الملخّص:
يتطرق هذا المقال إلى العلاقة بين عالم الأطفال والعالم السياسي منتقدا الآراء التي تعتبر الطفل عاجزا عن معرفة بيئته السياسية أو حتى فهمها. كما يركز الكاتب على دور التنشئة الاجتماعية السياسية في تشكيل مختلف التوجهات لدى الفرد واكتساب المعايير السائدة في المجتمع وفي بيان خضوع الطفل أكثر من غيره لهاته القوانين. ففي مرحلة الطفولة حيث يتم تحديد التوجهات الرئيسية في شخصية الفرد من خلال كلٍ ما يحيط به وبالتالي فالتنشئة الاجتماعية السياسية تخلق لديه مواقف غير محايدة فيما يتعلق بالحياة السياسية. لذا، فإن الأنظمة السياسية، وعيا منها بأهمية الأمر ولضمان استقرارها وضمان استمراريتها، تقدم للطفل تربيةً سياسيةً رسمية على أساس التربية المدنية حول كيفية التفاعل معها عندما يصير بالغاً ومواطناً “ذا أهلية “يتوفر على هوية وطنية وفاعليةٍ سياسيةٍ معينة.
الكلمات المفاتيح : التنشئة الاجتماعية السياسية، الأطفال، الأنظمة السياسية، هوية وطنية.
Abstract:
The following article deals with the relationship between the world of children and politics, criticizing viewpoints that consider the child unable to know or even understand his political environment. The writer also focuses on the role of political social upbringing in shaping the different orientations of the individual and acquiring the prevailing norms in society, and thinks that the child is subject more to these laws. In the childhood stage, where the main trends in the personality are determined by everything surroundings the individual, and thus political socialization creates non-neutral attitudes regarding the political life. That’s why, political systems, aware of the importance of the matter and to ensure their stability and continuity, provide the child with formal political education on the based on civic education to interact with properly when he becomes an adult and a “qualified” citizen with a national identity and a certain political activity.
Key words: Political socialization, children, political systems, national identity.
1- المقدمة:
المقال الذي بين أيدينا هو بقلم توفيق رحموني الإدريسي Toufik Rahmouni El Idrissi، المولود بالدار البيضاء عام 1959. هو أستاذ بجامعة الحسن الثاني -الدار البيضاء للعلوم السياسية، مدير مختبر العلوم الاجتماعية، منسق ماجستير علم الاجتماع السياسي والديناميات الاجتماعية في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء وكذا رئيس قسم القانون العام.
يندرج موضوع المقال الآتي، بشكل عام، في مجال علم الاجتماع، ويهتم على وجه الخصوص بالطريقة التي تتم بها التنشئة الاجتماعية السياسية للأطفال.
2- النص:
ما عدا بعض الاستثناءات الأمريكية، نجد أن الدراسات التي تطرقت لتنشئة الأطفال لا تشغل سوى حيز ضئيل في أعمال علماء الاجتماع والسياسيين. فمعظم علماء الاجتماع يهتمون في المقام الأول بعالم الكبار ولا يُتطرق لتنشئة الشباب وللدوافع التي تحرك مواقفهم وسلوكياتهم إلا صدفةً. غير أن عظماء الأسلاف، أدركوا جيدًا أهمية مثل هذه الدراسات للحياة في المجتمع ولأي مشروع إصلاحٍ اجتماعي. قام إميل دوركايم Emile Durkheim بوضع الحجر الأساس لعلم اجتماعٍ التعليم الأصيل والذي نسج روابط تشتد أواصرها مباشرةً بالهياكل الاجتماعية والثقافية والعلاقات مع القوى السياسية والدينية والاقتصادية. علاوة على ذلك، اقترح دوركايم بنفسه الخطوط العريضة للتنشئة الاجتماعية فيما يخص مختلف المؤسسات (الأسرة والمدرسة)، إذ رأى فيها الديناميكيات الرئيسية لتأسيس مجتمعٍ علمانيٍ وصناعيٍ شبيهٍ بما تكهّن له في المستقبل[1].
وقد أكد دوركايم Durkheim في “عمله التربية وعلم الاجتماع” أنه “لا توجد فترة في الحياة الاجتماعية، ولا وقت في اليوم حيث لا تتواصل فيه الأجيال الشابة مع كبارهم، الأمر الذي ينفي فكرة عدم تلقيهم أي تأثير تعليمي ٍمنهم.” ولعل أبرز ما يجعل من مصطلح “التنشئة الاجتماعية السياسية” أكثر استعمالا ودراسة من قِبل الأطفال مقارنة بالبالغين هو هذا الاتصال والتأثير المستمران
لماذا كل هذا الاهتمام بالطفل؟ بكل بساطة، لأن الطفل يكتسب من خلال مختلف مراحل نموه سلوكا ًومواقف يقدّر لها أن تستمر وتدوم مع الزمن، لدرجة التأثير وتكييف طبيعة العلاقة وأسلوبها التي سيتعين على الطفل القيام بها مع النظام السياسي كعضو كامل الأهلية، يتوفر على هوية وطنية وفعاليةٍ سياسيةٍ معينة (كالمشاركة الانتخابية، على سبيل المثال). يهتم الباحثون بتكوين هذه المواقف والسلوكيات عند الأطفال وتأثيرها على توجهاتهم السياسية بمجرد أن يصبحوا بالغين. كَوننا في نهاية المطاف، لم نولد بدوافع سياسية ولكننا نكتسبها من خلال مختلف التفاعلات مع الأفراد والنظام المجتمعي (ميتشل Mitchell، 1962: 34). من بين الأسئلة التي تطرح نفسها والتي يحاولون تقديم إجابات عليها يمكننا الاستشهاد بما يلي: كيف للفرد أن يتعلم التعرف على نظامه؟ كيف لطفل يفتقر لأدنى معرفة بالعالم الذي يعيش فيه، أن يصبح بالغًا ولديه تصورٌ وإدراكٌ للأشياء السياسية؟ وفقا لأي عمليةٍ يتمكن الفرد من تحقيق مثل هذا الانتقال؟
حسب ميتشلMitchell (1962)، من البديهي أن يخضع كل فردٍ في المجتمع لعملية التنشئة الاجتماعية. غير أنه لا تتم تنشئة جميع الأفراد بطريقةٍ متساويةٍ وموحدة ٍسياسياً. ويضيف مؤكداً أن الأطفال، أكثر من الكبار، لديهم الكثير ليتعلموه وهم منخرطون في عملية تعلمٍ مستمرةٍ تتيح لهم لاحقًاً فرصة التحلي بلقب أعضاءٍ كاملي الأهلية في المجتمع الذي ينتمون إليه.
