ترجمة: يحيى بوافي
1- مقدمة:
لطالما أثار سؤال الطرائق البيداغوجية خطابَات تتَّقِدُ حماسةً؛ ففي الكيبك كما في فرنسا، يبقى النقاش جد عاصف حول إصلاحات التعليم. إذ الأعمال التي تسجل الوقع الحاسم لـ “تأثير الأستاذ” على إنجازات التلاميذ تتزايد تدريجيا. وفي هذا الإطار يقترح الباحث الكيبيكي كليرمون غوتييه (Clermant Gouthier)، انطلاقا من الأعمال الانجلوساكسونية، مفاتيح لأجل “تدريس فعال” بالاستناد إلى بيداغوجية تكون صريحة منتقدا البيداغوجيا التقليدية المتمركزة حول نقل المعارف، والبيداغوجيا الحديثة “المتمركزة حول التلميذ”.
فهل من وجود لممارسات بيداغوجية أكثر فعالية من الأخرى؟ وهل من دور لها في تأثير المدرس على تعلُّم التلاميذ؟ وهل هذا التأثير يبقى أكثر أو أقل أهمية من عوامل أخرى مثل المحيط الأسري وحافزية التلميذ، وقدراته الذهنية؟
إن العديد من الأبحاث الوازنة على مستوى أمريكا الشمالية تتقاطع في اتجاه التأكيد على النتائج الآتية:
– للمدرسة، وخصوصا المدرس من خلال الطريقة التي يُسَيِّر بها قسمه وتعليمه، تأثيرُ قوي على تعلم التلاميذ.
– بتجويدنا للممارسات البيداغوجية، نُحَسِّن المردودية المدرسية للتلاميذ، وعلى الخصوص أولئك الذين ينحدرون من أوساط سوسيو-اقتصادية محرومة، ذاك ما أظهره العمل المنشور لثلاثة باحثين أمريكيين سنة 1993 بعنوان: (“ما الذي يساعد التلاميذ على التعلُّم [2]؟what helps students to learn والذين دافعوا، انطلاقا من بحث واسع النطاق، عن كون المدرس يظل العامل الأول من حيث التأثير على التلاميذ عبر طريقته في تسيير قسمه من جهة، ومن خلال دوره في تنمية السيرورات الميطامعرفية لتلاميذه من جهة أخرى، ومنذ ذلك الوقت أتاحت أبحاث أخرى حساب “القيمة المضافة للمدرس” على مكتسبات إنجاز التلاميذ وأدائهم، مع أخذها بعين الاعتبار عوامل أخرى من قبيل المستوى السوسيو-اقتصادي والأصل الإثني والتجارب المدرسية السابقة[3].
وما يتحصَّلُ من ذلك، هو أن فهمنا للتدريس قد تطور بشكل كبير منذ ثلاثين سنة؛ إذ تم إجراء أبحاثٍ كثيرةً داخل الأقسام بحيث تمَّ وصف تصرفات المدرسين وتحليلها، كما تم قياس تأثيراتهم على تعلُّم التلاميذ ومقارنتها. ونتائج هذه الدراسات تبقى جد مؤكَّدة، وتدل على وجود استراتيجيات بيداغوجية أكثر فعالية من الأخرى، وما يظهر، نتيجة لذلك، هو أن المقاربات التي بمقدورنا تسميتها بـ “المقاربات التهذيبية أوالتوجيهية” تبقى على ارتباط بالإنجازات الجيِّدة للتلاميذ أكثر من المقاربات بواسطة الاكتشاف“Les approches par découvert”، فهي تشكل ما يسميه باراك روزنشاين Brak Rosenshine وروبرت ستيفنز Robert Stevens[4] بالنموذج العام للتعليم الفعال، هذا الأخير الذي، بعيدا عن اختزاله لتعقيد التعليم إلى ضرب من التقنية ذات النزعة الميكانيكية، تبقى له إيجابية صَوْرَنَتِهِ والعمل على إبراز العناصر المهمة التي يأخذها المدرسون الأكفاء بعين الاعتبار، وهذه العناصر التي تم تأكيد صلاحيتها من قبل أبحاث حديثة، هي بمثابة علامات ومؤشرات تفيد المدرسين كمعالم لتوجيه فعلهم.
