقّف الدين، وتتغلّب الوثوقيّة المطلقة، حينها تقف المعرفة ويأفل نجمها. ولا يحصل هذا كلّه دفعة واحدة، بل يتبع منطق التاريخ (عبده 1989: 160).
فالدين إذن يدعم الفكر والنموّ. ولكنّ الدين بلا فكر يقود إلى التأخّر. وقد يكون من شأن الدين أيضا أن يقود إلى الفوضى والدمار حين يُستغلّ لأغراض سياسيّة، كما حصل في تاريخ الإسلام، غير أنّ عبده لم يغفل عن توظيف المشاريع الاستعماريّة للدين.
لقد ذكرت الدين من بين عناصر القوّة لأنّ السيد هانوتو لا ينفي أن أوروبّا ترتهن إلى الدين فيما يخصّ السياسة الاستعماريّة. وأنّ المبشّرين والجمعيّات الدينيّة هما من بين أهمّ الأدوات التي تُمتلك لتحضير الشعوب لقبول سلطتها حين يناسبهم ذلك، ولكي تحضّرهم لتحمّل القوّة التي يرزحون تحتها والتي تحتويهم (عبده 1989: 86).
وفي تأمّلات عبده، لا يبعد الدين والفكر والقيمة الاجتماعيّة بعضها عن بعض كثيرا. وهو يشرح هذه العلاقة الفكريّة بين الدين والتقدّم بوضوح أكثر في دحضه لأطروحة قدّمها إرنست رينان الذي يعتقد أنّ الدين الآري يدعم التقدّم والحضارة، في حين أنّ الحضارات والأديان الساميّة تقوم بالعكس. وفي الردّ على ذلك، فإنّ عبده يعتبر أنّ الدين الآريّ هو السبب الأصيل في تدهور المجتمع. وهو يعتقد أنّ الدين-كما هو متجسّد في الحضارة الساميّة-كان حاملا للتقدّم والنموّ. ويلقي عبده بتبعة تدهور المسلمين على غير العرب وغير الساميّين بسبب توجيه جذور تلك الحضارة الساميّة البسيطة نحو دين آريّ. غير أنّه لا يبدو دائما منسجما في تفكيره، إذ يقدّم نماذج معاكسة من التاريخ، عن البوذيّين (وهم آريّون) والفينيقيّين (وهم ساميّون)، تتعارض واتّجاهَه في التفكير (عبده 1989: 69). ولعلّه كان واعيا بأنّ الاستدلال القطعّ على وجود علاقة ثنائية بسيطة بين الدين والتقدّم، هو أمر متعذّر.
إنّ هذا ملخّص شديد الاقتضاب لأفكار عبده، ولكنّه يكفي للدلالة على كيفيّة توظيفه لمفهوم الدين للتفكّر في محنة المجتمعات الإسلاميّة، وفي قوّة الدين في إحداث التغيير، وفي مدى تعقّد مقاربة كهذه. فالخطاب الدينيّ لدى عبده يخلق رؤية للماضي والحاضر والمستقبل الممكن. فهو يفكّر في الإسلام عبر مفهوم الدين وتعريفه. وقد صارت قيمة الإسلام هذه باعتباره منبع خير اجتماعي، أكثر رواجا في أوساط جماعات واسعة من المسلمين في القرن العشرين.
أنتقل الآن إلى نصر حامد أبو زيد الذي نشأ بعد مائة عام من عبده. وقد بدأ أبو زيد الكتابة عن القرآن والتفسير واللسانيّات في ثمانينيّات القرن العشرين، وواصل عمله دون هوادة حتّى وفاته سنة 2010. وقد أُقحم في دائرة الحياة العامّة حين تمّ رفض ترشّحه لرتبة أستاذ تعليم عال في جامعة القاهرة سنة 1993. وحين فشلت محاولة تجميد رتبته، التجأ مناوئوه إلى المحاكم المصريّة لإلغاء زواجه، على خلفيّة أنّ عمله يمثّل ارتدادا عن الدين. وبما أنّ الزمن حينها كان زمنا يتهدّد فيه الاغتيالُ كل مفكر جريء القلم، فقد اضطرّ أبو زيد إلى الهجرة. لقد كان ناقدا لكلّ من الحكومة والجماعات الدينيّة في مصر، وهي التي تصدّى إليها في مقالات عديدة ومحاضرات وبحوث كتبها. وقد قضى الفترة الموالية من حياته الفكريّة الخصبة في هولندا ولكنّه ظلّ دوما ملتزما بقضيّته، شأنَ العلماء في كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ (أبو زيد 2001).
