الديمقراطيّة بوصفها عودة السلطة إلى الشعب، مهمّة جسيمة ومغامرة محفوفة بالمخاطر
الحبيب بورقيبة في اجتماع بنزرت
الملخّص:
رغم أنّ تحوّلات “الربيع العربيّ” قد ارتبطت بانتظارات اجتماعيّة وسياسيّة محورها مقارعة الفساد وتحقيق الحرّيّات الفرديّة والجماعيّة والرفاهيّة، فإنّها دفعت قوى الإسلام السياسيّ وتنظيماته إلى واجهة المشهد المجتمعيّ، بل مكّنت البعض منها من اعتلاء السلطة ومراكز القرار فيما يشبه فورة إسلامويّة غير مسبوقة عند كثير من المحلّلين. لذا تسعى هذه المقالة إلى تفهّم الإسلام السياسيّ التونسيّ في علاقة بمشروع الدولة الوطنيّة: دولة الاستقلال التي شكّلها “بورقيبة” في مرحلة أولى وواصلها خلفه “بن عليّ”. فالعمليّة التحديثيّة ذات التوجّه العلمانيّ أخفقت في تلبية الاحتياجات المجتمعيّة وولّدت السخط الشعبيّ واقترنت بالاستبداد والفساد. وهذا أتاح لحركات الإسلام السياسيّ وتحديدا حزب حركة النهضة ـ حركة الاتّجاه الإسلاميّ سابقا ـ أن تتحوّل إلى قوّة استقطاب وبديل سياسيّ. وكانت “ثورة 14 جانفي” مدخلا تاريخيّا لحركة النهضة في الاستئثار بمفاتيح اللعبة السياسيّة وخوض غمار السلطة وإدارة الدولة في جوّ عاصف من الاحتراب والعنف والانتكاسات والمواجهات العنيفة مع قوى المجتمع المدنيّ بكلّ أطيافها. على أنّ النصّ لا يخلو من قراءة متساهلة ومتعاطفة مع التجارب الإسلامويّة المحلّيّة تتواءم والرؤية الأنقلوساكسونيّة التي تهوّن من شأن تناقضات الخطاب ومفارقات الممارسة ولا تعبأ بالمغالطات السياسيّة التي تروّج لها الأيديولوجيا الإسلامويّة.
كلمات مفاتيح: الربيع العربيّ ـ ثورة ـ حركة النهضة ـ السلفيّة ـ حركة النداء.
Abstract:
Although the transformations of the “Arab Spring” were linked to social and political expectations centered on fighting corruption and achieving individual and collective freedoms and welfare, they pushed the forces of political Islam and its formations to the forefront of the societal scene, and even enabled some of them to ascend power and decision centers in what looks like an unprecedented Islamist outburst for many analysts. Therefore, this article seeks to understand Tunisian political Islam in relation to the project of the national state: the state of independence that was formed by Bourguiba in the first stage and continued by his successor, Ben Ali. The secular-oriented modernization process failed to meet societal needs, generated popular discontent and was accompanied by tyranny and corruption. This allowed political Islam movements, particularly the Ennahda Movement – the former Islamic Tendency Movement – to turn into a polarizing force and a political alternative. The “January 14 Revolution” was a historical entry point for the Ennahda movement to monopolize the keys to the political game and to engage in power and management of the state in a stormy atmosphere of clashes, violence, setbacks and violent confrontations with civil society forces of all kinds. However, the text is not devoid of a permissive and sympathetic reading of the local Islamist experiences, in line with the Anglo-Saxon vision, which downplays the contradictions of discourse and paradoxes of practice and does not care about the political fallacies promoted by Islamist ideology.
Key words: Arab Spring- Revolution- Nahdha Movement- Salafism- Nidaa Movement.
1- مقدّمة:
هذا المقال “تونس: من الثورة إلى الجمهوريّة”Republic » « Tunisia: from Revolution to واحد من مقالات عدّة ضمّها كتاب “الإسلام والديمقراطيّة بعد الربيع العربيّ” « Islam and Democracy After The Arab Spring » (Oxford University Press, Oxford-New York, 2016). . واهتمّت هذه المقالات ببيان العلاقة بين الإسلام والديمقراطيّة في سياق تاريخيّ هو ما بعد “ثورات الربيع العربيّ” الذي شهد تقلّبات ومسارات مجتمعيّة متعرّجة أدّت إلى بروز حركات إسلامويّة متنوّعة في أدواتها ورهاناتها وارتباطاتها. والمقال يقع في ثمان وعشرين صفحة في نسخته الأصليّة (174-201)، واشتغل فيه كلّ من جون إسبوزيتو (John Esposito) (أستاذ جامعيّ بجامعة جورج تاون الأمريكيّة. متخصّص في الأديان والدراسات الإسلاميّة وعضو بمراكز بحثيّة متعدّدة) وتمارا سون (Tamara Sonn) (باحثة أمريكيّة في قضايا الأديان وتحديدا الدراسات الإسلاميّة. تدرّس تاريخ الإسلام في جامعة جورج تاون) وجون فول ((John Voll (أستاذ متخصّص في دراسات الإسلام المعاصر وخاصّة الإسلام الآسيويّ وقضاياه في القرن الواحد والعشرين) على التجربة الإسلامويّة التونسيّة ممثّلة في حركة النهضة من المحاضن الأولى حتّى صعودها إلى السلطة في 2012.
2- النصّ:
كانت تونس، مهد الربيع العربيّ، ناضجة للانتفاضة قبل أحداث 17 ديسمبر 2010 التي انطلقت من مدينة سيدي بوزيد الداخليّة، وانطلقت عبر مصر وليبيا وسوريا إلى البحرين واليمن عاكسة غضبا شعبيّا عميقا واستياء من القادة العرب الأتوقراطيّين. وعلى الرغم من أنّ تونس تداول على حكمها رئيسان فقط. ـالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علىّ ـ منذ حصولها على استقلالها من فرنسا في 1956 إلّا أنّ العديد من حكومات الدول الغربيّة قبل بحكمها الاستبداديّ. وهو بلد يقطنه سكّان متجانسون في الغالب مع انقسامات إثنيّة أو قبليّة أو دينيّة قليلة، وكان لها اقتصاد حرّ، فطبقتها الوسطى لم تكن كبيرة فحسب ولكنّها كانت متعلّمة ومنفتحة، وكان دخل الفرد ضعف دخل جيرانه في المغرب ومصر وأعلى من دخل الجزائر التي استفادت من بركات النفط وهي سلعة افتقرت إليها تونس.
ولكنّ كلّ ذلك لم يكن على أحسن ما يرام، فهي أصغر دولة في شمال أفريقيا، ونظام بن علي (1987-2011) الذي برع في التحكّم في الصورة والحفاظ على وهم التوليف الغربيّ العلمانيّ العربيّ سيواجه قريبا المواطنين العاديّين الذين سئموا من الصفقات الحكوميّة الخفيّة، وعدم التوازن الاقتصاديّ، والفساد الكاسح والمستشري، وعمليّات القمع التي استهدفت المنشقّين السياسيّين ـ الإسلامويّين والعلمانيّين على حدّ سواء ـ وضعف المشاركة السياسيّة الحقيقيّة.
ولم يكن محمّد البوعزيزي، وهو بائع متجوّل يبلغ من العمر 26 عاما، والذي تسبّب فعل تضحيّته بالنفس في اندلاع ثورة، فريدا من نوعه. ولم يكن انتحاره مجرّد تعبير عن محنته المأساويّة، ولكنّه برهن أيضا على الشباب التونسيّ وغيره من الشباب في العالم العربيّ. وقد كان محمّد البوعزيزي تجلّيا مأساويًّا للشباب المهمّشين والمغتربين والعاطلين عن العمل أو الذين يعملون بشكل هامشيّ على الرغم من مستواهم التعليميّ ومهاراتهم. وقد اندلعت الاحتجاجات في المناطق المحرومة في الجنوب فيما يعرف باسم “حزام التعدين”. وبحلول الأسبوع الثاني من شهر جانفي/يناير انتشرت الاحتجاجات في ضواحي تونس، وقد غذّتها شبكات التواصل الاجتماعيّ مثل الفايسبوك وتويتر التي استخدمها المتظاهرون الشباب لتنظيم التعبئة الجماهيريّة للمواطنين وتنسيقها من أجل النزول للتظاهر في العاصمة تونس.
وعلى الرغم من المظهر الزائف المتطوّر كشف ردّ فعل بن علي عن الطبيعة الحقيقيّة لنظامه. فقد استخدمت قوات الأمن وهي جزء لا يتجزّأ من حكم الرئيس القمعيّ، القوّة الوحشيّة ضدّ المتظاهرين بما في ذلك الاعتداء الجسديّ والغاز المسيل للدموع والذخيرة الحيّة. وبحلول 12 من يناير/ جانفي كانت جماعات حقوق الإنسان قد أكّدت أكثر من حالة وفاة ـ كان ذلك نتيجة للمناوشات مع الشرطة[1]. “كيف يمكنك أن تحرّر شعبك” سأل أحد أصحاب الأعمال. “إذا قمت بذلك فلن تكون هناك عودة. الآن أنت قاتل”[2].
ولم يكن هناك مجال للعودة في الواقع. فقد جلب العام الجديد عزمًا مغايرا للإطاحة بالرئيس المستبدّ بالبلاد. واجتمعت النقابات العمّاليّة والمجموعات الطلّابيّة والنقابات المهنيّة والجماعات الهاوية الأخرى في عشرات المدن للتظاهر وتنظيم الإضرابات. وتراجع بن عليّ مع تزايد عدد القتلى، فأقال وزير الداخليّة وأعلن عن تنازلات غير مسبوقة وتعهّد بعدم السعي إلى انتخابه في عام 2012 والتزم بالتحقيق في ردّ الحكومة على المتظاهرين وبتطبيق مزيد من الحرّيّات[3]. ولكنّ تصرّفاته لم تؤدّ إلّا إلى تفاقم الحشود الغاضبة التي اعتقدت أنّ تأكيداته كانت مضلّلة وبكلّ بساطة محاولةً للبقاء في منصبه. وعندما فشلت تنازلاته، اضطرّ إلى فرض حالة الطوارئ وإقالة حكومته بأكملها والتعهّد بإجراء انتخابات تشريعيّة في غضون ستّة أشهر. ولكن في ضربة أخيرة ذاتيّة من حكمه لنظامه الذي دام 23 عامًا قام بنشر الجيش آمرا بإطلاق النار للقتل. وهي الخطوة التي أعادت إلى الأذهان ما حصل مع الجنرال رشيد عمار عندما كان قائدا للأركان ورفض توجيه قوّاته لتقتيل المواطنين في الشوارع. واضطرّ بن عليّ في 14 يناير /جانفي بعد أن أصبح غير قادر على احتواء الاحتجاجات واستخدام الجيش لسحق الانتفاضة إلى الاستقرار في نهاية المطاف في جدّة بالمملكة العربيّة السعوديّة للعيش في المنفى[4].
ورغم أنّ بن عليّ قد رحل، إلّا أنّ الحكومة مع قوّاتها العسكريّة والشرطة والأمن والبيروقراطيّة المختلفة والفساد لا تزال قائمة. فقد أعلن راشد الغنّوشي زعيم حزب المعارضة الإسلاميّ النهضة قائلا “لقد سقط الدكتاتور ولكن لم تسقط الدكتاتوريّة”[5]. كان حزب الغنّوشي واحدا من المجموعات العديدة المحظورة والمقموعة في عهد بن عليّ. ومثلما لاحظ ناثان براون ((Nathan Brown في ذلك الوقت فقد أخرس النظام التونسيّ الساسة” ولكن “لا أحد يعرف من هو في القائمة”[6].
وبينما غاب راشد الغنّوشي وغيره من قادة النهضة، الذين كانوا قد لجؤوا إلى إنجلترا وفرنسا قبل أكثر من عقدين من الزمن، خلال الانتفاضة، فقد عادوا بسرعة للمشاركة في إعادة بناء “تونس الجديدة” بعد الإطاحة ببن عليّ. على الرغم من غيابهم عن تونس فإنّهم جلبوا مؤهّلات سياسيّة لا تشوبها شائبة ومصداقيّة. وعلى حدّ تعبير محمّد الهادي أياني، أحد أعضاء حزب النهضة:” كنّا لسنوات بالخطوط الأماميّة ضدّ النظام ودفعنا الثمن. لقد واجهنا كلّ أنواع المظالم”[7].
وتعود جذور النهضة في تونس وقمع الحكومة لها وكبحها إلى الستّينات. لكنّ المناخ الذي أنتجها بدأ فعلا قبل عقد من الزمن مع استقلال تونس من فرنسا عام 1956 وأبي الحركة الوطنيّة المجاهد الأكبر أوّل رئيس لتونس الحبيب بورقيبة.
3- الحبيب بورقيبة: “المجاهد الأكبر”:
كان الحبيب بورقيبة من أبناء عصر التنوير تلقّى تعليمه في العلوم السياسيّة والقانونيّة في فرنسا بجامعة السربون[8]. وقد قاد بورقيبة حركة استقلال تونس من فرنسا هادفا إلى إعادة بناء تونس باعتبارها دولة حديثة على طراز قيم الاستعمار الفرنسيّ ومؤسّساته، وتمكّن بورقيبة وحزبه الحزب الدستوريّ الجديد ( (NDمن التكفّل بردم هذه الهوّة الظاهريّة المستمرّة. وفي أفريل 1956 تولّى بورقيبة منصب رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة ووزير الخارجيّة ووزير الدفاع. وفي يوليو /جويلية 1957 أصبحت تونس جمهوريّة مستقلّة والحبيب بورقيبة أوّلَ رئيس لها[9].
