ملخص:
لا يزال الإنسان يبحث عن كينونته منذ أن أدرك العالم. وقد سعى بشتّى الطرق والوسائل فك شفراته ومغاليقه لأجل السيطرة عليه وإخضاعه لإرادته، ممّا أسس لعلاقة جدليّة تقوم على الصراع الذي بدا متشعبا نظرا للغموض الذي وسمه. ولمّا كان الإنسان تواقا إلى المعرفة و متطلّعا دوما إلى السّمـــــو، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بشرطيْ الإصرار والتحدي، تحدي كلّ المعوقات التي تقف حائلا أمام معرفة كنه الوجود ودور الإنسان فيه لنحت مصيره وكيانه، وإصرار على تثبيت رؤاه وأفكاره على أرض الواقع. وفي هذه الحالة ابتدع لنفسه وسائط للنفاذ إلى غياهب المجهول وتفكيك شفراته. ومن هذه الوسائط نذكر الأدب الذي عُدّ وسيلة من بين الوسائل التي يمكن استيعاب الكون من خلالها وفهم معناه. وهنا تتجلّى قدرته على الفعل في العالم والمحيط وصنع التّاريخ. فالعلاقة المتشابكة بين الإنسان من جهة، والكون من جهة أخرى، ولّدت الحيرة والدّهشة لدى الفلاسفة والمفكرين الغربيين في المرحلة الأولى لتنتقل إلى العرب والمسلمين في المرحلة الموالية. وتتعلق أساسا بفهم كينونة الإنسان، فالكينونة تعني الحياة بمفهومها الشامل، وهي الوجود فأن نكون يعني أن نعيش ونتواجد. فالكينونة والوجود مترادفان تُمثلان تعبيرا عن مختلف نواحي الحياة التي لها أسسها في الكينونة. ففهمها يقتضي فهم علاقتها بالظواهر التي نعيش فيها وهو ما يقودنا إلى طرح السؤال الآتي كيف يمكننا أن نميز الوجود عن الموجود؟ فالوجود الذي نعيش فيه هو مجرد وغير محسوس، في حين أن الموجود هو الملموس الواقعيّ وهذه المعرفة تتطلب منا إدراك جميع الظواهر المحيطة بنا. غير أن ذلك يبدو من الصعوبة بمكان باعتبار تشعب هذه الظواهر، لذلك بقي الإنسان دائم السّؤال عن ماهيّة الكون وكيفيّة السّيطرة عليه، والبحث عن الوسائل الممكنة لفهمه، وككلّ المفكرين والفلاسفة، فإنّ محمود المسعدي الذي تلقى تعليما غربيّا حديثا وتشبّع من مناهل الفلسفة الوجوديّة والآداب العالميّة انشغل بالوجوديّة وتأثر بها أيّما تأثّر وجاءت أغلب كتاباته ورواياته تدور في فلك هذه القضيّة الهامّة فـــ “السّد” و”مولد النسيان” و”حدث أبو هريرة قال…” و”تأصيلا لكيان” و “من أيّام عمران” هي جملة الآثار والرّوايات الفكريّة التي تَرجمت رُؤى الأديب المسعدي ومكّنته من طرح تصوّراته للوجود ودور الإنسان في تحديد ماهيّته باعتباره كائنا عاقلا قادرا على مواجهة كلّ المصاعب والعراقيل التي تعترضه.
الكلمات المفاتيح: الماهيّة – الكينونة – الوجود الموجود- الوجوديّة.
Abstract:
Man has been searching for his being since he realized the world. And he sought in various ways and means to decipher his codes and locks to control him and subjugate him to his will, which established a dialectical relationship based on the conflict that seemed to be divergent due to the ambiguity that characterized it. And since man is eager for knowledge and always aspires to loftiness, and this can only be achieved on the conditions of persistence and challenge, challenging all the obstacles that stand in the way of knowing the nature of existence and the role of man in it to carve his destiny and his being, and insisting on establishing his visions and ideas on the ground of reality. In this case, he devised means for himself to penetrate the depths of the unknown and decipher its codes. Among these media, we mention literature, which is considered a mechanism and a means among the means through which the universe can be understood, and its meaning understood. Here, his ability to act in the world and the surroundings and to make history is evident. The intertwined relationship between man on the one hand, and the universe on the other hand, generated confusion and astonishment among Western philosophers and thinkers in the first stage, to be transmitted to Arabs and Muslims in the next stage. It mainly relates to understanding human being, as being means life in its comprehensive sense, which is existence, so to be means to live and exist. Being and existence are synonymous, representing an expression of the various aspects of life that have their foundations in being. Knowing it requires understanding its relationship to the phenomena in which we live, which leads us to ask the following question: How can we distinguish existence from existing?
The existence in which we live is abstract and imperceptible, while the existent is the real tangible, and this knowledge requires us to be aware of all the phenomena surrounding us. However, this seems very difficult given the ramifications of these phenomena, so man has always kept asking about the nature of the universe and how to control it and searching for possible means to understand it. Existentialism was influenced by it, and most of his writings and novels revolved around this important issue, so “The Dam”, “The Birth of Oblivion”, “The event of Abu Hurairah said…”, “The Origination of an Entity” and “From the Days of Imran” are among the intellectual monuments and narratives Which translated the visions of the writer Al-Masadi and enabled him to present his perceptions of existence and the role of man in determining what he is as a rational being capable of facing all the difficulties and obstacles that he encounters.
Keywords: Essence – being – existing existence – existentialism.
