تباينت آراء المفكرين والباحثين في تحديد مفهوم واحد للثقافة، فمعظم الذين بحثوا في هذا المصطلح أقروا بأنها «ثمرة كل نشاط إنساني محلي نابع من البيئة، ومعبرًا عنها ومواصلاص لتقاليدها في هذا الميدان أو ذاك»، وهو ما يعني، على حد قول الكاتب والروائي المصري السيد نجم، إن للبيئة التي يعيش تحت ظروفها شعب ما دورها في توليد ثقافة مختلفة عن الثقافة المتولدة لدى شعب آخر يعيش تحت ظروف بيئية مختلفة. وهو ما يدفع بالأخذ بالخصوصيات الثقافية للشعوب، وفقا لأنماط نابعة من ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، والبيئة الجغرافية التي تتيح انتقالاً نوعيًا بالفكر والسلوك، وتقود للتطورات التاريخية التي تشهدها المجتمعات البشرية. فالمنجز الثقافي، كما ينقل نجم عن الفيلسوف الأمريكي «جون ديوي» هو محصلة التفاعل بين الإنسان وبيئته، ثقافة شعب ما، هي جماع المعارف الإنسانية لذلك الشعب في محاولته للوصول إلى حالة من التوازن مع الظروف الحياتية التي يحياها، وهي إبداع حالة تكيّف مع الشروط التي تفرضها البيئة المحلية، والعلاقات المتشكلة مع الشعوب ذات الثقافات الأخرى.. إنها جدل حيوي بين الشعوب وبيئتهم مرة، وبين فئات الشعوب نفسها مرة أخرى، ما يدفع إلى العمل لابتكار ما، يجعلها أكثر قدرة على تأكيد كياناتها بامتلاك خصائص مستقلة تميزها عن سواها.. ذلك أن ثقافة الأمة هي علمها غير الواعي الذي تتوارثه الأجيال وتدير به شؤون حياتها، أي هي طريقتها في الحياة.
وإذا كان كما يقول نجم إن دور المثقف يقاس على التأثير في المجتمع والنفاذ إلى ضميره وإيقاظ وجدانه وصوغ قيمه التي تحدد سلوكه وتحرك تصرفاته، فإن جوهر أزمة المثقف العربي وما يتهم به عاجز عن التأثير في المجتمع لإحداث أي تغيير فيه. لعل النصف الأخير من القرن الماضي شهد ذروة إحكام الدولة (النظام) قبضتها على مناحي الثقافة وأوجه نشاطها، وعلى المثقف بالتالي. بدا وكأن المثقف آثر الانسحاب بدرجات متفاوتة، وبدا تأثيره الاجتماعي ينحسر، ويتحول من مثقف مجتمع وأمة إلى مثقف سلطة ودولة. عبرت أزمة المثقف عن نفسها من خلال عدة ظواهر: إقصاء السلطة للمثقف الحقيقي عن مجال تأثيره، وهو ما يبرّر ظواهر مثل أحادية الرأي واستبدال بما يمكن نطلق عليه «مثقفي السلطة» أو «محترفي الثقافة».
ثمة دراسة للأكاديمي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت على أسعد وطفة عنوانها «المثقف النقدي مفهومًا ودلالة» يذكر فيها، تأخذ العلاقة بين الثقافة والمثقف صورة صميمية جوهرية لا انفصام فيها، إذ لا يمكن فهم «المثقف» إلا في ضوء مفهوم محدد للثقافة، فالمثقف وليد الثقافة، صقل بها وتشكل في بوتقتها. وتتمثل الثقافة انتروبولوجيا في العلاقة الحيوية بين الإنسان والوجود مسلكًا وروحًا وفعلاً وحياة، وهذا يعني أن الثقافة بصورتها الأنتروبولوجية هي الحياة الإنسانية بأشمل معانيها وأعمق تجلياتها. وضمن هذا التصور الشامل للحياة الثقافية يصعب علينا تعريف «المثقف» إذ لابد من تجاوز المفهوم الأنتروبولوجي للثقافة والخوض في مفهوم الثقافة الإبداعية، أي: في الجانب الواعي للثقافة الذي يتمثل في الجوانب العليا من الإنتاج الثقافي في مجال الوعي العام وفي فضاءات العلوم الإنسانية من فلسفة وفكر ودين وفن وأدب وشعر وموسيقى ومسرح، وفي عمق هذا التموج الثقافي الواعي الإنساني يمكننا أن نستجلي فهمنا للمثقف بوصفه صورة راقية للوعي الإنساني في أكثر جوانبه نضجًا وتطورًا وانطلاقًا. وهدا يعني أن «المثقف» هو المرآة التي تنعكس فيها الثقافة الواعية الإبداعية للمجتمع الإنساني، حيث يتماهى «المثقف» مع إرادة التغيير في الحياة ويتفاعل مع الثقافة بوجهها الإنساني على حد سواء.
