الملخّص:
نروم في هذا العمل بيان ملامح ثورة أبي نواس على ميسم استهلال القصيدة العربيّة متمثّلا في الوقفة الطللية. فحاولنا الكشف عن الأسباب العميقة التي تقف وراء هذه الثورة مبرزين علاقتها بالجدل الدّائر بين أنصار القديم وأنصار الجديد في العصر العبّاسي وبالارتباط بمفهوم البدعة والإحداث الذي شمل الأدب كما شمل قبله الحياة الدينيّة.
لقد لفتت القصائد المدروسة انتباهنا إلى كون أبي نواس لم يكن دوما ثائرا على الطّلل، فهادنه في مناسبات كثيرة إذا ما تعلّق الأمر بإرضاء الخليفة فنظم أبياتا تحاكي نظم القدامى مبنى ومعاني.
هدفنا من هذه الدراسة هو الإضافة لما سبقها من دراسات تناولت شعر أبي نواس بالدّرس وبحثت في مظاهر التجديد فيها، ونحن إذ قصرنا عملنا على المقدّمة فلما تمثّله من أهميّة في نسيج القصيدة ومضامينها.
الكلمات المفاتيح: التجديد – المقدّمة الطلليّة – العصر العباسي – الخمرية.
Abstract:
In this work, we aim to explain the features of Abu Nawas’ revolution against the prelude of the Arabic poem, represented by the “standing on the ruins”. So, we tried to reveal the deep reasons behind this revolution, highlighting its relationship to the controversy between the supporters of the old and the supporters of the new in the Abbasid era and the connection to the concept of heresy and events that included literature as it included religious life before it.
The studied poems drew our attention to the fact that Abu Nawas was not always a rebel, so he calmed him on many occasions if it came to satisfying the Caliph, so he composed verses that mimic the systems of the ancients with structure and meanings.
Our aim in this study is to add to the previous studies that dealt with the poetry of Abu Nawas by lesson and examined the aspects of renewal in it.
Key words: Renewal – Al-Talliya Introduction (standing on the ruins) – Abbasid Era – Al-Khamriya (bachic poems).
1- تمهيد:
يعتبر شعر أبي نواس حركة تمرّد على النواميس الفنية والتقاليد الشعرية المعروفة التي دأب الشعراء العرب القدامى على اِتّباعها منذ العصر الجاهلي. وقد تجسّم هذا التمرّد في رفض الوقفة الطّلليّة وهي سنّة شعرية متجذّرة في المدوّنة العربية تُعرف بأنّها ميسم الاستهلال المميّز، والديباجة الشعرية التي يحرص مقصّدُ القصيد على اِحترامها والمحافظة عليها. واللّافت للنظر في ثورة أبي نواس أنّها لم تكُن ظرفية مرتبطة بمرحلة معيّنة من مراحل مسيرته الشعرية، بل كانت اتجاها شعريا ثابتا، واختيارًا فرديا واعيًا، كما أنّها لم تكن مجرّد نزعة تجديد عابرة أفرزتها تحولات العصر في القرن الثاني للهجرة، ولم تتّصف بأنّها ثورة هادئة مهادنة بل كانت عارمة ساخرة مستفزّة لم يتردّد صاحبها في السخرية اللاذعة من الوقوف على الأطلال والبكاء على الديار الدارسة، وازدراء هذا المرسم الشعري، والتعريض بالشعراء المقلدين والاستخفاف من وراء كل ذلك بحياة الأعراب في الصحراء وبنمط عيشهم وبعاداتهم وتقاليدهم في عصر عَرَف تحولا كبيرًا في أساليب الحياة وطرائق العيش، وهو العصر العباسي الذي شهد تطورات اقتصادية واجتماعية وحضارية غير مسبوقة، إذ امتزج العربُ بالأعاجم ولاسيّما الفرس، واختلطوا بهم أيّما اختلاط، وانغمسُوا في حياة الدّعة واللهو والاستقرار بالحواضر الكبرى مثل بغداد و دمشق و البصرة و غيرها من المدن الكبرى، مقبلين على مجالس اللهو معجبين بالحضارة الجديدة متأثرين بنمط الحياة الجديدة في المأكل والملبس والمعمار. وانعكس هذا التأثر بالحضارة الوافدة على كل مجالات الحياة بما في ذلك الأدب وخصوصا الشعر فظهرت فنون وأغراض جديدة لم يألفها شعراء العصرين الإسلامي والأموي. وكان المشهد الطّلليّ كبش فداء لهذه الهجمة على عمود الشعر، فإذا كان بشار بن برد هو المبادر بخوض مغامرة التجديد في الشّعر في أغراض الغزل والهجاء والشكوى ورَسم لنفسه مسلكا طريفا، فإنّ أبا نواس كان أكثر منه جرأة في مهاجمة هيكل القصيدة القديمة وأبعد شأوا وأعمق أثرا من خلال استبداله للمقدّمة الطّلليّة بالاستهلال الخمري. فما هي أبرز ملامح ثورة أبي نواس؟ وما هي خلفياتها ومُبرّراتُها؟ وما علاقتها بالجدل الدائر بين أنصار القديم وأنصار التجديد؟ وكيف سعى هذا الشاعر لترسيخ المطلع الخمري على أنقاض المطلع الطّلليّ؟ وإلى أي حدّ وفّق في ذلك؟ وما أثر المنجز الشعري النواسي على المدونة الشعرية العربية بعد القرن الثاني للهجرة؟ هذا ما تسعى هذه الدراسة للإجابة عنه محاولة الكشف عن الدوافع الحقيقية للثورة النواسيّة والبحث عميقا في خلفيّاتها النفسيّة والاِجتماعيّة والحضاريّة.
2- الصّراع بين التّقليد والتّجديد في الشّعر العربي في القرن الثاني للهجرة :
يعتبر الصراع بين أنصار التقليد وأنصار التجديد السّمة البارزة لعصر أبي نواس. والمعنى الذي نرمي إليه بالتقليد هو تتبع القديم والاحتذاء به، لأن التمّرد على القديم يُنظر إليه على أنّه خروج عن التراث الذي لا بّد من احترامه وتقديسه وعدم التجاسر عليه. وقد كان الخروج على التقاليد النقدية والسنن الشعرية يثير ردود فعل قوية سواء من قبل النقاد أو حتى الجمهور، لأنّ الشعر خاضع إلى جملة من المقاييس المضبوطة والمعايير التي حدّدها عمود الشعر، “وأسْمَوْهُ عمودًا لأنّ منهج القصيدة يتناول سطحها من جهة تنوّع موضوعاتها وترتيب سردها على نحو مَا حُمِلَ برواية ابن قتيبة من أنها تبدأ بالأطلال مشتبكا بالنسيب وتُردف بالرحلة إلى الممدوح أو ما يسمى إيجاب الحقوق عند الأولين” فيذكر الشاعر ما يلقاهُ في الطريق ويعمد إلى تشبيه ناقته ببعض الحيوان تسلية وتَنْبِيهًا على براعته الفنيّة[1]، وهو ما اصطلح بعض النّقاد على تسميته بالمقدّمة الفنية، ثم يصل إلى المديح وبه يختم القصيدة. وبعض الشعراء يتبع المديح بخاتمة من الحكمة كما فعل زهير في معلقته، ومن أهم الشروط توفر عنصري القافية والوزن اللذان لا ينبغي لأي كان الخروج عنهما، لأنّ كل خروج هو انحراف عن المنهج الذي سطره النقاد.