1- المقدّمة:
ما فتئ الإنسان يبحث عن كينونته منذ أن أدرك العالم. وسعى بشتّى الطرق والوسائل إلى فكّ شفراته ومغاليقه لأجل السّيطرة عليه وإخضاعه لإرادته، وقد خلق هذا الغموض في نفسيّته جملة من الأسئلة المعقّدة من قبيل هل بإمكان الإنسان السّيطرة على الكون بما فيه من ظواهر طبيعية وفزيائية إلخ …؟ الأمر الذي ولّد علاقة جدليّة تقوم على الصّراع والتّنافر بين الطّرفين. ولئن بدت العلاقة بينهما متشعّبة نظرا للغموض الذي وسمها. فإنّ الإنسان يرى في نفسه القدرة على السّيطرة على هذه الظّواهر وإخضاعها لإرادته بحكم امتلاكه للقدرة العقليّة والذّهنيّة التي ميّزته عن سائر المخلوقات الأخرى، فالطبيعة البشرية دوما تواقة إلى المعرفة والتطلع إلى الأفضل رهانها في ذلك خدمة الإنسانية. وبما أن العلاقة بين الإنسان والكون أي الوجود قائمة على التضاد والتنافي فإنّ شرط السيطرة لا يتحقق إلاّ بشرطيْ الإصرار والتحدي، تحدي كلّ المعوقات التي تقف حائلا أمام معرفة كنه الوجود ودور الإنسان فيه لِنحتِ مصيره وكيانه، وإصرار على تثبيت رؤاه وأفكاره على أرض الواقع. وفي هذه الحالة ابتدع لنفسه وسائط للنفاذ إلى غياهب المجهول وتفكيك شفراته. ومن هذه الوسائط نذكر الأدب الذي عُد وسيلة من بين الوسائل التي من خلالها يمكن استيعاب الكون وفهم معناه. وهنا تتجلّى قدرته على الفعل في العالم والمحيط وصنع التّاريخ. فالعلاقة المتشابكة بين الإنسان من جهة، والكون من جهة أخرى، ولدت الحيرة والدهشة لدى الفلاسفة والمفكرين الغربيين في المرحلة الأولى لتنتقل للعرب والمسلمين في المرحلة الموالية. وتتعلق أساسا بفهم كينونة الإنسان، فالكينونة تعني الحياة بمفهومها الشامل، وهي الوجود فأن نكون يعني أن نعيش ونتواجد. فالكينونة والوجود مترادفان تُمثلان تعبيرا عن مختلف نواحي الحياة التي لها أسسها في الكينونة. ففهمها يقتضي فهم علاقتها بالظواهر التي نعيش فيها وهو ما يقودنا إلى طرح السؤال الآتي كيف يمكننا أن نميز الوجود عن الموجود؟ فالوجود الذي نعيش فيه هو مجرد وغير محسوس، في حين أن الموجود هو الملموس الواقعيّ وهذه المعرفة تتطلب منا إدراك جميع الظواهر المحيطة بنا. غير أن ذلك يبدو من الصعوبة بمكان باعتبار تشعب هذه الظواهر، لذلك بقي الإنسان دائم السؤال عن ماهية الكون وكيفية السيطرة عليه، والبحث عن الوسائل الممكنة لفهمه، وككلّ المفكرين والفلاسفة، فإنّ محمود المسعدي الذي تلقى تعليما غربيّا حديثا وتشبع من مناهل الفلسفة الوجوديّة والآداب العالميّة انشغل بالوجوديّة وتأثر بها أيما تأثر وجاءت أغلب كتاباته ورواياته تدور في فلك هذه القضية الهامّة فـــ “السّد” و”مولد النسيان” و”حدث أبو هريرة قال…” و”تأصيلا لكيان” و “من أيام عمران” هي جملة الآثار والرّوايات الفكريّة التي تَرجمت رُؤى الأديب المسعدي ومكنته من طرح تصوراته للوجود ودور الإنسان في تحديد ماهيته باعتباره كائنا عاقلا قادرا على مواجهة كلّ المصاعب والعراقيل التي تعترضه. ولعّل عالم الكتابة فتح أمام الرجل فرصة طرح تصوره للوجود وللكون ولخص ذلك في المقولة التالية “الأدب مأساة أو لا يكون مأساة الإنسان يتردّد بين الألوهيّة والحيوانيّة وتزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز أمام نفسه”[1]. فمن هذا المنعرج يطرح محمود المسعدي تجربته الأدبيّة بالغوص العميق في البحث عن كينونة الإنسان، وكيفية شقِ طريقه في الوجود حتّى يحقق لنفسه هذا الشرف الأسمى: شرف تكوين ذاته ومنزلته الانسانيّة وخلقها وإنشائها وجعلها في أعلى الدرجات…وأن يكون إلى جانب ذلك، فاعلا أو عاملا من عوامل الخلق لذاته ولشخصيته ولنفسه، بل العامل على التغيير ذاك هو جهاده، “وتلك هي مأساته ومع ذلك يجد في ذلك العناء الشديد، وتتغلب عليه الظروف…فقد يخطئ، وقد لا ينجح … ومع كلّ ذلك فهو عندما ينصرف إلى الخلق وإلى الإنشاء فهو ينصرف إلى ذلك في آلام المخاض…وذلك هو سرّ بطولته التي تحدثت عنها عندما تحدثت عن المأساة لأنّ المأساة هي مأساة البطل الذي يتألّم وليس هنالك بطل لا يكون كفاحه جهاده سجالا…ولكن فيه غلبة وتغليب وفيه انتصار ثمّ انتكاس كما فيه ألمًا، لأنّ الكفاح والجهاد إذا خليا من الألم فقد خليا من البطولة”[2].
وتجدر الإشارة إلى أنّ الأديب التّونسي محمود المسعدي قد تلقى ثقافة إسلاميّة عربيّة، متمثلة في حفظه القرآن ونصوص الحديث، أثرت على آثاره وكتاباته. ولعّل حرص والده على تلقينه القرآن منذ النشء هو الذي صقل موهبته وجعله دائم البحث والغوص اللامتناهي في البحث عن إثبات الذات وفق منظور يخالف السائد ويتقاطع مع الموجود. وهذا ما حدا بالمسعدي إلى الحديث عن والده وطفولته بالقول: “الذي رتّلت معه صباي على أنغام القرآن وترجيع الحديث، ممّا لم أكن أفهمه طفلا ولكني صغت من إيقاعه منذ الصغر لحن الحياة. ورباني على أن الوجود الكريم مغامرة طهارة، جزاؤها طمأنينة النفس الراضية في عالم أسمى فأسمى”[3].