ما سبق ذكره يقودنا إلى موضوع جوهري تناوله الكاتب والباحث اللبناني كريم الحلو، نشر بموقع «INDEPENDENT» عربية، وهو ان المثقف العربي يعيش مزيدًا من الإحباط في ظل المأزق الوجودي. ويعتقد ان إحدى أهم سمات الفكر العربي المعاصر تعامله الإشكالي مع الثقافة. والأسئلة التي يطرحها هنا هي: هل الثقافة هي العامل المركزي والحاسم في السياسة والاجتماع والنهضة، أم هي نتيجة عوامل مادية أو اقتصادية أو تاريخية؟ وهل ثمة أمم وشعوب قابلة للحداثة والتطور والارتقاء وأخري محكومة بالتخلف والتقهقر الحضاري؟ وهل التغيير الحضاري يجري بموجب حتميات طبيعية أو اقتصادية أو تاريخية، أم إنه شأن إنساني محض تغلّبه الإرادة الإنسانية على ما عداها من حتميات؟ يرى الحلو، ثمة اتفاق في الخطاب الثقافي على حتمية تغيير الثقافة العربية كمقدمة لأي تغيير في الواقع العربي. ومن هذا المنطلق بالذات أتجه الاهتمام إلى المثقف العربي في عملية التغيير، وأسندت إليه مسؤليات ومهمات كبرى، ليس أقلها الاضطلاع بالتوحد القومي للأمة العربية وتنمية مجتمعاتها، ومواجهة التحدي الصهيوني والدفاع عن قضايا التنوير والنهضة، ورد الغزو الثقافي وصون الهوية والقيم الحضارية العربية. إلا أن التأويل الثقافي لا يغيب التأويلات الأخرى في فكرنا العربي، الاقتصادية والسياسية والمادية. فقد طرح الماركسيون في البلدان العربية الاقتصاد شرطا للوحدة العربية، ومن منظور سياسي للمعرفة. اعتبر العقل متورطًا في خدمة الأهداف السياسية،ونُظر إلى التفكير والمذاهب الفلسفية والعقائد والأخلاق والوعي الديني باعتبارها ذات مضمون سياسي. فمشكلتنا وفق الباحث والمحلل السياسي السورى رشيد الحاج صالح سياسية لأن النظام السياسي هو الذي يشكل الوعي الديني والأخلاق والتربية.
المفكر الاقتصادي سمير أمين جادل في صحة الطرح الثقافي انطلاقًا من المادية التاريخية، معليا العوامل المادية والتاريخية على العوامل الثقافية والروحية، من دون أن يتجاهل أثرها في الواقع الاجتماعي، فالإصلاح الديني والتقدم والحداثة والعلمانية، من وجهة نظره،لاتفسَر بالدين والميتافيزيقيا، بل هي نتاج حركة الحداثة التي فرضت إعادة تأويل ألدين، انطلاقًا من أن الكائنات الإنسانية هي التي تصنع تاريخها، ومن أن العوامل المادية هي التي تفسر التاريخ بما هي العوامل المحددة. وعليه، كانت إعادة التأويلات الدينية «نتاج مقتضيات التحول الاجتماعي لا سببا له». لا يتفرد أمين في دحض الطرح الثقافوي، فمحمد عابد الجابري الذي قال في الثقافة، محرك للتاريخ المعاصر الراهن، عاد ليؤكد، إلى جانب دور العامل الأيديولوجي «العقيدة» في الاجتماع العربي الإسلامي، دور العامل الاجتماعي «القبيلة» ثم العامل الاقتصادي «الغنيمة» لينتهي إلى أن العقيدة مثل القبيلة، مثل المصلحة الاقتصادية، معطيات متداخلة يصعب التمييز فيها بين ما هو قاعدة وما هو انعكاس لها، على عكس التفسيرات الماركسية المتداولة بصدد البنية المادية والبنية الفوقية الروحية. كما أن الوثوقية التي ميزت المرحلة المنصرمة إزاء الثقافة والمثقف ودورهما الطليعي في التغيير، هما الآن موضع نقد ومراجعة.
لقد عبّر محمود أمين العالم عن مأزق الثقافة والمثقفين بقوله: «لانستطيع القول إن هناك جبهة ثقافية نقدية ونظرية إبداعية ذات سلطة فاعلة ومؤثرة في مواجهة سلطة ثقافة السلطة العربية السائدة»، كما عبر عنه فيصل دراج بقوله «أن ثمة اغترابًا حقيقيًا همش المثقف النقدي تهميشا يتاخم المأساة». إن أساس هذا المأزق، كما يراه الباحث الحلو، هو أن المثقف ينازع بخطابه الثقافي النقدي السلطات السياسية والأيديولوجية القائمة في المجتمع، متوسلا وسائط الاتصال وأشكالها من أجل ممارسة سلطته الفكرية والأيديولوجية. بتعبير آخر، إنه يريد أن يكون فاعلاً في مجتمعه من خلال ثقافته وفكره، بيد أن ذلك لا يستقيم إلا في فضاء حداثي استقرت فيه القيم الفردية واستقلالية الفرد ومرجعيته، والرأي العام وسلطته المتعالية على أية سلطة مستبدة خارجة عنه، إذ ثمة تلازم بين ولادة المثقف كفاعل اجتماعي، وبين المجتمع المدني الديمقراطي الضامن للمساواة المدنية، وحق التعبير والرفض والمساءلة من دون عسف أو تحريم. لكن المثقف في مجتمعاتنا العربية ينظر حوله فلا يرى جمهورًا يعضده ولا شرعية ديمقراطية يتكئ عليها، في ظل ضآلة المنشورات الثقافية ومحدوديتها، واستبداد المرجعيات الذي يصل إلى حد الاغتيال المعنوي أو حتى الجسدي. وفي حال وجود مؤسسات ديمقراطية، من حيث الشكل، إلا أنها على حد تعبير محمود أمين العالم، محاصرة أو مراقبة أو محدودة أو معرضة دائما للمصادرة. إذن، كيف يمكن في ظل مثل هذه الظروف أن يكون للمثقف سلطة فاعلة، وهل يكون غريبًا الحديث عن الإحباط الثقافي وأزمة المثقفين؟