ومن معاني التقليد أيضا أن يكون الشعر متقيّدًا بأغراضه المعروفة التقليدية التي تعارف على أهميتها العرب انسجاما مع مفاهيمه العامة، فالشّاعر العباسي مثلا يمكن أن يتصرف في غرض الغزل ومعانيه ولكنه لا يستطيع أن يغيّر في بنية القصيدة المدحية. وإذا كان بعض الشعراء الأمويين قد حرصوا على احترام هذه التقاليد الفنيّة ولم يَحيدُوا عنها بل واصلوا ترسيخها وتكريس انتشارها وأضافوا إليها بعض إبداعاتهم في تنويع المقدّمات والرّحلة، فإنّ شعراء العصر العباسي الأول قد تخلصوا من الالتزام بنمط القصيدة القديمة وخاصّة المقدّمة الطّلليّة وما يليها، لأنّ الغاية الأساسيّة من هذا التقليد لم تعَدْ ذات قيمة ما دامت أغلب القيم الاجتماعية في تغيّر مستمرّ. وكان لكل ذلك أثر عميق في تطوّر نظرة الإنسان إلى الحياة والوجود والشعر والفن بصفة عامّة، لأنّ الصّدام بين القديم والجديد متجذّر في التاريخ ولا يزال متواصلا إلى يومنا هذا وهو ضرورة تاريخيّة وحتميّة اجتماعية. وقد يحمل التجديد في طيّاتِهِ عناصر معادية للتراث رافضة لبعض قيمه، ولكنها لا تخلو من الطرافة وملاءمة روح الحاضر. ومن نافلة القول الإقرار بأنّ كلّ جديد يكون غامض في بدايته ينفر منه الجمهور لذلك لا بدّ من التأكيد على أن خروج أبي نواس لم يكن تمردًا على جوهر الشعر القديم، ولكنّه كان ثورة على عمود الشعر وخصوصا المقدمة الطّلليّة. غير أنه حافظ في المقابل على الكثير من القوانين القديمة بل إنّه التزم بالمشهد الطّلليّ في مدحياته للرشيد ثم للخصيب في مصر والأمين، وهذا أمر مبرّر في رأينا لأنّ عمود الشعر كان يفرضُ على الشاعِرِ أن يعبّر عن المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله. وهذا الشرط ينفي عنه صفة الابداع ويجعله يكتفي بترديد ما قاله الأولون فيفقد أسلوبه الخاص، ويتحوّل إلى مجرّد صدًى للآخرين. ومن أبرز المعايير التي تضمّنها عمود الشعر ألاّ يتجاوز الشاعر المعنى المعروف إلى آخر غير مألوف. وألاّ يَسْتخدم الصّور الشعرية المبتدعة أو الجديدة أو التي لم يجر عليها العرف والعادة. وألاّ يلجأ إلى الغموض، فالشعر لمح تكفي إشارته كما يقول البحتري، وألاّ ينقل الشعر عن معناه المتداول. وهذه الضّوابط وغيرها هي التي ثار عليها الشعراء المولّدون وفي مقدمتهم أبو نواس، وهذا ليس عقوقا شعريا بقدر ما هو دعوة لارتياد أفق إبداعي جديد يتسم بالتحرّر، ويُعني بهموم الفرد ومشاغله الراهنة. فهو في مقدّماته الخمرية يعدل عن وصف المحبوب، ويستغرق في وصف الخمر، والرّحلة إليها ومراحل تقطيرها وكيف أنّها كانت معروفة منذ قوم نوح ثمّ تخيّرها أحدُ التجار واشتراها ودفنها في باطن الأرض وبقيت هناك أزمانا والناس يبحثون عنها فكان مطلع القصيدة مسرحًا لاستعراض براعته في الثورة على الطّلل.
3- دوافع ثورة أبي نواس على المشهد الطّلليّ :
تتعدد دوافع الثّورة النواسيّة على الاِستهلال الطّلليّ وتتنوّع أسبابها، فمنها ما هو نفسي يتعلّق بشخصية الشاعر وميولاته الفنية ومزاجه الشخصي، ومنها ما هو اِجتماعي حضاريّ له علاقة بذائقة العصر الذي عاش فيه ومقاييسه الجماليّة وقيمه الأدبية. ونحن نرجّح أن يكون لهذا العامل تأثير كبير على توجّه أبي نواس الشعري. فالعصر العباسي عرف اِتجاهين شعريّين الأوّل هو تيّار محافظ متشبّث بالسّنن الشعرية القديمة وبعمود الشّعر وما يتعلّق به من بنية القصيدة واِلتزام بشروطها الهيكليّة والمعجميّة والعروضيّة، والتيار الثاني هو الذي حَمَلَ الشعراء المولّدون لواءه وفي مقدّمتهم النواسي الذي يرى أنّ مسايرة تطوّرات العصر وقوانين الحياة تستوجب تغييرًا في بنية القصيدة. ومن هذا المنطلق كانت قصائده مساحة لنقد الشّعراء المقلّدين الذين يجترّون المألوف ويعيدون المكرور، فرفْضُه لهذا البروتوكول الشّعريّ هو في جوهره رفض للتقليد وازدراء للاِجترار الشّعري والتبعيّة، وإصرار على أن لا يكون الإبداع الشّعري في العصر العباسي مجرّد تكرار ممجوج وصدًى لأصوات خلت. إنّ ما سعى أبو نواس إلى تحقيقه هو اِستحداث افتتاحيّات شعريّة نابعة من الرّاهن، وذلك لأنّه يؤمن بأنّ الشعر مسيرة إبداعيّة متواصلة متجدّدة ليس لها اكتمال. فالوقوف على الأطلال هو مجرّد مرحلة من مراحل تطوّر القصيدة وليس علامة كمال عليها. لذلك رفض شاعرنا هذا الهوس بالطلل لأنّه قيْدٌ على الإبداع وتحنيط للفن ومدخل للتصنّع والحديث عن المشاعر الزائفة والدفقات الوجدانية المصطنعة التي يجتهد الشاعر المقلد في إبرازها للتقرّب من ممدوح يجزل له العطاء أو مستمعين يشهدون له بالفحولة الشعرية. لذلك هدّم بثورته الأطلال التي تحوّلت على مرّ العصور إلى ما يشبه الصنم المقدس الذي يختزل طبيعة الحياة العربية القديمة. ولا بُدّ من التأكيد في هذا السياق على أنّ الاستهلال الطّلليّ يرتبط عند الشّاعر العربي بمعالجة قضايا عديدة لا تقف عند حدود الغزل والبكاء على الدّيار أو الحديث عن الحبيبة الرّاحلة، بل تتجاوزهُ إلى قيم أخرى هي قيم الحياة القبلية والبداوة وحياة الترحال وهي أمور يكرهها أبو نواس ولا يتردّد في تقبيحها. وربما حدث ذلك بسبب خلفيّة شعوبية مثلما أكّد بعض النّقّاد. وبما أنّ الشعوبية هي نزعة عرقيّة عنصرية ظهرت في العصر العباسي تحقّرُ العرب وتحطُّ من شأنهم وتُعْلي من شأن غيرهم من الأعاجم ولاسيّما الفرس، ويعود ظهور هذه النزعة إلى معاناة الموالي من الازدراء والظلم في العهد الأموي فلّما آل الأمر إلى العباسيين بمساعدة أهل فارس علت أصوات المولّدين من شعراء وأدباء ومفكرين وساسة ممّن ينتمون إلى أصول غير عربيّة يطالبون بالمساواة بين مختلف الأجناس والأعراق المنضوية تحت راية الإسلام. وقد تكون هذه المطالبات ذهبت سدى ولم تجد آذانًا صاغية من السّلطة، فتطوّر الأمر إلى حملة منظّمة تجسمت في شكل دعوة هدفها تفضيل غير العرب المنحدرين من شعوب أخرى كالفرس والروم على أبناء الوطن. وهذه الشعوبية لم تكن محدّدة المعالم لها شعائر واضحة السّمات بل كانت تختفي تحت قناع التقية لمحاربة أرستقراطية العرب، بل إن هناك مَنْ أرجع ثورة أبي نواس على المقدّمة الطّلليّة إلى الدافع الشعوبي، مستدلا بأمثلة من شعره ومنها قوله[2]: (البسيط)