ولا يخفى ما للقرآن من أثر عميق في أسلوب المسعدي وتصوّراته الذهنيّة والعقديّة “التي زادتها آثار الأدباء العرب القدامى وكتب المفكرين المسلمين تعميقا”[4]. وكان أيضا ذا ثقافة معرفيّة حديثة ذلك أنّه قد درس في أوروبا وتأثّر بتياراتها الفلسفيّة الوجوديّة. إذ سمحت له التّجربة الباريسيّة بالاطلاع على مختلف روافد الثقافة الغربيّة قديمها وحديثها، وتعمقت معارفه فيها فكرًا وأدبًا وفنونًا مختلفة، منها الأدب الفرنسيّ والإنجليزيّ والروسيّ وهي الآداب التي تفاعلت مع بعضها البعض في فكره وجدانه، فكان لها تأثيرها في تشكيل عالمه الإبداعيّ.
وقد كان لذكريات الطفولة الفضل العميق في ذهن المسعدي وكيانه ووجدانه، فتمثلت لديه بقوة العاطفة والتأثر النغميّ المرتبطين بأجواء الطفولة المفعمة بالدّين حتّى صار شابا يافعا، وهو ما يفسر لنا الجانب الوجداني الذي نجده في كتاباته، والجانب الدينيّ، “الذي يُنعت أحيانا بالجانب الصّوفيّ وهو الجانب الروحيّ، وستتغذى هذه الروحانيّة وتتحوّل إلى معالجة مشكلة المعرفة على أسس دينيّة ووجدانيّة وروحانيّة”[5].
ثم التحق المسعدي بالمدرسة الصادقيّه يدْرس اللّغة العربيّة على أيدي المشايخ من جامع الزيتونة، ويأخذ عنهم النحو والعلم والبلاغة والتوحيد والفقه”[6]. أما ملامح التكوين الفكريّ والثقافيّ الغربيّ، فقد تشبع بها على أيدي أساتذة فرنسيّين، وبدأ المسعدي يُعاني من التناقض والاختلاف، الذي سوف يعود عليه بالحيرة والتساؤل والبحث في مسائل كبرى كالكون والوجود والمصير.
من الواضح أن ثقافته ثقافة مزدوجة (اللسانين العربيّ والفرنسيّ)، جمعت بين ثنائيّة تكوينه الدينيّ التقليديّ وثقافته الغربيّة المعاصرة. ولقد أثّرت ثقافته المزدوجة العربيّة الإسلاميّة، والغربيّة والوجوديّة في نظرته الفكريّة للإنسان ومنزلته في هذا الكون. وهكذا يكون قد جمع بين ثقافته العربيّة الإسلاميّة الأصيلة، وبين آداب أوروبا وفكرها وفنّها، ومزج بينهما مزجا طريفا “يتحقّق فيها التّكامل والنّضج دون انبهار أو تبعيّة”[7]. ثقة في نفسه وفي قيمه ثقة جنّبته الوقوع في الهزّات والاضطرابات التي قد تفاقم حيرته وجعلته يأخذ عن الغرب دون أن يرتمي في أحضانهم ويتبنى جميع أطروحاتهم وأفكارهم وهو ما أصل منتوجه الفكريّ في تربته العربيّة الإسلامية. ومن هنا يتكون أساسًا الاتحاد الجوهري لحياته الفكريّة والأدبيّة بمختلف أوجه النشاط لتأصيل كيانه وإثبات مشروعه.
لقد افتتن المسعدي بالفلسفة الوجوديّة وتأثّر بنيتشه (Friedrich Nitzche1844-1900) وهيدغير (Martin Heidegger1889-1976). فكتبه المذكورة اهتمت بمنزلة الإنسان ولعلّها تتمحور عنده فيما اعتبره مأساة الفكر الإنسانيّ، في معالجة مُعضلات المصير، ومغلّـقات الغيب فأضفىعلى نثره، من سحرالعبارة، وروعة الخاطر، ما جعله نموذجا فريدا في الأدب العربيّ. كان، من بين سائر أدباء عصره، أكثرهم طرافة فيما انتهج من توجّهات، وأعمقهم فيما حاول من معان ، وأجزلهم. لغة، وأصفاهم أصالة.
وهذه الأصالة مستوحاة من الفكر الدينيّ الذي تشبع به عند الصغر لذلك جاءت كتاباته ممزوجة فيها من القديم جدّته وأصالته ومن الحديث رؤى وأفكار فلسفية لم يكن للعرب في العصر الحديث عهد بها مثل الوجودية وغيرها.
2- في مبادئ الوجوديّة الغربيّة:
تعدّ الوجوديّة مذهب فكريّ إنسانيّ نشأ بين عدد من المفكرين الأوروبييّن. وتقوم الوجوديّة على فكرة رئيسية وهي أسبقية الوجود على الماهية، باعتبار الوجود أثرا حقيقيّا بينما الماهيّة مجرد اعتبار عقلي. ويعتبر الكثيرون أن الماهية تأتي أوّلا والوجود ثانيا، ولكن الوجوديّة تنص على العكس. وبناء على ذلك انتقلت الفلسفة في ظل هذه الحركة الفكريّة من “دراسة الوجود المجرد أو الوجود العام الى دراسة الإنسان المشخص في وجوده الحسيّ والواقعيّ، أي في حياته في زحمة السّكون من ناحية وفي علاقاته مع الآخرين من ناحية أخرى. وحاولت التّوفيق بين الموضوعيّ والذاتيّ وبين المطلق والنسبيّ. والكشف عن معنى الحياة من خلال المواقف والأحداث”[8].