2- نموذج عام للتدريس الفعال:
إن تعليما صريحا ومُنسَّقًا يكمن في تقديم محتوى بطريقة مقسَّمة، وفي تعيين زمن لأجل التحقُّق من الفهم مع ضمان مشاركة نشطة لجميع التلاميذ، وقد تأكدت صلاحية هذه الطريقة خصوصا لتعليم القراءة والرياضيات ونحو اللغة الأم، كما تأكدت صلاحيتها جزئيا لتعليم اللغات الأجنبية وهذا النوع من التدريس يوافق الأطفال صغار السِّن، ومن يتعلَّمُون بوتيرة بطيئة، وللتلاميذ الأكثر كفاءة حينما يتعلق الأمر بمادة جديدة أو مادة معقدة.
إن تطبيقات التدريس الصريح تنقسم بالنسبة لـ «باراك روزنشاين، ووروبرت ستيفنز B. Rosenschine، R. Stevens“» إلى ثلاث مراحل: مرحلة “النَّمْذجة” «Modelage» التي تتيح فهم التلميذ لهدف التعلم، ثم مرحلة “التطبيق المُوَجَّه pratique guidée” التي تمنح فرص متعددة لتعلم يفترض ضرورة التحكم في الفهم وتصويبه عبر الفعل، وفي الأخير “التطبيق المستقل pratique autonome” الذي يتيح فرصا متعددة للتعلم تستلزم التحكم وأليَنَة [إضفاء الطابع الآلي] L’automatisation على المعارف القاعدية.
3- قولبةُ المعارف ونمذجَتُها: مفاتيح لأجل التفكير:
داخل هذه المرحلة الأولى يبذل المدرس جهدا لعرض الأدوات الضرورية لتحصيل مستوى عال من الانتباه لدى التلاميذ، إذ ينشغل من خلال تدخلات لفظية، بخلق رابط مع المعارف المكتسبة سابقا؛ فأثناء القولبة تُقدَّمُ المعلومة في وحدات صغرى، ضمن وصلات متدرجة من البسيط إلى المعقد. [وتجدر الإشارة إلى أن] تقديم كمية كبيرة جدا من المعلومات تُغْرِق الفهم في حمولة مفرطة لذاكرة العمل، وتُعرِّض تحقُّق تمثل متوافق مع التَّعلمات للخطر.
فالمدرس يصرح بأهداف الدرس بوضوح حتى يعرف التلاميذ المُنتَظرَ منهم؛ إذ هو من يقوم بنَمْذَجة الإجراءات، بمعنى أنه ينَفِّذ أمام التلاميذ المهام المطلوب تحقيقُها، مع مُصاحَبتِه لذلك بتفكيره بصوت مرتفع، أي تصريحه للتلاميذ بالعمليات الذهنية التي تستوجبها المهمة؛ ذلك أن مهمة لم يتم التَّحكم في صعُوبتها، تبقى شاقَّة جدا من حيث التَّعلم، وتُعرِّضُ التلاميذ لخطر بثِّ الخلْطِ والتشويشِ في أذهانهم وبالتالي إيقاعهم في الخطأ.
لهذا على المدرس أن يقدم أمثلة وأمثلة أخرى مضادة، فعلى سبيل المثال مهام من مثل: لَخِّصْ، قارِنْ، والتي تُدرَك في الظاهر كمهام سهلة، تبقى شديدة التَّعقيد من حيث التحكُّم فيها أكثر مما نعتقد، لهذا السبب من المفيد جدا أن يتم تزويد التلاميذ بـ “مفاتيح لأجل التفكير” تُبَنْيِنُ مسارَهُم وتيسِّر التعلم[5].
وعلى العكس مما تشير إليه بعض الانتقادات الموجهة لهذه المقاربات البيداغوجية، فإن التلميذ يبقى أَنْأَى عن الانفعال والسلبية داخل هذا المسار، لأنه يكون منجذبا ومشدود الانتباه دون توقف، بواسطة العديد من الأسئلة التي يطرحها المعلم للتحقق من مدى فهمه.