عَاجَ الشقي على رَسْمٍ يُسَائِلـــُهُ * وعجــت أسْأَل عَنْ خمارة البَلَدِ
لا يرقئ الله عَيْنَيْ مَنْ بَكَى حَجَرًا * ولا شفى وَجْدَ مَنْ يَصْبــُو إلى وتد
قالُوا ذكرت ديار الحَيّ مِنْ أســَدٍ * لاَ دَرّ دَرُك قُـلْ لِي مَنْ بنو أســـد
ومَنْ تميمٌ و مَنْ قَيْسٌ و لفّهُــمُ * ليْسَ الأعـاريب عند اللّه من أحد
فهذه النصوص قد تحمل طابعا شعوبيا كما رأى ذلك الناقد مصطفي الشكعة[3]، إذ يرجح أنّ أبا نواس قد جعل من شعوبيته مذهبًا « للتعريض بكل واقف على رسم أوباك على دمنة مستهدفا من ذلك النيل من العرب محاولا السخرية بهم والحّطّ من شأنهم » وتفسير هذا القول أنّ دعوة النواسي إلى التجديد في مقدّمة القصيدة لم تصدر منه باعتباره شاغرًا مبدعًا فنّانًا بقدر ما صدرت عنه باعتباره شاعرا شعوبيا دفعه حماسُهُ للقضيّة السياسيّة إلى التحامل على الفن الشعري، ممّا لا شك فيه أنّ هذه الأحكام لا تخلو من مبالغة وتعسف لأن بضعة أبيات لا يمكن اتخاذها دليلا قاطعا يُدين الشاعر ويثبت عليه هذه التهمة لأنّ الشعر يبقى دائما خاضعا للتأويل والقراءات المتعدّدة وقد كان الدكتور طه حسين[4] أقل حدّة في تحليله وتقييمه لِمَذْهب أبي نواس الشعري فهو يربط بين مظاهر التجديد فيه وبين عناصر الصّدق الفني، فيرى أنّ الشاعر أراد أن يتخذ في الشعر مذهبا جديدًا وهو التوفيق بين الشعر والحياة الحاضرة بحيث يكون الشعر مرآة صافية تنعكس فيها الحياة غير أن طه حسين يعود فيصنف مذهب الشاعر قائلا « ليس مذهبا شعريّا فَحسْبُ إنما هو مذهب سياسي أيضا يذمُّ القديم لا لأنه قديمٌ ، بل لأنه قديم ولأنّه عربي ويمدح الحديث لا لأنّه حديث، بل لأنّه حديث ولأنّه فارسي، فهو إذن مذهب تفضيل الفُرس على العرب مذهب الشعوبيّة المشهور»[5]. أما المدافعون عن أبي نواس فيعتبرون أنّ دافعه للتجديد لم يكن سياسيا شعوبيا بل كان ضرورة فنيّة ملحّة لمواكبة التطور في الحياة في العصر العباسي، فهو وإن ذكر في شعره كسرى وحضارة الفرس فليس من باب المفاخرة بين حضارة العرب والفرس وإنما للموازنة بين حضارة فرضت نفسها على العقل العربي وبين ماضي العرب. أما الدكتور شوقي ضيف[6] فيرى في مذهب أبي نواس شعوبيّة لكنها ليس كشعوبية بشار بل هي «من لون آخر، ذلك أنّه لا يوازن بين خشونة البدو وحضارة الفرس كما يصنع بشار وغيره من الشعوبيّين الحقيقيين، وإنما يوازن بين تلك الخشونة وبين الحضارة العبّاسيّة المادّية وما يجري فيها من خمر ومجون كان يعكف عليها عكوفا» ويأخذ ذلك عنده شكل ثورة جامحة على الوُقوف المُتكرّر والحزين بالرّسوم والأطلال وبكاء الدّيار ودعوة حارّة إلى المتاع بالخمرة.
والملاحظ أنّ موقف شوقي ضيف لا يخلو من الإنصاف لأنّه حاول أن يخرج أبا نواس من دائرة الشعوبيّة العنصريّة الممقوتة ولو بصفة جزئيّة.
4- تجليات الثورة على الاستهلال الطّلليّ :
– لابّد من الإشارة إلى أنّ الوقفة الطّلليّة في القصيدة العربية القديمة قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بالبيئة الصحراوية وبتفاصيل الحياة القبليّة، وقد تعدّدت أشكالها وتنوّعت صورها. ويعتبر أبو نواس من أكثر الشعراء عداءً للمقطع الطّلليّ، وهو صاحب الدعوة الصريحة إلى نبذ حياة البداوة والتخلصّ من كل عاداتها وتقاليدها، ومن الأمثلة على ذلك سخريته من الوقوف على الطلل وبكاء الرّبوع ووصف آثار الرياح بها يقول في ذلك: (الوافر)
دَعِ الأطْلاَلَ تسفيها الجنوب وتبلي عَهْدَ جدّتِهَا الخُطوب[7]
كما لم يترددّ في السّخرية من الدّعاء بالسّقيا ونزول المطر على بقايا ديار الحبيبة يقول في ذلك: (البسيط)
سَقْيًا لِغَيْرِ العَلْيَاءِ و السّـنَد * وَغَيْرِ أطْلاَلِ مَيّ بالجرد
وَيَا صبيب السّحَابِ إن كُنْت قَدْ * جُدَتَ اللوى فَلاَ تَعــُدِ
لاَ تسقيا بَلْدَةً إذَا عُدَت البُــ * لْدَانُ كَانَتْ زيادة الكَبِـد[8]
أما تهكمه الذي لا يُوصَفُ فكان مِنَ لحظة البُكَاءِ على الطّلل، إذ يقول سَاخِرًا: (المنسرح)
– لا تبك رَسْمًا بجانب السّند * و لاَ تجُدْ بالدُمُوع للجرد[9]
وبِمَا أنّ النّاقة هي سفينة الصّحراء والوسيلة التي بها يقاوم العربي العدم والفناء في الفيافي المقفرة فإنّ أبا نواس لم يُخْفِ ازدراءه لها ويبدو ذلك في قوله: (الوافر)
وخَلّ لراكِب الوَجْنَاءِ أرْضًا * تخبُّ بها النجيبة والنجيب[10]
أمّا نباتها فهو الآخر مذموم لا خيْرَ فيه ويتضِحُ ذلك مِنْ خِلال البيت الشعري الموالي :
بِلاَدٌ نَبْتُها عُشْرٌ و طَلْحٌ * وأكْثرُ صَيْدِهَا ضَبْعٌ و ذِيبٌ[11]
وبما أن المشهد الطّلليّ هو مناسبة يتذكر فيها الشاعر العربي حبيبته ويسترجع ذكرياته الجميلة وزمان الوصل ذاكِرًا اسْمَ المرأة، فإنّ الشاعر لا يُخْفِي استخفافه بتلك اللحظة، إذ يثُورُ على الطّلل وعلى مَنْ كان مقيمًا به وذلك واضح في قوله[12] (الطويل)