إنّ ثمّة موضوعين بارزين في أعمال أبو زيد، يحتلّ الدين مكانة الصدارة في كليهما. فلقد أقبل على دراسة الإسلام من خلال التيّارات اللسانيّة والخطابيّة التي هيمنت على العلوم الاجتماعيّة في ثمانينيّات القرن الماضي. ولم أجد أثرا لا لأسد ولا لفوكو في أعماله، بل لفاردينان دي سوسير (Ferdinand de Saussure) (الذي توفّي سنة 1913)، بخصوص نظريّته في اللغة. ويتبنّى أبو زيد التمييز بين اللسان (la langue) والكلام (la parole)-في عمل أيّة لغة ما-باعتبار أنّ الأوّل يحيل على بنية اللغة والثّاني على استعمالها. ويتعلّق المحور الأوّل في أعماله بتحديد خطاب القرآن (أي اللسان) أي الجهاز الدّلاليّ الذي يسمح بتحقّق معنى النصّ في سياقه المحدّد. وهو يسمّي هذا الخطاب الذي تحمله النصوص التأسيسيّة الأولى للإسلام “دينَ الإسلام”. ويتمثّل المحور الثاني في تحديد الكلام (parole) في القرآن في التاريخ. ويحيل الدين لديه على جملة من النصوص التي ظهرت في التاريخ، والقرآن أحد أبرز هذه النصوص الممثلّة له. (أبو زيد 1994: 197). وحسب رأيه، فإن القرآن هو خطاب تتعيّن قراءته في سياق عصره ولغته، وهو يعتقد أنّ معناه لا ينحصر في الثقافة العربيّة وحسب، بل في تجربة النبيّ محمّد ﷺ:
فالقرآن بما هو أسلوب في التواصل بين الله والإنسان، يعلّمنا شيئا أبعد عن “القانون” و”السياسة” في المعنى القريب للّفظين الاثنين. إنّه يعلّمنا أنّ التأويل الحرفيّ يعني أنّنا نُرْتج كلمة الله في وقت التبشير التاريخيّ بها. أفئن وُضع القرآن في سياق مختلف، كان علينا أن نتعلّم كيف نحصر معناه في أوّل جملة من بنائه التاريخيّ (أبو زيد 2000: 15).
وبناء على هذا، فإن أبو زيد ينفي أنّ القرآن لا يقدّم أية قيم أساسيّة لقرّائه، وأنّ نصّه قد يقبل أيّة قراءة ممكنة. ولبيان هذه النقطة الدقيقة، فإنّنا سنولي اهتمامنا إلى بحث كتبه عن العدل في القرآن. فهو يقرّ بمعنى العدل الدقيق في عديد الآيات، ولكنّه يلفت الانتباه إلى ما يسمّيه “ركائز” الدين المتجذّرة في العهد بين الله والإنسانيّة، وفي الطبيعة الأصليّة للتركيبة البشريّة (أي الفطرة). وهو يرى أنّ العدل-الذي يعني عنده معيارا بالغَ الدقّة-هو محوريّ في رسالة القرآن، أي إنه معنى جوهريّ فيه. وعبر خطاب القرآن، يقع تذكير الكائنات البشريّة بهذه القيمة. ولكنّ الشكل الذي يتجسّد به العدل في المجتمع يتغيّر. وبالتالي، فإنّ قراءة القرآن في سياقه تقود إلى قيمة تطبيقه السياقيّ وتقييمه. إنّ العدل بما هو قيمة إنما يتجسد في خطاب الدين (أبو زيد 2001).
هل ثمّة نظام من القيم الأزليّة في القرآن؟ يبدو أحيانا أنّ الأمر كذلك في بحث أبو زيد، ولكنّه واع بهذا المشكل في ضوء الإطار الهرمينوطيقيّ الذي اعتمده في عمله. وهو لا ينسى الإيديولوجيا الموجِّهة لقراءة أيّ كتاب، بما في ذلك قراءته هو للقرآن (أبو زيد 1988). وفي دراسة مقارنيّة بين قاسم أمين والطاهر الحدّاد، يرفض أبو زيد هذه الإمكانيّة بشكل قطعيّ: “فليس جوهر الإسلام معطى جامدا بل هو معطى خاضع بشكل ثابت للاستدلال ولإعادة الاكتشاف في صلة بنموّ الوعي البشريّ وتطوّره” (أبو زيد 1999: 219).
ومن ثمّ، يجدر بالمرء أن يبحث عن القيم، ولكنّها ليست ثابتة ولا دائمة، وإنّما هي متجلّية في فعل القراءة. وبالنسبة إلى قيمة العدل على وجه الخصوص، بلور أبو زيد أطروحة وضعها أوّلا المفكّر الباكستانيّ فضل الرحمان: فبالنسبة إلى فضل الرحمان، تكون القيم القرآنيّة ثابتةً، في حين تتغيّر السياقات (فضل الرحمان 1997: 9). وبما أنّ أبو زيد يقترح أنّ القيم الأعمق هي نفسها يمكن أن تتغيّر، فإنّه يقيم ميزانا دقيقا للفصل بين المعنى العميق لتلك القيم والأثر الذي يحدثه القرّاء في ذاك التغيير الذي يطرأ عليها.
وإذ آخذ هذه البيانات جميعا بشكل إجماليّ، فإنّني أعرض استراتيجيا خطابية في أعمال أبو زيد، محورها الدين وقيمه وجوهره، حول أسئلة متعلّقة بالسياقات والثبات والتغيّر.
وبالنسبة إلى المحور الثاني في أعمال أبو زيد، فإنّه يميّز بين القيم التي يقرؤها في القرآن عند “تلاوته” الأولى، والموقف النقديّ الذي يتوقّعه من القرّاء المعاصرين لتلك التلاوة. وبهذا، يمكن القول إن مضمون المحور الثاني يتمثل في الفقرة التالية:
وفيما يعلّموننا أن نحصر معنى القرآن في لفظ تركيبه التاريخيّ الأوّل… فإنّه علينا أن نكون واعين باللفظ (أو الألفاظ) الأخرى من أجل استيعاب الديناميكيّات، التي استطاع القرآن حسبها أن يكوّن حياة المسلمين ويشكّلها. فقد يحمينا الوعي بالسمة الجوهريّة للغة الدينيّة عامّة من أن نكون منغمسين كليّا في مناخ مشوب بالتلقين ونفقد بالتالي هويّتنا الإنسانيّة (أبو زيد 2000: 15).