“يظل الفرد يتعلم حول السياسة طوال حياته”، بيد أن التوجهات الرئيسية تبرز وتأخذ شكلها خلال فترة الطفولة. ولأجل بناء هذا الأساس المعرفي والعاطفي، جعلت التنشئة الاجتماعية السياسية من الطفل هدفها المفضل. بالنسبة إلى هيمان Hyman (1959)، “يتعلم الأفراد بشكلٍ تدريجيٍ ومبكرٍ توجهاتهم السياسية” (ص 11). وهذا ما يفسر بالنسبة إليه كيف يمكن للفرد أن يُضمر داخله ميولًا يملي عليه سلوكًا سياسيًا معينًا بدلاً من سلوك آخر (ويأخذ مثال الانتماء الحزبي). أما بالنسبة إلى المقاربة المنهجية، فهي تعتبر أن سلوك الفرد ما هو الا انعكاسٌ للتيارات المختلفة للتنشئة الاجتماعية خلال الطفولة: “كلما تبنى الشخص مجموعةً معينةً من التوجهات السياسية في وقت مبكر، كلما قل احتمال تآكل هذه التوجهات لاحقًاً في حياته “(دينيس Dennis، 1968). لقد ركزت أعمال ديفيد إيستون بشكلٍ كبيرٍ على أهمية فترة الطفولة في عملية التنشئة الاجتماعية السياسية. على سبيل المثال، نستحضر الدراسات الأربع الأكثر حسماً في هذا الاتجاه: صورة الطفل المتغيرة للرئيس (إيستون وهيس Easton et Hess، 1960)، الشباب والنظام السياسي (إيستون وهيس Easton et Hess، 1961-أ)، صورة الطفل عن الحكومة (إيستون ودينيس Easton et Dennis، 1965)، الأطفال في النظام السياسي (إيستون ودينيس Easton et Dennis، 1969). (ويمكن أن نصوغ العنصر الموحد الذي يجمع الدراسات الأربع في نفس المنظور على النحو التالي: “مراحل ما قبل التمهيد هي السنوات التكوينية الحيوية في الحياة السياسية” (ايستون وهيس Easton et Hess، 1961 أ: 238). يعتمد المفهوم الإيستوني على شرطٍ مسبقٍ في غاية الوضوح: لا يولد أحد بسلسلةٍ من التوجهات ولا يكتسبها جميعاً في نفس الوقت وخلال نفس الفترة، لكن يعتمد استيعابها على تقدمٍ واضح المعالم خلال مراحل معينة.في صياغةٍ شاملة، وضع إيستون وهيس Easton et Hess(1961) مخططاً رئيسياً يشرح من خلاله فائدة التنشئة الاجتماعية السياسية للطفل مقارنة بالكبار:
“إن التنشئة الاجتماعية هي في الأساس عملية تعلمٍ يتم من خلالها اكتساب نطاق معين من التوجهات السياسية كعضو ينضج من الناحية الفسيولوجية في المجتمع، … ما يتم تعلمه مبكرًا في عملية النضج يميل إلى الاستمرار والامتداد في مراحل لاحقة. ما سبق لا يعني البتة أن البالغين يتوقفون عن التعلم، ولكن تعلمهم يحدث داخل حدودٍ واضحةٍ وبالتالي مقيدةٍ بأنماط السلوك السابقة. كل ما يعنيه هذا هو أنه في الحالة المعتادة، ينخفض معدل التغيير في السلوك الذي تم تعلمه بالفعل مع كبر السن” (ص 236).
إن التنشئة الاجتماعية هي عمليةٌ يتم من خلالها نقل القيم الثقافية واستيعابها من قبل سكان معينين. إذ تفيد في بناء عوالم رمزيةٍ تحمل معايير تهدف إلى بلورة الهوية الاجتماعية من خلال الترسيخ والتعليم والتكيف الثقافي في إطار عمليةٍ دائمةٍ ومركبة. وبالتالي، فإن التنشئة الاجتماعية تقوم بدور محفز في الحفاظ على نظام القواعد والعلاقات الاجتماعية التي هي أساس كل مجتمع[2]. ومن ثم، فهي تمكّن الأفراد من اكتساب طريقةٍ في التفكير والتصرف، وأن يكونوا على النحو الذي يمكّنهم من التعبير عن أنفسهم داخل مجموعةٍ اجتماعيةٍ. وهي طريقة تساعدهم، على استيعاب الأدوار الاجتماعية والقيم والمعايير الخاصة بالثقافة الرائجة والسائدة[3].
يُقصد بالتنشئة الاجتماعية الأولية[4] التنشئة الاجتماعية الأولى التي يتلقاها الفرد في طفولته والتي بفضلها يصبح عضوًا في المجتمع. فهي تخلق في وعي الطفل تجريدًا تدريجيًا لأدوار الآخرين ومواقفهم. كما يمكن تعريفها بأنها عملية اكتسابٍ للمعايير السائدة في المجتمع (1970(Greenstein، والتي تميل إلى دعم النظام القائم والشخصيات الممثلة للسلطة به (Easton and Dennis1969) ، خلال جميع الدورات التي يقوم الفرد من خلالها، منذ طفولته المبكرة، بتشكيل هويةٍ ونضجٍ سياسيين (داوسونوبريويتDawson et Prewitt، 1969؛ سيرز، 1975). كما يمكننا أن نضيف إلى هذا التعريف الخطوط العريضة لنظرية بياجيه المتعلقة بالديناميكية المزدوجة الاستيعاب -التكيف التي تجعل من الطفل، على وجه الخصوص، فاعلاً نشطاً يؤثر في بيئته خلال مراحل نموه الأولى[5].
تميل التنشئة الاجتماعية السياسية إلى تعزيز استيعاب القواعد المعيارية لدى الأطفال، التي تشكل نظام القيم ليتم استيعابها وترجمتها عبر المواقف والسلوكيات Hess etTorney)، 1967؛Cherkaoui، (1989. بعبارة أخرى، يعتمد استقرار النظام على قدرته نقل انتظامٍ معينٍ للأشكال والأفعال، في إطار ديناميكية مشتركة بين الأجيال، قادرةٍ على توفير التناغم لضمان الاستمرارية مع مرور الزمن (إيستونEaston، 1968؛ سيجل Sigel، 1965) وهذا دون اللجوء إلى قيودٍ قسريةٍ أو إلى عقوباتٍ خارجية. حول هذا الموضوع، يكتب الشرقاوي Cherkaoui قائلا: “إن هذا الاستيعاب للمعايير والقيم له أيضًا، بوصفه وظيفة، جعل القواعد الاجتماعية قواعد خاصة بالفرد، وهي بحكم تعريفها خارجية عنه، وكذا وزيادة التضامن بين أعضاء الجماعة.” (الشرقاوي Cherkaoui ، 1989، ص 181).