دَعِ الرّبْعَ مَا للرّبْع فيكَ نصيبُ * و ما إن سبتني زينب و كَعوب
أو قوله[13]: (البسيط)
لا تبك لَيْلَى و لاَ تَطْربْ إلى هِنْدِ * و اشْرَبْ على الورْدِ من حَمْراء كالورد
كما كان أبو نواس يتبرم من نزعة التّطيّر والتشاؤم التي كانت سائدة في الأوساط القبليّة والراسخة في الضمير الجمعي، ودليلها غراب البينَ الذي اتفق كَلُّ الشعراء والخطباء على لعْنِه وإبراز ما يترتب عن ظهوره وعن صوته من مصائب وأحزان يقول في ذلك[14]: (المنسرح)
إنْ أتَحرَّزْ من الغُرابِ بِهَا * يَكُنْ مَفَرِّي مِنْهُ إلى الصُّرَدِ
أو قوله في قصيدة أخرى[15]: (السريع)
والْعَنْ غَرابَ البَيْن بُغْضًا له * فإنّهُ دَاعيةُ الشُؤْمِ
أما النّصيبُ الأوْفَرُ من ثورة الشاعر فقد صَبّهُ على المنظومة القبليّة التي تُمَجّدُ الوقوف على الطّلل ويعتبر الواقف على آثار الدّيار شقيًّا منكودًا لا حظّ له يقول في ذلك:(البسيط)
عَاجَ الشقي على رَسْمٍ سائلـه * وعجـــــــــــــبُ أسْأل عن خمارة البَلَدِ
يبكي على طلل الماضين من أسد * لا دَرَّ دَرّك قل لي من بنو أسد؟
ومَنْ تميم و مَنْ قيس ولفّهـما؟ * ليس الأعاريب عند الله مِنْ أحَدِ[16]
– و من العلامات الحَاضِرَةِ دائما داخل المقدمة الشعرية عند أبي نواس سخريته اللاذّعة. وهي ركن قارٌ في مضمون شعره وبنيته على السواء وقد استخدم الشاعر السخرية باعتبارها معبّرة عن موقف فكري وثقافي وحضاري يقول في ذلك: (الكامل)
اعدل عَن الطّلل المحيل وعَنْ هَوَى * نعْتِ الدِيارِ و وصْفِ قَدْحِ الأزند
ودعِ ٱلْعَرِيبَ وَخَلّهَا مَعَ بُؤْسِهـَا * لِمُحَارِفٍ ألِفَ الشقَاء مـزند[17]
– لقد حاول الشاعر أن يجعل نَصَّهُ منسَجمًا مَعَ مقتضيات الزّمان والمكان، ولاَ يتحقق ذلك إلاّ بالتمرّد على النواميس الشعرية والثقافية القديمة وقد بلغت النزعة التجديدية مبلغا جعلت أبا نواس يرْفضُ الاستماع إلى الشعراء الذين يصفون الأطلال والمنازل الخالية، وهو يتعمّد هجاء القبيلة العربية والاستخفاف بنظمها : يقول في ذلك :(البسيط)
مَا شئت مِنْ بَلَدٍ دان منازهه * لكنَّ فيه قُبيلاتٍ وأفْخَاذًا[18]
وهو يعبّرُ صراحة عن استغرابه من هذا التناقض الذي يتخبط فيه العرب. فهم ينفتحون على مظاهر حياة البذخ والرفاه والاستقرار والتقاليد الفارسية الموغلة في الدّعة والتأنق في جميع المَجَالاَتِ من جهة، ويفتخرون بأنْسَابهم القبليّة ويحافظون على العصبيّة الدمّوية التي تعود إلى العصر الجاهلي من جهة أخرى، وهَذَا مَا أثار حَفيظَتَهُ، فَتمرّد على هذه النزعة العرقيّة العنصرية خصوصا وأنّه من الموالي الذين فرض عليهم الانتساب إلى قبيلة عربية للاحتماء بها والتخلّي عن هويتيه الأولى وقبول هوية ونَسَب جَدِيدَيْنِ. وهذا ما يبرّر تردّد الشاعر بين عدّة أنساب قبليّة عربيّة، مثل الانتساب لقبائل نزاريّة مرّة ويمنية أخرى. فهو ينظر إلى هذا السّلوك نظرة استهزاء تجعله يُمّعنُ في إهانة كل ما هو عربي قبلي قديم، ومن ذلك قوله[19]: (الوافر)
ذَرِ الألبانَ يشربها رِجَالٌ * رَقيقُ العَيْش عندهم خَصيبُ
إذا راب الحليبُ فبلْ عليه * ولا تحرُجْ فَمَا في ذَاك حُوبُ
والملاحظ أنّ الشاعر ينتقي أساليبَهُ في الدّعوة إلى التمرّد على القوالب الشّعرية القديمة فهو يكثر من أساليب الإنْشاء الطّلبي مثل : الأمر و النهي من قبل [ لا تَبْكِ ، خَلّ ، عَدِّ ، دَعْ … ] والملاحظ أنّ هذا الأسلوب لا يَخْلُ منْ نزعة خطابية مُوجّهة إلى الآخر ردّا على نزعة القدماء في مخاطبتهم للصّديق مُفْرَدًا أو مثنّى في فواتح قصائدهم على غرار امرئ القيس الكندي وغيره من شعراء المعلقات، وإذا كان امرئ القيس هو سيد القدامى في وصف الطّلل فإنّ أبا نواس هو سيد المحدثين في وصف الخمرة، لذلك يرى رؤية سلفه عقيمة عديمة الجدوى متحجّرةً، لأنّ الفن الشّعري الحقيقي هو الذّي يَعْنِي بالحياة و يتفنّن في الحديث عن ملذّاتها وفي مقدّمتهَا الخّمر ويساير عصرهُ. فالنواسي إذن رأى الحياة في ذاته لا في الآخر، ورأى الذات في المتعة. ورأى المتعة في الكأس. لذلك كان يقارع كل مناوئ لفلسفته، وهو وإن نادم الوجهاء والخلفاء فقد كان يصاحبهم بما يحقق له مصلحته. وكان الخمر العنصر الجامع في علاقاته بالآخرين، فهو يحبّ مَنْ يجود عليه بالرّاح ويبغض من يحرمه منها ويهجوه أو يزرى عليه شربها وهو لا يخفي ميله للفرس وتفضيله لهم، وذلك من منطلق شعوبي عرقي وكذلك لإجلالهم للخمرة وتعظيمهم لها يقول في هذا السياق[20]. (الكامل):
ولِفارسِ الأحْرَارِ أَنْفَسُ أنْفُـسٍ * وفًخَارُهم في عِشِرَةٍ معدُومُ
وإذا أنادِمُ عصبَةً عَرَبيَّـةً * بَدَرَتْ إلى ذِكر الفَخَار تَمِيمُ
وعَدَتْ إلى قَيْسٍ وَ عدَّتْ قَوْسَهَا * سُبيتْ تميمُ و جَمْعُهُمْ مَهْزُومُ
ولا يخْفَى على أحَدٍ مَنسُوب السّخرية الكبير الذي يُبدِيه الشاعر من العَرب السكارى الذين يجعَلُونَ مِنْ سُكرهم مناسَبةً للافتخَارِ بأصولهم وأحسَابِهم وقبائلهم، ويتضحُ تهجُّم الرّجلِ وتهكّمه من خلال فعل «سُبِيتْ». فكأنّ العربي لا يَفْخَرُ إلاَّ إذا كان فاقدًا للوعي عكس الفارسي الذي لا يفقد اعتدادَهُ بنفسه وبتاريخه وحضارته مهما كانت المواقف والظروفُ. ومن ثمّة، فالشاعر يعتبر الخّمْر عاملا من عوامل الإبداع والإلهام، فالشعر ابن الخمرة التي تروي القلب والعقل، في حين يُعدُّ الطّلل ابن الصحاري والفيافي. إنها جدليّة البقاء والفناء، من خلال الصراع بين القديم والجديد.