إن أبو زيد يعترف بتاريخيّة قراءة القرآن لدى جيلها الأوّل، والقراءات التي تضاعف عددها في القرون الموالية. وهو ينتظر من المفكّر أن يكون واعيا بالفروق بين هذه التأويلات وهذه القراءات. ولبيان هذا، فإنّه يخصّص حيّزا هامّا لتحديد هذه القراءات الدينيّة المتنوّعة ونقدها (أي الفكر الدينيّ أو الخطاب الدينيّ). وباتّباع دي سوسير، فإنّ تلك القراءات تمثل كلام القرآن في التاريخ والمجتمعات المعاصرة. وقد استهلّ مسيرته بعمل بارز حول هرمينوطيقا العلماء المسلمين الكلاسيكيّين والمفكّرين من أمثال الحسن البصريّ والشافعيّ والغزاليّ والقاضي عبد الجبّار (أبو زيد 1993؛ 1996أ؛ 1996ب). وقد بيّن كيف أنّ قراءتهم للإيديولوجيا وعلم العقيدة غيّرت معاني القرآن وقوّضتها من أجل أهداف سياسيّة وعقائديّة. وقد كشف أبو زيد أيضا عن الإيديولوجيا وعلم العقيدة الثاوييْن في النحو العربيّ الذي بنى عليه علماء ما قبل الحداثة مباحثهم المتنوّعة (أبو زيد 1988). وبعد مطلع تسعينيّات القرن الماضي، حين هاجمه أبناء بلده، صار أكثر اهتماما بما رأى أنّه خطر السياسة الدينيّة في مصر وفي بلاد إسلاميّة أخرى. ومنذ ذلك الوقت، ركّز اهتمامه على “تفكير دينيّ” حديث جديد بيّن أبرز سماته. فحدّد الخطاب الدينيّ باعتباره خطابا يرفض التسليم بالفعل الإنسانيّ في قراءة نصّ ما أو يحجبه، ويحدّ من العلاقات السببيّة بينهما أو يخفيها لفائدة فاعليّة الله المطلقة، ويوظّف مصطلحات تقضي على التمييز بين فترات مختلفة من التاريخ (أبو زيد 1994: 81). إنّه يعتقد أنّ هذا الفكر الدينيّ وهذا الكلام الجديد يتغلغلان في التيّارات الدينيّة الإسلاميّة المعاصرة (أبو زيد 1994: 94).
وعلى غرار عبده، يوظّف أبو زيد مفاهيم الدين والشأن الدينيّ لوضع أسلوب جديد في قراءة القرآن وفي تناول وجوه التحدّي المعاصرة التي تواجه المسلمين. فحدّد الدين باعتباره خطابا يحتاج إلى أن يقرأ باهتمام وحذر كبيرين، وخاصّة بالنظر إلى نصّه الأوّل. فلا تعني قراءة القرآن في سياقه إلغاء قيمه العميقة، بل إنّ التركيز على “تلاوته” الأولى في سياقه التاريخي، من شأنه أن يوفر قاعدة لفهم معناه الأصليّ. ولكنّ القراءات اللاحقة يجب أن تكون منفتحة على القراءات المعتبرة “باطلةً”، والتي يتعيّن على القارئ ألا يتجاهلها. فهو إذن يحدّد “الفكر الدينيّ” باعتباره قراءات إيديولوجيّة تتطلّب تقييما نقديّا عميقا.
6- ملاحظات ختاميّة: التجديد الدينيّ بما هو خطاب:
لقد قدّمت أنموذجين للتحديث الإسلاميّ يحملان خطابا عن الدين موظَّفا لتنمية نقد ما ورؤية ما هدفُهما تغيير المجتمع. وعبر الزمان والمكان تجادل العلماء المسلمون في العصر الحديث بخصوص معنى الإسلام، واستعملوا الدين ومدلولاته اللغويّة في هذا الجدل. وقد تتسنى مقارنة هذا بخطاب الدراسات الدينيّة، التي تستعمل أيضا مصطلحات مماثلة (أي الدين، والشأن الدينيّ، والطقس، والأسطورة، إلخ) من أجل خلق مبحث فكريّ. وقد أخضعت الدراسات الدينيّة لمراجعة نقديّة، بينما تمّت معاملة الإصلاح الإسلاميّ والتحديث عامّة باعتبارهما موضوعا تتعيّن دراسته وتمثيله، لا غيرَ.
فتحوّل الدين إلى مصطلح تأسيسيّ في هذا الخطاب، مصطلحٍ مبتكَر ومعتمَد من قبل المفكّرين المسلمين منذ القرن التاسع عشر. لقد وفّر هؤلاء المفكرون الإطار والوسيلة اللذين تمّ عبرهما تصوّر القيم والمشاريع ثمّ توظيفها في الحوارات والمبادلات والسياسة. لقد التفت عبده إلى الدين، وإلى صلته بالعقلانيّة وقيمته الاجتماعيّة من أجل تصوّر مشروع للإصلاح. ولم يكن هذا المشروع اقتباسا بسيطا من نصوص الإسلام التأسيسيّة ولا من المفكّرين المسلمين السابقين، بل شمل إعادة تصوّر لمفهوم الدين. وقد تمّ خلق هذا المشروع بالتفاعل مع محاورين استعماريّين أرادوا أن يبيّنوا أنّ الإسلام والمسلمين كانوا متخلّفين وجديرين بأن يُستعمروا. وقد أخذ عبده بعضا من هذه الأفكار وعكَسَها من أجل دعم مشروعه. ولم تكن هذه المبادرة مجرد خطة اعتمدها على نحو عابر، بل كانت بداية خطاب، أو تأمّلات ذاتيّة في وضع حدود وقيم منسوبة إلى الدين وإلى الشأن الديني. وقد قدّم لنا أبو زيد هذا الخطاب في آخر القرن العشرين، بالعمل على مفهوم للدين أُعيد النظر فيه باعتباره خطابا طوّره انطلاقا من دي سوسير. ومع هذا، فلم يتبع تيّارا ما-بعد-حداثيّ، بل اعتمد تأمّلات نقديّة ذاتيّة، اتّخذت موقفا يقوم على افتراض وجود فرق بين الدين والفكر الدينيّ. وقد قدّمت لمحة عن التفاعل بين المسلمين أنفسهم في هذا الخطاب، وهو تفاعل يبرز خاصّة في مناقشة أبو زيد لقاسم أمين والطاهر الحدّاد وفضل الرحمان. وأشار آخرون إلى حوار نقديّ مستمرّ فيما يخصّ معنى الدين وقيمته ووظيفته على مدى القرن العشرين (طيّب (Tayob) 2009؛ سنتورك (Senturk) 2009؛ دراسلار (Dressler) 2015).