لقد تبلور تيّار الفلسفة الوجوديّة في إطار أزمة شاملة كانت تهدّد الانسان في حياته ووجوده واستمراره ممّا أدى الى انصباب الفكر الوجوديّ على القضايا الوجوديّة: من أنا؟ ما هو مصيري؟ ما منزلة الانسان في الكون؟ وقد سيطرت المدرسة الوجوديّة الملحدة على الفلسفة الغربيّة نتيجة انتشار العلوم الطبيعيّة والفيزيائيّة واعتداد الإنسان بذاته، فكان “جان بول سارتر(Jean –Paul Sartre1905-1980)” أب الفلسفة الوجوديّة، وكذلك “مارتن هايدغير” (Martim Heidegger) و”ألبير كامو (Albert Camus1913-1960)، وهم من أوائل الفلاسفة الذين بحثوا في مظاهر قلق الإنسان وحيرته الوجوديّة.
وتُعَدُ نظرة سارتر إلى الحياة مغايرة ومخالفة لنظرة الأوائل من الفلاسفة، فهي ليست قائمة على التشاؤم والاستسلام، وإنّما هي قائمة على الأمل والتفاؤل الذي لا يتجسد إلاّ في الفعل رغم شعوره تلقائيّا أن إمكانياته وغاياته قد تكون مهدّدة من جانب الغير الذي سيطرت عليه النظرة التشاؤمية للحياة. فالإنسان الآخر يشلّه بنظرته، فيستلب العالم الذي ينظّمه. أما ألبير كامو، فهو يُشبّه حياة الانسان بحياة سيزيف[9] فالإنسان يَشقى دون جدوى، فلا يبلغ من وراء عمله شيئا لأنّ كلّ ما في الوجود عبث.
أمّا المدرسة التي تُؤمن بالله والدّين فتُقِرُ بمنزلة الإنسان المحدودة وضعفه، وأن خلاصه يكمن في معرفة الله وأبرز روّادها “كارل يسبيرس (Karl Jaspers 1883-1969)” و”غابريال مارسال” (Gabriel Marsel1889-1973).
3- جدليّة الحيرة والوجود في روايات المسعدي:
إنّ الإنسان تعترضه في وجوده قوى عديدة منها ما تستوطن ذاته “تلازمها وتحركها، ومنها ما تتعقبه فتنال منه وتصيبه وتلك القوى هي: الموت والغيب والآلهة، ولذلك يُجابه الإنسان كلّ هذه القوى بمفرده فيعيش مأساة واحدة عبر كلّ العصور، ويكون دور الأديب التعبير عن هذه المأساة”[10].
ورغم هذه الحيرة الذاتيّة التي عاشها المسعدي في الأربعينات والتي كانت رواية “حدث أبو هريرة قال..” نتاجا لها، فإنّ شعور الضياع الفكريّ والحضاريّ لم يكن خاصّا به، وإنّما هو شعور استبدّ بأجيال فترة ما بين الحربين العالميتين وما تبعهما من احتداد لمأساة الضياع والخوف من المستقبل، بل لعّله شعور بشري أصيل متمكن من الإنسان منذ أن وُجِدَ، وهو الشعور بالانجذاب إلى الأرض والمادة طورا والسعي إلى تجاوز ذلك الشعور والارتفاع إلى مراتب الروح وعالم الملائكة عبر العبادة والذوبان في الذات الإلاهيّة طورا آخر.
وهذا غيلان البطل الملحمي لرّواية السد الذي يكابد المخاطر من أجل بناء السد على أرض قاحلة وتكريس الفعل في وجه إرادة الآلهة “صهباء”. يسعى إلى العمل متألهًا أحيانًا، عازما صابرا مكافحا متقاطعا مع سيزيف بطل الميثولوجيا الإغريقيّة الذي قهر بصبره الآلهة. كلّها مؤلفات تدور حول ماهيّة الذات وكينونة الإنسان والمطلب الوجوديّ.
أما مدين بطل “مولد النسيان” “شبيه غيلان في الإرادة. لكن وجهته الخلود لا الخلق”[11]. ينتقل بين ثلاث عوالم مختلفة بحثا عن الخلود، مُتحديا قانون الطبيعة لتجاوز حدود إنسانيته والالتحام بالذات الإلهية. فكان هذا الانتقال على درجات تراوحت بين الغاب ثم الكهف ثم الكون الغريب، فيعيش في هذه الرحلة الوجوديّة أهوالاً تُثير في نفسه الخوف والألم. وينتهي بالفشل في تحقيق معنى الوجود الذي ارتحل من أجله.
لذلك فالعلاقة بعالمه تقوم على الاستقرار المؤقت بعالم ساكن لا حراك فيه، علاقته به تقوم على التسليم بكل شيء وقبول الواقع كما هو. هذه هي علاقة أبي هريرة بطل رواية “حدث أبو هريرة قال…” بعالمه. فهو كحبة خرز منظمة في خيط رفيع مشدودة إلى قوة غامضة. فإخلاصه لتلك القوة وهذا النظام والإيمان بهما، يقوده صديق لاكتشاف الجنة الأرضيّة والرّغبة في الفردوس المغري الذي اُقتيد إليه فيكون البعث. ومضمون هذا البعث يتجلّى في مغادرة مكّة والالتحاق بالصّديق والإعلان عن حياة جديدة موغلة في التّحرّر… ومن هنا تعدّدت التّجارب واختلفت منذ البعث الأوّل حتّى البعث الآخر لتصل في النّهاية إلى نتيجة واحدة.