5- إحلال المقدّمة الخمرية محلّ المقدمة الطّلليّة :
أنجز أبو نواس عُدُولاً كبيرا من خلال ثورته على الاستهلال الطّلليّ، فَانحاز بالنص الشعري إلى المقدمة الخمريّة بما فيها من عناصر الحياة الحديثة، يبدو ذلك في قوله: (المنسرح)
لا تبك رَبْعًا عَفَا بذي سَلَم * وَبزّ آثارَهُ يَدُ القــــــــــــــــــــــــــــِدم
وعُجْ بِنَا نجتلي مُخـــــــــــــدّرَةً * نسيحُهَا ريحْ عَنْبرٍ ضَرِمُ[21]
إنّهُ يناشِدُ الشاعِرَ الباكي على الأطلال إلى أنْ يرافقَهُ للتمتّع بخمرة تعبق منها رائحة طيّبة كرائحة العنبر، ثم يواصل في التغني بالورود والرياحين والزّهور التي تكثر في دساكر بغداد وحدائقها مثل النّرجس والأس محقّرًا للعَرْفج والشّيحِ والقيْصُوم مُبْرزًا تأفّفه من الأعراف الجاهليّة الخرافية مثل التطيّر من الغراب والبُوم فيمّم وجْهَهُ شَطْرَ ألحان للتلذّذ بالخمر ووصف مذاقها و جمال نشوتها، هذا كان دأب النّواسي في معظم أشعارهِ، مُلِحًّا على ضرورة إتباعه والأعراض عن حياة البيْداء والصّحراء متعلقًا بالمدينة ومباهجها : يقول أبو نواس[22]: (السريع)
ابخَلْ على الدّار بتكليم * فَمَا لدَيها رَجْعُ تسّلِيم
والعَنْ غُرابَ البَيْـنِ * بُغْضًا لَهُ فإنّهُ داعِيَة الشُـــــومِ
وَعُجْ إلى النرجَـــسِ عَنْ عرفج * والآسِ عَنْ شيح وقيْـصُومِ
واغْدُ إلى الخمر بآيينــها * لا تَمْتَنِـــــــــــــــــــعْ عَنْهَا لِتحْريــمِ
فَمَنْ عَدَا الخَمْرَ إلى غَيْرِهَا * عَاشَ طَلِيـحًا عَيْنَ مَحْرُومِ
إنّ تأمّل ديوان أبي نواس يجعلنا نسْتنتِجُ بيُسْرٍ كثافة حضور الخمر في مقدّمات القصائد وداخلها إلى درجة أصبح معها هذا الحضور سمةً مميّزةً للقصيدة النواسية، إذ هو يعبّر من خلال ذلك عن التحوّل الكبير الذي عرفه المجتمع والذي انعكس بدوره على النّص الشعري، وهو ما ساعدهُ على نحت تجربة جديدة تنفتح على عالم غير مسبوق هو عالم مجالس الأنس والاحتفال بالخمرة، عكسته مطالع القصائد التي اندثر فيها الطّلل وحلّ محلّهُ الاستهلال الخمري. وإذا كانت الخمرة حاضرة في أشعار الجاهليين على غرار ما نجدهُ في بداية معلقة عمرو بن كلثوم، وموجودة كذلك في أشعار العصر الأموي، فإنها لا تتجاوز بضعة أبيات، وهي متفرقة هنا وهناك، ولا يمكن اعتبارها ظاهرة فنّية شاملة تستهدف تغيير بنية النص الشعري العربي كما نصّ عليها عمود الشعر، فإنّ الإضافة الكبيرة التي قدّمها الحسن بن هانئ هي أنّه «دَعَا بقوّة إلى التجديد في عمود الشعر وجاهز بهذه الدّعوة لأنّه أحسّ أنّ هذا التقليد لم يَعُدْ يلائم الحضارة الجديدة بما جاءت به من ضروب الطرب وألوان الفتنة»[23]، وهذا دليل على أنّ الشاعر قد رصد التحوّلات الحاصلة في صلب المجتمع، واختارها اتجاها شعريا مناسِبًا، وأدوات تعبيرية قادرة على الإفصَاحِ عَمّا يخالج الشاعر وما يعتمل في المجتمع. فالمطلع الخمري لم يكن مجرّد حلية تزيّن بداية النصّ الشعري، بل جعلها أبو نواس تضطلع بمهام جسيمة تصل إلى حدّ الجدل الكلامي فهو يستخدم صورة الخمر والإغراق في وصفها للرّد على المعتزلة وتحديدًا على زعيمهم إبراهيم بن سيّار النّظام وهو من كبار المتكلمين الذي لامه على شرب الخمر، فأجابه الشاعر إجابة ترتقي إلى درجة التعليل الفلسفي والحجّة الكلاميّة، وهذا يعكس تفردًا وطرافة يقول في ذلك[24] : (البسيط)
لتلك أبكي و لا أبكي لمنزلة * كانت تحل بها هند و أســــــــــماءُ
حاشا لدرة أن تبني الخيام لها * وأن تروح عليها الإبـــل و الشّاءُ
فقُلْ لِمَنْ يدّعي في العلم فلسفة * حفظت شيئًا و غابت عند أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأ حَرجًا * فإنّ حظركه في الديـن إزراءُ
وهذا يتطابق مع رأي ابن المعتز[25] في أبي نواس حين قال عنه إنّه «كَانَ عَالِمًا فَقِيهًا، عَارفًا بالأحكام والفتيا بصيرًا بالاختلاف، صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرفُ ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه» ويواصل تأكيد موقفه في قصيدة أخرى قائلا[26] : (الطويل)
بَكيْتُ و ما أبكي عَلَى دِمَنٍ قَفْر * و مَا بي مِنْ عشق فأبكي على الهجْر
و لكن حديث جاءَنَا عن نبينا * فذاك الذي أجْرى دموعي على النحر
بتحْريم شُرْب الخمْرِ و النهي جَاءَنَا * فَلَمَّا نَهَى عَنْهَا بكيتُ على الخمر
ويختم الشاعر استخفافه بالفقهاء والمتكلمين في هذين البيتين اللذين يعبّران عن نزعة التحدّي وتمجيد الحرية: (المتقارب)
فَخُذْهَا إنٍ أرَدْتَ لَذيذَ عَيْشٍ * ولا تعدل خليلي بالمُدَامِ
وإنْ قالُوا حَرَام؟ قُلْ حَرَامٌ! * ولَكِنْ اللذاذة في الحَرَامِ[27]
وإذا كانت المرأة في المقدّمة الطّلليّة مرتبطة بمعاني الرحيل والبين والهَجْر التي تؤدّي إلى الحزن والبكاء، فإنها في الاستهلال الخمري عنصر سعادة وفرحٍ واحتفال لأنّ التقرب إليها يكون بكأس من الخمر يقول في ذلك[28]: (البسيط)
إنّي هَويتُ حبيبًا لسْتُ أَذْكُرُهُ * إلاّ تبادر مَاءُ العيْنِ ينسكِبُ
يا ليتَنِي القس أو مطران بيْعتهِ * أوليْتَنِي عنْدَهُ الانجيلُ و الكُتــــُبُ
أوليْتَنِي كُنْتُ قرْبَانًا يقرّبُـهُ * أو كأسَ خَمْرَتِهِ أوْليْتَنِي الحـبب
لقد أصبحت الخمرة في الاستهلال الشعري مناسبة للتعبير عن مشاعر الحب ومجالا للتأمل ومناسبة لفهم الذات والسعي إلى تحقيق التحرر من قيود الزمان والمكان، وبهذا تكون الخمرة أداة لتحقيق الخلاص ومقاومة القلق الوجودي باعتبار أن الزمن هو العدو الحقيقي للإنسان.
6- مهادنة أبي نواس للمشهد الطّلليّ:
أعلن النواسي حربًا على الطّلل ولم يدّخر أي جهد في السخرية منه ومن أهله ووصمه بأسوأ الصفات، ولكنّه كان مضطرّا في كثير من الأحيان إلى مهادنته وإبرام صلح ظرفي مع هذه السنة الشعرية لأنّ الرجل لا يعوزه الذكاء، وقد تفطّن إلى أن الالتزام بهذا الركن رمز من رموز الحضارة العربية وما يتعلق بها من العصبيّة القبليّة والإعلاء من قيم البداوة والحماسة والبطولة وقيم الكرم والغباء وغيرها، وقد كان مدركا بأنّ الخلفاء يتمسكون بهذه المقدّمة ويعظمون قدرها، ولا سيّما إذا تعلق الأمر بالرشيد، لأنّ التمسّك بهذه العناصر يخدم مصالحهم ويحقق الاستقرار لدولهم ويوطّد حكمهم، ويبدو كذلك أنّ خلفاء بني العباس لم يكونوا راضين كثيرا عن تغلغل العنصر الفارسي في مفاصل الدولة ولكنهم كانوا مضطّرين إلى التحالف معه في مرحلة أولى، ثمّ يتخلصون منه بعد إخضاع الثورات. ولنا في مثل أبي مسلم الخراساني والبرامكة أحسن دليل على ذلك. لذا فإنّ الشاعر عليه أن يمدح أولياء نعْمته مثل الرشيد والأمين، وأن يلتزم بالوقفة الطّلليّة في مدحيّاته، وإذ كان ذلك من باب ” التقية الشعرية ” ذلك أن إتّباع منهج القدماء في الأدب والشعر قد اصطبغ بصبغة أرستقراطيّة سياسيّة هدفها دعم الذوق الرسمي وتكريس المصالحة بين الشعراء والخلفاء. وهكذا نجدُ أبا نواس يبدأ مدحه للرشيد العباسي بمقدّمة تقليدية قصيرة يذكر فيها الأطلال وكأنّه إغواء للخليفة، وكان يتخيّرُ ألفاظهُ بكل حذر فقد رُوي عن عيسى بن عبد العزيز بن سهل الحارثي أنّ «الرشيد كان لا يسمع من الشعر ما فيه رفث أو هزل، وكان لا يُذكَرُ في تشبيب مدحه قبلة ولا غمزة»[29].