وباعتبارها “أداةً للتنظيم الاجتماعي” (الشرقاوي Cherkaoui، 1989)، تتم التنشئة الاجتماعية من خلال القنوات التي تؤدي وظيفة النقل والتكيف الثقافي: الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، الشارع، الأقران، الدين، المهنة … جميعهم وكلاء اجتماعيون يشاركون بنشاطٍ في هذه العملية، كل منهم حسب نصيبه من التأثير وحسب درجة شدته. سلطت العديد من الدراسات التجريبية الضوء على الدور المحدد الذي يلعبه كل من العملاء في تكوين الأطفال، سواءٌ من الناحية المعرفية أو العاطفية،(Langton et Karns, 1969 ; Jennings et Niemi, 1971 ; Rahmouni, 1994).
غير أنه، من المؤكد أن الطفل الذي تمّت تنشئته اجتماعياً لا يظل سلبيًا أمام هذا التدفق من التفاعلات التي تخترقه جوهرياً. إن ردة فعله ضرورية، لأننا ومن خلالها نتمكن من صياغة تصورٍ وشرحٍ أكثر دقة لعملية التنشئة الاجتماعية السياسية. يؤكد شوارتزSchwartz بهذا الصدد أن “عملية التنشئة الاجتماعية ليست عملية معاملات ولكنها عمليةٌ تفاعليةٌ يمكن أن تحدث فيها عمليات التبادل والتأثيرات الثنائية الاتجاه. يمكن أن تكون الإجراءات التي يتم البدء بها بشكل فرديٍ وكذلك التعليقات على سلوك الوكلاء عوامل مهمة بخصوص ما يتم تدريسه بالإضافة إلى ما تم تعلمه”. (Schwartz chwartz,، 1975، ص 9)[6].
فكلما تمّ التعبير عن المواقف من قبل الأطفال وجب علينا النظر إلى عملية التنشئة الاجتماعية التي تستحق التحليل بالخصوص، أي كيف ومتى وتحت أي ظروف تم اكتساب هذه المواقف السياسية واعتمادها. إنه تحليل العملية الذي سيوضح لنا الاختلافات في المواقف وتأثيرها على السلوك. ولعل هذا النموذج الديناميكي هو الذي يستطيع أن يشرح لنا المواقف المكتسبة وظروف تبنيها والآثار التي تنتج عنها.
في مثل هذا النموذج الديناميكي، “قد يختلف السلوك السياسي المستقبلي وفقًا للظروف التي يتم فيها اكتساب التعلم” .(Sigel, 1966) في الواقع، ما يجب علينا ملاحظته في عملية التنشئة الاجتماعية ليس ما يتعلمه الأطفال وما يستوعبونه فقط، ولكن قبل كل شيء، يجب علينا التعرف على الكيفية والظرفية التي تم فيها القيام بذلك. إن فهم الكيفية هو فهم لاختلاف المواقف والتوجهات، وهو في ذات الوقت توضيحٌ للوجود المحتمل لنظام التمثلات السياسية. سنعود إلى هذا لاحقًا في سياق تعليل النهج الشامل.
مبدئياً، تفترض التنشئة الاجتماعية السياسية وجود واجهةٍ بين الفرد والنظام السياسي. بالنسبة إلى الفرد، تتيح التنشئة الاجتماعية السياسية اكتساب نماذج السلوك والقيم ومعرفة المفيد و / أو التقييم في السياسة. الشيء الذي يسهل اندماج الفرد في النظام وفي قيم هذا الأخير. أما بالنسبة إلى لنظام السياسي، فإنّ التنشئة الاجتماعية السياسية تساعد على منح الدعم والمشاركة اللازمين لاستدامة النّظام واستقراره. من هذا المنظور، فإن مواقف المواطنين ومعتقداتهم لا تتم بطريقةٍ طبيعية ولكنها تُكتسب من خلال آلية ٍمزدوجة: التعلم من الأسفل والترسيخ من الأعلى. وهذا يوضح جيداً ديناميكيات العملية التي تستهدف الأطفال في المقام الأول بغية إعدادهم لولوج الحياة المجتمعية والتعرف على نظام القيم.
يتعرف الأطفال على كيفية تحديد المواقف السياسية في وقتٍ مبكرٍ جدًا. ويمكنهم الحصول على تمثلاتٍ منسجمة للحياة السياسية دون أن يكون لديهم معرفةٌ كاملةٌ أو حتى دقيقة بها. إذ يكونون معرفةً جيدةً عما يهم مستوى المجتمع وأدوار صناع القرار بشكلٍ أفضل مما يعرفونه عن وظائف المداولات. إذ أنهم يعطون الأولوية للعالم الأقرب وبالتالي إلى ما هو محليٍ بدلاًل ما هو وطني. وبالتالي فإن معرفتهم بموضوعٍ سياسيٍ ما هي ليست معرفةً محايدة أبدًا، لذلك سيكون من السذاجة تصديق البراءة السياسة عند الأطفال.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن التنشئة الاجتماعية السياسية لا تنتج فقط من خلال التعلم السياسي الضيق، بل إن بعض الممارسات الاجتماعية، كما هو حال الممارسات الدينية، تلعب دورًا مهمً في هذه العملية. لا شك أنه من الواجب اعتبار التنشئة الاجتماعية السياسية عمليةً معقدةً وتعددية، كما يجب التفكير فيها على أنها تعبيرٌ عن العديد من الدروس السياسية حسب محتواها و / أو آثارها. إن التنشئة الاجتماعية الأولى، على سبيل المثال، تسلط الضوء على أهمية الطفولة وخاصةً الطفولة المبكرة، والتي يتم خلالها التعلق بالرموز السياسية. بعد ذلك، تمر التنشئة الاجتماعية بفترة وسيطة حيث يمكن للتعلم أن يستمر حتى مرحلةٍ متأخرة من الطفولة، ويكتشف خلالها المُنشأ اجتماعيًا الأدوار ويقوم بتحديد الفاعلين والفصل بين الأفراد والمؤسسات. فيما بعد، تفترض التنشئة الاجتماعية المستمرة، في الأخير، عمليةً تستمر مدى الحياة وتتعلق بقدرة الفرد على التكيف مع البيئة والسياق ومع مختلف التغييرات الممكنة التي قد تؤثر على النظام السياسي وتملي عليه إجراءاتٍ ملموسةٍ تجاه العضوية والدعم[7].
3- النظريات والنماذج:
نظراً لحجم التأثيرات التي يمكن للتنشئة الاجتماعية أن تُحدثها في النظام السياسي، ونظرا للتبلورات والنمذجة التي يمكن أن يبثها هذا الأخير من خلالها، فقد كانت التنشئة الاجتماعية موضوعًا للعديد من المقاربات والأطر النظرية. إذ أنها ألهمت العديد من نماذج التحليل التي تضعها في مركز الاهتمامات الأكاديمية والعلمية المتعلقة عدد من التخصّصات مثل العلوم السياسية وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية والعلوم التربوية …
في التطورات التالية، نحن لا ندعي بأي شكلٍ من الأشكال إجراء جردٍ لمختلف التيارات النظرية أو المنهجية التي تناولت موضوع التنشئة الاجتماعية السياسية، غير أننا سنسطر الخصائص البارزة للنماذج التي ألهمتنا في نهجنا التحليلي.