قدّم الرئيس الجديد نفسه إلى مواطنيه على أنّه شخص يمكنه إعادة تشكيل البلاد وتصحيح الإسلام: “إنّ اهتمامنا هو العودة إلى الدين بخاصّيّته الديناميكيّة”[10]. لقد استخدم بورقيبة الدين بوصفه أداة للتعبئة السياسيّة الشعبيّة خلال فترة الكفاح من أجل الاستقلال. وعلى الرغم من سعيه إلى إنشاء دولة علمانيّة متشدّدة فإنّ بورقيبة قد كان استخدم في الماضي لغة ومفردات دينيّة أثناء فترة الاستقلال وحصل على لقب المجاهد الأكبر (المقاتل الكبير قائد الجهاد ضدّ المحتلّين الفرنسيّين)[11]. ومع ذلك، في خضمّ إعادة تشكيل الدولة التونسيّة طوال أواخر الخمسينات وأوائل الستّينات، بدأ بورقيبة سياسات لتحويل تونس إلى دولة علمانيّة ذات توجّه غربيّ وصرّح أنّ أتاتورك قد أعلن “بشكل أساسيّ وعميق نحن مع الغرب”[12].
وقد قام بورقيبة بتوحيد النظام التعليميّ، والقضاء على المدارس الدينيّة ودمج مسجد الزيتونة، وهي واحدة من أولى الجامعات في تاريخ الإسلام وأكبرها، في جامعة علمانيّة حديثة وجديدة، جامعة تونس التي كانت ملتزمة بمناهج على النمط الغربيّ[13]، واستُعيض عن اللغة العربيّة بالفرنسيّة لغة رسميّة للتعليم حتّى “لا يتمّ قطع صلة الجيل الجديد بالتكنولوجيا والقيم الحديثة “وبالحكومة[14].
وفضلا عن ذلك قام أيضا بإصلاح القانون الإسلاميّ التقليديّ للزواج والطلاق بقانون الأحوال الشخصيّة لعام 1956 الذي أدّى إلى تحسين الوضع القانونيّ للمرأة وحقوقها في تونس بشكل ملحوظ، وأجاز بعد ذلك بيع أدوات تحديد النسل وأصدر في 1 يوليو/ جويلية 1965 قانونا يشرّع الإجهاض[15]. وفي الوقت نفسه منع النساء من ارتداء الحجاب الذي نعته بأنّه “خرقة قبيحة” في المدارس وفي المجال العامّ. “حتّى أنّنا إذا رأينا موظّفين مدنيّين يذهبون إلى العمل في تلك الخرقة القبيحة فلا علاقة لها بالدين”[16]. وكان استهدافه لأحد أركان الإسلام الخمسة الأكثر إثارة للجدل لمّا أعلن أنّ صيام رمضان لا يمكن تبريره لأنّه سيقلّل من الإنتاجيّة الاقتصاديّة للدولة مقارنا عمله بالجهاد ضدّ العدو “لدينا عدوّ لمقاومته وهو الفقر”[17].
وبينما كان بورقيبة يستعمل أحيانا لغة راسخة في الدين ويتحدّث صراحة عن نسخة جديدة من الإسلام حداثيّة فإنّ العديد من المواطنين ذوي العقليّة الدينيّة لم ينظروا إليه على أنّه مصلح دينيّ، بل بوصفه علمانيًّا ذا إيمان سطحيّ. وقد أدّت إصلاحاته الحداثيّة العلمانية إلى حرمان الناطقين بالعربيّة والعلماء المتعلّمين والمؤسّسات التعليميّة الإسلاميّة بمن فيهم خرّيجو الزيتونة من دخول الجامعات المحلّيّة أين كانت الفرنسيّة هي اللغة الأساسيّة. وكما يروي الغنّوشي “غادرت إلى سوريا للدراسة هناك لأنّني أنتمي إلى ما تبقّى من مدرسة الزيتونة. لم يكن لدى خرّيجي الزيتونة إلّا أمل ضئيل في الوصول إلى الجامعة، والبعض وُظّف من قبل الإدارات العموميّة والبعض الآخر وجدوا لأنفسهم مكانا في الشرق”[18]. سيكون لتجارب الغنّوشي أوّلا في جامعة القاهرة، ولكن خاصّة أثناء دراسته في دمشق، لها أثر عميق في حياته وتصوّراته عن الغرب، والأهمّ من ذلك أيديولوجيّته وحراكه الإسلاميّ. سنوات بعدها سيؤول ذلك إلى تأسيسه لحركة معارضة قويّة للنظام العلمانيّ التونسيّ.
4- راشد الغنّوشي:
ولد راشد الغنّوشي في 22 يونيو/جوان 1944 في مقاطعة تُدعى قابس في جنوب شرق تونس[19]، وكان والد الغنّوشي الشيخ محمّد مزارعًا ورجلًا متديّنًا. أمّا والدته فانحدرت من عائلة تجاريّة، وكان لها اتّصال بالعالم الخارجيّ أكثر من والده. وكان لتركيزها على تعليم أطفالها العشرة أثره في إنتاج أستاذ وقاض وناشط إسلاميّ[20].
انقطع الغنوشي عن التعليم مبكّرا عندما سحبه والده من المدرسة الابتدائية لمساعدته في دعم إخوته الذين كانوا يدرسون في تونس. وقد اعترض والده أيضا على نظام التعليم الغربيّ في مدرسة الغنّوشي باللغة الفرنسية، لغة المستعمرين الذين يعتبرهم أعداء الإسلام.
وتحسّن الوضع الماليّ للأسرة بعد تخرّج إخوته، فاستأنف الغنّوشي دراسته في الزيتونة ومنهجها التقليديّ[21]. ولم يكن الغنّوشي خلال السنوات التي قضّاها في الزيتونة دينيًّا بشكل خاصّ، وفي مرحلة ما تخلّى عن صلاته اليوميّة كما فعل العديد من الطلّاب المراهقين في ذلك الوقت. كان مرتبكًا ومصدومًا بسبب مفارقة العالم الذي عاش فيه. كان تعليمه في الزيتونة تقليديّا بلا هوادة ومركّزًا على “المشاكل التي لم تعد تعنينا والتي كانت مفروضة علينا من الاستعمار وأصبحت هي الوضع الراهن”[22].
وبعد تخرّجه من المدرسة الثانوية درس الغنّوشي في كلّيّة العقيدة بجامعة الزيتونة، لكنّه بقي ممزّقًا بين عالم لم تعد فيه التقليديّة ملائمة والمجتمع الغربيّ الجديد الذي يعيش فيه. فغادر الزيتونة ليدرس لفترة وجيزة في القاهرة ثمّ في دمشق أين تحصّل على درجة الباكالوريا.
كانت الفترة التي قضّاها الغنّوشي في جامعة دمشق (1964-1968) نقطة تحوّل في حياته، فقد تميّزت بشكل كبير بدراسته للسياسة العربيّة والتاريخ. فقد واجه حياة الحرم الجامعيّ والانقسامات المريرة بين الحزبين البعثيّين والحركات القوميّة العربيّة الناصريّة من جهة والطلّاب ذوي الميول للإخوان المسلمين من جهة أخرى. تأثير الهزيمة العربيّة الساحقة (القوّات المجتمعة لمصر وسوريا والأردن) في مواجهة إسرائيل في حرب الأيّام الستّة عام 1967 هزّ الثقة في القوميّة العربيّة، وكما كان منطقيّا بالنسبة إلى العديد من الشباب العرب تحوّل الغنّوشي إلى الإسلام، ولكنّه تحوّل إلى رؤية إسلاميّة تتخطّى المؤسّسات التقليديّة الجامدة وعديمة الحياة مثل الزيتونة (استهزأ منها باسم “المتاحف”)”الإسلام الذي كان على قيد الحياة”[23].
“استقرّ رأيي في نهاية المطاف على عدم صحّة القوميّة العربيّة. وفي حين أنّ قلبي مطمئنّ تمامًا للإسلام أدركت أنّ ما كنت أتّبعه لم يكن الإسلام الصحيح بل نسخة منه تقليديّة وبدائيّة، فالنموذج التقليديّ لم يكن أيديولوجيا ولا يمثّل نظامًا شاملا بل مشاعر دينيّة تقليديّة، ومجموعة من التقاليد والعادات والطقوس التي لم تكن تمثّل حضارة أو طريقة حياة. اكتشفت أنّني لم أكن مسلمًا حقيقيّا. ولذلك اضطررت إلى اتّخاذ قرار العودة إلى الإسلام”[24].
5- ميلاد حركة:
ارتحل الغنّوشي إلى فرنسا في عام 1968 للحصول على درجة الماجستير من جامعة السوربون لأنّ الدراسة في فرنسا والتمكّن من الفرنسيّة سيساعده في الحصول على وظيفة جيّدة عندما يعود إلى تونس. ومثل العديد من أبناء جيله الذين درسوا بالخارج وجد الغنّوشي نفسه منغمسًا في ثقافة أجنبيّة يكافح من أجل الاحتفاظ بإيمانه وهويّته، فقد صادف جمعيّة دعويّة إسلاميّة غير سياسيّة تأسّست في باكستان حيث يتنقّل الدّعاة الرحّالة عبر العالمين داعين(الدعوة) المسلمين إلى نمط حياة أكثر تديّنًا. لقد زوّده التبليغ بحسّ الأمّة والهويّة والحراك الإسلاميّ والغرض منه. سافر الغنّوشي في أنحاء عدّة من فرنسا أين لاحظ الظروف المعيشيّة الصّعبة لمسلمي شمال أفريقيا وعايشها وزار الأحياء والحانات لإعادة الناس إلى الإسلام. وفي عام 1969 أصبح الإمام المكافح في مسجد صغير غير مخصّص للتبليغ يقتات على مهن بدوام جزئيّ.
وفي سنة 1970 عاد الغنّوشي إلى بيته لزيارة عائلته بعد أن مكث بعيدًا عنها لمدّة خمسة أعوام. كانت تونس تترنّح من تجربة فاشلة في الاقتصاد الاشتراكي المخطّط له ممّا أسفر عن حالة من الركود الاقتصادي والبطالة والاضطرابات ثم تحوّلت الحكومة إلى التحرّر السياسيّ والاقتصاديّ الذي أسهم أيضًا في إحياء الهويّة والتراث العربيّ الإسلاميّ في تونس. ومع ذلك قطعت زيارة الغنّوشي من قبل أسرته التي تخشى أن يؤدّي انتقاده العلنيّ لسياسات تونس الاقتصادية الاشتراكية إلى إلقاء القبض عليه وتهديده المواقع المهنيّة لأشقّائه (قاض وأستاذ على التوالي) ممّا أقنعه بالرجوع إلى باريس سريعًا. والتقى أثناء توقّفه بتونس العاصمة بعض المنتمين إلى جماعة التبليغ الذين عرضوا عليه الدعوة في المسجد ولقاء الشيخ عبد الفتاح مورو وهو محام وناشط إسلاميّ شجّع حركة إسلاميّة صغيرة شعبيّة سرعان ما أصبحت قوّة رئيسيّة في طفرة إسلاميّة في تونس العلمانيّة. وتحصّل الغنّوشي على منصب تدريس في اختصاص الفلسفة في الثانويّة، وعاد إلى الوعظ في المساجد المحلّيّة وانضمّ إلى حركة عبد الفتاح مورو التي ركّزت في البداية على القضايا الاجتماعيّة والثقافيّة بدلاً من الرسائل السياسيّة الصريحة. لقد أوجدت هذه الحركة بديلاً إسلاميًّا من الثقافة الغربيّة: “لقد تركّز عملنا على تطوير الضمير الأيديولوجيّ الذي كان يتكوّن من نقد المفاهيم الغربيّة التي تهيمن على روح الشباب”[25].
استقطب الغنّوشي، وهو المدرّس والقائد المعروف، العديد من الشباب والفقراء وطلّاب الطبقة العاملة بالإضافة إلى قطاعات المجتمع الأخرى. ثمّ انضمّوا إلى جمعيّة المحافظة على القرآن (QPS)، وهي منظّمة ثقافيّة واجتماعيّة غير سياسيّة ركّزت على التقوى والأخلاق والإخلاص للإسلام من قبل أولئك الذين يعتقدون أنّ المجتمع التونسيّ قد أضاع هويّته بسبب التعويل المفرط على الإفلاس الأخلاقيّ والفساد الغربيّ[26].
وبحلول أواخر السبعينات كان استخدام بورقيبة للجيش لسحق المظاهرات (خلال انتفاضة الخبز جانفي 1978) ومواجهته مع الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل (UGTT)، وتُوّج بإضرابٍ ومقتلِ العديد من العمّال على يد نظام بورقيبة. وأصبح أفراد جمعيّة المحافظة على القرآن(QPS) بمن في ذلك الغنّوشي مقتنعين بأنّ السياسة حقيقة ويجب التعاطي معها: “كيف يمكننا أن نكون بهذا القدر من التواصل مع ما كان يحدث في الواقع داخل مجتمعنا دون أن نلعب أيّ دور في المجتمع”[27].