وقد يبدو أنّ هذا الخطاب إنمّا كان انعكاسا للهيمنة الفكريّة الغربيّة التي سيطرت على السياسة وعلى العلوم الاجتماعيّة على وجه العموم. وهذه هي الحجّة المتّبعة في أعمال أسد وآخرين، وعلى نحو أوسع في أعمال درسلار ومنداير (Mandair) المنشورة التي توثّق لكيفيّة هيمنة “صنع الدين” في تكوين الدول في المستوى العالميّ. إنّ جملة أبحاث درسلار ومنداير تبيّن كيف أنّ الإطار الغربيّ للدين تمّ فرضه وتبنّيه من قبل الساسة وعلماء الدين في بلدان غير مسيحيّة، أي بلدان شمال أمريكا وأوروبا وآسيا (درسلار ومنداير 2011). ويخبرنا بحث وحيد في هذه المجموعة عن وجه مقاومة لهذا التحوّل، وهو بحث تورنر (Turner) حول كيف أنّ الرهبان البوذيّين قاوموا صنع الدولة للدين ونبذوه (تورنر 2011). وقد يبدو أنّ التمييز بين الدينيّ والعلمانيّ فرض نفسه فرضا على أولئك الذين يعملون في الهامش بشكل عامّ، وعلى المفكّرين الحديثين المسلمين خاصّة، إذ تكشف المعرفة الأوّليّة بالدراسات الدينية عن مصدر الحدود والأطر المتعلّقة بالدين، والتي يعمل ضمنها المفكّرون المسلمون. وذلك أن مصطلحات من قبيل “دين” و”جوهر” و”وظيفة” وخطاب، تمكن نسبتها إلى مؤسّسي الدراسات الدينيّة من أمثال ماكس مولر (Max Müller) (1823-1900)، وكورنيليوس تيله (Cornelius Tiele) (1848-1902) وشانتوبي دي لا سوسي (Chantepie de la Saussay) (1848-1920[9]) وبريده كريستنسان (Brede Kristensen) (1867-1953)، ولكن لا يبدو لنا في هذه الأعمال أيّ انخراط جليّ في مبحث الدراسات الدينيّة الغربيّ. وعلى وجه أهمّ، فإنّ أصول المبحث الغربيّ كما ناقشتُها في عملي سالف الذكر، توحي بأنّ الأفكار الأولى حول الجوهر والوظيفة، التي نقع عليها لدى عبده وآخرين في القرن التاسع عشر، كانت فقط آخذة في الظهور في الغرب. ويمكن لنا أن نقيم حجّة قويّة على أنّ هذا الخطاب الجديد يمكن التفكّر فيه على نحو أفضل باعتباره خطابا موازيا أو تطوّرا متقاطعا مع خطاب الدراسات الدينيّة الغربيّ، مع بعض الفروق المميّزة.
لقد أعاد المفكّرون المسلمون صياغة وجوه استعمال الدين في أوساط علماء الدين والفلاسفة السابقين للحداثة. ولا وجود لإشارات مباشرة تدلّ على وعي بذلك ولا على قصد إلى إعادة العمل بتلك الاستعمالات منذ ذلك التاريخ في أوساط المفكّرين الذين درستهم، ولكن لا شكّ في أنّ الإشارة إلى الدين باعتباره مقولة مجرّدة يمكن الوقوع عليها بسهولة في أوساط بعض أهمّ المفكّرين في تاريخ الإسلام. فعلى سبيل المثال، كتب ابن رشد (تـ1198) عن العلاقة بين الدين والفلسفة (حوراني 1976). وتفكرّ المؤرخ الكبير ابن خلدون في وظيفة الدين الذي يتقوّم به النظام السياسيّ (ابن خلدون 1967). واعتبر الصوفيّ جلال الدين الروميّ معاني الدين والإيمان المتنوّعة في كتابه النثريّ الشهير “فيه ما فيه” (الرومي 1961). وقد يتسنّى لنا الاعتقاد أنّ المفكّرين في القرن التاسع عشر كانوا يبنون على هذه الأسس بشكل ضمنيّ. فلم يكن الأمر ابتكارا في الدراسات الدينيّة كما أشار إلى ذلك جوناتان سميث، بل هو مصطلح كان موجودا بعدُ، وأعيدت صياغته لهدف جديد.