– يقول أبو نواس في مدح الرشيد (الطويل)
– لقد طال في رسم الديار بكائي * وقد طال تردادي بها و عنائي[30]
– فمّا بَدَا لِي اليأسُ عَدَّيْت ناقتي * عن الدار و استولى عليَّ عزائي
– إلى بيت حان لا تهرّ كلابُــــــهُ * عليّ و لا ينكرون طُول ثوائي
ويبدو أن الرشيد قد ساءَهُ ذكر الحان والخمر في هذه المِدْحَةِ وتفطّن المادِحُ للأمّر فاندفَع قائلاً[31]:
– تباركَ مَنْ سَاسَ الأمُورَ بعلمه * وفَضَّلَ هارُونًا على الخلفاء
إنّ هذا الرّضوخ لا يعني أنّ أبا نواس قد تراجع عن مواقفه، ولكنّه مضطر إلى مجَارَاة التيار حفاظا على علاقاته وضمانا لمودّة أولياء نعمته، ذلك أنّ مدح السّاسة ليس كمدح غيرهم في عصر عُدَّ فيه المدح مِنْ أشهر الأغراض، بل «لقد صار في ذلك العصر أكثر استعاضة منهُ في أي زمن مضى وكان من التقاليد المتبعة في قصيدة المدح وقوف الشاعر في مستهلها على الأطلال وتذكر الأيام الخوالي»[32].
قد يبرّر لنا هذا ما يمكن أن نجدهُ في ديوان أبي نواس من قبول للوقوف على الأطلال أحيانا، لكنّه قبول فرضته الضرورة وأدبيات التعامل مع الملوك لا غير، فهو يذكر ذلك صراحة مشيرًا إلى أنّ الخليفة طلب منه أن يحترم المشهد الطّلليّ، وأن يتجنّب ذكر الخمر وها هو يلبّي الطلب مرغما معبرًا عن ذلك بما يلي[33]: (الطويل)
أعِرْ شِعْرَك الأطْلاَلَ و الدمن القَفْرَا * فقد طال مَا أزْرَى بِهِ نعتك ٱلْخَمْرَا
دَعَانِي إلى نَعْتِ الطلول مسلطٍ * تضيق ذراعي أَنْ أجُوزَ لَهُ أَمْـرَا
فسمعا أمير المؤمنين و طاعة * وَإنْ كُنْتَ قَدْ جشمتني مَرْكَبًا وَعــْرَا
ولكنّ رضوخ الشاعر للمشهد الطّلليّ ما هو إلا تنازل ظرفي سرعان ما يتجاوزه للعودة إلى ما كان عليه من ثورة ورفض للنواميس القديمة. لقد وجد أبا نواس نفسه أمام واقع جديد واقتنع أنّ مثل هذه القوالب المتكلسة الجامدة لا يمكن أن تستوعب تجربته الشعرية فعبّر عن ذلك بسخرية مريرة قائلا[34]: (الرمل)
– قُلْ لمَنْ يبكي على رَسْمٍ دَرَسْ * واقِفًا ما ضَرَّ لَوْ كَانَ جَلَسْ
– أترك الربع و سلمى جَانِبًا * واصْطَبِحْ كرخية مثل القـبسْ
والطريف في لغة أبي نواس التي وظفها في ثورته ضدّ الطلل أنّها لغة واضحة الألفاظ بعيدة عن التكلف والتعقيد، بل لنقل إنّها تقتربُ كثيرًا من اللغة اليوميّة، إضافة إلى رقّة الأوزان ويبدو ذلك في قوله[35]: (مجزوء الرمل)
– غرّد الديك الصدّوح * فاسْقِنِي طاب الصبوحُ
– واسْقِني حَتّي ترَانِي * حَسنًا عنّــــــــــدِى القبيحُ
– قَهْوَةً تذكِرُ نوحًــــــــــــــا * حينَ شَادَ الــــفلْكَ نُوحً
– نَحْنُ نُخْفيهَا و يأبي * طِيبُ رِيحٍ فَتــــــــــَفُوحُ
7- نتائج ثورة أبي نواس على الأطلال:
كان من نتائج هذه الثورة أن ظهر غرض شعري جديد أثرى به الحسن بن هانئ المدوّنة الشعريّة العربيّة ألا وهو غرض الخمريّات باِعتباره شعرا منذورًا لوصف الخمرة وذكر أوانيها وأثرها في نفوس شاريها. فهي خمرة مثيرة مشرقة تضيء حيثما وجدت في البيت أو في الحانوت، وهي بأضوائها وإشعاعها كعين الديك تارة وكالورد تارة أخرى، وحين تختلط بالماء تفور وتَعْلُو فقاقيعها كحبّات الدّر. وصوّر الشاعِرُ مجلس الأنس وكل ما يتعلق به من شَرْبٍ ونادل وسَاقٍ أو ساقية في أسلوب شعري يبرز نزعة التجديد والطرافة من آن واحد. يقول طه حسين في ذلك: “إن أبا نواس في شعره الخمري كان يرمي إلى غرضين أحدهما الاعتراف بالجديد في الأدب والآخر الاعتراف بالجديد في الحياة”[36].
وهكذا يتبين لنا أنّ بنية النص الشعري عرفت تحولا هاما في القرن الثاني للهجرة مع أبي نواس، فصورة الخمرة عنده تختلف عن صورتها لدى غيره من الشعراء القدامى. ومرد ذلك اختلاف المشارب والرؤى والمرجعيات، فهو قد شق طريقا جديدا وقطع مع بعض السنن المتوارثة من منطلق أنّ الحياة العربية القديمة لم تعد صالحة لعصره فتبنى قيما جديدة مصدرها الحياة الفارسية وليست العربية. لذلك كانت سلطة التحول والرغبة في التحديد مرتبطة بأبعاد تاريخية وتحولات اجتماعية وثقافية. فأبو نواس سعى إلى إكساب القصيدة العباسية هوية جديدة مختلفة عن السائد والمألوف حتى لا تفقد بريقها ولا تكون في قطيعة مع عصرها. وفي هذا السياق يرى الدكتور محمد مندور[37] أن تجديد أبي نواس كان مسايرة ومحاذاة للنهج القديم، وأنّ كل ما فعله هو استبداله لديباجة شعرية تمجد الطلل بأخرى تتغنى بالخمرة. أما الدكتور هدارة فيرجع هذه الثورة “إلى التطور الكبير الذي حدث في مفهوم الشعر في القرن الثاني للهجرة إذا كان الشعراء يستغلون بداية قصائدهم للتعبير الحرّ عن أنفسهم ومشاعرهم ونوازع حياتهم”[38].
وهكذا يبدو أبو نواس متجاوزا للتقليد ورموزه الموروثة القديمة من طلل وناقة وصحراء وكلّ ما يتصل بها، ساخرا من البداوة والحياة البدوية، رافضا هذا النمط من الحياة، ومعرضا عما قيل في وصفه من شعر، داعيا إلى استبداله بعوالم أخرى متناغمة مع روح العصر. وهذا يستوجب طريقة تعبير جديدة. فالرجل لا يرث بل يؤسّس. ولا يكمل ما بدأه أسلافه بل يبدأ. إنه يرفض العودة إلى البدايات الأولى والأصول، ويجد الأصل في ذاته وحياته الخاصة وتجربته الفردية. فهو يتجذر في اللغة وأصواتها والذات وهمومها لا في الناطقين بها وموروثهم. لهذا، فهو لا يحتذي بهم ولا يكرر كلامهم ولا يتبع خطواتهم، وإنما يفتتح طريقا أخرى يشقها وسط زحام الشعر، إنه يشكل من تجربته صورة طريفة ومتفرّدة للعالم والحياة. لقد أراد بهجومه على منظومة القيم العربية تحطيم النموذج الذي كرسه عمود الشعر، والذي تجسد في مدونة ضخمة لازالت منذ الجاهلية فالعصر الإسلامي فالأموي فالعباسي تكرر نفس النص الشّعري تقريبا. إنّ الاِستهلال الخمري عند أبي نواس كان مجالا للتجديد والإبداع وفضاء للتعبّد والتبتل ونحت الكيان وتحقيق الذات والتحرّر من قيود العادات والتقاليد الموروثة والزمان والمكان والدين، وهي كذلك سلاح مواجهة القلق الوجودي والصّمود في وجه الزمن. إن ما أنجزه الحسن بن هانئ يرقى إلى درجة الثورة الشعرية، وهي ثورة لم تكن عفوية بل خطط لها الرجل ونوى المضي فيها إلى النهاية، لأنه يمتلك وعيا بضرورة إحلال المحدث محل القديم. فكان له السبق في ابتكار مقدمات شعرية جديدة وصفات وصور ومشاهد لم يألفها الناس من قبل، ألهمته إيّاها ثقافة عصره وبيئته الحضارية.