كانت العيانيّة المتزايدة للإسلام في السياسة المسلمة في أواخر السبعينات، بما في ذلك الثورة الإسلاميّة في إيران في عام 1979 والمخاوف من تصديرها تمثّل تحدّيّا لبورقيبة. فقد هدّد بأن يتولّى مهامّه رئيسًا مدى الحياة، وهو لقبٌ خُصّ به في 1970. وتراجع عن حملته ضدّ رمضان وتحوّل نحو الكتب والخطابات والرموز الدينيّة بوصفها جزءًا من سرديّة الحكومة. وقد نشرت جريدة الأمل، وهي صحيفة ذات طابع رسميّ مقالات افتتاحيّة وخصائص ذات طبيعة إسلاميّة صريحة مثل “الأصول الإسلاميّة للفكر البورقيببيّ “والتي ظهرت مع صورة للرئيس وهو يقوم برحلة حجّ إلى مكّة”[28].
وفي سنة 1979 أسّس الغنوشي الجماعة الإسلاميّة التي كانت تنظيما سياسيّا (رغم أنّها ليست حزبًا سياسيًّا). وتواصلت الرابطة مع الطبقة الدنيا والطبقة الوسطى داعيةً إلى إنهاء نظام الحزب الواحد البورقيبيّ وتبنّى رؤية للإسلام تعالج المشاكل المعاصرة مثل حقوق العمّال والفقر والأجور والمشاركة السياسيّة. وعندما قام بورقيبة بتحرير الجهاز السياسيّ في عام 1981 تحوّلت الجماعة الإسلاميّة إلى حزب سياسيّ: حركة الاتّجاه الإسلاميّ (MTI).
لم تكن حركة الاتّجاه الإسلاميّ المجموعة السياسيّة الوحيدة التي نشأت في السنوات الأولى للحركة الدينيّة في البلاد. بل شملت مجموعات أخرى مثل حزب الشورى الإسلاميّ الذي يقوده حسن الغضبان والاتّجاه الإسلاميّة التقدّميّ والطليعة الإسلاميّة وحزب التحرير الإسلاميّة. ومع ذلك كانت حركة الاتّجاه الإسلاميّ (MTI) وهي المجموعة الأبرز، مختلّفة عنها نتيجة لالتزام الغنّوشي المنفتح بالديمقراطيّة “نظامًا للحكم قابلا للتطبيق”[29]. وأكّد أنّ الديمقراطيّة والإسلام لا يتعارضان وكان من الأفضل أن نعيش في دولة علمانيّة حيث توجد الحرّيّات بدلاً من دولة دينيّة تطبّق الشريعة وتنعدم فيها الحرّيّات: “إذا كان يُقصد بالحرّيّة النموذج الليبيراليّ للحكم السائد في الغرب، وهو نظام يختار فيه الشعب بحرّيّة ممثّليهم وقادتهم، وفيه يوجد تناوب على السلطة وكذلك ثمّة حرّيّات وحقوق إنسان للعموم فعندها لن يجد المسلمون في دينهم شيئًا لمعارضة الديمقراطيّة، وليس من مصلحتهم أن يفعلوا ذلك على أيّ حال”[30].
على الرغم من قرار حركة الاتّجاه الإسلاميّ الدخول بشكل مباشر في المجال السياسيّ، فقد حُرمت المجموعة من ترخيص للعمل. واستمرّ الغنّوشي دون هوادة في بناء حركته على أساس التأكيد على الهويّة والقيم الإسلاميّة العربيّة في تونس. وقد وُجدت هذه الجاذبيّة بين قطاعات مختلفة من السكّان: المحامين والمصرفيّين والمعلّمين ورجال الأعمال والعمّال النقابيّين ومهنيي الطبقة الوسطى والأطبّاء. وقد نجم نجاحها عن تزايد الاستياء، ومواجهة وبورقيبة للمعارضة وقمعها، وتجدّد الهجمات على الدين.
وكما خلص الباحث عبد الباقي الهرماسيّ “في تفسير منبع حركة الاتّجاه الإسلاميّ يمكن للمرء أن يطرح سببًا واضحًا إلى درجة أنّه نادرًا ما يؤخذ في الاعتبار أو يُعطى وزنه الكامل. إنّه من بين جميع الدول العربيّة، تونس هي الدولة الوحيدة التي تهاجم فيها النخبة الحداثيّة مؤسّسات الإسلام عن قصد وتفكّك بنيتها التحتيّة باسم الإصلاح المنهجيّ للنظام الاجتماعيّ والثقافيّ”[31]. قام بورقيبة بتضييق الخناق على حركة الاتّجاه الإسلاميّ بعد شهرين، واعتقل العديد من أعضائها وسجنهم بمن فيهم الغنّوشي. تحوّلت حملة القمع إلى نقطة تحوّل للحركة الإسلاميّة في تونس. وبقي الغنّوشي فعّالاً خلال هذه الفترة، على الرغم من سجنه، مؤكّدًا أنّ ثورة عنيفة على الطريقة الإيرانيّة لم تكن هي الحلّ. فهو يعتقد أنّ التغيير سيكون أكثر نجاحًا إذا جاء من القاعدة إلى القمّة-عمليّة بطيئة غيّرت المجتمع تدريجيًّا واستخدمت مشاركة سياسيّة متزايدة ومبادئ ديمقراطيّة لتحقيق هدف منشود: دولة ذات طابع إسلاميّ وديمقراطيّة في نفس الوقت[32].
كانت حيويّة حركة الاتّجاه الإسلاميّ وتناميها في تقابل حادّ مع إخفاقات حكومة بورقيبة: الظروف الاقتصاديّة السيّئة وسوء الإدارة الماليّة والفساد ممّا أدّى إلى تصاعد الاستياء وأعمال انتفاضة الخبز التي اندلعت في عام 1984. حاول بورقيبة مقارنة المعارضة من خلال الادّعاء بأنّ الإسلامويّين يعتنقون “الأصولية الراديكاليّة” وكانوا مرتبطين بثورة دينيّة على الطراز الإيرانيّ. ومع ذلك ورغم محاولات وصل الحركة الإسلاميّة بالتطرّف الإسلاميّ [لم تكن الحكومة التونسيّة] قادرة على القضاء على ما وصفه بورقيبة بشكل روتينيّ وبازدراء بأنّه بقايا تقاليد دينيّة عفا (كذا!) عنها الزمن”[33]. وفي تلك السنة أطلق سراح الغنّوشي من السجن، لكنّ إطلاق سراحه كان مؤقّتًا فقط. وقبل فترة طويلة، كانت حملة القمع على الجماعات الإسلاميّة تتعاظم لتتحوّل إلى هجوم شامل ضدّهم وضدّ تعبيرات الدين في المجال العامّ.
ومنعت الحكومة موظّفي الخدمة المدنيّة من الصلاة أثناء ساعات العمل وأغلقت المساجد التي كانت قد أوجدتها في السابق من أجل إضعاف “التطرّف اليساريّ”. وقد صدرت أوامر إلى المؤسّسات العامّة بعدم توظيف الإسلامويّين الذين فقدوا وظائفهم خلال فترة الحبس1981/1984. ومنعت النساء من ارتداء الحجاب في الجامعات وأماكن العمل، وطُرد طلاّب الجامعات الإسلاميّين وجُنّدوا في الجيش. أمّا سائقو سيارات الأجرة الذين ضُبطوا وهم بلحية مُشذّبة بشكل أنيق –علامة الإسلاميّ بامتياز- أو يستمعون إلى الأشرطة الإسلامويّة فقد حُلقت لحاهم وسُحبت رُخص سياقتهم[34].
أُوقف الغنّوشي مجدّدًا في أوت /آب 1987 وحُوكم أمام محكمة أمن الدولة واتُّهم بالتحريض على العنف والتآمر ضدّ الحكومة. وكانت محاولة بورقيبة في قمع حركة الاتّجاه الإسلاميّ وغيرها من الإسلاميّين خطأ في التقدير وردّ الفعل. فقد أثارت المحاكمة تعاطفًا مع حركة الاتّجاه الإسلاميّ والجماعات الإسلاميّ الأخرى (بما في ذلك حركة الجهاد الإسلاميّ في لبنان) التي تضامنت مع نظيرتها التونسيّة. وعندما قضت المحاكم بسجن الغنّوشي مدى الحياة مع الأشغال الشاقّة أمر بورقيبة غاضبًا بإعادة محاكمته من جديد ممّا دعّم الشّكوك في أنّه أراد إعدام الغنّوشي وقُبرت المبادرة. لم تكن الجماعات الإسلاميّة مهما كان تهديدها الخطر الرئيسيّ على حُكم بورقيبة، فقد قوّض البيروقراطيّون استقرار الدائرة الداخليّة للرئيس فقد أقال زين العابدين بن علي، وهو جنرال سابق وشغل لفترة طويلة مضت منصب وزير الداخليّة وكان قد ترأّس حملات القمع التي تشنّها الحكومة على الجماعات الإسلامويّة مثل حركة الاتّجاه الإسلاميّ، رئيس الوزراء محمّد مزالي وخلفهُ رشيد صفر. وفضلاً عن ذلك قاد بن عليّ في 7 نوفمبر/تشرين الثاني انقلابًا غير دمويّ مدّعيًا أنّ “المجاهد الأكبر” البالغ من العمر 84 عامًا و”الرئيس مدى الحياة” خَرِف وغير مؤهّل لأداء واجباته الوطنيّة. فتولّى مقاليد السلطة رئيسًا ثانيًا للبلاد[35].
6- رئاسة بن عليّ:
بدت الأشهر الأولى من وصول بن علي إلى المشهد واعدةً. فقد ذهب في عمرة إلى مكّة، وأدمج اللغة الدينيّة في خطاباته، وأعاد فتح كلّيّة العقيدة في الزيتونة، وأعلن أنّ صيام رمضان سيراقب رسميًّا. ووافقت حركة الاتّجاه الإسلاميّ على تغيير اسمها في ديسمبر /كانون الأول 1988 إلى حزب النهضة ردًّا على التحرّر السياسيّ الظّاهر ومطلب بن عليّ ألّا يحتكر حزب ما الإسلام. ومع ذلك وبحلول نهاية 1988 سرعان ما أدرك التونسيّون أنّ زعيمهم الجديد لم يكن جديدًا على الإطلاق.
أعاد بن علي تسمية حزب بورقيبة الحزب الاشتراكيّ الدستوريّ بالتجمّع الدستوريّ الديمقراطيّ(RDC) لكنّ ذلك لم يغيّر من مركز الهيمنة للحزب داخل المشهد السياسيّ والاجتماعيّ التونسيّ ولم يخفّف أيضًا من نظام الاستبداد الذي سيطر على العمليّة الانتخابيّة وسعى إلى تهميش أيّة معارضة. وفي نيسان /أفريل 1989 خلال أوّل انتخابات رئاسيّة متعدّدة الأحزاب (وليس حزبًا أُحاديًّا) في البلاد بلغ متوسّط عدد الأصوات التي تحصّل عليها التجمّع الدستوريّ الديمقراطيّ حوالي 1.7 مليون صوت وانتخب جميع مترشّحيه. وعلى الرغم من حقيقة أنّهم لم يمنحوا صفة الحزب إلّا أنّ المركز الثاني ذهب إلى المرشّحين المستقلّين المدعومين من حزب النهضة الذي حصل على أكثر من 17% من الأصوات وفي المناطق الحضريّة على أكثر من 30%. ودعا قادة حزب النهضة مرةً أخرى مدعومين بعروضهم القويّة بن عليّ إلى الاعتراف رسميًّا بحزبهم وحثّوا على أنّه إذا واصلت الحكومة مسار بورقيبة وحرمتهم من المشاركة في السياسية، على الرغم من دعمهم الجماهيريّ الواضح، فإنّه ما عاد بمقدورهم السيطرة على الهوامش الأكثر تطرّفًا في صفوفهم[36]. وداخل دائرة النخبة المحيطة ببن عليّ جادل البعض بأنّ الوقت قد حان لأن يتوقّف الرئيس عن التساهل مع الإسلامويّين ويمحوهم مرّة واحدةً وإلى الأبد. والظاهر أنّه بسبب الحملة السياسيّة التي كانت وشيكة وخوفًا من العواقب غادر الغنّوشي ومناصرون رئيسيّون تونس في ماي /أيار 1989 إلى لندن (وآخرون إلى فرنسا)حيث عاش في منفى اختياريّ لمدّة 21 سنة. وقد علّق الغنّوشي في ذلك الوقت: “أصبحت جميع تنازلاتنا بلا جدوى ولا حتّى التخلّي عن اسم حركتنا ساعدنا. ولم يكن من المفيد أن نعتمد على أنفسنا بانتهاج المرونة والاعتدال لتجنّب العودة إلى المواجهة وأن نحافظ على موارد بلادنا بحيث لا يجوز استخدامها إلّا لأغراض التنمية ومواجهة التحدّيّات الهائلة التي تواجه أمّتنا”[37].