إنّ فكرة التجديد تمنح اسما مغريا لهذا الخطاب الحديث. فقبل القرن التاسع عشر، كان التجديد يصاغ حول ما يُتوقّع من مجدّد ما وبالاستعانة بأنموذج نبويّ لا يرقى إليه النقد (أي السنّة النبوية). فثمّة حديث نبويّ تنبّأ بأنّ مجدّدا ما سيظهر في أواخر كلّ قرن لتجديد الإسلام (موسى وتارين (Moosa & Tareen) 2012؛ طيّب 2014). ولذا، يبدو أن خطاب الدين الحديثَ الذي أنا بصدد مناقشته قد استغنى إلى درجة ما عن فكرة المجدّد، وتعرّضت قيمة السنّة وشكلُها إلى جدل شديد (لي (Lee) 1997). إنّ خطاب الدين الإسلاميّ يحوم حول قيمة الوحي وشكله وجدواه، باعتباره بالأساس مجموعة من النصوص. فتقع مقاربة النصوص ودراستها من خلال تحديدات وفرضيّات تتعلّق بما هو دين أو شأن دينيّ وما هو علمانيّ. وما يميّز مفكّري القرن التاسع عشر ثمّ مفكّري القرن العشرين من بعدهم، هو الدور المركزيّ الذي يقوم به الدين باعتباره مصطلحا يحدَّد به ويُعمل على أساسه، ويُعتمد في وجوه تشكيل ما تكون عليه معاني النصوص. وفي العقود القليلة الموالية، صار الدين أكثر من فكرة، إذ تحوّل إلى خطاب. وعلى غرار الخطابات الأخرى، لم تكن هذه التحديدات بمعزل عن الاستعارة من الأفكار الغربيّة وغير الغربيّة المعاصرة، ولكن نصوص الوحي التأسيسيّة لم تنفكّ ترسم حدود هذا الخطاب.
إنّ الخطاب الإسلاميّ هو خطاب دينيّ لا يقوم وعي ذاتيّ، ولكن ما من مناقشة شاملة لحضور مقدّس ولا “لميل شديد”، يتعلّقان بالعقائد الكبرى ولا بالافتراضات التي يجدها المرء في خطاب الدراسات الدينيّة الغربيّ. إنّ الخطاب الإسلاميّ هو خطاب دينيّ، ولكنّه لا ينخرط في مناقشات “عقديّة” محورها اللامرئيّ أو المقدّس أو ما يتعلّق بالوحي. فلا وجود لدين مخفيّ في النومينا، جوهر الدين الذي لا بدّ من الاضطلاع به وإبرازه، ولا في الأنماط التي تبسطها الظواهر. فكثير ممّا جاء في المراجعة النقديّة لإلياد ولعلماء فينومينولوجيّين آخرين، لا ينطبق على هذا الخطاب. وبدلا من أن يتحدد هذا الخطاب بوصفه علم عقيدة أو جملة من الأنماط الروحيّة صعبة المنال، فإنه يتحدّد باعتباره سياسة ما. إنّه سياسة تقوم على الأصالة والهويّة والقيم الأخلاقيّة، ظهرت في ذروة المجد الاستعماريّ، على مدى مرحلة زمنيّة سيطرت عليها أوروبّا والغرب. وثمّة حدّ ما من شرعنة الدولة الحديثة الجديدة، كما نرى ذلك في تجربة عبده في دولة مستعمَرة. غير أنّ هذا الخطاب احتلّ دورا هامشيّا في سياسة الدولة والسياسة الشعبية العامّة. وتقدّم حالة أبو زيد أنموذجا جيّدا على وقوعه بين شرعنة الدولة، والدين الشعبيّ.
إنّ خطاب التحديث الإسلاميّ ليس تمثيلا ثقافيّا “للآخر”، بل هو مشروع عمل ثقافيّ ودينيّ وسياسيّ يسمه التجديد. وليس هو خطابا موجّها نحو الآخر في صورة تُظهر الذات منتصرة، أو مرذولة ضمن النقد الما-بعد-الحداثي والما-بعد-الاستعماريّ. إنّه مشروع عميق الالتزام، تنهض به ذات منفتحة على التقييم النقديّ والمراجعة، ومحمول بحاجة إلى التجديد بدلا من مجرّد التصنيف.
فما هي مقتضيات هذا الخطاب الما-بعد-الاستعماريّة واللا-استعماريّة؟ إنّه خطاب منبوذ من عدّة وجوه. فإذا طُرح على أنّه تحديث إسلاميّ أو على أنّه ببساطة خطاب تحديثيّ، اتهمه بعض المفكرين المسلمين بأنّه مفرط في غربيّته، أو اتهمه بعض معارضيه الغربيّين بأنّه مفرط في تديّنه. إنّه خطاب يعاني بشدّة ضمن سياسة التمسّك بالهويّة والتمثّل التي تسود على نطاق واسع. وقد فشل هذا الخطاب في أن يدّعي الأصالة، لأنّه يعمل مع الماضي والحاضر، ومع المحلّيّ والكونيّ، ومع الذات و”الآخر”. ورغم هذا، وكما بيّنت، فإنّ الخطاب الديني الحديث الذي جاء به المفكّرون المسلمون على مدى هذه الفترة، يشهد على فرادة دامت فترة زمنيّة طويلة. وقد بيّنت أيضا أنّ هذا الخطاب لا يمكن نعته بأنّه انعكاس باهت لمقاربة غربيّة للدين. لقد كان خطابا تجديديّا فيما يتعلّق بالمصطلحات المستقاة من الماضي. وقد وظّف مصطلحات إمّا أنه قد طوّرها على نحو مستقلّ، أو بالتحاور على نطاق أوسع مع التقاليد الغربيّة الإنسانيّة والاجتماعيّة العلميّة. إنّه مشروع خلاّق يستحقّ حظّا أوفر من التقييم النقديّ ومن العمل.
