هل سيبلغ المسلم الأفق الحضاري الذي بلغه العالم الحر من تقديس الحريات وحقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية أم سنستمر في الجدل العقيم حول خصائصنا المعصومة التي لا يجوز أن تذوب في شروط الغرب، وهل سيستمر هذا الخطاب الذي يعزل المسلم عن العالم بوصفه كائناً غير معتاد، وأن الحضارة القائمة شاذة ومادية وعرجاء وعمياء لا يليق بنا اللحاق بها، بل يتعين أن نفرض عليها قيمنا ومبادئنا الموروثة؟
لقد تمكن العقل الإسلامي اليوم من تقبل المنجز الحضاري التكنولوجي القادم من جهات متعددة على الرغم من أنه إلى حد قريب كان يتعاطى مع هذه المنجزات بقدر غير قليل من الريبة، وكان الاستغناء عن القوم الكافرين يحمل الوعي الجمعي هنا على التنكر لكثير من المنجز الحضاري، وهو حس تحمل دعاة التنوير قسطاً غير قليل منه في تجارب الأمم الأخرى، ولم تتقبل أوروبا صورة كوبرنيكوس للمجموعة الشمسية ولا مناظير غاليلو وأوشك الرجلان أن يدفعا روحهما ثمناً له، على أساس أن النتائج الكوبرنيقية كانت تتناقض مع الموروث الثقافي الذي اكتسب طابع العصمة، ولم تتمكن مناظير غاليلو من تغيير قناعات الناس بالموروث المعصوم على الرغم من أنها قراءة مجردة بالعين الباصرة!!.
الأمر نفسه عانى منه المجتمع الإسلامي لدى العديد من المنجزات الحضارية ويمكن أن نشير هنا إلى عدد من النوادر المشهورة حول التلفون الذي كان يتكلم منه الشيطان، والتلفزيون الذي اكتسب في مرحلة ما اسم الأعور الدجال، والسيارة التي كانت تعاني هي الأخرى من الاتهام بأنها إعراض عما خلق الله من أنعام مباركة، إلى مضاهاة يقوم بها الكافرون!! وكذلك الفتاوى المتعددة التي صدرت عن مراجع دينية في الحجاز في السبعينات تستنكر استنكاراً شديداً وصول الإنسان إلى سطح القمر وتعتبر محاولة ذلك أو تصديق حصوله انتهاكاً للشريعة!! وأذكر جيداً أن إمام مسجد النوفرة في حينا قبل عشرين سنة على سبيل المثال كان يرفض استخدام المروحة الكهربائية بدافع من إحساسه بأن من الواجب الاستغناء عما يصنعه (الكافر)!
بالتأكيد لم يكن ذلك شأن المتنورين في أي من مراحل التاريخ الإسلامي ولكن هذا المشهد كان من الممكن قراءته في زوايا متعددة، وكان يشكل ظاهرة عامة في الوعي الاجتماعي، ولعل من أقربها وأوضحها الطريقة التي كان عدد غير قليل من علماء الفقه الإسلامي يواجهون بها مسألة التصوير الفوتوغرافي، فقد ظل التصوير الفوتوغرافي من وجهة نظر كثيرين لوناً من العدوان على الشريعة، وهو أمر يذكره ويعرفه كل متابع للشأن الفقهي في المجتمعات الإسلامية، وكانت بين أيدينا النصوص الكثيرة المتضافرة التي يدل ظاهرها على ذلك، مثل إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، ومن صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، وهو أمر مارسته حركة طالبان بامتياز حين منعت كل شكل من أشكال التصوير لذوات الأرواح!! ولكن الناس تجاوزت ذلك فيما بعد، وتم تأويل النصوص التي يدل ظاهرها على منع التصوير، ونحن نروي اليوم هذه المسائل على سبيل التندر والتعجب وهو أمر لم يكن وارداً على الإطلاق ربما قبل جيل واحد!!
على كل حال فالعقل الإسلامي اليوم تجاوز عموماً هذه المرحلة وأصبح جاهزاً لتقبل المنجز الحضاري أياً كان بلد المنشأ وثقافته، ولم يعد مهماً أن نسأل عن الاكتشاف العلمي والتكنولوجي هل هو من إعداد المسلم أو الكافر، لقد تأكدت صحة القاعدة الفيزيائية، وجربت فائدة هذا المنتج، ولا يشكل أي عقدة كونه من صناعة يهودي أو ملحد أو مؤمن!!