أحبط خروج الغنّوشي الاتّصالات بين قيادة النهضة وقاعدتها وفتح الطريق لزيادة التوتّرات بين حكومة بن عليّ وبعض أعضاء الحركة. وخوفًا من أن تؤدّي حرب الخليج إلى تأزّم الاستقرار الإقليميّ وإعادة توحيد حركة النهضة المنشقّة قام بن عليّ بحملة كاسحة على الجماعة واعتقل أكثر من 200 من أعضائها في أواخر ديسمبر/كانون الأوّل 1990[38]. وبعد ثلاثة أشهر في فبراير/شباط 1991 اتّهمت السلطات حزب النهضة بالوقوف وراء هجوم متعمّد استهدف مكاتب الحزب الحاكم، وبعد ذلك بتدبير مؤامرة للإطاحة بالحكومة كلّيًّا. وبعد ثلاثة أشهر في ماي/أيار زعمت قوّات الأمن بالتنسيق مع الجيش أنّها اكتشفت مخزنًا كبيرُا للأسلحة كان الإسلاميّون قد أخفوها كجزء من مخطّط عنيف ضدّ بن عليّ. لكنّ النهضة تنصّلت من مسؤوليّتها عن هذا الهجوم ولم تستطع الحكومة إثبات تورّط الجماعة فيه. وقد انتقدت منظّمات حقوق الإنسان النظام لأنّه استند في مزاعمه عن الأسلحة التي خبّأتها الحركة إلى الأدلّة السرّيّة. ومع ذلك أُلقي القبض على أكثر من 300 من قادة الحزب وأنصاره. وفي النهاية اعتقلت قوّات الأمن آلاف الأشخاص الآخرين، وبالنسبة إلى بن عليّ كان الحدث فرصة لشلّ المجموعة أكثر. فقد أدّت الحملة الحكوميّة لتشويه سمعة النهضة في نهاية الأمر إلى انقسام في قيادتها. وبالإضافة إلى ذلك ألقت قوّات الأمن بين عامي 1990 و1992 القبض على أكثر من 8000 من النشطاء في حملة[39]. وأصبحت عمليّات تفتيش المنازل في وقت متأخّر من الليل والغارات على البيوت أمرًا اعتياديًّا وتضاعفت قصص الاستجواب العنيف. وتوفّي ما لا يقلّ عن سبعة من أعضاء النهضة في الحجز. وتشير الأدلّة إلى أنّ وفاتهم كانت نتيجة للتعذيب[40]. وحوكم 297 عضوًا من قبل محكمة عسكريّة وحكمت عليهم بالسجن لمدّة تتراوح بين 15 عامًا والمؤبّد. وبالإضافة إلى حملة القمع الوحشيّة على النهضة، أنشأ بن عليّ جهاز الأمن الشخصيّ الخاصّ به والذي استخدم لتخويف الصحافة والقضاء وأيّ شكل من أشكال المعارضة المحتملة[41]. وكما ذكر كريستوفر ألكسندر (Christopher Alexander) “جمعت جماعات حقوق الإنسان خلال العقدين الماضيين مُلخّصًا ضخمًا جدًّا ضدّ الحكومة لمجموعة واسعة من الانتهاكات والاعتقالات طويلة الأمد في عزلة عن العالم الخارجيّ وانتزاع اعترافات من خلال مجموعة متنوّعة من أساليب التعذيب والمراقبة والتنصّت على الهاتف والتهديدات الموجّهة ضدّ أفراد الأسرة والفصل عن العمل وتلفيق قصص مشوّهة عن الحياة الشخصيّة من أجل تشويه السّمعة والابتزاز ومُصادرة جوازات السفر للمنع من السفر إلى الخارج والاعتداءات الجسديّة من قبل أعوان الأمن”[42].
7- السّلفية:
على الرغم من حقيقة أنّ الاقتصاد قد تحسّن وأنّ المُعارضة قُضي عليها إلّا أنّ القبضة الاستبداديّة المتزايدة وتعاظم نسبة السّكّان الذين يُعانون من عدم المُساواة الاقتصاديّ اليوم والفساد وانعدام المشاركة السياسيّة الحقيقيّة، أشياء ميّزت العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين ممّا أدّى إلى الثورة التونسيّة التاريخيّة.
ورغم أنّ ظهور السّلفيّة في السياسة التونسيّة هو ظاهرة حديثة فإنّ تاريخها ومظاهرها وتوجّهاتها المتنوّعة يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع وصول الإصلاح المصريّ الحداثيّ لمحمّد عبده إلى شمال إفريقيا. ويأتي مُصطلح السلفيّة من السلف ويعني “الأسلاف” أو الجيل الأقدم للمسلمين. في أواخر القرن التاسع عشر شرع محمّد عبده وتلميذه رشيد رضا في حركة إصلاح فكريّ/عقديّ وتربويّ أكّدت أنّ الدين والعقل/العلم متوافقان وأنّ الإصلاح الإسلاميّ يتطلّب عمليّة إعادة تفسير دينيّ(الاجتهاد). وانتشر تأثير الحركة في شمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا.
ويشير مُصطلح السلفيّة اليوم (الذي يتضمّن الوهّابيّة السعوديّة أيضًا) إلى المحافظة وأحيانًا إلى”التّزمّت” وهي حركات قد تكون غير سياسيّة أو سياسيّة. وتشير السلفيّة في السّياق التونسيّ المعاصر إلى مجموعة واسعة من الأفراد والحركات التي هي بحقّ يمينيّة. وغالبًا في أقصى اليمين من حركة النهضة. وعلى الرّغم من بعض أوجه التشابه فإنّ معتقداتهم وخطاباتهم وتفسيراتهم للإسلام وللعلاقة بين الدين والسياسة والتكتيكات غالبا ما تكون مختلفة بشكل واضح. علاوة على ذلك فهناك تباينات داخل الحركة السلفيّة.
هناك نوعان رئيسيّان من السلفيّة التونسيّة: السلفيّة العلميّة (تفهم على نحو أفضل على أنّها سلفيّة حرفيّة) والسلفيّة الجهاديّة. وينزع السلفيّون الحرفيّون إلى تجنّب السّياسة وينظرون إليها على أنّها فاسدة أخلاقيًّا. وبدلًا من ذلك تسعى هذه السلفيّة إلى إقامة خلافة أخلاقيّة نقيّة تتماشى مع مخطّط الله في الأرض وتعمل على أساس فرض الشّريعة. ويُنظرُ إلى الدّيمقراطيّة على أنّها تجديف مفروض من الحكم البشريّ في مقابل السّيادة أو الحكم الإلهيّ[43]. وفي حين شكّل بعض السّلفيّين الحرْفيّين مسارًا سياسيًّا (بمن فيهم محمد خوبه زعيم جبهة الإصلاح) فإنّ بعض الفروع تميل إلى أن تكون صغيرة وغير فعّالة. أمّا الجهاديّون السّلفيّون في تونس فغالبا ما يرفضون المشاركة السّياسيّة ولكنّ مقاربتهم في تغيير ديناميكيّات الحكومة تختلف عن الحرفيّين، فالجهاديّون يُصوّرون الحرْفيين على أنّهم خارج غير ذي صلة أو علاقة ويعتقدون أنّ الطّريق الوحيدة لتحقيق الإرادة والحكم الإلهيّ تكمن في التحدّي المباشر والمقصود والمواجهة العنيفة عند الاقتضاء[44].
وظلّ السّلفيّون في صمت لسنوات عديدة، فقد قُمعوا أو طُردوا إلى ظلام السرّيّة أو أُجبروا على الهرب إلى الخارج. والأهمّ من هذا فإنّهم على الرّغم من ذلك بدأ ظهورهم خلال العقد الأوّل من القرن الحالي في تونس. وشرع بعض الشّباب التونسيّون في البحث على الإنترنت أين وجدوا دعاةً أصوليّين ألكترونيّين، وانضمّوا إلى جيوب محلّيّة للنّشاط السّلفي، واعتنقوا صنفًا عنيفًا من النّشاط لا ضدّ قوى الكفر في الغرب فقط بل ضدّ حكوماتهم الخاصّة أيضًا.
ولأنّ “النّهضة” وغيرها من الجماعات الإسلامويّة قد قُمعت فإنّ بروز السّلفيّة حتّى ولو كان محدودًا فقد أثبت أنّه كان علامةً بارزةً لأنّه سمح لبن عليّ بتقديم رواية “التّهديد الإسلامويّ” إلى مستوى أكبر. وقد مثّلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر و”الحرب العالميّة على الإرهاب”التي قادتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وما أعقبها من أعمال إرهابيّة في أوروبا مصدرًا إضافيًّا لمنطق بن عليّ الشرعيّ. وقد كانت هذه الأحداث سندًا قويًّا للولايات المتّحدة الأمريكيّة في سعيها إلى اجتثاث المتطرّفين المسلمين وسمحت لبن عليّ بتقوية جهازه القمعيّ وتبرير انتهاكات الحرّيّات المدنيّة التي شملت التّعذيب والتنصّت على المكالمات الهاتفيّة والسّجن غير المُبرّر والمداهمات اللّيليّة والتّرهيب. وقد نفّذ إرهابيّو القاعدة في أفريل 2002 هجومًا عنيفًا على كنيس يهوديّ في جربة. ويشير ستيفانو توريلي (Stephano torelli) إلى أنّ “التونسيّين الذين قاتلو ا في أفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق منذ منتصف عام 2000 قد ربطوا صلاتهم بجهاديّي الخارج لتعزيز وجودهم في تونس، فقد بدأ الشّباب في ممارسة السّلفيّة لمقاومة نظام بن عليّ العلمانيّ”[45].
8- تعاظم الحيف:
على الرّغم من التّقدّم الاقتصاديّ في تونس فإنّ البطالة المرتفعة بين الشّباب والتّفاوت في الدّخل والفساد وانعدام المساواة بين الجهات تخلق مزيجًا ضارًّا من خيبة الأمل واليأس. وقد أدّى انخفاض الطّلب في السوق الأوروبيّة على المنتجات التونسيّة إلى تفاقم هذا الأمر، وبذلك انخفضت الصّادرات بحلول عام 2008 وتراجع القطاع الصّناعي أيضا.
وعلى الرّغم من أنّ الحكومة التّونسيّة نفذت حزمة إصلاحيّة في عام 2010 إلّا أنّها لم تفعل سوى القليل لمعالجة المشكلات الاقتصاديّة والعمليّة الأساسيّة، فهي على سبيل المثال لم تخلق فرص عمل لخرّيجي الجامعات التّونسيّة، فنحو 20% كانوا دون عمل نتيجة للاضطرابات الاقتصاديّة في أوروبا (وفي الولايات المتّحدة) ولم يستطع الشّباب التّونسيّ العمل في الدّاخل ولم تكن آفاق العمل واعدةً جدًّا. وكان هناك عدم تطابق واضح بين درجة التّخصّص والشهادة الجامعيّة، والوظائف الفعليّة التي كانت متوفّرة في السّوق. وهكذا بلغت البطالة 47% بين الخرّيجين الذين يحملون درجة الماجستير في الاقتصاد أو الإدارة أو القانون، وأكثر من 43% لحاملي درجة الماجستير في العلوم الاجتماعيّة، وحوالي 24% من خرّيجي الهندسة[46].
وقد أدّت الإصلاحات الاقتصاديّة لعام 2010 أيضًا إلى تعميق الفجوة القائمة بين المدن والمناطق الرّيفيّة في عدم المساواة الاقتصاديّة. وأقنع هذا العديد من النّاس الذين رأوا أبناء وطنهم في الأحياء الحضريّة يفعلون ما يحلو لهم، أنّ الحكومة كانت معزولة وتُركّز على سكّان المدينة وتهمل أولئك الذين يتواجدون خارج المدن الكبرى. ولم يكن بن عليّ ولا حكومته على وعي بدرجة وجود هذا السّخط والخراب[47].
وقد تفاقم عدم المساواة بسبب فساد عائلة بن عليّ. إذ أصدرت ويكيليكس برقيّة سرّيّة من سفارة الولايات المتّحدة في تونس كشفت عن فساد عائلة بن عليّ بما في ذلك نمط الحياة الباذخ والأعمال المشكوك فيها للسّيدة الأولى ليلى الطرابلسي في علاقة بصهرها محمّد صخر الماطري، وهو ابن 28 سنة ومن أباطرة المال. وفي برقيّة مؤرّخة في يوليو /جويلية 2009 قال السفير الأمريكيّ روبرت غودك (Robert Godec) إنّ”البذخ الذي يعيش فيه الماطري وزوجته وسلوكهما يوضّحان لماذا هما وغيرهما من أفراد عائلة بن عليّ غير مرغوب فيهم ومكروهون من قبل بعض التونسيّين”[48]. وقد قدّرت مؤسّسة النزاهة الماليّة العالميّة أنّ تكاليف الفساد قد تضخّمت مع مرور الوقت لتصل إلى حوالي مليار دولار أمريكيّ في السّنة[49]. مع العلم أنّ السّفير الأمريكيّ حذّر من أنّ تونس تعاني مشكلة حقيقيّة وأنّ بن عليّ رفض الاستماع إلى النّصيحة وأنّ “جوقة الشّكاوى آخذة في الارتفاع”[50].
سقوط بن عليّ وميلاد الجمهورية الثانية؟
عندما أدرك بن عليّ أنّ المتظاهرين أرادوا إنهاء نظامه توزّع مئات من رجال الأمن في الشّوارع وهاجموا بوحشيّة المتظاهرين. وكانت قوّات أمن الدّولة، والمخابرات، قد استخدمت في الماضي الرّصاص المطاطيّ والغاز المسيل للدّموع والهراوات وحتّى خراطيم المياه لقمع المعارضة. لكنّ بن عليّ هذه المرّة لجأ إلى القوّة المميتة. ففي 24 كانون الأوّل/ديسمبر أطلقت قوّات الأمن ذخائر حيّة من أسطح المباني المجاورة على المتظاهرين في منزل بوزيّان ممّا أسفر عن مقتل شخصين[51].. وبحلول نهاية كانون الثاني/جانفي قُتل ما لا يقلّ عن 300 شخص وأكثر من 700 جريح[52].