وأخيرا، وفي نطاق دراسة الأديان، فإنّ هذا الخطاب يساعد على لفت الانتباه إلى النحو الذي تمّ عليه استعمال الدين باعتباره خطابا نقديّا يتناول المجتمع والتاريخ، في تقليد مختلف. إنّه خطاب ليس فقط محورا للتمثيل، بل هو يَمْثُل خطابا بمحاذاة خطاب الدراسات الدينيّة المهيمن، المنخرط في أعمال مماثلة. وبإدراك ضيق الأفق الذي يسم الخطاب الغربيّ، يتعيّن على علماء الدين أن يحوّلوا اهتمامهم في مثل هذه الخطابات إلى وجهات أخرى. فنحن نحتاج لا فقط إلى أن نصقل التقليد المهيمن القائم بعدُ، بل أن نقيّم خطابات الدين في جهات أخرى تقييما نقديّا. وآمل أنّ هذا المقال قد لفت الانتباه إلى أحد نماذج هذا الخطاب في أوساط المفكّرين المسلمين.
القائمة البيبليوغرافيّة كما وردت في النص الأصلي:
- ʿAbduh, M. 1368. Risālat Al-Tawḥid. Cairo: Dār al-Manār.
- ʿAbduh, M. 1989. Al-Islām, Dīn al-ʿilm wa ʾl-madaniyya. Beirut: Manshūrāt Dār Maktabat al-Ḥayāt.
- Abū Zayd, N.H. 1988. al-Taʾwīl fī Kitāb Sībawayh. Alif: Journal of Comparative Poetics 8: 82-117.
- Abū Zayd, N.H. 1993. al-Ittijāh al-ʿaqlī fī ʾl-tafsīr. Beirut: Dār al-tanwīr. Abū Zayd, N.H. 1994. Naqd al-Khitab al-Dini. Cairo: Dar Sina.
- Abū Zayd, N.H. 1996a. al-Imām al-Shāfiʿī wa taʾsīs al-aydiyulūjiyyah al- wasaṭiyyah. Cairo: Maktabah Madbūlī.
- Abū Zayd, N.H. 1996b. Khiṭāb Ibn Rushd bayn ḥaqq al-maʿrifah wa ḍughūṭ al-naqīḍ. Alif: Journal of Comparative Poetics 16: 6-35.
- Abū-Zayd, N.H. 1999. The sectarian and Renaissance discourse. Alif: Journal of Comparative Poetics (Gender and knowledge: Contribution of gender perspectives to intellectual formations) 19: 203-222.
- Abū Zayd, N.H. 2000. The Qur’an: God and man in communication. Available at: http://www.let.leidenuniv.nl/forum/01_1/onderzoek/lecture.pdf. (Accessed on 12 July 2018).
- Abū Zayd, N.H. 2001. The Qur’anic concept of justice. Available at: http://them.polylog.org/3/fan-en.htm. (Accessed on 12 July 2018).
- Asad, T. 1986. The idea of an anthropology of Islam. Washington D.C.: Center for Contemporary Arab Studies, Georgetown University.
- Asad, T. 1993. Genealogies of religion: Discipline and reasons of power in Christianity and Islam. Baltimore: John Hopkins University Press.
- Asad, T. 2001a. Thinking about secularism and law in Egypt. Leiden: ISIM.
- Asad, T. 2001b. Reading a modern classic: W.C. Smith’s the meaning and end of religion. History of Religions 40, 3: 205-222.
- Bowen, J.R. 1987. Islamic transformations: From Sufi doctrine to ritual practice in Gayo culture. In Kipp, R.S. & S. Rodgers (eds.): Indonesian religions in transition. Tucson: University of Arizona Press.
- Bowen, J.R. 1989. Salat in Indonesia: The social meaning of an Islamic ritual. Man (N.S.) 24, 4: 600-619.
- Bowen, J.R. 1993. Muslims through discourse: Religion and ritual in Gayo societies. Princeton: Princeton University Press.
- Bowen, J.R. 2001. Shariʿa, state, and social norms in France and Indonesia.
- Leiden: ISIM.
- Bowen, J.R. 2004. Beyond migration: Islam as a transnational public space. Journal of Ethnic and Migration Studies 30, 5: 879-894.
- Capps, W.H. 1995. Religious studies: The making of a discipline. Minneapolis: Fortress Press.
- Chidester, D. 1996. Savage systems: Colonialism and comparative religion in Southern Africa. Charlottesville: University Press of Virginia.
- Chidester, D. 2004. ‘Classify and conquer’: Friedrich Max Müller, indigenous religious traditions, and imperial comparative religion. In Olupona, J. (ed): Beyond primitivism: Indigenous religious traditions and modernity. London, New York: Routledge.
- Chidester, D. 2014. Empire of religion: Imperialism and comparative religion.
- Berkeley: University of Chicago Press.
- Chidester, D. 2017. Beyond religious studies? The future of the study of religion in a multidisciplinary perspective. Nederlands Theologisch Tijdschrift 71, 1: 74-85.
- Dressler, M. 2015. Rereading Ziya Gǒkalp: Secularism and reform of the Islamic state in the late Young Turk period. International Journal of Middle East Studies 47, 3: 511-531.
- Dressler, M. & A.-P.S. Mandair (eds.) 2011. Secularism and religion-making. Oxford, New York: Oxford University Press.
- Dubuisson, D. & W. Sayers 2003. The Western construction of religion: Myths, knowledge, and ideology. Baltimore: John Hopkins University Press.
- El Guindi, F. 1981. Veiling infitah with Muslim ethic: Egypt’s contemporary Islamic movement. Social Problems 28, 4: 465-485.
- Foucault, M. 1977. Nietzsche, genealogy, history. In Bouchard D.F. (ed.): Language, counter-memory, practice: Selected essays and interviews. Ithaca: Cornell University Press.