4- بياجيه ومراحل التطور:
تجد نظرية بياجيه أساسها في شرح التطور الإدراكي والمفاهيمي لدى الطفل من خلال عمليةٍ معرفيةٍ وفكرية. يتكون هذا الأخير من تمثلاتٍ مختلفةٍ للأحداث والتجارب التي تسمح للفرد بالتكيف مع بيئته. وفي نفس الوقت، بتكييفها مع احتياجاته الخاصة. أثناء هذه التفاعلات، يخزن الفرد البيانات وفقًا لـعمليةٍ مزدوجة “الاستيعاب والتأقلم”: الانفتاح على البيئة والتبادلات مع العالم الخارجي يجعلان الفرد قادراً على دمج عنصرٍ جديدٍ في مخطط نمط تفكيره الحالي، أو تعديل نمط تفكيره حتى يتسنى له استيعاب العنصر الجديد. في الحالة الأولى، نحن أمام عملية استيعاب. في الحالة الثانية، نحن أمام عملية التأقلم[8]. وفقًا لبياجيه، فإن أي عمليةٍ معرفيةٍ وفكرية تمر بالضرورة بهاتين الآليتين. يأتي المولود الجديد إلى العالم بنمطين أساسيين اللذين يشكلان أدواته الوحيدة للتواصل مع بيئته، هما ردود الفعل باليد والامتصاص إذ يتم استيعاب جميع العناصر التي تمت مواجهتها بهاذين المخططين.
لكن، وبشكل تدريجي، يصبح الطفل قادراً على التمييز بين ما يمكن لمسه أو امتصاصه وما لا يمكن أن يكون كذلك. هنا، يتمظهر التأقلم الذي سيسمح لاحقاً بتطوير أنماطٍ جديدة. كلما تقدم العمر بالفرد وتراكمت لديه الخبرات المختلفة، وصار أكثر اتقاناً للغة، كلما صارت الأنماط أكثر تعقيدًا وأقل تجسداً، ليصبح التكيف الفكري عمليةً داخلية. يؤكد بياجيه أن النمو العقلي خلال الأشهر الثمانية الأولى من حياة الطفل لها أهميةٌ خاصة، لأنه خلال هذه الفترة يقوم ببناء جميع الهياكل المعرفية التي ستكون بمثابة نقطة انطلاقٍ لتطوره الإدراكي والفكري المستقبليين. في الواقع، يصنف بياجيه مراحل نمو الطفل إلى أربع فترات:
- مرحلة الذّكاء الحسيّ الحركيّ، التي تمتد حتى السنة الثانية والتي تتميز بالتكيف الجسدي وعدم القدرة على تكوين الأفكار المفاهيمية.
- مرحلة ما قبل العمليّات، والتي تمتد من السنة الثانية إلى السنة السابعة، وتتميز بظهور اللغة وتطورها، ولكن يظل الفكر قبل المنطقي وتهيمن عليه الأنانية.
- مرحلة العمليات الماديّة، التي تمتد من السنة السابعة إلى السنة الحادية عشرة والتي يطور خلالها الطفل منطقًا معينًا في علاقاته مع مواقف ملموسة.
- مرحلة العمليات المجردة، التي تمتد من السنة الحادية عشرة إلى السنة الخامسة عشرة -وأكثر-حيث يبدأ الفرد في فهم المشاكل الملموسة وكذا المجردة بشكلٍ منطقي.
يشير بياجيه الى أن التطور يظل مستمراً وأن الانتقال من مرحلة إلى أخرى يتم بشكل تدريجي. وهكذا، يمكننا ملاحظة أنه ومن خلال مراحل النمو المختلفة، يتمكن الطفل من تطوير أنماط تفكيره بشكلٍ تدريجيٍ، بدءًا من المواقف الأكثر تجسداً والتمثلات الأكثر أنانيةً نحو التصورات الأكثر تجرداً والأكثر ابتعاداً عن التمركز، وصولاً لدرجة القدرة على إنتاج تمثلاتٍ للأحداث بطريقةٍ مستقرةٍ ومستقلة، دون أن تتاح له الفرصة لمراقبتها فعلياً. يشكل مثل هذا التحليل لتطور التمثلات عنصرًا مركزيًا في تكوين مختلف المفاهيم عند الأطفال المتعلقة بالحياة الاجتماعية والسياسية. وبالتالي، يمكن اعتباره عنصرًا مهمًا في دراسة عملية التنشئة الاجتماعية السياسية.
من خلال آليات الاستيعاب والتكيف، يتفاعل الفرد مع الظاهرة السياسية ويطور أنماطًا صممها ثم يعدلها فيما بعد وفقًا لتجاربه واتصالاته. خلال مرحلة الطفولة، يتم تشبع هذه الأنماط بالأنانية وترتبط بسلوك يستجيب لمحفز من البيئة المباشرة. ولكن مع تقدم السن، فإنها تصل إلى مستوى أعلى من التجريد وكذا أكثر دقةً.
يتعلم الأطفال في سن مبكرةٍ التكيف مع السلطة والقوة والتأثيرات والتوجيهات المنبثقة من البيئة التي نشؤوا فيها. إذ أنهم يسمعون ويراقبون ويستوعبون من خلال المناقشات بين الكبار، ومن خلال التلفاز والمجلات والصحف التي تناقش أو تقدم ظاهرةً سياسيةً ما. في أغلب الأحيان يقوم بربطٍ مباشرٍ بين ما يلاحظه بهذه الطريقة وبين وضعه في البيئة التي يعيش فيها. في بادئ الأمر، تعتمد تمثلاته السياسية على خبرات شخصية ومروراً بمختلف المراحل ومختلف عمليات الاستيعاب والتكيف إلى غاية سن المراهقة، فتكتسب تمثلاته طابعًا معرفيًا دقيقاً.