وقد أثبتت الوسائط الاجتماعيّة أنّها وسيلة اتّصال وتعبئة فعّالة. فقد كان الفايسبوك وتويتر والهواتف الخلويّة وغيرها من أشكال التّواصل حاسمًا لأولئك الذين يُنظّمون الاحتجاجات ضدّ الحكومة. ووفقًا لإحدى الدّراسات فإنّ 91% من طلّاب الجامعات في تونس احتفظوا بصفحة على فيسبوك وزاروها مرّةً واحدة على الأقلّ في اليوم، وقضّوا 105 دقيقة في المتوسّط[53]. لقد انتشرت المعلومات حول المظاهرات بسرعة وأعمال الحكومة سُجّلت ونُشرت ليراها العالم. ولمجابهة هذا الوضع حظر بن عليّ موقع اليوتيوب والمذكّرة اليوميّةDaily Motion ومواقع الوسائط الاجتماعيّة الأخرى. وأكّد ضابط الأمن الرّئيسيّ في فايسبوك جو سوليفان Joe Sollivan)) في ديسمبر 2010 أنّ الحكومة التّونسية حاولت اختراق فايسبوك وسرقة كلمات مرور المستخدمين لكنّها توقّفت عن ذلك. وعندما كان النّشطاء يتفوّقون على برنامج الحكومة الصّارم للرّقابة تراجعت الحكومة وأعلنت في يناير/جانفي 2011 أنّه قد رفعت التّدفّقات[54]. كان التنازل والوعود بإجراء المزيد من الإصلاحات متأخّرًا. وفي مساء يوم 14 يناير/جانفي تخلّى زعيم تونس لثلاث وعشرين سنةً عن المواجهة ودُفعت البلاد إلى طريق نحو جمهوريّة ثانية.
9- أين كان الإسلامويّون؟:
تساءل كثيرون في الأيّام الأولى من الاحتجاجات لماذا كما كتب أوليفيه روا (Olivier Roy) في نيويورك تايمز “لا يوجد شيء إسلاميّ عن هذا الموضوع”[55]. وكان السّبب الرّئيسيّ كما نوقش سابقا في هذا العمل هو استبعاد النهضة من المشاركة في سياسة الأحزاب وإجبارها على التّخفّي بينما كان العديد من القادة الأكثر نشاطًا في الحركة مثل الغنّوشي في المنفى بالخارج. بالإضافة إلى ذلك، بما أنّ الثورة لم تكن في المقام الأوّل عن الإسلام فإنّ التّونسيّين كانوا أقلّ قلقًا بشأن دور الإسلام في المرحلة الانتقالية وكانوا مهتمّين أكثر بالحكومة الجديدة ومؤسّساتها السّياسية وإرساء الدّيمقراطية. أظهرت استطلاعات لـ 1201 من التونسيّين و4080 من المصريّين في أكتوبر ونوفمبر 2012 أي بعد ما يقرب من عام من انتخابات ما بعد الثورة أنّ أقلّيّة من السّكان – 26% في تونس و28 % في مصر – يعتقدون أنّ الإسلام يجب أن يلعب دورًا حكوميًّا[56]. وفي تونس تحديدًا كان 27% فقط من التّونسيّين الذين صوّتوا لصالح النّهضة في عام 2011 يرغبون في علاقة وثيقة بين الدّين والسّياسة و32% من الذين شملهم الاستطلاع يضعون النّموّ الاقتصاديّ على رأس قائمة أولويّاتهم[57].
ولم يحل غياب الإسلاميّين الأوّلي وقلق التّونسيّين على المسائل غير الدّينيّة دون ظهورهم مرّةً أخرى في السّياسة وتحقيق نصر مذهل في الانتخابات. أثار هذا تساؤلات عديدة منها هذان السّؤالان: “لماذا أظهر حزب النّهضة أداءً قويًّا في الانتخابات؟ وكيف يمكن لمجموعة انفصلت عن قوّة الثورة أن تكتسح المشهد في السّاعة الحادية عشرة وتكسب؟”. لقد تركت الإطاحة ببن عليّ لأوّل مرّة فراغًا في أروقة السّلطة في العاصمة. وبعد ثلاثة وعشرين عامًا من حكم البلاد كان الرّئيس قد اختفى ولم يكن هناك نظام مكين لاستبداله. وبينما يأمل العديد من بقايا “الحرس القديم” في البقاء (ويحاولون)، فإنّ أولئك الذين أسقطوا زعيم بلادهم المتورّط لن يسمحوا لهم بالبقاء في السلطة.
ثانيًا، رغم أنّ حزب النّهضة كان منفيًّا فهو لم يكن مُغيّبًا سياسيًّا. وعندما عاد الغنّوشي إلى وطنه تونس في جانفي/يناير 2011 كانت الحركة منظّمة تنظيمًا جيّدًا على الرغم من قمعها ولها قادة جماهيريّون وخصوصًا الغنّوشي. والأهمّ من ذلك كان لها تاريخ طويل بوصفها معارضة رئيسيّة لبورقيبة وبن عليّ ولها ندوب المعركة التي منحتها الشّرعيّة الشّعبيّة. وتمكّنت حركة النهضة في ظلّ غياب أحزاب سياسيّة قويّة نسبيًّا وظهور العديد من الأحزاب الجديدة والضّعيفة من الصعود فورًا إلى السّلطة.
وأخيرًا فإنّ سنوات الغنّوشي في المنفى زوّدته بالفضاء المناسب لرؤية فكره وإعادة صقله من أجل تحسين فهمه للعلمانيّة والديمقراطيّة والدراية بتطبيقاتها المحتملة المتنوّعة في العالم العربيّ وتونس على وجه الخصوص والعودة إلى الوطن في 2011 بحسّ الاتّجاه.
سجّلت هيئة الانتخابات (ISIE) المزيد من النّاخبين في جميع أنحاء البلاد. وسجّل ما يقارب 4 ملايين من أصل ما يُقدّرُ ب 7.5 مليون ناخب مؤهّل بحلول نهاية أغسطس/أوت 2011[58]. وأُجريت في 23 أكتوبر من ذلك العام أوّل انتخابات حرّة في البلاد منذ حصولها على الاستقلال عام 1956، وهي أيضًا الانتخابات الأولى في العالم العربيّ. أمّا المسؤولون الحكوميّون السّابقون لبن عليّ الذين يشعرون بالقلق من أنّ حزب النهّضة سيفوز بالانتخابات فشكّلوا عدّة أحزاب بما فيها الوطن وحزب العدالة والحرّيّة والمبادرة. وردّ راشد الغنّوشي بأنّ قوى النّظام القديم كانت “تسعى إلى التّحايل على الثورة…من خلال أحزاب جديدة وخلف الكواليس من خلال المناورة بشخصيّات قويّة من عهد بن عليّ”[59]. وأوضح الغنّوشي من خلال الحملة الانتخابيّة أنّ حزب النّهضة لا ينوي تطبيق الشّريعة. وأعلنت ابنته سميّة الغنّوشي “نحن لا نؤمن بالتّيوقراطيّة التي تفرض نمط حياة أو أفكارا أو طُرُقًا ما للعيش على النّاس، بل نحن نؤمن بحقّ كلّ امرأة ورجل تونسيّ في اتّخاذ هذا الخيار”[60]. وينظر الكثيرون إلى النهضة على أنّها “أكثر صدٌقًا من العلمانيّين الفاسدين” و”وفيّة لقيمها”[61].
كانت الانتخابات، حسب معظم المؤشّرات انتصارًا للديمقراطية ولا شيء يماثلها تاريخيًّا في منطقة أحاطت بها نتائج محدّدة سلفًا وإكراه النّاخبين ونسبة مشاركة تزيد على 50% فإنّ أغلبيّة التونسيّين ـ حوالي 40% أدلوا بأصواتهم لفائدة النّهضة. كان الحزب هو الأقوى إلى حدّ بعيد في المجلس التّشريعيّ ووافق على التّعاون مع الوصيفين وهما المؤتمر من أجل الجمهوريّة (CPR) والتّكتّل. وتبدو بيانات الاستطلاعات التي أجريت بعد الانتخابات الأولى التي جلبت أوّل حزب إسلامويّ إلى السّلطة ملفتة للنّظر. فبينما يعتقد الكثير من التّونسيّين أنّ على الدّين أن يوجّه السّياسة فإنّ معظمهم لم يسعوا إلى دور نشط للدّين أو الأديان في الحياة العامّة[62]. فعلى سبيل المثال وافق 78.4% من المستجوبين على أنّ “رجال الدّين لا ينبغي لهم أن يؤثّروا في المواطنين كيف ينتخبون ويعتقد 30.6% أنّه سيكون من الأفضل لو أنّ تونس لديها المزيد من المسؤولين الدينيّن المناسبين في مناصبهم”[63]. وفضلًا عن ذلك وافق 78.5% على أنّ الدّين هو أمر خاصّ ويجب أن يكون منفصلًا عن الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة. وصرّح 94% أنّهم يعتقدون أنّ الثّورة ستحقّق فرصًا اقتصاديّةً أفضل وتحسّنًا في حقوق الإنسان وقال 63% إنّ السّبب الرّئيسيّ للثورات هو السّخط الاقتصاديّ. وهكذا فإنّ ظهور النّهضة منتصرة في انتخابات المجلس التّأسيسيّ يُلمع إلى رؤية راشد الغنّوشي للإسلام بوصفه عاملًا في الهويّة التونسيّة والثّقافة والسّياسة ولكن ليس القائد. ويبدو أنّ هذا متناغم مع رغبات معظم التّونسيّين.
انتخب المجلس التّأسيسيّ الذي كان يهيمن عليه حزب النّهضة في ديسمبر/كانون الأوّل المنصف المرزوقي رئيسًا للبلاد، وهو طبيب وناشط في مجال حقوق الإنسان ومؤسّس حزب “المؤتمر من أجل الجمهوريّة” والذي كلّفه اعتراضه على إساءة استخدام السّلطة من قبل بن عليّ انتقاله إلى باريس. كان لكلّ من الغنّوشي والمرزوقي التزام متبادل بالديمقراطيّة التونسية التي تجاوزت بشكل عامّ التّغيّرات الأيديولوجيّة ووضعت مصالح البلاد فوق مصالح أحزابها. واتّفقا على الحفاظ على نصّ المادّة الأولى من دستور عام 1957 “تونس دولة حرّة مستقلّة وذات سيادة الإسلام دينها”ممتنعين عن ذكر الشريعة الإسلاميّة[64]. وشهدت فترة الأشهر الستّة الأولى من المرحلة الانتقاليّة مشاكل حادّة تجاوزت المخاوف الدّينيّة والأيديولوجيّة. فقد تضرّرت السّياحة بشدّة جرّاء الثّورة إذ انخفضت الإيرادات بنسبة 40% والاستثمار الأجنبيّ المباشر بنسبة 60% وكان النّموّ الاقتصاديّ محدودًا وارتفعت البطالة إلى نسبة 20% في جميع المجالات (بالنسبة إلى خرّيجي الجامعات في 2011 بلغت نسبة البطالة 25%). وممّا زاد الأمور تعقيدًا أنّ تونس خسرت أيضًا إيراداتها من التّحويلات الماليّة. فقد كان المواطنون ضحايا العنف الأوّليّ لأوروبا وغيرها من المواقع. وكان على الحكومة أيضًا أن تتعامل مع أزمة اللاجئين المتزايدة والحرب الأهليّة الليبيّة التي كانت تستعر في الجوار ممّا يعني أنّ حوالي 150.000 مواطن تقطّعت بهم السّبل وبحاجة إلى مساعدة على امتداد الحدود. وعلى الرّغم من اختلالاتها عملت الحكومة الائتلافيّة على استقرار تونس[65].
وظلّت السّياسة الدّاخليّة متقلّبة يغذّيها العلمانيّون والسّلفيّون بوجه خاصّ. في الطّرف الأوّل من السّجال كانت النّخب العلمانيّة المتعلّمة التي أصرّت على الفصل بين الدّين والسّياسة ومن جهة أخرى هناك شريحة متزايدة من الشباب الذين قادتهم ميولاتهم إلى الاستقرار على نظرة سلفيّة متشدّدة للعالم والتي أدّت إلى نشوب العنف أحيانًا. ففي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2011 اشتبك مئات من السّلفيّين مع العلمانيّين قرب تونس في مواجهة حول الفصل في قاعات الجامعة وارتداء الحجاب الكامل للوجه(النّقاب). ومنعت الطّالبات اللّاتي يرتدين النّقاب من الدّخول إلى كلّيّة الآداب بمنّوبة قرب تونس العاصمة ممّا خلّف موجةً من المؤيّدين الغاضبين. وفي حزيران /جوان 2012 برز صدام آخر بين المجموعتين لمّا هاجم السّلفيّون معرضًا فنّيًّا في تونس بسبب عرض اتّهموه بإهانة الإسلام. وبالمثل ففي مدينة سوسة القريبة هاجمت مجموعة من الغوغاء متجرًا محلّيًّا للفنون الجميلة بالقنابل الحارقة. وفي المنستير وكذلك في بن قردان على الحدود اللّيبيّة نشبت مناوشات بين العلمانيّين والسّلفيّين. وأدّى مقتل شكري بلعيد في فبراير/ فيفري 2013، وهو ناشط علمانيّ يبلغ من العمر 48 سنة وناقد قويّ للإسلامويّين والنّهضة (كلّ من النّهضة والسّلفيّن)، إلى اندلاع اضطرابات سياسيّة واسعة النّطاق واحتجاجات. وجاء مقتل بلعيد في وقت تدهورت فيه العلاقات بين حكومة النّهضة والمعارضة. وأدّى إلى هذا التّشنّج بين العلمانيّين والإسلامويّين إلى إعاقة خطّة رئيس الحكومة حمّادي الجبالي، عضو حزب النّهضة لحكومة غير حزبيّة من التّكنوقراط. كان أمل الجبالي أن يجلب الهدوء إلى البلاد ويشكّل ائتلافا من شأنه أن يأخذ تونس نحو الانتخابات. لكنّه لم يتشاور مع حزب النهضة أو المعارضة العلمانيّة. متعهّدًا بالتّنحّي إذا كانت الخطّة قد تعثّرت. وشكّلت استقالة حمّادي الجبالي في 19 فبراير/فيفري 2013 خطرًا بمزيد من التّقلّبات وحثّ المرزوقي الغنّوشي على تعيين رئيس جديد للحكومة في أعقاب استقالة الجبالي. وخلفه علي العريّض النّاشط السّابق في حركة الاتّجاه الإسلاميّ الذي سُجن وعُذّب على امتداد 30 سنة (ثلاث عشرة منها كانت انعزاليّة) من قبل بن عليّ. وقال:”كنت أموت عدّة مرّات في سجون وزارة الدّاخليّة. لكنّي أذكر الاختلاف بين تلك الفترة والآن. لقد جاءت الثورة من أجل التّقدّم وإقامة عدالة انتقاليّة وليس السّعي إلى الانتقام”[66].