فأبطال المسعدي بهذا المعنى أبطال مريدون، فغيلان في رواية السّدّ يريد بناء السّدّ، ومدين يريد إماتة الموت أي الخلود، وأبو هريرة يريد المطلق. وقد ربطت بين المؤلّفات مسألة واحدة وهي إرادة البطل بجمع كلّ صفات البطولة كجبروت “نيتشة” وعبثية “ألبير كامو”، إلى جانب شطحات الصّوفيين وتمردهم…فكلّ هؤلاء الأبطال يدافعون عن قضيّة واحدة تحثّهم على أن يشتركوا في الرّسالة الإنقاذيّة التي يريدون تحقيقها بأعمالهم المتباينة. وكذا تمرد أبطال المسعدي على الآلهة لأنّها هادم قويّ للحياة وراحة الناس فلم يحجموا عن الصّراع…
ذلك أن الحياة بالنّسبة إليهم محنة شديدة وحالة متأزّمة تتطلّب البحث لها عن مخرج قوامه الصّراع المستمرّ والعناد المتواصل. فتمرّدهم إذن كتمرّد برومثيوس[12] (Prométhée enchaine) الذي لم يؤمن بالقوانين الاجتماعيّة التي نسبها النّاس إلى الآلهة، فدعاهم إلى مخالفة شرائعها والتّصدي لإحكامها الجائرة القاضيّة بحرمانهم من النّار المقدّسة الواهبة لهم شعلة الفنّ والتّقدم والمعرفة.
واعتمادا على ما سبق، نلاحظ أنّ أبطال المسعدي اقتنعوا بأنّ الحياة عبث محض فأرادوا أن يؤكّدوا وجودهم بواسطة الفعل، ولكنّهم وصلوا إلى حدّ الانفصال عن البشر، ممّا زاد إحساسهم بعبث الحياة وخلوها من كلّ قيمة ومعنى باعتبار أن “الحياة كون واستحالة ومأساة'”[13].ولئن لم يظفر هؤلاء الأبطال التّراجيديّون بثمرة تجاربهم الجماعيّة، فقد ظلوا تجسيدا للحريّة المقيّدة. وقد أكّد المسعدي على هذه النّزعة الروحيّة في معظم نصوصه، عندما تردّد صدى مقولة استحالة تحقيق الإنسان لكل طموحاته وتطلّعاته في جميع مؤلّفاته.
حيث ارتكزت العديد من مؤلفاته على هذا الموضوع فعالجته من جوانب متعدّدة، بطريقه قصصيّه تهدف إلى توضيح منزلة الإنسان في الكون، والبحث في وضع الوجود وحدوده وإمكاناته ومختلف أشواقه.
فكيف يمكن أن تجتمع في بطل واحد رؤية فلسفيّة قائمة على الإلحاد ورؤية دينيّة تقول بالاتحاد؟
بنيت روايات محمود المسعدي على مجموعة من الأجزاء مثلت في البداية استثنائيّة في تشكيل رواياته تميّزت عن الروايات المعاصرة لها وتميّز مؤلفها عن بقية مؤلفي الروايّة. فالمسعدي حاول أن يكون بهذا التّوجّه مغايرا للآخرين في كلّ كتاباته تقريبا من ذلك نذكر “السّد” و”مولد النسيان” و”حدث أبو هريرة قال…” و”تأصيلا لكيان” وأخيرا “من أيام عمران” جعلت منه رائدا في كتابة القصّة والرّواية في العالم العربيّ ورمز الإنسان الوجوديّ السّاعي لفهم وجوده ومعرفة كيانه وعلاقته بربّ الكون عبر تجارب وجوديّة عرف فيها الشّكّ والقلق والتّمزّق وعاش ترددا أليما بين المتناقضات فكانت حياته مأساة فقط. أراد من خلالها المسعدي أن تكون قصصه المبثوثة في بطون نصوصه ومؤلفاته الرّوائيّة تجسيدا لفهمه الخاص للأدب: “الأدب مأساة أو لا يكون، مأساة الإنسان يتردّد بين الألوهية والحيوانيّة، تزف به أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز: العجز أمام القضاء، أمام الموت، أمام الحياة، أمام الغيب، أمام الآلهة، أمام نفسه”…ذلك هو الإنسان في منزلة بين المنزلتين لا يستقر على حال، وذاك هو أبو العتاهية (747م -826) يردّد فاتحة كتاب “حدّث أبو هريرة قال..”.
طلبت المستقرّ بكلّ أرض فلم أر لي بأرض مستقرّا
تُعبّر روايات المسعدي عن الإنسان بالمعنى العميق للكلمة. فهو لم يهتم بالقضايا الإنسانيّة التقليديّة المستهلكة لدى أغلب الكُتاب الآخرين المعاصرين له، إذ أراد أن يكون أدبه أصيلا هادفا ملتزما مريدا على حدّ تعبير “محمود طرشونة”، مرتبطا بالوجودية في أصدق معانيها وأعظم تجليّاتها وأعمق أهدافها. فانشغل بالإنسان في أبعاده المختلفة بدءا بعلاقته بنفسه ونظرته إليها وإلى إمكاناتها الفكريّة والثقافيّة وقدرته بين الواقع والحلم، وبين الممكن والمستحيل، وصولا إلى علاقته بالخالق وبالقضاء وبالقدر وكيفية التخلص من التبعية المطلقة للغيب والسلبيّة والتواكل والقدريّة للتدخل في شؤون الطبيعة لفرض ذات الفرد المريد.
لقد أراد المسعدي أن يكون أدبه ممثلا للصّراع الذي يعيشه الإنسان في الكون بين عناصر الحياة والخلق والبعث والتّمرّد والثّورة على المعطى الطبيعيّ والمرسخ الاجتماعيّ والثقافيّ بالمعنى الفلسفيّ للكلمة وبين عناصر الموت والفناء والخضوع والاستكانة والتقليد الأجوف الخاليّ من أي معنى ولذلك جعل للإنسان مفهوما خاصا عميقا.