ولكن المسألة ليست كذلك حتى الآن في إطار السنن الاجتماعية، فهذه السنن الاجتماعية حتى الآن تعامل بريبة غير محدودة عندما ينظر إليها على أنها من كيد الكافرين لتحويل الأمة عن دينها وثقافتها، ولا يتعاطى العقل الإسلامي مع هذه السنن الاجتماعية بالطريقة نفسها التي يتعاطاها في ميدان السنن الفيزيائية. الديمقراطيات اليوم أصبحت إنجازاً إنسانياً ومن الواضح أنها نقيض الاستبداد ، وأن أصحاب العقول في العالم متفقون أن الديمقراطية هي حكم العدالة، وأن نضال الشعوب في سبيل الديمقراطية إنما هو سعي لإحقاق الحق ورد المظالم عن الناس ومقاومة الاستبداد والظلم، وهي من صلب مقاصد الأديان جميعاً، ولكن لا تزال الديمقراطية محل جدل غير قليل في الخطاب الأصولي، وثمة من يعتبرها نقيضاً مباشراً للشورى، ولم يشفع لها حتى الآن الإجماع البشري عليها، والأمر نفسه في إطار حقوق الإنسان، فإن نضال البشرية من أجل الانتصار لحقوق الإنسان التي تم إقرارها في يوم مبارك هو العاشر من يناير 1946، إنما يعتبر جهاداً في الدرب الصحيح، ولكن للأسف فإن كثيراً من التيارات الإسلامية تتعاطى مع هذه السنن الاجتماعية بالريبة والتردد والتخوين، مؤخراً قرأت ما كتبه أحد الأعلام الكبار حول ما أسماه ثالوث الشر المخيف، وراح يتحدث عن خطر هذا الثالوث الثقافي على الإسلام والمسلمين ، مبيناً أن التحذير من هكذا انحراف مهمة شرعية وواجب ديني، وحين خطوت معه خطوة أخرى لأقف على مغزى هذا الثالوث الأخطر في حياة المسلمين فوجئت بكل صراحة أن ثالوث الشر هذا هو بكل وضوح: المساواة والحرية والديمقراطية!!!
هكذا وبدون تردد يطرح حتمية المواجهة بين الفكر الإسلامي وبين الحرية والمساواة والديمقراطية!! ومع أنه كان متجهاً لإقرار أن الإسلام دين العدالة والتسامح والشورى ولكنها رأى في مصطلحات الحرية والمساواة والديمقراطية نقيضاً مباشراً لتعاليم الإسلام مع أن هذه المصطلحات اليوم تحظى بتأييد الشرفاء في العالم كما تحظى النظرية النسبية بتأييد الفيزيائيين، وكما يحظى كروية الأرض بتأييد علماء الفلك جميعاً.
إن علي أن أشير هنا أن الأمة الإسلامية في وعيها الأول بدلالات الكتاب الكريم لم تكن تتعاطى معه بالطريقة التغييبية التي نمارسها اليوم ، وهو أيضاً ما يدل له القرآن الكريم، فالقرآن الكريم واضح في أن سطور الكتاب الكريم على رغم عظمتها لا تحتوي كل كلمات الله ولا كل آياته، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عليم خبير، ومن المعلوم هنا أن آيات القرآن الكريم كلها يمكن أن تكتب بقلم واحد ولا حاجة لبحار من الحبر، ولا لأطنان من الأقلام، والمعنى نفسه يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.
إن التأكيد على هذه الحقيقة هو الذي جعل كثيراً من علماء الإسلام يتحدثون عن قرآن مسطور وقرآن منشور، فالمسطور هو هذا الوحي الذي تلقته الأمة بين دفتي المصحف، والمنشور هو هذا الكون الذي يقرأ الإنسان عجائبه في كل شيء، وربما قالوا وحي متلو ووحي مجلو، الأول تتلوه في صحائف الكتاب والثاني يتجلى في صحائف الأكوان، وهكذا فإن سنن الله في الآفاق وهو ما يتجلى في القوانين الفيزيائية والطبيعية والاجتماعية التي اتفقت عليها كلمة البشر، وقرأها الإنسان بوضوح في كتاب الكون المنشور، لها قوة الدليل في الكتاب المسطور.
ذات يوم سيتقبل المجتمع الإسلامي السنن الاجتماعية كما تقبل السنن الكونية، ولن يصدق أولادنا أننا كنا مترددين في القناعة بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان وتعدد الأديان واحترام العقائد، كما نستغرب اليوم أن آباءنا كانوا يشكون في الكهرباء والهاتف والراديو وكروية الأرض ودورانها، وسندرك ان تطور الإنسانية سياق واحد، وأننا لا يمكن أبداً أن نتقبل السنن الكونية بدون تحفظ ثم نتردد في السنن الاجتماعية التي هي في العمق مقاصد الدين العظمى في إخاء الأديان وكرامة الإنسان.