وكافح العريّض للحفاظ على الائتلاف معًا. ورغم نداءات المعارضة العلمانيّة لتعيين تكنوقراطيّين غير سياسيّين لمؤسّسات الدّولة الحسّاسة فإنّ الحكومة التي ظهرت كانت مكوّنة من نفس الأحزاب التي كانت موجودة قبل اغتيال بلعيد. ومع ذلك كانت هناك مؤشّرات على أنّ حزب النهضة والحكومة الائتلافيّة مازالا يعملان في إطار روح التّعاون وليس في نزاع. ثمّ قدّمت النّهضة تنازلاً رئيسيًّا في القبول بأن تُسند وزارات مثل الدّاخلية والعدالة إلى مرشّحين مستقلّين.
وواجهت الحكومة الائتلافيّة انتقادات حادّة من أولئك الذين أثاروا بأنّ العمليّة كانت بطيئة للغاية. لكنّ قلّة يمكن أن تنكر أنّه على الرّغم من ومضات التّقدّم فإنّ الصّراعات وانعدام التّوافقات ظلّ في المؤسّسات الرّاسخة لا سيما المجلس التّأسيسيّ. بقي الاستقطاب بين السّلفيّين المتطرّفين والعلمانيّين المخلصين موضع مزايدة في الوضع السّائد رغم اعترافهم بأهمّيّة التّعاون في التّغلّب على التّحدّيّات المستقبليّة. في مصر كان هناك تناقض حادّ حيث حُلّ البرلمان ثمّ عُزل الرّئيس المنتخب ديمقراطيًّا بانقلاب عسكريّ وحُظرت جماعة الإخوان المسلمين وأصبح العنف حدث كلّ يوم[67].
10- انتقال مأزوم:
كشف العريّض في أوائل مارس 2013 النّقاب عن حكومة الائتلاف التي طال انتظارها وتوقّفت بسبب الأزمة السّياسيّة النّاجمة عن اغتيال بلعيد. ومع ذلك وقع التّوصّل إلى صفقة في اللحظة الأخيرة ممّا أتاح للحكومة أن تتبلور وأن تشرف على شؤون البلاد حتّى نهاية العام عندما تُجرى الانتخابات.
وقد دعم حزب “التّكتّل” من يسار الوسط الحكومة الجديدة كما فعل “المؤتمر من أجل الجمهوريّة” العلمانيّ الذي يقوده الرّئيس التونسيّ منصف المرزوقي رغم أنّ العريّض وحلفاء النّهضة كانوا يأملون في بناء ائتلاف واسع النّطاق يعكس قطاعًا متنوّعًا أكثر من السّكان، فقد انسحبت ثلاثة أحزاب دُعيت في البداية إلى المشاركة في المحادثات تاركةً مهمّة تشكيل حكومة جديدة للعريض وحزبه النّهضة والتّكتل والمؤتمر من أجل الجمهوريّة. وأكّد عجز الحكومة على إدماج المزيد من الأحزاب السياسيّة في النّقاش على الطّبيعة الحسّاسة لعمليّة الانتقال في مرحلة ما بعد بن عليّ. وقدّمت النهضة تنازلات هامّة للحفاظ على الوحدة الوطنيّة ومنها الموافقة على التّنازل عن الوزارات الرئيسيّة، بما في ذلك وزارة الدّاخليّة ووزارة العدل إلى مرشّحين مستقلّين[68]. وكانت التّنازلات عماد حسن النّية من جانب العريّض الذي كان يأمل في تجنّب المزيد من عدم الاستقرار والنّزاع. حدّد هذا الفعل معيارًا لدول أخرى في المنطقة حيث فشلت مفاوضات صعبة مماثلة في كثير من الأحيان في التّوصّل إلى حلّ لمّا رفض كلّ طرف التّخلّي عن موقفه.
كان ربيع عام 2013 فترة انتقاليّة مضطربة تميّزت بعدد من الأحداث المتوتّرة التي أظهرت السّخط المتزايد والعداوة بين المعارضة العلمانيّة وحركة النّهضة، وبين النهضة والسّلفيّين المتشدّدين. وأدّى القبض على أمينة السّبوعي (المعروفة أيضًا باسم أمينة تايلر) وهي ناشطة في التّاسعة عشرة من عمرها عرضت نفسها عارية الصّدر بوصفها تجسيدًا لـ “فيمن” (Femen)، وهي جماعة أوكرانية تعمل على إثارة الانتباه إلى قضايا المرأة، إلى إطلاق حوار وطنيّ وإقليميّ حول دور المرأة في مجتمعات ما بعد الثّورة. الجماعات السّلفيّة مثل أنصار الشريعة عقّدت الأمر أمّا الدّاعية عادل العلمي رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي منظّمة غير حكوميّة من منظّمات المجتمع المدنيّ، فاقترح أن تُجلد تايلر من ثمانين إلى 100 جلدة علنيّة بسبب تصرّفاتها بل حتّى إنّه جادل بشأن الموت رجمًا هو العقاب الأكثر ملاءمة[69].
تألّف السّلفيّون من عدّة مجموعات مختلفة وبدرجات متفاوتة من التّشدّد. وقد تواصلت حركة النهضة في البداية مع السّلفيّين كما فعلت مع مجموعات أخرى بسبب التزامها بالتّعدّديّة السيّاسيّة لأنّها رأت فيهم حلفاء محتملين وخشية أن تكون عرضةً للاتّهامات السّلفيّة بأنّ الحكومة تتنازل عن الدّين الإسلاميّ والقيم الإسلاميّة أيضًا.
وسجّلت الحكومة في عامها الأوّل ثلاثة أحزاب سلفيّة إضافة إلى حزب التّحرير مثلما سجّلت أحزابًا أخرى فضلاً عن الجمعيّات والمدارس الخيريّة السلفيّة. وازدهرت العناصر السّلفية الأكثر تطرّفًا في المناخ الجديد لحرّيّة التعبير، فقد استولى السّلفيّون على مئات المساجد من جانب واحد (1000 مسجد من أصل 5000 في تونس) ممّا دفع الأئمّة والمصلّين الأصليّين إلى مغادرتها وطالب الكثيرون بأن تكون الشّريعة أساسًا للدستور وتنظيم احتجاجات متكرّرة ضدّ ما اعتبروه تهديدات للإسلام أو انتهاكات للثقافة والممارسات الإسلامية. وحشد السلفيّون أطيافًا ساخطة من السّكّان بما في ذلك العديد من الشباب الذين انضمّوا إلى التّنظيمات الأهليّة. وهاجموا الفنّانين على وجه الخصوص وخُرّبت معارض تُظهر الأعمال الفنّيّة المعاصرة في أعمال شغب أدّت إلى مقتل شخص وإصابة أكثر من مائة شخص ودُنّس أيضًا مقام صوفيّ.
ومع ذلك استثمر النّقّاد الوضع متّهمين بأنّ الاختلاف ضئيل بين النّهضة والسّلفيّين وأنّ النّهضة كانت غير قادرة أو غير راغبة في وضع حدّ لما أصبح يشكّل مُعضلة أمنيّة خطيرة. أخيرا وقبل انتخابات 2014 تحرّكت حكومة النّهضة بشكل حاسم لاستعادة المساجد التي افتكّها السّلفيّون واحتلّوها. وسعى وزراء الحكومة إلى وصل جماعات مثل أنصار الشريعة بالقاعدة التي تعتبر الأكثر تطرّفًا في الجماعات المتشدّدة التي ظهرت بعد ثورة2011، وبسيف الله بن حسين مقاتل القاعدة السّابق في أفغانستان بشنّ حرب ضدّ حكومة النهضة متّهمًا إيّاها بسياسات تخالف الإسلام[70].
أصبح الحزب الحاكم في تونس عقب الانقلاب العسكريّ الذي خلع محمّد مرسي وزجّ به وبمئات من زملائه من الإخوان المسلمين في الحجز العسكريّ الحكومة الوحيدة التي يقودها الإسلاميّون في المنطقة. كان الكثير بمن فيهم قادة الحكومات الأجنبيّة والأمم المتّحدة يخشون أن يكون للأحداث في مصر تأثير خطير على مستقبل الدّول الأخرى واستقرارها بما فيها تونس. عمل العريّض رئيس الحكومة على تهدئة تلك المخاوف قائلًا: “يتّسم نهجنا بالإجماع والشّراكة واحتمال وجود سيناريو مصر أمر غير محتمل في تونس لأنّ لي ثقة كبيرة في وعي التّونسيّين وقدرتهم على تقدير إمكانات بلادهم”[71].
واستنكرت الحكومة التّونسيّة الانقلاب العسكريّ الذي قاده جيش مصر والعنف الوحشيّ والقمع في مصر ودعا الغنّوشي الإخوان المسلمين إلى البقاء في شوارع مصر حتّى يُطلق سراح مرسي. وعندما فتحت قوّات الأمن المصريّة النّار على تجمّع الإخوان المسلمين في 08 جويلية/يوليو اتّهم القوّات الانقلابيّة بارتكاب مذبحة في حقّ المتظاهرين السّلميّين المناصرين للرّئيس الشّرعيّ وطالب المصريّين بـ”رفض الانقلاب ودعم الجبهة الشّرعيّة المساندة للدّيمقراطيّة”[72]. وقد عبّر المرزوقي الرّئيس العلمانيّ للبلاد أيضًا عن استيائه من سلسلة الأحداث التي نجمت عن إسقاط مرسي قائلًا: “إنّها كانت ضربةً للديمقراطيّة”[73].
11- إثارة القلاقل والاضطرابات:
وعلى الرّغم من تنازلات قادتها، استمرّت الحكومة التي يقودها حزب النّهضة في مواجهة الاضطرابات السّياسية التي انجرّت عن أعمال العنف والاغتيالات المُخطّط لها والمنفّذة بعناية. ففي 25 جويلية/يوليو اغتيل زعيم المعارضة العلمانيّة محمّد البراهمي، وهو عضو في “الجبهة الشّعبيّة اليساريّة” ومنتقد النّهضة، خارج منزله في ضاحية “أريانة” بتونس وجثّته مليئة بأربع عشرة رصاصة. كان القتل متطابقًا تقريبًا مع مقتل شكري بلعيد قبل ستّة أشهر فقط. على الرّغم من أنّ المهاجميْن هربا على متن درّاجة ناريّة فقد أشار تقرير لوزارة الدّاخليّة إلى أنّ البراهمي قُتل بنفس السّلاح الذي استُخدم في قتل بلعيد. وأشارت المعطيات الأوّليّة إلى المُتشدّد السّلفي بوبكر الحكيم[74].
وأدّى اغتيال البراهمي إلى احتجاجات شوارع ضخمة وأذكى جماعات المعارضة العلمانيّة التي ادّعت بشكل مخادع أنّ اتّهاماتهم للنهضة بالمشاركة المحتملة قد وقع التّحقّق منها. وعزّز ادّعاءهم هجومٌ على جبل الشعانبي بعد أربعة أيّام من اغتيال البراهمي، فقد قام مسلّحون بنصب كمين لثمانية جنود تونسيّين في موقع حراسة بالقرب من الحدود الجزائريّة وقتلوهم جميعًا. وأفادت منظّمة”هيومن رايتس واتش” عن تكرار حادّ للعنف في فترة ما بعد بن عليّ التي هدّدت بتقويض الحقوق والإصلاحات: “خلال هذا العام كانت الاعتداءات تتعالى ضدّ المثقّفين والفنّانين ونشطاء حقوق الإنسان والصّحفيّين من قبل الأفراد أو الجماعات الذين ظهروا مدفوعين بجدول أعمال دينيّ. وبينما فرّ العديد من الضّحايا من مراكز الشّرطة فور وقوع الاعتداءات أثبتت الشرطة أنّها غير راغبة أو غير قادرة على العثور على المهاجمين المزعومين أو إلقاء القبض عليهم[75]. في أعقاب الإطاحة بمرسي وبدافع من قتل شخصيّات مثل بلعيد والبراهمي وسلسلة من التفجيرات التي هزّت المراكز الحضريّة في البلاد كثّفت جماعات المعارضة خطاباتها ومظاهراتها. ونما العداء بين العلمانييّن المتشدّدين والحكومة التي يقودها حزب النهضة في ظلّ اختيار العديد من التّونسيّين العاديّين الحياة مع الجانبين في مجال عامّ مستقطب بشكل متزايد.