لقد تأمّل محمود المسعدي الإنسان فوجد أنّه ليس كائنا ماديّا فقط كما تدعي بعض الفلسفات والثقافات، وإنّما مركبا من الفكر والوجدان والروح وأن الذات البشريّة محدودة من جهة أولى، وقادرة على أن تكون أعظم من جهة ثانية، لأنّها مشتقه من ذلك المطلق الأعظم منها هي الذات الإلهية. وهذه الفكرة دينيّة إسلاميّة باعتبار أننا نعلم دينيا أنّ الله بثّ في آدم من روحه ومنه استخلص أنّه على الإنسان الحق الذي يشرُف بلقب الإنسانيّة ألاّ يكتفي بالمنزلة المعطاة وعليه أن يسعى إلى تحقيق المنزلة ّالمكتسبة التي تحقق فيه معنى الإنسانيّة الحقيقيّة – مسألة الاستخلاف في الأرض دون غيره من الكائنات باعتبار تميزه عنهم بالعقل -، ورفض الجمود والتقيد بالمقولات الموروثة عن منزله الإنسان في الكون والوجود، عليه أن يسعى إلى الوصول إلى الذات المطلقة عبر وسائل المعرفة وآليات الفعل المتوفرة لديه، ويلتحم بها ليطلق ضعفه أمام الطبيعة والقدر والحياه والموت، فالإنسانيّة فيه لا تتحقق كما يرى إلاّ إذا خاض الصراع ضد القضاء والقدر والحياة والموت، فهو الإنسان المريد وإن أدرك محدوديّة قدرته، عليه أن يكون متمردا على كلّ ما يدعو إلى الاستسلام والاذعان والرضا بما هو موجود، وألاّ يرضى الإنسان بما تعطيه الأقدار أو تقدمه له من حياة أو وجود معطى كما هو. فهو يرى أنّ الإنسان الحق هو الكائن القوي، الذي يتخلص من ضعفه البشريّ كي يصبح مؤهلا للوجود. فالحياة في نظره تجاوز للعجز وتخط للظروف والأحوال والعقبات والعراقيل وثورة على الموجود والقطع مع السائد، لأنّ الظروف تكيّفه والأحوال تغيره، وهو لا ينفك يدعو الإنسان إلى احتمال المصائب والصبر على الدّواهي. وتبرز هذه الآراء الفلسفيّة مدى تأثّر صاحبها واستيعابه لفلسفة “نيتشة” التي تصرّ على قهر الاستكانة والتخاذل التزاما بمبدأ الحياة فيقول نيتشة في ذلك: “ما من ألم استطاع إغوائي، أو سيكون بمقدوره أن يغويني للإدلاء بشهادة زائفة عن الحياة على نحو ما أدركها”[14].وانطلاقا من هنا يطرح هذا الفيلسوف مشكلة معنى الوجود الإنسانيّ، فتتملّكه فكرة الإنسان الأرقى الذي يتجاوز طبيعته الحيوانيّة، ويسيطر على عواطفه ودوافعه حتّى يقبل الحياة بألمها ومعاناتها، ويحياها – في الوقت نفسه – بكلّ امتلائها، ويتبنّاها بموقف ديونيزوسي.
نظرة محمود المسعدي إلى الإنسان فلسفيّة تنطلق من الفلسفة الوجوديّة التي ترسخت في أوروبا على يد الفيلسوف الفرنسيّ جون بول سارتر. وهي تمثّل مذهبا عريقا في الأدب والفلسفة، وتدعو إلى مغامرة الوجود الإنسانيّ وصراعه من أجل أن يكون أو لا يكون. فالوجوديّة في نظر جون بول سارتر لا تنطلق من مذاهب ما ورائيّة، بل تنطلق من وعي الإنسان بوجوده وتعتبر وجود الإنسان سابقا لماهيته. والمسعدي آمن بقدرتها على ترسيخ المفهوم الحقيقي للإنسان وإخراجه من سلبيته واستكانته وجبنه وجموده وبالتالي تحقيقه سعادته في الكون والأرض، مدرك لحقيقة إمكاناته البشريّة الرافض للمستحيل المؤمن بأنّ كلّ ما يريد تحقيقه في الوجود ممكن إذا ما توفرت الإرادة القويّة فيه متيقن أن الإيمان الحق هو “الكفر بالنواميس والعراقيل وإنكار العجز ونفي العدم”[15]، إنّه حرّ في اختياراته لكن هذه الفلسفة تجعل من الحرية مسؤولية ضخمة ملقاة على عاتق الإنسان غير عبثيّه لأنّها لا تسعى فقط إلى الانفكاك من القيود البشرية أو الغيبيّة، وإنّما هي حرية تريد تأسيس ما هو أفضل وولوج عوالم غير مألوفة. وهي نظرة مخالفة تماما لما تقره الفلسفة الوجودية التي ترى أن الإنسان غير مسؤول على تصرفاته عندما ترتطم بعادات المجتمع خاصّة على المســـتوى القيــــــمي والأخــــــــلاقي، إذ يقــول :”الوجوديون أن الاختيار البشري عملية ذاتيّة، لأن الأفراد في النهاية يجب أن يختاروا اختياراتهم دون تأثير من المعايير الخارجيّة كالقوانين وقواعد الأخلاق أو التقاليد وهم بذلك أحرار ونظرا لأنّهم يختارون بحريّة فإنّهم مسؤولون تماما عن اختياراتهم”[16] ويتضح جليّا أن المسؤولية من وجهة النظر الوجودية الغربيّة تعد بمثابة الجانب المظلم للحريّة، فعندما يدرك الأفراد أنّهم مسؤولون كليّة عن قراراتهم وأعمالهم ومعتقداتهم، يتملكهم القلق فيحاولون الهروب بتجاهل وإنكار حريتهم ومسؤوليتهم أي إنكار موقفهم الحقيقيّ، وبهذا ينجحون فقط في خداع أنفسهم . وبما أن الحرية في النهاية في تصورهم حرية مطلقة لا تحكمها ضوابط فإنّها بالضرورة ستنتج فوضى عارمة على مستوى الأخلاق والقيم، فإنّ محمود المسعدي قد نآى بنفسه تقريبا عن هذه الفكرة الفوضوية معتبرا أن الحريّة مشروطة بالمسؤولية، فالإنسان مسؤول أمام أفعاله فلا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يتمرّد على قيم المجتمع ونواميسه ومعتقداته وهو ما جعل بفكره مستنيرا وغير دغمائيّ يحترم الآخر والمجتمع الذي همشته الوجوديّة وجعلته حكرا على الذاتيّة والفردانيّة.