لقد ألهمت نظرية بياجيه معظم الباحثين في مجال التنشئة السياسية. ونذكر على سبيل المثال، عملMerelman (1969) على تكوين الأيديولوجيات الذي مكنه من الربط بين تطور الأيديولوجية السياسية وبين مراحل التطور المعرفي والعقلي، وكذلك دراسة أديلسون وال adelsonet al. (1969) حول تطوير مفهوم القانون لدى المراهقين. ويمكننا أن نستشهد في الأخير بعمل Piagetبياجيه نفسه بالتعاون مع Weil (1951) حول تطور مفاهيم البلد والجنسية عند الأطفال. غير أن هذا لا يعني البتة أن نظرية بياجيه يمكن لها أن تشكل نموذجًا موثوقًا به لدراسة عملية التنشئة السياسية. نخمن، كما أشار لذلك كونيل (1971) Connell في كتابه “بناء الطفل للسياسة “، أن بعض الاختلافات المتعلقة بالمتغيرات مثل الطبقة الاجتماعية والنظام التعليمي والثقافة والدين وغيرها، يمكن لها أن تؤثر على المسار من خلال مختلف مراحل التطور، بتفضيل البعض والتقليل من شأن البعض الآخر، ومن ثمة فإن التجارب التي تؤدي إلى آليات الاستيعاب والتكيف يمكن أن يكون لها تأثيرٌ مختلفٍ كلياً وفقًا للمتغيرات الاجتماعية التي تقتحم اللعبة في لحظةٍ معينةٍ وفي بيئةٍ محددة. غير أن ذلك لا يمنع، من ناحية أخرى، أن مثل هذه النظرية تقدم اهتمامًا كبيرًا لفهم التمثلات السياسية لدى الأطفال خلال عملية التنشئة السياسية بأكملها. لقد استلهمنا أنفسنا كثيرًا من مساهمتها، ولكن دون أن نجعل منها نموذجًا للتحليل.
5- النقل والتنظيم:
إذا أخذنا بعين الاعتبار وجهة نظر النظام الاجتماعي، كما فعل علماء السياسة الوظيفيون في الستينيات، مثل G. Almond و S. Verbaو B. Powell، سنجد أن التنشئة الاجتماعية السياسية هي آليةٌ تنظيمية. فمن خلال نقل الثقافة السياسية، تضمن دوام وتماسك النظام السياسي. الاستدامة، أو الاستقرار الرأسي، هو النظام السياسي الذي يخلف نفسه من جيلٍ إلى جيل دون قطيعة. التماسك، أو الاستقرار الأفقي، هو ما يخلق السلم الأهلي في المجتمع في جميع الأوقات.
6- “مخطط عالمي”:
يعتقد العالمان السياسيان ديفيد إستون وجاك دينيس D. Easton et J. Dennis,، اللذين صمما مخططًا “عالميًا” في نهاية الستينيات ، أن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و 14 عامًا يدخلون في علاقةٍ مع العالم السياسي باتباع أربع مراحل متتالية لا مفر منها : أولاً التسييس (التوعية بالمجال السياسي)، ثم التخصيص (بعض شخصيات السلطة، وفي مقدمتها الرئيس، تعمل كنقاط اتصال بين الطفل والنظام السياسي)، ثم تأتي المرحلة الأساسية للمثالية (يُنظر إلى السلطة على أنها خيرة بشكل مثالي أو خبيثة) وأخيراً إضفاء الطابع المؤسساتي (ينتقل الطفل من مفهومٍ شخصيٍ يقتصر على عددٍ قليلٍ من الشخصيات السياسية إلى مفهومٍ شخصيٍ أيضا ولكن هذه المرة يشمل نظام السلطات السياسية). في هذا النموذج، يتم دمج تعقيد الواقع السياسي بشكلٍ تدريجي، وتحتل الاستثمارات العاطفية مكانةً راجحةً إلى جانب الآليات المعرفية التي تسبقها وتقوم بإعدادها.
7- إعادة الإنتاج لاجتماعي:
ينظر بيير بورديو للتنشئة الاجتماعية على أنها طريقة لإعادة إنتاج نظام الهيمنة القائم. وفقًا لهذا النهج النقدي، فإن التنشئة الاجتماعية السياسية هي بديلٌ فعالٌ للقيود الجسدية. بفضلها، يفرض الحكام على المحكومين المعتقدات والممارسات التي تشرع الممارسة الاعتباطية لسلطتهم. إذ تعتبر عمليةً تمكن من إعادة إنتاج المجتمع وتضمن استقراره من جيلٍ إلى جيل. بفضل الهابيتوس، فإنه لا يتمّ تمثيل النظام الاجتماعي على أنه خارجي عن الذات، بل بالأحرى كنظام تأسس في أنفسنا و”الذي يعيد إنتاج نفسه بشكلٍ أفضل في الخارج والذي يتجدر بعمق في الداخل” Acardo, 1983: 154)).
8- تأثير السياق:
حتى وقتٍ قريبٍ نسبيًا، ظل تأثير السياق بعدًا غائبًا، بشكلٍ شبه كامل، عن دراسات الظواهر المتعلقة بالتنشئة الاجتماعية السياسية. تهدف نتائج الأعمال الأولى لأن تكون مجردةً وقابلةً للتعميم. لذلك، بالنسبة إلى ديفيد إستون وجاك دينيس، من المفترض أن يطور كل الأطفال في العالم، مثلهم مثل الأمريكيين الصغار، تمثلاً إيجابياً للنظام السياسي من خلال إضفاء المثالية على شخص الرئيس. غير أن جميع الاستطلاعات اللاحقة ستدحض ذلك، فقط الشباب الأمريكيون البيض الذين ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية الحضرية الغنية،والذين تتراوح أعمارهم بين عشرة وخمسة عشر عامًا في وقت رئاسة أيزنهاور يتوافقون مع هذا النمط. وفي الوقت نفسه، كان لدى المراهقين الفرنسيين من جانبهم وجهة نظرٍ متضاربةٍ للغاية بشأن الحياة السياسية لبلدهم.
لقد أبرز فشل تعميم النماذج الأمريكية حقيقة أن كل تنشئةٍ اجتماعيةٍ سياسيةٍ تحمل بصمة مكان ولحظة تحقيقها. بمعنى آخر، السياق هو متغيرٌ خاص يؤثر بشكلٍ مباشر في تكوين التمثلات والمواقف السياسية الطفولية.
عند تطبيقه على التنشئة الاجتماعية السياسية، يشمل مفهوم السياق كلاً من الملابسات الخاصة وكذا بعض الخصائص المعينة مثل التقاليد الثقافية، ومستوى التنمية الاقتصادية والتكوين الاجتماعي والعرقي أو حتى تحديد المجتمع. وبهذا الصدد، يبرز استجوابان بشكل خاص دور السياق في التنشئة الاجتماعية السياسية للأطفال في سن ما قبل المراهقة. يتعلق الأمر في المقام الأول بالعمل الذي قام به M. Barthélémy (1988) في نهاية السبعينيات مع عينة من الشباب النرويجيين الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و16 عامًا. يكشف هذا العمل عن وجود نموذجٍ اجتماعيٍ سياسيٍ خاص بالنرويج. يتسم هذا الأخير بالـتعاطف مع النظام وتعزيز التمثيل الوطني وإضفاء الشرعية على تضارب المصالح والانتماء الحزبي على أساس السلوك الطبقي. وحسب المؤلف، فإن هذا النموذج الوطني يجد محدداته في العناصر الأساسية للتاريخ السياسي للبلاد، آخذين بعين الاعتبار التأخر في الحصول على الاستقلال (1905)، والعلاقات الجيدة بين الكنيسة والدولة، اللذين يجعلان من الدين هنا غير حامل للانقسامات السياسية المهيكلة، والديمقراطية الاجتماعية التي تعزز عمل الأحزاب وجماعات الضغط.