والرأي عندنا أنّ الضجة التي أثارها أبو نواس ليست بسبب مجونه وتهتكه وخلاعته، بل كانت حول المقدمات الطّلليّة التي حطّمها، وحول الفنون الشعرية التي ابتكرها. لقد رأى أنه لا وجود لأيّة قواعد شعرية ملزمة وثابتة تفرض عليه اتباعها. فكان حرّا في اختيار المقدمة التي يرتضيها لشعره سواء كانت خمرية أو غزلية أو غيرها، بل هو حرّ في الولوج إلى غرضه الشعري دون مقدمات وهو ما فعله في الكثير من نصوصه، حيث كان يهجم على الموضوع هجوما ودون تمهيد أو مقدمات، وحتى في المواقف التي كان يخضع فيها إلى نواميس المشهد الطّلليّ فقد كان يفعل ذلك مجاملة ورغبة في التقرب من ممدوحين يشدّهم حنين إلى الأطلال لنيل جوائزهم واتقاء سخطهم، ولكنه رغم ذلك كان لا يخفي تبرمه من هذا العبء الثقيل وفي كثير من الأحيان لم يكن يلزم نفسه بطاعة الخلفاء، يقول في إحدى قصائده معبرا عن هذا المعنى[39]: (الطويل)
فسمعًا أمير المؤمنين وطاعة * وإن كنت قد جشمتني مركبا وعرا
وحتى عندما يذكر الأطلال فإنه مخالف للأولين، فما إن يذكر الديار الدارسة حتى يعوج بناقته إلى بيت الحان حيث لا تهرّ الكلاب ولا تنكر عليه طول الثواء والبقاء، وهذا دليل على أنه كان ينظم قصائده بحرية مطلقة ويختار لها من الاستقلال ما يشاء أو يجعلها بتراء لا مقدمة لها دون خشية من سلطان. فإذكار ثورة أبي نواس أو التقليل من شأنها حكم فيه الكثير من التجني والوهم. فهو قد خرج عن نظام النّظمِ التقليدي وظل محافظًا على منهجه حتى النهاية، وليس كما قال الناقد محمد مهدي البصير الذي يقول “لم يكن أبو نواس في يوم من الأيام مجدّدا وإنما كان مقلدا ماهرًا” وهذا رأي مردود على قائله[40].
8- الخاتمة:
تتبّعنا مراحل ثورة أبي نواس على المطلع الطّلليّ ودوافعه إلى ذلك، وحاولنا بيان المعاني التي كان الشاعر يرفضها وينفر منها، هدفنا هو الكشف عن مقاصده ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وقد أدَت بنا دراستنا إلى جملة من النتائج أهمها رغبة أبي نواس وتصميمهُ وإلحاحه على إحلال المقدّمة الخمرية مكان الاستهلال الطّلليّ، والسخرية من طبيعة الحياة العربية البدوية الصحراوية بكل مكوناتها وتفاصيلها، زد على ذلك ميله الواضح للإعلاء من شأن الفرس وحضارتهم ونمط حياتهم وما يكنّونهُ للخمرة مِنْ حبّ يصل إلى درجة التقديس. لذلك أضحت الخمرة رمزا من رموز التجديد، وركنا قارّا في بنية النصّ الشعرى النواسي الذي عرف تحولات عميقة على مستوى الشكل والمضمون، والمسألة لا تتعلّق بعدد معيّن من القصائد بل تكاد تكون سمة طاغية على مجمل المنجز الشعري النواسي. فهو عندما يتحدّث عن الحياة العربية وعن المقدّمة الطّلليّة ينطلق في حديثه من منظومة ثقافيّة متكاملة تتشكّل عناصرها الأساسيّة من انتماء الرجل واستفادته من معين حضارتين وثقافتين، إضافة إلى خصوصية نشأته وعلاقاته ومواقفه التي تشكلت في محيط اجتماعي يتسم بالتّسامُح وحياة البذخ والرفاه. لذلك فنحن لا نستغربُ طرافة صورة الخمرة في شعره التي تختلف اختلافا كليّا عن صورتها لدى بقيّة الشعراء العرب. ومردّ ذلك اختلاف الرؤى والمرجعيات الحضارية والفكرية بينه وبينهم. لقد أقام الشاعر ما يُشبه المقارنة الضمنيّة بين زمنه وبين زمن الشعراء القدامى الذين يمجدون الوقفة الطّلليّة ويقدسونها. وانتهى إلى خلاصة مفادها أنّ الحياة العربية القديمة لم تعد صالحة لعصره، مُقرًا في الآن ذاته بقيم جديدة مختلفة تماما عن حياة الصحراء مشيرا إلى أنّها ثمرة تراكمات معرفية مصدرها الحياة الفارسية وليس الثقافة العربية. لذلك كانت رغبة التجديد عنده مرتبطة بأبعاد تاريخية وتحولات اجتماعية وثقافية. لقد سعى زعيم المولّدين إلى منح القصيدة العربية هويّة خاصة بعيدًا عن القوالب الجاهزة والموروثة والنمطيّة السائدة حتى لا تفقد بريقها وجاذبيتها وفعاليتها وأكتسبها فعالية وقدرة على التجدد والاختلاف تماشيا مع الواقع المتغير.
– إنّ الاِستهلال الخمري في المنجز الشعري النواسي جاء لسدّ حاجة إبداعيّة لدى الشّاعر، وليكون عنصر إلهام لتفتيق قريحته الشعريّة الخصبة، ومن ثمّة تحويلها إلى قناع فني يوظفه إلى ما يريد من تجديد واِنخراط في نسق التطوّر. فهو يعلن من خلالها اِنطلاق تجربة شعريّة كان الخمر أحد سماتها المميّزة. وليس المقصود بالتجربة الشعرية أن يتحول النص إلى مرآة تعكس سلوك صاحبها وتنقله كما يحدث في الواقع، بل أن يكون (النّصّ) فسحة للإنشاء الفني وطرح بدائل فيها من الجدية والطرافة الكثير. وهو ما جعله يدين الشعراء المقلدين صراحة، وحتى شعراء البلاط العباسي الذين قال فيهم ابن قتيبة “لا بصر لهم باِمتداح خلفائنا”[41]. فلقد أراد من خلال هذه العبارة اِستمالة رجال السّلطة وعطف قلوبهم على مذهبه الشعري ملمّحًا إلى أنّ هؤلاء لا يعرفون رغبات الخلفاء ولا ينسجمون مع مقتضيات تلك اللحظة ولا يميّزون بين زمن “المدر الحجر والشتاء والوبر وبين زمن الحضارة والرفاه والاستقرار[42]” والتأنّق وهو زمن يتطلّب حداثة شعريّة. وبما أنّ أنصار القديم والتّقليد كانت لهم سطوة كبيرة وشأن وسلطة وخصوصًا النقاد والعلماء والرواة وأهل اللغة، فهم لا يتردّدون في التعصب للقديم والمجاهرة بالعداء لكل ما هو جديد، وهو ما جعل ابن قتيبة يسخر منهم قائلا:
” كانوا يستجيدون الشعر السخيف لتقدم قائله ويرذلون الشعر الرصين لكونه محدثا”[43] ولكن رغم ذلك دبّ التجديد وبدأ ينشر و كسب أنصارا ومريدين وهو ما جعل أبا نواس يمعنُ في السخرية منهم قائلا[44] :
– هَذَا زمان القرود فاخْضَع * وَكَنْ لها سَامِعًا مُطيعَا
لقد بنيت نزعة أبي نواس الشعريّة على الرّفض والثورة، وقد كان لها تأثيرا ملحوظًا على الشعر العباسي ككل، ولم يزل هذا النزاع بينه وبين مناوئيه يشتدُ حينا ويخفت حينا آخر إلى درجة تحوّل معها إلى طاقة تحرّك الأدب عموما والشّعر خصوصا نحو الاختلاف عن السائد ونحو التجديد والتطوّر والإشعاع.