وبرزت إلى الوجود جماعة “تمرّد” (عصيان) في تونس على غرار المنظّمة المصريّة التي ساعدت في دفع الانقلاب العسكريّ المصريّ، داعيةً إلى حلّ البرلمان فورًا بعد اغتيال البراهمي وأصدرت المجموعة بيانًا دعا التونسيّين إلى “احتلال الشوارع حتّى سقوط الحكومة”وأضاف “لا يمكننا بلوغ مكان ما بكلمات فارغة الحلّ الأفضل هو الخروج إلى الشّوارع ضدّ السّلطات التي لا تعرف معنى حماية المواطنين”[76]. وتظاهر آلاف التّونسيّين في الشوارع مطالبين الحكومة بالاستقلال. وكان مشهدًا مكرورًا. ودعا أكبر اتّحاد عمّاليّ في البلاد، الاتحاد العامّ التّونسيّ للشّغل (UGTT) إلى حكومة تكنوقراطيّة تحُلّ محلّ حكومة النّهضة متّهمًا إيّاها بعدم القدرة على القيام بعملها[77]. وخوفًا من الاضطرابات السّياسيّة شرع أعضاء المجلس التّأسيسيّ في سحب عضويّاتهم وتحطيم أساس استقرار البلاد والقدرة المؤسّسيّة ورفضت المعارضة العلمانيّة في أواخر أوت/أغسطس اقتراحًا بإجراء”الحوار الوطنيّ” لمعالجة قضايا الحكم والأمن.
12- حزب النهضة يستقيل:
في 28 ديسمبر 2013 انسحب حزب حركة النهضة من الحكومة بعد أشهر من الجدل السّياسيّ. وكانت هذه هي المناسبة الثانية التي اختارت فيها التّسوية للحدّ من عدم الاستقرار السّياسيّ وحماية الوحدة الوطنيّة. وسلّم حزب النهضة السّلطة إلى حكومة انتقالية مؤقّتة لقيادة البلاد نحو الانتخابات البرلمانيّة (أدّت الحكومة الجديدة اليمين بعد يومين من إقرار الدستور)في محاولة لمنع أيّ هيئة من أن تصبح قويّة للغاية (وبالتالي الحفاظ على مؤسّسة ناجعة للديمقراطيّة :الضوابط والتوازنات)، وظلّ المجلس التأسيسيّ الذي احتفظت فيه النهضة بأكبر عدد من المقاعد على حاله، وهو بمثابة ضمانة للإرادة الجديدة. وفي حين رأى بعض أعضاء النّهضة (والمعارضة العلمانيّة) الاستقالة على أنّها هزيمة اختار صُنّاع القرار في النهضة طريقًا أقلّ إثارةً للجدل وهو طريق وضع الأهداف السّياسيّة الشّاملة للحكم الدّيمقراطيّ والوحدة الوطنيّة قبل الطّموحات الشخصيّة أو المركزيّة. قال رفيق عبد السّلام وهو وزير الخارجيّة السّابق “يوصف (حزب النّهضة) بأنّه حزب التّنازلات نحن لا نخجل من هذه التّنازلات لأنّ تونس بحاجة إليها ولتأمين تجربتنا الدّيمقراطيّة حتّى تتمكّن تونس من الوصول إلى شاطئ الأمان”[78].. وكان القرار مثمرًا.
13- ثمار الثورة:
قام المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ بإعادة هيكلة الحكومة فقد عُيّن وزير الصّناعة مهدي جمعة رئيسًا للوزراء ورئيسًا لحكومة تصريف الأعمال. وتميّزت عمليّة إنهاء الدّستور بنقاش حادّ ومفاوضات مثيرة للجدل طوال فصل الخريف وأوائل شتاء 2013، وتتّجه أكثر الأغلبيّة المحافظة والمعارضة العلمانيّة في أكثر من مناسبة إلى التراجع دون الاتّفاق على قضايا أساسيّة مثل حقوق المرأة وحُرّيّة التعبير والدّين. ونتيجة لذلك عكست عديد الفصول سجالات مجموعات المصالح المتنوّعة وتقلّباتها، فالفصل السّادس على سبيل المثال حاول استرضاء قطاعين متباينين للغاية من المجتمع: إطار دينيّ رأى أنّ الحكومة هي حامي الدّين وجماعة علمانيّة قويّة ترى في الحكومة حاميًا من الدّين[79]. وأنتج المرور بهذا المسار الحسّاس من عدم التّوافق إلى مقطع مكتوب بصعوبة “الدّولة راعية للدين كافلة لحرّية المعتقد والضّمير وممارسة الشّعائر الدّينيّة، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. وتلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال والتّسامح وبحماية المقدّسات ومنع النّيل منها كما تلتزم بمنع دعوات التّكفير والتّحريض على الكراهية والعنف وبالتّصدّي لها”[80]. وقد سمحت الصّياغة غير الدّقيقة بمجموعة متنوّعة من التّأويلات ويمكن استخدامها بسهولة كأداة لتعزيز أيديولوجيا بعض الأطراف الشّخصيّة في إطار حكم قانونيّ[81].
وبالإضافة إلى ذلك يمكن استخدام المادّة 22 التي تضمن “الحقّ في الحياة” في المراحل المبكّرة من الحمل على المادّة 7 التي تُعرّف الأسرة على أنّها “نواة المجتمع” فتح محتمل للقيود المستقبليّة على الطّلاق[82]. وعلى الرّغم من هذه المخاوف في 26 جانفي/كانون الثاني 2016 وبعد ثلاث سنوات من الإطاحة بالمظاهرات ببن علي نجح السياسيّون التّونسيّون في التّوصّل إلى اتّفاق حول الدّستور. استُقبل الدستور على أنّه نجاح تاريخيّ في العديد من الأرجاء المحلّيّة والعالميّة. ورغم أنّ الفصول المحدّدة من المرجّح أن تكون موضوعًا للنّقاش والجدل على مرّ السّنين فإنّ الإجماع هو شهادة على التّحوّل الدّيمقراطيّ في تونس في أعقاب الإطاحة ببن عليّ: إعادة بناء العمليّة السّياسيّة بطريقة تحقّق مؤسّسات الديمقراطيّة ولا تسمح لمجموعة واحدة أو فرد بالهيمنة على العمليّة. وبينما صُمّم الدستور المصريّ لمنفعة الأشخاص الذين سيصلون إلى السّلطة في نهاية المطاف فإنّ تطبيق الدّستور التّونسيّ قبل الانتخابات الرّئاسيّة والبرلمانيّة كان علامةً مشجّعةً على أنّ الوثيقة تشكّل البنية التّوجيهيّة الثّابتة التي يجب أن تحدث في المجتمعات الدّيمقراطيّة.
ومن الأمور الأساسيّة في هذه العمليّة انخراط الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل ومجموعات المجتمع المدنيّ، بما في ذلك اتّحاد الأعراف والهيئة الوطنيّة للمحامين والرّابطة التونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان. وكان الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل مرنًا وفعّالاً لا سيما أنّه كان بمثابة منصّة لمثل هذه المجموعة الواسعة من الأصوات والآراء، التي تجمعهم في خدمة هدف مشترك. الاتّحاد وحّد جميع المواطنين من جميع الطّبقات الاجتماعيّة واحتضن الأطبّاء والمحامين والمصرفيّين والمدرّسين والعمّال، وهو منظّمة غير حزبيّة بما يعني أنّها كانت أكثر قدرة على الجمع بين مجموعة واسعة من الأحزاب السّياسيّة والتّوجّهات الأيديولوجيّة من خلال الجمع بين هذه المجموعة المتنوّعة وإقامة توازن تشاركيّ مع مجموعات المجتمع المدنيّ سالفة الذّكر. وكان الاتّحاد العام التّونسي للشّغل يمثّل تحدّيًا هائلاً للحكومة ممّا أجبرها في النّهاية على التّفاوض[83]. وكما كتبت سارة شايز”من دون المشاركة الفعليّة للاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل –ربّما هو المنظّمة الوحيدة التي تتنافس قوّتها وشرعيّتها مع الإسلامويّين- فمن غير المحتمل أن تكون التّسوية السّياسيّة الرائعة في تونس قد حدثت”[84].
14- انتخابات 2014 البرلمانيّة:
كان عام 2014 نقطة تحوّل في حظوظ النّهضة السّياسيّة، فقد فاز حزب نداء تونس بـ 85 مقعدًا في البرلمان الذي يضمّ 217 عضوًا في مقابل 69 مقعدًا حصل عليها حزب النّهضة. نداء تونس حزب ائتلاف ديمقراطيّ علمانيّ ليبيراليّ مثّله زعيمه الباجي قايد السبسي تألّف في جزء كبير منه من النّخبة السّياسية التّقليديّة التّونسيّة التي صوّرت نفسها بديلًا ديمقراطيًّا ليبيراليّا من حركة النّهضة. وقد اتّهمت هذه النّخبة الحكومة التي يقودها حزب النّهضة بالافتقار إلى الدّراية والخبرة السّياسيّة والتّكنوقراطيّة حتى يتحكّموا بشكل فعّال وخاصّةً في التّعامل مع اقتصادها المتعثّر والبطالة. وقد صوّرت وسائل الإعلام التّونسيّة، التي عارضت حزب النهّضة بشكل عامّ أثناء حكمها، حركة النّهضة مسؤولة بمفردها عن عنف المتطرّفين وانعدام الأمن. وأُنهيت خسارة حزب النّهضة للسّلطة السّياسيّة بانتصار السّبسي الممثّل لنداء تونس في الانتخابات الرّئاسيّة في 21 ديسمبر 2014.
وردّ منتقدو نداء تونس بأنّ حركة النّهضة قد أورثت ركود الاقتصاد والبطالة التي تحتاج ضخامتها إلى سنوات للتّخلّص منها وحذّروا من العودة إلى نموذج بورقيبة وبن عليّ في حكم رجل واحد بممارساته الأمنيّة الصّارمة. وقد عزّزت الحكومة التّكنوقراطيّة لرئيس الوزراء مهدي جمعة هذا القلق، وهو واحد من جملة التّنازلات التي قدّمها حزب النّهضة لضمان الوحدة الوطنيّة والعمليّة الدّيمقراطيّة. وخلال الصّيف الماضي (2014) أغلقت أكثر من 155 منظّمة غير حكوميّة ووافقت على ضرورة تحرّك الشّرطة ضدّ الشّباب لمكافحة التهديد الإرهابيّ لتونس. وهي سابقة قد يستخدمها نداء تونس لاستهداف السّلفيّين المسلّحين ولكن أيضًا لأقوى معارضة لها وهي النّهضة. وفي الوقت نفسه برز دعم النّهضة للعمليّة الدّيمقراطيّة في ماي/نيسان 2014 من خلال تمرير قانون انتخابيّ رفض الأصوات التي طالبت باستبعاد مسؤولي بن عليّ من العمل في الحكومة. وقد انقسم أعضاء النّهضة في خصوص هذه القضيّة إلّا أنّ موقف راشد الغنّوشي (الذي دعم سياسة عدم الإقصاء مشيرًا إلى أنّ الثورة استكملت أهدافها “دون ثأر”) هو الذي ساد. ومن المفارقات أنّ شرط الإقصاء كان من شأنه أن يمنع الأشخاص السّابقين في التّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي، بمن فيهم السبسي، من التنافس في الانتخابات.
بعد انتخاب السبسي رئيسًا خرق وعده في البداية بتشكيل ائتلاف واسع (كما فعل حزب النهضة في أعقاب انتخابه)، في ظلّ وجود تيّار يساريّ غير ليبيراليّ وعلماني في نداء تونس كان مُصرًّا على الرّغبة في استبعاد النّهضة من الحكم. وفي أواخر كانون الثاني/جانفي 2015، أعلن رئيس الوزراء الحبيب الصّيد حكومة تضمّ 24 وزيرًا تستثني النّهضة وهي ثاني قوّة سياسيّة مهمّة ذات 69 مقعدًا في البرلمان. وتسبّب الاستبعاد في موجة من الانتقادات. ولمواجهة الجدل وحقيقة أنّ حكومة نداء تونس حكومة أقلّيّة تضمّ أقلّ من نصف الأصوات الضّروريّة للنّجاح في التّصويت بعدم نيل ثقة البرلمان قام الصّيد بتأجيل التّصويت.
وفي 2 فبراير/فيفري أعلن الصّيد الذي يقود حكومة نداء تونس تشكيلة حكومته التي تضمّ حركة النّهضة أيضًا. وحصل فيها حزب نداء تونس على ستّ وزارات وثلاثة كُتّاب دولة بينما حاز حزب حركة النهضة على وزارة واحدة وهي التشغيل وثلاثة كتّاب دولة بما لا يتناسب وتمثيله في البرلمان. وعلى الرغم من هذا الواقع فإنّ الغنّوشي وقيادة النهضة دعموا الحكومة في التصويت البرلمانيّ على نيل الثقة ممّا يكشف قبولها بنتائج الانتخابات والتزامها بالوحدة الوطنيّة والعمليّة الديمقراطيّة.
15- خاتمة:
على الرغم من الخلافات العميقة والمنافسات الحادّة في السياسة التونسيّة، وعلى خلاف الانقلاب المصريّ أو الفوضى الليبيّة، تمكّن التونسيّون من التحرّك على الطريق المؤدّيّة إلى الديمقراطيّة وتلافي انحرافها لفضل منظّمات المجتمع المدنيّ القويّة ومهنيّة الجيش وحماسة الغنّوشي والنهضة وتنازلاتهم المهمّة.
