أجرت مجلة العلوم الإنسانية في عددها الأخير حوارا مع السوسيولوجية الفرنسية ” آن موكسيل(**) حول إصدارها الأخير ” الآخر عن بعدL’autre à distance “، والذي عملت فيه على استكشاف تأثيرات جائحة كوفيد19 وآثار التباعد الاجتماعي على العلاقات الأسرية، علاقات الصداقة، والحب وكذا العلاقات المهنية. نقدم أهم مضامين الحوار:
أكدت آن موكسيل، من الناحية المنهجية الخاصة بإدارة عملية التحقيق، أنه نتيجة ظروف الحجر الصحي اعتمدت تقنية تحقيق الغرفة Enquête en chambre من خلال الاتصال بالأشخاص عبر المراسلة، كما اختارت في تكوين عينة البحث طريقة ما يسمى بالعينة كرة الثلج Echantillon boule de neige، أي العينة التي تتوسع تدريجيا من خلال الممارسة…وكذلك اللجوء الى الأدبيات المكتوبة للصحفيين والمثقفين والتجارب التاريخية المرتبطة بالأوبئة.
جوابا عن سؤال حول مدى تأثير المسافة الاجتماعية في تغيير علاقتنا بالآخر، أوضحت الباحثة أن التأثير كان قويا، واستحضرت شعار إذا كنت تحب أقرباءك لا تقترب منهم كثيرا. وهو الشعار الذي ساهمت في انتشاره السلطات الصحية…. فدعوة الابتعاد هاته عن أقربائنا لحمايتهم، أحدثت شرخا بين الحب والاقتراب الجسدي، وهذا الأمر هو مضاد للطبيعة طالما أنه يتمّ إزاء من نحب، فنحن مقتربون من بعضنا بعضا، وبالتالي فالأجساد هي هنا للتعبير عن هذه المشاعر وهذا التقارب. إنّ هذا الحرمان المفاجئ، وتعلم الحب عن بعد L’amour à distanceلأننا أصبحنا خطرا على بعضنا بعضا، أحدث زعزعة قوية في العلاقات الحميمية لكل واحد منا.
لا يمكن للطرق الرقمية والافتراضية أن تعوض اللمس…قضية اللمس تخترق كلّ فضاءات وجودنا وحياتنا، من الأكثر حميمية وخصوصية – رابطة الأبوة، التعبير عن العشق- الجنس…الى الفضاءات الاجتماعية والعمومية لحياتنا الجماعية: الصداقة، العمل، حيث نمد اليد، ونقبل، ونربت على الكتف، ونتعانق من أجل التعبير عن الارتياح أو عن الدعم…اللمس هو أيضا إشارة تحيل على الثّقة.
وبالنسبة إلى سؤال يتعلّق بصعوبة إقامة المسافة الاجتماعية داخل دوائرنا الاجتماعية الضيقة، وهل ظلت العلاقات صامدة ولم تربكها التوجيهات الحكومية؟ قالت آن موكسيل أن الشعور بآثار المسافة الاجتماعية كان أقل داخل الأوساط البعيدة (زملاء العمل، الأشخاص الذين نلتقي بهم في الشارع، التجار…)..لكن داخل الأوساط الأقرب يبدو من الصعب تجسيدها…مع ذلك لاحظنا فترات تباعد داخل هذه الدائرة الضيقة ذاتها. لدى الأزواج مثلا حيث رأينا تراجع الممارسة الجنسية خلال فترة الحجر الصحي. وربما أن العلاقات بين الآباء وأطفالهم قد انفلتت من قيود المسافة الجسدية. في الواقع، من الصعب أن تضع مسافة مع الأطفال…إن التوجيهات الداعية الى المسافة داخل الأسرة والمدرسة وضعت الأطفال في شروط غير قابلة للعيش، بل وزرعت الشك في شروط تنشئتهم الاجتماعية، في إطلالتهم على العالم، في تعلمهم الاجتماعي والمعرفي.
ركزت آن موكسيل على الدور الذي لعبه الخوف – من المرض، من الموت، من الآخر بل وأيضا خوف الإنسان من نفسه- خلال الجائحة، في زعزعة علاقاتنا، وقالت في هذا الشأن أن تمثل الفرد لنفسه كخطر يؤثر في صياغة علاقته بنفسه وبالآخر…لقد أوضح علماء الطب النفسي كيف تطور لدى الأطفال شبح الخوف وفوبيا الرعب من خلال اعتقادهم أنهم قد يتسببون هم أنفسهم في موت أبائهم أو أجدادهم نتيجة خطأ صادر عنهم، ولم يقدروا نتائجه. إن هذا الأمر كان له تأثير قوي على الرابطة النفسية والعاطفية داخل وسطهم الأسري.