يحكم نفس النهج السياقي التحقيق الذي أجرته لاحقا أنيك بيرشيرون Percheron (1990) مع أطفال التناوب، بمعنى آخر، الشباب الفرنسي الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 عامًا خلال الولاية الأولى للرئيس ميتران. وتشير إلى أن الوضع الاقتصادي والسياسي والأخلاقي في الثمانينيات أدى إلى تعديلٍ عميقٍ في ديكور عالم الأطفال السياسي ومضمونه. التعليم الليبرالي، وإدراك التهديدات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالبطالة، والتنويع وتضاعف المعلومات، وإضعاف الانقسامات الحزبية والعلامات الأيديولوجية، وإزالة الطابع الدرامي من السياسة داخل الأسرة. كل هذه الأشياء تشكل البيئة الجديدة التي صارت تحدث فيها التنشئة الاجتماعية الأولية للشباب الفرنسي.
إذن، إذا كان هنالك تأثير للسياق، فما هي الأساليب؟ يقدم كل من E. Dupoirierو A. Percheron (1975) العناصر الأولى للإجابة: تكون العلاقات بين السياق وتفضيلات الموضوعات أقوى عندما يكون هناك تماسكٌ بين السياسة المهيمنة للسياق والاختيارات الشخصية للموضوع. إذ يعتبر السياق أكثر حسماً لأن الطفل ليس لديه بعدُ تقاربٌ حزبيٌ أو أيديولوجي مصرحٌ عنه بوضوح. وفي الأخير، كلما كان ضغط العملاء والأوساط أكثر، كلما قل تأثير السياق على تكوين الآراء والمواقف السياسية للمُنشأ اجتماعياً. سيكون من الواضح أن الاهتمام الذي يظهر في السياق يشكل تطوراً رئيسياً وواعداً في التفكير في عملية التنشئة الاجتماعية السياسية.
9- الغرض من الدراسة:
يمكن اعتبار البحث الحالي كمساهمة في دراسة التنشئة السياسية للأطفال في المغرب. يجب أن يقال إن الطفل كموضوعٍ للتحليل والتأمل قد أدى إلى ظهور العديد من الكتابات والمقالات من مختلف التخصصات مثل علم التربية وعلم النفس والقانون وعلم الاجتماع والاقتصاد…ولكن، على حد علمنا، القليل فقط من الدراسات المُنجزة من تطرقت إلى العلاقة بين عالم الأطفال والعالم السياسي. الشيء الذي يعطي انطباعا بأن الطفل يُنظر إليه على أنه كيانٌ مغلقٌ ومحكم الإغلاق. إذ نحصره في تحديد زمكانيٍ ثابتٍ فيما يتعلق بواقعٍ سياقيٍ مباشرٍ مما يجعله طفوليًا منفصلاً عن البالغين. يعتبر الكثير من الناس، أنّه من غير المعقول أن نتحدث ونناقش مع طفلٍ موضوعاتٍ سياسيةٍ ونتبادل معه وجهات النظر حول التوجهات والتصورات التي يمكنه تطويرها والتعبير عنها، لا سيما في سياقٍ مثل سياق المغرب. لماذا هذه الملاحظة الأخيرة؟ حسب رأي هؤلاء، لا يستطيع الطفل المغربي معرفة بيئته السياسية أو حتى فهمها لسبب بسيطٍ يكمن في كون والديه، والكبار بشكل عام، لا يستطيعون فعل ذلك لأنهم لا يعرفون شيئًا حول للسياسة؛ وعلى أي حال، فإن التحدث بالسياسة في حد ذاته أمر ضارٌ ومحفوفٌ بالمخاطر ويمكن أن يعرض الشخص لمواقف غير مريحة ومؤسفة. إثر هذه التأكيدات، يمكننا أن نجيب على الأمر في ثلاث نقاط:
– أولاً، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن هناك حدودا واضحة بين السياسي وغير السياسي. في أي مجتمع، هناك قيمٌ ومعتقداتٌ ومؤسساتٌ وأدوارٌ تشكل أساس الحياة المجتمعية. يجب على جميع الأعضاء، ودون استثناء، الالتزام بالنظام بمختلف مكوناته، سواءٌ كانت اجتماعيةً أو ثقافيةً أو سياسية أو غير ذلك. كل واحدٍ منا يتعرض لضغوط التكوين والمعلومة السياسية سواءٌ كان الأمر بشكل رسمي أو غير رسمي، غير أنهما يهدفان لنفس الغرض، والذي هو تشكيل توجهاتنا وإملاء أفعالنا بطرقٍ مختلفة. يخضع الطفل، أكثر من البالغ، لمثل هذه التيارات. من خلال كلٍ من العلاقات التي يتم نسجها وترسيخها في منزل الأسرة، وتنظيم وهيكل المؤسسة التعليمية ونواة مجموعات الأقران، وكذا من خلال تدفق الرسائل وتنوع الوسائط. يقوم الطفل ببناء تمثلاتٍ وتصوراتٍ ونماذج سلوكيات ومواقف ليست محايدة بأي حال من الأحوال السياسية. وبالتالي، يمكن للمدرسة أن تقدم للطفل تربيةً سياسيةً رسمية على أساس التربية المدنية أو التاريخ أو أي دروس أخرى. كما يمكن للأسرة، في بعض الحالات، إنشاء نقلٍ ديناميكيٍ للمعرفة والقيم السياسية. ويمكننا أن نعترف بأن هاتين المؤسستين فاشلتان وليستا في وضع يسمح لهما بالمساهمة في غرسٍ سياسيٍ رسمي. ولكن يجدر الذكر أن كلا من الآباء والمعلمين يُنظر إليهم، بشكل غير رسمي، كرموزٍ للقوة والسلطة، وبالتالي يؤثرون على مفهوم الطفل للسلطة بشكلٍ عام (سواءٌ كان الأمر سياسياً أو غير ذلك) وحول كيفية التفاعل معها عندما يصير بالغاً ومواطناً ” ذا أهلية “[9].