– لقد كان لظهور الشعراء المولدين وانتشارهم وكثرة أشعارهم ولا سيما في العصر العباسي قوّة دافعة لحركة التجديد، ساعدهم في ذلك كثرة الدوافع والمؤثرات الاجتماعية مثل نفوذ البرامكة وانتشار العادات والتقاليد المرتبطة بالثقافة الفارسية، وهو ما يساهم في تكوين تيّار شعري مناهض لشعر الجاهلية ومناوئ للبداوة جسّمه أبو نواس خير تجسيم من خلال احتفائه بالمقدّمات الخمريّة في بدايات قصائده على حساب المقدّمات الطّلليّة التي بدأت جذوتها في الانطفاء والأفول شيئا فشيئا، فحداثة الحياة تستوجب ضرورة واقتضاءً حداثة في الشعر، كان أبو نواس علمها في القرن الثاني للهجرة.على أنّ الكلام على زعامة أبي نواس لهذه الحداثة الشعريّة لا تعني ريادته، ذلك أنّ بذور الحداثة قد ظهرت منذ القرن الأوّل مع شعراء عديدين[45] وربّما كان لتجديده في ذلك الزمن علاقة بالتجديد في الأزمنة اللاحقة مثلما حدث في الأندلس من ظهور للموشحات المرتبطة أساسًا بالغزل ومجالس الأنس و طبيعة الحياة الأندلسية، و هو ما ساهم في نقلة نوعية للقصيدة العربية مبنى ومعنى مازالت آثارها حاضرة إلى يومنا هذا.
[1] – ابن قتيبة الدينوري، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف 1982، ص 53.
[2] – ديوان أبي نواس، تحقيق عبد المجيد الغزالي، دار صادر، بيروت، لبنان، ص 432.
[3] – مصطفي الشكعة، الشعر والشعراء في العصر العباسي الأوّل، ط 5، دار العلم للملاين، بيروت 1980، ص 273.
[4] – طه حسين، حديث الأربعاء، طبعة دار المعارف، مصر، 1974، ص 439.
[5] – شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، ط 2، دار المعارف، مصر، ص 220.
[6] – المرجع نفسه، ص 223.
[7] – أبو نواس، الحسن بن هانئ، تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، الطبعة الرابعة، مطبعة مصر، 1993. ص 263.
[8] – المصدر نفسه، ص 338.
[9] – المصدر نفسه، ص 64.
[10] – المصدر نفسه، ص 118.
[11]– المصدر نفسه، ص 46.
[12] – المصدر نفسه، ص 86.
[13] – المصدر نفسه، ص 98.
[14] – المصدر نفسه، ص 474.
[15] – المصدر نفسه، ص 103.
[16] – أبو نواس الديوان، مصدر سابق، ص 80.
[17] – المصدر نفسه، ص 687.
[18] – المصدر نفسه، ص 32.
[19] – المصدر نفسه، ص 113.
[20] – المصدر نفسه، ص 121.
[21] – المصدر نفسه، ص 685.
[22] – المصدر نفسه، ص 684.
[23] – عطوان حسين، مقدّمة القصيدة في العصر العباسي الأوّل، ص 99.
[24] – أبو نواس الديوان، مصدر سابق، ص 86.
[25] – ابن المعتز عبد الله بن محمد، طبقات الشعراء، دار المعارف، مصر، 1956، ص 208.
[26] – المرجع نفسه، ص 264.
[27] – المرجع نفسه، ص 472.
[28] – المرجع نفسه، ص 109.
[29] – عز الدين اسماعيل، في الأدب العباسي: الرؤية والفن، دار النهضة، بيروت، 1985، ص 338.
[30] – أبو نواس، الديوان، مصدر سابق، ص 261.
[31] – المصدر نفسه، ص 332.
[32] – شوقي ضيف، العصر العباسي الأول، مرجع سابق، ص 223.
[33]– المرجع نفسه، ص 119.
[34] – المرجع نفسه، ص 195.
[35] – المرجع نفسه، ص 214.
[36] – طه حسين، حديث الأربعاء، مرجع سابق، ص 319.
[37] – محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، 1934. ص 59.
[38] – محمد مصطفى هدارة، اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني للمجرة، دار المعارف، القاهرة، 1963، ص68.
[39] – المرجع نفسه، ص 147.
[40] – محمد مهدي البصير، في الأدب العباسي، مرجع سابق، ص 131.
[41] – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، 1982. ص 49.
[42] – المرجع نفسه، ص49.
[43] – المرجع نفسه، ص 55.
[44] – المرجع نفسه، ص 155.
[45] تحدّث عدد من الباحثين عن جذور التجديد في الشعر العربي وخصوصا ما يخصّ شعر الخمرة، انظر:
-Bencheikh,Jamal Eddine, « Poésies bachiques d’AbÙ NuwÁs. Thèmes et personnages », Bulletin d’Études Orientales, n° XVIII (1963-1964), p.7-84.
-Paoli Bruno, Deux études sur la poésie bachique arabe, Bulletin d’Études Orientales. 2008.و
وهما مقالان مهمّان تتبّع فيهما الدارسان جذور حضور الخمرة في الشعر العربي، وبدايات التمرّد على سنّة الاستهلال في القصائد العربيّة.
المصادر والمراجع:
المصدر:
- أبو نواس، الحسن بن هانئ، تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، الطبعة الرابعة، مطبعة مصر، 1993
المراجع:
- شوقي ضيف، العصر العبّاسي الأول، الطبعة الثانية، دار المعارف، بمصر، 1969.
- شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الأول، ط 2، دار المعارف، مصر.
- طه حسين، حديث الأربعاء، طبعة دار المعارف، مصر،1974.
- عز الدين إسماعيل، في الأدب العباسي: الرّؤية والفن، دار النهضة بيروت، 1985.
- عطوان حسين، مقدمة القصيدة في العصر العبّاسي الأوّل، ط2، دار الجيل بيروت،1987.
- ابن قتيبة الدينوري أبو عبد الله محمد بن مسلم، الشّعر والشّعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف 1982.
- مصطفى الشكعة، الشعر والشعراء في العصر العباسي الأوّل الطبعة 5، دار العلم للملايين، بيروت 1980
- محمد مصطفى هدارة، اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة “، دار المعارف، القاهرة، 1963.
- محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب – مكتبة النهضة المصرية -1984.
- محمد مهدي البصير، في الأدب العباسي، مطبعة السعدي، العراق، 1955
- ابن المعتز (عبد الله محمد)، طبقات الشعراء، دار المعارف، مصر، 1956.
- ابن منظور، ملحق الأغاني، أخبار أبي نواس، المجلد 13، دار المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، 1990.
المراجع الأجنبيّة:
- Bencheikh,Jamal.Eddine., « Poésies bachiques d’AbÙ NuwÁs. Thèmes et personnages », Bulletin d’Etudes Orientales, n° XVIII (1963-1964), p.7-84
- Blachère, Régis., Histoire de la littérature arabe des origines à la fin du XVe siècle de J.-C., Paris, Adrien Maisonneuve, 1952-1966, 3 vol.
- Ferga, Hermann, « Aux origines de la poésie bachique arabe », Bulletin d’Etudes Orientales, n°56 (2004-2005).
- Harb, F, « Wine Poetry (KhamriyyÁt) », dans J. Ashtyani & alii. Abbasid Belles-Lettres, Cambridge, Cambridge University Press.
- Paoli Bruno, Deux études sur la poésie bachique arabe, Bulletin d’Études Orientales .2008.