- Grosfoguel, R. 2011. Decolonizing post-colonial studies and paradigms of political-economy: Transmodernity, decolonial thinking, and global coloniality. Transmodernity: Journal of Peripheral Cultural Production of the Luso-Hispanic World 1, 1: 38 pages.
- Haj, S. 2009. Reconfiguring Islamic tradition: Reform, rationality and modernity. Stanford: Stanford University Press.
- Hirschkind, C. 1995. Heresy or hermeneutics? The case of Nasr Hamid Abu Zayd. Available at: https://web.stanford.edu/group/SHR/5- 1/text/hirschkind.html. (Accessed on 2 August 2018.)
- Hirschkind, C. 2001. Civic virtue and religious reason: An Islamic counterpublic. Cultural Anthropology 16, 1: 3-34.
- Hirschkind, C. 2006. The ethical soundscape: Cassette sermons and Islamic counterpublics. New York: Columbia University Press.
- Hoebink, M. 1998. Thinking about renewal in Islam: Towards a history of Islamic ideas on modernization and secularization. Arabica xlvi, 29-62. Hourani, G.F. 1976. Averroes: On the harmony of religion and philosophy.
- Available at: http://www.muslimphilosophy.com/ir/fasl.htm. (Accessed on 21 May 2018).
- Ibn Khaldun, A.A.-R.M. 1967. The muqaddimah: An introduction to history. London: Routledge & Kegan Paul.
- Kersten, C. 2011. Cosmopolitans and heretics: New Muslim intellectuals and the study of Islam. New York: Columbia University Press.
- King, R. 1999. Orientalism and religion: post-colonial theory, India and ‘the Mystic East’. London: Routledge.
- Kippenberg, H.G. 1983. Diskursive Relgionswissenschaft: Gedanken zu einer Religionswissenschaft, die weder auf einer allgemeinen gültigen Definition von Religion noch auf einer Überlegenheit von Wissenschaft basiert. In Gladigow, B. & H.G. Kippenberg (eds.): Neue Ansätze in der Religionswissenschaft. Munich: Kösel-Verlag.
- Kippenberg, H.G. 1994. Rivalry among scholars of religions: The crisis of historicism and the formation of paradigms in the history of religions. Historical Reflections 20, 3: 377-402.
- Kippenberg, H.G. 2000. Religious history, displaced by modernity. Numen 47, 3: 221-243.
- Lee, R.D. 1997. Overcoming tradition and modernity: The search for Islamic authenticity. Boulder: Westview Press.
- Macleod, A.E. 1991. Accommodating protest: Working women, the new veiling, and change in Cairo. New York: Columbia University Press.
- Mahmood, S. 2005. Politics of piety: The Islamic revival and the feminist subject. Princeton: Princeton University Press.
- Mahmood, S. 2006. Secularism, hermeneutics, and empire: The politics of Islamic reformation. Public Culture 18, 2: 323-247.
- Masud, M.K. & A. Salvatore 2009. Western scholars of Islam on the issue of modernity. In Masud, M.K., A. Salvatore & M. van Bruinessen (eds.): Islam and modernity: Key issues and debates. Edinburgh: Edinburgh University Press.
- McCutcheon, R.T. 1995. Review: The category ‘religion’ in recent publications: A critical survey. Numen 42, 3: 284-309.
- McCutcheon, R.T. 1997. Manufacturing religion: The discourse on sui generis religion and the politics of nostalgia. Oxford: Oxford University Press. Merriam-Webster 2018, Numen. Available at: https://www.merriam-webster.com/dictionary/numen. (Accessed on 10 August 2018).
- Mignolo, W.D. 2007. Delinking: The rhetoric of modernity, the logic of coloniality and the grammar of de-coloniality. Cultural studies 21, 2-3: 449-514.
- Moaddel, M. 2001. Conditions of ideological production: The origins of Islamic modernism in India, Egypt, and Iran. Theory and Society 30, 5: 669-731.
- Moaddel, M. & K. Talattof (eds.) 2000. Contemporary debates in Islam: An anthology of modernist and fundamentalist thought. New York: Macmillan.
- Moosa, E. & S. Tareen 2012. Revival and reform. In Bowering, G. (ed.): The Princeton encyclopedia of Islamic political thought. Princeton: Princeton University Press.
- Murphy, T. 2014. Representing religion: History, theory, crisis. London, New York: Routledge.
- Nakata, N.M., V. Nakata, S. Keech & R. Bolt 2012. Decolonial goals and pedagogies for indigenous studies. Decolonization: Indigeneity, Education and Society 1, 1: 120-140.
- Rahman, F. 1979. Islam. Chicago: University of Chicago Press.
- Raschke, C. 2012. Postmodernism and the revolution in religious theory toward a semiotics of the event. Charlottesville, London: University of Virginia Press.
- Rumi, J. 1961. Discourses of Rumi. London: J. Murray.
- Salvatore, A. 1997. Islam and the political discourse of modernity. Reading: Ithaca Press.
- Salwa, I. 2003. Rethinking Islamist politics: Culture, the state and Islamism. London: I.B. Tauris Publishers.
- Schulze, R. 2000. A modern history of the Islamic world. London, New York: I.B. Tauris Publishers.
- Senturk, R. 2009. Islamist reformist discourses and intellectuals in Turkey: Permanent religion with dynamic law. In Hunter, S.T. (ed): Reformist voices of Islam: Mediating Islam and modernity. New York: Routledge. Smith, J.Z. 1978. Map is not territory: Studies in the history of religions. Leiden: Brill.
- Smith, J.Z. 1980. The bare facts of ritual. History of Religions 20, 1/2: 112- 127.
- Smith, J.Z. 1982. Imagining religion: From Babylon to Jonestown. Chicago: University of Chicago Press.