لم يصور محمود المسعدي في أدبه إلاّ الإنسان المتمرّد دوما على مكانته البشرية الوضيعة، الثائر على المعطيات الطبيعيّة المخلوق عليها لأنّه لم يرَ الإنسان إلاّ متمردًا على ما يسلبه إنسانيته، ثائرًا على ما يفقده حقه في رفض ما لا يشعره بأنّه كائن إنسان مغاير لبقيه المخلوقات في هذا الكون والعاجزة عن الخروج من طور الطبيعة والانضمام إلى طور الثقافة. إذ يقول: الإنسان بطبيعته كائن متمرد إنّه الكائن الذي فضله الله واختاره أن يكون خليفته في الأرض إنّ الانسان لا يتمرد على الله، بل يتمرد على عجزه ولا يرضى أن يكون مستسلما لضعفه وعجزه، فكما تقرأ في أبطال المسعدي قلق أبي العتاهية وهاجسه المأساوي، وبحث الغزالي الدؤوب للكشف عما هو غامض أو شائك، كذلك نسمع من أبطال مؤلفاته شكوى فيرتر لغوتة، وآلام فاوست وتردّدها هاملت، ناهيك عن انقسامات نيتشة في أشد لحظات المواجهة مع الأقدار وامتثالات أمبدوكلس الاضطراريّة منها أو تلك المحبذة لدعوة التوحد مع الكون في ختام هذه الانقسامات في ذات المفكر والفيلسوف”[17]. وهو محكوم عليه بالموت ولكنه مع ذلك يريد أن يقهر الموت لا بالحياة الجديدة فهذا مستحيل لكن بأن يعطي بعدا لوجوده ولكنه بعدا يتجاوز الموتى هذه قصة الإنسان على مرّ الأزمان.
ولمّا آمن المسعدي بالإنسان في إطار الفلسفة الوجوديّة كما أشرنا إلى ذلك آنفا رأى أن الانسان حرّ، مسؤول عن أفعاله واختياراته، واع بمصيره، ساع إلى تأسيسه بفرديته دون اللجوء إلى الاستعانة بالقوى الغيبيّة لكنه إن آمن بها وبمقولاتها عن الحرية والمسؤولية والإرادة منبهرا بأفكارها وطموحاتها لم يلغ وجود الله، بل ظل مؤمنا به وبحدود الإنسان وصراعه من أجل أن يكون أو لا يكون وهو ما حدا بالباحثة أمال الموسى إلى اعتبار ” محمود المسعدي حالة خاصّة في الكتابة، ذلك أنّ نصّه مزيج من القديم والحديث وإبحار في العوالم الذهنيّة، الشّيء الذي جعل طه حسين يقول عنه “لقد أسلمت الوجوديّة عنه”[18] وتضيف الباحثة في السياق ذاته ما قاله الناقد محمود طرشونة حول كتابات المسعدي إذ يقول: ” إنّ المسعدي قد ركز أدبه على بعض قضايا الإنسان كالحياة والموت والإرادة والحرية والمسؤولية والخلق والحس والإيمان والزمان وغيرها من المشاكل التي تحير وجود الإنسان ويضيف طرشونة كذلك في ذات التقديم مبرزا أن مؤلفات المسعدي تمحورت بالخصوص حول الإرادة البشريّة وتفجيرها الطاقات الكامنة في الإنسان، ذلك أن الإرادة هي التي تحرك الأبطال في أدب المسعدي وتدفعهم إلى الخلق والتجاوز والتحدي”. فالإنسان “في حاجة حيوية إلى أن يعرف ماهيته كإنسان، وماهي أغراض نشاطه وما هو مصيره النهائيّ، وما هي منزلته بين الكائنات”. ولكنه لم يقف عند هذا الحدّ، بل كوّن رؤية وجوديّة إسلاميّة خاصّة به، مرتكزة على أركان من الاعتزال.
4- الخاتمة:
والملاحظ أنّه لئن لم يظفر هؤلاء الأبطال التراجيديون بثمرة تجاربهم الجماعيّة فقد ظلوا تجسيدا للحريّة المقيدة. وقد أكّد المسعدي على هذه النزعة الرّوحيّة في معظم نصوصه مبيّنا أن ذات الإنسان مشتقة من خالقها.
فهو يرى أنه مميّز من الله بفطرة متغيّرة منذ الولادة، فأسلم الوجوديّة انطلاقا من تأثّره بفلاسفة المعتزلة في ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة القديمة، الذين أكدوا المعاني المُشار إليها سابقا، ولا سيما تأكيدهم أن الإنسان مخيّر في أفعاله الدنيويّة مسؤول عنها مسؤولية كاملة أمام الآخرين، وأمام الله، ويملك حرية الاختيار والفعل، وقد أكد أن وجوديته تبقى مستنده إلى رؤية إسلاميّة أصيلة.