كما أن المعلم عندما يريد تعليم محتوى جديد لتلاميذه، ينبغي عليه كشرط أولي مراجعة المعارف والمهارات الأساسية الضرورية لاكتسابه(المحتوى). وهو ما يسميه البعض باسترجاع المعارف السابقة، وهي استراتجية هامة لأنها تكفل إعادة تنشيط المحتويات داخل الذاكرة، تلك المحتويات التي يكون التَّلاميذ في حاجة إليها لأجل تصميم وتخطيط التعليم الجديد الذي سيقدم لهم، كما أن الواجبات المنزلية تكون مخصَّصة لمراجعة ما تمَّت معرفته في أفق رفع مرونته من خلال التطبيق؛ لذا على المدرسين ألا يطلبوا ضمن الفروض مهام جديدةً لا يعرف التلاميذ إنجازها حتى لا يحدثوا عندهم أخطاء في الفهم.
4- التطبيق الموجه ورد الفعل الرجعي:
طيلة مرحلة التطبيق الموجَّه، يفحص المدرس جودة الفهم لدى تلاميذه، ولهذه الغاية يقترح مهاما متشابهة، وأسئلة حتى يُنشِئَ لديهم مفعولاً رجعيا منظّما، وهذا ما يجعل من التطبيق الموجه استراتيجيةً أساسية تتطلَّبُ الكثير من الوقت، فمن الخطأ الاعتقاد بأن ما تم قولُه قد تم تحصيله من طرف المخاطب بنفس الصورة التي قيل بها؛ ذلك أن اختلافا شاسعا قائمُ بين ما يقوله المدرس وما يحتفظُ به التلاميذ، وبالتالي فعن طريق الملاحظة وطرح الأسئلة يستطيع المدرس أن يقف على مستوى فهم التلاميذ، من خلال كم وكيف الأخطاء التي يرتكبونها، لأن خطأ تم تَثْبِيتُه بشكل قوي سيكون من العسير تصحيحه، والتطبيق الموجَّه بتجاوُزه لذلك، سيسمح بالكشف السريع عن الأخطاء وبتصحيحها دون تباطؤ.
هذا، ويحرص المُدرس أثناء التطبيق الموَجَّه على تحصيل كل تلاميذه للمعلومات(*) فيحثهم على الإجابة بتقديمه شروحات إضافية عند الحاجة، ويستمر في ذلك إلى أن يصير التطبيق مرنا ويبلغ التلاميذ مستوى أعلى من الإتقان، وهذه المرحلة يمكن أن تُيسَّر بواسطة العمل عن طريق المجموعات والذي يسمح للتلاميذ بفحص فهمهم والتحقيق منه عن طريق تبادل الأفكار فيما بينهم؛ هكذا فالتطبيق الموَجَّه يساعد التلاميذ على فحص، وضبط وإحكام المعارف الجديدة بترتيبها وتنظيمها مع المعارف التي احتفظوا بها سابقا في الذاكرة.
5- نحو تطبيق مستقل ذاتيا:
لا يتم بلوغ المرحلة الثالثة؛ مرحلة التطبيق المستقل ذاتيا، إلا عِندما يتأكَّد المعلم أن التلاميذ قد بلغوا مستوى مرتفعا من التحكم في المعرفة موضوع التعلم؛ ففي سياق الفعل يستطيع التلميذ إتمام التحكم في تَعلُّماته الجديدة وإضفاء البعد الآلي أو الأتوماتيكي عليها عند الاشتغال، مُسَهِّلا بذلك تثبيتها في الذاكرة واستدعاءها المحتمل، ومن الواجب أن يصير قادرا على القيام بذلك لوحده بمرونة ومن دون أخطاء.