– ثم إن الدهر قد أكل وشرب على الأيام التي كان فيها الطفل محصوراً في الأسرة وحدها حيث يرى العالم فقط من خلال عيون والديه ورؤيتهم. “لقد تحرر الطفل من الاستعمار ” وبالتالي فقد صار ذا شخصيةٍ تستوجب الاعتراف بها. ومن هنا، فقد صار موضوعا لتأثيراتٍ خارجيةٍ ومتنوعةٍ تشارك كلٌ منها في تشكيل مواقفه وفي التأثير على سلوكه وتثقل كاهل تصوراته وتمثلاته مع هيئاتٍ مثل المدرسة، ووسائل الإعلام، ومجموعة الأقران، والنوادي، والجمعيات، والشارع … إذ ينوع الطفل مصادر معلوماته ومصادر الترسيخ، ويصنع لنفسه حلفاء جددًا في سعيه لتأكيد الذات. لن يكون الطفل بعد الآن ذاك الكمون الشهير الذي يتم سحقه لاستنشاق رائحته. لقد ولى الزمن الذي كان فيه الأب يتبجح بفخرٍ ورجولةٍ بقوته وقدرته على الإكراه والتصرف الحر في مصير طفله؛ غالبًا ما كان يحدث له أن يفوض هذه السلطة إلى الفقيه، الذي كان يتربع على العرش والذي، وللأسف، مازال كذلك، ولكن بطريقة أقل وقاراً وأقل انتشارًا، من أعلى منصّته، مدرسته العتيقة، ومن خلال منحه تعبيرًا سيبقى لفترة طويلة في سجلات الثقافة المغربية: “لك أمر الذبح، ولي أمر التقطيع”[10]. وهذا بالتحديد التغيير الذي طرأ على الطفولة المغربية والذي سيغير العقليات لا محالة، وسيغير سلوكيات المواطنين المغاربة ومواقفهم. لأنه، مع خطر تكرار أنفسنا، ففي مرحلة الطفولة حيث يتم تحديد التوجهات الرئيسية في شخصية الفرد، ليس فقط على المستوى النفسي والعاطفي ولكن أيضًا على المستوى السياسي. وهذا يعني، أن يشارك الفرد بطريقة إيجابية أو سلبية في ممارسة حقوقه المدنية، وطريقته في التصرف تجاه مختلف شخصيات السلطة، ومختلف الانتماءات التي يقوم بها وفقًا للتيارات الأيديولوجية أو الحزبية المختلفة المتنافسة على عضويته والتزامه … من العبث الاعتقاد بأن البالغ فقط من يمكنه التأثير على الطفل. من المهم أيضًا تصور أن التأثير يمكن أن يمارس من طرف الطفل على الكبار.
– وفي الأخير، حان الوقت لسحب سمة القدسية من السياسة وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين: المواطنين. ليس هناك شك في أن هذا ليس له سوى أن يعزز التأييد والدعم اللذين يحتاجهما أي نظامٍ سياسيٍ لضمان استقراره وضمان استمراريته. فمن خلال سحب سمة القدسية مما هو سياسي، نزيل الغموض عن كل هذه المفاهيم القبلية التي تم تطعيمها بمفهومها وإدراكها، وفي نفس الوقت نكسر حواجز الممنوعات واللعنة التي أقيمت لوقف زخم الطفل وردعه عن أي فضول سياسي.
لدى الطفل تمثلاتٍ سياسيةٍ كما يوجد لديه وعي بالموضوعات والأشياء التي تندرج بشكل مباشرٍ أو غير مباشر في المجال السياسي. لا يهم ما إذا كان لديه بعض الواقعية السياسية، أو إذا لم تكن، التي ستسمح له بالقيام بروابط منطقية ومدروسة. “يمكن للطفل أن يؤلف تمثًلاً معينًا للسياسي دون أن يعرف من خلال تجربة شخصية كل موضوع سياسي”(Percheron, 1974: 37). والهدف من بحثنا هو تحديد هذه التصورات المختلفة وتقييم محتواها وتحديد مختلف التوجهات للمواقف التي تثيرها. ماذا يعرف الطفل عن عالمه السياسي؟ ما هي التمثلات التي ينسجها عن مختلف المؤسسات التي تشكل أساس النظام السياسي؟ ما هي صورته عن مختلف الشخصيات في السلطة السياسية؟ ما هي المواقف التي يطورها تجاههم؟ ما هي المفاهيم التي تتوفر لديه لتحديد الأدوار والوظائف السياسية؟ كيف يتفاعل مع هذا العالم من المعاني والرموز السياسية التي يتعرف على نفسه من خلالها والتي من خلالها يدرك انتماءه إلى المجتمع؟
[1]– حسب مفهوم دوركايم، هنالك عناصر أساسية ستوجه، لفترة طويلة، نهج دراسات التنشئة الاجتماعية، خاصة تلك المتعلقة بتعلم القواعد والمعايير. خلال تحليلنا، سنستوحي من هذا النهج مع اقتراح التعديلات التي تمليها الخصوصية المتأصلة في المجموعات الاجتماعية وإطار تفاعلاتها.
[2]– انظر في هذا الصّدد عمل:
J.S. Coleman, The Adolescent Society: The Social Life of The Teenager and Its Impact on Education, New York, The Free Press, 1961.
[3]– دعونا نوضح منذ البداية أن المجتمع العالمي ليس غير متمايز: هناك ثقافات طبقية، وثقافات محلية، وثقافة سائدة، وثقافات مضادة … باختصار، هناك تعايش بين،من ناحية، نواة صلبة من المشاعر والمواقف التي يتقاسمها الجميع، ومن ناحية أخرى، أنظمة القيم والمعايير الخاصة بهذه الفئات الاجتماعية. لكونهم أعضاء في عدة مجموعات من الانتماءات، والمنشأ اجتماعيا هو في قلب تعدد الثقافات السياسية. ستتاح لنا الفرصة لمناقشة الأمر بمزيد من التعمق.
[4]– يميز Berger et Luckman (1986) نوعين من التنشئة الاجتماعية: التنشئة الاجتماعية الأولية، وهي التي يمر بها الفرد في طفولته والتي من خلالها يصبح عضوًا في المجتمع، والتنشئة الاجتماعية الثانوية، والتي نقصد بها أي عملية لاحقة يدخل من خلالها فرد ما ذو تنشئة اجتماعية مسبقة، في قطاعات جديدة من مجتمعه.
[5]– للحصول على دراسة تفصيلية لتطبيق نظرية بياجيه في مجال التنشئة السياسية، وبالخصوص حول ظاهرة تبلور المفاهيم السياسية، فإننا نحيل القارئ إلى الأبحاث التي أجراها ميريلمانMerelman. نذكر، على سبيل المثال، الأعمال التالية:
The Development of Political Ideology: A Framework for the Analysis of Political Socialization, American Political Science Review, 63 (1969), 750-67; The Development of Policy Thinking in Adolescence, American Political Science Review, 65 (1971), 1033-47; Political Socialization and Educational Climates, New York: Holt, Rinehart & Winston, Inc., 1971; The Structure of Policy Thinking in Adolescence: A Research Note, American Political Science Review, 67(1973), 161-6.