ولا تزال قيادة الدولة الجديدة وحكومتها تواجهان تحدّيّات في معالجة الاقتصاد وارتفاع معدّلات البطالة سيّما بين خرّيجي الجامعات وتفعيل الإصلاحات الهيكليّة التي طال انتظارها وإصلاح قوانين الاستثمار والعمل التي عفا عليها الزمن وإظهار الالتزام بحقوق الإنسان والحقوق المدنيّة. يجب التعاطي مع العنف الذي يقوم به المتطرّفون السياسيّون أو الدينيّون بسرعة وبقوّة في ظلّ القوانين الجديدة للبلاد، وسيستمرّ نداء تونس والعلمانيّون المتشدّدون أكثر في التحدّي لإثبات الالتزام بالاندماج السياسيّ وليس الإقصاء في تعاملاتهم المستقبليّة مع حزب النهضة وغيره من الإسلامويّين غير العنيفين.
وفي نهاية المطاف لا يمكن تصوّر أن تصبح السياسة التونسيّة مجرّد منافسة بسيطة بين القوى الإسلامويّة والعلمانيّة التي ترغب في مستقبل ديمقراطيّ أو غير ديمقراطيّ. ويجب أن يفسح الانقسام العلمانيّ ـ الإسلامويّ المجال لفهم أكثر اختلافا للديمقراطيّة: نظام حكم يجمع أصواتا متعدّدة وممثّلين متنوّعين آخذا في الاعتبار رغبات الجمهور ومشدّدا على فعاليّة الديمقراطيّة ورفاهيّة المجتمع بدلا من الاختلافات الأيديولوجيّة وقمع المعارضة. يجب أن يشمل هذا الفهم الاعتراف بشرعيّة المعارضة السياسيّة طالما أنّها معارضة مخلصة، وهي معارضة يكون ولاؤها النهائيّ للوحدة الوطنيّة والمساواة وازدهار الجميع.
[1]– دافيد كيركباتريك، الاحتجاجات التونسيّة تمتدّ إلى العاصمة، نيويورك تايمز، 11 جانفي 2011، t.ly/LojN، شوهد بتاريخ 19 فيفري 2019.
[2] – المرجع نفسه.
[3] – عصام الأمين، الانتفاضة العربيّة: فهم التحوّلات والثورات العربيّة في الشرق الأوسط، واشنطن، مقاطعة كولومبيا، الأمل التعلميميّ الأمريكيّ، 2013ـ ص 27.
[4] – المرجع نفسه، ص 28.
[5] – المرجع نفسه،ص 31.
[6] – نسيمة نور، تونس: الثورة التي بدأت كلّ شيء، مجلّة الشؤون الدوليّة، 31 جانفي 2011، http://www.iar-gwu.org/node/257، شوهد بتاريخ 26 فيفري 2013.
[7] – “إسلامويّون يتكلّمون بعد ثورة الياسمين”، تايمز المالطيّة، t.ly/kixI، شوهد بتاريخ 26 فيفري 2013.
[8] -ماريون بولبي، التحدّي الإسلاميّ، فصليّة العالم الثالث، المجلّد 10، العدد 2، 1998، ص 591,
[9] – المرجع نفسه،
[10] – م. تسلر، التحوّل السياسيّ والصحوة الإسلاميّة في تونس، مجلّة المغرب، العدد 5، 1980، ص 11.
[11] -ماريون بولبي، مرجع سابق، ص 592.
[12] – “تونس: واجب الجار”، التايمز، 2 ديسمبر، 1957، ص 2.
[13] – المرجع نفسه.
[14] -عبد القادر الزغل، إعادة تفعيل التقليد في المجتمع ما بعد التقليديّ، ديدالوس، المجلّد 102، العدد 1، 1973، ص 231.
[15] – المرجع نفسه، ص230.
[16] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[17] – ماريون بولبي، مرجع سابق، ص 594.
[18] – المرجع نفسه، ص 593.
[19] – عزّام التميمي، الغنّوشي: ديمقراطيّ ضمن الإسلامويّة، منشورات جامعة أكسفورد، أكسفورد، 2001، ص 3.
[20] -جون إسبوزيتو وجون فول، صُنّاع الإسلام المعاصر، منشورات جامعة أكسفورد، أكسفورد، 2001، ص 93.
[21] – المرجع نفسه.
[22] -كما ذُكر في: التميمي، مرجع سابق، ص 11.
[23] -كما ذُكر في إسبوزيتو وفول، مرجع سابق، ص 95.
[24] -التميمي، مرجع سابق، ص 21.
[25] – بولبي، مرجع سابق، ص 599.
[26] -كريستوفر ألكسندر، “الفرص والمنظّمات والأفكار: الإسلامويّون والعمّال في تونس والجزائر، المجلّة الدوليّة لدراسات الشرق الأوسط، العدد 32، 2000، ص 466.
[27] – إسبوزيتو وفول، مرجع سابق، ص 99.
[28] -بولبي، مرجع سابق، ص 601.
[29] -المرجع نفسه، ص 105.
[30] -إسبوزيتو وفول، مرجع سابق، ص 114.
[31] -بولبي، مرجع سابق، ص 591.
[32] -جون إسبوزيتو، التهديد الإسلاميّ: أسطورة أم حقيقة؟، منشورات جامعة أكسفورد، أكسفورد، 1999، ص 167.
[33] -ديرك فاندروال، تونس بن عليّ الجديدة، تقارير الفريق الميدانيّ: أفريقيا/الشرق الأوسط، 1989-1990، ص 8.
[34]– ل. جونز، بورتريه راشد الغنّوشي، تقرير الشرق الأوسط، 153، (جويلية-أوت 1988)، ص 22.
[35] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[36] -كريستوفر ألكسندر، تونس: الثبات والتحوّل في المغرب الحديث، راوتلدج، نيويورك، 2010، ص 58.
[37] -التميمي، مرجع سابق، ص 69.
[38] – ألكسندر، مرجع سابق، ص 60.
[39] – المرجع نفسه، ص 60.
[40] – التميمي، مرجع سابق، ص 70.
[41] -ألكسندر، مرجع سابق، ص 64.
[42] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[43] – مونيكا ماركز، “من هم سلفيو تونس؟”، السياسة الدوليّة، 28 سبتمبر، 2012، http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2012/09/28/who_are_tunisia_s_salafs شوهد بتاريخ 10 مارس 2013.
[44] – المرجع نفسه.
[45] -ستيفانو توريلّي وفابيو ميروني وفرانسيسكو كافاتورتا، السلفيّة في تونس: تحدّيّات الدمقرطة وفرصها، السياسة الدوليّة، المجلّد 19، العدد 4، 2012، ص 143.
[46] – ستيفانو توريلّي وفابيو ميروني وفرانسيسكو كافاتورتا، السلفيّة في تونس، ص 143.
[47] -محمّد الخواص، ثورة الياسمين التونسيّة: الأسباب والتأثير، الفصليّة المتوسّطيّة، المجلّد 23، العدد 4، 2012، ص 7.
[48] – المرجع نفسه.
[49] – البنك الأفريقيّ للتنمية.
[50] -الخوّاص، مرجع سابق، ص 8.
[51] – بتر شريدير وحمّادي الرديسي، سقوط بن عليّ، مجلّة الديمقراطيّة، المجلّد 22، العدد 3، 2011، ص 10.
[52] – المرجع نفسه، ص 11.
[53] – المرجع نفسه.
[54] – المرجع نفسه.
[55] -أوليفييه روي، أين كان الإسلامويّون التونسيّون؟ نيويورك تايمز، 28 جانفي، 2011.
[56] – ليندساي بنستيد وإلّين لاست وظافر ملّوش وجمال سلطان وجاكوب ويشمان، الإسلامويّون ليسوا العائق، السياسة الخارجيّة، 14 فيفري، 2013، t.ly/HAjI. شوهد بتاريخ 11 مارس 2013
[57] – المرجع نفسه.
[58] – ليندساي بنستيد وإلّين لاست وظافر ملّوش وجمال سلطان وجاكوب ويشمان، الإسلامويّون ليسوا العائق.
[59] – رولا خالد ودافيد غارنر، الزعامة الإسلامويّة خطر على الديمقراطيّة التونسيّة، 22 جوان 2011.
[60] – الخوّاص، مرجع سابق، ص 18.
[61] -هاغ غرينواي، تحليل: السبق للديمقراطيّة التونسيّة، البريد العالميّ، 11 أكتوبر 2011، www.globalpost.com/print/5677609، شوهد بتاريخ 12 مارس 2013.
[62] – ميكائيل روبينس ومارك تسلر، التونسيّون صوّتوا من أجل الوظائف لا المهن، السياسة الخارجيّة، 7 ديسمبر، 2011، t.ly/bTp8.
[63] -المرجع نفسه.
[64] – جون ثرون، “الجدال التونسيّ ينقلب شخصيّا: صلّ أكثر وانقلب”، مراقب العلوم المسيحيّة، 19 أفريل 2013، http://www.csmonitor.com/World/Middle-East/2012/0419/Tunisia-debate-turns-personal-Pray-more-and-turn-down-that-Metallica . شوهد بتاريخ 12 مارس 2013.
[65] – آن وولف ورافائيل لوفيفر، “تونس: ثورة في خطر”، الغارديان، 18 أفريل 2012، www.guardian.co.uk/commentisfree/2012/apr/18/Tunisia-revolutionat-risk/print.
[66] -“عليّ العريّض إسلاميّ معتدل يستعدّ لرئاسة الحكومة التونسيّة الجديدة، سجلّ الأعمال، 9 مارس 2013، http://www.brecorder.com/general-news/172/1161320/. شوهد بتاريخ 11 مارس 2013.
[67] -بنستيد وآخرون، مرجع سابق.
[68] – “تونس تكشف عن ائتلاف حكوميّ جديد”، الجزيرة، 8 مارس 2013، http://www.aljazeera.com/news/africa/2013/03/2013381546957967.html.
[69] -“صور التونسيّة النسويّة أمينة تيلر: كيف خلقت زعزعة في الفايسبوك؟”، نيويوركر، 8 أفريل 2013،
http://www.newyorker.com/online/blogs/elements/2013/04/amina-tyler-topless-photos-tunisia-activism.html.
[70] -“سلفيو تونس: قلق متزايد”، الاقتصاديّ، 22 ماي 2013، http://www.economist.com/blogs/pomegranate/2013/05/tunisia-s-salafsts
[71] – “رئيس الوزراء الإسلاميّ التونسيّ يقول: إنّ سيناريو مصر من غير المحتمل أن يقع هنا”، أخبار الياهو، 2 جويلية 2013.
[72] – فيفيان والت، “بعد إزاحة مرسي في مصر، الإسلامويّون في تونس يخشون مصيرا مماثلا”، التايم، 16 جويلية 2013، http://world.time.com/2013/07/16/after-morsis-ouster-in-egypt-tunisias-islamists-fear-a-similar-fate/#ixzz2ZJ881UGE.
[73] – في، ديليب هيرو، “الانقلاب المصريّ يقسم الشرق الأوسط”، يال العالميّة، 11 جويلية 2013، http://yaleglobal.yale.edu/content/egyptian-coup-splits-middle-east.
[74] – “وجوه المعرضة التونسيّة يُغتالون بنفس البندقيّة”، الجزيرة، 27 جويلية 2013، http://www.aljazeera.com/news/africa/2013/07/201372611531821363.html.
[75] – “تونس: ضعف الإصلاح يضعف الحقوق”، هيومن رايتس واتش، 6 فيفري 2013، http://www.hrw.org/news/2013/02/06/tunisia-slow-reform-pace-undermines-rights.
[76] – راكال شابي، “على التونسيّين أن يحذروا السير على نفس طريق مصر”، الغارديان، 26 جويلية 2013، http://www.theguardian.com/commentisfree/2013/jul/26/tunisia-wary-route-egypt.
[77] – “أكبر اتّحاد تونسيّ يحثّ الحكومة التي يقودها إسلاميّون على الإقلاع”، رويترز، 30 جويلية 2013، http://www.reuters.com/article/2013/07/30/us-tunisia-protestsidUSBRE96T0MW20130730.
[78] – كارلوتّا غال، “الحزب الإسلامويّ في تونس يتنحّى”، نيويورك تايمز، 28 سبتمبر 2013.
[79] -آمنة قلّالي، “المشكلة مع الدستور التونسيّ الجديد”، هيومن رايتس واتش، 3 فيفري 2014، http://www.hrw.org/news/2014/02/03/problemtunisia-s-new-constitution.
[80] – دستور الجمهوريّة التونسيّة، الفصل السادس، ترجمة غير رسميّة من مؤسّسة الياسمين، http://www.jasmine-foundation.org/doc/unofcial_english_translation_of_tunisian_constitution_fnal_ed.pdf.
[81] – قلّالي، نفس المرجع.
[82] – سارّة مارش، “دستور التنازل التونسيّ”، مؤسّسة كارنغي للسلام العالميّ، 21 جانفي 2014، http://carnegieendowment.org/sada/2014/01/21/tunisia-s-compromise-constitution/gyze.
[83] -محمّد كرّو، “خطوة تونس التاريخيّة نحو الديمقراطيّة”، معهد كارنغي للشرق الأوسط، 22 أفريل 2014، http://carnegie-mec.org/2014/04/17/tunisia-s-historic-step-toward-democracy/h8sv#.
[84] -سارا شايس، “كيف ساعد اتّحاد العمل اليساريّ على الحلّ”، مؤسّسة كارنغي للسلام العالميّ، 27 مارس 2014، http://carnegieendowment.org/2014/03/27/how-leftist-labor-union-helped-force-tunisia-s-political-settlement/h610.