انطلاقا من هذه الأسس السابقة كلّها، يرى محمود المسعدي أن على الأديب أن يُلاحق القضايا الإنسانيّة الكبرى الدائمة حتّى يُشرف باسم الأدب الإنسانيّ ويصير الأدب التزاما أو لا يكون، التزاما بالتعبير عن حيرة الإنسان في الوجود وقلقه وسعيه نحو الحقيقة والمنزلة العظيمة. كما يؤكد على ضرورة ربط الأدبيّ بالواقع الانسانيّ في معناه العميق فيقول: “حاولت في كلّ ما أكتب أن أكون بواسطة مؤلفاتي وما طرحت من أسئلة ما مثلت من مشاكل إنسانيّة أن أكون مساعدا للإنسان العربيّ المعاصر على أن يطلع بإنسانيته على وجهها الأكمل، أي على أكثر وجوهها تعقدا وعمقا، حتى يواجه العصر بكلّ ما فيه من مشاكل”. فالأدب من وجهة نظر المسعدي يقدم حلولا للإنسانية لمجابهة إكراهات وصعوبات الواقع التي لا يخلو منها مجال، فقراءته قراءة عميقة من شأنه أن يفتح لنا الطريق لاستيعاب الواقع وشواغله.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
- المسعدي (محمود): مولد النسيان، الطبعة 1، الدار التونسية للنشر والتوزيع، 1945.
- حدث أبو هريرة قال…، الدار التونسيّة للنشر، تونس، 1973.
- السّد، تقديم توفيق بكار، عيون المعاصرة، دار الجنوب للنشر، تونس 1992.
- تأصيلا لكيان، طبعة مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس، 1999.
المراجع:
- السامرائي (ماجد صالح) حوار مع محمود المسعدي، مجلة الاقلام، العدد الثاني، 1979.
- الشيباني (عمر بن محمد التومي): مقدمة في الفلسفة الاسلامية الدار العربية للكتاب ليبيا تونس 1975.
- طرشونة (محمود): الأدب المريد في مؤلفات المسعدي، ط 4، 1989.
- الطويلي (أحمد): المسعدي وحدث أبو هريرة قال..، تقديم توفيق بكار، دار التونسية للنشر، تونس 1973.
- فياض (حسام الدين): نقد رؤية الفلسفة الوجوديّة للإنسان والواقع الاجتماعيّ، دراسة تحليلية نقديّة، مأخوذة من موقع الإلكتروني تبيان نصنع الوعي بتاريخ 6 أكتوبر 2021.
- الماجري (الحفناوي): المسعدي في حدث أبو هريرة قال من الثورة إلى الهزيمة، طبع الشركة التونسية للتوزيع ط 2، تونس، 1985.
- مجموعة من الباحثين، تاريخ الأدب التونسي الحديث والمعاصر، بيت الحكمة، تونس 1993.
- محسن جاسم الموسوي: محمود المسعدي والرواية الحديثة، مقاربة نقدية، في كتاب محمود المسعدي بين الايقاع والابداع.
- محمد اليوسف(علي): أفكار وشذرات فلسفية، (د-ت).
- الموسوعة التونسية، ج2.
[1]– محمود المسعدي: تأصيلا لكيان، طبعة مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس، ص21.
[2]– ماجد (صالح السامرائي) حوار مع محمود المسعدي، مجلة الاقلام، العدد الثاني،1979.
[3]– المسعدي (محمود): حدث أبو هريرة قال…، الدار التونسيّة للنشر، تونس، 1973، ص9.
[4]– الموسوعة التونسية، ج 2، ص670.
[5] الطويلي (أحمد): المسعدي وحدث أبو هريرة قال..، تقديم توفيق بكار، دار التونسية للنشر، تونس 1973، ص15.
[6]– الطويلي (أحمد): المسعدي وحدث أبو هريرة قال..، تقديم توفيق بكار، ص12.
[7]– مجموعة من الباحثين، تاريخ الأدب التونسي الحديث والمعاصر، بيت الحكمة، تونس 1993، ص55.
[8]– الشيباني (عمر بن محمد التومي): مقدمة في الفلسفة الاسلامية الدار العربية للكتاب ليبيا تونس 1975 ص 26-27.
[9]– سيزيف أو سيسفوس كان أحد أكثر الشخصيّات مكرا بحسب الميثولوجيّا الإغريقيّة. حيث استطاع أن يخدع إلاه الموت ثاناتوس ممّا أغضب كبير الآلهة زيوس فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة. ويظل هكذا حتى الأبد فأصبح رمز العذاب الأبديّ.
[10]– الماجري (الحفناوي): المسعدي في حدث أبو هريرة قال من الثورة إلى الهزيمة، طبع الشركة التونسية للتوزيع تونس 1985 الط الثانية، ص 26.
[11]– طرشونة (محمود): الأدب المريد في مؤلفات المسعدي، الط. الرابعة 1989،ص14.
[12]– بروميثيوس: هو عملاق حارب في صف الآلهة الأولمبيّة ضد العمالقة في الحرب العظمى. وقد كان ذو حنكة ودهاء ومحبب للبشر دونا عن الآلهة. قصته من أهمّ القصص في الميثولوجيا الغربيّة إن لم تكن من أهمّها على الإطلاق، ترمز القصّة لمضامين ودلالات هائلة في الفكر والتّاريخ الغربيّ.
[13]– المسعدي (محمود): مولد النسيان، ص5.
[14]– محمد اليوسف (علي): أفكار وشذرات فلسفية، ص272.
[15]– المسعدي (محمود): السدّ، ص97.
[16]– فياض (حسام الدين) : نقد رؤية الفلسفة الوجوديّة للإنسان والواقع الاجتماعيّ ، دراسة تحليلية نقديّة، مأخوذة من موقع الإلكتروني تبيان نصنع الوعي بتاريخ 6 أكتوبر 2021.https://tipyan.com/criticism-of-the-existential-philosophy-of-man
[17] جاسم الموسوي (محسن): محمود المسعدي والرّواية الحديثة، مقاربة نقديّة، في كتاب محمود المسعدي بين الايقاع والإبداع، ص 151.
[18] حوار مع الباحثة أمال موسى مع صحيفة الشرق الأوسط بعنوان الّروائيّ التونسيّ الذي أسلمت الوجوديّة على يديه، الإثنين 2004، تحت عدد 9197.