كما يقتضي التدريس الفَعَّال، فضلا عن ذلك، مراجعةً متواترة لما تم تدريسه، مثلما يستلزم تطورا مضبوطا للتلاميذ، وبهذا يكون بمقدور المعلم أن يعيد تدريس ما لم يتحكم فيه التلاميذ، إذ لا يجب إغفال انعدام كل نقل أو تحويل ممكن في غياب اكتساب المعارف أولا؛ أعني فهمها، ولا وجود لتحويل ممكن للمعارف إذا لم يتحقق تحصيلُها أولا، وتحصيلها يعني أن يتم تطبيقها بالشكل الكافي حتى تكون قابلة للتعبئة والتحريك.
6- هل”التدريس الفعَّال” تدريس تقليدي تمَّ تحريفُه؟:
الواقع أننا لا نتأكد ضمن هذه المقاربة (التدريس التقليدي) بشكل جيد من أن المعارف الضرورية قد تم اكتسابها، ولا من تطبيقها الكافي حتى يتم تخزينها وتنظيمها في الذاكرة البعيدة المدى، وبالتالي لا نكون متأكدين من قابليتها لأن يتمَّ تنشيطها عند الحاجة، لكن البعض يتساءل: أليس ذلك ما كان يقوم به المعلمون دائما؟
في الواقع كثيرون هم أولئك الذين يَستَبِدُّ بهم الميل إلى الخلط بين التدريس التقليدي والتدريس الصريح؛ ذلك أن القولبة والشرح بشكل سابق يبقى محاكيا في الغالب لدرس إلقائي، أما التطبيق المستقل ذاتيا فيظل مشابها لطور التمارين التطبيقية، بينما الواجب هو فهم نموذج باراك روزنشاين B. Rosenschine وروبير. ستيفنز R. Stevens كنموذج يبتعد في جوانب متعددة عن التدريس التقليدي؛ ففي الوقت الذي يتمحور فيه التدريس الإلقائي حول نقل المحتوى، يركز التدريس الصريح بشكل محوري على فهمه والاحتفاظ به في الذاكرة، لأننا لا نقوم، داخل التدريس التقليدي، إلا بالقليل من مراجعة المعارف السابقة، ونتعامل معها كما لو أن ما تم تدريسُه سابقا قد تم فهمه والاحتفاظ به.
كما أن الأهداف المتوخاة لا تكون واضحة ًبالضرورة، ولا هي بالصريحة، بالإضافة إلى أن المدرٍّس لا يخصِّص الوقت بصورة كافية للتطبيق الموجَّه، وفي غالب الأحيان يعطي بعض الشروح ليضع التلاميذ في العمل ضمن إطار وضعية التطبيق المستقل ذاتيا، ليكون لخطأ الفهم بذلك الوقت الكافي للظهور وللتركُّز والرُّسوخ في أذهان التلاميذ، ليتم عندها إسناد مسؤولية الفشل للطفل وليس إلى نقص يعْتَوِر التدريس.
إن الافتتاح باستدعاء المعارف السابقة، وبالتصريح بالأهداف بشكل واضح، ومنح الوقت الكافي للتطبيق الموجه، لهي المفاتيح الأساسية لبيداغوجية فعالة، مقارنة بممارسات المدارس التقليدية التي تبقى عُرضة للخطأ.
ولنسجل هنا بأن من يُعْتَبرون من بين المدرسين مدرسين أكفاء في الكيبك، هم من يخصِّصُون لعملية إرساء قوالب المعارف (النَّمْذجة) وللتطبيق الموجه 23 دقيقة في المتوسط (من غلاف زمني قدرُهُ 50 دقيقة) قبل أن يَعْبُروا جِهةَ التطبيق المستقل ذاتيا، في مقابل 11 دقيقة التي يخصصها المدرسون الآخرون.