هذا بالإضافة الى ترسيخ نوع من انعدام الثقة في العلاقة بالآخر. لا ينبغي التوجه الى الآخرين بطريقة تلقائية. لابدّ من الانتباه والحذر. لا نمدّ اليد هكذا بطريقة عفوية، لا نقبل… إن المسافة الاجتماعية، العزلة المفروضة والدهشة التي لحقت بنا خلال المراحل الأولى من الحجر الصحي، كلّ هذا خلق انطواء على الذات، قلّص كثيرا من ساحات المخاطرة واللامتوقع…
في النهاية – تؤكد الباحثة – يمكن القول إن انعدام الثقة الذي سكن سلوكياتنا الشخصية امتد أيضا ليسكن مجال سلوكياتنا الاجتماعية ويمكن أن يشكل خطرا على المجتمع. كما ساهمت الجائحة حقيقة في انتعاش وترسيخ تكنولوجيا التعقب وأنظمة المراقبة التي يمكن أن تهدد الحريات الأساسية والديمقراطية.
لكن، ألم يساعدنا الخوف من الموت ومن المرض في استعادة الوعي بهشاشتنا ومحدوديتنا. وبالتالي ألم يساهم كل هذا في اقترابنا من بعضنا البعض؟
جوابا على هذا السؤال قالت آن موكسيل، في الواقع لقد وعينا بهشاشتنا على المستوى الشخصي والحميمي: هناك من فقد قريبا له، هناك من سقط مريضا، وهناك من تملكه الخوف على أقربائه، على نفسه…لقد علمتنا هذه الهشاشة أن نعي موتا كان حقيقة. هناك عودة لما هو تراجيدي…
هنالك شيء جماعي قيد التشكل. فبقدر ما كانت هذه الجائحة معاشة على مستوى العالم ككل، معاشة من طرف تجمعات واسعة، بقدر ما أجبرت عدد كبير منا على إعادة الاعتبار لقضية الانتماء الى جماعة أوسع تتخطى حدود فضائنا الشخصي والحميمي.
إن الأزمة الصحية كانت فرصة ليقظة مهمّة مرتبطة بالقضايا الإيكولوجية. كانت هذه القضايا حاضرة في وعينا، لكن هشاشة الأنظمة الإيكولوجية وحاجة البشرية الى الحفاظ على الموارد المتاحة على الأرض جعلت منها قضايا أكثر راهنية…
(*) الحوار منشور في الأصل بالفرنسية بمجلة العلوم الإنسانية تحت عنوان :
Ce que le covid-19 fait à notre intimité. Entretien avec Anne Muxel. Propos recueillis par Salomé Tissolong, Grands Dossiers N° 65 – Décembre 2021- janvier – février 2022 .
(**) أعمال آن موكسيل :
تتمحور أعمالها على الأشكال المختلفة لعلاقات الأفراد وخاصة الشباب بالسياسة من خلال تحليل مواقفهم وسلوكاتهم. فهي تعالج بشكل خاص مسألة الأشكال الجديدة للتعبير السياسي، العلاقة بالتصويت أو أيضا أنماط التنشئة وبناء الهوية السياسية. من أعمالها :
كتاب الشباب والسياسة. صدر سنة 996،
كتاب ” أنا، أنت والسياسية. الحب والقناعات. صدر سنة 2008،
كتاب مشترك مع برونو كوتريس . كيف يمارس الناخبون اختيارهم؟ المجموع الانتخابي الفرنسي. صدر سنة 2007،
كتاب . 20 سنة في السياسة. أطفال الوهم. صدر سنة 2010
كتاب مشترك مع أوليفييه غياند. الإغراء الراديكالي: تحقيق حول تلاميذ الثانوي. صدر سنة 2018
هذا بالإضافة الى أن آن موكسيل عضو هيئة تحرير المجلة الفرنسية للسوسيولوجيا، كما اهتمت برهانات الذاكرة، بتقاطع الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، وكذلك اشتغلت على دينامية نقل القيم بين الأجيال (كتاب الفرد والذاكرة العائلية. صدر سنة 1996).
إن قضية الحميمية حاضرة في جميع حقول البحث التي عملت آن موكسيل على استكشافها، وهذا العمل الذي تتابعه منذ 2021 م خلال كتابها ” الآخر عن بعد. لما تؤثر الجائحة على العلاقات الحميمية”.