- Smith, J.Z. 1998. Religion, religions, religious. In Taylor, M.C. (ed.): Critical terms for religious studies. Chicago: University of Chicago Press.
- Smith, W.C. 1962. The meaning and end of religion. New York: New America Library.
- Spivak, G.C. 2006. Can the Subaltern Speak? In Ashcroft, B., G. Griffiths &
- Tiffin (ed.): The post-colonial studies reader. London: Routledge.
- Strenski, I. 2015. Understanding theories of religion: An introduction (thinking about religion). Malden, Oxford: Wiley-Blackwell.
- Tayob, A. 2009. Religion in modern Islamic discourse. London: Hurst.
- Tayob, A. 2014. Back to the roots, the origins and the beginning: Reflections on revival (Tajdīd) in Islamic discourse. Temenos: Nordic Journal of Comparative Religion 50, 2: 257-271.
- Turner, A. 2011. Religion making and its failures: Turning monasteries into schools and Buddhism into a religion in colonial Burma. In Dressler, M. & A.-P.S. Mandair (eds.): Secularism and religion-making. New York: Oxford University Press.
- Voll, J.O. 1982. Islam: Continuity and change in the modern world. Boulder: Westview Press.
- Voll, J.O. 1983. Renewal and reform in Islamic history: Tajdid and Islah. In Esposito, J.L. (ed.): Voices of resurgent Islam. New York: Oxford University Press.
- Weismann, I. 2001. Taste of modernity: Sufism, Salafiyya, and Arabism in late Ottoman Damascus. Leiden: Brill.
- Wiebe, D. 1991. Phenomenology of religion as religio-cultural quest: Gerardus van der Leeuw and the subversion of the scientific study of religion. In Kippenberg, H.G. & B. Luchesi (eds.): Religionwissenschaft und Kulturkritik: Beiträge zur Konferenze ‘the history of religions and critique of culture in the days of Gerardus van der Leeuw (1890-1950)’. Marburg: Diagonal-Verlag.
- Wiebe, D. 1994a. From religious to social reality: The transformation of ‘religion’ in the academy. The notion of ‘religion’ in comparative research: Selected proceedings of the XVIth Congress of the International Association for the History of Religions, Rome, 3-8 September 1990. Rome: L’Erma di Bretschneider.
- Wiebe, D. 1994b. Transcending religious language: Towards the recovery of an academic agenda. In Bianchi, U., F. Mora & L. Bianchi (eds.): The notion of ‘religion’ in comparative research: Selected proceedings of the XVIth Congress of the International Association for the History of Religions, Rome, 3-8 September 1990. Rome: L’Erma di Bretschneider.
*- Tayob, Abdulkader. Decolonizing the Study of Religions: Muslim Intellectuals and the Enlightenment Project of Religious Studies. J. Study Relig., 2018, vol.31, no.2, p.7-35. ISSN 1011-7601.
[1] – نعرّب بهذه الكلمة اللفظة الإنجليزيّة ”discursive” (المترجمة).
[2]– استعمل صاحب المقال لفظ “decolonial”، وبدا لنا تعريبه بـ “لا-استعماريّ” هو الأنسب. (المترجمة).
[3] – في مقالها البارز (سبيفاك، 2006).
[4]– إذ استعمل فوكو المقاربة الجينيالوجيّة التي طوّرها انطلاقا من أعمال نيتشه، فقد أشار إلى النتائج التي لم يفكّر فيها أحد ولم يتوقّعها أحد لما انطلق بوصفه مساعي عقلانيّة موضوعيّة لفهم الوضع الإنسانيّ (فوكو، 1977).
[5]– استعملنا هذا اللفظ تعريبا لكلمة “ritualised” الإنجليزيّة. (المترجمة).
[6]– لا يوجد في اللغة العربيّة عدا هذه العبارة المنحوتة للتعبير عن اللفظ الإغريقيّ (νοούμενoν / nooúmenon) الذي استعمله أفلاطون للتعبير عن الحقيقة كما يستوعبها العقل، في مقابل العالم المادّيّ الملموس. وللكلمة رديف فرنسيّ هو (noumène). أمّا بالإنجليزيّة، فنجد اللفظ (noumenon) الذي هو مستعمل في هذا المقال. (المترجمة).
[7]– إنّ ثمّة مقاربة مشابهة ولكنّها لئن كانت واضحة جليّة، فهي ليست ما-بعد-حداثية. ونجدها في عمل هانس كيبنبارغ (Hans Kippenberg) الذي بيّن كيف أنّ الدين-بوصفه مقولة في دراسة الدين-إنّما كان جزءا من حركات سياسيّة وفكريّة أوسع في أوروربا (كيبنبارغ 1983؛ 2000؛ 1994).
[8] – يشير المؤلّف إلى عنوان كتاب عبده بأنّه “الإسلام دين العلم والمدنيّة”، ولم نجد العنوان على هذا النحو في مختلف الطبعات التي تيسّر لنا الوقوع عليها. بل وجدنا صيغة العنوان هي التالية: “الإسلام بين العلم والمدنيّة”. وكذا لم يتيسّر لنا العثور على الطبعة التي اعتمدها المؤلّف، وقد خيّرنا اعتماد الشواهد الأصليّة من هذا الكتاب على تعريب صيغتها الإنجليزيّة التي أوردها هو. فأحلنا على الشواهد بناء على الطبعة التي اعتمدناها وهي طبعة كلمات عربيّة للترجمة والنشر، القاهرة، 2011. وهذه الطبعة هي التي سنحيل عليها في ترجمتنا للمقال. (المترجمة).
[9]– جاءت في النصّ الأصليّ 192 (المترجمة).