7- حدود البيداغوجيات المتمحورة حول التلميذ:
في مقابل التدريس التقليدي، هل من فعالية للممارسات البيداغوجية المسماة نَشِطة، ولبيداغوجيا المشروع، وبيداغوجيا الاكتشاف… والتي بالإمكان تجميعها كلُّها (باعتبار ما تشترك فيه) تحت وَسْمِ بيداغوجيات متمركزة حول المتعلم ؟
حتى وإن كان استدعاء المعارف السابقة حاضرا فيها، فإن هذه البيداغوجيات لا تضْمَنُ فهما جيدا للمعارف، ولا تضمن تطبيقها بصورة كافية حتَّى تكون قابلة للتحريك والتَّعْبِئة بيُسْرٍ وسهولة، كما أن المدرس داخل هذه البيداغوجيات لا يمارس مراقبة دقيقة لصعوبة المهمة داخل مقطع يتدرَّجُ من البسيط إلى المعقد؛ ففي بيداغوجيا المشروع على سبيل المثال، تتم مجابهة التلاميذ بالولوج إلى مهام معقدة عبر اللّعب، كما لو أن هذه المهام ليست تراتبية الطابع. مما يجعلهم لا ينجحون بالضرورة في انجاز ما هو منتظر منهم، والعكس هو الحاصل إذا ما لم يتم التركيز بشدة على أهمية تطبيق شديد الدقة، هكذا يتمثل إسهام المقاربة البنائية والمقاربات بواسطة الاكتشاف في إبراز مدى أهمية معرفة المدرس لمستوى فهم تلاميذه.
وعلاوة على ذلك غالبا ما نلاحظ في بيداغوجيات المشروع ميلا إلى التبديد والمرور السريع، فحتى إن كان التلاميذ يحبون المشاريع، فإن تَعَلُّمَهم هو ما يجب أن يكون المعيار الأول للمدرس؛ لأن الاعتقاد الذي يرى أن التعلم يكون ذا جودة عندما يكون المتعلم حرّاً في مساره، لم يتم تعزيزُه ولا تأكيدُه من طرف الدراسات التي أُجْرِيت حول الموضوع. وفي حالة الفشل نقول بأن شروط الإرساء والترسيخ لم تتضافر، حيث العدد الكبير للتلاميذ والنقص في الميزانية المتوفرة وانعدام الوقت الكافي إلخ؛ أي أننا بوجيز العبارة نبحث عن السبب خارج المقاربة البيداغوجية نفسها.
إن النزعة النضالية في مجال البيداغوجيا تُضِرُّ بالتحليل المنظم والموضوعي، لهذا فإن الأمر لايتعلق بأن يكون المرء مناصرا ومشايعا لمقاربة بيداغوجية بعينها، جديدة كانت أم تقليدية، من اليسار أو من اليمين، بل إن السؤال الأهم بالأحرى، هو اختبار ما إذا كانت قاعدة للبحث الأمبريقي متوفِّرة وما إذا كان قد تم قياس آثار مختلف الاستراتجيات والمقاربات البيداغوجية على تعلم التلاميذ؟
يبدو أن المقاربات التهذيبية أو التوجيهية[6] التي تم تقديمها هنا، تمتلك إمكانا أقوى لتسهيل التّعلُّمات أكثر من غيرها من المقاربات، في حين أننا نجد، فيما يشبه المفارقة Paradoxalement أن الإصلاحات التربوية الرَّاهنة في العديد من الدول تعلي من شأن التدريس الذي ينطلق من اكتشاف التلاميذ، وكأننا بهذا قد فتحنا ثغرة كبيرة على مستوى البحث في هذا الاتجاه، بينما لم نر بعد النتائج المستخلصة من البحوث التي تم إجراؤها في هذا المنحى، وفضلا عن ذلك تبقى المحاولة كبيرة لأجل رفض المقاربات الجديدة لصالح العودة إلى التقليد وإلى بيداغوجية الأيام الخوالي والتي تمت البرهنة على ضعفها كذلك، وحتى نكون واضحين، فإن أمر باراك روزنشاين B. Rosenshine يظهر لنا أكثر دقة وملاءمة من أي وقت مضى: أعطيني المعلومة ومكِّني منها «show me the data» .