[6]– التنشئة الاجتماعية هي عملية تفاعلية. حيث لا يقوم الطفل فقط بالتكيف، بل يستوعب. مما يعني أنه المشغل العملي لتعلمه السياسي. يرث ويدير. لذلك لا يمكن اختزال التنشئة الاجتماعية في عملية انتقال بسيطة، فهي أيضًا عملية اكتساب. وبالتالي، فان العملية قد تتضمن نوعا من المقاومة والابتكار. هناك آليتان تدعمان النقل: التخلل، وهو مرادف للفرض الصامت عن طريق التكرار، والترسيخ الذي يتم فرضه أيضًا، ولكن بمساعدة الخطاب المتداول.
[7]– وتجدر الإشارة إلى أن الشباب يواجهون السياسة في سياق مختلف تمامًا عن سياق آبائهم، لأن نظام التتبع، والانقسامات الأيديولوجية الكبرى، أصبحت الآن مشوشة نوعا ما. وهكذا،وعلى وجه الخصوص، لم تعد المعارضة بين اليسار واليمين أو الاشتراكية والليبرالية الاقتصادية واضحة جدًا. وبالمثل،عملت العولمة على تغيير مفهوم فائدة العمل الجماعي في إطار وطني بحت. ولم تكن مواضيع الإقصاء والإرهاب والتطرف وغيرها حاضرة بهذا الشكل في تكوين القضايا السياسية والحزبية. وهذا ما يفسر أهمية التنشئة الاجتماعية المستمرة وعلاقتها الوثيقة بالتغير الاجتماعي (رحموني، 1994).
[8] – من أجل زيادة شرح معنى هاتين العمليتين، نعيد إنتاج الشرح التصويري ل Rosenau (1975): «عندما يشير الطفل الصغير إلى بقرة ويقول «كلبة»، فهو كذلك استيعاب للحافز الجديد في مخططه الحالي الوحيد للحيوانات ذات الأرجل الأربعة. في وقت لاحق، بعد تراكم الخبرة مع أنواع أخرى من الحيوانات ذات الأرجل الأربعة، يقوم بدمج التنوع في هياكله المعرفية؛ ويصبح مخططه للحيوانات ذات الأرجل الأربعة متطورًا ومصقولا ويميز فيما بينها. بعبارة أخرى، يكيّف مخططه مع واقع ذي خبرة» (ص 165).
[9]– Greenstein, 1960; Hyman, 1959, Adelson et al., 1969, Weissberg, 1974
درس جرينشتاينGreenstein (1960) التمثلات والصور المختلفة التي يمتلكها الأطفال للسلطة السياسية وتوصل إلى نتيجة مفادها أن ” هنالك صلة متكاملة بين المشاعر التي يطورها المرء تجاه الشخصيات في البيئة الأولية (مثل الوالدين) وردود الفعل اللاحقة للأفراد في البيئة الثانوية (مثل السياسيين). إذ تصبح العلاقات الأخيرة مستثمرة بعمق المشاعر الشخصية، في بعض الأحيان في شكل انعكاسات مباشرة لعلاقات المجموعة الأولية، وأحيانًا في شكل ردود فعل تعويضية لها”. (p.84). هايمان (1959) ، بدوره ، توصل إلى نفس النتيجة أثناء استعارة مفهوم “مثالية الأنا” من علم النفس. ويقول: “يمكن استخدام الاختلافات في توجهات الأطفال تجاه الشخصيات البالغة كمؤشرات على درجة الاهتمام بمجال السياسة” (مشار له من طرف الكاتب) (ص 21). Adelson و Green و O’Neil (1969) في دراستهم لتطور مفهوم القانون لدى المراهقين, توصلوا إلى أن هناك علاقة وثيقة بين الطريقة التي يتصرف بها الأطفال أمام سلطة سياسية ما والعلاقات المختلفة للسلطة التي ينشئونها داخل الأسرة والمؤسسة التعليمية. وقد لاحظوا في هذا الصدد: “لسبب واحد، المراهق الشاب محبوس، بشكل غريب، في علاقات سلطوية حميدة مع محيطه، سواء في المنزل أو في المدرسة. إنه يعتبر من المسلم به أن تمارس السلطة هيمنتها على موضوعاتها -المعلم على الطالب، والوالد على الطفل -وبشكل عرضي تقريبًا يعمم هذا الاتجاه من المراسيم في مجال الحكومة … هناك عائد تدريجي لهذه الطريقة في النظر إلى سياسة الأسرة والمدرسة، والسياسة بشكل عام في نهاية المطاف” (ص 329). وفي الأخير، Weissberg (1974)، في دراسته حول الخيارات السياسية في نظام ديمقراطي ما ومن خلال التنشئة الاجتماعية السياسية، يصرح: “تشمل السياسة كل الحياة الاجتماعية (…) وبالتالي فالسياسة لا تقتصر فقط على الحكومة. فهي تحدث في المنزل، في المدرسة، في أي مكان آخر يتم فيه اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياة الناس” (ص 176).
[10]– نتّفق تمام الاتّفاق مع Ph. Ariès (1973) عندما حدد أن “المجتمع التقليدي أساء تمثيل الطفل وكذا المراهق وبشكل أسوأ. إذ تم اختزال فترة الطفولة في فتراتها الأكثر هشاشة، عندما كان الرجل الصغير غير قادر على الاكتفاء الذاتي؛ والطفل أنذاك بالكاد قادر جسديًا، تم دمجه في الحين مع البالغين، وكان يشاركهم أعمالهم وألعابهم. منذ أن كان طفلًا صغيرًا جدًا، أصبح على الفور شابًا، دون أن يمر بمراحل الشباب … التي أصبحت جوانب أساسية في المجتمعات المتقدمة اليوم.” (ص 5). إذا كانت المجتمعات الحديثة اليوم قادرة على تحقيق “اكتشافها للطفولة” وتمكنت من تقدير خصوصيات هذه الفترة ومحدّداتها من حياة الإنسان، وإذا كانت قد نجحت في استبدال مبادئهم القديمة مثل “وفروا الطريق وأفسدوا الطفل” بالتعاليم التربوية المناسبة، فالمجتمعات التقليدية ما زالت تحافظ على الطفل في حالة التبعية الشديدة والقيود، الجسدية والمعنوية. إن المجتمع المغربي، رغم تيار الحداثة الذي يؤثر بعمق على بنية الأسرة، يظل مشبعًا بشدة بهذه الأقوال، وهذه الأقوال والأمثال وعاداتها وطقوسها التقليدية التي تؤكد على خضوع الطفل لقوة الأسرة والجماعة والعشيرة وسلطتها.