8- ملحق بمفاهيم المقال:
8- 1- مشروع المتابعة حتى النهاية “follow through” :تقويم للممارسات البيداغوجية :
إن المشروع الأمريكي المتابعة حتى النهاية follow though، بوصفه بحثا في التربية ،يبقى مجهولا في العالم بشكل كبير ،بينما هو يمثل التجريب الذي أنجز على أعلى مستوى، و الذي لم يسبق إجراؤه في ميدان التربية بالغرب، فهذه الدراسة التي اتبعت بشكل منتظم من 1967إلى 1995،اتخذت لها كهدف تحليل مقارنة فعالية حوالي عشرين من المقاربات البيداغوجية، عبر تتبعها لـ 70.000 من تلاميذ الحضانة والتعليم الابتدائي المنحدرين من الأوساط الاجتماعية غير المحظوظة.
وهكذا تم تجميع النمادج البيداغوجية في إطار فئتين كبيرتين :
*المقاربات المتمركزة حول التدريس (basic skills models أو النماذج الأكاديمية)، وهي مقاربات موجهة نحو تدريس نسقي للتعلمات القاعدية (القراءة ،الكتابة ،الرياضيات).
*المقاربات المتمركزة حول التلميذ،وهي المسماة بالنماذج المعرفانية cognitive skills models ،أو النمادج العاطفية (affective skills models)، فالأولى متمركزة حول مراعاة مستوى المتعلم و أسلوبه في التعلم ،بينما تتمركز الثانية حول مراعاة إيقاع كل تلميذ وحاجاته و اهتمامه .
على مستوى أداءات التلاميذ: حصلت المقاربات المتمركزة حول التدريس على أفضل النتائج على نطاق واسع ،بل أكثر من ذلك تأكد الخبراء (المنتمون إلى مكتب مستقل لتفادي مطبِّ التجزيء) باندهاش ،أن التلاميذ ضمن النماذج المتمركزة حول التلميذ كانت أداءاتهم ضعيفة فيما يرتبط بالمهارات المعرفية و تقدير الذات ،إذ كانت أقل من تلك التي كانت من نصيب بيداغوجيا تعتبر أقل إنصاتا للأطفال الصغار .
كما أن دراسات وتحليلات أخرى لقاعدة إحصاءات جد معقدة ، عززت هذه النتائج: إن برنامج “التكوين المباشر” الذي يكمن كذلك في تدريس صريح ،وفي مسار بيداغوجي دقيق لاكتساب المواد القاعدية والأساسية، يظهر كأكبر رابح،خاصة لتعلم القراءة ….فدراسة متابِعة للتلاميذ أثبتت من جهة أخرى، أن التلاميذ المستفيدين من تدريس من نوع “التكوين المباشر “كرروا بنسبة أقل، وحصلوا فيما بعد على أعلى الدبلومات مقارنة برفاقهم الصغار ،الذين تلقوا تعليما تقليديا أو تعليما متمركزا حول التلميذ…
وقد تأكدت هذه النتائج سنة 2003 لدى تلاميذ من مدرسة CITY SPRING ،التي تعتبر المؤسسة الأكثر تهميشا في مقاطعة بالتيمور BALTIMORE ،لكنها نجحت في غضون ست سنوات في تطوير أداءات التلاميذ في القراءة و الرياضيات بحوالي80رتبة بالنسب المئويةوهو ما يمثل تقدما دالا [7].
8- 2- كلمات مفاتيح:
- الميطامعرفية :هي السيرورات المعرفية التي تحدد التحليل الذي تباشره الذات لأدائها الذهني؛فتعرف كيف تتعلم حتى تضيف تقسيمات أو تضع خطاطة لمشكل بغية تحقيق فهم أفضل له …إن الميطامعرفية (كمصطلح يعود قصب السبق في استعماله إلى عالم النفس الأمريكي جون فلافل John Flavell سنة 1977)تحيل إلى الإستراتجيات التي يتم إعمالها في معالجة المعلومة لأجل التعلم والتذكر ومعالجة مشكلة …..
- نقل التعلمات وتحويلها:أن تنقل التعلمات (أو المعارف )هو أن تعرف استعمالها داخل السياقات المختلفة ؛أي تطبيق حل معروف ضمن وضعية جديدة ؛إن النقل أو التحويل يبقى سؤالا مركزيا بالنسبة للتدريس،لأنه يفترض تفاعلا لمجموع كامل من الإستراتجيات المعرفية: الولوج إلى معارف الذاكرة البعيدة المدى ،تقويم الذات لصلاحيتها ومدى ملاءمتها لمعالجة وضعية جديدة …، ليكون النقل بذلك مستلزماً لقدرات الذات على التعميم و التجريد .
- ذاكرة العمل / الذاكرة الطويلة الأمد: إن استعادة رقم هاتف ولحظة تركيبه ،وتذكر خطاطة درسناها….،كل هذه العمليات الذهنية تتم بفضل ذاكرة العمل ،التي تحتفظ مؤقتا بالمعلومات الضرورية لمعالجة مشكل ما ،وهي تتميز عن الذاكرة الطويلة الأمد التي تخزن بفضلها المعلومات القابلة للاستمرار (معرفة إجراء عملية جمع ،أو ركوب دراجة )،وهي المعلومات التي يتم إعادة تنشيطها عند الاقتضاء.
- بيداغوجيا الاكتشاف/ بيداغوجيا المشروع: تستند هذه البيداغوجيا على مسار بداخله يكتشف التلاميذ ،اعتمادا على ذواتهم ،ما هم في حاجة إلى تعلمه، على سبيل المثال، اهتداؤهم بشكل جيد إلى مشروع ، فعلى هذا النحو يمكن أن يكون تنظيم رحلة من طرف ماعة القسم الدراسي، فرصة لاكتشاف جغرافية المنطقة أو سببا لتقويم وضبط النفقات الواجب الالتزام بها ……
ويعود الفضل في وضع بيداغوجيا المشروع للفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952)John Dewey والذي اختصرها في العبارة التالية :”التعلم بالعمل learning by doing”.
إن هذه المقاربات ترتكز على مسار يسمى “مسارا نشطا”ضمنه يفترض أن يُكوِّن التلميذ بالاعتماد على ذاته معارفه أثناء فعله [نتحدث إذن عن مقاربة “ذات نزعة بنائية “].وهي مقاربة تتخذ كهدف لها كذلك استثارة الحافزية من خلال منحها معنى للتعلمات ،وأصل بيداغوجيا كهاته نجده بداخل تيار التربية الجديدة منذ القرن 19،والتي اقترحت بدائل للبيداغوجيا التقليدية، من خلال تمركزها حول حاجيات و اهتمامات الأطفال ، واليوم نُلفي هذا التعارض بين طرائق التعلم المتمركزة حول التلميذ وتلك المتمركزة حول التدريس (محتوى التعليم)،وتلك البدائل هي ما يسميه أصدقاؤنا في الكبيك بالمقاربات “التلقينية “.
[*] Clermont Gauthier, qu’est-ce qu’ un bon prof?, sciences humaines, hors-série spécial N 5, novembre-décembre2006
[2] هؤلاء الباحثون هم على التوالي M.Woing ووينج، هيرتل, G.Haertel والبرج, Walberg وقد نُشِرَ هذا العمل باللغة الفرنسية تحت عنوان: «qui est-ce qui aide l’élève à apprendre ?» vie pédagogique N° 90, sept – oct. 1994.
[3] P.Deury et H.Doron, « the value of value added analysis, policy research brief » National school, Boards Association, vocc, III, N° 1, Janvier 2003.
[4] B. Rosenshine و R. Stevens, “teaching fuctions”, In M.c Wittork (dir), hand-book of research on teaching , N° 3 éd Macnillan 1986.
[5] انظر بهذا الخصوص: M Pressely et v.wolo shy n (dir) cognitive strategy instruction that realy improves childrens , Academic performence, B Rookline Book , 1995.
[6] النسبة الكبيرة من الدراسات بخصوص هذه المشكلة صدرت بالعالم الأنجلوساكسوني
[7]مراجع لاستزادة الاطلاع:
“interventions pédagogiques efficaces et réussite scolaire des élèves provenant de milieux défavorisés”
Chaire de recherche du canadien formation à l’enseignement, université de Laval, Québec, avril 2004